إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الحاسة البصرية وحروفها (( حرف الغين وتطبيقاتها )) - دراسة (( حسن عباس ))

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحاسة البصرية وحروفها (( حرف الغين وتطبيقاتها )) - دراسة (( حسن عباس ))

    الحاسة البصرية وحروفها (( حرف الغين وتطبيقاتها ))
    - دراسة (( حسن عباس ))
    - حرف الغين:

    مجهور ، رخو. قد اتفق العلايلي والأرسوزي على أنه (لغؤور المعنى والغموض والخفاء). وهذا هو أقلُّ من واقعه الصوتي.
    فظاهرة الغؤور والغموض في حرف الغين، انما هي مستمدّة من طبيعة صوته. فهو لا يوحي بالغموض فحسب، وانما بالامِّحاء والعدم أيضاً.
    إن صورته الصوتية وهو يدغدغ سقف الحلق عند خروجه، لهي أشبه ما تكون بدغدغة محسَّة من حديد تزيل غباراً عالقاً بجلد بعير. وإذا خُفف صوته قليلا، كان أشبه بحفيف ممحاة من نسيج خشن تحكُّ خطوطا طباشيرية مرسومة على لوح أسود، ويتطاير الغبار.
    فهذه هي حكاية حرف الغين: صورة صوتية يقابلها في الطبيعة صورة تمثيلية: اهتزاز واضطراب وبعثرة نفَس في صوت الغين ، ودغدغة محسّةٍ أو ممحاة ، أو راحة كفِّ خشنة، وغبارٌ يتناثر في الهواء . هذه هي الخصائص الإيمائية في صوت الغين، فماذا عن خصائصه الإيحائية؟.
    ماذا يوحي لنا صوت (غ-غ-غ..)؟.
    لا شيء قطعاً إلاَّ غرغرة الموت والامِّحاء. فصوته عندما يخرج من فوَّهة الحلق، إنما يخرج مخربّا ممحوّ الألوان مجلببا بالسواد. وهكذا نسمع صوت هذا الحرف مثلما نرى الليل المظلم البهيم.
    فما رصيد الخصائص الإيمائية والإيحائية في صوت الغين من الحقيقية على واقع المعاجم اللغوية؟.
    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئة وخمسين مصدراً تبدأ بحرف الغين. كان منها اثنان وعشرون مصدرا تدل معانيها على الاضطراب والبعثرة والتخليط، بما يماثل الاهتزاز في صوت الغين، وبعثرة النفَس عند خروجه. منها:
    الغُبار (لبعثرته). الغثَر (ما يعلو الثوب كالوبر). غثم الشيء وغثمره (خلطّه).
    الغُثاء (رغوة القدر). أغدق المطر( كثر قطره). غدرم الكلام (اختلط ). غربل الحَبَّ (نقَّاه بالغربال من الشوائب، لظاهرة الاهتزاز في هذا الحدث). غرغر الرجلُ (ردَّد الماء في حلقه). تغسّر الأمر (اختلط والتبس). الغصن (ما تشعَّب من ساق الشجرة ، دقيقه وغليظه). غلت الشيءَ (خلطه). غليان القدر. غيد (تمايل وتثنَّى في لين ونعومة).
    وكان منها ثلاثة مصادر لمشاعر الغضب، في تماثل بين ظاهرة الانفعال النفسيِّ في حالاته وبين ظاهرة الاضطراب في صوت الغين، على شيء من الغيبوبة في الوعي هي: غضب. غاظ. غذفر.
    وكان منها سبعة مصادر لأصوات تحاكي ما في صوت الغين من غرغرة وغمغمة هي:
    غرِد الطائر (رفع صوته بالغناء وطرَّب فيه). غطفت القدر وغقّت (صوَّتت في غليانها). غقفق الصقر (رقَّق صوته). غمغم (صوّت من فزع). الغوغاء (الصوت والجلبة). الغُنَّة (صوت يخرج من الخيشوم).
    وهكذا بلغت نسبة تأثر معاني المصادر التي تبدأ بالغين بخصائصه التمثيلية(21%). كما كان منها خمسة عشر مصدرا تدل معانيها على الظلام والسواد بما يتوافق مع موحيات صوت الغين. هي:
    غبس الليل (أظلم). غبش الليل (خالط بقية ظلمته بياض الفجر). أغدق الليل (أرخى سدوله). الغِربيب (الشديد السواد، أسود غِربيب). غسق الليل وغسا وغشي، وغسم وغطش ( أظلم). غضف الليل (أظلم واسودَّ). غضا الليل (عمّ ظلامه كلَّ شيء). غطا الليل ( أظلم وسترت ظلمتُه كلَّ شيء). الغلَس (ظُلمة آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح). الغيهب (الظُّلمة). تغيَّق بصره (غشيته ظُلمة فأظلم).
    وكان منها تسعة وثلاثون مصدرا تدل معانيها على الخفاء والستر والغياب. منها:
    غبَّت الحمىّ فلانا (أخذته يوماً وتركته آخر). غتَّه في الماء وغطّه وغطّسه (غمسه فيه).
    غربت الشمس (اختفت في مغربها). غرا السِّمن قلبه غَروا (لصق به وغطاه). غثر الشيء (ستره). تغلغل في الشيء (دخل فيه). الغِلاف. الغمد. أغلق الباب. غَلَم الإنسانَ (غطّاه ليعرق). غمت الشيء وغمّه (غطاه). غمره (علاه وستره). اغمض عينيه . غاص. غاط في الشيء غوطا وغيطا (دخل فيه وغاب). غمى البيت غموا وغميا (سقفه). غار الماء. غاب. الغيم. غانت السماء (غامت).
    وكان منها اثنان وعشرون مصدراً تدل معانيها على غيبوبة وجدانية أو نفسية أو عقلية . منها:
    غبغب (خان في بيعه وشرائه). غبنه في البيع (غلبه ونقصه). غبيَ الشيء عنه (خفي عليه فلم يعرفه). غدر فلاناً وبه (نقض عهده وترك الوفاء به) . غرّ الرجل (جهِل الأمور وغفِل عنها). الغرام (التعلق بالشيء تعلقاً لا يستطيع التخلص منه). غشم فلانا (ظلمه أشد الظلم). غشمر فلان (ركب رأسه في الحق والباطل لايبالي ما صنع). غطرس ( أعجِب بنفسه). المغفَّل (من لا فطنة له). غفا غفوا (نام قليلا). غفي غفا (نِعس). غلط (اخطأ وجه الصواب). غنجت المرأة (تدللت على زوجها بملاحة كأنها تخالف وليس بها خلاف). الغَوْل (ما ينشأ عن الخمر من صُداع وسُكر). غوى ( أمعن في الضلال). غطرف (عبث واختال وتكبر)
    وهكذا بلغت نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بخصائص الغين الايحائية (51%). لترتفع هذه النسسبة مع خصائصه الايمائية إلى (72%)، مما يؤهله للانتماء إلى زمرة الحروف القوية الشخصية، ما دامت المصادر التي تدل على أصوات ومشاعر الغضب، قد تأثرت بالخصائص الإيمائية والإيحائية لحرف الغين ، كما مرَّ معنا.
    ولكن ماذا عن هذا الحرف في نهاية المصادر؟

