Announcement

Collapse
No announcement yet.

قصيدة التفعيلة في سورية في الثمانينيّات ـــ د. خليل الموسى -2- إعداد فريد ظفور

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • قصيدة التفعيلة في سورية في الثمانينيّات ـــ د. خليل الموسى -2- إعداد فريد ظفور

    قصيدة التفعيلة
    في سورية في الثمانينيّات
    الدكتور : خليل الموسى
    إعداد : فريد ظفور
    - 2 -
    يمكننا أن نذهب، هنا، إلى أن الاتجاه الحزيراني قد استمرّ في الشعر في سورية قويّاً، وأنّ القارئ ليجده فيما تلاه من أحداث في كامب ديفيد، واجتياح القوات الإسرائيلية لبيروت، وهذا ما عزّز الطلاق بين الشعر والسلطة، واتخذ الشاعر أحد موقفين: المواجهة، أو الانكفاء على الذات والغناء لها أو للقصيدة أو للحبيبة غناء رومانسيّاً صوفيّاً أو جسديّاً، وإن ظلّت هنا أو هناك أصوات شعرية تفتخر بالانتماء إلى العروبة، أو تغنّي للانتفاضة، أو ما شابه ذلك، ولذا فإننا نتوقف هنا عند أربعة مشاهد في شعر التفعيلة في سورية في عقد الثمانينيات:‏



    1- الإدانة والرفض والاغتراب.‏

    2- الانكفاء على الذات والغناء الرومانسي الصوفي أو الجسدي.‏

    3- الافتخار بالانتماء إلى العروبة.‏

    4- الغناء للانتفاضة.‏



    ظلّ الشاعر فايز خضور صاحب الرؤيا الحادة، وهو شاعر الرفض والإدانة والاتهام والمواجهة في الشعر السوري، ظلّ صاحب الموقف الواحد والرؤيا الواحدة، فهو يجول في الواقع المعاصر، فلا يرى أيّ بريق للأمل، وأن الأمة تسير نحو الوراء، وأن الإنسان فيها يدجّن ويعلّب ويُسيّر من الخارج، ولذلك يرى أننا لا نمثّل أيّ شيء في هذا الوقت العصيب، فحضورنا في الحياة كعدمه، ولذلك أيضاً يُقيم موازنة بين ماضينا المشرق وحاضرنا المدلهم، فيقول في قصيدته "إنجيل الأنهار":‏



    كفرتْ باسمنا المدنْ‏

    ومحتْ لوننا القرى‏

    بعدما أحرقوا السُّفُنْ‏

    لم يَعُدْ مُبْصِرٌ يرى..!!‏

    قيل: صِرْنا (....) ولم نكنْ..!!‏

    مَنْ تُرى نحنُ، يا تُرَى؟!


    1-‏

    والنص الحاضر في شعر خضور ثري مكثَّف، يقول غير ما يقوله، وهو يستدعي دائماً النّص الغائب أو المخفي أو المسكوت عنه، فهو يدين واقعنا المعاصر، ويسميّه زمان الولادة بالقوة المخبرية، ويتوجّه بالخطاب إلى طبيب هذه الولادة أو مهندسها:‏

