إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشاعر نزار قباني من المهد الى اللحد - (زيّنو المرجة.. والمرجة لنا)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعر نزار قباني من المهد الى اللحد - (زيّنو المرجة.. والمرجة لنا)

    نزار قباني

    مقدمة:
    بالحب يتحوّل العالم إلى قصيدة، ويصبح بحيرة مملوءة شعراً.. ويعود إلى براءته الأولى.. وما فعل الحب بين الرجل والمرأة، إلا تعبير عن فعل الحب الحقيقي الذي من خلاله تفتح اللحظة الحاضرة أبوابها ليلجها ويختبر نشوة الأبدية.. وكلما أحب الإنسان أكثر، كلما أصبح شاعراً يغرف من الشعر، ويفيض شعراً.. الشعر ليس قضية بيان ولغة بقدر ما هو لغة الحب والشعور ونبض الكون، ونسغ الوجود الحي..
    الوجود يظل لغزاً مغلقاً على الإنسان الذي لا يعرف الحب.. فبالحب تتوحد الأضداد، الذكر والأنثى، الجسد والروح، السماء والأرض، الأنا والآخر، الإلهي والإنساني..
    والذي يحب يدركه الجمال، فالجمال والحب وجهان لحقيقة واحدة، وبالحب يعود الجسد الإنساني إلى جماله الأول، ويصبح مدخلاً لحقائق كونية..
    لقد شغف نزار قباني بجمال المرأة وافتُتن به، وكانت قصائده اندفاعة ايروسية نحوه، مما جعله يعبر عن شعرية جمال المرأة، وشعرية الخلجات والأحاسيس التي تهدر كالأمواج حيناً، وكالعواصف حيناًَ آخر، فنزوة اللحم والدم وعنف الرغبة والشهوة أيضاً لها بعد شعري يسبح من خلاله الشاعر ويتواصل مع عوالم أرحب وأوسع.. إلا أن معاناة الشاعر لم تنفصل عن معاناة وطنه وشعبه فتفجر شعره السياسي محاولاً أن يكون مرآة صادقة لما يحدث في فلسطين، ولبنان، وسورية وطنه الأم.. إنما الأزمات التي عاناها هذا الوطن الغالي، دفع هو ثمنها غالياً، فلقد كانت إحدى ضحاياها زوجته بلقيس!
    هكذا كان نزار يرى ويحس من خلال الجسد، فدمشق، كانت جسده الأم، ومن خلال الجسد كان يقتحم مملكة الشعر الرقيقة..!!
    سيرة حياته:
    نزار قباني عام 1935 نزار توفيق قباني، وُلِدَ في 21/آذار/1923، في حي مئذنة الشحم (أحد أحياء دمشق القديمة)، ويتساءل نزار فيما بعد، فيقول: "هل كان مصادفة يا ترى أن تكون ولادتي في الفصل الذي تثور فيه الأرض على نفسها، وترمي فيه الأشجار كل أثوابها القديمة؟ أم كان مكتوباً علي أن أكون كشهر آذار، شهر التغير والتحولات."
    والده توفيق قباني كان يمتهن صناعة الحلويات، وكان ميسور الحال، وقد ساهم في بعض الاجتماعات التي كانت تُعقد في منزله لمقاومة الاحتلال الفرنسي، ونزار يذكر أنه في الثلاثينات رأى عساكر السنغال يدخلون في ساعات الفجر الأولى للمنزل بالبنادق والحراب، ويأخذون والده معهم في سيارة مصفحة إلى معتقل (تدمر) الصحراوي.
    أنجب توفيق قباني ستة أبناء معتز، رشيد، صباح، نزار، وصال، هيفاء.. إلا أن وصال ماتت في ريعان شبابها، وفي هذا يقول نزار: ".. في تاريخ الأسرة حادثة استشهاد مثيرة سببها العشق..
    الشهيدة هي أختي الكبرى وصال، قتلت نفسها بكل بساطة وبشاعرية منقطعة النظير.. لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها..
