إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأديب والشاعر والكاتب المسرحي محـمــد المــاغــوط شاعر التمرّد والعصيان - جميل جرعتلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأديب والشاعر والكاتب المسرحي محـمــد المــاغــوط شاعر التمرّد والعصيان - جميل جرعتلي

    الأديب والشاعر والكاتب المسرحي
    محـمــد المــاغــوط
    شاعر التمرّد والعصيان
    (1934ــ2006)
    إعداد : جميل جرعتلي
    منقول

    ربما لم يبارك لأمه أحد بمولده. ربما لم تعرض أيٌ منهن له ثديها ليرضع في حالات جوعه وتشبث الحليب في صدر أمه، كما كانت تفعل النساء تجاه أطفال بعضهن. ربما كانت النسوة يمنعن أطفالهن من اللعب معه لكثرة ما هو أشعث ومهلهل الثياب ويبدو عليه الحمق. لكن، من المؤكد أن أساتذته كانوا يضربونه بحد المسطرة على ظهر يديه لكثرة هيجانه وبلادته. ومن المؤكد أيضاً أن أحداً لم يخطر في باله أنه ذات يوم سيدّعي أنه لعب معه في الطفولة؛ وجلس معه على مقعد واحد في المدرسة، وأنه صديق عمره. إذ لم يكن ثمة ما يشير، ولو إشارة ضئيلة، إلى أن ذلك الطفل المنبوذ، والتلميذ البليد، وبعد أقل من خمسة وعشرين عاماً، سيكون أشبه بمبشر، حيثما يسير، يتبعه آلاف من المريدين، لكنه لا يرتدي الأبيض. أشبه بنبي صغير يفتتح عصراً جديداً من الشعر، وأفقاً جديداً للمسرح، وخطاً جديداً في المقالة والكتابة السياسية الساخرة وشديدة العمق، لكنه بلا لحية، وليس على رأسه عقال.
    سوف تجتمع نساء السلمية جميعهن، ويقلن بما يشبه الصوت الواحد: بيتنا ملاصق لبيته .. ياما لعب في هذه الغرفة.. ومن هذا الثدي ياما رضع... وسيقول الرجال جميعاً، وباعتداد فائق: إنه الصديق الوحيد، أمضينا طفولتنا وشبابنا معاً.
    هكذا يفعل المبدعون فوق العادة: يغيرون الأمزجة والأنظمة، ويوجهون الرغبات...
    ***
    في أزقة السلمية الموحلة، وحاراتها المظلمة، وبين بيوتها الطينية التي يدلف الماء من سقوفها الخشبية الواطيئة، حيث تبرز علامتان ستطبعان المدينة بطابعهما لزمن طويل، ولم تنفكا تتزايدان، علامتان نافرتان بوقاحة كالأنف في الوجه: الفقر والثقافة. وكلما أمعن الفقر نهشاً في أجساد أبنائها، أمعن هؤلاء نهشاً في الكتب، حتى وقفوا: هم، والعالم الذي ينهار وجهاً لوجه، كمصارعين على حلبة. فراحوا يفكرون بطرائق شتى لمنع أو تأجيل انهياره: كأن يكتبون مثلاً، أو يشتغلون بالسياسة. الأمر الذي تكشّف - فيما بعد - عن الأمرين معاً: كثر الكتاب والمهتمون بالشأن الثقافي الذين أثروا على نحو من الأنحاء، بالثقافة السورية، بل والعربية، وكثرت –بالمقابل- الحركات والتنظيمات والأحزاب السياسية العلنية والسرية التي انتشرت إلى الأرجاء السورية، وأثرت - هي الأخرى - بالحركة السياسية العامة للسوريين؛ ما منح المدينة وجوداً لغزياً على امتداد الرقعة التي يقطنها العرب؛ وجعل أبناءها إلى ما بعد القرن العشرين يقدمون أنفسهم على أنهم من السلمية فحسب؛ قبل أن يقدموا أنفسهم على أنهم ذوو ذوات، ودون أن يفكروا أو يتساءلوا: ماذا بقي من هذا الرحم المقدس؟!
    في هذا المكان الكثيف، الضاج بالدلالة، الصاخب، الهادئ، المنعزل الذي ينطوي على الكثير من التنويه بالذات، والمفعم بالطموح، تحقق - بشكل فريد ومفاجئ - المثل الشعبي "ياسما إنت اللي بعتي، ويا أرض ابتليتي"، إذ ولد محمد الماغوط.