    سيّدي‏

    يا زمان الولادة بالقدرة المخبرية،‏

    ما نفعُ نسلٍ ضريرٍ، قعيدٍ، مُهانْ؟

    2-‏

    إذا استقرأنا هذا النص أو المقطع القصير التهكمي أدركنا أنه يخفي وراءه أو بين سطوره نصّاً آخر أو دلالة أخرى، لأن الشيء لا يظهر إلاّ بضدّه، والضد أو الدلالة المسكوت عنها هي الدلالة الحقيقية، فالشاعر يتساءل بمرارة عارمة عن جدوى هذا التفريخ المخبري للكائنات الممسوخة المتشابهة التي تتناسل وتلد ما يشبهها، ولا دور لها في الحياة سوى أن تأكل وتشرب وتمارس الجنس ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وهي شخصيات ذات أدوار سلبية، بل هي عالة على المجتمع، وتقتصر طموحات هذه الكائنات على ما هو تافه.. أما الحرية.. أما الكرامة.. أما التضحيات والبطولات فقد تنازل عنها هؤلاء إلى الأبد.. هذه الدلالة السطحية، إذاً، تُخفي وراءها دلالة أخرى نقيضة لها تمام التناقض.. هذه الولادة المخبرية تُخفي وراءها صورة للولادة الطبيعية، حيث تكون العزائم على قدر عزائم الرجال، وحيث تكون البطولات والتضحيات على مقدار همم الرجال، وحيث يكون الرفض للمهادنة والمصالحة، وحيث تُرفع رايات الكرامة فوق كلّ الرايات الأخرى.‏



    ويدين الشاعر مصطفى خضر الواقع العربي المعاصر، ولا يرى في هذه الخيول العربية الهرمة سوى أدوات وهمية مركِّبة تركيباً كاريكاتوريّاً، ولا فضاء لها، وكأنّ فارسها دونكوشوتي السمات، وليس ذلك وحسب، وإنما يذهب إلى أبعد من ذلك في سوداويته التي يقرؤها من الواقع المعاصر، فلا رجاء لمن لا رجاء لهم، وقد مضت أيام الشهادة والشهداء، ولذلك جاء بكل أسى يرثي عصر الشهداء والبطولات، وهو يرثي معها زمن التفتّح والتألّق والأمجاد في قصيدته "المرثية الدائمة":‏

    أين الشهادةُ والشهيدُ‏

    وراءَ أغنيتي هياكل، أو أباطرةُ الطلولِ‏

    تنوءُ ضائعةً، وتشخصُ!‏

    كيف يسقط فوقها مطرٌ،‏

    يردُّ صباحَهَا العربيَّ، يصنعُ من كواكبه عيوناً للخيولِ،‏

    ومن سلاحفِهِ دروعاً للغبار‏

    ومن معادنِهِ سنابلَ أو سلاحاً للنهارِ،‏

    ومن نهاره أغنياتٍ للفصولِ،‏

    وكأنّ أجنحةً ترفرفُ في سماءٍ من ترابْ
    !3-‏

    وينظر مصطفى خضر من نافذته الشعرية إلى المستقبل، فلا يرى إلاَّ الليل ممتدّاً، وفي أثناء هذا الليل المدلهمُ يُدفن ما هو حيٌّ وإيجابي، ويُستبدل به ما هو موات وسلبي، فينهض عالم غريب وميت مكان عالم حيّ وحيويّ، ولا رجاء لهذا الشاعر الذي لا يرى وافداً إلاَّ العتمة والدم:‏

    هو الليلُ يمتدُّ، يا أبتاهْ‏

    ويُدفنُ شيءٌ، أليفٌ وحيٌّ‏

    ويُبْعَثُ شيءٌ غريبٌ ومَيْتُ!‏

    ولم يبقَ إلاَّ الصَّدَى والنزيفْ‏

    وجِنَّيتي وَحْدَها شاردهْ‏

    وظلٌّ من الدمِ، ظلٌّ لطيفْ‏

    يشاركُنا العتمةَ الوافدَهْ! 4-‏
    ويشارك الشاعر حسين حموي في التعبير عن هذا الواقع الفاسد ورفضه وإدانته بأسلوب آخر، فهو يتقنّع بوجه عروة بن الورد العبسي أمير الصعلكة في العصر الجاهلي، ولهذا التقنّع بهذا الوجه دلالته العميقة، فالشاعر، وإن رفض الواقع والفساد، لا يتخلّى عن اتجاهه المعروف به، فهو يلتزم بخطّ الجماهير المتعبة والمغلوب على أمرها، وكذا شأن عروة في عصره عصر السادة والطبقات العليا في محاربتها للطبقات المسحوقة واستغلالها، ويتوجّه الشاعر حموي بالخطاب إلى قلبه المفعم بالحزن نتيجة لخيبة طموحاته الطويلة مما يجري في هذا العالم من فساد، وقد كان الشاعر لا يتوقع حدوثها إلى حدٍّ ما في السبعينيات، ولذلك يطلب من قلبه أن يكفّ عن الخفقان، ما دام لا يخفق إلاّ بمثل هذه الأحزان التي تورث السقم، وكأن الموت غدا أمنية هذا الشاعر في مثل هذا الظرف، وخفقان القلب دليل على الحياة، ولكنَّ خفقان قلبه لا يحمل إليه إلاَّ الشعور بالقهر والذلّ والمهانة والخيبات المتتالية:‏

