Announcement

Collapse
No announcement yet.

"الفاضل الجعايبي"المخرج والمؤلّف المسرحي والسينمائي التونسيّ - بقلم: كمال الشيحاوي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • "الفاضل الجعايبي"المخرج والمؤلّف المسرحي والسينمائي التونسيّ - بقلم: كمال الشيحاوي

    "الفاضل الجعايبي"المخرج والمؤلّف المسرحي والسينمائي التونسيّ
    بقلم: كمال الشيحاوي


    المسرحي التونسي الفاضل الجعايبي ...

    لا أنظر إلى الأصولية وكأنّما أمطرت بها السماء..
    بقلم: كمال الشيحاوي .

    هذا الحوار مع المخرج والمؤلّف المسرحي والسينمائي التونسيّ "الفاضل الجعايبي"، أردناه حديثا حول تجربته المسرحية، في التعبير الجمالي والفكري عن خطاب الجماعات الدينية المتطرّفة وفكر تيّار من اليسار التونسي، ورؤية السلطة والأجهزة الأمنية لظاهرة الإرهاب الدّينيّ، وأسلوب معالجتها لها، كما تجلّت خاصّة في مسرحية "خمسون"، وعن رؤيته لدور المسرح في التغيير الثقافي والاجتماعي، وترسيخ قيم المواطنة و الحرية والعلمانية، طيلة أكثر من ثلاثين سنة. الفعل المسرحيّ لديه، سعي دائم لتحرير المكبوت الجنسيّ والعاطفيّ والسياسيّ للإنسان التونسيّ، وهو شغله الشاغل ومحور أعماله، وذلك عبر الكشف عنه، ومحاورته. مكبوت يدفع بأفراده (إذا ما تمّ التواطؤ على استمراره وتغذيته) إلى الاستلاب، كما في مسرحية "غسالة النوادر"، والجريمة "مسرحية التحقيق"، والمتاجرة بكلّ شيء "عرب"، والانحطاط الأخلاقي "العوّادة"، والجنون المرضيّ "كوميديا"، والموت والخواء الدّاخلي "فاميليا"، والتطرّف الديني والعنف "عشّاق المقهى المهجور"، والتفكّك العائلي "سهرة خاصة"، والإحباط العامّ "في البحث عن عائدة"، والجنون في "جنون"، وإرهاب السلطة والجماعات الدينية "خمسون". أعماله الأخيرة التي قدّمها في إطار مجموعة "فاميليا"، بعد تفرّق عناصر المسرح الجديد، صار لها حضورٌ عالميّ في كبرى المسارح الأوروبية مثل مسرح "الأود يون" بباريس الذي شهد العرض الأوّل لمسرحية "خمسون" (العمل العربيّ الوحيد الذي قدّم بهذا المسرح العريق)، بالإضافة طبعا إلى عروضها باليابان وبعض بلدان أمريكا اللاتينية، مع كلّ هذه التجارب المنتجة في هذه السنوات، والأعمال السابقة التي ساهمت بقوّة وما زالت في تعزيز حداثة المسرح التونسي وريادته عربيا، يؤكّد المسرحيّ التونسيّ "الفاضل الجعايبي" بنبرة واثقة وحادّة، أنّه ما زال وفيّا للمبادئ والثوابت الأولى التي انطلق منها، من أجل مسرح سياسيّ ملتزم "نخبوي للجميع" بعبارته، (مسرح أردناه من البداية كما يقول في الحوار"سيفا قاطعا ضدّ الأفكار السلفية البالية واللّغة الخشبية و"الكليشيهات"). الحوار انطلق بالسؤال التالي:
    ثمّة أكثر من إطار، يمكن أن نضع فيه هذا الحوار، من قبيل مئوية المسرح التونسيّ، أو على هامش الدورة الأخيرة لأيام قرطاج المسرحية بتونس، أو بمناسبة مرور نصف قرن تقريبا على إعلان الجمهورية، وبناء دولة الاستقلال، فأيّها أهمّ لديك؟
    لا واحدة من هذه المناسبات أو غيرها، لأنّني شخصيا أكره "المناسباتية"، وعبارات من قبيل : وفي إطار، وبمناسبة إلخ (هذا كعك ما يطيّر جوع). إطار واحد وموحّد أؤمن به، هو استمرارية التحاور مع ذاتي، مع رفيقة دربي "جليلة بكار"، ثمّ مع الأطراف الفاعلة في الحقل المسرحيّ، التحاور مع تفكيري وأطروحاتي النظرية وخاصّة التطبيقية. وبالتالي فهذه الاستمرارية لا تنتظر أيّ مناسبة لكي تتقدّم . ما يهمّني هو التقابل معك مثلا، مع كلّ المهتمين بالمسرح والثقافة عموما، والإطار الأوحد هو البحث الدؤوب مع ذاتي، ومع الآخر لكي أهتدي إلى وعي متقدّم بما يحيط بي .
