إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رجاء لعماري المخرجة السينمائية التونسية من "ستار أحمر" إلى "الدوّاحة"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رجاء لعماري المخرجة السينمائية التونسية من "ستار أحمر" إلى "الدوّاحة"

    المخرجة السينمائية التونسية رجاء لعماري

    من "ستار أحمر" إلى "الدوّاحة"



    مع كلّ الحبّ والرعاية التي تستحقّهما الأم بلا شكّ، فإنّنا نتساءل عن مصلحة الذهنية الرّجالية الذكورية (في المجتمعات العربية الإسلامية المعاصرة) عند مبالغتها في تقدير مقامها. فهل يشكّل هذا السلوك الذي يصل حدّ التقديس غطاء أخلاقيا لدفن المحتوى الإنساني للأمّ، أو لنقل بنبرة أقلّ حدّة نسيانه؟ نقصد بالمحتوى الإنسانيّ، احتياجاتها (باعتبارها امرأة، وأنثى) من العاطفة والحنان والجنس، مقابل إعلاء ما هو غير بشريّ فيها، (كنوع من التصعيد أو التعويض)، أي محتواها الرّوحيّ/ الملائكيّ، وكأنّها بلا جسد أو هكذا يراد لها أن تكون.
    كيف تتصرّف الفتاة العربية في فورة احتياجاتها الجنسية قبل الزواج، أو خارج إطاره، إذا كانت مطلّقة، أو أرملة، فقدت زوجها وهي في ريعان الشباب؟ كيف يتمّ تصريف طاقة الحنان والحبّ في غير مسالكها الطبيعية؟ ألا تشكّل المبالغة في عناية الفتيات - اللّواتي لم يتزوّجن - بأمّهاتهن وآبائهنّ أو بأطفال إخوتهنّ تصريفا لعاطفة في غير مجراها الطبيعيّ؟ هل يمكن تفسير شخصية "الحماة" (بما هي اختراع مميّز للثقافة الذكورية) في الذهنية السائدة، وسلوكها العدوانيّ أحيانا تجاه زوجات أبنائها، باعتباره نوعا من التعويض عن حرمانها، ونقصها، أو برودها العاطفيّ والجنسيّ؟ ولماذا تكون أمّ الزوج التي ما تزال تستمتع بحياتها العاطفية والجنسية أقلّ عدوانية من غيرها، فلا تنطبق عليها صفة "الحماة" بمحمولها السلبيّ السائد؟ وأخيرا هل يمكن دفن الرغبة الجنسيّة بشكل نهائيّ؟ وأيّهما أخطر على الحياة الاجتماعية، كبت الرغبة أم التعبير عنها؟ أستحضر هذه الأسئلة مع كلّ شريط جديد للمخرجة التونسية "رجاء لعماري" التي أفترض في هذه المقاربة أنّها منشغلة بطرحها في أعمالها التي انطلقت بشريطين قصيرين هما "أفريل" سنة 1998 و"مساء من جويلية" وشريط طويل أوّل "الستار الأحمر" انطلق عرضه سنة 2002، وشريط" الدّواحة" الذي انطلق عرضه بداية من شهر ديسمبر2009، بعد جولة له بالمهرجانات الدولية "فينيسيا" والعربية "دبي".
    التقاط التفاصيل اليومية:
    في شريطها القصير" أفريل" تلتقط المخرجة تفاصيل الحياة اليومية لامرأة مريضة ظاهريا، غير أنّ تعاملها مع المرض، وعلاقة عائلتها بها، يكشفان لنا أنّنا أمام امرأة تتمارض، بل تستعذب المرض بسبب الفراغ والنقص العاطفيّ الذي تعاني منه، ومن ثمّة فإنّ استمرارها في التظاهر بالمرض، يوفّر لها حنانا تفتقده. وهو ما يقوم به أفراد العائلة في نوع من التواطؤ غير المعلن.
