إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بقلم : الاستاذة نوال خماسي - القصيدة العربية في ميزان النقد الثقافي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بقلم : الاستاذة نوال خماسي - القصيدة العربية في ميزان النقد الثقافي

    القصيدة العربية في ميزان النقد الثقافي

    بقلم : الاستاذة نوال خماسي



    يظهر الأدب بقوة على صفحات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) في شكل منتديات و مجلات و ورشات خاصة بالكتابة، فقد بدأ المؤلفون بتجارب أدبية جديدة في بعض نواحيها و على هذا بدت الإنترنت كمختبر أدبي أو لنقل ورشة كبيرة للإبداع في إنتاج أعمال تصنف ضمن الأدب الإلكتروني أو الرقمي أو السيبر أدبي
    يظهر الأدب بقوة على صفحات الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) في شكل منتديات و مجلات و ورشات خاصة بالكتابة، فقد بدأ المؤلفون بتجارب أدبية جديدة في بعض نواحيها و على هذا بدت الإنترنت كمختبر أدبي أو لنقل ورشة كبيرة للإبداع في إنتاج أعمال تصنف ضمن الأدب الإلكتروني أو الرقمي أو السيبر أدبي، فيبدو أن المؤلفين صمموا أعمالا أدبية تتماشى خصيصا مع الحاسوب و الوسائط الرقمية و تحاول استثمار تقنيات التكنولوجيا من مثل تقنية النص المترابط و الوسائط المتعددة التفاعلية، و لكن يبقى اعتماد الأدب في المقام الأول على الكلمات و النصوص المكتوبة، و لكن الكتابة على وسائل الإعلام الرقمية تختلف تماما و كليا على الوسائط الورقية الثابتة، فللوسائط الرقمية خصائص و مميزات حيوية، هذه الأخيرة تغير بشكل عميق طريقة إقامة المعنى من خلال العلامات الرقمية، فحقيقة خصوصية النص الرقمي يستمدها من طبيعته الحيوية ، فالسؤال الذي يطرح هنا، إلى أي حد يمكننا الحديث عن نصوص أدبية رقمية ذات حيوية مكانية و زمنية؟.
    و على اعتبار أن النص الأدبي يعد في أحد أطره الخاصة تعبيرا عن رؤية العالم، ففيه ينقل الأديب تجربته الإبداعية و رؤاه عن ذلك العالم، هذه الرؤية تمنح النص فرادته المميزة له عن النصوص الأخرى1، و كذلك هو حال القصيدة الرقمية، هذه التجربة الإبداعية الجديدة التي تعبر عن تغير في الواقع المعاش الذي طغت عليه المعلوماتية و الرقمية كما تعبر أيضا عن تطور في شكل النص الأدبي و جنس القصيدة العربية التي تحولت من قصيدة مكتوبة إلى أخرى رقمية تفاعلية و أخذت بعدا جديدا مع الوسائط الرقمية و هي عناصر جديدة تتداخل فيها من صورة و صوت، إضافة إلى الكتابة، فأصبحت القصيدة بفضل كل هذا مرئية، و حدث التمازج بين اللغة و الصورة و الموسيقى و اختلطت العلامات اللغوية بالرسوم و الأشكال و اللوحات التشكيلية و الموسيقى و أصبحت القراءة تذهب من الصورة إلى النص و تعود من النص إلى الصورة و أصبح التلقي للقصيدة الرقمية التفاعلية يشترك فيه كل من البصر مع السمع مع العقل في الفهم المتكامل للنص الشعري، و تداخل النصي مع الخارجي، و لا يتأتى فهمها إلا إذا اجتمعت كل العناصر و الآليات التي تعتمد على السائد أو المحتمل2.
