إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

بلاغة الإتيان بلفظ الجمع وإرادة الواحد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بلاغة الإتيان بلفظ الجمع وإرادة الواحد

    بلاغة الإتيان بلفظ الجمع وإرادة الواحد
    مهند حسن الشاوي

    من سنن العرب في كلامهم وأساليب فصاحتهم أن يأتوا بلفظ الجمع يريدون به الواحد، لنكات بلاغية ودقائق تعبيرية، فهو كالشيء يستعار من بابه لغير بابه، ومنه قال بعضهم: ألا ترى أنه يحسن أن تقول لمن ملك عبداً، أو وهب ديناراً: صرت تملك العبيد وتهب الدنانير، وإن لم يكن ما ملكه أو وهبه إلاّ واحداً. وما ذلك إلا لنكت بلاغية دقيقة.
    فمما ورد من ذلك في الشعر قول الأعشى (من المتقارب):


    وَمِثلِكِ مُعجَبَةٍ بِالشَبا = بِ صاكَ العَبيرُ بِأَجسادِها

    فقال (أجسادها) وهي ليس لها إلا جسدٌ واحد


    وقول امرئ القيس في وصف فرسه (من الطويل):

    يَزلُّ الغُلامُ الخِفُّ عَن صَهَواتِهِ = وَيَلوي بِأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ

    فقال (صهواته) وإنما هي صهوة واحدة، وهي مقعد الفارس من ظهر الفرس
    وقوله أيضاً (من الطويل):

    فَقُلتُ لَهُ لَمّا تَمَطّى بِصُلبِهِ = وَأَردَفَ أَعجازاً وَناءَ بِكَلكَلِ

    والأعجاز:الأواخر، جمع عجز؛ وهو من استعمال الجمع موضع الواحد كما أشار الى ذلك البغدادي في الخزانة

    وقول جرير (من الطويل) :

    وَما ذُقتُ طَعمَ النَومِ إِلّا مُفَزَّعاً = وَما ساغَ لي بَينَ الحَيازِمِ ريقُ

    والحيازم جمع حيزوم وهو وسط الصدر.

    وعلى هذا جرت آيات القرآن الكريم في بعض مواردها، من ذلك:
    قوله تعالى:
    (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
    [آل عمران173]
    وإنما كان القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده، فأطلق الله سبحانه عليه وهو مفرد لفظ الناس
    قال الزمخشري في الكشاف: (فإن قلت: كيف قيل الناس إن كان نعيم هو المثبط وحده؟
    قلت: قيل ذلك لأنه من جنس الناس، كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد.
    أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناسٍ من أهل المدينة يضامونه ويصلون جناح كلامه ويثبطون مثل تثبيطه).
    وقال الطبرسي في المجمع: (وإنما عبر بلفظ الواحد عن الجمع في قوله (قال لهم الناس) لأمرين:
    أحدهما: أنه قد جاءهم من جهة الناس فأقيم كلامه مقام كلامهم وسمي باسمهم
    والآخر: أنه لتفخيم الشأن).
    وقال غيره: (هي للجماعة؛ تعظيماً لشأن الذين لم يصغوا الى قوله، ولم يعبأوا بإرجافه، وكان أبو سفيان أعطاه عشراً من الإبل على أن يثبط المسلمين ويخوفهم من المشركين، ففعل، وكان مما قال لهم يومئذٍ: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فكره أكثر المسلمين الخروج بسبب إرجافه، لكن النبي ص خرج في سبعين فارساً، ورجعوا سالمين، فنزلت الآية ثناءً على السبعين الذين خرجوا معه ص غير مبالين بإرجاف من أرجف. وفي إطلاق لفظ الناس هنا على المفرد نكتة شريفة، لأن الثناء على السبعين الذين خرجوا مع النبي يكون بسببها أبلغ مما لو قال: (الذين قال لهم رجلٌ إن الناس قد جمع لكم) كما لا يخفى).


    ومنه قوله تعالى:
    (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)
    [المائدة55]
    وإنما أراد بالذين آمنوا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة، فأطلق الله تعالى عليه وهو مفرد لفظ الذين آمنوا
    قال الزمخشري في الكشاف: (فإن قلت: كيف صحَّ أن يكون لعلي رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة ؟
    قلت: جيء به على لفظ الجمع، وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ليرغب الناس في مثل فعله، فينالوا مثل ثوابه، ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البر والإحسان وتفقد الفقراء، حتى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة لم يؤخروه الى الفراغ منها).
    وقال الطبرسي في المجمع: (وليس لأحد أن يقول أن لفظ (الذين آمنوا) لفظ جمع، فلا يجوز أن يتوجه إليه على الانفراد؛ وذلك أن أهل اللغة قد يعبرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التفخيم والتعظيم، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج الى الاستدلال عليه).