    وبنفس الأسلوب في التقاط التفاصيل الصغيرة، التي تسمح لها باستبطان عميق لشخصياتها، تذهب في شريط "الستار الأحمر" إلى شخصية "ليليا" (قامت بالدور هيام عباس) التي تبدو امرأة رصينة، حسنة السلوك، وأُمًّا عادية، تعيش في تونس العاصمة مع ابنتها المراهقة سلمى، التي تسهر وحيدة على تربيتها، ورعايتها منذ وفاة زوجها، تتسلّى بخياطة الملابس، ومتابعة المسلسلات المكسيكية الطويلة، لتشكّل بهذه الصورة نموذجا للمرأة الثكلى كما تريدها العقلية الرجولية السائدة، أن تهتمّ بابنتها، أن تنسى احتياجاتها العاطفية والجنسيّة بعد وفاة بعلها، ولكنّ "ما كان بشوق طبيعي، لا يسكن البتّة" كما يقول التوحيدي. فالمخرجة تلتقط بذكاء تعبير "ليليا" عن حاجاتها الجسدية بالرّقص أمام المرآة ولو سرّا داخل بيتها. كما تنبّه بذكاء إلى ملل البنت من مبالغة الأمّ في العناية بها،(مثلما هو الحال في الشريط القصير المشار إليه)، ممّا يدفعها إلى البحث عن فضاءات أخرى تلبّي حاجتها للفرح والرقص والمتعة والتواصل، وقد وجدته في حصص الرقص الشرقيّ التي تواظب عليها، وفي سهرات أعياد الميلاد والمناسبات التي تجمعها بأصدقائها وزملائها، بعيدا عن مناخ البيت الذي طبعته الأمّ الحزينة بملامحها وصمتها الموجع.
    بمحض الصدفة والظروف، ولغاية الحفاظ على ابنتها التي كانت تعتقد أنّها على طريق الانحراف، تخرج "ليليا" ليلا إلى المدينة، وتصوّر المخرجة خروجها كما لو أنّه خروج من الظلام والضيق والحزن والصمت إلى النور والاتساع والصخب، وتجد ليليا نفسها في "كاباريه"… لم يكن الأمر صدفة وإن بدا كذلك، بل هو من تدبير الرغبة التي ما تزال مشتعلة تحت رماد الواجبات العائلية، لقد كانت ليليا أسيرة نداء داخليّ، مافتئ يتقوّى، ويتدافع داخلها، فاستسلمت له عن طيب خاطر،( بعد أن ملّت زيارات جارتها المتلصّصة ( قامت بالدور "فوزية بدر") ونصائح أخ زوجها(قام بالدور "صالح ميلاد") الذي يبالغ في نصحها، مثلما يبالغ في التحايل على نصيبها من الميراث، وإذا بعالم جديد جذّاب ومحيّر في ذات الوقت، ينفتح أمامها، إنه عالم اللّيل والرقص والملذّات التي ظنّت أنها دفنتها إلى الأبد.
    لا تستطيع "ليليا" الامتناع عن العودة إلى الكاباريه، وتجد نفسها بمرور الأيام راقصة كاباريه. من خلال الرّقص تكتشف من جديد شهواتها المدفونة تحت وطأة سنين متعدّدة من الواجبات والفروض، وإذا بها تتدحرج من الأمّ المثالية التي لم تعد هي ذاتها إلى امرأة اللّيل وإن لم تصبح كذلك تماما. ولم يكن إغماؤها بعد الرقص سوى تعبير قويّ عن حدّة الانتقال من مطلق الكبت والتدجين الأموميّ والعائليّ، إلى مطلق التحرّر والتمرّد.
    تلقّاها عالم الكباريه (الذي يبدو في انحلاله مقابلا لحياتها المنضبطة)، بكرم ولطف وحنان فيها ما في الشيطان بالمعنى الرمزيّ من مزيج شفيف من الغواية والمكر…تقع "ليليا" في غرام ضابط الإيقاع في الكباريه، وتحقّق معه حاجتها العاطفية والجنسية، وتمكّنها التجربة من تحقيق توازن طالما اشتاقت إليه بين دورها كأمّ وحياتها كامرأة، بل إنّ التجربة الجديدة سمحت لها بتفهّم سلوك ابنتها، وصياغة علاقة معها أكثر عمقا وحبّا وتفهمّا وأقلّ عدوانية.