    ثمّة ما يبرّر طرح هذا السؤال، وهو أنّ آخر أعمالك "خمسون" ، تمثّل تعبيرا قويّا عن انشغالك بمساءلة وتفكيك ونقد التاريخ الثقافي والسياسي والنفسي التونسي بعد نصف قرن من الاستقلال ؟
    "خمسون" تندرج في البحث الدؤوب الذي أشرت إليه، فهي استمرار لمسيرة طويلة، أي منذ انطلاق مسيرتنا الفنية في السبعينات بأعمال مثل "غسّالة النوادر" و"التحقيق". خلال هذه المسيرة ترسّخت مجموعة من المنطلقات الثابتة التي لم تتغيّر، بقدر ما تجذّرت، وتعمّقت، لنصل بها إلى مسرحية "خمسون" بالإضافة إلى العمل الذي نحن بصدد الإعداد له.
    المنطلقات هي الارتقاء، انطلاقا من وعينا الخاص، بالمساهمة في التوعية العامّة، عملية جدلية مستمرّة. الارتقاء بالوعي في مستوى ما أسمّيه بمفهوم المواطنة، المواطنة هي شغلي الشاغل، هنا أتكلّم باسمي وباسم رفيقة دربي "جليلة بكار"، لأنّني أتقدّم برِجْلين، رجْلي ورِجْلُها.
    والمواطنة هي الوعي بالحقوق والواجبات وبالمسؤولية، مسؤولية تتأسّس على وعي بأنّك مواطن قبل أن تكون فنّانا، هذا شغلي الشاغل في كلّ أعمالي، سياسية كانت مثل "خمسون"، أو أعمالا سياسية أكثر من مسرحية "خمسون"، وإن لم تكشف عن أوراقها السياسية مثل "فاميليا" و"جنون" و"سهرة خاصّة".
    السياسة موجودة في كلّ ما نعيشه ونقوله و"نمسرحه"، هذا هو جوهر ما ينسب إلينا من مسرح ملتزم، مسرح سياسيّ. والسياسة ليست الاشتغال على افتكاك الحكم، أو على مقاسمته، أو الانتماء للمعارضة. السياسة عندي هي استقلالية كاملة، قد نصل إليها شيئا فشيئا لكي نكون محايدين، مواطنين واعين بحقوقنا وواجباتنا ومسؤولياتنا، نطرحها في كلّ عمل بشكل متميّز.