    ومن ذلك قوله تعالى:
    (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ* فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ* ارْجِعْ إِلَيْهِمْ)
    [النمل35- 36]
    فحدّث القرآن الكريم عن قولها بتعبير الجمع (الْمُرْسَلُونَ) وإنما كان رسولاً واحداً أرسلته الى سليمان النبي
    قال الطبري في تفسيره: (إن قال قائل: وكيف قيل: (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ) فجعل الخبر في مجيء سليمان عن واحد، وقد قال قبل ذلك: (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)، فإن كان الرسول كان واحداً، فكيف قيل (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)، وإن كانوا جماعة، فكيف قيل: (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ) ؟
    قيل: هذا نظير ما قد بينا قبل: من إظهار العرب الخبر في أمر كان من واحد على وجه الخبر عن جماعة إذا لم يقصد قصد الخبر عن شخص واحد بعينه يشار إليه بعينه فسمى في الخبر.
    وقد قيل: إن الرسول الذي وجهته ملكة سبأ الى سليمان كان امرأً واحداً، فلذلك قال: (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ) يراد به فلما جاء الرسول سليمان، واستدل قائلوا ذلك على صحة ما قالوا من ذلك بقول سليمان للرسول: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ).
    وقال ابن فارس في الصاحبي: (وقال: (بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) وهو واحد، يدلّ عليه قوله جل ثناؤه: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ).


    هذا وقد تكرر هذا الأسلوب في القرآن الكريم في آياتٍ أخرى أشار إليها بعض اللغويين والمفسرين، منها:
    قوله تعالى:

    (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور2]
    بأنه يراد به الواحد على الأقل كما ذكره ابن فارس في الصاحبي ورواه الطبرسي في المجمع عن ابن عباس والحسن ومجاهد وإبراهيم وأبي جعفر.
    وقوله تعالى:

    (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الْحُجُرَاتِ) [الحجرات4]
    بأن المنادي كان واحداً كما ذكره ابن فارس في الصاحبي وابن عبد ربه في العقد الفريد، وأنهم نادوه من حجرة واحدة وهي الحجرة التي كان فيها، ولكنها جمعت إجلالاً لرسول الله ص ولمكان حرمته كما احتمله الزمخشري في الكشاف.
    وقوله تعالى:

    (فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ) [آل عمران61]
    بأن المقصود من قوله (نساءنا) هنا إنما هي امرأة واحدة وهي فاطمة ابنته صلى الله عيه وآله وسلم كما رواه الزمخشري في الكشاف وغيره من المفسرين.


    استعمال ضمير الجمع وإرادة الواحد
    ويستعمل العرب ضمير الجمع للمفرد لغرض التعظيم عند التكلم فيعظم المتكلم نفسه فيقول: فعلنا وتركنا وقلنا، أو الخطاب فيعظم المخاطب فيقول: قلتم وفعلتم ونحوها ، قال الأنباري في الأضداد: (والأَصل في هذا أَن يقول الرئيس الَّذي له أَتباع يغضبون بغضبه، ويرضون برضاه ويقتدون بأَفعاله: أَمَرْنا ونهينا، وغضِبْنا ورضينا؛ لعلمه بأَنه إِذا فعل شيئاً فَعَلهُ تُبَّاعه ... ثمَّ كَثُر استعمال العرب لهذا الجمع حتَّى صار الواحد من عامة النَّاس يقول وحده: قمنا وقعدنا؛ والأَصل ذاك. ويقال أَيْضاً للملك في خطابه: قد أَمرتم فلاناً، وقد غضِبتم على زيد؛ لمثل العلة المتقدمة)
    وقد جاء هذا الأسلوب البلاغي في شعر العرب كثيراً، أنقل ما أورده الأنباري في كتاب الأضداد؛ فمنه قول الشاعر:


    وآيَسَني مِنْ كُلِّ خيرٍ طلبتُه = كأَنّا وضعْناه إِلى رَمْسِ مُلْحَدِ

    فجمع بعد أَن وحّد.
    وقال الآخر:

    أَلَمْ تَرَ ظَمياءَ السِّبالِ تَبَدَّلَتْ = بديلاً وحلَّت حَبلَها من حِبـاليـا
    لقد سُقِيَتْ عنَّا شراباً بسَلْوةٍ = ولَم نَلْقَ عنها في ذَوي السَّلْوِ شافيا

    وقال الآخر:

    قالت لنا بيضاءُ من أَهلِ مَلَلْ = مالي أَراكَ شاحباً قلتُ أَجَلْ

    فوحّد بعد أَن جمع.
    وقال الآخر:

    قالت لنا يومَ الرحيلِ خَوْزَلُ = ما أَنتَ إِلاَّ هكذا مستعمَلُ
    عيـراً تُعَرِّيها وعيـراً تَرْحَلُ = مَهْلاً أَبا داودَ ماذا تفعـلُ


    وورد في القرآن الكريم في تعظيم الله نفسه كما في آيات كثيرة جداً منها قوله سبحانه:
    (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [البقرة23]
    (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [البقرة51]
    (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة65]
    (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر1].