    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على أربعة وستين مصدراً جذراً تنتهي بالغين. كان منها خمسة عشر مصدراً تدل معانيها على الاهتزاز والبعثرة والتخليط ، بما يتوافق مع خصائص الغين الإيمائية في الاهتزاز والبعثرة. منها، مع بيان الرابطة بين معاني بعضها وبين خصائص الغين الإيمائية.
    بثغ الجسد (ظهر فيه لون الدم، للبعثرة). بزغت الشمس (بدا طلوعها، لبعثرة اشعتها). بغبغ الكلام (خلّط). بغَّ الدم، وتبوغ ، وباغ بيغا ( هاج وثار، للاضطراب). ثمغ الألوان (خلطها). ريّغ الطعام (دسّمه ، لظاهرة تخليط الطعام بالدسم). دغدغ الصبيَّ (حكّه في موضع حساس يحدث انفعالا ، لظاهرة الذبذبة في الحكِّ والارتعاش في موضع الحدث). نشغ الشيء (انتشر). نضِّغ الشيء (لوّنه بسواد وحمرة وبياض مخلوطة غير متبينة ). الوزغ ( الارتعاش والرعدة).
    وكان منها مصدران اثنان للخفاء . هما:
    دمغ فلانا (غلبه وعلاه، والحقُّ الباطلَ ، محاه)، زغزغ الشيء (خبّأه وأخفاه).
    وكان منها عشرة مصادر لغيبوبة نفسية أو وجدانية أو عقلية . هي:
    راغ (ذهب يمنة ويسرة في سرعة وخديعة). زاغ زوغاً وزيغا (مال عن القصد أو الحق) تليَّغ (تحمَّق). مذغ (كذب وادَّعى). ملغ في كلامه (تحمَّق). نزغ فلانا (طعنه برمح، أو اغتابه وذكره بالقبيح). الهِبيَّغ (المرأة الحمقاء والفاجرة لا تردُّ يد لامس).
    ولا شيءَ للظلام ولا للأصوات والمشاعر الإنسانية.
    لتبلغ نسبة تأثر معاني هذه المصادر بخصائص الغين الإيمائية والإيحائية (42%) . فقط. ومما يلفت الانتباه ، في المصادر التي تنتهي بالغين عدم وجود أيٍّ منها يدل معناه على ظلام الليل والسواد ، واقتصار معاني الخفاء المادي على مصدرين اثنين فقط. بينما كان في المصادر التي تبدأ بالغين خمسة وخمسون لمعاني الظلام والسواد والخفاء المادي.
    فما تعليل هذه الظاهرة؟.
    إذا كان العربي يشدُّ بصوته أصلاً على أصوات الحروف التي تقع في مقدمة الألفاظ، ويخفت بها في نهايتها ، كما مرَّ معنا، فانه لابد أن يكون ثمَّة رابطة أصيلة بين الظلام والسواد، وبين الشدِّ على صوت الغين.
    وهذه الرابطة ، ما أحسبها تخرج عن واقعة التماثل بين ظاهرة التخريب في صوت الغين، وبين واقعة حك الخطوط والألوان بشدَّة من على الجدران أو الصخور أو الألواح، أووجه الأرض وما إليها. حتى إذا خُفِت بصوت الغين قليلا في نهاية اللفظة، كان أكثر تمثيلاً لوقائع الاضطراب والبعثرة المارة الذكر، من واقعة حك الخطوط والألوان.
    فهل للقارئ تعليل آخر؟.
    وقبل أن أنتهي من حديثي عن حرف الغين ، أرى من المفيد أن أقوم بتحليل معاني بعض المصادر التي تبدأ بالغين أو تنتهي به، للكشف عن العلاقة الفطرية بين معانيها وبين الخصائص الصوتية لهذا الحرف.
    وإنَّها لفرصة طيبة مع حرف الغين لفهم طبيعة الذهن العربي بمعرض انتقاله من المعاني الحسية إلى المعاني المجردة، للكشف عن المضامين الاجتماعية والفنية والفلسفية في اللفظة العربية بالرجوع إلى خصائص حروفها، ولتصحيح شروح معانيها في المعاجم اللغوية عند الاقتضاء.
    في الأمثلة:

    1- غشم فلانا: (ظلمه أشد الظلم).

    جاءءت من غشم الحاطب (احتطب ليلا فقطع كلما يقدر عليه بلا نظر ولا فكر).
    واذن فالغشم (بفتح الغين وتسكين الشين)، ليسس مجرد اعتداء على حقٍّ معين من الحقوق، وانما هو اعتداء على ما يقدر الغاشم عليه من حقوق مادية ومعنوية لغيبوبة في الوجدان.ويقال حرب غشوم وحاكم غشوم. ولقد جعل العربي الغين (للظلام والسواد والخفاء) في مقدمة غشم مضاهاة لبداية حدث الاحتطاب (ليلا). ثم أتبعه بالشين (للتفشي والانتشار)، مضاهاة لواقعة الاحتطاب وعشوائياً من هنا وهاهنا. ثم جعل الميم (للانجماع والانضمام) في نهاية اللفظة، مضاهاة لنهاية الحدث بجمع الأحطاب ووضعها في حزم. وذلك (سوقا) للحروف على سمت المعنى المراد والغرض المقصود)، كما قال ابن جني.
    2- غبنه في البيع.

    جاءت من الغبن (بفتح الغين والباء) ، ومعناه ( الموضع الذي يُخفى فيه الشيء). وإذن فالغبن (بفتح الغين وتسكين الباء). في البيع والشراء ، لايحصل أصلا إلا لِخفاء أمر يتعلق بالمبيع ، إما لجهل في سعره أو في أوصافه. والغَبْن قانونا، لايكون موجبا للابطال أو التعويض إلا إذا تجاوز خمس قيمة المبيع مع فاقد الأهلية ، لعلة الجهل (المادة 393 من القانون المدني السوري )، أو للغلط (المادة 121) أو للغش والتدليس.وهذه الأسباب الثلاثة تبدأ بحرف الغين، لعلة الجهل والخفاء، قد جعلت الغين في المقدمة مضاهاة لجهل الشاري ابتداء ثم تلتها الباء (للحفر) مضاهاة لموضع الخفاء في المبيع. ثم جعلت النون في نهاية اللفظة (للاستكانة، كما سوف نرى) مضاهاة لواقعة القبول بالصفقة الخاسرة.
    3- في لفظة الغرام.

    جعل الغين في المقدمة ، مضاهاة لبداية هذه الحالة من غيبوبة نفسية. فكانت الغين للتعبير عن وجهة نظر العربي في إدانة هذه الحالة وصاحبها. ثم أتبعها بالراء (للتحرك والاضطراب) . مضاهاة لاضطراب المشاعر. ثم جعل الميم في نهايتها (للانجماع والانضمام) مضاهاة لنهاية هذه الحالة من تعلق / شامل مكتوم لاخلاص للنفس منه.
    4- في لفظة غطرس.

    جاءت الغين في المقدمة للغيبوبة النفسية التي تعتري المعجب بنفسه.وادانة لصاحب هذه الحالة.
    5- وفي لفظة غنِجت المرأة.

    لبيان أن المرأة تخفي في تدللها على زوجها أمرا غير الذي أظهرته .
    6- ومما يلفت الانتباه أن لفظة (الدماغ)، بمعنى (حشو الرأس من أعصاب ونحوها) ، قد جاءت من مصدر (دمغ)، بمعنى الغلبة والمحو، مما لا رابطة حسية أو معنوية تجمع بين المعنيين. وأرى ان العربي قد عمد إلى تصوير الدماغ بأصوات الحروف. فالدال (للقساوة) ، تضاهي قساوة عظم الجمجمة، والميم تضاهي انجماع الأعصاب في غلافه داخلها، والغين تضاهي واقعة خفاء هذه المجموعة العصبية عن النظر داخل الجمجمة
    7- وفي لفظة راغ، الراء (للتحرك والتكرار) تضاهي ما في هذا الحدث من ذهاب يمنة ويسرة بسرعة ، والغين تضاهي مافي هذا التحرك من خدعة خفية.
    استطراد لابد منه،

    ونظراً لكثرة المصادر التي يشارك حرف (الغين) في تركيبها مما يدل على الغيبوبة (الوجدانية والنفسية والعقلية) فقد صنفته في (الاطلالة ص73) في زمرة الأحرف (اللاشعورية) مع حرفي (الخاء والهاء) للمعاني الرديئة.
    12- حرف الفاء