    و هذا العمل الإبداعي الرقمي عمل مؤسس، و ممنهج يحمل رؤيا حداثية جديدة الهدف منه ليس التجريب فقط و مسايرة وسائل الكتابة الحديثة، و إنما الغاية منه هي منح النص الأدبي العربي فرصة التجديد من خلال تزويده بطبيعة حيوية جديدة مكانية و زمانية، بمعنى تحرر النص الأدبي اتصاليا من بعد المكان، و عائق الزمان، و بالتالي إحداث ثورة حقيقية في إنتاج النص و في ممارسات تلقيه، فالتمايز في التجربة الشعرية لا يكمن في الانزياح اللغوي فحسب، و إن كان ذلك مفصلا جوهريا في عملية التمايز في القصيدة الورقية، إلا أن المؤلف لم يعد يقف حاملا نصه في ورقة أو في ثنايا ذاكرته و يقرأ ما كتب و إنما أصبحت القصيدة الرقمية التفاعلية عرضا متحركا تشترك فيها عناصر تقنية كثيرة، مما يجعلها نصا مرئيا مركبا و متداخل العناصر، كما أسلفنا، يتطلب عند القراءة إجراء آخر يرتقي لمستوى التقنية و الإبداع، فالمعنى يستخلص من خلال التركيز على الترتيب الهرمي بين عناصرها المختلفة (من نص، صورة، روابط، صوت) دون إحداث خلل و ذلك لتحديد الدلالة المستوحاة منها و لعلنا نجد الصورة المتحركة هي المسيطرة على بقية العناصر فهي تشمل الجانبين المنظور و المسموع فهي صورة ناطقة و متحركة في آن، فعنصر الصوت يعتبر ثيمة أو علامة فاعلة تشكل حقلا من حقول النص الدلالية فبغيابه تغيب نسبة كبيرة من دلالة العمل الفني، هذا و لا يطغى عنصر الصوت على بقية العلامات المشكلة في القصيدة الرقمية التفاعلية، فهو لا يولد المعنى لوحده و إنما يتظافر و يتناغم مع بقية العناصر التي تنتظم وفقا لمقتضى الرسالة، هذا ما يسمح للمتلقي من توزيع انتباهه بشكل عادل على بقية النظم الإشارية المتعددة، و يبدو أن التقنية الرقمية ساهمت في تزاوج جديد بين اللغة و الصورة البصرية المتحركة و هو تحقيق لجزء من حلم كان يراود الإنسان منذ زمن بعيد، و هو يثقف لغته في تشكيل الصورة السمعية، ليرقى بها و يحاول الإيهام بالصورة البصرية المتخيلة ، لذلك ربط الأدباء و النقاد بين الفنون المادية و الفنون القولية، فجعل الشاعر في محاكاة الشيء بمنزلة المصور لذلك تنبه على قرون تأثير الشعر في النفوس بفن الرسم أو التزويق3 فمبدع النص الرقمي يريد أن يكون مبدعا من نوع خاص يجمع بين تجارب جمالية متعددة، فهو في نص شعري واحد يحاول أن يجمع بين فن الكلام و فن الرسم و التشكيل و فن الموسيقى إضافة إلى ذلك كله فن الهندسة البرمجية، يشغله في ذلك هاجس التواصل و هاجس التطور الحضاري الذي أصبح يعتمد على عصب العلم و تطبيقات التكنولوجيا و الرغبة في التغيير المستمر التي تعتبر حقيقة ثابتة، و من أهم العوامل الفاعلة في تشكل هذه النصوص الجديدة و لكن السؤال الذي يطرحه الفكر النقدي العربي اليوم، يتعلق بتجديد جماليات القصيدة الرقمية التفاعلية، مع العلم أن انتقال النص الشعري إلى الكمبيوتر و من ثمة إلى (الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) لم ينقص من جمالياته البتة، بل على العكس فقد استطاع الأدب أن يخضع التكنولوجيا لسلطته، و أن يكيفها حسب رؤيته : فلا يتعلق الأمر بالتلفزيون أو السينما"، أين يتغير النسق الأدبي بجملته بنوع من التكلف مما يشوهه في كثير من الأحيان تلقيا جماليا4، فالأمر يتعلق في هذا المقام بمناقشة قادمة من داخل النص مما أدى إلى تغيير في بنية النص من الخطية و الجمود إلى الترابط و الحيوية، و هذا أدى بدوره إلى تغيير طرق و أساليب القراءة و العلاقة باللغة، فقد حافظت القصيدة الرقمية على تحقيق العملية التواصلية من خلال اعتمادها على الثلاثية الشهيرة (المرسل، الرسالة، المتلقي) ولكن التغيير حدث على مستوى العناصر التي تدخل في تكوين كل طرف و كذا في نوع النظام و الترتيب فيما بين هذه العناصر، كما لم تحِدْ في تكوينها – أي القصيدة الرقمية- على قواعد الجنس الأدبي الشعري الذي يمثل شفرة الإرسال حتى مع إدخال مؤثرات الملتميديا التي زادتها إبداعية و جمالية و احتفاظا بالعملية التواصلية في الآن ذاته، و تبقى الرسالة في القصيدة بكل تركيبها و تكويناتها و إشاراتها الموظفة لعناصر عديدة، و قناة التوصيل مادية، هي الشاشة الزرقاء، و المثير للانتباه هنا هو مؤلفها الذي أصبح يقوم بدور الجماعة، فهو مؤلف للقصيدة و مصمم و واضع للموسيقى المرافقة، أما المتلقي فهو يتشكل من نوعيات أعمار مختلفة و يتواجد في أماكن متباعدة و لكن الذي يجمعه هو الوسيط، الذي يستقي نصه منه.
    يأتي كل هذا كتقديم نظري تقني للحديث عن التجربة الأدبية العربية الرقمية، التي تتكئ على الجرأة، و تراهن على الحداثة و المعاصرة في إخراج النص في شكل جديد، و تطرح تحديات جلية على مستوى النص الرقمي، الذي يحدد بدوره نصانية جديدة و تواصلا شعريا جديدا يتم عبر الوسيط الجديد، كما يتم عبر الشبكة العنكبوتية، أين تتولى الصحافة الرقمية نشره، كما نشهد تداوله في الكتب الرقمية التي تحوي على تقنيات عرض جد متطورة، و التي تم طرحها حاليا في الأسواق.