    .. حين مشيت في جنازة أختي.. وأنا في الخامسة عشرة، كان الحب يمشي إلى جانبي في الجنازة، ويشد على ذراعي ويبكي.."
    أما والدته فتدعى فائزة، وهو يقول عنها أنها كانت ينبوع عاطفة يعطي بغير حساب. وكانت تعتبره ولدها المفضل وتخصّه دون سائر إخوته بالطيّبات، وتلبي مطالبه الطفولية بلا شكوى ولا تذمّر.
    أما علاقته بأمه على الصعيد الفكري فإن نزاراً يقول: "على الصعيد الفكري لم يكن بيني وبين أمي نقاط التقاء. فلقد كانت مشغولة في عبادتها، وصومها، وسجادة صلاتها. تسعى إلى المقابر في المواسم، وتقدم النذور للأولياء، وتطبخ الحبوب في عاشوراء، وتمتنع عن زيارة المرضى يوم الأربعاء، وعن الغسيل يوم الاثنين، وتنهانا عن قص أظافرنا إذا هبط الليل، ولا تسكب الماء المغلي في البالوعة خوفاً من الشياطين، وتعلق أحجار الفيروز الأزرق في رقبة كل واحد منا، خوفاً علينا من عيون الحاسدين".
    ويذكر أيضاً: "كانت أمي ماءً.. وأبي ناراً.. وكنت بطبيعة تركيبي أفضّل نار أبي على ماء أمي.."
    وفي طفولته يذكر استيقاظ النزعة العدوانية لديه التي تجلت في الرغبة في تحطيم الأشياء أو تفكيكها وردها إلى أجزائها. وهو يعتقد أن هدفه من وراء ذلك اكتشاف المجهول الكائن وراء الأشياء. وهو يذكر أن شهوة كسر الأشياء هذه أتعبته وأتعبت أهله. وقد امتدت هذه المرحلة حتى العاشرة من عمره.
    مدرسته الأولى كانت (الكلية العلمية الوطنية) في دمشق. دخل إليها في السابعة من عمره، وخرج في الثامنة عشرة يحمل شهادة البكالوريا الأولى (القسم الأدبي)، ومنها انتقل إلى مدرسة التجهيز حيث حصل على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة).
    إن (الكلية العلمية الوطنية) قد لعبت دوراً رئيسياً في تشكيله الثقافي، ذلك أنها كانت مؤسسة وطنية خاصة يقصدها أولاد البورجوازية الدمشقية الصغيرة، من تجار، ومزارعين، وموظفين، وأصحاب حرف.
    كانت الهيئة التعليمية في (الكلية العلمية الوطنية) ذات مستوى رفيع، وكان المدرسون من صفوة رجال المعرفة، ومن كبار الشعراء والمفكرين.
    يقول نزار: "وإنه لمن نعمة الله عليّ وعلى شعري معاً، أن معلم الأدب الأول الذي تتلمذت عليه، كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام، وهو الأستاذ خليل مردم بك. هذا الرجل ربطني بالشعر منذ اللحظة الأولى..
    واستمر خليل مردم يقطف لنا من شجرة الشعر العربي عشر زهرات جديدة في كل درس من دروسه، حتى صارت ذاكرتنا الشعرية في نهاية العام بستاناً يموج بالأخضر، والأصفر، والأحمر..
    .. من حسن حظي، أنني كنت من بين التلاميذ الذين تعهدهم هذا الشاعر المفرط في حساسيته الشعرية، وأخذهم معه في نزهاته القمرية، ودلهم على الغابات المسحورة التي يسكن فيها الشعر..
    إنني أدين لخليل مردم بك، بهذا المخزون الشعري الراقي الذي تركه على طبقات عقلي الباطن، وإذا كان الذوق الشعري عجينة تتشكل بما نراه، ونسمعه، ونقرؤه في طفولتنا.. إن خليل مردم كان له الفضل العظيم في زرع وردة الشعر تحت جلدي.. وفي تهيئة الخمائر التي كوّنت خلاياي وأنسجتي الشعرية.."
