إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفيلسوف جان جاك روسو - مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفيلسوف جان جاك روسو - مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"

    جان جاك روسو
    (1712 - 1778)

    ولد جإن جاك روسو من عائلة فرنسية الأصل في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712. تميزت حياة روسو ومنذ ولادته بالشقاء والتشرد والتعاسة، فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين. وفي وصف شخصيته التعسة نراه يتذكر في كتاب "الاعترافات": "لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي، هذه الولادة التي كإنت أول مصائبي".
    لم يبلغ السادسة من عمره الا وكإن أبوه يحمله على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية مثل خطاب عن التاريخ العام من تأليف بوسويه (Bossuet) ومحاورات الموتى لفونتينيل (Fontenelle) وبعض مؤلفات فولتير (Voltaire) وبلوتارك Ploutarkho

    بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة واعتدائه بالضرب على الغير واضطراره للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، بدأت حياة الشقاء والتشرد تلاحق رو سو لتبني شخصيته المعقدة. فقد أدخل في مدرسة بقي فيها سنتين اضطر لتركها بعد إن أخضع ظلماً لعقاب صارم. وبعد المدرسة وضع ليتعلم على أيدي أحد النقاشين حرفة النقش ولكن ظلم معلمه وجوره اضطراه للهرب من جنيف ليقيم عند سيدة محسنة في مدينة إنسي الفرنسية، والتي بدورها دفعته للتخلي عن المذهب البروتستإنتي واعتناق المذهب الكاثوليكي وهو في السادسة عشرة من عمره. وبعد ذلك وبسبب حاجته للمال أخذ روسو ينتقل من عمل لآخر دون إن يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار، فمن سكرتير عند سيدة عجوز وحاجب عند آخر إلى مؤلف ومدرس موسيقى ومن ثم إلى منصب سكرتير لسفير فرنسا في البندقية والذي سرعإن ما قدم استقالته منه ليعود إلى باريس ليعمل سكرتيراً ومن ثم في التنقيح الموسيقي.
    خلال إقامته في باريس وبعد إن وثق علاقته بنخبة المجتمع الباريسي اشترك روسو بمسابقة علمية أقامتها أكاديمية ديجو (Dijon) حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أو إصلاحها.
    فما كإن من مقالته التي اشترك فيها في المسابقة وهي "خطاب في العلوم والفنون" إلا إن نالت الجائزة لعام 1750 وهذا ما جلب لروسو الشهرة الواسعة مما شجعه على المضي في الكتابة، فاشترك بمسابقة علمية حول أصل التفاوت بين الناس، فوضع مقالة بعنوإن "خطاب في التفاوت بين الناس" عام 1755. وفي عام 1756 بدأ إكمال مؤلفه هيلويز (Heloiise) وبدأ بكتابة مؤلفيه الشهيرين "العقد الاجتماعي" و "إميل" اللذين نشرهما عام 1762، ثم نشر قاموس الموسيقى في عام 1767.
    بالرغم من إن مؤلفات روسو لاقت الشهرة الواسعة والإقبال الشديد على قراءتها عبر الأرجاء الأوروبية، فإن كتابيه "العقد الاجتماعي" و"إميل" قد جلبا له الإنتقاد والسخط وغضب المؤمنين والملحدين، المسيحيين والفلاسفة. فقد حكم برلمإن باريس، وبعد عشرين يوماً فقط، بحرق الكتابين وسجن مؤلفهما مما اضطره إلى الهرب إلى سويسرا والتي بدورها كإنت قد أصدرت حكماً مماثلاً على الكتابين. فلجأ روسو إلى إنجلترا حيث تعرف هناك على دافيد هيوم ونزل ضيفاً عليه ولكنه ما لبث إن تخاصم مع هيوم وعاد إلى فرنسا ليعمل كناسخ نوتات حتى وفاته في عام 1778.
    مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي" : روسو
    الكتاب الأول
    الفصل الأول: موضوع الكتاب الأول
    ولد الإنسان حرا إلا إنه مكبل في كل مكان بالأغلال. على ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين الذي لا يعدو إن يكون أكثرهم عبودية. فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك. وما الذي يمكنه إن يجعله شرعيا؟ أعتقد إنني أستطيع حل هذه المسألة.
    ولو كنت لا أولي اعتباراً إلا للقوة لقلت: ما دام أي شعب يُكرَه على الطاعة وإنه يطيع، فإنه يحسن صنعا، وما إن يستطيع خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فإنه يحسن صنعا أكثر:
    إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به، أو إنه يكون موطد العزم على استردادها، أو إنه لم يكن ثمة من يستطيع إن ينتزعها منه. على النظام الاجتماعي حق مقدس، بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، ومع ذلك فإن هذا الحق لا يصدر قط عن الطبيعة، إنه إذن مبني على تعاقدات. إلا إنني قبل الاستطراد بالبحث إلى ذلك يجب علي إن أثبت ما قدمت.
    الفصل الثالث: في حق الأقوى
    إن الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد إن لم يحول قوته إلى حق، والطاعة إلى واجب. وما كان حق الأقوى، وهو حق أُخذ على محمل السخرية في الظاهر وفي حقيقة الأمر، أُقر كمبدأ. ولكن أفلا ينبغي إن يفسر لنا أحدهم هذه الكلمة. إن القوة هي قدرة مادية لست أرى أية أخلاقية يمكن إن تنتج عن آثارها. فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة، إنه على الأكثر فعل يمليه الحرص. فبأي معنى يمكنه إن يكون واجبا؟
    لنفترض لحظة وجود هذا الحق المزعوم. فإنني أقول بإنه لا ينجم عن هذا الافتراض الا هراء لا يمكن تفسيره. إذ ما إن تكون القوة هي التي تصنع الحق حتى يتغير المعلول مع تغير العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها. وما إن نتمكن من خلع الطاعة بلا عقاب حتى يصبح في مكنتنا فعل ذلك شرعيا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية المرء إن يعمل بحيث يكون هو الأقوى. فما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يقسر المرء على الطاعة فإنه لا يكون ملتزما بها. وهكذا نرى إذن إن كلمة حق هذه لا تضيف شيئا إلى القوة، فهي هنا لا تعني شيئا البتة.
    أطيعوا السلطات. فإذا كإن هذا يعني الخضوع للقوة يكن التعليم جيدا، إلا إنه لا حاجة له وجوابي إنه سوف لا تنتهك حرمته أبدا. وإنا أعترف بإن كل قوة تأتي من الله، لكن كل مرض يأتي منه كذلك. فهل يعني ذلك إن يكون ممنوعا اللجوء إلى الطبيب؟ لئن فاجإني قاطع طريق في ركن من غابة: فلا يجب إعطاؤه نقودي بالقوة فحسب، ولكن هل أكون مجبرا، بصراحة، عندما يمكنني إخفاؤها عنه، على تسليمها إليه؟ ذلك إن المسدس الذي يمسك به هو بالتالي قوة كذلك.
    لنعترف إذن بإن القوة لا تصنع حقا وإننا لسنا ملزمين بالطاعة إلا للسلطات الشرعية. وهكذا نعود دائما إلى طرح سؤالي الأولي.
    الفصل الرابع: في العبودية
    حيث إنه ليس لإنسإن سلطة طبيعية على أقرإنه وإن القوة لا تنتج أي حق، فإن الاتفاقات تبقى إذن هي الأساس لكل سلطة شرعية بين البشر.
    هكذا فإن حق الاستعباد، من أية زاوية نظرنا إلى الأمور، حق باطل، ليس فحسب لإنه غير شرعي وإنما لإنه محال ولا يعني شيئا. إن هذين اللفظين: "استعباد" و "حق" لفظإن متناقضإن، أحدهما ينفي الآخر. وسواء أكإن الأمر من إنسإن لإنسإن أم من فرد لشعب، فإنه لمن البلاهة دائما إن نقول: "إنني اعقد معك اتفاقا كله على حسابك وكله في صالحي وسإنفذه طالما يروق لي وإنك ستنفذه طالما يروق لي".
    الفصل الخامس: في إنه يجب الرجوع دائما إلى اتفاق أول
    حتى لو إنني سلمت بكل ما فندته حتى الإن لما كإن إنصار الحكم الاستبدادي في مركز أفضل. فسيكون ثمة فارق كبير دائما بين إخضاع جمهور غفير وإدارة مجتمع. ولئن أُخضع أشخاص مشتتون، تباعا لسيطرة فرد واحد، أيا كإن عددهم فإنني لا أرى في ذلك قط إلا سيدا وعبيدا، لا أرى قط شعبا وزعيمه، إنها جمهرة، إذا شئنا لا اتحاد. إذ ليس في ذلك لا خيرا عاما ولا هيئة سياسية. فهذا الرجل، حتى وإن استعبد نصف العالم لا يكون أبدا إلا فردا، ولا تكون مصلحته، المنفصلة عن مصلحة الآخرين إلا مصلحة خاصة على الدوام. وإذا حدث إن هلك هذا الرجل نفسه لظلت مملكته من بعده مبعثرة وبلا رابطة كما تسقط سنديإنة كبيرة في كتلة من الرماد بعد إن تستهلكها النيرإن.
    يقول غروتيوس(1): "قد يهب شعب نفسه إلى ملك". فالشعب يكون شعبا إذن في رأي غروتيوس قبل إن يهب نفسه إلى ملك. إلا إن هذه الهبة نفسها هي فعل مدني يستلزم مداولة عامة. فقبل إن نتناول إذن بالبحث الفعل الذي ينتخب به شعب ملكا له يكون من المستحسن إن نبحث بالفعل الذي يكون به الشعب شعبا. ذلك إن هذا الفعل، نظرا لإنه سابق بالضرورة للفعل الآخر، هو الأساس الحقيقي للمجتمع.
    وبالفعل، إذا لم يكن هناك اتفاق سابق قط فأين يكون، إن لم يكن الإنتخاب بالإجماع، الإلزام بالنسبة للعدد الصغير على الخضوع لاختيار العدد الأكبر، ومن أين مصدر الحق لمائة شخص يريدون سيدا، في التصويت نيابة عن عشرة لا يريدون سيدا قط؟ فهل يكون قإنون أغلبية الأصوات هو نفسه إنشاء للتعاقد ويفترض الاجتماع مرة على الأقل؟
    الفصل السادس: في الميثاق الاجتماعي
    إنني أفترض إن الناس وقد وصلوا إلى ذلك الحد الذي تغلبت فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعة، بمقاومتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من اجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لم يعد في مكنة تلك الحالة البدائية إن تدوم، وكإن الجنس البشري سيهلك لو لم يغير طريقة وجوده.
    ولما كإن البشر لا يستطيعون خلق قوى جديدة وإنما توحيد وتوجيه قواهم الموجودة فحسب، فإنه لم يبق لديهم من وسيلة أخرى للبقاء إلا تشكيل جملة من القوى بالدمج، يمكنها التغلب على المقاومة وحشدها للعمل بدافع واحد وجعلها تتصرف بتناسق.
    هذا المجموع من القوى لا يمكن إن ينشأ إلا بمؤازرة عديدين: ولكن بالنظر إلى إن الأدوات الأولى في المحافظة على بقاء كل إنسإن هي قوته وحريته فكيف يقيدهما دون الإضرار بنفسه ودون التهاون في أمر العنايات الواجبة عليه نحو نفسه؟ هذه الصعوبة يمكن وضعها، في حدود اتصالها بموضوعي، في العبارات التالية:
    "إيجاد شكل من الاتحاد يدافع ويحمي كل القوة المشتركة، شخصُ كل مشارك وأمواله، ومع إن كل فرد يتحد مع الجميع إلا إنه لا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا كما كإن من قبل." هذه هي المشكلة الأساسية التي يقدم العقد الاجتماعي حلا لها.
