إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحروف الشعورية الحلقية (( حرف العين)) - دراسة (( حسن عباس ))

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحروف الشعورية الحلقية (( حرف العين)) - دراسة (( حسن عباس ))

    الحروف الشعورية الحلقية (( حرف العين))
    - دراسة (( حسن عباس ))

    4-حرف العين

    تمهيد:
    "أما وقد قاربت رحلتي الشاقة مع أصوات الحروف على نهايتها، فإنَّه يطيب لي أن أتمهل قليلاً في دراسة هذا الحرف، فأتوسع شيئاً ما في تقصي خصائصه، وأتعمق أكثر في سبر أبعادها.
    فمن هذا الموقع المطل الذي وصلت إليه مع خصائص أصوات الحروف، أصبحت أقدر على استشفاف المزيد من خصائص صوت العين ومعانيه. وبعد هذا الجهد الطويل مع الحروف الشعوريَّة؛ سبراً لأعماق السمع صدى صوت بعد صدى، وسبراً لأغوار النفس قطاعاً شعورياً بعد قطاع، وسبراً لجوف الحلق مقطع نسيج بعد مقطع، أصبحت أقدر على سبر هذه الأبعاد الثلاثة مع صوت العين.
    ولذلك كان لا بد لي من الاستشهاد بالمزيد من المصادر التي شارك حرف العين في تراكيبها، في محاولة صعبة لضبط خصائصه ومعانيه في أبواب محددة. كما كان لا بد لي من مقارنة طبيعية صوت هذا الحرف وطريقة تشكله مع طبيعة أصوات الحروف الشعورية وطريقة تشكلها، وذلك استكمالاً للكشف عن خصائصه الصوتية ومقوماته الشخصية".
    تأثراً بما ذهب إليه الفراهيدي وابن جني والعلايلي من أن مخرج العين يقع في أول الحلق داخلاً على المدرج الصوتي، رأيت أن أبدأ دراستي هذه عن الخصائص الصوتية للحروف العربية ومعانيها بحرف العين.
    ولكن هذا الحرف الذي قدرت له بادئ الأمر أن يكون فاتحة الحروف، كان لزاماً عليّ أن أجعله خاتمتها. وذلك ليس لأنه آخر ما أبدع العربي من أصوات الحروف، وإنما لأنه يستحيل على القارئ أن يستوعب خصائصه الصوتية وأن يحيط بمشاكلها وإشكالاتها، قبل أن يتعرف أولاً خصائص الحروف جميعاً، ولاسيما الحروف الحلقية، كما سيأتي.
    في نشأته التاريخية:
    هذا الحرف هو من نتاج المرحلة الرعوية كما جاء في دراستي (الحرف العربي والشخصية العربية) (ص137). ولئن كانت هذه المرحلة قد أنجبت عدداً من أصوات الحروف العربية تلبية لحاجاتها الثقافية المتطورة من معاني السمو والفخامة والصفاء ومختلف المشاعر الإنسانية، فمن المرجح أن حرف العين كان آخر ما أبدعه الإنسان العربي في هذه المرحلة من أصوات الحروف.
    فقضية إبداع الأصوات كانت على مر الزمن قضية سيطرة الإنسان على جهاز نطقه، تدرجاً في ذلك من آخر المدرج الصوتي عند الشفتين بالباء والميم وانتهاء بالعين في أول الحلق.
    فعلى مقدار ما كان الإنسان يتدرج في المضمار الحضاري، كان مضطراً لإبداع المزيد من أصوات الحروف للتعبير عن مختلف المعاني المستجدة. ولذلك كان الإنسان عبر مراحل التاريخ يجهد للسيطرة أكثر فأكثر على جهاز نطقه لاستخدام المزيد من مساحة مدرجه الصوتي في إبداع أصوات حروف متنوعة الإيحاءات الصوتية والمعاني.
    ولما كان النطق بصوت العين هو أعسر ما يكون النطق به من أصوات الحروف العربية جميعاً كما سيأتي، فمن البداهة أن يتأخر رعاة الجزيرة العربية في إبداعه إلى أن يتم لهم ترويض كامل مساحة الجوف الحلقي وإخضاع عضلات أنسجته لإرادتهم.
    وهكذا بلغ الإنسان العربي قمة السيطرة على جهاز النطق بإبداع صوت العين في أول الحلق من الداخل، معجزة الشعوب العروبية أي (الساميّة) في النطق، وفي خصائص صوته ومعانيها.
    في الاختلاف على مخرجه الصوتي:
    لقد اتفق معظم علماء اللغة العربية على جعل مخرج العين بعد مخرج الهاء، وشذّ عنهم الفراهيدي وابن جني والعلايلي فجعلوه في أول الحلق من الداخل قبل مخارج الحروف جميعاً، كما لحظنا ذلك في حرف الهاء.