    2- قصائد منعم الأزرق الرقمية:
    ‌أ. الوصف العام لقصائد منعم الأزرق الرقمية: بث الشاعر المغربي منعم الأزرق على الشبكة العنكبوتية قصائده التي وسمها بالرقمية، التي يمكن الوصول إليها عبر موقع الدارة الزرقاء على سبيل المثال، الذي نجده على الرابط www.imezran.org أو على المدونة الشخصية للشاعر، و بمجرد دخول المتلقي/المستخدم عالم هذه النصوص الرقمية، التي يجدها مصفوفة في نوافذ فوق بعضها، و هي القصائد على التوالي: بِنَعْلٍ من ضوء، سيدة الماء، الكامنُ بزائلِ الأوراق، نبيذ الليل الأبيض، أفق في ليل الأعمى، قالت لي القصيدة ضوءها العمودي، قصيدتان لبيت الوحيد، الدنو من الحجر الدائري، مآثر غيمة لا تشبع منها العينان، منابع الكتاب، لعبة المرآة.
    سيجد المتلقي/المستخدم نوافذ القصائد موجودة في أول الشاشة و بمجرد النقر على الرابط الموجود أسفل نافذة القصيدة ستظهر نافذة جديدة ذات مساحة ثابتة مكبرة للقصيدة التي يريد مشاهدتها / قراءتها، أول الأمر يتراءى عنوان القصيدة و اسم المبدع و في قصائد تاريخ صدورها، و يؤكد منعم الأزرق بهذه الأعمال تجربته الشعرية الرقمية الرائدة، و تفتح مواهبه في الإبداع الرقمي.
    تعتمد النصوص الرقمية للشاعر منعم الأزرق على تقنية النص المترابط (الهايبرتكست) و لا يمكن مطالعة القصائد إلا من خلال الحاسوب أو النت، إذ تعرفنا على النصوص في المواقع المثبوتة على الشبكة العنكبوتية، و قد استثمرت النصوص التقنيات المتاحة من إمكانيات الملتيميديا من مؤثرات صوتية و صورية و كتابية، مضافا إلى ذلك آليات الاستبدال و المغايرة في تركيب الجمل الشعرية لارتباطها بالبرمجة الإلكترونية (الرقمية) التي أسهمت في طريقة بناء نصوصها بواسطة القدرة على تفعيل هذه النصوص من خلال ربطها بنصوص و فنون أخرى سواء كانت لفظية أم غير لفظية إن هذا كله من شأنه أن يشد انتباه المتلقي/المستخدم و يشعره بتطور الإبداع الشعري و ارتقاء الإبداع العربي إلى مصاف العالمية، كما يلاحظ اعتماد القصائد تقانة المدونة الرقمية من حيث تصميمها و آلية الفيديو من حيث التعامل معها و نستطيع القول بأنها فن تركيبي قائم على اشتراك عدة فنون في مقدمتها الشعر (النص الشعري بالكلمات)، الفن التشكيلي (المساحات اللونية في الخلفيات، ألوان حروف النص الشعري)، الموسيقى (المعزوفات الموسيقية المصاحبة)، إضافة إلى الصور الفوتوغرافية الفنية المعبرة، إلا أنها تعد في هارمونية فنية، تمكن توليد الرموز و الاستعارات لتضاعف قوة إدراك الصورة الشعرية، و تضيف قيمة تعبيرية مؤثرة باتجاه تأثير النص، لتدفع حتى ذوي التلقي المتحفظ بالإحساس بقوة الشعر، لذلك انشغل الشاعر في إنتاج قصائده رقميا بجهد متميز يتناسب مع المادة الشعرية التي يتناولها، فللقصائد روح إخراجية و مونتاج سينمائي أقرب منه إلى الإخراج الفني، فالنصوص قصيرة العرض زمنيا تتراوح مدة عرضها بين الدقيقتين و الأربع دقائق، إلا أن المشاهد الشعرية فيها متلاحقة، كما لعبت الموسيقى و توظيف الإضاءة في الصور مع تنوع خطوط الكلمات و حجمها و ألوانها، لعبت كلها إبراز حرفية النص الرقمي، و قد ركز الشاعر على توظيف البرامج الرقمية (فلاش، ماكروميديا و فن الجرافيكس) مع برامج المونتاج السينمائي المختلفة أكسب النصوص درجة عالية من التعبير الإيحائي البلاغي الجمالي، فمن شعرية الصوت (المعزوفات الموسيقية المرافقة لعرض النصوص) و شعريات الأيقونات و التنوع في عرضها إلى انفجارات مجازية توحي باكتمال الشعر في ذروة التقنية، فهاهو الشاعر الرقمي يطور تقنياته الخاصة و أدواته في التعامل مع القصيدة التي خرجت عن كونها مجرد لغة تراكيب و جمل تنتظمها الانزياحات إلى مادة طبيعية تتشكل بأشكال غير مألوفة للذائقة التقليدية، و تصبح العلامات غير اللغوية جزءا لا يتجزأ من التركيب البنائي للقصيدة و عند ذلك تتخذ الكلمات أدوارا أخرى غير وظيفتها الدلالية ليكون لها أبعاد مكانية أو زمانية، هذه الأبعاد تعد أحد المظاهر الفنية الحداثية التي تتجاوز حركة الحداثة التي أنتجتها، لتغدو إنجازا إنسانيا مهما و ثابتا، و إلى جانب هذا التعامل النوعي الجديد مع اللغة و الفضاء أضيف مكون آخر هو الموسيقى التي غدت خيطا داخل نسيج النص تؤثر على التلقي، و من ثمة على عوالم الإحساس و الدلالة التي يجد كل قارئ –مستمع- مشاهد للقصيدة نفسه داخله، فمشاهدة القصيدة عبر شاشة تملأ مجال الرؤية البصرية للمشاهد و مجال السمع لديه تمنحه شعورا بالاندماج الكامل معها أو ما يعرف بالانغماس لتمحي المقولة الشائعة بأن الشعر صورة عمياء و أن القصيدة خرساء، فالشعر الرقمي اليوم مكن القصيدة من أن ترى و تتكلم.