    أيُّها القلبُ‏

    المعبّأ بالحزن حتى الوريدْ‏

    كُفَّ عن الخفقانْ‏

    أيُّها الشقيُّ‏

    المحاصر من ستِّ الجهاتْ‏

    كُفَّ عن الخفقانْ‏

    يكفي احتمالاً وقهراً‏

    أما حانَ‏

    أن تستريحَ قليلاً‏

    كلُّ الأشياء في النهاية،‏

    تخلد للراحة،‏

    ترجو السكينة،‏

    فلماذا وحدَكَ‏

    أنتَ المدنفُ بالحبِّ‏

    تصرُّ على الخفقان؟!
    5-‏

    وليست خيبة الشاعر ناجمة عن خيبة أمله بالطموحات العظيمة التي كان يطمح لها مع أمثاله من الشعراء من أبناء جيله، وإنما تكمن خيبته في تعطيل القيم والأخلاق في النفوس في مجتمع بدا له متشابهاً، فلا يحيط بالشاعر سوى نفوس تخبّئ المنفعة الشخصية وتسعى إليها بأيّ وسيلة، ويرتدي أصحابها ثياب الحملان، ولكنهم في حقيقتهم ذئاب كاسرة، ولذلك يفضحهم الشاعر في "اكتشافات عروة المتأخرة":‏

    وجوههم مومياء‏

    عيونهم نحاس‏

    قلوبهم رجراجة‏

    كالقصدير‏

    حياتهم مطلية بالزرنيخ‏

    محقونة بالزيف والرتابة 6-‏

    وثمة شاعر يختصر لنا معاناة الشاعر السوري في أوائل الثمانينيات من خلال قصائد غنائية وجدانية للمرأة وللنّاس والهمّ العربي، فيقول في أول مقطع من مجموعته:‏

    موجعٌ‏

    في الضباب العريقْ‏

    والقيود التي أينعت‏

    في انكسار الخطى‏

    وانتحار الطريق7-‏

    ويعبّر الشاعر وليد مشوّح عن خيبات أمل هذا الجيل الذي خذلته القيم التي تربّى ونشأ عليها، فكبرت معه، ثمّ خلّفته وحيداً يطاردها دون جدوى، ولذلك كان الشاعر مباشراً وغنائيّاً وصريحاً في قصيدته "تحوّلات الزمن الصعب" فقال في نهاية المقطع الثالث منها:‏

