Announcement

Collapse
No announcement yet.

عبد الرحيم جيران - "سيرة الولع" - قصة قصيرة:

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • عبد الرحيم جيران - "سيرة الولع" - قصة قصيرة:

    Abderrahim Jairane


    قصة قصيرة:
    "سيرة الولع"
    عبد الرحيم جيران

    ربما نعرفه، بل أكيد أن الأمر كذلك، نجزم به من دون تردد، على الرغم من أن أغلبنا فوَّت لحظة اعتقاله، لكن قد سبق للعديد أن رآه، فقد كان تحفة من معالم ذاكرة جيل برمّته، حتى أن هيئته رسخت في الأذهان، في هيئة جسد قصير ينتهي برأس مفلطحة مثل قبعة فطر، بل يُعدُّ ذكرُ اسم سينما ABC من دون استحضاره نوعا من إلحاق الضرر بسمعتها، فكثيرا ما شوهد بالقرب منها، وإذا لم يحدث أن صودف هناك، فإن معنى ذلك أنه يوجد حيث يجب أن تظهر ملصّقات الأفلام التي تُعرض بها، أي بساحة ﭬـيردان. ولا بد أن يكون في هذه الحالة وراء العربة التي وضعت فوقها ملصقات الأفلام في هيئة مثلث لتشبه في شكلها هذا إحدى خيام الكشافة. لا حاجة لنا بذكر اسمه، الإشارة إليه بضمير الغياب تعد أكثر من كافية. سيغيب عن الأنظار، لكن من دون أن تغيب صورته من ذاكرة الكثيرين، حتى أنه استمر حاضرا في حديث المقاهي أو غيرها من الأماكن، إذ كان من الجيد ضرب المثل به في البلاهة. والسبب في غيابه أنه ترقّي في سلّم المهن المجيدة التي زاولها، فمن المدهش جدا أن ينتقل في زمن وجيز من مساعد مصلح دراجات، إلى دافع عربة إشهار، إلى خادم في بيت عميد شرطة. ومهنة من هذا القبيل رأى فيها الكثير أنها أكثر من شاقة بالنسبة إليه، وبخاصة وأنه لا يتوفر على مؤهلات مناسبة، فقد عرف بخصلة خجل غريبة ممزوجة بالخوف من الحيوانات مهما كان شأنها، وإذا ما فكرنا في خصلة الطموح فهي غير متوقعة منه، يكفيه أن يفعل ما يطلبه منه الناس، أما هو فلا يريد شيئا، أو قل كان كثير الحلم من دون أن يفعل ما يدل على أنه يحلم. لكن ما كان أكثر ميزة فيه هو الكسل، لكن لا تُعدُّ هذه المذمة سببا في طرده من المدرسة، فقد حدث ذلك نتيجة شيء آخر، الشرود التام، ولم يكن شروده هذا ناتجا عن طبع فيه، وإنما لأنه سقط ضحية عشق غريب، فقد كان مولعا حدَّ الخبل بحذاء معلمته الفرنسية، فقد كان ذا كعب عالٍ تُسمع له طقطقة أثناء ذهابها وإيابها بالفصل، ولونه رماني غامق، وله استدارة تحيط بمقدمة القدم عند انتهاء منابت الأصابع، سيعلق بذهنه عشق الأحذية، ولم يفارقه حتى وهو يخدم العميد، ولسنا ندري ما الذي جعل زوجته لا تنتبه إلى نظراته المريبة إلى حذائها، لم يكن عمله عند العميد نتيجة جهد قام به هو، وإنما نتيجة توسط عمه الذي كان يشتغل بستانيا وحارسا في الآن نفسه عند الرجل. وعلى الرغم من أنه قضى وقتا لا بأس به في عمله الجديد، فإنه لم يتخلَّ عن عاداته التي اكتسبها من جراء اشتغاله في السينما، ومن ضمن ذلك هوسه بصور الممثلين والممثلات، فقد كان يهوى جمعها، فلا يتردد في شراء المجلات والصحف، لكي يقتطع منها صورة لهذه الممثلة أو لتلك، أو لهذا الممثل أو لذاك، بل لم يكن الأمر يقتصر على ملاحقة الصور، بل تعداه إلى تقليد الممثلين، ولهذا ينذر ألا تجده يغير ملابسه وفق مشاهداته السينمائية حتى تتلاءم مع مظهر الممثل الذي أثار إعجابه. ومن نافل القول إن العميد لا تنقصه الخبرة لكي يلاحظ سلوكه هذا غير الطبيعي، فقد انتبه إلى أن بطلنا يتصفّح في غيابه المجلات المصورة بمكتبه، تبين له ذلك من اضطراب الترتيب الذي كان يصففها به، ثم ربط بين ملاحظته تلك وغرابة لباسه، لكنه لم يعدَّ ذلك أمرا خطيرا حتى يؤنبه. هل ستبقى الأمور عند هذا الحد؟ يتساءل قارئ متعجل من أمره، مع أن البديهة تقتضي أن لا تسير الأحداث إلا في هذا الاتجاه. ذات يوم دخل صاحبنا إلى المكتب لكي يقوم بمهمته المعتادة التي لا تتجاوز التنظيف، مع إطلالة سريعة على المجلات المصورة، فرأى بدلة العميد معلقة على المشجب، والقبعة موضوعة فوق المكتب بمحاذاة الأباجورة، ارتعب في البداية من البدلة، وظل زمنا- وهو يتأملها من بعيد- قبل أن يحاول الاقتراب منها، كانت يداه ترتعشان، وشفتاه منفرجتين مسحوبتين نحو الداخل في هيئة من تجتمع فيه مشاعر متداخلة: الإقدام والتردد والخوف والبلاهة والإعجاب والاشمئزاز والخجل وقلة الحياء...الخ. اقترب من البدلة أكثر، حاول لمسها، في البداية استخدم سبابته فقط، ثم تراجع مذعورا، خشي أن يُلحق بها سوءً ما، لكنه ما لبث أن تجرأ فاستعمل كلتي يديه، فَسَرَتْ في جسمه قشعريرة لها هيئة لوثة طارئة. ولأنه سينمائي حتى النخاع قال في داخله "ما الذي يحدث إذا ما جربت ارتداءها، لو صرت عميدا إبان دقيقة واحدة، لن تفنى الدنيا"، لم يكتف بهذه المحاورة الداخلية البسيطة، بل بلغ به شطط الفكرة أن قال:"ما الفرق بيني وبينه؟ مجرد حروف تعلمها.. من دون بدلة ماذا يساوي..؟ بصلة..". لم يَحْتَجْ إلى وقت طويل لكي يندمج في الفكرة ويصير هو هي، سحب البدلة من مكانها، قاسها عليه، وجدها أطول منه، لم ير في ذلك عائقا، الحل كان موجودا، امتد يده إلى مقص على المكتب، فقص جزءً من أسفل البنطلون وآخر من كمي السترة، وارتدى البدلة، ثم وضع القبعة على رأسه، كانت ضيقة، لكن رأى أنها لائقة به. اتجه نحو المرآة، من دون أن ينس أن يعطي لمشيته إيقاع العميد، رأى نفسه غير نفسه، وأكتشف لأول مرة معنى أن يحلم، وأنه لأول مرة لا يقلد ممثلا بعينه، كان يقلد شخصا واقعيا، انسحب من أمام المرآة بعد أن أعطى تحية تعظيم سلام للذي في المرآة الذي هو بكل تأكيد. جلس وراء المكتب، ترك جسده يتمايل مع حركة الكرسي الهزاز، انتبه إلى علبة السيجار على سطح المكتب، امتدت يده، سحب واحدا، وضعه في فمه، في اللحظة التي قرَّب فيها الولاعة من السيجار لمح العميدَ يقف عند المدخل، جمد في مكانه، لم يتحرك، صار جزءا من الكرسي الذي يجلس عليه، تقدم منه العميد، جذبه من مكانه مثل فأر، ثم انهال عليه ركلا ورفسا إلى أن فقد إحساسه بالمكان والزمان. في طريق اقتياده إلى مفوضية الشرطة مكبّل اليدين، لم يبال بالماء الدافئ الذي بلل سرواله، بل لم يبال بأي شيء آخر، فقد كان يعتصره الندم لأن المرأة التي يعشقها لم تره في لباس العميد، لو حدث ذلك لما فضَّلت عليه مخزنيا بسيطا لا يتعدى دوره الوقوف أمام باب المقاطعة في انتظار ظهور القائد ليؤدي له تحية تعظيم سلام.
Working...
X