    لقد تمكّنتم في مسرحية "خمسون" وقبلها في "عشاق المقهى المهجور" من إقامة جدل فكريّ حيّ وصلب مع ممثّلي الخطاب الأصوليّ السّلفيّ الجهاديّ ـ بدت عليه نزعة لتفهّمه، وإعطائه الحقّ في الكلام ـ فهل ترون أنّ الفنّ عموما والمسرح بشكل خاص، يمكنه أن يساعد في تفكيك الخطاب الأصولي، وكشفه، ومعالجته من الدّاخل، كأنّه نوع من المعالجة للجزء الموجوع والمريض من الجسم الاجتماعي العام؟
    أنا لا أنظر إلى الأصولية وكأنّما أمطرت بها السماء، هي حدثت في هذه السنين الصعبة، هذا صحيح. ولكن قبل الأصولية، هناك شعوب وبلدان عربية إسلامية تتميّز بالمحافظة، وتقتات من المقدّس والممنوعات والمحرّمات. الإنسان التونسيّ الذي هو شغلي الشاغل، وجد قبل وجود الأصولية، وتتحكّم في بنائه النفسي قيم ومعان : العيب و"اليساق" (يقصد الممنوع) والحرام، أي كلّ ما هو في مستوى الأخلاقيّ الدينيّ والقانونيّ، الذي يشكّل حاجزا يمنع الإنسان من تجاوزه، والتحرّر منه، فأضحى الإنسان التونسي بذلك رهينة نوع من الرّقابة التي يحاول أن يسلّطها على الفاعل الفنّي، أو الفكري، هو مراقب بفتح القاف، يصبح مراقبا بكسر القاف، يجذبك إلى المقاييس والضوابط الفكرية والذوقية التي يريد أن يجرّك إليها، ويفرضها عليك، نحن واعون بهذا الرّهان، ونواجهه في كلّ أعمالنا، ومن المفارقات الغريبة أنّني أعتبر مسرحية "فاميليا" سياسية بهذه المعاني أكثر من "خمسون".
    شكّلت مسرحية "خمسون" إدانة جدلية مركّبة للشروط القاهرة المنتجة للخطاب الأصوليّ السلفيّ، ولانتهازية تيّار من اليسار التونسيّ، ولغطرسة وعنف الجهاز الأمني للنظام، وقدّمت "الإسلاميين" كأعداء وضحايا في نفس الوقت، فهل المسرحية تجسيد لرغبة في الخلاص من مشكل ما، لمداواة جراح ما في الجسم التونسي؟ ما هي الهواجس التي قادت الفريق عند إنجاز العمل؟
    الإدانة هي من مشمولات المتفرّج، إذا ما أعطيناه الآليات التي تمكّنه من الإدانة، نحن لا ندين، بل نتحاور مع المادّة الفكرية والسياسة التونسية، لأن شغلنا الشاغل هو مواصلة إرساء قواعد حوارية مع المجتمع التونسي، حيث ليست هناك فضاءات، منابر، مجالات، تدعو إلى الحوار، وتسهّل الحوار.
    فنحن نفرض بهذه الآلة العجيبة والخطيرة التي هي المسرح والسينما، مجالا للتحاور مع الإنسان التونسي عبر الشخصيات الخيالية المحورية في أعمالنا.
    في "خمسون"، لمّا قالت لنا الرّقابة "كيف لا تدينون، ولا تحكمون على الأصولية؟"، قلنا لها ليس من مشمولاتنا الحكم بالإعدام على أيّ كان. كلّ إنسان له خصوصياته، يعني أنت يا رقيب، أطلق النار على الأصوليين، وأنا أحاول الفهم والتحليل والتعرّف على كينونتهم، وعلى آلياتهم الفكرية، وعلى الأسباب التي جعلتهم موجودين، نفس الشيء بالنسبة إلى اليسار، وبالنسبة إلى العنف الذي تتميّز به السلطة والتعذيب.
    لا بدّ من التمعّن في تاريخ تونس، للإجابة عن أسئلة من قبيل، ما الذي صنع اليسار، وما الذي قضى عليه؟ ما الذي مكّن الأصوليين من التواجد بتلك الكثافة على الساحة الاجتماعية والسياسية في تونس؟ ما هو الجهاز الرّقابيّ والزّجريّ العنيف والعقيم الذي دفع الإنسان التونسي إلى هذا المستوى من الإحباط اليوم، هذا المستوى من الاستقالة، هذا المستوى من الخوف، هذا المستوى من الهروب.
    نحن نطرح هذه الأسئلة في مختبر إنسانيّ اجتماعيّ، فلسفيّ، ميتافيزيقيّ، سياسيّ، فنّيّ، فكريّ، لكي تتّضح الرؤية للإنسان التونسيّ، نتحاور معه انطلاقا من هذه الأطروحات.