    صوت هذا الحرف مهموس رخو. يقول العلايلي عنه: إنه، (يدل على لازم المعنى، أو المعنى الكنائي). تعريف مبهم. ويقول عنه ابن جني، إنه : لرقة صوته، كثيراً ما يضفي معنى الضعف والوهن على الالفاظ التي يدخل في تراكيبها ، ولاسيما المؤلفة من حروف : (د. ت. ط. ر. ل. ن).
    ولكن هذا الحرف بحفيف صوته الرقيق وبعثرة النفَس لدى خروجه من بين الأسنان العليا وطرف الشفة السفلى، يوحي بملمس مخملي دافئ ، كما يوحي بالبعثرة والتشتت. لتكون الخصائص الصوتية لهذا الحرف موزعة بين اللمسي والبصري.
    ولقد كنت أتوقع فعلاً أن يضفي صوت هذا الحرف معاني الضعف والوهن والتشتت على الألفاظ التي يدخل في تراكيبها ، أخذا بالقاعدة الصوتية التي اعتمدتها في هذه الدراسة (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ). كما قال ابن جني.
    ولكن باستقراء معاني المصادر التي تبدأ بهذا الحرف في المعجم الوسيط لفت انتباهي أن قرابة ثلاثين في المئة منها تدل معانيها على الشق والقطع والشدخ. أحداث يتطلب تنفيذها شيئاً من القوة والشدة والفعالية ، مما يتناقض أصلا مع موحيات الرقة والوهن والضعف في صوت حرف الفاء.
    فلم ذلك؟.
    بتمحيص معاني هذه المصادر المذكورة آنفا وجدت أن ثمة رابطة أخرى تجمع بينها غير رابطة القوة والشدة. فهذه الأحداث ، وإن كان تحقيقها يتطلب في الغالب بعض القوة والشدَّة، فإن ظاهرة (الانفراج) تؤلف بينها جميعا.
    فما هو سرُّ تفشي هذه الظاهرة في معاني معظم المصادر التي تبدأ بحرف الفاء، سواء مادَلَّ منها على الشدة أم الضعف؟.
    لئن كان من نهج العربي بمعرض التعبير عن معانيه أن يطابق بين الصورة البصرية (المرئية) للحدث أو الشيء ، وبين الصورة الصوتية المعبرة عنه إيحاء، وذلك (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث) فإنه قد كان لهذه القاعدة شذوذ خاص مع حرف الفاء. فالمطابقة مع هذا الحرف قد تمت هنا بين الصورة البصرية للحدث في (الشق والفصل والقطع) ، وبين الصورة البصرية لكيفية خروج صوت الفاء من بين الأسنان العليا والشفة السفلى، أي وفقا لطريقة النطق به، إيماء وتمثيلاً.
    وتوضيحاً لذلك أبين مايلي:
    عندما يخرج النفَس مع صوت الفاء على المدرج الصوتي يبدو لنا وكأن الأسنان الأمامية العليا هي التي تقوم بالضرب خفيفا على طرف الشفة السفلى، حبْساً للنفَس ، ثم يتمُّ الانفراج بينهما بشيء من التأنّي، فيخرج الصوت مع النفس المبعثر أثناء الانفراج ضعيفاً واهياً.
    وهكذا فالصوررة البصرية لعملية خروج صوت الفاء تمثل ضربة الفأس (الأسنان العليا) ، على الأرض، (الشفة السفلى). كما أن بعثرة النفَس ، تمثل بعثرة التراب المحفور.
    وفي الحقيقة إن انفراج الأسنان العليا عن الشفة السفلى (كصورة بصرية مرئية) يمثَّل الأحداث الطبيعية التي يتم فيها الشقُّ والفصل والتفريق والتبعيد والتوسُّع.....
    كما أن بعثرة النفَس عند خروج صوت الفاء يحاكي الأحداث التي تنطوي على البعثرة والتشتت دونما عنف أو شدَّة.وبالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وواحد وعشرين مصدرا تبدأ بحرف الفاء . كان منها ثمانية وخمسون مصدراً تدل معانيها على الشق والفصل والحفر بما يحاكي ضرب الأسنان العليا بشيء من الشدة على الشفة السفلى قبل خروج صوت الفاء . منها:
    فأس الخشبة (شقها). فأى رأسه (فلقه). فتق الشيء . (شقّه). فثغ رأسه (شدخه).فدغ الشيء (كسره). أفرخت البيضة( انفلقت عن الفرخ). فرص الثوب (شقه طولا). فرى الشيء (شقه). فزر الثوب (شقه) . فسأ الثوب (مدّه حتى تفزر). فسق كل ذي قشر (خرج عن قشره). فشّ القربة (اخرج مافيها من ماء أو هواء). فحث في الأرض (بحث).فشق الشيء . (كسره) . فرّقَ . فصد العِرق (شقه ) فصم الشيء (شقه). فصل بين الشيئين (فرّقَ) . فضحه (كشف معايبه). فضّ اللؤلؤة (خرقها). فطم العود (قطعه). فقأ العين (شقَّها.) فقس الطائر بيضَه (كسرها ليخرج الفرخ). فقش البيضة (فضخها). فقع الشيء (شقه). فقص (فقس). فكَّ الشيء (فصل اجزاءه). فلز الشيء وفلعه (شقه) فَلَعَ رأسه (شدخه). فلقت النخلة (تشقق طلعها) . افتلم أنفه (جدعه).
    وكان منها ثمانية وأربعون مصدراً تدل معانيها على الانفراج والتباعد والاتساع، بما يحاكي انفراج الفم عند خروج صوت الفاء. منها:
    أفأم الدلو (وسّعه وزاد فيه). الفتخة (حلقة من ذهب أو فضة). فجّ (باعد بين رجليه).الافجل (المتباعد بين الساقين). الفجوة (المتسع بين شقين). فحج (تدانت صدور قدميه وتباعدت عقباه). الفدفد (الأرض الواسعة لاشيء فيها). الفردسة (السَّعة). الفاختة (ضرب من الحمام يوسع في مشيه ويباعد بين جناحيه وابطيه). الفرسخ (الفرجة). فرشخ (باعد بين رجليه). فرض الشيء فروضاً (اتسع). فرطع الشيء وفلطحه (بسطه ووسَّعه ). الفراغ . الفُسحة. الفرطاس (العريض). تفضَّج الشيء (توسَّع). .فضفض الشيء (اتّسع). فغر فمه (فتحه). فغم النّوْر (تفتح). فغا الشجر (تفتح نوره). فقح النبات (تفتح وازدهر). فقّ الشيءُ (انفرج). فلج الرجل (تباعد بين ساقيه أو يديه أو اسنانه خلقة). فلك ثدي الفتاة (استدار) . فنجل (مشى متباعداً ما بين ساقيه). الفائجة (متسع بين مرتفعين). الفوه ، الفم ، الفَيف (الصحراء الواسعة).
    وكان منها أربعة عشر مصدراً تدل معانيها على التّشتت والبعثرة والانتشار برقَّة ولطافة ، بما يحاكي بعثرة النفّس لحظة خروج صوت الفاء ضعيفاً واهياً منها:
    فرش النباتُ (انبسط ). فشغ الشيءُ (انتشر). فشل لحيته (نفشها). فاح فوحا وفيحا (انتشرت رائحته) . فاحت ريح المسك (انتشرت حتى تأخذ بالنفس). فاع الطيب (انتشرت رائحته) . فاج فيجا (انتشر) . تفصفصوا عنه (تفرقوا). فث وعاء التمر (نثر تمره)، لتدخل (الثاء) ايضاً.
    وكان منها خمسة مصادر تدل معانيهاا على أصوات تترافق أصلاً مع ظاهرتي الانفلاق والانفراج هي.
    فقفق الماء (صوَّت). فحّت الأفعى وفخَّت (صوتت). فحفح ( أخذته بُحَّة في صوته). فرقع (سُمع له دوي).
    وكان منها مصدران اثنان للمشاعر الانسانية . هما : (فرح ، فزع). لتدخُّل حرفي الحاء والعين الشعوريين. أما ما يدل على الضعف والرقة والوهن بما يحاكي صدى صوت الفاء في النفس ، فكان لها واحد وعشرون مصدراً ، منها:
    الفُتات ( ما تكسَّر من الشيء وتساقط). فتر (لان بعد شدَّة). فدر (فتر). فره (حسن وجمل). فشفش (ضعف رأيه). فِكه (كان طيِّب النفْس مزَّاحا). فلِس منه (خلا منه وتجرد). فنش في الأمر (استرخى فيه). فنِد (ضعف رأيه من الهرم). فهفه الرجل (عيَّ وكلَّ لسانُه). فني الشيء (باد) . فهَّ (زلّ من عِيّ أو غيره). فثئ الرجل (انكسر غضبه).
    وهكذا فإن هذا الحرف على ضعف صوته ، قد طبع بخصائصه الإيمائية قرابة (60%) من المصادر التي تبدأ به. ليقتصر على طبع (10%) فقط بموحياته الصوتية من الضعف والرقة والوهن (حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث)، بما مجموعه (70%).
    فما السر في تفوق الخصائص الايمائية في صوت هذا الحرف على خصائصه الإيحائية؟.