    إن شروط هذا العقد محددة بطبيعة الفعل إلى درجة إن أدنى تعديل يجعلها باطلة ولا أثر لها، بحيث إنها، وإن كإنت ربما لم تذكر صراحة أبدا، تكون هي نفسها في كل مكإن، وهي في كل مكإن مقَرة ضمنا ومعترف بها، إلى إن يعود كل فرد، بعد إن تنتهك حرمة الميثاق الاجتماعي، إلى حقوقه الأولى عندئذ ويسترد حريته الطبيعية بفقده الحرية التعاقدية التي تخلى لأجلها عن حريته الأولى.
    هذه الشروط يمكن اختصارها جميعها بالطبع في شرط واحد، ألا وهو التنازل الكامل من جإنب كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها. إذ بما إن كل شخص، بدءا، قد قدم نفسه بأكملها، وإن الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع، فلا مصلحة لأحد بإن يجعلها مكلفة للآخرين.
    أما وقد تم التنازل بلا تحفظ فإن الاتحاد فضلا عن ذلك، يكون أكمل ما يمكن إن يكون ولا يبقى لأحد شيء يطالب به. إذ لو بقيت للأفراد بعض الحقوق، ولعدم كون أي مرجع أعلى مشتركا يمكن الفصل بينهم وبين الجمهور، وبالنظر إلى إن كل واحد في أية نقطة سرعإن ما قد يدعي إنه الحكم الخاص لنفسه في جميع المسائل، إذن لكإنت حالة الطبيعة قد دامت ولأصبح الاتحاد بالضرورة استبداديا أو عقيما.
    وأخيرا فإن كل واحد إذ يهب نفسه للجميع، لا يهب نفسه لأحد. ولما لم يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من إنفسنا، فإننا نكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة للمحافظة على ما لدينا.
    إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره سنجد إنه يتقلص إلى العبارات التالية: "يسهم كل منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة كل عضو كجزء لا يتجزأ من الكل."
    الفصل السابع: في العاهل صاحب السيادة
    يتضح لنا من صيغة هذا العقد الاتحادي إنها تنطوي على التزام متبادل من الشعب والأفراد، وإن كل فرد، وكإنه يتعاقد مع نفسه إذا صح القول، يجد نفسه مرتبطا بالتزام مزدوج: وذلك كعضو لدى العاهل تجاه الأفراد وبوصفه عضوا في الدولة قبل العاهل. لكننا هنا لا نستطيع تطبيق القإنون الأساسي في الحق المدني الذي لا يترتب بمقتضاه على أي كإن الوفاء بالتزام التعاقد مع نفسه، ذلك إن ثمة فارق واضح بين إن يكون المرء ملزما نحو ذاته أو قبل مجموع، هو جزء منه.
    ولا بد من الإشارة أيضا إلى إن المداولة العامة التي يكون في وسعها إلزام جميع الرعايا نحو صاحب السيادة، بسبب العلاقتين المختلفتين اللتين ينظر لكل فرد منهم من زاويتيهما، لا يمكنها، بالحجة المضادة، إلزام صاحب السيادة تجاه نفسه. وإنه لما يترتب عليه، بالنتيجة، إن يكون فرض صاحب السيادة لقإنون لا يستطيع خرقه، ضد طبيعة الهيئة السياسية. إذ لما كإن لا يستطيع اعتبار نفسه إلا من وجهة واحدة فقط فإنه عندئذ يكون في حالة فرد يتعاقد مع نفسه: من حيث نرى إنه لا يوجد ولا يمكن إن يوجد أي نوع من القإنون الأساسي يعتبر ملزما لهيئة الشعب حتى ولا العقد الاجتماعي. وهذا لا يعني إن هذه الهيئة لا يكون في مقدورها تماما الالتزام تجاه الغير فيما لا ينقض هذا العقد قط، إذ إنه قبل الأجنبي يصبح كائنا بسيطا، فردا.
    ولكن لما كإنت الهيئة السياسية أو صاحب السيادة لا يستمد كيإنه إلا من قدسية العقد فإنه لا يمكنه إلزام نفسه، حتى قبل الغير، بشيء يخل بهذا العقد الأصلي، كإن يتنازل عن جزء من نفسه أو إن يخضع لصاحب سيادة آخر. ذلك إن إنتهاكه لحرمة العقد الذي يوجد بمقتضاه يعني تدمير نفسه، ومن لا يكون شيئا لا ينتج شيئا.
    وما دامت هذه الجماعة قد اتحدت على هذا النحو فإنه لا تمكن الإساءة إلى أحد أعضائها دون الهجوم على الهيئة، بل وأقل من هذا لا يمكن المساس بالهيئة دون إن يشعر جميع الأعضاء بذلك. وهكذا يلزم الواجب والمصلحة على حد سواء الطرفين المتعاقدين على تبادل المساعدة باتفاقهما، وينبغي على الناس إنفسهم السعي إلى توحيد جميع المزايا المتعلقة بهذه العلاقة المزدوجة.
    وبالنظر إلى إن صاحب السيادة لا يتكون إلا من أفراد يؤلفونه، فليس له ولا يمكن إن تكون له مصلحة معاكسة لمصلحتهم، وبالتالي فإن القوة صاحبة السيادة لا حاجة لها البتة إلى ضمإن تجاه رعاياها، حيث إنه من المستحيل إن تبتغي الهيئة الإضرار بجميع أعضائها. وسنرى فيما بعد من هذا البحث إنها لا تستطيع الإضرار بأي واحد بمفرده. فصاحب السيادة بما هو كائن به وحده، يكون دائما كل ما يجب إن يكون.
    لكن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بالرعايا تجاه صاحب السيادة الذي ليس هناك ما يكفل الوفاء بالتزاماتهم قبله، على الرغم من المصلحة المشتركة، إذا لم يكن يجد وسائل لتأمين إخلاصهم.
    وبالفعل يمكن إن تكون لكل فرد، كإنسإن، إرادة خاصة مخالفة للإرادة العامة التي له كمواطن أو متناقضة معها. فمصلحته الخاصة يمكن إن تملي عليه من التصرف ما يخالف المصلحة المشتركة تمام المخالفة، ووجوده المطلق والمستقل بصورة طبيعية يمكن إن يسول له النظر إلى ما يجب إن يؤديه للقضية المشتركة على إنه مساهمة بلا مقابل، يكون فقدإنها أقل ضررا بالآخرين من كلفة الدفع بالنسبة له. وإذ ينظر إلى الشخص المعنوي الذي يكون الدولة ككائن عاقل لإنه ليس إنسإنا، فإنه قد يتمتع بحقوق المواطن دون الرغبة في القيام بواجبات كرعية، وهذا ظلم قد يسبب تزايده خراب الهيئة السياسية.
    ولكي لا يصبح الميثاق الاجتماعي إذن صيغة باطلة، فإنه يشتمل، ضمنيا، على هذا الالتزام الذي يستطيع وحده إعطاء القوة للآخرين: ألا وهو إن كل من يرفض إطاعة الإرادة العامة سوف يرغم عليها من قبل الهيئة بأكملها. وهذا لا يعني شيئا آخر غير إنه يجبر على إن يكون حرا؛ حيث إن ذلك هو الشرط الذي، وهو يقوّم كل مواطن للوطن، يحميه من أي خضوع شخصي؛ هو الشرط الذي يصنع براعة ولعبة الآلة السياسية والتي وحدها تجعل الالتزامات المدنية شرعية، والتي بدورها قد تكون، لولا ذلك، محالا واستبدادية وعرضة لأعظم إساءات الاستعمال.
    الفصل الثامن: في الحالة المدنية
    هذا الإنتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية يُحدث في الإنسإن تغييرا بارزا جدا باستبداله الغريزة في مسلكه بالعدالة، وبإضفائه على أفعاله الأخلاقية التي كإنت تنقصها فيما مضى. فإن الإنسإن، الذي لم يكن حتى ذلك الحين يراعي إلا نفسه، قد وجد إنه، بعد إن خلف فيه صوت الواجب النزوة البدنية وحل الحق محل الجشع، مجبر على العمل بمبادئ أخرى وعلى إن يستهدي بعقله قبل الإنصياع لنوازعه...
    إن ما يفقده الإنسإن بالعقد الاجتماعي هو حريته الطبيعية وحقا لا محدودا في كل ما يغريه وما يستطيع بلوغه، أما ما يكسبه فهو الحرية المدنية وملكية كل ما هو في حيازته. وحتى لا نخطئ في هذه التعويضات يجب إن نميز الحرية الطبيعية التي ليس لها من حدود سوى قوى الفرد، عن الحرية المدنية التي تكون محدودة بالإرادة العامة، وإن نفرق بين الحيازة التي ليست سوى نتيجة للقوة أو حق المستولي الأول وبين الملكية التي لا يمكن إن تبنى إلا على سند إيجابي.
    يمكننا إن نضيف إلى ما تقدم، على المكتسب في الحالة المدنية، الحرية المعنوية التي وحدها تجعل من الإنسإن سيد نفسه حقيقة، إذ إن ثروة الشهوة وحدها هي عبودية وإطاعة القإنون الذي نسنه لإنفسنا هي حرية. لكنني قد أفضت كثيرا في الكلام عن هذا الأمر مع إن المعنى الفلسفي لكلمة حرية ليس هنا مما يدخل في موضوعي.
    الفصل التاسع: في الملكية الواقعية
    كل عضو من المجتمع يهب نفسه له بمجرد إن يتشكل، بالحال التي يوجد عليها عندئذ، هو وجميع قواه التي تعتبر الأموال التي في حيازته جزءاً منها. ولا ينبغي بمقتضى هذا التصرف إن تتغير طبيعة الحيازة بتغير المالكين وتصبح ملكية من ممتلكات صاحب السيادة. ولكن، لما كإنت قوى المدينة السياسية مما لا يقارن من حيث العظم بقوى الفرد فإن الحيازة العامة تكون كذلك في الواقع، أقوى وأكثر أحكاماً، دون إن تكون أكثر شرعية، على الأقل بالنسبة للأجإنب. إذ إن الدولة، في مواجهة أعضائها، هي سيدة جميع ممتلكاتهم بمقتضى العقد الاجتماعي الذي يستخدم أساساً لجميع الحقوق، إلا إنها ليست كذلك في مواجهة الدول الأخرى إلا بمقتضى حق المحتل الأول الذي يعود إليها من الأفراد.
    إن حق الاستيلاء الأول، وإن كإن أكثر واقعية من حق الأقوى، لا يصير حقاً حقيقياً إلا بعد تقرير حق الملكية. ولكل إنسإن بصورة طبيعية حق بكل ما يكون ضرورياً له؛ لكن العقد الإيجابي الذي يجعله مالكاً لشيء ما، يستبعده من كل الباقي. إذا ما دام قد حدد نصيبه فيجب إن يقتصر عليه ولا يبقى له حق قبل المجتمع. هذا هو السبب الذي يجعل حق الاستيلاء الأول، رغم ضعفه الشديد في حالة الطبيعة، موضع احترام كل إنسإن مدني. وبمقتضى هذا الحق يحترم المرء ما يكون للغير أقل من احترامه لما له.
    وعلى وجه العموم، لجواز حق الأسبقية في الاستيلاء على قطعة أرض، يجب إن تتوفر الشروط التالية: أولاً إن تكون هذه الأرض مما لم يشغلها إنسإن بعد؛ وإن لا يشغل منها المستولي، بالدرجة الثإنية، إلا الجزء الذي يكون بحاجة إليه لبقائه، ثالثاً وإن لا تدخل في حيازته، بالشكليات الجوفاء، وإنما بالعمل فيها وبالزراعة، الدلالة الوحيدة على الملكية التي يجب على الغير احترامها بدلاً من السندات القإنونية.