    أعطينا الكلمة للأصوليين، لأنّنا ديمقراطيون، لأنّنا نؤمن بالحوار أكثر ممّا تؤمن به الأجهزة الرسمية، لأننا كي نعرف الخصم، أو الطرف الآخر، أو العدوّ، لا بدّ أن نراه بشكل واضح، فلا نسطّحه، ولا نهمّشه، ولا نلغيه، هذا هو مشغلنا منذ أعمالنا السابقة، والتي كانت عرضة للرّقابة في مسرحية خمسون لتؤكّد أن أصول التحاور غير موجودة في هذا البلد.
    من رغبات "نون" المضطربة في مسرحية "جنون" التديّن، الحبّ، القتل… فهل يمكن القول إنّ التيّار الدينيّ الأصوليّ السّلفيّ هو نوع من العدمية الجديدة، انتحار ثقافيّ وحضاريّ ذو صبغة جماعية، كيف ترى الأمر من وجهة نظرك؟
    مسرحية "جنون" لم أكن لأقتبسها للمسرح صحبة "جليلة بكار" لو لم تكن تضع الانفصام الفرديّ في إطار الانفصام الجماعيّ والاجتماعي عامّة، طرحنا هذه الإشكاليات في جدلية، بالرّجوع إلى مشكلة الأصولية، الأصولية مشكلة كبيرة، كيف وجدت؟ وعلى أيّ أنقاض قامت، وبسبب أيّة فراغات، إسلامنا، إسلام أمّي وأمّك، إسلام جدّي، إسلام حقيقيّ، متسامح، شخصيّ، لا يريد أن يقود الناس إلى الجنّة بالسلاسل، ولا يريد أن يفرض علينا أفكاره إلا بالرضي وبالإقناع، لقد تجذّر الإسلام العنيف بحكم فراغات متعدّدة، مختلفة، منها انعدام الديمقراطية، انعدام الحرّيات، انعدام التشاور الحقيقيّ، خيبة أمل الناس، موت الإيديولوجيات المعروفة، أظنّ أيضا القهر والكبت والمجاعة الفكرية التي هي أخطر من المجاعة المادية، لا يمكن الحديث عن الأصوليين إذن دون الحديث عن النظامين الأوّل والثاني اللّذيْن قاما بإقصائهم بشراسة وعنف، ولو كانت هناك حرّيات لتقدّم الفكر في تونس، لتقدّم اليسار في تونس، لتقدّم الآخر الناظر لمستقبل أكثر نورا وتحرّرا.
    بالقضاء على اليسار مهّد هذا النظام والنظام الذي قبله الطريق إلى السلفيين والظلاميين، فلا نستطيع أن نحاكم السلفيين دون أن نحاكم هذا النظام والنظام الذي قبله، القضاء عليهم بالحبس أو بالهروب إلى الخارج هو الحلّ السهل، القضاء على النتيجة لا على الجذور، ودورنا نحن أن ننظر في جذور الأشياء لا في عواقبها.
    يفترض في المسرح أن يكون لقاء حرّا بين أناس يتقاسمون الإيمان بقيم المواطنة والحوار والاختلاف، إنّه فنّ حواريّ بامتياز، يجسّد روح الديمقراطية في قدرته على احتضان التعدّد. فهل يمكن للمسرح أن يستمرّ، وينجح في هذه المهمّة، في مناخ ثقافيّ وسياسيّ مهدّد بظواهر المحافظة والسلفية والجمود، ومناخ ينزع نحو ترسيخ فكر الإجماع والنمطية؟
    منذ مسرحية "جحا والشرق الحائر" إلى "خمسون"، هناك تقدّم واضح، وجمهور أمسى يواكبنا من عمل إلى آخر بغزارة. هذا التقدّم لم يحصل في ظروف غير متأزّمة، لا يتقدّم الفكر والمسرح خاصّة، إلا بالأزمات وفي الأزمات، العالم عموما، والعالم التونسيّ تحديدا، لم يعش ازدهارا يذكر و به نقيس مدى تقدّم الفنون والفكر. فكلّ ما تقدّم في تونس، تقدّم على أنقاض أزمات متتالية كبيرة جدّا. العصر "البورقيبي" الذي عشنا فيه، رغم "إنجازاته"، هو عصر حالك، متقهقر، غاشم، عنيف..الرّقابة فيه وقطع الألسن كانا حقيقة. ورغم ذلك تقدّمنا بخطاباتنا وجمالياتنا، وسعينا إلى مخاطبة الجمهور، رغم كلّ المشاكل التي اعترضتنا كفنانين واعترضته كجمهور، فلم أعش أبدا إلا في الأزمات، ولم أتقدّم إلا بالأزمات، فلتحْيَ الأزمات.
