إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفتاة والبحر - قصة - حسنة محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفتاة والبحر - قصة - حسنة محمود

    الفتاة والبحر
    قصة
    حسنة محمود

    وقفت أتأمل البحر عند الغروب، فهبت عليّ أنفاس باردة، وكأنه الغروب الأخير. خفق قلبي وارتعشت أوصالي وتلاحقت الرعشات حتى حسبت وكأنني سمعت صرخة ثاقبة من سكون الغروب، انخلع قلبي لها ، فأدركت بأن البحر يزجرني، ويستخف بضعفي وترددي، يحاول أن يعلمني سراً ، جهلته من قبل وفي زحمة الأحداث. كانت نسيمات البحر تلاطف وجهي بحنان ومويجاته الغربية الرقيقة تدعواني إلى الدخول في الماء الدافئ وأحضان البحر الحنونة، لاستمتع بدفء الماء، وعذوبته، وفي كل مرة أبرر ترددي وخوفي، وهزيمتي، أمام نفسي لا أستطيع.. أخاف الماء.. ربما أغرق في البحر.. لا أقدر أن أفعل شيئاً..! وكأنني كنت أرد على تلك النسيمات والمويجات .. كنت صغيرة عندما استقبلتموني لأول مرة ، وكان جسدي غضاً، يحب مياه البحر، وأحاديث السمر، وكان البحر صديقي حينها، كنت أحب الحياة والبحر. فلطمتني مويجة أكثر خشونة معاتبة : لازال أمامك العمر والشّباب، عيشي حياتك وتفاءلي بما لم يأت بعد.
    ضحكت في سري وقلت : الشباب.. ! ؟ أي شباب ؟ ! وأنا في السبعين من عمري، تجاوزت خريف العمر، وزيّن ثلج الشتاء رأسي. جلست منهكة القوى، وكأني خضت الحربين الكبيرتين، وأستعد للثالثة، وكأنّ كلّ شيء حولي يدعوني للعودة إلى الحياة ومسح سواد الليالي، ورؤية الفصول الأربعة كما هي، والليل والنهار، والجانب المشرق من الحياة.
    حاولت أن أقنع نفسي : ربما أستطيع أن أخرج من حزني، ومن سجني، أبعث في الرماد ناراً متوهجة،أشعل الشموع الملونة. تحسست الظواهر المحيطة، بي لعلي أستفيد منها في حياتي. فسحرتني تلك الصخرة البيضاء على الشاطئ، كم تلقت من لطمات البحر والموج، وبقيت صامدة على مر العصور، وفي كلّ مرّة تبدو أكثر إشراقاً وابتهاجاً، وكأنها فتاة جميلة خرجت لتوها من حمام عرسها، حتى أصبح تلاطم الأمواج نوعاً من الدغدغة الخجولة.
    وتلك الغيمة الصغيرة الرقيقة التي تعبر فوق البحر، دون أن تخشى يوماً ضخامته وهيجانه، لم يساورها القلق أن تسقط فيه، بل على العكس كانت تنظر إليه بإعجاب تحاول أن تستفيد من فائض مائه لتزيد من حجمها قليلاً، ويكون عطاؤها أكبر.
    ثم عدت بذاكرتي التي أوشكت أن تتلاشى فيها الصور الجميلة إلى قريتي التي تغفو على سفح ذلك الجبل الأشم، وكأنها طفلة ترقد في حضن جدها بدلال.
    ولشد ما أدهشني عند حدودها تلك الشجرة اليافعة، المترسخة جذورها في الأرض، كيف بقيت شامخة باسقة على مر الزمان، كانت تتمايل مع الرّياح بدلال، ثم تنتصب بقوة نحو السماء، وكأنها بصمودها تهزأ بكلّ المحتلين، والطغاة، الذين مروا على تلك القرية الوادعة قائلة : سترحلون أيها الأقزام، وأنتم تجرون أذيال الخيبة، والعار، والهزيمة، أما نحن باقون، فجذورنا عميقة في أرضنا، وكلما قطعتم غصناً، نمت فروع كثيرة وفي كل الاتجاهات، حتى أصبحت تلك الشجرة الرمز محطة يتفيأ بظلها المارة.
    عندها نظرت إلى كل الجموع على الشاطئ وتساءلت : هل جميع هؤلاء سعداء ؟ أم أنهم جاؤوا مثلي ؟ كي يلقوا ما في صدورهم في خضم هذا البحر، ليغسل قلوبهم قبل أن يغسل أجسامهم، فنظرت إلى البحر، وكأنني اخترق الأفق الرحب، والمدى اللامتناهي لأعوض ما فاتني، ولوّحت للبحر مودعة، وعدت أدارجي الملم ما ضاع مني.
    = - = - =
    الفتاة والبحر - قصة - حسنة محمود
يعمل...
X