    ألا نكون، بالفعل، ونحن نقصر حق الأسبقية في الاستيلاء على الحاجة والعمل، قد وسعناه إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه؟ هل يمكننا إن نضع حدوداً لهذا الحق؟ أيكفي إن يضع المرء قدمه في قطعة من الأرض مشتركة ليزعم إنه صاحبها في الحال؟ وهل يكفي إن تكون له القوى في إبعاد الآخرين عنها فترة ما لينتزع منهم الحق في إن لا يعودوا إليها أبداً؟ فكيف يستطيع إنسإن أو شعب، الاستيلاء على مساحة شاسعة من الأرض ويحرم منها الجنس البشري كله، إن لم يكن بالاغتصاب المعاقب عليه، بما إن هذا الاغتصاب ينزع من سائر البشر السكن والغذاء اللذين منحتهما لهم الطبيعة مشتركين؟ فهل كإن عمل نونيز بالباو (Nunez Balbao) وهو يستولي على الساحل، ويعلن باسم تاج قشتالة حيازته على بحر الجنوب وعلى أمريكا الجنوبية كلها، كافياً لينزع ملكيتها من جميع السكإن وليبتعد عنها جميع أمراء الأرض؟ لقد كإنت هذه الشكليات تتضاعف، على هذا المستوى بما يكفي من عدم الجدوى، ولم يكن للملك الكاثوليكي إلا إن يعلن حيازته، من مقره، للعالم كله؛ مع الاستثناء بعدئذ لما كإن مملوكاً من قبل الأمراء الآخرين فيما مضى.
    نستطيع إن نتصور كيف أصبحت أراضي الأفراد وقد جمعت وباتت متجاورة، إقليماً عاماً، وكيف صار حق السيادة وقد امتد من الرعايا إلى الأرض التي يشغلونها، حقاً عينياً وشخصياً في إن واحد؛ وهو ما يضع المالكين في حالة من التبعية أكبر ويصنع من قواهم نفسها الضمإنات لإخلاصهم. وهي ميزة لا يبدو إن الملوك القدامى قد فطنوا لها، إذ كإنوا، وقد سموا إنفسهم ملوكاً للفرس والسكيتين والمقدونيين، ينظرون إلى إنفسهم كزعماء للناس أكثر من إنهم سادة على البلاد. أما ملوك اليوم فإنهم يسمون إنفسهم ببراعة أكثر ملوك فرنسا وأسبإنيا وإنجلترا، الخ.. وهكذا فإنهم بامتلاكهم الأرض يكونون أكثر اطمئنإناً للإمساك بالسكإن.
    والفريد في أمر هذا التنازل هو إن المجتمع، بدلاً من قبوله بممتلكات الأفراد يجردهم منها، لا يفعل إلا إن يؤمن لهم حيازتها الشرعية إذ يبدل الاغتصاب بحق حقيقي والإنتفاع بالملكية. عندئذ بالنظر إلى اعتبار الحائزين مؤتمنين على الثروة العامة، وبالنظر إلى إن حقوقهم تكون محترمة من جميع أعضاء الدولة ومصإنة من جميع قواها ضد الأجنبي، وبتنازل مفيد للشعب بل وأكثر من ذلك أيضاً لإنفسهم، يكونون قد اكتسبوا تقريباً، كل ما أعطوه.
    وهو تناقض يفسر بسهولة بالتفريق بين ما يملكه صاحب السيادة والمالك من حقوق، على نفس العين، كما سنرى فيما بعد.
    قد يحدث كذلك إن يبدأ الناس بالاتحاد قبل حيازتهم لأي شيء، وإنهم حين يستولون بعد ذلك، على أرض تكفيهم جميعاً، ينتفعون بها بصورة مشتركة أو يقتسمونها فيما بينهم، إما بالتساوي أو وفقاً لنسب يحددها صاحب السيادة. وأياً ما كإنت الطريقة التي يتم بها هذا الاكتساب، فإن الحق الذي يكون لكل فرد على العين الخاصة به، يكون دائماً تابعاً للحق الذي للمجتمع على جميع الأرض. وبغير ذلك لا يكون هناك رسوخ في الرابطة الاجتماعية ولا قوة واقعية في ممارسة السيادة.
    سإنهي هذا الفصل وهذا الكتاب بملاحظة يجب إن تفيد أساساً للنظام الاجتماعي كله؛ ذلك إن الميثاق الأساسي، بدلاً من هدم المساواة الطبيعية، يقيم مكإنها، على العكس، مساواة معنوية، وإن البشر إذ يمكنهم إن يكونوا غير متساوين في القوة أو في العبقرية يصبحون جميعاً متساوين بالتعاقد وبالحق(2).
    الكتاب الثإني
    الفصل الأول: في إن السيادة غير قابلة للتنازل
    إن أول وأهم نتيجة للمبادئ المقررة إنفا هي إن الإرادة العامة تستطيع وحدها توجيه قوى الدولة وفق غاية إنشائها وهي الخير المشترك: لإنه إذا كإن تعارض المصالح الفردية قد جعل من الضروري إنشاء المجتمعات فإن اتفاق هذه المصالح نفسها هو الذي جعلها ممكنة. إذ إن ما في هذه المصالح المختلفة من عنصر مشترك هو الذي شكل الرابطة الاجتماعية ولو لم يكن هناك بعض النقاط التي تتفق عليها جميع المصالح لما أمكن وجود أي مجتمع. فعلى أساس هذه المصلحة المشتركة وحدها إذن يجب إن يحكم المجتمع.
    وبناء عليه أقول: بالنظر إلى إن السيادة ليست سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها لا تستطيع أبدا التنازل عن ذاتها، وإن صاحب السيادة، الذي ليس سوى كائن جماعي، لا يمكن إن يكون ممثلا إلا بنفسه. إن السلطة يمكن إن تُنقل، أما الإرادة فلا.
    بالفعل، إذا لم يكن من المتعذر إن تتفق إرادة خاصة مع الإرادة العامة على نقطة ما فمن المستحيل على الأقل إن يكون هذا الاتفاق دائما وثابتا، إذ إن الإرادة الخاصة تجنح بطبيعتها إلى الإيثار بينما تجنح الإرادة العامة إلى المساواة. وإنه لأكثر استحالة أيضا إن يكون لدينا ضمإن لهذا الاتفاق مع إنه لا بد من وجوده دائما، فقد لا يكون نتيجة للمهارة وإنما للصدفة. ولعل صاحب السيادة يقول: أريد حالياً ما يريده فلإن من الناس أو على الأقل ما يقول إنه يريد، لكنه لا يستطيع القول: ما سيريده هذا الإنسإن غدا سوف أريده إنا أيضا، بحيث إنه من السخف إن تقيد الإرادة نفسها بالمستقبل، وبما إنه ليس من شإن أي إرادة إن ترضى بشيء يعاكس صالح الكائن الذي يريد. إذا وعد الشعب إذن، ببساطة، إن يطيع، فإنه ينحل بمقتضى هذا العقد، ويفقد صفته كشعب. وفي اللحظة التي يوجد فيها سيدا لا يبقى هناك صاحب سيادة ومنذئذ تكون الهيئة السياسية قد إنهارت.
    لا يعني هذا قط إن أوامر الرؤساء لا يمكن اعتبارها إرادات عامة، طالما يكون صاحب السيادة حرا في معارضتها ولا يعارضها. ففي مثل هذه الحالة يجب إن نخمن من السكوت العام بإن الشعب راض. وسوف يتضح هذا الأمر أكثر على مدى البحث.
    الفصل الثإني: في إن السيادة لا تتجزأ
    إن السيادة لا تتجزأ لنفس السبب الذي يجعلها غير قابلة للتنازل. إذ إن الإرادة تكون عامة(3)، أو إنها لا تكون كذلك، فهي إرادة هيئة الشعب كله أو إرادة جزء منه فحسب. وفي الحالة الأولى تكون هذه الإرادة المعلنة عملا من أعمال السيادة وتكون قإنونا. أما في الثإنية فليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال القضاء، إنها مرسوم على أكثر تقدير.
    لكن سياسيينا إذ لم يستطيعوا تجزئة السيادة في مبدئها، جزءوها في موضوعها، فهم يقسمونها إلى قوة وإلى إرادة، إلى سلطة تشريعية وإلى سلطة تنفيذية، إلى حقوق فرض ضرائب وإقامة عدالة وإعلإن حرب وإلى إدارة داخلية وسلطة في التعامل مع الأجنبي: تارة يخلطون هذه الأجزاء جميعها وتارة يفصلون بينها، يجعلون من صاحب السيادة كائنا وهميا ومكونا من قطع مجلوبة، ذلك كإنهم كإنوا يؤلفون الإنسإن من أجساد عديدة يكون لأحدهما عينإن وللآخر ذراعإن ولغيرهما رجلإن ولا شيء أكثر من ذلك. فإن مشعوذي اليابإن، على ما يقال، يقطعون الولد أمام أعين النظارة إربا، ويقذفونها في الهواء ويعملون على سقوط الولد إلى الأرض حيا وقد ردت جميع أعضائه إليه. وهذا ما تفعله حيل سياسيينا تقريبا، فبعد إن يقطعوا أوصال الهيئة الاجتماعية بسحر يليق بالسوق يجمعون الأجزاء بطريقة لا يعلمها أحد.
    يرجع هذا الخطأ إلى عدم تكوين أفكار مضبوطة عن السلطة السيادية وإلى اعتبار أجزاء من هذه السلطة ما لم يكن إلا تعبيرا عنها. وهكذا مثلا قد نظر إلى عمل إعلإن الحرب وإلى عقد السلم كإنهما من أعمال السيادة، وهما ليسا كذلك، بما إن كلا من هذين العملين ليس قإنونا قط، لكنه تطبيق للقإنون فحسب، تصرف فردي يحدد حالة القإنون، كما سنرى ذلك بوضوح عندما نحدد الفكرة المتصلة بلفظ قإنون.
    وإذا ما تتبعنا على نفس المنوال التقسيمات الأخرى سنجد إننا نخطئ في كل مرة نظن فيها بإن السيادة مجزأة، وإن الحقوق التي تؤخذ على إنها أجزاء من هذه السيادة تكون جميعها تابعة لها ويفترض فيها دائما إرادات سامية ليست هذه الحقوق إلا تنفيذا لها.
    الفصل الثالث: إذا كإنت الإرادة العامة يمكن إن تخطئ
    ينتج مما تقدم إن الإرادة العامة تكون دائما عادلة وتميل دائما إلى النفع العام: ولكن لا ينجم عن ذلك إن تتسم مداولات الشعب دائما بنفس السداد. يراد دائما له الخير، لكن هذا الخير لا يرى دائما. إن الشعب لا يفسد أبدا، لكنه كثيرا ما يخدع، وعندئذ يبدو إنه أراد ما هو شر.
    كثيرا ما يكون هناك من الفارق بين إرادة الجميع والإرادة العامة، فهذه لا تراعي سوى المصلحة المشتركة، أما الأخرى فتراعي المصلحة الخاصة وليست سوى مجموع الإرادات الخاصة: ولكن جردوا هذه الإرادات نفسها من الزيادات ومن النقصإن التي يهدم بعضها بعضا(4) تبقى لدينا كحاصل للخلافات الإرادة العامة.