    اعتمدنا في بداية وصفنا لقصائد منعم الأزرق على هويتها الرقمية من خلال تقديم صاحبها لها على أنها كذلك، و لكن الأكثر تحقيقا في تسميتها بالقصائد الرقمية، احتواؤها على عناصر لا يمكن أن يحملها النص الورقي، من عناصر صورية و صوتية، فمن الممكن أن يحمل النص الورقي الصور و لكن ليست الصور المتحركة، بينما يشكل جزءا من بنية النص إضافة إلى المؤثرات المتحركة زد على ذلك تقنية التشعب بنوافذ فرعية تظهر بمجرد تمرير المؤشر على ألفاظ محددة داخل النافذة المعروضة، و هذا ما نجده في قصيدة " أفق في الليل الأعمى" و " مآثر غيمة لا تشبع منها العينان" فهما أكثر قصيدتين تعتمدان تقنية التشعب على خلاف بقية القصائد التي تميزت بالرقمية البسيطة المكتفية بتقنية الترابط، كما يأتي بناء النص تراكميا بالإضافة إلى آليات الاستبدال و المغايرة في تركيب الجمل الشعرية و التي نجدها طاغية في القصائد الآتية: " بنعل من ضوء"، "سيدة الماء"، "نبيذ الليل الأبيض"، الكامن بزائل الأوراق"، "قالت لي القصيدة"، "ضوءها العمودي"، و حتى نطمئن أكثر لرقمية القصائد نستشهد برأي الناقد الرقمي "محمد أسليم" الذي يؤكد على الهوية الرقمية لنصوص منعم الأزرق الشعرية و يراها تكتسب هذه الهوية من جانبين: الأول و هو شكل القصيدة، سند وصولها إلى القارئ، فإعادة نشر النص نفسه في مجلة أو صحيفة، متاح بالتأكيد، لكنه سيجعل منه قصيدة أخرى لا علاقة لها إطلاقا بالقصيدة الحالية،لأن حتى الكتابة عملت على تحقيق مستوى من القطيعة مع الخطية، لا يمكن لمجموعة من الكلمات و التعابير أن تتحرك في صفحة جريدة أو مجلة ناهيك عن الموسيقى التي تتطلب من القارئ أن يتجاوز مجرد التوفر على حاسوب إلى الاتصال بالشبكة ثم التوفر على برنامج بعينه للاستماع إلى الخلفية الموسيقية المرافقة للنص، أما الجانب الثاني فيحدده أسليم بالدينامية و الجماعية اللذين يمثلان سمات النص الإبداعي الرقمي، فعنصر الدينامية يراها أسليم حاضرة بامتياز في أعمال منعم الأزرق، من خلال تحرك مجموعة من المفردات و الجمل في فضاء القصيدة و هذا الفضاء لم يعد مساحة ميتة / جامدة على نحو ما نجد في سند الورق، بل صار فضاء يشبه حكي لكلمات النص و جمله التي تتيح تأمل أولي و سريع، التمييز فيها بين نوعين من الأجساد اللغوية، ساكنة و متحركة، يظفي على فضاء القصيدة بعدا تشكيليا من خلال تعدد الخلفيات و الكتل اللغوية للنص (فضاء النص، فضاء العناوين، حجم كتابة العناوين، توهجات القصيدة، كتلة الرموز غير اللغوية المتحركة، ثم اللوحات أو الصور التي تتوسط العناوين و النص في مكونيه الكبيرين، بالإضافة إلى الأسطر الأفقية بين مقاطع النصوص راسمة بينها حدودا فاصلة) ، إذن هي نصوص تكنوأدبية اعتمد فيها المبدع على التوليف بين نصوص متعددة – إن صح القول- بين الحرفي و الصوري و السمعي بحيث يستحيل معها النقل إلى الورقي و إذا حاولنا ذلك فالذي ينتقل هو الحرفي فقط و هذا يعد نقلا ناقصا، و العبرة في هذه النصوص هو التوليف و التداخل الفني اللذان يحيلاها إلى عالم مسرحي متحول و مفتوح على كل الاحتمالات، حالة التحول هذه تمنح القصائد بعدها التفاعلي في البعدين الحسي و التخييلي للنص الذي يتحول إلى استعارات بصرية و لغز مشرع على اختيارات لا نهائية.