    حقاً، (ابتليت) الرقعة العربية بهذا الشاعر الذي وضع القوانين الشعرية التي صاغها التراثيون؛ وحتى تلك التي صاغها أصدقاؤه الكبار في العصر الحديث، في كيس الخيش الذي أحضره من السلمية إلى دمشق فبيروت، ورماه خلف ظهره، وابتكر قوانينه الخاصة. إذ إنه يرى أن "الشعر يكاد ينقلب إلى مورِّط بعدما كان منقذاً. لقد أصبح يكرهنا وينأى عنا، كأننا قتلة، صيادون، وهو الطائر الأليف الذي أحببناه. في كل يوم يعطونه وصفاً وقيمة لا علاقة له بهما. إنهم يزخرفونه كأنه سرج وليس الجواد، مهمتي منذ سنين أن أعيد الإلفة بيني وبينه، وأكاد أوفق، لأن الشعر يظل يحمل روح الطفل، بينما الآخرون يعاملونه كأنه شيخ عجوز يجب أن يوارى التراب للاستعاضة عنه بشعر معلب يتفق والخيانات الروحية المتفشية في هذا العصر". لقد دخل الشعر كوحش بري لا يروَّض، فحطم كل الأوزان والقوافي التي تريد ترويضه، وكتب ما ليس للشعر العربي عهد به من قبل، إذ إنه كتب آلامه الشخصية، وتاريخه الشخصي المحمول على الحزن المتطرف، والرعب المتطرف، وعلى وَلَهٍ، متطرف أيضاً، بالحرية.
    ***
    ولد محمد الماغوط عام 1934 في السلمية، التي يقول إنه اكتسب إحساسه بالظلم البشري والفوارق الطبقية من نشأته في "هذه القرية الحائرة بين الصحراء والمدينة، والمنقسمة إلى أمراء وفلاحين، وأعتقد ـ والكلام للماغوط ـ أن ماركس كان ينبغي أن يولد في السلمية وليس في ألمانيا، ليخترع نظريته في الصراع الطبقي". ويعتبر أن السلمية نمّت فيه حس التمرد، "حين تفتح وعيي على مقابر خاصة للأمراء، ومدارس خاصة لأولادهم، فيما كنا نحن أبناء الفلاحين لا نذهب إلى المدرسة، بل إلى الكتّاب". ومن هذا الخلل الطبقي أتت عزة النفس "أذكر مرة أتى أميرٌ فارسٌ ليرمي أثناء دفن أحدهم حنطة للفقراء، فضربته بحجر. ولاتزال آثار سوطه على جلدي إلى هذه اللحظة".
    فهو يعتبر أنه "في مطلع الثلاثينات لم تكن السلمية مدينة، كانت قرية نائية وباسلة، تنظر إلى وحلها ودخانها وعيونها المحمرة كما تنظر الفرس إلى أجراسها، أما التاريخ المتسلسل في المعارك الكبرى فيظل في جيب المختار" ويرى أن الموت كان طبيعياً فيها، بل ضرورياً ومتوقعاً في كل لحظة. وعلى هذا الأساس كان أطفالها شرسين كالحشرات، ورجالها لا يتورعون عن ضرب أشجارهم بالسوط لأنها لم تثمر في الوقت المحدد. حتى دجاجها كان يصرخ باستمرار كأنه مصاب بذات الرئة. يقول: "كانت السلمية نقطة زيت في ماء الوطن. ولقد فكرت السلطات المتعاقبة جدياً في تقطيعها كالحية، هي وكهولها وشبابها ومقابرها ووضعها داخل كيس، ثم قذفها إلى الجحيم". ويروي أنه "حين حاول البدو في أحد سني المجاعة والقحط غزو القرية من جهة الشرق، تم تمزيق طلائع فرسانهم تمزيقاً قبل أن تصل إلى الضواحي؛ بعد أن شطرت رؤوس أمرائهم بأطراف المعاول. ولعل هذه التقاليد البدوية التي تتحكم بتلك المنطقة هي التي أججت الثأر، فقد وجدت في عام 1900 مئات الجثث في الكروم بسبب دجاجة" .
    ربما يكون هذا الظرف القاسي وشديد الوطأة هو الذي صاغ شخصية الماغوط على نحو من الأنحاء بمزاجه الحاد والمتقلب في آن، وكآبته المزمنة، ونزقه، وحزنه الذي لا يشبهه سوى الحزن الكربلائي الذي يفترق عنه في أنّ حزن الماغوط شخصي جداً. إن أكثر ما يميز شخصيته، هو انطوائها على هذا الحزن البدوي الذي استطاع كتابته بصدق نادر حتى لا تكاد تخلو قصائده من تلك المفردة الباطشة: الدموع. ويكاد قارئ هذا الشاعر الكبير يحار أيهما صاغ الآخر: القصيدة أم الشاعر؟ وربما في هذا الظرف أيضاً، وبسببه، نشأت تلك النزعة الثأرية التي تربطه بالعالم. إن قراءة أعماله تجعلنا نكتشف، دون عناء، أن محمد الماغوط طالب ثأر.