    وتذكّرنا بأنّ الصبر مفتاح الفرجْ‏

    وانتظرنا..‏

    وانتظرنا..‏

    وانتظرنا علّه يأتي الفرج‏

    وعرفنا أنّ للقمّة تاريخاً طويل‏

    قد درسنا كلّ ثورات الشعوب‏

    وتأكّدنا بأن الرفض مفتاح الفرج‏

    ورفضنا ما تعلّمنا صغاراً‏

    ورفضنا‏

    ورفضنا‏

    ورفضنا‏

    عندها طالت أيادينا النجوم 8-‏

    وثمة اتجاه رؤيوي آخر نجده في قصيدة التفعيلة في هذا العقد الثمانيني، وهو الانكفاء على الذات والغناء الرومانسي الصوفي المشوب أحياناً بلمسات واقعية، أو الغناء للجسد والجسدية حتى يصل الأمر إلى وصف مدارج الشهوة قطرة قطرة، أما الشقّ الأول ففيه يتأمل الشاعر ذاته والعالم الذي يحيط به دون الاقتراب منه اقتراباً مباشراً، وكأنّ القارئ الضمني يتدخّل هنا ليردّ الشاعر إلى خطّه الذي يسير عليه كلما حاول أن يتخطّاه أو يتجاوزه إلى الواقع، ويمثّل هذا الشقّ بعض الشعراء في مدينة حمص إضافة إلى شعراء آخرين هنا وهناك، وبدأ هذا الاتجاه الرؤيوي يتزايد يوماً في إثر يوم، وبخاصة عند الشعراء الشباب، ويمكننا أن نعدّ مجموعة "من أين تبتدئ القصيدة؟" لمصطفى خضر مثالاً على ذلك، ونضرب مثلاً عليها بقصيدة "القصيدة المضادّة"، وهو يصف فيها ولادة القصيدة العصيّة:‏

    من هذه الطالعةُ الآن بلا استئذانْ‏

    تدخلُ في المكانْ‏

    تجمعُ بين الحلمِ القصيِّ‏

    والسلالة القصيّة‏

    تنفخ في رماد ليلِ الشعبِ‏

    مليئةً بالعشبِ‏

    فتبدأ القصيدة العصيّهْ 9-‏

    إن مثل هذا الموضوع كان في بدايات الرومانسية، إذ كان الشاعر يبحث في ليل أحلامه عن الفضاء البديل للواقع المرفوض، فلا يجد غايته إلاّ في الشعر، فينكفئ على نفسه وقصيدته يسلّيهما بهذا الفضاء في وحدةٍ بعيدة عن المنغّصات والمكّدرات في المجتمع الموبوء، فعالم الشاعر عالم الإلهام والوحي، ولكنّه الإلهام المتعسّر أو الولادة العصية، وكأننا أيضاً إزاء طبيب يتأمل ولادة متعسّرة في القصيدة الرمزية.‏

    ويمكننا أن نتوقف هنا أيضاً عند البحث عن الحبيبة في عالم صوفي، فالبحث عن القصيدة هناك، يقابله البحث عن الحبيبة هنا، وجماليات القصيدة متساوية مع جماليات الحبيبة أيضاً، وإذا كانت القصيدة غائبة هناك بولادتها العصية، فإن الحبيبة غائبة هنا بحضورها وهويتها، غائبة بصفاتها والإفصاح عن زمن مجيئها:‏

    هواءٌ لغائبةٍ حاضرهْ‏

    هواءٌ تخضّبه بالغيابِ،‏

    فتصحبُهُ جمرةٌ في اللقاءْ‏

    وما بيننا تنزف الذاكرهْ‏

    وما بيننا لحظةٌ للحنونْ!‏

    ***‏

    هواءٌ أليفٌ لنا، للجميعِ‏

    تعطّرُهُ دعوةٌ أو نداءْ‏

    وجنيَّتي لم تزل تتخفّى،‏

    وما زلتُ أحمل للأصدقاءْ‏

    هواءً لأغنيةً في البكاءْ!‏

    وأسأل جنيّتي من تكونْ؟ 10-‏

    إن الارتداد إلى القصيدة الرومانسية الجديدة لا يقتصر على الرؤيا، ولكنه ارتداد أيضاً إلى الشكل الرومانسي الذي لاحظناه إلى حدٍّ ما عند جماعة أبولو وبعض الشعراء اللبنانيين الذين توسّطوا بين الرومانسية والرمزية، كيوسف غصوب وصلاح لبكي وأمثالهما، مع تعميق صوفي شديد للحظة الشعرية الراهنة.‏

    ويجد القارئ مقابلاً لذلك وصفاً حسياً لمدارج الشهوة في كثير من مقاطع قصيدة "فصول الجسد" لممدوح السّكاف، ففي المقطع 39 "أنين الجمر" يقول:‏