    عودة المكبوت:
    في شريطها الجديد "الدّواحة" تأخذنا المخرجة إلى جوّ خرافيّ(منزل هو أشبه بالقصر المهجور)، غرائبيّ (لكثرة أبوابه ومغالقه وأسراره)، يذكّر في مناخاته وظلماته بأجواء أفلام الرعب ذات الجذور "الهيتشكوكية"(حيث تتردّد الإشارات اللّماحة إلى الجريمة المتوقّعة)، لتصوّر حياة "ثلاث نساء"، أمّ وابنتيها يعشن بشكل غير قانونيّ، سرّيّ في دهليز، أو قبو منزل مهجور، ويبدو أنّ الأمّ (التي تقدّم في هيئة امرأة حازمة وضخمة الجثّة) قد عوّضت سلطة الأب، ونجحت في أن تعوّد ابنتيها على نسق حياة غريب، حيث تمّ الاكتفاء بتحقيق الحدّ الأدنى للعيش، من أكل (يتمّ توفيره من خلال بيع الملابس التي تتقن البنت الكبرى تطريزها)، دون أن يتوفّر في حياتهنّ أيّ شكل من أشكال الترفيه، لا تلفزة ولا راديو حتّى، ولكنّ لحظة التحوّل، كما في فيلمها السابق"ستار أحمر" تأتي من الخارج، فقد قدم الحفيد "علي" - قام بالدور ظافر العابدين- مصطحبا معه صديقته، وقضيا بعض الأيام واللّيالي الممتعة في البيت، وقد شكّل حضور هذا الثنائي الجميل والمثير، والذي اقترن ببعض السهرات الصاخبة في البيت مع أصدقائهم، صدمة كبيرة للبنت الصغرى"عائشة" (قامت بالدور محرزية بن حفصية)، فقد وقعت تحت إثارة شاملة، جمعت بين الجمال والأناقة والعلاقات المثيرة بين الصديقين، وأجواء المرح والمتعة التي يعيشانها، في شبه تحرّر، ووجدت نفسها شيئا فشيئا مستسلمة لإغواء هذه العوالم، التي حيّرت نيران الرغبة والشهوة التي ظنّت الأم أنّها نجحت في دفنها نهائيا.
    البناء الخرافيّ للسرد الفيلميّ في شريط "الدوّاحة" يجعلنا نميل إلى مستويات التأويل النفسي والثقافي والحضاري أكثر من التأويل الاجتماعي.
    المستوى الأوّل من التأويل النفسيّ يدفع بيسر إلى النظر في ردّ الفعل العنيف والإجراميّ الذي يمكن أن توصل إليه عقلية دفن الرغبة ومنعها، فقد اندفعت البنت إلى قتل أمّها وأختها الكبرى اللّتين كانتا تمنعانها من الخروج، ومن الحرّية، ومن التعبير عن جوعها المادّيّ والعاطفيّ والجنسيّ. كانتا تريدان أن تظلّ البنت طفلة أبدية، رغم أنّها جاوزت عمريا مرحلة الطفولة.
    المستوى الثاني من التأويل في المجال الثقافيّ، متولّد عن التأويل الأوّل وهو أنّ المنع والرفض يؤجّجان الرغبة ويذكيانها أكثر ممّا يطفئان. بل إنّ الرغبة لم تنته من عالمي الأمّ والبنت الكبرى، فالأمّ تمارس نوعا من الامتلاك الذكوريّ الملتذّ للبنت، كنوع من التعويض عن حرمانها، وتتزيّن في غنج أمام المرآة، بينما تمارس البنت الكبرى الاستمناء كنوع من التعويض عن حرمانها الجنسيّ.