    إن ما يرمي إليه هذا المقال في المقام الأول هو تبيان مدى تطور الشعر الرقمي من خلال تطوير الشاعر الرقمي تقنياته الخاصة في التعامل مع القصيدة الرقمية التي تستفيد من التكنولوجيا و تدمجها في صلب عملية الإنشاء و التلقي، دون أن يغيب عنها بطبيعة الحال الهدف الجمالي في نهاية المطاف، فموارد التأثير الشعري متنوعة في مداخلها إلى النفس، لأنها تتلقى النص الشعري من خلال حاستي البصر و السمع، و ليس البصر فقط، فضلا عن الحركات الحسية لليدين أثناء إسهام المتلقي في عملية إنشاء النص، إضافة إلى سعة ممكناته التأويلية و الخصوبة و الجدة اللتين تتحققان في لحظة التفاعل و المشاركة في توجيه بناء النص الشعري، و بهذا تكون القصيدة العربية قد قطعت شوطا كبيرا نحو الحداثة و حققت قفزات نوعية، و تكون قد شهدت تحولا معرفيا و جماليا يتصل بواقعها الذي طغت عليه الرقمية، فأصبح واقعا رقميا، و منه توسلها الوسيط الإلكتروني – الحاسوب- فأصبحت تقدم من خلاله عبر الشبكة العنكبوتية، مما جعلها ترتبط بتكنولوجيا الاتصال من جهة و تكنولوجيا المعلوماتية من جهة أخرى، هذه الأخيرة تقدم لها الأدوات التي تجعل منها "أكثر طواعية في يد الشاعر الذي أصبح يكسب نصه الصبغة الجمالية من خلال التقنية التي يستخدمها في بناء عمله الفني"5، فلقد غيرت تكنولوجيا الاتصال الجديدة هذه من طبيعة النص الشعري و جعلته يكسر التصورات المتداولة حول الشعر و المفاهيم التي كانت توجه قراءته و التنظير له الذي كان يعتمد على السطر البصري، الذي كان مرتعا خصبا للقارئ يتفاعل مع معانيه، لتتحول القصيدة الرقمية إلى نص إبداعي شعري له ماهيته و هويته المنعكسة عن تعدد الوسائط و تآلف الفنون فيه، من موسيقى و لوحات فنية إلى إيقونات و صور فوتوغرافية معبرة، إلى فن الأنيميشن و الجافا، هو نص متعدد الوسائط يخاطب ثلاث حواس، العين و الأذن و تشترك اليد في تحريك النص على الشاشة و هو بذلك يفتح أفقا جديدا لنفسه بعيدا عن الأفق الخطي و السلطوي كما يوحي بذلك مفهوم الشعر العمودي، و لا نفهم من ذلك أن القصيدة الرقمية تقدم فرصة للمعاصرة و التحديث و تضرب صفحا عن الأصالة، أو بما يسمى القطيعة مع تاريخها و تراثها، بل بالعكس فهي تعد نقطة إيجابية في تاريخ الشعر العربي و إنجاز يؤشر حيوية على نحو من الانطلاق من الأصالة إلى الإبداع و الابتكار عبر استيعاب الوعي الجمالي العربي المشدود إلى التراث الذي يطلب عملا فنيا ذا شكل واضح النظام، و نقصد به قالب أجناسي محدد و معين، إضافة إلى القدرة على استيعاب التكنولوجيا الغربية المعتمدة على هندسة البرمجيات و على خلفية هذا كله، فقصائد منعم الأزرق الرقمية تبدو نسخة تكنولوجية مطورة من القصيدة التقليدية فهي نصوص بصرية اتخذت شكل القصائد القصار عبر الومضات القصيرة المعتقة بالرغبة و المعنى و يظهر ذلك في القصيدة الأولى "الكامن بزائل الأوراق":
    كَمن في رُبى قلب
    أورقت ماحقاتُ الزمن
    صار برقا
    لقد غزا...
    عزمه لم يزل مثل وشم
    و كذا في القصيدة الثانية "نبيذ الليل الأبيض"
    نبيذ
    الليل الأبيض
    على شفة البنت
    نحلة ضوء
    ترف
    و للعفة الآن
    ليل يلف
    سوى عسل النحل
    إيه...
    ... ! بما تستخف؟
    دون أن نسقط قصيدة "الدنو من الحجر الدائري":
    أكون غفوت على قلق
    أو دنوت من الحجر الدائري
    وصلت...
    عند سقف
    التجلي
    تأبطت الكلمات
    مجازات حزني
    و رحت أصلي
    ليس يسرا
    و لكنه السكر
    ران على القلب نارا
    نارا
    أرتني
    زاد التخلي6

    هي قصائد تلعب في الغالب على خصائص قصيدة النثر، مسقطة الكثير منها، تسقط الوزن إسقاطا يكاد يكون تاما من اعتباراتها الشعرية، نصوص تنبع من حساسية جديدة في التعامل النصي من خلال الرؤيا و المضمون و اللغة و تشكيل الإيقاع الذي يتخذ ملامح سريالية و يخرج عن العادي و المألوف، قصائد تستبعد البلاغيات المتآكلة، بوضع استعارات تميزها الغرابة في الصورة الفنية، و فقدان الروابط النحوية أو العلاقات المنطقية المتوقعة في بناء القصيدة، فهي نصوص تحررت من تقليدها الشفاهي و الكتابي لتحقق نصا معرفيا جماليا، كونيا وجوديا مكثفا تتشظى فيه الدوال الرقمية عن مدلولاتها في ذروة التقنية، لتتولد الرؤيا حيث الواقعي افتراضي و الافتراضي واقعي بانصهار حزمة من الفنون القولية و الأدائية البصرية و السمعية تعمل بوصفها متونا متجاورة و متضافرة في إنتاج الأثر الكلي للمشهد السمعي البصري الجديد ليتسم النص بالحرية و الاختلاف.