    لقد سبق أن عرضت في الدراسة الثانية (ص 131) أنَّ حرف الفاء كان أحد الحروف التي أبدعتها المرأة في المرحلة الزراعية. فالمرأة في تلك المرحلة كسيدة للأسرة والمجتمع بحكم استقرارها في بيئة محدودة (كوخ. حظيرة. حقل. حديقة ..) ، كانت أقلَّ حاجة من الرجل في مرحلتي الغاب والرعي إلى ابتكار الأصوات للتعبير عن حاجاتها المستجدة. فلقد كان من الأسهل عليها والأوضح والأدقَّ أيضاً، أن تستخدم إشارات اليدين وقَسَمات الوجه وحركات الفم واللسان، للتعبير إيماء بالتمثيل والمحاكاة عن حاجاتها ومعانيها، سواء أترافقت تلك الإشارات والحركات بأصوات معينة أم كانت خرساء صامتة بلا أصوات.
    وبذلك يكون من المرجَّح أن المرأة هي التي اهتدت إلى صوت (الفاء) بمعرض استخدامها حركة الفم بضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى للتعبير عن حادثة الحفر في الأرض كأهمِّ عمل في حياتها الزراعية. فكانت حركة الفم بذلك أسبق في الزمن من صوت حرف (الفاء) . لتسقط الإشارات المرافقة له مع تطور اللغة في المرحلة الرعوية اللاحقة ، فلم يبق منها إلاَّ حركة ضرب الأسنان العليا على الشفة السفلى بالقدر اللازم لخروج صوت (الفاء) ضعيفاً واهياً ، وكأنه لا علاقة بينه وبين ضربة الفأس القوية على أرض طرية. وذلك على مثال ما اهتدت المرأة بالذات إلى كل من حروف (اللام والثاء والذال) بمعرض استخدامها طرف اللسان للتعبير عن عمليات المضغ (باللام)، وعن جنسي الأنوثة والذكورة (بالثاء والذال) قبل أن تهتدي إلى أصواتها كما مر معنا.
    فالمرأة بحكم أمومتها الفطرية التي استتبعت أصالتها الحضارية ، كانت على مر الزمن هي الأرهف حسا ومشاعر ، والأولع بفنون الرقص والتمثيل والغزل، والأبرع في دنيا الصناعات اليدوية والمنزلية ومبتكراتها، مما يؤهلها أكثر من الرجل لإبداع الحركات والإشارات الإيمائية في المرحلة الزراعية بمعرض التعبير عن حاجاتها ، فتحول بعضها إلى أصوات حروف. ليتفنّن الرجل الراعي بعدها في استخدام هذه المادة الخام من الحروف بذات المنحى من المعاني بصورة عامة. لا يؤثر في صحة هذا الرأي أن تشذ عن ذلك معاني بعض الألفاظ التي تبدأ بهذه الحروف مما أبدعه الرجل في المرحلة الرعوية : حذوا لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث ، وليس ايماء وتمثيلاً.
    ولو عاد القارئ إلى معاني الألفاظ التي تبدأ أو تنتهي بأي حرف من الحروف ، لوجد فيها من الأدلة المحسوسة ما يكشف عن المرحلة التي أبدع فيها العربيُّ صوته الفجر، وإن أجرى عليه بعض التعديل في المراحل الحياتية اللاحقة.
    ولكن ما مدى تأثير الخصائص الإيمائية لحرف الفاء في معاني المصادر التي تنتهي به؟.