    لِسَيِّدةِ الجمرِ تُلْهبُ جمري بنارٍ من النّار والعاصفَهْ‏

    بنارٍ تأجَّج فيها شبابٌ لسيّدة الرعشةِ الواجفهْ‏

    شبابٌ من النُّورِ يُزْكيهِ نُورٌ‏

    تقطَّر بالرغبةِ الجارفَهْ‏

    ونورٌ من الجسمِ فاحَ كلَيْلٍ‏

    لسيّدة اللحظةِ النازفهْ‏

    هو الليلُ يدنو على شفَتَيْنِ إلى مَوْقدِ الشّعلةِ الرَّاعِفَةْ‏

    ويحنو عليَّ كطفلٍ وديعٍ‏

    ويرضعُ ظلمتَهُ الرَّاجفَهْ‏

    لسيِّدةِ الجمرِ هذا الأنينُ، تُضَرِّجُهُ اللهفةُ الخائفَهْ 11-‏

    إن الشهوة الجارفة تتقطَّر من هذه الأبيات، وهي شهوة يصفها الشاعر بإجادة ويدعو إليها، على نقيض أبي شبكة في أفاعيه حين وصفها وحذّر منها على سبيل نظرية التطهير الأرسطية.. فالشهوة هنا تتقطّر من هذه الفاء المفتوحة المتبوعة بهاء ساكنة، وكأنَّها تمثّل الاندغام الجسدي في ألق توحّده وتوهجه وتجمّره وانطفائه، وقد كان للشاعر نفسه وقفة أخرى مع هذا الوصف قبل أن يخرج من فصول الجسد في المقطع 241 "سرر الخديعة" يقول:‏

    كُنَّا على سُرُر الخديعةِ والخديعةُ غافِيَهْ‏

    صَلَّتْ صليلَ الرَّهزِ‏

    أقدامٌ‏

    وأَوْمأَ ناهدٌ لشقيقهْ‏

    باللَّهْثِ‏

    وانتفض الجسدْ‏

    وابتلَّ من عرق الخديعةِ مسْدَلٌ باكٍ‏

    وسائدُ باكيهْ‏

    والليلُ كان بلا ظلامٍ عندما هَمَلَتْ عيونْ‏

    تستعدُّ لغاشِيَهْ‏

    وأنا وذكراها‏

    يُفرِّقُنا‏

    ويَجْمعنا‏

    نشيدٌ راعفٌ للحزنِ يوغِلُ في نشيدٍ كالأبدْ‏

    يا أيّها الصبحُ السّخيُّ بدمعه،‏

    كَفّنَ بَقَايانا بصبحٍ مُضْطَهَدْ..!! 12-‏

    ويمكننا أن نجد شاعراً التزم منذ بداياته الشعرية بقضايا الجماهير يلتجئ هو الآخر إلى صورة المرأة الرومانسية المثال، وكأنّ هذا الالتجاء غدا دُرجةً درج عليها الشعراء، فغنّى لها الشاعر ميخائيل عيد بعد‏

    أن غنّى في مجموعاته السابقة للشعوب والثورات والإنسان، فربما ملّ هذا الشاعر هو الآخر من الغناء دون جدوى، فعاد إلى الحبيبة الوديعة، ليحتمي بها من تخيّلاته:‏

    التفتّ إليكِ هاتفاً‏

    تعالي إليَّ يا حبيبتي‏

    أيتها الوديعةُ الحالمةُ‏

    يا ذات العينين المحيرتين كالزمن!‏

    تعالي إليّ‏

    لأحتمي بك من تخيّلاتي‏

    فقد يكون الزمن العجيب‏

    هو الذي أرسلك إليّ‏

    ليرتاح من لجاجتي‏

    ويريحني. 13-‏

    وثمة اتجاه آخر يتمثّل في التمسّك بالجذور البدوية والحضارة العربية الأصيلة، وكأن أصحاب هذا الاتجاه يستعيدون التيار السلفي الذي وقف أصحابه في بدايات عصر النهضة موقفاً رافضاً من الحضارة الأوروبية، ولذلك يفتخر الشاعر مروان الخاطر، في قصيدته "بدوي في الزحام"، بأنه بدوي يعيش وسط هذه الأمة الضائعة، وهو يردّ فيها على ما أصاب البلاد من بهرجات استهلاكية وميول جارفة إلى محاكاة الإفرنج في كل شيء في العقود الأخيرة؛ ولذلك يرسل صوته بين الزحام:‏