    وفي هذا، يذكر نزار أن أول تجربة له مع الشعر كانت في صيف عام 1939 حين كان مبحراً في رحلة مدرسية من بيروت إلى ايطاليا عندما دمدم الكلمة الأولى من أول بيت شعر نظمه في حياته، وهو يقول: "وللمرة الأولى، وفي سن السادسة عشرة، وبعد رحلة طويلة في البحث عن نفسي.. نمتُ شاعراً.."
    وهو يقول بعد رحلة طويلة في البحث عن نفسه ذلك أنه في الثانية عشرة بدأ الرسم واستمر في هذه التجربة سنتين أو ثلاثاً مستعملاً قوارير اللون، والصباغات، والأقمشة، ورسم بالماء، وبالفحم، وبالزيت..
    أما في الرابعة عشرة فقد سكنه هاجس الموسيقى.. ونزار يوعز إلى هاتين التجربتين دوراً أساسياً في تشكيل لغته الشعرية حيث سكن الرسم والموسيقا كلمات نزار.. فها هو ذا يقول: "بعد مرحلة (طفولة نهد) و(أنتِ لي) و(سامبا).. ركبني هاجس الخطوط والأشكال وصارت الحروف عندي تأخذ أشكالاً مختلفة، فهي مرة خطوط مستقيمة، ومرة خطوط منكسرة، ومرة خطوط منحنية.
    وللمرة الأولى، صرت أفكر هندسياً، وصارت القصيدة عندي عمارة أخطط لها كأي مهندس معماري."
    إذن، بعد حصول نزار على شهادة البكالوريا الثانية (قسم الفلسفة) من مدرسة التجهيز، التحق بكلية الحقوق بالجامعة السورية، وخلال دراسته هذه أصدر أول دواوينه "قالت لي السمراء" في أيلول (سبتمبر) 1944 على حسابه الخاص، وكانت الطبعة الأولى منها 300 نسخة فقط. وقد بيعت خلال شهر. والمجموعة تضم ثمانٍ وعشرين قصيدة حافظت على الوزن الخليلي للقصائد إلا واحدة بعنوان "اندفاع" وهي كما سوف نرى كانت بذرة الشعر الحر.
    ونزار يقول عن مجموعته الأولى ما يلي: "كانت القصيدة العربية تعاني انفصاماً حاداً في الشخصية وكنت أحس، وأنا أقرأ شعراء عصر النهضة، أنني أحضر حفلة تنكرية، وأن كل شاعر يستعير القناع الذي يعجبه.. هذا يستعير سيف أبي فراس.. وذاك يستعير حصان عنترة..
    وفي وسط هذه الحفلة التنكرية، كنت أتساءل، وأنا شاب يافع، لماذا لا يكشف هؤلاء عن وجوههم الطبيعية، ويتكلمون بأصواتهم الطبيعية؟ ولماذا يستعيرون لغة الآخرين، وعصر الآخرين؟
    في هذا الاحتفال الكرنفالي.. قررت بحماس الشاب أن أغيّر بروتوكول الحفلة، وأخرق نظامها.. وبكل بساطة، دخلت القاعة المكتظة بوجهي الطبيعي وملابسي العادية. وفي يدي أول مجموعة شعرية لي (قالت لي السمراء)."
    في السنة التالية، نال نزار شهادة الليسانس في الحقوق من الجامعة السورية في دمشق، وكان ذلك في عام 1945، وكانت هذه الفترة سنوات الحرب العالمية الثانية، وفي شهر آب (أغسطس) من نفس العام، انضم نزار إلى السلك الدبلوماسي السوري، وكان حينذاك في الثانية والعشرين من عمره، وعُيِّنَ ملحقاً بالسفارة السورية في القاهرة. وهو يقول عن أسفاره التي بدأت منذ ذلك الحين: "ومع كل خطوة كنت أخطوها، كان قلبي يكبر، وشبكية عيني تتسع، وآبار نفسي تمتلئ، والبدوي في داخلي يرق، ويشف، ويتحضّر".
