إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

طفلٌ بصحن هريس قصة وفاء عبد الرزاق

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • طفلٌ بصحن هريس قصة وفاء عبد الرزاق

    طفلٌ بصحن هريس
    قصة / وفاء عبد الرزاق

    ليت كل التراب يصبح عشباً وليت الرمل قمحاً.
    ثلاثة أطفال وامرأة، ثلاث بنات وعويل، أربعون هيكل عظمي وصحن ُرزّ، ألف رمقٍ ٍ بقطرة ماء.
    مثلما يحدث مع أي شاعر حين يبحث في" جوجل"عن عنوان يحتاجه كنتُ أبحث في جهاز الكومبيوتر خاصتي عن وجوه نساء عراقيات، حقاً كنت بحاجة لأم.
    لا أريد أية أمّ بل أمـِّي الشجرة، وجدت يدي غاصت في بحر البحث، موقع يفتح لي صدر جدة مسنّة أرفضه، لا أريد أية جدّة بل أريد جدتي السنبلة.
    موقع يفرش لي بيت خالة بعباءة ووشم، لا أريد أية خالة بل أريد خالتي النخلة، موقع يفتح لي قلب عَمـّة أرفضه لا أريد غير عمَّتي القمحة.
    رفضتُ الخالات والعمـَّات، رفضتُ كل النساء المتشحات بالسواد المرتديات جوعهن والمتبرِّجات بزينتهن رفضت كل ما يدعو للأنوثة وصرخت:
    - أريدكِ أنتِ أمــِّيَ الأرض.
    بحثتُ عنها كثيراً وليتني لم أفعل. أعرف فضول يدي الجادّة حين تشتعل بالبحث عن فضيحة كونية أو فضيحة إنسانية.
    ليلتها لم أعرف نفسي، مَن أنا ومَن أكون، ليلتها أصبحتُ سماءً تثرثر دموعها وتنتحب.
    لستُ نائمة لكن لابد من أخذ قسطٍ من الراحة، كيف أعتذر لصديقتي عن عدم حضوري، دعوتها لوليمة عشاء مع زوجات كبار شخصيات البلد.
    تغلـَّب عليّ التعب والإرهاق والقهر ونمتُ نصف ساعة، بعدها صحوت مسرعة أستعد لأكون بوجه مطليّ بالأبيض والأحمر، يعني أخدع نفسي قبل خداعهن لي بحُلي براقة وقلوب طريـَّة وعقول تافهة، لا أجمع حاشا لله فبعضهن لهن هدوءً وحشمة.
    ارتديتُ ثوبا ونزعته ارتديتُ رابعاً وخامساً، لم أكن راغبة بالبهجة لكن ما العمل وللضرورة أحكام؟
    بداخلي خيبة ثقيلة، هذا واضح من فتور ابتسامتي في وجه مُضِيِفتي والحاضرات، ضحكتُ معهن لمُزَح ماجنة اخترقتني سكاكينها وسخرتُ من شفتي بسبب طاعتها لتوافه الحياة.
    ثلاث ساعات كدهر، أنقذتني الخادمة وهي توشوش لسيدتها، لم ندر ما قالت لكن فهمنا من دعوة السيدة لنا إلى العشاء.
    ما شاء الله عامر البيت بأهله، زادكم الله من خيره، قلتها بصدق نيـّة لأنِّني أحب السيدة وأحترم مواقفها الإنسانية.
    دارت الشوْكات والملاعق وكؤوس العصير وتسابقت الأيدي بما لذ وطاب.إلاَّ أنا تجمدتُ بمكاني حين شاهدت هيكلاً عظميَّاً لامرأة من أفريقيا حبا على طول المائدة خائر القوى يدور حول الأواني ولا يقوى على مد عظام يده لتتسابق مع الجميع.
    لاحظتْ المُضِيـفة صحني دون أكل أخذته لتصبَّ من القوزي على الرز المحمـَّص والمعطر بالزعفران، سحبتُ الصحن من يدها بقوة:
    - لا أريد لحم الخروف، أدركتُ غلطتي وقدمتُ عذرا يقنع الجميع بارتباك معدتي من اللحم .
    رأيت طفلة لبنانية مشويِّة محمَّصة محاطة باللوز والفستق، قلت في نفسي:- لا حول ولا قوَّة إلا بالله.