    لم يخرج صاحب (كاسك يا وطن) من بيته إلى الحارة إلا في السابعة من عمره، إنما ليس ليلعب مع الأطفال، بل ليرعى الخراف. لذلك فإن جل ما يتذكره من السلمية هو "الوحل والبرد والأحلام والغيوم والأبقار والرياح". ومع هذا فإنه يذكرها باعتزاز باعتبارها: "معقل القرامطة والمتنبي". وفي أنها "هُدمِتْ مئة مرة". ثم يقول: "إن هذه المدينة مقيمة في دمي". ويكتب:
    "سلمية: الدمعة التي ذرفها الرومان
    على أول أسير فك قيوده بأسنانه
    ومات حنيناً إليها
    سلمية: الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا
    وهي تلهو بأقراطها الفاطمية
    وشعرها الذهبي
    وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين
    دميتها في البحر
    وأصابعها في الصحراء"
    وكما كان لتلك المدينة أثر هائل في تكوين شخصيته الثأرية، المزاجية، النزقة، وذات التطلع السوداوي الكئيب الحزين، فقد كان - كما يبدو - لأمه دور حاسم في تربيته. إذ إن غياب والده المستمر عن البيت بسبب عمله أجيراً في أراضي الآخرين، منح أمه هذا الدور المركزي. فهي قوية، وصلبة، جميلة، وشاعرية و..صارمة أيضاً. أخذ منها "الحس الساخر، الصدق والسذاجة، ورؤية العالم كحلم قابل للتحقيق" كما يقول.
    ***
    إذا كانت السلمية كونت شخصيته الإنسانية، فإن دمشق، بل أسوأ ما فيها: سجن المزه، كونت شخصيته الأدبية. سلمية جعلت منه شخصاً لا يشبه سوى نفسه، ودمشق سجن المزه جعلت منه شاعراً وكاتباً لا يشبه – كذلك - سوى نفسه.
    إن فرحة والده بشروع ابنه العاق دراسة الزراعة في دمشق - مدرسة خرابو في الغوطة عام 1948 - لم تكتمل. فهذه مدرسة داخلية تقدم الطعام والشراب والنوم مجانا. وهذا يعني لوالده، إضافة إلى إزاحة عبء التكاليف التي تحتاجها الدراسة؛ التخلص من ابنه الذي "لا يطاق" لشدة تبرمه من الحياة والعالم. إلا أن الماغوط، وفيما هو في غرفته الداخلية، أخذ يفكر فيما إذا كانت هذه الدراسة تلبي طموحه الذي كان يتشكل رويداً رويداً في تغيير العالم. هذا الطموح الذي بدا له، في الحقيقة، أشبه بمهمة، أو أنه، حقاً، مهمة، وأن ثمة قوة خفية ندبته لتحقيقها، حينها اكتشف أن "ليس اختصاصه الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية"، فهرب من تلك المدرسة، ومشى 15 كيلومتراً، ولجأ إلى المكان الأثير لديه: الرصيف، وإلى الهواية المتمكنة منه: التسكع. وهذا هو قدومه الأول إلى دمشق، وكان موفقاً بالنسبة إليه، حيث اكتشف أرصفة لقدميه، وشوارع طويلة لدخان سجائره، مما لم يكن في السلمية.
    أما قدومه الثاني والأخير فكان عام 1955 – 1956 حيث بدأ حياته الأدبية والكتابية، ولم يتوقف، منذ ذلك الوقت، عن إشعال الحرائق في الثقافة العربية، وبين المثقفين العرب. وبدا كل كتاب من كتبه وكأنه الكتاب الأول من نوعه. وبدا أن التاريخ الأدبي بعامة، والشعري بخاصة، يتحدد على وقع قلمه، وضجره، وغضبه. وسرعان ما وجد الفقراء والمشردون والمنعزلون والمطرودون والمهمشون وفاقدو الأمل وقاطنو أطراف المدن... ناطقاً رسمياً بآلامهم، اسمه: محمد الماغوط. وسرعان ما وجد الشعراء الجدد - طالبو الحرية، برمثيوس يُحضِر النار والحرية إليهم، مُخَلِّصاً إياهم، عبر تخليصه الشعر، من عبودية الشكل، ومن أوزان داحس والغبراء، وقوافي البسوس، وبلاغة قس بن ساعدة الإيادي...
    لكن دمشق، آنذاك، استقبلته استقبالاً لا يليق بالشعراء. على أطرافها، وفي مكان يشكل علامة كبيرة من علاماتها يدعى المزه، حيث ثمة غرف متلاصقة، معتمة، رطبة، ومليئة بالقضبان الحديدية، أُطلق عليه، سجن المزه، في هذا المكان تم استقباله لمدة تسعة أشهر من العام 1955، سوف تطبع حياته وكتابته بطابعها. سوف يعيش حياته وهو يشعر أنه ملاحق ومهدد، سوف يعيش في ريبة وتوجس من كل نأمة: من رنين الهاتف، من طرقة على الباب، ومن تحرك الستارة في غرفته...ومن أجل ماذا؟ من أجل مدفأة؟ قد يبدو الأمر مستغرباً، لكنه حقيقي .

    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
    الأديب والشاعر والكاتب المسرحي محـمــد المــاغــوط شاعر التمرّد والعصيان - جميل جرعتلي
يعمل...
X