    بالرجوع إلى المعجم الوسيط عثرت على مئتين وأربعين مصدرا تنتهي بحرف الفاء . كان منها واحد وعشرون مصدرا تدل معانيها على الرقة والضعف والوهن، بما يتوافق مع موحياته الصوتية في الضعف والوهن. منها:
    ألِفه (أنس به). خفّ الشيء.رخُفَ العجين (استرخى من كثرة مائه).. رهُف (رقّ ولطُف). سخُف الشيء (رقّ وضعُف). شفَّ الثوب. ضعُف. عجُف (هزِل). غطف العيش (اتسع ولان). لطُف. هِيف الغلامِ (دقَّ خَصره وضمُر بطنه). وجَفَ القلب(اضطرب وخفق). وطِف (كثر شعر حاجبيه وأهدابه مع استرخاء وطول). وغف بصره (ضعف).
    وكان منها ثمانية وعشرون مصدراً تدل معانيها على القطع والحفر والفصل والقلع والخرق بما يحاكي طريقة النطق به. على أن معظم هذه المصادر يشارك فيها حرف أو أكثر من الحروف القوية مما يصح إسناد الحدث إليها أيضاً. منها:
    جعفه (قلعه). خزف الثوب (خرقه وشقه). دفّ الشيء (نسفه واستأصله). شدفه (قطعه). غرف الشيء (قطعه). قدف الماء (غرفه). كاف الشيء كيفا (قطعه). نسف الشيء (اقتلعه من أصله). نقف الفرخ البيضة (ثقبها ليخرج منها). جرف السيل الوادي (أكل من جوانبه).
    وكان منها مصدران للتوسع بما يحاكي انفراج الفم بعد التلفظ بحرف الفاء . وهما:
    الجوف . الكهف.
    وهكذا فإن نسبة المصادر التي تأثرت معانيها بمختلف الخصائص الايحائية والايمائية لحرف الفاء قد هبطت هنا إلى (21%) ، بينما كانت في المصادر التي تبدأ به (70%) . وذلك يعود للاسباب التالية:
    أ- عندما يقع حرف الفاء في نهاية الكلمة يلفظ ساكنا بصورة عامة. فتستقر الأسنان العليا على الشفة السفلى وتغيب مع هذا الاستقرار صور الحفر والقطع والتوسع من طريقة النطق به.
    ب- وعلى فرض تحريك الفاء قليلا فإن الذهن يكون أكثر انتباهاً إلى الخصائص الإيمائية والإيحائية للحروف التي تقع في المقدمة.
    جـ_ بوقوع حرف الفاء في آخر اللفظة يصبح صوته في أوهى حالاته ضعفاً وخفوتا، مما يسهل معه على الحروف القوية أن تطغى بخصائصها على خصائص (الفاء). فلقد كان ثمة اثنان وأربعون مصدراً تنتهي بحرف الفاء تدل معانيها على الشدة والغلظة والفعالية والقوة، مما يتنافى مع خصائص الضعف والوهن في صوتها، وذلك بفعل الحروف القوية المشاركة ، وقد وضعت تحتها خطاً. منها:
    جأفه (صرعه). جذف به (رمى). ذف الطائر (أـسرع). زرف في مشيه (أسرع ووثب). عسف فلانا (أخذه بالعنف). قذف الحجر. قصف الرعد.
    لتبلغ نسبة المصادر التي تتجافى معانيها مع خصائص صوت الفاء في الضعف والوهن (17%).
    وعلى الرغم من إيمائية هذا الحرف فقد التزم بطبقته الهرمية كحرف بصرى عندما يقع في بداية المصادر، فلم يتجاوزها إلا في خمسة للأصوات واثنين للمشاعر الإنسانية. مما يقطع بأن هذا الحرف ينتمي فعلا إلى الطبقة البصرية من الهرم الحسي، كما يتمتع بشخصية قوية نسبياً

    rr

يعمل...
X