    هل تعتبر نفسك مدينا في رؤيتك الفكرية للمنهجين الماركسي والفرويدي اللّذين ساعداك في بلورة رؤيتك للإنسان والمجتمع التونسي عموما؟
    نحن لا نعيش في جزيرة خالية، نحن نتقدّم بتقدّم العلوم والمعارف في شتّى الاختصاصات، في العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية، ننظر إلى الإنسان التونسي باعتباره إنسانا عربيا مسلما، يمثّل امتدادا لتاريخ طويل من الحضارات التي سبقت الإسلام وأفكار وثقافات مرّت بهذه البلاد.
    ومسألة الجسد خطيرة في كلّ أطروحاتنا، لأنّ المسرح والسينما لا يمكن أن يوجدا بدون الجسد، فهما مقامان على البصر والسمع، فكيف نغضّ النظر عن الجسد؟ إنّنا نتحاور معه، جسدك، جسدي، جسد الأمّ، الأخت كلّها تنتمي إلى الجسد الاجتماعي، يكفيك أن تقطع الطريق، لتكتشف عالما غريبا جدّا ومليئا بالتناقضات، ترى الناس يمشون، ويعبرون الشوارع، ويتكلّمون، ويتخاصمون، ويتحاورون ويبيعون، ويشترون، فتكتشف ذات الإنسان مع المجموعة. شغلنا الشاغل هو أن نتساءل، لماذا يمشى الإنسان التونسي بتلك الطريقة، ويتحاور بذلك الأسلوب، ويتخاصم بذلك الشكل؟ فنجد بعض الأجوبة الناتجة عن المقدّس والممنوع، وكيف تراه يتفاعل مع هذه الصعوبات والضغوطات والمحرّمات، ويتحايل عليها مع أنّها تحدّ من تلقائيته ومن قدرته على المواجهة في كلّ المستويات.
    أنا أقول سأتحدث عن الظاهرة الفلانية مثلا، ثمّ أضعها في خرافة أو حكاية، فأحكي عن الواقع الأليم، عن الهواجس والأحلام، والتطلّعات.. أضع الإنسان التونسي في هذا المجهر، أفكّكه، أتحاور معه، لكي أريه للعيان ولكي يتواصل هذا الحوار مع المتلقي/ المتفرّج، هذا الحوار هو حوار مع ذاتي، مع مجتمعي، وفي ذلك أنا مدين بلا شكّ لكلّ ما أتيح لي من مناهج ومعارف وخبرات.
    خلال مسيرتك الفنية، اُتُّهِم مسرحك بأنّه منبتٌّ، غير متأصّل في التراث العربيّ الإسلامي، يخاصم العربية الفصحى، ويعلي من شأن اللّهجة المحلّية الدّارجة، ومع ذلك كان هذا المسرح الأكثر تقدّما ومصداقية، بدليل إقبال الناس عليه إلى حدّ اليوم. فهل يعني ذلك أن التعريب والتأصيل من المسائل الثانوية والشكلية بالقياس إلى جوهر الممارسة المسرحية، باعتبارها مساءلة مباشرة للمعيش اليومي وللمثيولوجيا اليومية؟
    أنا بطبيعتي أخشى كلّ أشكال الإسقاط، وكلّ اختزال للفعل المسرحي بالتعريف النظري المنمّط، أخشى مصطلحات التأصيل والتجذر وكلّ هذه التصنيفات والشعارات الخشبية، والتي وراءها مآرب سياسية بلا شكّ، أنا أحذر منها، وأعتبر أن علاقتي مباشرة بالإنسان التونسي.