    قضى نزار في القاهرة ثلاث سنوات (1945 – 1948)، وفي القاهرة طبع مجموعته الثانية (طفولة نهد) وكان ذلك في عام 1948.
    بعد مجموعته "طفولة نهد" أصدر عام 1949 كتيباً شعرياً بعنوان "سامبا" وهي قصيدة طويلة تصف الرقصة التي شاعت في عصره.
    ومن أهم تجارب نزار الشعرية خلال عمله الدبلوماسي بعد القاهرة كانت التجربة الإنكليزية، والتجربة الإسبانية.
    ففي لندن (1952 – 1955) تعلم فيها اللغة الإنكليزية أثناء عمله في السفارة السورية في لندن، ووجد نزار فيها لغة اقتصاد وتقنين وظهرت تأثيراتها على مجموعته (قصائد) وما صدر بعدها من مجموعات مثل (حبيبتي) و(الرسم بالكلمات) كانت تأثيرات هامة تتعلق بمنطق اللغة، وطريقة التعامل معها. أما قصيدته "خبز وحشيش وخمر" فكان قد نشرها في مجموعته "قصائد" وقصيدته هذه كان لها دوي في العالم العربي لتعرّضها لبعض الوقائع الدينية. وكان قد كتبها في لندن عام 1954، وناقشها البرلمان السوري حينذاك حيث طالب رجال الدين بمحاكمة الشاعر وطرده من السلك الدبلوماسي.
    وأمضى نزار في الصين فترة (1958 – 1960) وكان مأخوذاً فيها بروعة معجزتها التي استطاعت أن تحرر ألف مليون إنسان، من مخالب المرض والجوع والأفيون والاستعمار. وفي هذا يقول نزار: "ولكي أكون منصفاً ومتجرداً أقول: إن الذي يريد أن يفهم الصين عليه أن يتخلى عن كل أفكاره السابقة، ويناقش الأمور بالمنطق الصيني.. لا بمنطقه هو.. وعندئذ يجد الصين على حق في كل ما تقوله وما تفعله.. لأن نكهة الاستعمار الذي جعل الصينيين بمرتبة القطط والكلاب.. لا تزال تحت لسانها.."
    وبعدها كانت تجربته في إسبانيا (1962 – 1966) وتعلم فيها اللغة الإسبانية ووجد فيها لغة ماء ونار. وهكذا عشق نزار إسبانيا ولغتها. وآثار هذه التجربة ظهرت في قصائده (أوراق إسبانية) ضمن مجموعته (الرسم بالكلمات) التي صدرت عام 1966.
    ونزار يقول: "ليس شعر رفائيل ألبرتي، وغارثيا لوركا، ولوحة (غيرنيكا) لبيكاسو سوى شهادة خطيرة على تعايش الماء والنار في الفن الإسباني".
    وكذلك يقول نزار عن تجربته في إسبانيا: "السفر إلى الأندلس، سفر في غابة من الدمع. وما من مرة ذهبت فيها إلى غرناطة، ونزلت في فندق (الحمراء) إلا ونامت معي دمشق على مخدتي الأندلسية.."
    ونزار يقول عن إسبانيا: "إسبانيا هي أرض الانفعال، والتوتر، ولا يمكن لأي إنسان يمر بها أو يسكنها أن يبقى محايداً.
    الحياد في إسبانيا كلمة لا معنى لها.. فبمجرد أن تخترق حدود البيرنيه.. أو تنزل على شواطئ برشلونه أو فالنسيا.. تصبح طرفاً في اللعبة المثيرة.. وتتحول في دقائق إلى شجرة من أشجار الغابة المحترقة.
    ولأن همنغواي كان يعرف أن حياد الأشياء موت لها، ولأن أميركا لم تعد تستطيع أن تقدم له الإطار الانفعالي الذي يبحث عنه ككاتب روائي، ولأن حضارة الإسمنت والهمبورغر، والأطعمة المثلجة، أفقدته حرارة الحياة ورومانتيكيتها.. حمل دفاتره وذهب إلى إسبانيا ليموت على طريقة الثيران الإسبانية.. بمنتهى البطولة والجمال".