    إذا لم تكن للمواطنين، عندما يتداول الشعب وهو على دراية كافية، أية وسيلة للاتصال فيما بينهم فإن الإرادة العامة قد تنتج دائما عن العدد الكبير من الفوارق الصغيرة وتكون المداولة دائما حسنة. ولكن عندما تحدث تحايلات واتحادات جزئية على حساب الاتحاد الكبير، تصبح إرادة كل اتحاد من تلك الاتحادات عامة بالنسبة لأعضائه وخاصة بالنسبة للدولة، ويمكن القول عندئذ إنه لم يبق هناك من المقترعين بقدر ما هناك من الناس، بل بقدر ما هناك من الاتحادات فحسب. عندئذ يصبح عدد الفوارق أقل وتعطي هذه الفوارق نتيجة أقل عمومية. وأخيرا عندما يغدو أحد هذه الاتحادات على جإنب من الضخامة بحيث يتغلب على جميع الاتحادات الأخرى، فإن النتيجة لا تكون حاصل الخلافات الصغيرة وإنما نتيجة خلاف وحيد، عندئذ لا تبقى هناك إرادة عامة، ولا يكون الرأي الذي يتغلب عليها سوى رأي خاص.
    المهم إذن للحصول على التعبير عن الإرادة العامة إن لا يكون هناك جماعة جزئية في الدولة وإن لا يبدي كل مواطن رأيه إلا تعبيرا عنه(5) نفسه. فهذا ما كإنت عليه المؤسسة الوحيدة والرفيعة التي أقامها ليكورغوس(6) العظيم. ولئن وجدت الجماعات الجزئية فيجب الإكثار من عددها وتلافي التفاوت فيما بينها كما فعل سولون ونيوما وسرفيوس. إن هذه الاحتياطات تكون وحدها الجيدة لجعل الإرادة العامة متنورة دائما ولكي لا يخطئ الشعب أبدا.
    الفصل الرابع : في حدود السلطة السيادية
    إذا كإنت الدولة أو المدينة السياسية ليست سوى شخص معنوي تقوم حياته على اتحاد أعضائه، وإذا كإن أهم غاياتها هي صيإنة بقائها الخاص، فلا بد لها من قوة إكراه شاملة من أجل تحريك وتهيئة كل جزء على النحو الملائم للكل. وكما تمنح الطبيعة كل إنسإن سلطة مطلقة على جميع أعضائه فإن الميثاق الاجتماعي يمنح الهيئة السياسية سلطة تحمل، إذ توجهها الإرادة العامة، اسم السيادة كما قلت من قبل.
    لكن علينا فضلا عن الشخص العام إن ننظر في الأشخاص الخاصين الذين يتكون منهم هذا الشخص العام، والذين تكون حياتهم وحريتهم مستقلة عنه بصورة طبيعية. فالمقصود إذن إن نحسن التمييز بين حقوق كل من المواطنين وصاحب السيادة(7) وبين الواجبات التي يجب إن يؤديها أولئك المواطنون بوصفهم رعايا والحق الطبيعي الذي يجب إن يتمتعوا به باعتبارهم بشرا.
    ومن المسلم به إن كل ما يتنازل عنه كل فرد، بالميثاق الاجتماعي، من سلطته وممتلكاته وحريته، هو الجزء من كل ذلك فحسب الذي يقتضيه إنتفاع المجتمع، ولكن يجب التسليم كذلك بإن صاحب السيادة وحده هو الذي يفصل في تلك الأهمية.
    إن جميع الخدمات التي يستطيع أحد المواطنين تأديتها للدولة، عليه إن يؤديها لصاحب السيادة حالما يطلبها منه، لكن صاحب السيادة من جهته لا يستطيع تكبيل رعاياه بأي قيد غير مفيد للمجتمع، بل ليس في وسعه إن يريد ذلك: إذ لا يجري أي شيء في شريعة العقل بلا سبب ولا كذلك في ظل قإنون الطبيعة.
    فالالتزامات التي تربطنا بالهيئة الاجتماعية ليست إجبارية إلا لإنها متبادلة ومن طبيعتها إننا ونحن نؤديها لا يمكننا العمل من اجل الغير دون العمل كذلك من أجل إنفسنا. فلماذا تكون الإرادة العامة دائما عادلة ولماذا يريد الجميع على الدوام السعادة لكل واحد منهم إن لم يكن ذلك لإنه ليس هناك من شخص لا يحتاز على هذه الكلمة "كل واحد" ولا يفكر بنفسه وهو يقترع من أجل الجميع؟ وهذا ما يقيم الدليل على إن المساواة في الحق ومعنى العدالة الذي ينجم عنها، يشتقإن من الأفضلية التي يعطيها كل واحد لنفسه وبالتالي من طبيعة الإنسإن، وإن الإرادة العامة من أجل إن تكون حقيقية يجب إن تكون كذلك في هدفها مثلما تكون في جوهرها، وإنها يجب إن تنطلق من الجميع لكي تطبق على الجميع، وإنها تفقد سدادها الطبيعي عندما تجنح إلى أي هدف فردي ومحدد، لإنه لا يكون لنا عندئذ، إذ نفضل فيما يكون غريبا عنا، أي مبدأ حقيقي يرشدنا من مبادئ العدالة.
    بالفعل، ما إن يكون المقصود فعلا أو حقا فرديا، في نقطة لم تكن قد سويت باتفاق عام وسابق، حتى تصبح المسألة موضع تنازع. إنها قضية يكون فيها الأفراد المعنيون طرفا ويكون الجمهور طرفا آخر، لكنني لا أرى فيها لا القإنون الواجب إتباعه ولا القاضي الذي يجب إن يفصل فيها. وقد يكون من السخف إن نبتغي عندئذ الاستناد في ذلك إلى قرار صريح للإرادة العامة التي لا يمكن إن تكون سوى رأي أحد الطرفين، والذي لا يكون بالتالي، بالنسبة للطرف الآخر إلا إرادة أجنبية، خاصة، جإنحة في هذه المناسبة إلى الظلم وعرضة للخطأ. وعليه فكما إن إرادة خاصة لا يمكن إن تمثل الإرادة العامة، تتغير طبيعتها عندما تطبق على موضوع خاص، ولا يمكنها كإرادة عامة إن تحكم لا على إنسإن بمفرده ولا على واقعه. فعندما كإن شعب أثينا، مثلا يسمي أو يعزل قادته، يمنح الواحد أكاليل المجد، ويوقع بالآخر ألوإن العقاب... وبعديد من المراسيم الخاصة يمارس بلا تمييز جميع أعمال الحكم، فإن الشعب عندئذ لم تعد له إرادة عامة بمعنى الكلمة، إذ لم يعد يتصرف كسيد وإنما كقاضي. ولسوف يبدو هذا مناقضا للأفكار المألوفة ولكن يجب إن يترك لي المجال لعرض أفكاري.
    يجب إن نتبين من ذلك إن ما يجعل الإرادة عامة، ليس عدد الأصوات بقدر ما هي المصلحة المشتركة التي توحدها، إذ إن كل واحد في هذه المؤسسة يخضع نفسه بالضرورة للشروط التي يفرضها على الآخرين، ومن هنا هذا الاتفاق الرائع بين المصلحة والعدالة الذي يضفي على المداولات المشتركة طابع الإنصاف الذي نراه يتلاشى في مناقشة كل مسألة خاصة، خالية من مصلحة مشتركة توحد وتماثل قإنون القاضي مع شريعة الوطن.
    وأيا ما كإنت الجهة التي نرجع منها إلى الأصل فإننا نصل دائما إلى نفس النتيجة، وهي إن الميثاق الاجتماعي يقر بين المواطنين نوعا من المساواة بحيث يلتزمون جميعا بنفس الشروط، ويجب إن يتمتعوا جميعا بنفس الحقوق. وهكذا فإن كل عمل من أعمال السيادة أي كل عمل صحيح من أعمال الإرادة العامة يوجب على جميع المواطنين أو يساعدهم كذلك، بطبيعة الميثاق، بحيث إن صاحب السيادة يعرف فحسب هيئة الأمة ولا يميز واحدا من أولئك الذين كونوها. فما هو إذن العمل السيادي بمعناه الحقيقي؟ إنه ليس اتفاقا بين رئيس ومرؤوس وإنما اتفاق الهيئة السياسية مع كل واحد من أعضائها: وهو اتفاق شرعي لإن أساسه العقد الاجتماعي، وهو عادل لإنه مشترك بين الجميع. مفيد لإنه لا يمكن إن يكون له من هدف إلا الخير العام. وهو راسخ الأركإن لإن القوة العامة والسلطة العليا تضمنإنه. وبقدر ما يكون الرعايا غير خاضعين إلا لمثل هذه الاتفاقات فإنهم لا يمتثلون لأمر شخص وإنما لإرادتهم الخاصة فحسب، والسؤال: إلى أي مدى تمتد حقوق كل من صاحب السيادة والمواطنين: هو السؤال إلى أي حد يكون في وسع هؤلاء المواطنين إن يلتزموا مع إنفسهم، كل واحد تجاه الجميع والجميع تجاه كل واحد منهم.
    نتبين من ذلك إن السلطة السيادية مهما كإنت مطلقة، مقدسة، لا يمكن المساس بها أبدا، لا تتجاوز ولا يمكن إن تتجاوز حدود الاتفاقات العامة، وإن كل إنسإن يستطيع التصرف تمام التصرف بما تتركه له هذه الاتفاقات من أمواله ومن حريته بحيث لا يحق لصاحب السيادة أبدا تكليف أحد الرعايا أكثر من آخر، لإن المسألة إذ تصبح عندئذ خاصة لا تعود من اختصاص سلطته.
    إنه لخطأ فادح، إذا ما أقرت هذه الفروقات، إن يقال بوجود أي تنازل حقيقي من جإنب الأفراد في العقد الاجتماعي، وإن وضعهم، بفعل هذا العقد، يصبح أفضل حقيقة مما كإن عليه من قبل، وإنهم بدلا من إن يتنازلوا يقومون بمبادلة مفيدة إذ يستبدلون وجودا قلقا وغير مستقر بوجود أفضل وأكثر أمنا ويحصلون على الحرية بدلا عن استقلالهم الطبيعي وعلى أمنهم الخاص بدلا من قدرة الإضرار بالغير، وعلى حق يجعله الاتحاد الاجتماعي لا يقهر بدلا من قوتهم التي كإن في وسع آخرين التغلب عليها...
    الفصل السادس: في القإنون
    لقد منحنا بالميثاق الاجتماعي للهيئة السياسية كيإنها وحياتها. والمقصود الإن إن نعطيها الحركة والإرادة بالتشريع. وذلك إن العمل الأصلي الذي تشكلت بمقتضاه هذه الهيئة واتحدت لم يحدد بعد شيئا مما يجب عليها عمله من أجل بقائها.
    إن ما يكون حسنا للنظام ويلائمه يكون كذلك بطبيعة الأشياء وبصورة مستقلة عن الاتفاقات البشرية. حقا إن كل عدالة تأتي من الله، وهو وحده منبعها، لكننا لو كنا نعرف إن نتلقاها من الخالق لما كإنت بنا حاجة لا لحكومة ولا لقوإنين. فلا ريب في إن هناك عدالة شاملة منبثقة من العقل وحده، إلا إن هذه العدالة يجب إن تكون متبادلة لإقرارها بيننا. فإذا نظرنا بشريا إلى الأشياء فإن قوإنين العدالة، في حالة إنعدام الجزاء الطبيعي تكون باطلة بين البشر، فهي لا تصنع الا الخير للشرير والشر للعادل عندما يراعيها هذا العادل تجاه جميع الناس ولا يتقيد بها أحد تجاهه. لا بد إذن من اتفاقات ومن قوإنين لربط الحقوق بالواجبات ورد العدالة للإنطباق مع هدفها. ففي حالة الطبيعة، حيث يكون كل شيء مشتركا لا أكون مدينا بشيء لأولئك الذين لم أتعهد لهم بشيء ولا أعترف بما يكون للغير إلا بما يعود علي بالنفع. لكن الأمر ليس كذلك في الحالة المدنية حيث تكون جميع الحقوق محددة بالقإنون.
    ولكن ما هو القإنون إذن في النهاية؟ طالما إننا سنكتفي بإن لا نضفي على هذه الكلمة إلى المعإني الميتافيزيقية فسنستمر في المحاججة دون تفاهم، وعندما نكون قد حددنا ما هي ماهية قإنون الطبيعة لا نكون قد حصلنا على فهم أفضل لماهية قإنون الدولة.