    على أن اختلاف العلماء لم يقتصر على مخرجي العين والهاء، وإنما تعداهما إلى مخارج حروف (الخاء والغين والقاف، والكاف، والضاد، والشين، والتاء، والثاء).
    واختلافهم في ذلك يرجع إلى تردد تلفظهم بصوت الحرف الواحد موضوع الاختلاف بين الجهر والهمس، أو الشدة والتخفيف، أو التفخيم والترقيق. وليس لهم ضابط في ذلك إلا السماع الشائع في عصر كل منهم، أو نقلاً عن كتب اللغة، ليظلوا بذلك في موقعهم ذاته من المشكلة دون حل. فكل عالم لغة في عصور التدوين وما بعدها كان يحدد مخارج أصوات الحروف وفقاً لنطقه بها، أو حسب سماعها.
    فالحرف الذي يُشبع صوته جيداً، أو يشدّد، أو يفخّم، يتقدم مخرجه إلى الأمام نحو الحلق، ويعلو أكثر نحو سقف الحنك أو سقف الحلق. أما إذا لفظ صوته مرققاً مخفوتاً به، فإن مخرجه يتراجع إلى الوراء ويهبط أكثر إلى أسفل. وهكذا يمكن للحروف المتجاورة أن يتقدم مخرج الواحد منها على الآخر خلافاً للأصول مما يغير من خصائصه الصوتية ومعانيه، ويبعدنا بالتالي عن أصالة اللغة العربية.
    وإذن ما هي القاعدة في تحديد المخارج الصوتية للحروف؟
    إن الخطأ في طريقة النطق بالحرف لا يؤثر في موقع مخرجه فحسب، وإنما يتعداه أيضاً إلى إيحاءاته الصوتية، ومن ثم إلى المعاني الفطرية للألفاظ التي يشارك في تراكيبها. وإذن لا بد من الرجوع إلى معاني المصادر التي يشارك فيها الحرف الذي وقع الاختلاف على مخرجه، للتثبت من صحة النطق بصوته، كما جرى لي مع حرف الهاء، ومن قبله مع حرف الجيم.
    فهل لفظ العربي صوت العين بهمس وخفوت أكثر مما لفظ صوت الهاء، ليظل ترتيب مخرجه بعد مخرج الهاء قائماً معبراً على رأي معظم علماء اللغة أو العكس هو الصحيح؟
    فمن المرجح أن ابن سينا قد جعل مخرج القاف قبل الخاء والغين، لأنه أشبع صوت القاف لقوته الانفجارية أكثر مما ينبغي، وخفت بصوتي الخاء والغين لرخاوتهما أكثر مما ينبغي (الأصوات اللغوية ص145). على أنه قد سبق أن تبين لي في دراسة حرف القاف أن العربي لفظه مخففاً بعض الشيء مما يجعل تقديم مخرجه على مخرجي الخاء والغين بلا سند.
    وإذن، لحسم الاختلاف حول مخارج أصوات الحروف لا بد من الرجوع إلى مجمل الإيحاءات الصوتية للحرف من جهة، ومن ثم إلى الطابع العام لتأثيره في معاني الألفاظ التي يشارك فيها من جهة أخرى. إذ ليس من الذوق الموسيقي السليم في شيء أن نهمس ونخفت بصوت الحرف القوي الذي فرض معاني القوة والفعالية على الألفاظ التي يشارك فيها، ثم نشبع ونفخم صوت الحرف الرخو الضعيف الذي اختص أصلاً بترقيق المعاني وإضعافها.
    ولقد التزم العربي بهذا النهج الموسيقي السليم بمعرض هذه العلاقة الفنية بين أصوات الحروف ومعانيها. وذلك لأن العربي هو نفسه الذي فرض ابتداء بكيفية نطقه بصوت كل حرف، إشباعاً أو خفوتاً، شدة أو رقة، معاني الألفاظ التي شارك فيها. وهكذا نطق بصوت الحرف الذي أبدعه بالكيفية التي توحي بالمعنى المقصود والغرض المراد: تشديداً لمعاني الشدة والقوّة، وتفخيماً لمعاني العظم والفخامة، وترقيقاً لمعاني الرقة والليونة، وخنخنة لمعاني النتانة والخسة والعيوب النفسية والعقلية والجسدية.
    هذا جانب من مشكلة مخارج أصوات الحروف التي عانى منها علماء اللغة العربية في القرون الهجرية الأولى وهم أقرب عهداً من عصور اللغة الذهبية، ترتيل آيات فصيحة، ورواية أشعار بليغة ولهجة بدوية بعيدة عن رطانة العُجْمة ورخاوة الحضر.