    ومن النكات الشريفة في هذا الباب ما ذكره المفسرون في قوله تعالى
    (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة5]
    حين استعمل ضمير الجمع والمتكلم واحد.
    من ذلك قول بعضهم: (آثره على المفرد .. إيذاناً بحقارة نفسه عن عرض العبادة وطلب المعونة منفرداً بدون الانضمام الى جماعة تشاركه كما يصنع في عرض الهدايا ورفع الحوائج الى الملوك واحترازاً عن الكذب لو انفرد في ادعائه)
    وقال آخر: ( فالعبادة إنما تكون عبادة حقيقة إذا كان على خلوص من العبد ... ولم يشتغل بنفسه فيكون منافياً لمقام العبودية التي لا تلائم الإنية والاستكبار، وكأن الإتيان بلفظ المتكلم مع الغير للإيماء الى هذه النكتة، فإن فيها هضماً للنفس بإلغاء تعيينها وشخوصها وحدها، المستلزم لنحو من الإنية والاستقلال بخلاف إدخالها في الجماعة وخلطها بسواد الناس فإن فيه إمحاء التعين وإعفاء الأثر).
    وقال آخر: (وأتى بنون الجمع (نعبد) و(نستعين) والمتكلم واحد؛ لأنه ورد في الشريعة أنه من باع أجناساً مختلفة صفقة واحدة، ثم ظهر للمشتري في بعضها عيب، فهو مخير بين رد الجميع أو إمساكه، وليس له تبعيض الصفقة، برد المعيب وإبقاء السليم، وهنا لما رأى العبد أن عبادته ناقصة معيبة لم يعرضها على الله مفردة، بل جنح الى ضم عبادة جميع العابدين إليها، وعرض الجميع صفقة كاملة راجياً قبول عبادته في ضمنها؛ لأن الجميع لا يرد البية، إذ بعضه مقبول، ورد المعيب وإبقاء السليم تبعيض للصفقة، وقد نهى سبحانه عباده عنه، وهو لا يليق بكرمه العظيم، وفضله العميم، فبقي قبول الجميع).


    ومما ورد الإتيان فيه بضمير الجمع في مقام الواحد في الخطاب قول أَبي طالب:

    يا رَبِّ لا تَجعل لَهُمْ سبيلاً = على بناءٍ لم يَزلْ مأهولا
    قد كان بانيهِ لكمْ خليلا


    فخاطب الله تعالى بالجمع.

    ومنه مما ورد في كتاب الله قوله تعالى:
    (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون99]
    أَراد يا رب ارجعني، أَي ردّني إِلى الدنيا، فجمع الفعل وهو مخاطِب واحد لا شريك له.
    وقد اتفقوا على ايراد الضمير جمعاً والمراد منه الواحد في التكلم والخطاب، واختلفوا في ضمير الغيبة، وتنازعوا في قول عمر بن أبي ربيعة:

    لعمرُكَ ما أدري وإن كنتُ دارياً = بسبعٍ رميـنَ الجمـر أم بثمـانِ

    فقال ابن الملا: فإن قلت: كان الظاهر رمَتْ، فلِمَ أتى بضمير الجمع ؟ قلت: للتعظيم الذي يليق بأهل الود السليم.
    ورده البغدادي في الخزانة بقوله: تعظيم الغائب الواحد بضمير الجمع غير موجود في لغة العرب.
    وقال الدماميني: الضمير عائد إلى البنان، أو إلى المرأة وصواحبها.
    وأنشد السيوطي البيت برواية أخرى فيها (رميتُ) بتاء المتكلم بدل (رمينَ) وحسّنه البغدادي ووجهه.



    الإتيان بالمنعوت الواحد والنعت بلفظ الجمع :
    وربما نعتوا الواحد بلفظ الجمع (على أفعال وهو جمع تكسير للقلة) يريدون به الواحد مع نكتة بلاغية، من ذلك قولهم : برمة أعْشَار إذا انكسرت قطعاً قطعاً، ورمح أقصاد أي متكسر، وحبل أرماث أي خلق، وثَوْبٌ أسْمَال وأخْلاق أي ممزق، وثوب أكياش أي غليظ، ونَعْل أسْمَاط إذا كانت غير مَخْصُوفة، وسَرَاويل أسْمَاط إذا كانت غير مَحْشُوَّة.
    والنكتة البلاغية في هذا الوصف أنهم نزلوا الواحد منـزلة الجمع إما لإرادة أنه تفرقت أجزاؤه فصار كالجمع، أو لأرادة أنه فرّق ثم جمع.
    قال الكسائي: وإنما قالوا ثَوْبٌ أَخْلاقٌ أرادوا أن نَوَاحيه أخلاقٌ فلذلك جمع.
    وقال ابن خالويه: وإنما جاز ذلك لأنه يعنى به أنه قد تخرق من جوانبه فصار جمعاً
    وقال اللحياني: وبرمة أخلاق، أي نواحيها أخلاق، وهو من الواحد الذي فرق ثم جمع.

يعمل...
X