إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مطلع قرن نشأ فيه الفن الحديث مع الذكريات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مطلع قرن نشأ فيه الفن الحديث مع الذكريات

    ذكريات مطلع قرن نشأ فيه الفن الحديث





    من روائع النحات الإيطالي أمبرتو بوتشيوني
    حسين صالح
    أن يكون عامنا هذا مئوية للفن الحديث يعني أن الحداثة ولدت عام 1913، هنا المشكلة، أختير 1913 لأن دوشامب عرض فيه لوحته الشهيرة «عارية تنزل السلم» وفيه قدم النحات غوديير برزسكا منحوتته «المصارعان» وهي نحت ناتئ من قطعة مستطيلة من الحجر، وفيه قدم الرسام والنحات الإيطالي الرائع أمبرتو بوتشيوني «زجاجة أو قنينة في فضاء» ثم «الاستمرار في فضاء». هذه أعمال مهمة صاغت مبادئ ما نسميه الفن الحديث، أعمال بوتشيوني حددت شكل مدرسة كاملة ضمن النحت الحديث أسموها «المستقبلية» التي ما زالت رافدا للنحت حتى في ما صار يعرف بـ»ما بعد الحداثة».
    كل هذا مهم وكل هذا نحت، ولا غرابة فالمعرض مقام في معهد هنري مور أي معهد نحت. لكن هناك مشكلة أساسية ووجودية تتعلق بالذكرى المئوية للفن الحديث. والفن الحديث هذا تحول مهم وراديكالي في تاريخ الفن لا يقل أهمية عن عصر النهضة.
    ولكن لماذا 1913 ألا يمكن أن نقول شيئا مماثلا تماما عن أهمية عام 1905؟ فهو العام الذي شهد إقامة أول معرض للمدرسة الوحشية أو الحوشية أقامه ماتيس ودوران. وهي مدرسة عجيبة تعني الحداثة تماما من حيث أن اللون لا يمثل الواقع بل يمثل اللون نفسه، ففيه قد يكون أنف الإنسان بنفسجيا وشعره أخضر فضلا عن أن الشكل فيه كل التجاوز للطبيعة. بهذا تكون مئوية الفن الحديث عام 2005.
    ثم نسأل ألا يمكن تحويل الأمر كله إلى عام 1907؟ فهو العام الذي شهد إنجاز بيكاسو لوحة «فتيات آفينيون» التي طرأت على الفن كله مثل الزوبعة مبشرة بولادة التكعيبية وباستخدام الأقنعة الأفريقية رافدا بصريا ممتلئا بالإيمان بخرافات القبائل والمشعوذين. ألم تكن هذه كلها لحظة حقيقية لولادة الحداثة في الفن وفي المسرح وفي الشعر والرواية أي كل أوجه الثقافة المستعدة للاستعارة من حضارات تمتد بين حوض الأمازون واليابان؟ لو اقتنعنا بهذا، وهو طرح مقنع، لاحتفلنا بمئوية ميلاد الفن الحديث عام 2007. وبالمناسبة، لوحة بيكاسو تؤرخ للحظة ولادة حقا، فثلثها الأيمن لا يشبه بقية اللوحة. التفصيل الأفريقي التكعيبي ليس في اللوحة كلها بل في جزء منها يعني أننا نشاهد ولادة فكرة.
    الحداثة لا تكتمل إلاّ بميلاد عصر كامل. بتراكمات ماتيس وبيكاسو يظل الأدب ليس حديثا بشكل مكتمل حتى حلول عام 1922، حين نشر جيمس جويس رواية «يوليسيس»، سفر العصر الحديث وأيقونته، وهو عام وضع فيه ت. س. اليوت قصيدة «الأرض اليباب». مرة أخرى ينبغي الاحتفال بالمئوية عام 2022. وهكذا يبدو الأمر وكأنك تقرر الاحتفال بمئوية ثم تأخذ بالعودة مئة عام منقبا عما يبررها. ولن تعدم إيجاد شيء في منجم التاريخ.
    لكن عام 1913 موعد مقنع تماما. ففيه، إضافة إلى دوشامب وبوتشيوني أطلق الموسيقار الروسي سترافنسكي باليه «طقوس الربيع» وفيها من وحشية ماتيس وقبلية أفريقيا لدى بيكاسو وتجديد باهر في البنية الموسيقية وتصميم الرقصات. المعرض لا يذكر سترافنسكي، طبعا، لكن عام 1913 يتعزز كلحظة ابتداء للفن الحديث بوجوده. ثم إن المعرض لا يخطئ كثيرا باعتماده النحت لا الرسم مؤشرا للحظة وعي الحداثة.
    من بين الأعمال المقدمة يستحق بوتشيوني وقفة خاصة. فقد استطاع أن يقبض بمنحوتاته على لحظة الحداثة وتعدد أوجه صخب الواقع الدافق والمتحرك بسرعة مثل إنجازات العصر. لحظة في عمر الإنسانية تتحرك فيها قطارات وسيارات في مساحات تحركت فيها على امتداد التاريخ الخيول والدواب.
    حين ينحت بوتشيوني يبدو وكأنه لا يستطيع أن يتوقف، ينحت وينحت ضمن الموضوع الواحد، الزجاجة تتغير كل بضعة سنتمترات فالرقبة بمقياس وما دونها بمقاييس أخرى حتى قعرها.
    نحت تمثالا لرجل ماش لا يبدو أن قوة في الدنيا تستطيع أن توقفه وهو مخلوق غريب في استطالة عضلاته ومفاصله التي تطير مثل اللهب. هذا هو الأنسان الحديث محكوم بالحركة إلى الأبد مما يجعل للتكعيبية، التي هو ليس منها، معنى وتبريرا. إنسان يتماهى فعلا مع الفضاء الذي حوله يعاشره ويلتحم به دون عجالة ولكن بتوقيت شعري.
    استدعاء ذاك الزمن يجعلك تشعر أن بدايات القرن العشرين كانت أسعد لحظات الإنسانية وأجملها، وربما كانت فعلا. فما أروع أن ينجز كل هذا الفن المجنون ضمن عشر سنوات تمتد بين 1905 و1915.
    لكن قراءة للبطاقة الصغيرة المعرفة ببوتشيوني تبعث على الحزن، فقد مات هذا الفنان المبهر عام 1916، وهو في الثلاثينات من عمره.
يعمل...
X