    استمر نزار في عمله الدبلوماسي واحداً وعشرين عاماً إلى أن قدم استقالته من عمله الدبلوماسي في ربيع عام 1966، وأسس في بيروت داراً للنشر تحمل اسمه، وتفرغ للشعر، وهكذا أصبح لبنان وطناً ثانياً له ولكلماته.
    كان نزار قد تزوج امرأة من عائلته التي كانت كنيتها (أقبيق) ويُحكى أن الكنية تركية الأصل، ومعناها "ذو الشوارب البيض" وكانت قد أُطلِقَت على جد العائلة في القرن الخامس عشر، وهو متصوف مشهور.. هذا وقد هاجر فرع من العائلة إلى دمشق في القرن 18 الميلادي، وبقي بها إلى اليوم.
    زوجة نزار الأولى كانت تنتمي لهذه العائلة وتدعى (زهرة) وأنجب منها "هدباء" و"توفيق" و"زهراء". وكانت وفاة ابنه توفيق وهو في الثالثة والعشرين من عمره عندما كان يدرس الطب في القاهرة أثر أزمة قلبية، وقد رثاه نزار في قصيدة "إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني" قائلاً فيها:
    مكسرة كجفون أبيك هي الكلمات
    ومقصوصة كجناح أبيك هي المفردات
    ماذا سأكتب يا ابني.. وموتك ألغى كل اللغات
    بعد طلاقه من "زهرة"، تزوج نزار للمرة الثانية، من "بلقيس الراوي" العراقية..
    أما زواجه من بلقيس الراوي فقصته التالية: كان اللقاء الأول في آذار عام 1962 حين استدعته العراق، لتقديم أمسية شعرية في حديقة كلية التربية ببغداد وقدم فيها أروع قصائده، وتقول بلقيس عن هذا اللقاء: "التقيت بنزار أول مرة عام 1962، عندما كان يقوم بزيارة لبغداد، كان لقاؤنا الأول في سامراء حيث اجتمعنا في دعوة غداء، وهناك قال لي نزار يا بلقيس هل تقبليني زوجاً، عندها شعرت بحب جارف له".
    وحين تقدم نزار بطلب يدها من أسرتها العراقية الملتزمة بالتقاليد الموروثة، فإن قصائده الغزلية كانت سبباً لرفضه.. وحين عاد إلى بغداد في نيسان 1969 وذلك بدعوة رسمية للاشتراك في مهرجان المربد الشعري والذي عُقِدَ بقاعة الخلد في بغداد، ونقلته أجهزة الإعلام في العراق مباشرة على التلفزيون والإذاعة، حيث ألقى نزار قصيدته "إفادة في محكمة شعرية"، وبعد أيام تزوج نزار من بلقيس، ليستقرا معاً في بيروت، حيث رُزِقَ زينب وعمر.
    وعن تجربته في النشر في لبنان فقد نشر نزار "من أوراقي المجهولة" معاناته مع أغلبية الناشرين اللبنانيين في تلك الفترة، والذين كانوا يشكلون عصابات أشبه بالمافيات تعمل على تزوير كتبه. كتب: "وربما كانت المرة الوحيدة التي انتصر فيها كتاب عربي على مزوري كتبه، هي المرة التي تدخلت فيها قوات الردع السورية عام 1976، بناء على شكوى رسمية تقدمتُ بها إلى قيادة قوات الردع لترفع عني سيف ميليشيات التزوير، باعتبار أن (الأمن الثقافي) لا ينفصل عن الأمن العسكري الذي أخذت قوات الردع السورية على عاتقها تثبيته في بدايات الحرب الأهلية.
    لقد اعتبر الأخوة السوريون آنئذٍ أن العدوان على كتبي، هو عدوان على تراث ثقافي عربي – سوري، فتحركوا فوراً لإنقاذ أعمالي الشعرية من مخالب المزورين، وحاصروا أوكارهم، ومطابعهم، ومستودعاتهم، وصادروا أهرامات من الكتب المزورة، وأرغموا الفاعلين على دفع جميع حقوق التأليف المسروقة.