    أما نحن اليوم، فقد بعد الزمان بنا، وضعنا في متاهات من اللهجات العربية، لكل قطر لهجة خاصة في التلفظ بأصوات الحروف، ولكل لهجة فروع عامية، بين حضريها وريفيها وبدويها، لا بل يكاد يكون لكل مدينة وعشيرة وقرية طريقة نطق متميزة. ولولا القرآن الكريم لضاع العرب إبان عصور انحطاطهم في أمم شتى من اللهجات.
    ومما يزيد الأمر صعوبة في الاهتداء إلى الطريقة الأصلية في التلفظ بالحروف، هو أن العربي قد فقد اليوم على العموم طابعه الصوتي الأصيل.
    ولئن كان علماء اللغة يعزون ذلك إلى الاختلاط بمختلف الشعوب الإسلامية غير العربية، فإني أرى أن بعض ذلك يعود إلى افتقار الحياة الحضرية لدواعي الصلابة وحوافز الهمة في التغلب على مشاق الحياة ومخاطرها. كما يعود أيضاً إلى ما عانى العربي طوال ألف عام من عصور الانحطاط ولا يزال يعاني من مظاهر القلق. وأضاف بذلك إلى رخاوة صوته شيئاً من العتامة والاضطراب أيضاً.
    وهكذا قد تسربت الرخاوة إلى صوت الإنسان العربي في عصور الانحطاط، فبهِت رنينه وخبا بريقه، لتتراجع مخارج الكثير من أصوات حروفنا إلى الوراء، وتنطمس موحياتها الصوتية في الأسماع. وما لم يتحرر العربي من قلقه وخنوعه وريائه، فيجهر صوته عالياً بآرائه ومعتقداته، لن يستقيم نطقه أبداً: مصداقاً لقوله تعالى:
     إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(الرعد -10)
    فاللغة العربية إنما هي لغة الحرية والأحرار.
    وإني لا أزال أذكر حواراً جرى بيني وبين راعي إبل شاب من عشائر (عنزة) في بادية حمص الشامية في أوائل الخمسينيات. فلقد كانت الألفاظ تتناثر من فمه كأنها الدرر، بفصاحة عربية مدهشة، وسرعة لا يكاد السمع يلحق بها. ومع ذلك كان صوته ذو الطابع العيني، ولسانه الرشيق يعطيان كل حرف من حروف ألفاظه حقه الوافي من الإشباع أو الترقيق. وكان حديثه على بساطته، ذكي التعبير، جميل الجرس، لا تزال تتردد في ذاكرتي حتى الآن أصداء صاداته الصقيلة، وعيناته الناصعة، وضاداته النضيرة، وراءاته الرشيقة، ونوناته إالأنيقة، مما لا يحسنه مجوِّد ولا مغنٍّ. وكان صوته يشع بالفرح والصدق والبراءة والعزة، وكأنه فارس نبيل على صهوة جواد أصيل، وليس مجرد راعي إبل في بادية.
    فلم ذلك؟.
    ألأنَّ هذا البدوي كان فلتة حنجرة مرنانة؟.
    ولكن قيل لي يومها: إنها خصائص صوتية وطريقة نطق، قد تميز بهما أبناء عشائر (عنزة) من رعاة الإبل دون سواهم من رعاة الضأن.
    وإذن أَوَ يكون ذلك لأن أبناء هذه العشائر لا يتغذون على العموم إلا بالتمر والبرّ وحليب النوق؟.
    أم لأنهم يعيشون على الفطرة: هواء نقي، وشمس حارقة، وشظف عيش متحكِّم، دونما قهر اجتماعي، أو نفاق مصلحي ، أو قلق على مصير، جيلاً من رعاة الإبل بعد جيل منذ آلاف الأعوام؟.
    قد يكون الأمر لكل هذه الأسباب، ولغيرها أيضاً مما يتعلق بالوراثة والتقاليد والرقابة الاجتماعية على النطق.
    إذا كان هذا هو حالي، إعجاباً وافتتاناً بحديث راعي إبل منفي في بطون البوادي، مشرد على هامش الطبيعة والتاريخ، فكيف بنا لو سمعنا حديث الأعراب يوم كانوا سادة أرضهم ومصيرهم وتاريخهم؟.
    وإذن، فإن الجاحظ لم يكن مبالغاً ولا بعيداً عن الصواب، عندما قال:
    "ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالاً بالعقول السلمية، ولا أفتق للسان، ولا أجود للبيان، من طول سماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء".
    وهكذا لم يبق لنا نحن أبناء الحضر من وسيلة لتحديد مخارج أصوات الحروف إلا الرجوع إلى إيحاءاتها الصوتية، ومن ثم إلى تأثيرها في معاني الألفاظ التي تشترك في تراكيبها.
يعمل...
X