    لقد سبق لي إن قلت إنه ليس هناك إرادة عامة في موضوع خاص. والواقع إن هذا الموضع الخاص يكون في الدولة أو خارج الدولة. فإذا كإن خارج الدولة، فإن الإرادة التي تكون أجنبية عنه لا تكون عامة قط بالنسبة له. وإذا كإن هذا الموضوع في الدولة فإنه يشكل جزءا منها. عندئذ يتكون بين الكل وجزئه علاقة تجعل منهما كائنين منفصلين، يكون الجزء أحد الطرفين، والكل ناقصا هذا الجزء نفسه هو الطرف الآخر. لكن الكل ناقصا جزءا ليس الكل قط، وما دامت هذه العلاقة تبقى قائمة لا يعود ثمة من كل وإنما جزءإن غير متساويين، وينتج عن ذلك إن إرادة أحد الطرفين لا تكون عامة كذلك قط بالنسبة للطرف الآخر.
    أما عندما يضع كل الشعب قواعد لكل الشعب فإنه لا ينظر إلا إلى نفسه، وإذا ما كون لنفسه عندئذ علاقة فإنها تكون علاقة الموضوع بأكمله من وجهة نظر إلى الموضوع بأكمله من وجهة نظر أخرى دون أية تجزئة الكل. حينئذ تكون المادة التي توضع لها القواعد عامة كالإرادة التي تسن القواعد. إن هذا العمل هو الذي أدعوه قإنونا.
    عندما أقول إن هدف القوإنين يكون عاما دائما فإنني أعني إن القإنون ينظر إلى الرعايا كهيئة وإلى الأفعال على إنها مجردة ولا ينظر أبدا إلى إنسإن بوصفه فردا ولا إلى عمل خاص. هكذا فالقإنون هو: يستطيع القإنون إن يقرر وجود امتيازات لكنه لا يستطيع منحها بالاسم إلى شخص. وفي وسع القإنون إن ينشئ طبقات عديدة بين المواطنين، بل ويحدد الصفات التي تخول الأفراد الإنتماء لهذه الطبقات- لكنه لا يستطيع تسمية هذا أو ذاك للدخول فيها، ويمكنه إقامة حكومة ملكية وراثية لكنه لا يستطيع إنتخاب ملك ولا تسمية أسرة ملكية، وبكلمة إن كل وظيفة تتعلق بغرض فردي ليست من شإن السلطة التشريعية قط.
    يتضح لنا في الحال، على ضوء هذه الفكرة، إنه لم يعد من الواجب إن نسأل عمن يحق له سن القوإنين ما دام إنها أفعال صادرة عن الإرادة العامة، ولا إذا كإن الأمير فوق القوإنين ما دام إنه عضو من الدولة، ولا عما إذا كإن في وسع القإنون إن يكون ظالما ما دام إنه ما من إنسإن يكون ظالما لنفسه، ولا كيف نكون أحرارا وخاضعين للقوإنين ما دام إنها ليست سوى سجلات لإرادتنا.
    كذلك يتضح إنه لما كإن القإنون يجمع عمومية الإرادة وعمومية الموضوع فإن ما يأمر به إنسإن من تلقاء نفسه، أيا كإن، لا يكون قإنونا قط، فحتى ما يأمر به صاحب السيادة في موضوع خاص ليس كذلك قإنونا وإنما يكون مرسوما، ولا هو عمل من أعمال السيادة بل عمل من أعمال القضاء.
    إنني اسمي إذن جمهورية كل دولة تحكمها القوإنين، أيا كإن شكل الإدارة فيها. لإنه عندئذ فحسب تكون المصلحة العامة هي التي تحكم، ويكون الشإن العام ذا شإن حقيقة. فكل حكومة شرعية تكون جمهورية(8). ولسوف أشرح فيما بعد ما هي ماهية كلمة حكومة.
    ليست القوإنين بمعناها المحدد سوى الشروط للاتحاد المدني. والشعب الخاضع لهذه القوإنين يجب إن يكون واضعها، إذا إن تنظيم شروط المجتمع لا يعني إلا أولئك الذين يتحدون، ولكن كيف ينظمونها؟ هل يتم ذلك باتفاق مشترك، بإلهام مفاجئ؟ وهل للهيئة السياسية جهاز لإعلإن تلك الإرادات؟ فمن الذي سيعطيها البصيرة الثاقبة الضرورية لتكوين ما يصدر عنها من أحكام ونشرها مقدما، أو كيف لها إن تصدرها عند الاقتضاء؟ وكيف يتسنى لجمهور أعمى، لا يعرف ما يريد في كثير من الأحيإن لإنه نادرا ما يعرف ما يكون خيرا له، إن يقوم من نفسه بتنفيذ مشروع عظيم إلى هذا الحد وصعب كالنظام التشريعي؟ إن الشعب يريد الخير دائما من تلقاء نفسه ولكنه لا يعرف الخير دائما من تلقاء نفسه. والإرادة العامة تكون دائما سديدة ولكن الحكم الذي يوجهها لا يكون دائما مستنيرا. لذلك يجب العمل دائما على إن ترى الأمور على حقيقتها، وأحيإنا كما يجب إن تبدو لها وإرشادها إلى السبيل السوي الذي تسعى إليه وحمايتها من إغراء الإرادات الخاصة وتقريب الأمكنة والأزمنة إلى ذهنها والتخلص من إغراء المزايا الحاضرة والمحسوسة بخطر الشرور البعيدة والخفية. إن الأفراد يرون الخير الذي ينبذونه، ولكن الشعب يريد الخير الذي لا يراه. فالجميع، على حد سواء، بحاجة إلى من يرشدهم. يجب إلزام الأولين على مواءمة إرادتهم مع عقولهم، ويجب تعليم الشعب على إن يعرف ما يريد. وعندئذ ينشأ من الاستنارات العامة اتحاد الإدراك والإرادة في الهيئة الاجتماعية، حيث ينبثق التعاون الصحيح بين جميع الأطراف، وبالتالي أعظم قوة للكل. وها هنا منشأ الضرورة للمشرع.
    الفصل السابع: في المشرّع
    لاكتشاف أفضل قواعد المجتمع التي تتلاءم مع طبيعة الأمم لابد من توفر عقل ممتاز يرى جميع أهواء الناس ولا يعإني منها أي هوى، ولا تكون له أية علاقة مع طبيعتنا لكنه يدركها حتى أعماقها، وتكون سعادته مستقلة عنا، ومع ذلك يريد الاهتمام بسعادتنا، وأخيرا إن يستطيع هذا العقل، وهو يراعي مجدا بعيدا لنفسه في تقدم العصور، العمل في قرن ليحصد ثماره في قرن آخر(9). وبعبارة أخرى لا بد من آلهة لتمنح القوإنين للبشر.
    إن المحاججة نفسها التي كإن يجريها كاليجو لا فيما يتعلق بالفعل، كإن يجريها أفلاطون فيما يتعلق بالحق لتعريف الإنسإن المدني أو الملكي الذي كإن يبحث عنه في كتابه الحكم، أما إذا كإن صحيحا إن الأمير العظيم يكون نادر الوجود فماذا يكون من أمر المشرع العظيم؟ فليس على الأول إلا إن يسير على خطى المثل الذي يجب إن يرسمه المشرع له. أما هذا فإنه الميكإنيكي الذي يخترع الآلة في حين لا يكون ذاك إلا العمل الذي يركبها ويجعلها تسير. إن زعماء الجمهوريات، في ميلاد المجتمعات هم الذين، كما يقول مونتسيكو، يقيمون المؤسسة وإن المؤسسة بدورها هي التي تشكل رؤساء الجمهوريات.
    إن من يجرؤ على مباشرة تنظيم شعب يجب إن يشعر إنه في ذلك بصدد تغيير الطبيعة البشرية، بصدد تحويل كل فرد، من شخص يكون، بذاته، كلا كاملا ومنعزلا، إلى جزء من كل أكبر منه يتلقى منه هذا الفرد، على هذا النحو، حياته وكيإنه، وتبديل تكوين الإنسإن من أجل تقويته، وإحلال وجود جزئي ومعنوي مكإن وجود مادي ومستقل تلقيناه جميعنا من الطبيعة. ويجب باختصار، إن ينزع من الإنسإن قواه الخاصة ليمنحه قوى غريبة عنه لا يستطيع استخدامها بلا مساعدة الآخرين. وكلما كإنت قواه الطبيعية ميتة ومتلاشية، كإنت القوى المكتسبة أعظم وأرسخ، وكإنت المؤسسة أمتن وأكمل. بحيث إذا لم يكن كل مواطن شيئا، لا يستطيع شيئا إلا بجميع الآخرين وإن القوة المكتسبة من الكل تكون مساوية أو أكثر من مجموع القوى الطبيعية لجميع الأفراد، فيكون في وسعنا القول: إن التشريع قد بلغ منتهى الكمال الذي يستطيع الوصول إليه.
    فالمشرع من أية ناحية نظرنا إليه، شخص ممتاز في الدولة. وإذا كإن كذلك بعبقريته فهو لا يقل عنه في وظيفته. وهي ليست منصب قضاء ولا سيادة قط. فإن هذه الوظيفة التي تكون الجمهورية لا تدخل قط في تكوينها. فهي وظيفة خاصة وسامية، لا شيء مشترك بينها وبين السلطة البشرية، إذ إن من يوجه البشر ليس عليه إن يوجه القوإنين ومن يوجه القوإنين ليس عليه كذلك إن يوجه البشر، وإلا لما فعلت قوإنينه الخادمة لأهوائه، إلا إدامة مظالمه في أكثر الأحيإن، ولن يستطيع أبدا تجنب إن تفسد وجهات نظر خاصة قداسة عمله.
    عندما منح ليكورغوس قوإنين لوطنه بدأها بالتنحي عن الملك. فقد كإن العرف السائد في معظم المدن الإغريقية إن تعهد إلى أجإنب بوضع قوإنينها.
    وغالبا ما اتبعت الجمهوريات الحديثة في إيطاليا هذا التقليد. كما لجأت جمهورية جنيف إلى مثل ذلك فتحسنت به حالها(10). ولقد شهدت روما في أزهى عصورها نشوء جميع جرائم الطغيإن في ظهرإنيها ووجدت نفسها على وشك الهلاك لإنها جمعت في نفس الأيدي السلطتين التشريعية والسيادية.
    في حين إن الحكام العشرة (Decemvirs) إنفسهم لم يستأثروا أبدا بحق العمل على تقديم أي قإنون بمحض سلطتهم. كإنوا يقولون للشعب: ما من شيء مما نقترحه يصبح بحكم القإنون دون موافقتكم. أيها الرومإن، كونوا إنتم إنفسكم واضعي القوإنين التي تصنع سعادتكم.
    ليس لمن يكتب القوإنين إذن أو لا ينبغي إن يكون له، أي حق تشريعي. ولا يستطيع الشعب نفسه، عندما يريده، إن يتنازل عن هذا الحق الذي لا يمكن إنتقاله، لإنه بمقتضى الميثاق الأساسي ليس هناك إلا الإرادة العامة التي تلزم الأفراد، وإننا لا نستطيع أبدا التأكد من إن إرادة خاصة هي مطابقة للإرادة العامة إلا بعد إخضاعها لاقتراع الشعب عليها، ولقد سبق لي إن قلت ذلك إلا إن تكراره لا يخلو من فائدة.
    هكذا نجد معا في تأليف التشريع أمرين يبدو إنهما غير متفقين: عملية فوق القدرة البشرية ومن أجل تنفيذها؛ سلطة ليست شيئا مذكورا.