    لكن السيدة لم تتركني لحالي رضختُ لإصرارها وقبلت منها صحن "شاورمة" بالخضار والبطاطس، حين غرزتُ الشوكة نبتتْ شريحة من لحم كف مهروس بقذيفة وقعت في سوق شعبي في بغداد .
    ذكرتُ ربـّي وكدتُ أفرغ ما بمعدتي رغم فراغها، شعرتُ بمغص شديد يهرس أمعائي .
    هم يضحكون ويتبادلون ورق العنب والدجاج، غريب أمرهم ألم يروا الأطفال انتشروا في المكان ازدحموا حولي وحولهم، لماذا أنا فقط أراهم هل هذا عقاب لي لأَني تفرجت على صورهم في الكومبيوتر؟
    جلستْ صديقتي المضيـفة بمحاذاتي: اليوم أنتِ على غير عادتك ألم يعجبكِ طبخنا؟
    خجلت:حاشا لله يا عمري، معدتي مرتبكة اليوم وهذا من سوء حظي.
    - إذا سأجلب لك الهريس.
    لجم فمي كلامها بينما هي برقـَّتها ملأتالإناء"بالهريس"وقدمته لي.
    تجمع الأطفال كلهم حولي وصارت المائدة شاشة كومبيوتر، هنا طفلٌ مشويّ، هنا رضيع يسبح بالمرق، هناك مسنٍّ ينام بصحن الفاكهة، لحم طازج خرج لتوه من المحرقة، من النار، من القذائف، من الأنقاض.
    انتبهتُ للمضيـفة تهز كتفي:تفضلي والله أطيب هريس.
    الملعقة بيدي اليمنى وباليسرى الصحن، طاولة الطعام جهاز كومبيوتر، شاشات تلفاز، لم أذق الهريس، لمستُ في أطراف الملعقة ريش نسر شاهدته في إحدى الصور يتربص لموت طفل أفريقي حبا زاحفاً على رأسه قاصداً خيمة الإغاثة، عاينتُ موضع إناء الهريس على الطاولة رأيت الطفل ذاته خرج منه وانكبَّ على أطراف الإناء غير قادر حتى على لحس إصبعه، نظر إليَّ بعين ساح منها سائل الهريس، ونصف عين مملوءة بالحبِّ غير المهروس.
    صرختُ مفزوعة، ركضتْ خلفي مديرة المنزل ورشَّتْ على وجهي ماء الورد: هل أطلب الطبيب؟
    - لا أنا بخير.
    اعتذرتُ للسيدات والمُضِيـفة، كنّ يتناولن الحلويات والشاي، قلتُ ربَّما أستسيغ طعم الحلوى، رفعتُ غطاءً من الفضة وضِع على صينية فضيـّة أيضاً، فزعتُ، ما هذا؟ عيون بالقـَطر؟ امرأة جميلة دنت من الصينية وملأت صحنها عيوناً بالقـَطر.
    وقت شاهدتْ استغرابي خيـِّل إليها أني أراقبها، وخشية الحسد أرجعت اثنتين قائلة:
    6أحب لقمة القاضي كثيراً ضعيفة أمامها أضرب الرجيم عرض الحائط لو وقعت بيدي.
    يبدو أنَّها كانت تبرر لذاتها وليس لي .
    اكتفيتُ بشرب الشاي ارتشفه على مهلي، بعد برهة دخل الخدم يدفعون عربة الكيك، قالت السيدة عملنا لكم اليوم أطيب كيك واشترينا الزيت الفلسطيني كي نأكل براحتنا، أشارت إليَّ:الزيت الفلسطيني لا يُربك المعدة.
    التفَّ الجمع كله حول الكيك، مديرة المنزل فتحت التلفاز لتنعم السيدات بالكيك والموسيقى .
    لا أدري ما سمعتُ وما عرضه التلفاز، صدحت الموسيقى وعربة الكيك دارت من واحدة لأخرى وأنا.
    أنا وحدي أغنِّي أغنية القمح والسنابل، وأعاتبها.
    مثلما للحفل طموحه في ترفيه النفس والمعدة لي طموحي الخاص.
    (لا أطمحُ إلاَّ لمعاتبةِ قمح الإنسانية على كفره).



    وفاء عبد الرزاق ولقاء قناة البغدادية فى حفل تكريمها من مجلة دنيا النجوم فى القاهرة على ضفاف النيل وأنا بجوارها
    http://samypress.blogspot.com
    http://samypress.yoo7.com
يعمل...
X