    هذه حادثة من حوادث الردع الثقافي، لا بد لي من ذكرها في هذه السيرة الذاتية، كنموذج لسلطة تدافع عن ثقافتها ومثقفيها.
    ويا ليت الدول العربية الأخرى، التي تسلّلت إليها جرثومة التزوير حتى وصلت إلى كراسي المسؤولين عن شؤون الثقافة والإعلام، تقتدي بهذا الموقف السوري الحضاري الكبير وتتحرك لحماية آلاف المبدعين العرب من أسنان أسماك القرش التي لم تجد حتى الآن من يردعها ويقتلع أسنانها المتوحشة.
    إن السلطة الحقيقية هي التي تدافع عن مثقفيها.
    لا تلك التي تبيعهم في المزاد العلني..
    هي السلطة التي تضع الكتاب في قائمة الكتب المقدسة..
    لا في صناديق النفايات!!.."
    وفي 15/كانون أول/ عام 1981 قامت إسرائيل بتفجير مبنى السفارة العراقية في بيروت، حيث قُتِلَت بلقيس. وفي هذا يقول نزار: "ما كان يمكن أن تموت بلقيس بهذه الصورة، بلقيس لم تكن امرأة عادية، كنت في مكتبي بشارع الحمرا، حين سمعت صوت انفجار زلزلني من الوريد إلى الوريد. ولا أدري كيف نطقت ساعتها: يا ساتر يا رب، بعدها جاء من ينعي إلي الخبر، السفارة العراقية.. نسفوها، أحسست أن بلقيس راحت، سوف تحتجب عن الحياة إلى الأبد، وتتركني في بيروت ومن حولي بقاياها، كانت بلقيس واحة حياتي وهويتي وأقلامي. ولم يتعرف أحد على بلقيس بين الضحايا إلا من خاتم الزواج في يدها اليسرى، لأن التشويه كان قد أصاب ملامحها الجسدية بصورة قاسية.."
    وعلى أثرها كتب مرثيته الشهيرة "قصيدة بلقيس" يقول نزار في مطلعها:
    شكراً لكم
    شكراً لكم
    فحبيبتي قُتِلَت.. وصار بوسعكم
    أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
    وقصيدتي اغتيلت
    وهل من أمة في الأرض
    إلا نحن تغتال القصيده؟
    بلقيس..
    كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
    بلقيس..
    كانت أطول النخلات في أرض العراق
    كانت إذا تمشي..
    ترافقها طواويس
    وتتبعها أيائل
    ...
    فيما بعد، اضطرته ظروف الحرب اللبنانية إلى مغادرة بيروت عام 1982، وتنقل بين باريس وجنيف، حتى استقر به المقام في لندن التي قضى بها الأعوام الخمسة عشر الأخيرة من حياته وحيداً ذلك أنه كان قد رفض أن يتزوج بعد وفاة بلقيس. ومن لندن كان نزار يكتب أشعاره ويثير المعارك والجدل.. خاصة قصائده السياسية خلال فترة التسعينات، مثل: "متى يعلنون وفاة العرب؟" و"المهرولون".
    ومن الجدير بالذكر أن الشعر السياسي عند نزار ظهر بزخمه على أثر هزيمة حزيران عام 1967، وكانت قصيدته (هوامش على دفتر النكسة) احتجاجاً ومعارضة على الوضع العربي الذي قاد إلى هذه الهزيمة. يقول فيها:
    أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمه..
    والكتب القديمه..
    أنعي لكم:
    كلامنا المثقوب كالأحذية القديمه..
    ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمه..
    أنعي لكم..
    أنعي لكم..
    نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمه
    ـ 2 ـ
    مالحةٌ في فمنا القصائد..
    مالحةٌ ضفائر النساء..
    والليلُ، والأستارُ، والمقاعد..
    مالحةٌ أمامنا الأشياء..
    ـ 3 ـ
    يا وطني الحزين..
    حولتني بلحظةٍ..
    من شاعر يكتب شعر الحب والحنين
    لشاعر يكتب بالسكين..