    تجربتنا بدأت مع قفصة والمسرح الجديد، وتواصلت مع فاميليا، كلّ ما أتمناه، أننا جذّرنا رؤية بديلة للإنسان التونسي ولتونس، فشكسبير لم يكن عالميا إلا بصفته إنجليزيا، وموليير لم يكن فرنسيا إلا بصفته فرنسيا وكذلك الأمر مع تشيكوف، وبريشت وغيرهم.
    لقد اكتشفنا أنّ هذا المسرح الذي أردناه "نخبويا للجميع" يرتقي بالفكر العام والذوق العام، وهذا ما يجعلنا نفتخر بأنّنا نعرض دائما أمام شبابيك مغلقة، وهذا ليس من قبيل الصدفة، وفي مختلف عروضنا العالمية في أوربا واليابان وأمريكا، لاحظنا ذلك الجدل الحيّ والمخصب بين الإنسان التونسي والإنسان في مختلف أنحاء العالم.
    مسرح أردناه من البداية سيفا قاطعا ضدّ الأفكار السلفية البالية واللّغة الخشبية و"الكليشيهات" في كل المحافل .
    هل يمكن القول أن ثمّة نزعة نسوية في كتابات "جليلة بكار" سواء في "جنون" أو في "خمسون" تتجلّى في عطفها على الشخصيات، سعيها إلى المصالحة بينها في نزعة رحمية "أمومية" تنزع إلى لمّ شتات الجسد المتناثر في رحم واحد، وأنّ هذه النزعة تتعارض مع النزعة الرّجالية التي كتبت المسرح إلى حدّ اليوم والشغوف بالصراع والتوتر وربّما الكره؟
    أظن أنّ جليلة بكار أولى منّي بالإجابة عن هذا السؤال، نحن نتعامل مع بعضنا منذ أكثر من ثلاثين سنة، ودورها أساسيّ في التجربة، وهي امرأة، مواطنة، ولنا من التفاهم والتناقض الشيء الكثير، لأنّ لي تاريخي، ولها تاريخها، وتاريخي لا ينحصر في ذكورتي، وتاريخها لا ينحصر في أنوثتها، جليلة مواطنة وممثّلة، والتماهي مع الشخصية مسألة رئيسية مهمة بالنسبة لها، فهي لا تستطيع أن تكتب إلا باستحضار صورتها كممثّلة، فهي تكتب بروحها، بشخصيتها، بوعيها، وهذا كلّه يختلف عن روحي، وتاريخي، ووعيي.
    لأنّها امرأة تبعث الحياة، لأنّها تلد، تربّي، فنظرتها حتميا مستقبلية، واستبشارية، وإيجابية، مع أنّها ترى التناقضات، فهي تكتب بالحبّ لا بالكره، ولا أعتقد أنني أنا أكتب بالكره ولا بالإقصاء وبالنبذ، هي وأنا نكتب بنفس المنطلقات، ونفس القيم، ونفس منطلقات الحرّية والاستقلالية والتمعّن في الإنسان، الأصوليّ بالنسبة لي وبالنسبة لجليلة لا نستطيع أن نقصيه، لأنّه قد يكون كما تقول جليلة ابني، أخي، أختي، أنا لا أراه كشخص غريب عنّي، بل كإنسان انحدر إلى الأصولية لأسباب موضوعية سياسية حضارية فكرية، دينية إلخ،
    فالتمعّن يفرض عليّ قبول التحاور مع الآخر، هذه هي خصوصية الكتابة عند جليلة بكار ومن المفارقات أنّ مسرحية "فاميليا" التي كتبتها، تجعل المتلقّي يشكّ في أنّ امرأة كتبت المسرحية وليس رجلا، وهو ما يؤكّد أنّ داخل الرّجل امرأة والعكس صحيح أيضا.