    و حتى نستطيع الوقوف على الإنجاز الشعري العربي الرائد و المصنف ضمن منظومة الأدب الإلكتروني أو الرقمي، و لنكشف عن أسرار هذه النصوص و عن جمالياتها المبتكرة بتقنيات الحاسوب و بفنون الهندسة الرقمية، و حتى نفصل أكثر لما جاء في الوصف العام للقصائد وفق أحكام نقدية مؤسسة على مقاربة نقدية كفيلة بالتعامل مع شبكة العلاقات المتعددة التي تموج بها النصوص، لذلك ارتأينا أن نسلط الضوء على قصيدة بعينهما من مجموع قصائد منعم الأزرق الرقمية، التي تحمل عنوان "بنعل من ضوء" و نقصد من مقاربتها الوقوف على جمالية إدراج الوسائط الرقمية التفاعلية في النص الشعري، الرقمية الثانية بـ " في و لتوفر هذه القصيدة على إمكانيات تقنية متقدمة في الثقافة الرقمية بما ينسجم شعريا مع كل التمظهرات المشاركة في جسد القصيدة وجدتنا أمام حيرة من أمرنا حول المنهج النقدي المطلوب لرصد نصوص كهذه " و من خلال التأمل وجدنا أن النقد الثقافي الرقمي متحاور جيد مع أجزاء القصيدة الرقمية الممثلة لثقافات فنية متنوعة و هو الأجدر لرصد أية ممارسة ثقافية تم توظيفها و القادر على إرجاعها إلى أصلها للتعرف على مدلولاتها و مفاهيمها المحمولة، و هو النقد المنفتح ليس على تنوع الثقافات فحسب بل على تنوع الفنون المشاركة في نسج القصيدة الرقمية في زمن أصبحت فيه القصيدة خطابا معرفيا لتقدم فيه القصيدة العربية لتخطو خطوة عملاقة، جريئة و معاصرة، و بناء على متطلبات النص المحدث و تلبية لتطور الشكل الفني للقصيدة الشعرية مع بداية الألفية الثالثة و مادام قد ظهر من الشعراء العرب من يقدم لنا القصيدة الرقمية فلابد من مواكبة نقدية عربية لا تترك فجوة و لا تظهر عجزا ، فلا يمكن الاكتفاء بالقول بأنها قصائد مشاكسة، كما يجب عدم التسليم بوصفها أوصاف مستحيلة أطلقت جزافا فيما سبق على أشكال محدثة من النصوص كأن يقال إنها (قصيدة تتعالى على النقد) أو أنها (فوق النقد)، فهذا ضرب من العجز غير المبرر، و لكن ما يمكن قوله بثقة هو أن لهذا الجديد من النصوص منهجا نقديا كفيلا بالتعامل مع أسراره و فهم منظومة العلاقات بين الكلمة (المقروءة) و اللون و الصوت من جهة و بينها و بين الأداء الفني التقني الرقمي من جهة أخرى، فهو نقد يلبي الحالة الجديدة التي وصلت إليها القصيدة العربية .وباستطاعته اماطة اللثام عن الجمل الثقافية بتوسله أدوات ألسنية و معرفية القيمة و ثقافية المضمون ليكشف في نهاية المطاف عن
    المجاز الكلي للنص و عن توريته الثقافية، خاصة و أن قصائد منعم الأزرق الرقمية توظف ممارسات ثقافية مختلفة من خلال توسلها لمؤثرات سمعية و بصرية، عالمية في إبداعها و نشأتها منتمية إلى بيئات و مرجعيات فلسفية مختلفة أيضا، إلا أنها تستند إلى مشتركات إنسانية ثقافية متداولة عالميا، و رغم ذلك إننا لن نفرض على النص قراءة مسبقة، تلوي عنقه ليقول ما نريد منه أن يقول إنما سنترك للنص مرونة التحرك و الحوار بين مناهج بعد البنوية، أما دراسة العنوان فهي سيميولوجية، و نطمئن إلى أن القراءة تنطلق من النص و تستهدف الولوج إلى داخله لمحاورته و استكناه جمالياته و الوقوف على
    أدبيته التي ولدتها الرقمية بالتزاوج مع الشعر.