    المستوى الثالث من التأويل، وهو حضاريّ يتصل بإمكانية النظر إلى العالمين، عالم المنزل أو القصر من جهة، وعالم ما تحت القصر، عالم ما فوق الأرض وما تحتها، فهل نحن أمام ثنائية الشرق المتحرّر المتمثل لقيم الغرب والحداثة اللّيبرالية،( والذي يمثّله الثنائي "علي ورفيقته" وأصدقاؤهما)، مقابل عالم الشرق المريض بكبته وعقده النفسية الذي ما زال مدفونا بالحياة تحت الأرض بسبب الخوف والكبت (والذي تمثّله الأمّ وابنتاها). الوضع الغرائبيّ لهؤلاء النسوة، يذكّرنا بفيلم المخرج البوسني إميركوستاريكا الشهير"أندرقراوند" (تحت الأرض) والذي يتحدّث فيه عن عائلة، عاشت منذ الحرب العالية الثانية في قبو، ظنّا منها أنّ الحياة قد استحالت على وجه الأرض بسبب تفجيرات نووية، وعندما تخرج، تجد نفسها وسط جحيم الحرب البوسنية الصربية الشهيرة.
    على سبيل الخاتمة:
    لقد صار التطرّق لما تتعرّض له المرأة في المحيط العربيّ والإسلاميّ من قهر اجتماعيّ وجنسيّ، من فرط تداوله واستهلاكه في الأفلام والمسلسلات العربية عموما، موضوعا متهرّئا وممجوجا أحيانا، فما بالك إذا كان العمل الفنّيّ قادما من بلد (تونس) تفاخر نخبه السياسية والثقافية باحتضانها لتجربة إصلاحية استثنائية في محيطها العربي والإسلامي في ما يتّصل بمساواة المرأة مع الرّجل والحرّيات الفردية عموما، ومع ذلك فإنّ المقاربات الذكّية والمبتكرة والصّادقة غالبا ما تثير الانتباه، خصوصا إذا ما قامت (كما نفترض في هذه القراءة) على تأمّل ما يتمّ التواطؤ على نسيانه وكبته في حياة المرأة العربية. فعلى تجربتها المحدودة من حيث عدد الأشرطة، تصرّ المخرجة "رجاء لعماري" في تقديرنا وعبر مختلف أفلامها على ضرورة بناء ثقافة ليبرالية تحرّرية في علاقة الإنسان العربي بجسده، (يستوي في ذلك الرجل والمرأة). ليبرالية مسؤولة تقوم على إيمان بكرامة الجسد الإنساني، وعلى تفهّم احتياجاته، بعيدا عن كلّ أشكال امتهانه، والاتّجار به، أو انتهاكه بأيّ سلوك انتحاريّ عدميّ. معتبرة في نفس الوقت أنّ تأخّر تكريس هذه الثقافة، ستكون له نتائج وخيمة، والأكيد أنّ إقامتها في فرنسا وأوروبا عموما قد عمّقت لديها هذه الفكرة، بسبب ما تراه من تناقض بين علاقة الإنسان الأوروبيّ مع جسده، وعلاقة الإنسان العربيّ المسلم.
    ويمكن القول إنّ تجربة المخرجة "رجاء لعماري" هي امتداد لتجارب مختلفة في السينما التونسية، وهي سينما تتميّز على قلّة إنتاجها بجرأتها الفكرية في طرح المواضيع المزعجة للذهنية الأخلاقية المحافظة التي تكاد تهيمن على إطار التلقّي العام للجمهور خصوصا للسينما، ولقد تمكّنت هذه السينما بفضل أعمال مخرجيها المتميّزين من أمثال ("النوري بوزيد"، و"فريد بوغدير"، و"سلمى بكار"، و"مفيدة التلاتلي" وآخرين) من أن تكون رائدة عربيا في بلورة رؤية فكرية وجمالية، تعتبر أنّ التحرير السياسيّ والفكريّ لا يمكن أن يكتمل، وأن يكون ناجعا، سوى بتحرير العقل والجسد والخيال، تحرير المرأة والرجل في نفس الوقت ، لأنّه لا يمكن الدفاع عن بلدان، أو تحقيق نهضة، بمجتمعات ما يزال أفرادها يعانون أغلال الكبت والقهر والاستبداد.
يعمل...
X