    هل ترى معي أنّ الإفراط في توظيف التكنولوجيات الحديثة في المسرح يهدّد الفنّ الرّابع في هويته وخصوصيات التعبير فيه، وربّما تكون الظاهرة مجرّد غطاء شكلانيّ لإبعاد المسرح عن الشأن العامّ للناس؟
    أعتبر الإفراط والمجانية في توظيف التكنولوجيات الحديثة، أو تركيبها، وإسقاطها، خطر كبير على كينونة المسرح، وعلى استمراريته، وعجز على أن يطوّر المسرح آلياته الخاصة، فالمهمّ أن يتعرّف الفنان المسرحيّ على هذه الآليات، ويسيطر عليها. وأخشى أن يكون الأمر ناتجا عن جهل رهيب عند كثير من المخرجين في العالم العربيّ خاصة، لأنّنا نأخذ من الغرب أكثر ممّا نأخذ من ذاتنا، هذا الإفراط في توظيف الفنون الأخرى والتكنولوجيا يخيفني، ويمكن أن يساهم في إفقار المسرح، وربما اضمحلاله. أنا أحبّ المسرح، لأنّ له طقوسه، ولأنّ له آلياته، وليت المسرحيين يتمعّنون فيه، وفي قيمة بلاغته البسيطة، المسرح ضرب من ضروب السهل الممتنع، والثرثرة فيه والتعويل على آليات أخرى من خارجه لا تفيده كثيرا، لكن يبقى هذا اختيارا شخصيّا، لأنّني أكتب بوسائل إخراجية متقشّفة.
    بعد ترحال في الفضاءات التي اشتغلت بها، صار لك الآن ولمجموعة "فاميليا" عنوان ثابت، فهل يمكن القول إنّ الفضاء الجديد "المونديال" اختبار للرقيب، للمسرح، للجمهور، للفضاء المديني العمراني عموما؟
    هذا ما سيخبرنا به المستقبل، أستطيع التمعّن في الماضي : أنا إنسان مفارقات وأؤمن بها، التنقل والترحال أثريا التجربة، ولم يقضيا عليها. تحصّلنا على فضاءات سابقة، "اللّيدو" في "القلالين" باب سويقة لإنجاز "غسالة النوادر، " وكنيسة قرطاج لإنجاز "عرب"، وفي مسرح مدينة تونس أنجزنا "كوميديا" و"عشّاق المقهى المهجور" و"جنون" لقد أتاح لنا ذلك الفضاء الرسمي البلديّ، إيطاليّ الهندسة، إنجاز أربعة أعمال هامّة. قاعة "المونديال" التي نعمل بها اليوم ينتهي استغلالنا لها في شهر ماي القادم، لأنّها ستتحوّل إلي مبنى تجاريّ وإداريّ ككلّ الفضاءات الثقافية التي تخلّت عن أدوارها الثقافية، وهذا ليس غريبا في هذا البلد. فهو فضاء ظرفيّ مؤقت لإنجاز مشروع يخاطب الناس، والعمل الجديد سنقدّمه في 05 فيفري 2010 ليقدّم في سلسلة من العروض إلى آخر شهر ماي من نفس السنة.
    بعد تراجع المد التقدّمي اليساريّ، هل بقي الفنّ المعقل الأخير للفكر التنويريّ في الفضاء العربيّ الإسلاميّ؟ وهل يمكنه أن ينجح في أهدافه في غياب الشرط العلمانيّ الديمقراطيّ؟
    ما نقوم به إلى اليوم، هو مساهمة في بعث هذا الفضاء العلمانيّ الحواريّ، وهي مساهمة أكّدت أهمّيتها وإيمان الناس بها، وهي مساهمة رهينة تقدّم شامل، ونحن نسعى من وجهة نظرنا أن تعمّ هذه الفكرة التقدّمية التي تجعل الإنسان منطلقا وغاية لكلّ مشروع ...
Working...
X