    " بِنَعْلٍ من ضوء":
    1.1. الشكل العام للعمل: بوصفها قصيدة رقمية يتناسب تقسيمها بصريا إلى عشرة مقاطع شعرية جد قصيرة تظهر تباعا على الشاشة الرئيسية:
    1- 2-


    3- 4-

    5- 6-


    7- 8-


    9- 10-


    بعد ظهور العنوان و اختفائه، يظهر نص القصيدة في خلفية زرقاء فاتحة تتراقص فيها مجرات ضوئية صغيرة منتشرة في كامل الفضاء الأزرق، لتضاف المقطوعة الموسيقية التي ترافق النص و التي اختيرت لاستقبال المتصفح، و لعل الملاحظ على القصيدة أنها توظف تقنية الفلاش و مؤلفة بشكل فردي تعتمد على ثلاث عناصر بارزة:
     الحركة: محصورة في إظهار العنوان و إخفائه و تعويم المقاطع الشعرية بمقاسات زمنية حادة هنا محصورة في الخطاب اللغوي و قد تمتد للخطاب البصري من خلال الإيحاء (تموج و انسياب)، تساقط الأرقام و رقص المجرات الضوئية.
     الصوت: يبقى الصوت محصورا في تكرار المقطع الموسيقي الهادئ الذي يتناسب مع تموج النص و انسيابه.
     البصر: ألوان مفارقة و أحجام و أساليب متباينة، فالحروف خاضعة للتنويع مشكلة فيما بينها أسرة متآلفة الأجزاء تولد في نفسية المتلقي إعجابا و إقبالا.
    و قد اكتفى منعم الأزرق بالاختيارات البرمجية البسيطة المعمول بها في كل المواقع (المقابل التقني لمفهوم لغة الحياة التقنية).
    2.1. العنوان: سوف لن أتجاوز عن عنوان النص، ففيه إحالات إلى الشكل و المضمون معا، حتى أنه يحدد موضوع القصيدة التي تنتعل الضوء لتقتحم الفضاء الرقمي محققة نقلة نوعية من طواعية الورق إلى غواية الحرف الإلكتروني الذي اختار التغنج على الشاشة الزرقاء ليضيء رقميا.
    و قد انتقى الشاعر النعل الذي هو لازم من لوازم زينة المرأة و تبرجها و تأنقها و فيه تشبيه ضمني للقصيدة بالأنثى، فالقصيدة (أنثى) اليوم تنتعل الضوء الذي غدا أداة زينتها الجديدة، محققة انطلاقة فعلية و حقيقية راقية تضاهي نظيراتها في الغرب تمشي الهوينى بخطى واثقة باحثة عن ضوء الشعر الرقمي المتسرب بين الصوت و الألوان و الحركات فتحول الشاشة إلى ما يشبه فضاء حركيا، حيث تكتب الحروف و الكلمات ترقص تارة و تختفي ثم تظهر تارة أخرى، و تتحول الإيقاعات الشعرية إلى إيقاعات صوتية مرئية، إنه تحول مدهش يوحي به الضوء الذي يفتح أفقا جديدا للقصيدة العربية و يمكنها من الارتقاء إلى مصاف العالمية، خاصة بعد انتقالها الجريء من مرحلة تقليدية أساسها الورق إلى مرحلة متطورة أساسها نظم المحاكاة الرقمية لتتحول إلى قصيدة ضوئية (بصرية،سمعية) لتلتقي مرئيا بواسطة شاشة الحاسوب عبر البحث عن جماليات كامنة في النص الشعري باعتماد قوانين نفسية لونية تستند إلى عدد من الاختبارات و الروائز النفسية العالمية، بمشاركة الحضور الواقعي و المجازي/الافتراضي للشاعر بالآن نفسه فلا يغيب النص و لا ينتقص حضوره من أهمية المفردات الجمالية البصرية المتكاملة بين الإيحاء الدرامي الإشاري المفترض مع الصياغة التعبيرية للمادة الفلمية للقصيدة و كل ذلك من خلال اقتراح معادل مرئي رمزي يعبر أو يلمح أو يوحي أو يشير لروح النص الشعري.
    1.1. الشاشة الرئيسية: " في الأدب الرقمي تتخذ الشاشة أهمية كبيرة تشبه أهمية المطلع في القصيدة التقليدية، و أهمية البداية في القصة القصيرة، و لذا يجب أن تتوافر فيها شروط تضمن متابعة القارئ للعمل و هي: 1- وضوح الروابط 2- جاذبية الألوان 3- شيء من الغموض لخلق التشويق" .
    و قد تضمنت شاشة (بنعل من ضوء) الرئيسية هذه الشروط: يغلب على المشهد اللون الأزرق الفاتح الذي اختاره الشاعر ليجعل منه خلفية للشاشة الذي يفتح أفقا مناسبا للإبحار في ضوء القصيدة التي جعل عنوانها يتوسط الشاشة بلون أصفر مضيء في ثنائية توحي بموضوع العمل (الأزرق/الفضاء الرقمي، الأصفر/الضوء و الرقمية)، فاللون الأزرق من الألوان الباردة الجذابة التي تعطي قوة للألوان الساخنة من مثل الأصفر في إشارة واضحة إلى إيجابية التجربة و نجاحها و بإيمان الشاعر بأن انتقال القصيدة للضوء و انتقالها إلى الرقمية إنما زادها قوة و جاذبية و رفع من مستوى الاستجابة الجمالية إليها و منحها حياة جديدة و هذا ما يوحي به اللون الأصفر المشع، و ما زاد هذا الانطباع جعل العنوان متحركا و مضيئا لا ثابتا للدلالة على التغير و التحول.