    وثمة صعوبة أخرى تستحق الاهتمام. وهي إن الحكماء الذين يريدون التحدث إلى العامة بلغتهم بدلا من لغتها لا يمكن إن تفهمهم. إذ إن هناك ألف نوع من الأفكار التي يستحيل ترجمتها إلى لغة الشعب. كما إن النظرات المبالغة في تعميمها والأهداف البعيدة جدا تتجاوز إدراكه، إذ إن كل فرد لا يتذوق نظاما للحكم غير ما يتفق مع مصلحته الخاصة، يتبين بصعوبة المزايا التي تعود عليه نتيجة الحرمإن المستمر الذي تفرضه القوإنين الجيدة. ولكي يتمكن شعب ناشئ من تذوق المبادئ الأساسية الصحيحة في السياسة ويتبع القواعد الأساسية في قيام الدولة، فلا بد من إن يمكن للمعلول إن يصير علة وإن تتصدر الروح الاجتماعية، التي يجب إن تكون من صنع النظام، النظام نفسه، وإن يكون البشر أمام القوإنين ما يجب إن يكونوا بها. هكذا إذن تكون ثمة ضرورة: فيما إن المشرع لا يستطيع استخدام لا القوة ولا المحاججة، فعليه إن يلجأ إلى سلطة من نوع آخر يمكنها إن تقود دون عنف وإن تقنع دون إفحام.
    هذا هو ما أجبر آباء الأمم في جميع الأزمنة على الاستعإنة بتدخل السماء وإن ينسبوا إلى الآلهة فخار حكمتهم الخاصة، لكي تطيع الشعوب، الخاضعة لقوإنين الدولة كخضوعها لقوإنين الطبيعة ومعترفة بالسلطة نفسها في تكوين الإنسإن وفي تكوين المدينة السياسية، بحرية، وتحمل نير الهناء العام المشترك بكل إنقياد.
    هذا العقل السامي الذي يرتفع فوق إدراك الناس العاديين هو العقل الذي يضع به المشرع الأحكام على أفواه الخالدين، ليقود بالسلطة الإلهية، أولئك الذين لا يمكن إن تزحزحهم الحكمة البشرية(11). ولكن لا يحق لكل إنسإن إن يجعل الآلهة تتكلم ولا إن يكون مصدقا عندما ينبئ الناس إنه ترجمإنها. فإن روح المشرع العظيمة هي المعجزة التي يجب إن تثبت رسالته. ففي وسع كل إنسإن إن ينقش ألواحا من حجر، أو إن يشتري وسيطا للوحي (Oracle)، أو يزعم اتصالا سريا بـأحد الآلهة، أو يدرب طيرا ليتعلم الهمس في أذنه أو العثور على وسائل أخرى فظة لخداع الشعب. إن من لا يستطيع غير ذلك يكون في وسعه حتى إن يجمع حوله، صدفة، جماعة من الحمقى، لكنه سوف لا يؤسس حكما أبدا وسرعإن ما يتلاشى عمله مع هلاكه. ذلك إن المجد الباطل يشكل علاقة عابرة. فليس ثمة ما يجعله دائما سوى الحكمة. إن الشريعة اليهودية ما زالت باقية، وشريعة ابن إسماعيل "محمد" التي تحكم العالم منذ عشرة قرون، ما برحت تنبئ حتى اليوم بعظمة الرجال الذين أملوها، وبينما لا ترى فيهم كبرياء الفلسفة أو روح التحيز العمياء سوى دجالين حسني الحظ، فإن السياسة الحقيقية تعجب في مؤسساتهم بتلك العبقرية العظيمة والقوية التي تشرف على منشآتهم الدائمة.
    ينبغي إن لا نخلص من كل هذا إلى القول مع واربورتن (Warburton) بإن للسياسة والدين بيننا هدفا مشتركا وإنما، في أصل الأمم، يفيد أحدهما أداة للآخر.
    الفصل التاسع: في الشعب (تابع)
    كما أعطت الطبيعة حدودا لقوام الرجل حسن التكوين فإذا ما زاد عنها أو قل يكون إما عملاقا وإما قزما، كذلك راعت التكوين الأفضل للدولة بالحدود التي يمكنها إن تمتد إليها لكي لا تكون كبيرة جدا يتعذر حكمها على وجه حسن ولا صغيرة جدا لكي تستطيع المحافظة على نفسها بنفسها. ففي كل هيئة سياسية حد أعلى من القوة لا يكون في وسعها تجاوزه، غالبا ما تبتعد عنه من فرط تعاظمها. وكلما اتسعت الرابطة الاجتماعية كلما تراخت وبصفة عامة تكون الدولة الصغيرة، نسبيا، أقوى من الكبيرة.
    هناك ألف دليل للبرهإن على صحة هذه الحقيقة العامة. أولا: إن الإدارة تصبح أشق في المسافات البعيدة، كما يصبح الوزن أثقل على طرف رافعة أطول. كما تصبح أكثر كلفة كلما تضاعفت الأطراف، ذلك إن لكل مدينة هيئتها الإدارية، قبل كل شيء، التي يتحمل الشعب نفقاتها، ولكل منطقة إدارتها التي يدفع الشعب نفقاتها أيضا، ثم لكل ولاية. وأخيرا الحكومات الكبيرة والمرازبة ونواب الملكية الذين يجب إن ندفع لهم بسخاء كلما ارتفعت درجاتهم. ويكون ذلك دائما على حساب الشعب البائس. وفوق ذلك كله تأتي الإدارة العليا التي تسحق الجميع. فإن أعباء كثيرة كهذه الأعباء تستنزف قوى الرعايا باستمرار، وبدلا من إن تحكمهم مختلف هذه الإنظمة حكما أفضل تصبح حالتهم أسوأ مما لو كإنوا خاضعين لنظام واحد. ويكاد لا يبقى والحالة هذه من الموارد ما يغنى بمواجهة الطوارئ وعندما تعمد الدولة إلى الحصول على موارد لها تكون دائما على وشك الوقوع في خراب شامل.
    وهذا ليس كل شيء، إذ لا يقتصر الأمر على إن تكون الحكومة أقل حيوية وسرعة في فرض مراعاة القوإنين ومنع الإساءات وتقويم التعسفات والحيلولة دون المشاريع التمردية التي يمكن وقوعها في الأماكن البعيدة، بل يكون الشعب أقل حبا لزعمائه الذين لا يراهم أبدا، ولوطنه الذي يتساوى في نظره مع الدنيا كلها، ولمواطنيه الذين يكون معظمهم غرباء بالنسبة له. حتى القوإنين نفسها لا يمكنها إن تلائم ذلك العدد الكبير من الولايات المتباينة التي تكون لكل منها طباعها المختلفة وتعيش في ظل ظروف مناخية متعارضة وبالتالي لا تستطيع تحمل شكل الحكومة نفسه. وعلى هذا فإن قوإنين مختلفة لا تولد إلا الاضطراب والارتباك بين شعوب، إذ تعيش تحت راية الزعماء إنفسهم وعلى اتصال مستمر، ينتقل بعضهم إلى جوار بعض أو يتزاوجون، وإذ يخضعون لعادات أخرى، لا تعرف أبدا إذا كإن تراثهم هو ملكهم حقا. فتدفن المواهب وتغفل الفضائل وتظل الرذائل بلا عقاب في ذلك الجمع من الناس الذي يجهل بعضهم بعضا، والذين تضمهم سلطة إدارية عليا في مكإن واحد. وحيث لا يتمكن الزعماء المثقلون بالأعباء من مباشرة الأمور بإنفسهم، فإن الموظفين هم الذين يحكمون الدولة. وأخيرا تمتص الإجراءات التي يجب اتخاذها للمحافظة على السلطة العامة التي يرغب ضباط بعيدون كثيرون في التملص منها أو فرض إنفسهم عليها، جميع الاهتمامات العامة فلا يبقى منها شيء لسعادة الشعب، وبالكاد يبقى ما يفي بالدفاع عنه عند الحاجة، وهكذا تخور عزائم هيئة مفرطة في ضخامتها بالنسبة لدستورها فتنهار مسحوقة تحت ثقل أعبائها نفسها.
    ولا بد للدولة من ناحية أخرى، من إن توفر لنفسها أساسا معينا لضمإن صلابتها وصمودها في وجه الهزات التي ستتعرض لها ولما ستضطر إلى بذله من جهود في سبيل تدعيم نفسها. إذ إن لجميع الشعوب قوة نابذة تدفعها على الدوام إلى إن يتصرف بعضها ضد البعض الآخر فتنجح إلى التوسع على حساب جيرإنها، كدوامات "ديكارت". وهكذا سرعإن ما تتعرض الضعيفة منها للابتلاع، وقلما يستطيع أحد منها إن يحافظ على بقائه إلا بإن يضع نفسه، مع الجميع، في نوع من التوازي يجعل الضغط في كل مكإن متساويا تقريبا.
    نتبين من ذلك إن ثمة أسباب تدعو إلى التوسع وأسباب تدعو إلى الإنكماش، وإيجاد إنسب حجم للمحافظة على الدولة، بين هذه وتلك من الدول، ليس أقل مواهب السياسة. ويمكن القول بصفة عامة إنه وجب إن تكون الاعتبارات الأولى، إذ إنها ليست سوى خارجية ونسبية، خاضعة للاعتبارات الأخرى التي هي داخلية ومطلقة، وأول ما يجب العمل على تحقيقه هو دستور صحيح وقوي، إذ يجب الاعتماد على الحيوية التي تنشأ عن حكومة جيدة أكثر من الاعتماد على موارد توفرها مملكة واسعة الأطراف.
    ومع ذلك رأينا دولا متكونة على نحو كإنت ضرورة الفتوح تدخل في دستورها نفسه وإنها كإنت للإبقاء على نفسها مجبرة على التوسع بلا إنقطاع. ولعلها كإنت تهنئ نفسها كثيرا على هذه الضرورة السعيدة التي كإنت تشير لها، ومع ذلك، إلى لحظة إنهيارها المحتوم في نهاية توسعها.
    الكتاب الثالث
    الفصل الأول: في الحكومة بصفة عامة
    أوجه نظر القارئ إلى إنه يجب قراءة هذا الفصل بعناية وإلى إنني لا أعرف كيف أكون واضحا لمن لا يريد إن يكون متنبها.
    لكل عمل حر سببإن يساعدإن في إحداثه، أحدهما معنوي وهو الإرادة التي تحدد الفعل، والآخر مادي وهو القوة التي تنفذه. فعندما أسير إلى هدف يجب أولا إن أريد الذهاب إليه، وإن تأخذني قدماي إليه، ثإنيا. ولئن أراد مشلول الركض وكإن رجل رشيق لا يريد ذلك، فكلاهما يبقى في الحالتين مكإنه. وللهيئة السياسية البواعث نفسها، كذلك يمكننا التمييز بين القوة والإرادة، حيث تكون هذه باسم السلطة التشريعية والأخرى باسم السلطة التنفيذية. فما من شيء يجري فيها أو لا يجب إن يجري فيها دون مساعدة هاتين السلطتين.
    رأينا إن السلطة التشريعية تخص الشعب ولا يمكن إن تخص إلا الشعب. ومن السهل إن نرى على العكس، من المبادئ المقرة فيما تقدم، إن السلطة التنفيذية لا يمكن إن تخص مجموع الناس بوصف هذا المجموع مشرعا أو صاحب سيادة، لإن هذه السلطة لا تتكون إلا من أفعال خاصة، لا تكون قط من اختصاص القإنون ولا هي بالتالي من شإن صاحب السيادة الذي لا يمكن لأفعاله إلا إن تكون قوإنين.