    ـ 4 ـ
    لأن ما نحسه أكبر من أوراقنا..
    لابد أن نخجل من أشعارنا..
    ..
    كان قد نشر القصيدة أول ما نشر في مجلة (الآداب) اللبنانية، ومن هنا بدأ يمتزج عشق نزار، وايروسيّته بغضبه الداخلي الذي أججته معاناة الوطن العربي، واستعر على أثر هزيمة حزيران. وفي قصيدته الحزيرانية يقول نزار: "كنتُ أول من طبق الطريقة البوذية في حرق نفسه في منتصف الشارع. مطلوب من كل الأدباء العرب أن يُحرِقوا أنفسهم على الطريقة البوذية في الساحات العامة.. فمنذ عصور طويلة لم تطهِّر النيران أدبنا وأدباءنا".
    "من منا استُشهِد على بياض ورقة.. سقط على بياض ورقة.. على طريقة الحلاج أو سقراط أو لوركا.."
    "كانت قصائدنا موظفة عند الحكومة.. تأكل.. وتشرب.. وتقبض مرتّبها.. وتدعو للسلطان بطول العمر.."
    وهكذا حين جاء حزيران لم يجد بين يديه إلا أدباً مترهِّلاً.. كثير الشحم، يلبس جبته ويركض خلف الولائم والجنائز.."
    إذن، كان قد استقر المقام لنزار في لندن حيث تابع شعره السياسي، وفي أواخر عام 1997 داهمته أزمة قلبية نجا منها بأعجوبة دخل على أثرها غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس بلندن. كانت هذه الأزمة القلبية على حد قوله استفتاء عظيماً لشعره..
    يقول: "عندما فتحت عيني في غرفة الإنعاش في مستشفى سان توماس في لندن بعد الأزمة القلبية الخطيرة التي أصابتني لم أصدق ما تراه عيني.. فقد كان الوطن العربي كله جالساً قرب سريري يذرف الدموع ويتضرع إلى الله كي يعيد إلى قلبي السلامة والعافية.. ويشهد الله أن ما لقيته من عشق الناس كان فوق ما أتوقع وأن أمطار الحنان التي تساقطت على سريري اللندني لم تكن مجرد نهر صغير بل طوفاناً حملني على ذراعيه وأوصلني إلى شاطئ السلامة.."
    وفي 30 /نيسان (ابريل)/ 1998 وافته المنية عن عمر يناهز 75 عاماً أثر أزمة قلبية ثانية داهمته، ولم تمهله طويلاً، ولفظ الشاعر أنفاسه الأخيرة بين يدي ابنتيه هدباء، وزينب. وكانت وصيته: "أرغب أن ينقل جثماني بعد وفاتي إلى دمشق وأدفن في مقبرة الأهل.. لأن دمشق هي الرحم الذي علمني الشعر وعلمني الإبداع وأهداني أبجدية الياسمين.. هكذا يعود الطائر إلى بيته والطفل إلى صدر أمه".
    وفي هذا يذكر الكاتب شمس الدين العجلاني عن نزار وهو يقول:
    أعود إلى دمشق
    ممتطياً صهوة سحابه
    ممتطياً أجمل حصانين في الدنيا
    حصان العشق
    وحصان الشعر
    أعود بعد ستين عاماً
    لأبحث عن حبل مشيمتي
    وعن الحلاق الدمشقي الذي ختنني
    ويذكر الكاتب شمس الدين العجلاني: "يعود الشاعر إلى دمشق ملفوفاً بالعلم السوري بعد أن وافته المنية في منزله بلندن عن عمر يناهز 75 عاماً"
    "لم تكن جنازة تلك التي عبرت شوارع دمشق، بل قافلة أكف وأفئدة وعيون تحتضن جثمان شاعرها الكبير وتهتف (زيّنو المرجة.. والمرجة لنا)."
    أنا بنت الهاشمي أخت الرجال
    الكاتبة والشاعرة
    الدكتورة نور ضياء الهاشمي السامرائي
يعمل...
X