    4.1. توظيف الوسائط المتعددة: تعتبر الوسائط المتعددة في النص الرقمي جزء لا يتجزأ من العمل، فالشاعر لم يستعمل الصوت و الألوان و الرموز و الحركة ليزين به خلفية نصه فالتلوين المشهدي الحاضر بين مؤشر الحركة، و الموسيقى الحالمة، و تمايل الكلمات و تراقصها حتى الثمالة في قصيدة (بنعل من ضوء) مكن المشاهد من متابعة الكلمات تنساب و تضيء على الشاشة و تحوم حومتها في مد و جزر و أخذ و رد و الرموز تتساقط متهالكة إلى بعضها البعض و كأنها تؤدي مشهد ولادة أول كلم رقمي، يبني جسم النص المتحرك و المتحول، فكل شيء في تغير مستمر بدءا من الإنسان و معلوماته و ثقافاته و عقائده و تقاليده إلى مصطلحاته و مفاهيمه و مناهجه، و قد أصاب التغير الجمادات مثلما أصاب الكائنات الحية، فكيف للقصيدة أن تبقى ثابتة لا تراوح مكانها، تبدو القصيدة مشهدا يحمل طقوسا من المتعة و الإثارة البصرية و الذهنية حيث الباب مفتوح على كل الاحتمالات و على عالم واسع من الدلالات التي تتشظى رقميا و تنتشر في كل اتجاه و هي تبوح و أن تتكلم في أسراب من حروف ضوئية و تنطلق في حرية لا تحدها حدود و تتشكل في ملايين الاحتمالات و المتحولات الصياغية للغة و الحس معا، التحولات تجعل من اللغة عالما ديناميكيا متحررا من ثقل المكان و الزمان و المادة تحيل الكلمات إلى إيقاعات لونية ضوئية و لأن "القصيدة ضوء" على حد تعبير الشاعر، المنتشر في فضاء الشبكة العنكبوتية اللامتناهي، فمن فيزياء اللون و قوانينه العلمية تتحول القصيدة إلى كيمياء جديدة، فيرسم الشاعر الخيال الشعري بحبر الكلام و بالألوان و الظلال و حركة الأنيميشن، (أرى قدمي مثل حبر دمي) ، و تتشكل اللقطات في صورة توحي بالترحال خلف صدى القصيدة المتماحي (...و أرحل خلف الصدى) مع الموسيقى الحالمة المرافقة التي تشعرك بالسكينة في حاضر يرحل و قد انْتَعَلَ حرفا ضوئيا يختزل العالم في لحظة إبداع أزلية (حاضري يخرج الآن مني...لأعتاب مهواي)7.
    و بما أن النص الشعري الرقمي هو الآخر نص مفتوح بعيد عن المباشرة، قريب من الغموض، نص مراوغ بحكم أن الرقمية أمدت القصيدة بدرجة عالية من السيولة الرمزية، فالمؤثرات الصوتية و البصرية من صور و حروف و أشكال و ألوان، و مملوء و فراغ، كل هذه العناصر الديناميكية المتحركة التي تتموج و تنساب على الشاشة بمرافقة الموسيقى في توافق و انسجام، فهذه العناصر كلها ليست جزافية بمكان، بل هي منتقاة بدقة كبيرة جعلها مشحونة بطاقة فنية شديدة الكثافة مضغوطة باستعارات و مجازات يجعل الجمل الشعرية تقول تشكليا حروفها التي تتقمص أدوارا أبعد من أدوارها الشعرية تحول النص إلى مجموعة إشارات دلالية و رمزية تعمد إلى اقتراح تجلياتها المرئية بأدوات (سمعية بصرية) لتحول القصيدة إلى منجز ثقافي مرئي رقمي من خلال علاقة الأدب و تفاعله مع التقنية، خصوصا أنها تبني طروحاتها الجمالية بأدوات نقدية مرئية و هذا ما يحدث لأول مرة في المنجز الشعري العربي، فالقصيدة الرقمية العربية اليوم تمثل الجانب التطبيقي للإبداع الشعري المرئي المتحرك في تفاعله مع ثورة الوسائط الرقمية الحديثة في سماء الثبات المعلوماتي الثقافي، و لا تلعب التقنية هنا دورا سالبا فيما يخص الحالة الحسية للقصيدة، فالعاطفة حالة لا تنتفي، فالقصيدة ترقى بنا إلى قمة الشعرية في زمن انحصار الشعر و موت الإنسان و التاريخ، زمن التقنية اكتملت فيه الميتافيزيقيا على حد تعبير هيدغر، و صار الوجود صورة في مخيلة رقمية، بينما تهيأ القصيدة طقس إعلان مشتل الرقم و الرقص و تنخرط بمجاز تخلقه بعمق الضوء، ما يجعل الشعر يسمي اللامسمى و يؤسس لما سيكون، تنتهي القصيدة و تبقى قراءتها مفتوحة كقوة انشطار ضوءها، في تجربة أقل ما يقال عنها أنها مدهشة و مختلفة، سعى فيها الشاعر إلى الإفادة من التقنية المعاصرة لتقديم عمل شعري يقترب من الكمال الفني.
يعمل...
X