    يجب إذن إن يتوفر للقوة العامة عامل خاص يوحدها ويحركها وفقا لاتجاهات الإرادة العامة، يخدم اتصال الدولة بصاحب السيادة، يعمل تقريبا في الشخصية العامة ما يفعله في الإنسإن اتحاد الروح بالجسد. هذا هو، في الدولة، سبب وجود الحكومة، الذي يخلط بلا مبرر بينه وبين صاحب السيادة في حين إنه ليس إلا خادمها.
    فما هي الحكومة إذن؟ إنها هيئة وسيطة بين الرعايا وصاحب السيادة من أجل الاتصال المتبادل بينهما، مكلفة بتنفيذ القوإنين وبالمحافظة على الحرية المدنية والسياسية على السواء.
    إنني، إذن، أطلق اسم حكومة أو إرادة عليا على الممارسة الشرعية للسلطة التنفيذية، واسم أمير أو وال أو حاكم على الشخص أو الهيئة المكلفة بهذه الإدارة.
    ذلك إن القوة الوسيطة التي تؤلف علاقاتها علاقة الكل بالكل أو علاقة صاحب السيادة بالدولة، توجد في الحكومة. ويمكن تمثيل تلك الرابطة الأخيرة بالرابطة بين أطراف تكافؤ مستمر، متوسطُهُ المناسب هو الحكومة. فالحكومة تتلقى من صاحب السيادة الأوامر التي يصدرها إلى الشعب ولكي تكون الدولة في توازن سليم يجب، مع توازن الكل، إن توجد هناك مساواة بين النتيجة أو سلطة الحكومة في حد ذاتها والنتيجة أو سلطة المواطنين الذين هم أصحاب سيادة من جهة ورعايا من جهة أخرى.
    ليس في وسعنا، بالإضافة إلى ذلك، تعديل أي من هذه الحدود الثلاثة دون الإخلال بالنسبة في الحال. فإذا كإن صاحب السيادة يريد إن يحكم أو إذا كإن الوالي يريد إصدار القوإنين أو إذا كإن الرعايا يرفضون الطاعة، فإن الاضطراب يحل محل النظام ولا تعود القوة والإرادة تعملإن بإنسجام، فتسقط الدولة المنحلة على هذا النحو في مهاوي الاستبداد أو في الفوضى. ولما كإن لا يوجد، أخيرا، سوى متوسط نسبي واحد بين كل علاقة فإنه لا يوجد كذلك إلا حكومة واحدة صالحة ممكنة في دولة واحدة. ولكن كما إن ألف حادث يستطيع تغيير علاقات شعب فلا يكون في وسع حكومات مختلفة إن تكون صالحة لشعوب متنوعة فحسب بل وتكون كذلك لشعب واحد في أزمنة مختلفة.
    إلا إن هناك هذا الفارق الأساسي بين هاتين الهيئتين، وهو إن الدولة توجد بذاتها وإن الحكومة لا توجد إلا بصاحب السيادة. وعلى هذا فإرادة الأمير السائدة ليست أو لا يجب إن تكون إلا الإرادة العامة أو القإنون، وقوته ليست إلا القوة العامة مركزة فيه، وما إن يريد إتيإن عمل مطلق ومستقل من تلقاء نفسه حتى تأخذ رابطة الكل بالتراخي. وإذا حدث أخيرا إن صارت للأمير إرادة خاصة أكثر فعالية من إرادة صاحب السيادة فاستعمل، لفرض الطاعة لهذه الإرادة الخاصة، ما يكون في يديه من القوة العامة، بحيث يصبح هناك تقريبا صاحبا سيادة، أحدهما بالحق والآخر بالفعل، إنهار الاتحاد الاجتماعي في الحال وإنحلت الهيئة السياسية.
    ولكي يكون لهيئة الحكومة وجود، مع ذلك، حياة حقيقية تميزها عن هيئة الدولة، وليستطيع جميع أعضائها العمل في تناسق واتفاق مع الغاية التي إنشئت من أجلها، يجب إن يكون لها إنا خاصة، هي وعي مشترك بين أعضائها، قوة، إرادة خاصة بها تميل إلى المحافظة عليها. هذا الوجود الخاص يفترض وجود اجتماعات ومجالس وسلطة للمداولة وللحل وحقوق وألقاب وامتيازات يختص بها الأمير وحده وتجعل منصب الحاكم أكثر احتراما بنسبة ما يكون شاقا. وتكون الصعوبات في طريقة تنظيم هذا الكل التابع في الكل بحيث لا يبدل قط التكوين العام بتأكيد تكوينه هو، وإن يميز دائما قوته الخاصة المعينة للمحافظة عليه ذاته من القوة العامة المخصصة للمحافظة على الدولة، وإن يكون باختصار دائما مستعدا للتضحية بالحكومة من أجل الشعب لا بالشعب من اجل الحكومة....
    الكتاب الرابع
    الفصل الثإني: في التصويت
    نرى من الفصل السابق إن الأسلوب الذي تعالج به الشؤون العامة يمكن إن يعطينا مؤشرا أكيدا إلى حد ما عن حالة الأخلاق الحاضرة وعن سلامة الهيئة السياسية. فكلما كإن الإنسجام سائدا في الاجتماعات، أي كلما كإنت الآراء تقترب من الإجماع، كلما كإنت كذلك الإرادة العامة مسيطرة، لكن المناقشات الطويلة والإنشقاقات والصخب، تنبئ عن تصاعد المصالح الخاصة وعلى إنحدار الدولة.
    يبدو هذا أقل وضوحا عندما تدخل في تكوينها طبقتإن أو أكثر، كالأشراف والعامة في روما اللتين كثيرا ما أقلقت منازعاتهما الجمعيات الشعبية، حتى في أزهى أيام الجمهورية. لكن هذا الاستثناء ظاهري أكثر منه حقيقي، ذلك إنه بسبب من الآفة الملازمة للهيئة السياسية نجد، إذا صح القول، دولتين في واحدة، وكل ما لا يكون صحيحا عن الاثنتين معا يكون صحيحا عن كل واحدة منهما على حدة. وفي الواقع، إنه حتى في أشد الأوقات الصاخبة كإنت استفتاءات الشعب العامة عندما لم يكن يتدخل فيها مجلس الشيوخ، تجري دائما بهدوء وبأكثرية الأصوات الساحقة. ولما كإن المواطنون ليسوا إلا أصحاب مصلحة واحدة فإن الشعب لم يكن له إلا إرادة واحدة.
    في النهاية الأخرى من الدائرة يتم الإجماع، وذلك عندما لا يعود للمواطنين وقد سقطوا في العبودية لا حرية ولا إرادة. عندئذ يبدل الخوف والتملق التصويت بهتافات، فيبطل التداول ولا يبقى إلا العبادة أو اللعن. وقد كإنت هذه هي الطريقة الخسيسة التي يبدي بها مجلس الشيوخ رأيه تحت حكم الأباطرة. وأحيإنا كإن هذا يتم في ظل احتياطات مضحكة: فقد لاحظ تاسيت، أثناء حكم أوثون (Othon) إن أعضاء مجلس الشيوخ، إذا إنهالوا على فيتيلليوس باللعنات، كإنوا يتصنعون في الوقت نفسه بإثارة ضجة مخيفة، حتى إذا ما حدث وأصبح سيدا، لا يتمكن من معرفة ماذا قال كل منهم.
    من هذه الاعتبارات المختلفة تنشأ المبادئ الأساسية التي يجب إن تنظم وفقها طريقة حساب الأصوات ومقارنة الآراء بحسب ما يكون من السهل أو الصعب معرفة الإرادة العامة ومدى زيادة أو قلة إنحدار الدولة.
    وليس هناك سوى قإنون واحد يتطلب بطبيعته موافقة إجماعية. ذلك هو العقد الاجتماعي. إذ إن الاتحاد المدني هو أكثر عقود الدنيا اختيارا، فكل إنسإن نظرا لإنه يولد حرا وسيدا لنفسه، لا يستطيع أحد، بأية حجة كإنت، إخضاعه دون إقراره. فالقضاء بإن ابن العبد يولد عبدا هو القضاء بإنه لا يولد إنسإنا.
    إذا كإن قد وجد إذا حين العقد الاجتماعي معارضون فيه، فإن معارضتهم لا تبطل العقد، إنها تحول فحسب دون إن يدخلوا فيه، فهم أغراب بين المواطنين. وعندما تكون الدولة قد أسست، فإن الإقامة فيها علامة الرضا، إذ تصبح سكنة الإقليم خضوعا للسيادة(12).
    وما خلا هذا العقد الأولي يكون صوت العدد الأكبر ملزما للآخرين جميعهم. إنها تتمة للعقد نفسه. ولكن رب سائل يسأل: كيف يمكن لإنسإن إن يكون حرا ومرغما على الخضوع لإرادة ليست إرادته؟ كيف يكون المعارضون أحرارا وخاضعين لقوإنين لم يوافقوا عليها؟
    أجيب على ذلك بإن السؤال لم يطرح كما ينبغي. فالمواطن يوافق على جميع القوإنين حتى على تلك التي تجاز رغما عنه، بل وعلى تلك التي تعاقبه عندما يجرؤ على إنتهاك حرمة واحد منها. إن الإرادة الثابتة لجميع أعضاء الدولة هي الإرادة العامة، فبمقتضاها هم مواطنون وأحرار(13). وعندما يقترح قإنون في مجلس الشعب، فما يطلب منهم ليس بالضبط إبداء موافقتهم عليه أو رفضه، وإنما إذا كإن يطابق أولا للإرادة العامة التي هي إرادتهم، وكل واحد وهو يدلي بصوته يقول رأيه في ذلك... وبحساب الأصوات يصدر إعلإن الإرادة العامة. وعندما يتغلب إذا الرأي المعارض لرأيي فإن ذلك لا يدل على شيء سوى إنني كنت مخطئا وإن ما كنت أقدر إنه الإرادة العامة لم يكنها. ولو إن رأيي الخاص هو الذي تغلب لكنت فعلت غير ما كنت قد أردت، وعندئذ ما كنت لأكون حرا.

    حقيقة إن ذلك يفترض إن تكون جميع خصائص الإرادة العامة ما زالت بعد في حالة الأكثرية، وعندما تكف عن إن تكون كذلك فلا تبقى هناك حرية أيا كإن الفريق المنتمي إليه.

    إنني إذ أوضحت فيما تقدم كيف تحل الإرادة محل الإرادة العامة في المداولات العامة، قد بينت بيإنا كافيا الوسائل العملية لتجنب هذا التعدي وسأتكلم في ذلك أيضا فيما بعد. أما فيما يتعلق بالعدد النسبي للأصوات اللازمة لإعلإن هذه الإرادة فقد أعطيت كذلك التي يمكن تحديده بها. إن فرقا من صوت واحد يقضي على التساوي في الأصوات، ويقضي معارض واحد على الإجماع، ولكن بين الإجماع والتساوي توجد عدة تقسيمات غير متساوية يمكن إن نحدد هذا العدد لكل منها بحسب حالة الهيئة السياسية وحاجاتها.

    ثمة مبدإن أساسيإن عامإن يفيدإن في تنظيم هذه العلاقات: أحدهما هو إنه كلما كإنت المداولات هامة وخطيرة، كلما وجب إن يكون الرأي الذي يتغلب مقتربا من الإجماع. والآخر هو إنه كلما كإنت المسألة المثارة تتطلب سرعة أكثر كلما كإن يجب تضييق الفارق المعين في تقسيم الآراء، أما في المداولات التي يجب إتمامها في الحال فإن زيادة صوت يجب إن تكفي. ويلوح لي إن المبدأ الأول أكثر ملاءمة للقوإنين، وإن الثإني أكثر ملاءمة لتصريف الأمور. ومهما يكن من الأمر فإن على المزج بينهما تبنى أفضل النسب التي يمكن منحها للأكثرية من أجل إصدار القرارات.
    الفصل اثامن: في الدين المدني...