    من يسمع صوتي بين طواحينْ‏

    أو يذكر وجهي بين وجوه المنفيينْ‏

    بدويٌ..‏

    أعرف هذا.. أعرفه‏

    ومضاربُ أهلي تعرفني‏

    بدويٌّ..‏

    أمتلكُ الدنيا 14-‏

    ويقدّم هذا الشاعر المضمون على الشكل، ويعبّر عن تجربته الشعرية تعبيراً مباشراً، وهو يحمل أولاً هموم بيئته الفراتية، ويحمل ثانياً هموم الأمة العربية المعاصرة ضمن اهتمام شديد بخطابية الوزن وتجليّاته وسلاسة العبارة واندفاع الحركة ضمن موجات شعرية متتابعة.15-‏

    ولموضوعة الانتفاضة وحجارتها في الأرض المحتلة نصيب وفير في الشعر السوري في الثمانينيات، وقد ترك هذا الحجر بصماته الشعرية بعد أن غدا رمزاً من رموز الشعر المعاصر، وقد عاد الشاعر ميخائيل عيد إلى اتجاهه الذي عرفناه عليه سريعاً بعد أن قامت الانتفاضة، فتحوّل إلى قيثارته المعهودة،‏

    ليغنّي للانتفاضة والمنتفضين غناء عاشق ملتزم، وعاد إلى أسلوبه ورؤاه اللذين عهدناه عليهما، فإذا هو يخصّ الانتفاضة بمجموعة كاملة بعنوان "قمر المخيّم لا يساوم" ويُغَنّي في نهاية القصيدة التي تسمّت المجموعة بها:‏

    قمران لي‏

    قمر المخيم والوطن‏

    جرحان لي‏

    جرح المخيم‏

    والوطن‏

    وأنا الوفيّ المؤتمن‏

    أنا لن أبيع‏

    ولن أساوم‏

    يا وطن 16-‏

    ولا يعود الشاعر ميخائيل عيد إلى اتجاهه الالتزامي وحسب، وإنما يعود أيضاً إلى المباشرة والتصريح والخطابة، فيخاطب هؤلاء المنتفضين بلغة بسيطة قريبة من لغة النثر، بعيدة كلّ البعد عن الانزياح والمداورة التي نعهدها في الشعر المعاصر، وإن كان يعتمد على التكرار، فيقول:‏

    أيّها الطالعون من غضب الأرض‏

    أيُّها المعبّرون عن إرادة الشعب‏

    ليتني‏

    أحد الأحجار‏

    التي‏

    ترمون بها‏

    وجوه الغاصبين!‏

    وليت كلَّ العرب‏

    يتقنون‏

    لغتكم الرائعة! 17-‏

    ويتقدّم مصطفى خضر برموزه الشعرية ليعبّر هو الآخر عن هذه المناسبة بلغة وأسلوب مختلفين في قصيدته "قصيدة مريم الأولى"، فيتجه بخطابه إلى السيدة العذراء التي قدّمت ابنها المخلّص الأول، ينهض من رفاته، ليُقيم وجه العدالة، وإذا مريم في فلسطين مريمات، وها هي ذي أمّهات الأبطال والشهداء يفعلن ما فعلت، وإذا الأرضُ الفقيرة بحجارتها تحتضن الجهات في ثورة واحدة عارمة:‏

    يا مريمَ اللغة الأخيرهْ:‏

    هو ذا الدمُ‏

    يخضّر في الأشياءِ، ينهضُ في الرفاتْ‏

    يا مريمُ:‏

    ماذا تُربيّ المريماتُ‏

    ووردةُ الأرض الفقيرهْ‏

    كبرت لتحتضنَ الجهاتْ!‏
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ

    قصيدة التفعيلة في سورية في الثمانينيّات ـــ د. خليل الموسى -2- إعداد فريد ظفور

Working...
X