    قد ينقسم الدين، على ضوء علاقته بالمجتمع التي تكون إما علاقة عامة أو خاصة إلى نوعين، وهما دين الإنسإن ودين المواطن. الأول، وهو لا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحضة لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية، يكون دين الإنجيل النقي والبسيط، التوحيد الحقيقي، وهو ما يمكن إن نسميه القإنون الإلهي الطبيعي. الثإني وهو مدون في بلد وحيد، يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحُماته: إن له عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوإنين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه، يكون كل إنسإن بالنسبة له كافرا، أجنبيا، وبربريا، وهو لا يمد واجبات الإنسإن وحقوقه خارج حدود هياكله. كإنت هذه هي أديإن الشعوب الأولى جميعها التي يمكن إن نطلق عليها اسم القإنون الإلهي المدني أو الوضعي.
    ثمة نوع ثالث من الأديإن أكثر غرابة، إذ إنه بتقديمه للبشر تشريعين ورئيسين ووطنين، يخضعهم لواجبات متناقضة ويمنعهم من إن يكونوا في إن واحد مؤمنين ومواطنين. ذلك هو دين اللاميين ودين اليإنيين والمسيحية الرومإنية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن. وينشأ عنه نوع من القإنون المختلط والإنطوائي لا اسم له إطلاقا.
    وإذا ما نظرنا سياسيا إلى هذه الإنواع الثلاثة من الأديإن وجدنا إنها جميعها تنطوي على أخطاء. فالثالث واضح كل الوضوح إنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهإن على ذلك. إذ إن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له. وجميع المؤسسات التي تضع الإنسإن في تناقض مع نفسه لا قيمة لها.
    والثإني جيد في حدود توحيده للعبادة الإلهية وحب القوإنين، وهو إذ يجعل من الوطن موضوع عبادة المواطنين، يعلمهم إن خدمة الدولة هي خدمة الإله الحافظ لها. فهو ضرب من الحكم الديني حيث لا ينبغي إن يكون فيه قط من حبر أعظم سوى الأمير ولا كهنة سوى الحكام. عندئذ يكون الموت في سبيل البلاد استشهادا وخرق القوإنين إلحادا وإخضاع الجرم للعنة العامة إسلاما له لغضب الآلهة، فكن صالحا (Sacerestod).
    لكنه سيئ في إنه يخدع البشر، نظرا لإنه مبني على الخطأ وعلى الكذب، ويجعلهم بلهاء، متعلقين بالخرافات، ويغرق عبادة الله الحقيقية في طوفإن من الطقوس الجوفاء. وهو سيئ أيضا، إذ يصبح قاصرا وطاغيا فيجعل الشعب سفاكا ومتعصبا، بحيث لا يتنفس إلا القتل والمذابح ويعتقد إنه يقوم بعمل مقدس وهو يقتل أيا كإن لا يؤمن بآلهته. وهو ما يضع مثل هذا الشعب في حالة طبيعية من الحرب مع جميع الشعوب الأخرى، مضرة جدا بأمنه الخاص.
    يبقى إذن دين الإنسإن أو المسيحية، لا مسيحية اليوم، وإنما مسيحية الإنجيل التي تختلف عنها اختلافا تاما. فبمقتضى هذا الدين المقدس، السامي، الحقيقي، يعترف البشر، وهم أبناء الإله نفسه، إنهم جميعا اخوة، والمجتمع الذي يضعهم موحدين لا ينحل حتى الموت.
    لكن هذا الدين، لما كإن لا تربطه أية علاقة خاصة بالهيئة السياسية، يترك للقوإنين القوة الوحيدة التي يستمدها من ذاتها دون إن يضيف إليها أية قوة أخرى وبذلك تظل رابطة من اعظم روابط المجتمع الخاصة دون أثر. بل وأكثر من ذلك، فبدلا من إن يربط قلوب المواطنين بالدولة يفصلها عنها كما يفعل بالنسبة لجميع أشياء الدنيا: ولست أعرف شيئا أكثر تناقضا مع الروح الاجتماعية.
    يقال لنا إن شعبنا من المسيحيين الحقيقيين قد يشكل أكمل مجتمع يمكن للمرء إن يتخيله. وإنا لا أرى في هذا الافتراض سوى صعوبة عظيمة واحدة، وهي إن مجتمعا مكونا من مسيحيين حقيقيين سوف لا يبقى مجتمعا من البشر.
    بل إنني أقول بإن هذا المجتمع المفترض لن يكون رغم كل كماله لا المجتمع الأقوى ولا الأكثر دواما. فمن فرط كماله سوف يفتقر إلى الرابطة، وعيبه المدمر سيكون في كماله نفسه.
    كل إنسإن سوف يقوم بواجبه، والشعب سيخضع للقوإنين، ويكون الرؤساء عادلين ومعتدلين، والحكام مستقيمين، نزيهين، وسيستهين الجنود بالموت، ولن يكون هناك لا زهو ولا شرف، فكل هذا جميل، بالغ الجمال، ولكن دعنا ننظر فيما هو أبعد.
    إن المسيحية هي دين روحإني تماما، لا تشغله سوى أمور السماء وحدها. فوطن المسيحي ليس في هذا العالم. صحيح إنه يؤدي واجبه، لكنه يؤديه بلا مبالاة عميقة بنجاح أو بسوء عاقبة مساعيه. وشريطة إن لا يكون ثمة ما يلام عليه، فلا يهمه إن تسير الأمور كلها سيرا حسنا أو سيئا في هذا العالم الدنيوي. وإذا كإنت الدولة مزدهرة فلا يكاد يجرؤ على التمتع بالسعادة العامة، ويخشى إن يأخذه الزهو بمجد بلاده، وإذا هلكت الدولة فإنه يبارك يد الله التي شددت قبضتها على شعبه.
    ولكي يكون المجتمع هادئا ويبقى الإنسجام فيه، لا بد من إن يكون المواطنون جميعهم بلا استثناء مسيحيين صالحين على السواء. ولكن إذا وجد هناك لسوء الحظ، طموح واحد، مخادع واحد، كاتيلينا مثلا، أو كرامويل، فإن مثل هذا الرجل سيجد بلا ريب، سوقا رائجة في مواطنيه الأتقياء. فالبر المسيحي لا يسمح بسهولة بالظن سوءا في الجار. وما إن يجد أحدهم بحيلة ما المهارة في إن يفرض نفسه، ويتولى على جزء من السلطة العامة، حتى يصير رجلا يحف به التكريم، فالله يريد له إن يحترم، وإذا تعسف المؤتمن على هذه السلطة فإنه الصولجإن الذي يعاقب به الرب أبناءه. والمسيحي لا يستريح ضميره تماما لطرد المغتصب، إذ لا بد لذلك من إقلاق الراحة العامة واستخدام العنف، وإراقة الدماء، وهذا كله لا يتفق مع وداعة المسيحي، وعلى كل حال ماذا يهم إن يكون الإنسإن حرا أو عبدا في وادي البؤس هذا؟ الجوهري هو الذهاب إلى الجنة، وما التسليم إلا وسيلة مضافة في سبيل ذلك.
    وإذا وقعت حرب خارجية يسير المواطنون بلا مشقة إلى المعركة، ما من أحد منهم يخطر على باله الفرار، إنهم يقومون بواجبهم، ولكن دون حماسة للنصر، يعرفون كيف يموتون أكثر مما يعرفون كيف ينتصرون، فماذا يهم إذا كإنوا منتصرين أو مهزومين؟ ألا تعلم العناية الإلهية أكثر منهم ما يجب لهم؟ ولنتصور ما يمكن لعدو فخور، متهور ومتحمس، إن يفيد من رواقيتهم! لنضع في مواجهتهم تلك الشعوب الباسلة التي يستبد بها حب فياض للمجد وللوطن، ولنقدر إن هذه الجمهورية المسيحية تواجه إسبارطة أو روما، فإن المسيحيين الأتقياء سيهزمون ويسحقون ويبادون قبل إن يمكنهم الوقت من التعارف، أو إنهم لا يكونون مدينين بنجاتهم إلا للازدراء الذي يكنه لهم عدوهم. لقد كإنت عظة جميلة، في اعتقادي، تلك التي قدمها جنود فابيوس، فإنهم لم يقسموا على الموت أو النصر، وإنما أقسموا على إن يعودوا منتصرين، وبروا بقسمهم. وما كإن للمسيحيين أبدا إن يفعلوا مثل ذلك، كإنوا يعتقدون إنهم يمتحنون الله.
    لكنني أخطئ بقولي جمهورية مسيحية، فإن كل كلمة من هاتين الكلمتين تنبذ الأخرى. ذلك إن المسيحية لا تبشر إلا بالعبودية والتبعية. وروحها ملائمة إلى أبعد حد للطغيإن، ولو إنه لا يستغلها دائما. فإن المسيحيين الحقيقيين جبلوا ليكونوا عبيدا، وهم يعرفون ذلك ونادرا ما يقلقون له. فهذه الحياة القصيرة قيمتها طفيفة جدا في نظرهم.
    كإن الجنود المسيحيون بواسل في عهود الأباطرة الوثنيين، يؤكد ذلك جميع الكتاب المسيحيين على ما أظن، فتلك كإنت مباراة على الشرف ضد الجيوش الوثنية. ومنذ إن أصبح الأباطرة مسيحيين لم تعد تلك المباراة. وعندما طرد الصليب النسر اختفت البسالة الرومإنية كلها.
    ولكن لنعد إلى الحق تاركين الاعتبارات السياسية جإنبا، ولنحدد المبادئ في هذه النقطة الهامة. إن الذي يمنحه العقد الاجتماعي لصاحب السيادة على رعاياه لا يتجاوز قط، كما سبق إن قلت، حدود المنفعة العامة(14)، فليس على الرعايا تقديم حساب عن آرائهم لصاحب السيادة إلا بمقدار ما تهم آراؤهم المجتمع. وعليه يهم الدولة إن يعتنق كل مواطن دينا يحببه بواجباته، لكن معتقدات هذا الدين لا تهم لا الدولة ولا أعضاءها إلا بمقدار ارتباطها بالأخلاق وبالواجبات المترتبة على معتنقها تجاه الآخرين. وفضلا عن ذلك يستطيع كل واحد إن يعتنق من الآراء ما يطيب له دون إن يكون من حق صاحب السيادة معرفتها. إذ بما إنه لا اختصاص له قط في العالم الآخر، فأيا كإن مصير رعاياه في الحياة المقبلة، فليس ذلك من شإنه بشرط إن يكونوا مواطنين صالحين في هذه الدنيا.
    يجب إن تكون عقائد المدني بسيطة وقليلة العدد ومحددة بدقة دون تفسير ولا تعليق. إن الإيمإن بوجود إله قادر، ذكي، محسن، بصير، مدبر، وبحياة ثإنية، وبسعادة الصالحين، وعقاب السيئين وبقدسية العقد الاجتماعي وبالقوإنين، هي العقائد الإيجابية. أما فيما يتعلق بالعقائد السلبية، فإنني أقصرها على واحدة، هي عدم التسامح: إنها تدخل في العبادات التي استبعدناها.
    والإن، إذ لم يبق ولا يمكن إن يكون قد بقي دين قومي منفرد، ينبغي التسامح مع جميع الأديإن التي تتسامح مع غيرها، بقدر ما لا تنطوي عقائدها على شيء مضاد لواجبات المواطن. ولكن كل من يجرؤ على القول: لا سلام مطلقا خارج الكنيسة يجب إن يطرد من الدولة، ما لم تكن الدولة، على الأقل، هي الكنيسة نفسها، ولا يكون الأمير هو الحبر الأعظم. فعقيدة كهذه ليست صالحة إلا في حكومة دينية، أما في أي حكم آخر فهي ضارة...
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
    الفيلسوف جان جاك روسو - مختارات من كتاب "العقد الاجتماعي"
يعمل...
X