إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

قصة ممر الأيام - للقاس الطاهر وطّار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قصة ممر الأيام - للقاس الطاهر وطّار

    الطاهر وطّار

    قصص
    الشهداء يعودون
    الطاحونة
    ممر الأيام
    رقصات الأسى
    قصة ممر الأيام - للقاس الطاهر وطّار



    ممر الأيام
    ابتسامة واحدة فقط.. كانت كفيلة بأن تجعل كل الأحكام التي أصدرها على الأيام, وعلى الحياة عرضة للخطر. ولئن كان لم يراجعها, ويتثبت منها, فإن احمرار وجهه في اليومين الأخيرين, وحركاته النشيطة, الكثيرة, ودخوله وخروجه, إلى غرفته على غير عادة.. واعتناءه بالنافذتين, ينفض عنهما غبار الأيام بين الفينة والأخرى, بل وحتى عناوين المسرحيات التي تتراقص في ذهنه باستمرار.. كل ذلك يُشعر من يعرف (عبد الستار) بالتبدل العميق الذي طرأ عليه, وبأن فلسفته التي يقول عنها إنها فلسفة كل شاب عربي في خطر, إن لم يجزم بأنها انهارت بالفعل, ويأسف لذلك إن كان ممن يقرون بصحتها ويقاسمونه إياها.
    ***

    انفصل عبد الستار عن عائلته لخلاف جوهري عميق, بينه وبين زوج أبيه. واكترى غرفة تقع في أقصى حي من المدينة ذات مدخل فسيح يشبه غرفة ثانوية, أو قاعة, يحتج به عبد الستار حين يسمي غرفته بالدار; فيعارضه أحد.. وذات نافذتين إحداهما في المدخل والأخرى في الغرفة التي سار في تأثيثها على منوال تلامذة الآفاق الزيتونيين, الذين يقطنون (المدارس) أو (الوكالات). سرير خشبي بنصف دينار! وفراش بسيط, وحقيبته التي خرج بها من دار أبيه, ومنضدة حديدية مستديرة ومقعد, أنسى فيهما صاحب المقهى الذي استعارهما منه.
    ومنذ القطيعة بين عبد الستار ودار أبيه أنهي مشكل التعليم فانقطع عنه غير آسف على شهادة التحصيل التي لم يبق إلا شهران عن موعد الامتحان فيها وانشغل بكتابة المسرحيات الإذاعية, يتقاضى منها, إن صادف وأذيعت باسمه, مبلغًا لا بأس به, يكفي (...) لتسديد ما ترتب في ذمته من دين لدى (العطار) ليستأنف تناول السجائر. ومقتضيات طهي طعامه الخفيف, على الحساب.
    وليس من المستبعد أن يكون عبد الستار قد حاول المرات العديدة أن يربط علاقة بإحدى الفتيات, قبل أن يغلق ذلك الباب إغلاقا مبرما.. ويصبح من الذين يسميهم (بالمتخلفين غراميا). يستاء ويثور إذا ما ذكرت أمامه لفظة الشباب, أو الحيوية, أو الحب, ويعيد على أصدقائه الذين يجتمعون عنده ليلة في كل أسبوع رأيه المعروف: لا شباب في العالم العربي. وليس للعربي من أطوار سوى طور الطفولة الذي لا مسؤولية فيه. وطور الكهولة والشيخوخة حيث المسؤولية, وتبعات الحياة والبقاء, وانتظار النهاية التي ليس منها بد. وينفعل في كل مرة إلى أن ينتهي به الأمر بجرح عواطفهم فيتهمهم بالكذب على أنفسهم, وبالزيف, وأنهم بأوهامهم يضيفون إلى ركود المجتمع ركودا, وإلى تأخره تأخرا وانحطاطا. وكثيرا ما يؤول الأمر إلى مغادرة البعض الجلسة خاصة حين يطلب منهم أن يثبتوا له من منهم عاش يوما لا يشبه بقية أيامه الماضية, ومن منهم ليس في انتظار يوم ما, يكون نهاية للأيام الطويلة التي تمر وكأنها جدران لممر ضيق نتن قذر لا مفر للمرء منه يسير فيه حتما إلى حيث لا يدري. يوم يكون ثغرة يفلت منها المرء إلى العالم الذي يسمع ويقرأ عنه, ويحلم به في يقظته ونومه. ومرت سنوات على هذه الوتيرة, لم يتغير فيها شيء بالنسبة لعبد الستار. اليوم كالأمس, والغد كاليوم وكالأمس. الأيام جدران كثيفة تحصر ممرا ضيقا نتنا قذرا, لا نهاية له. الإنسان العربي لا يعرف طور الشباب...
    ولو أن دخله ارتفع إلى مستوى يمكنه من تناول الطعام في المطاعم ومن تدخين سقائر أرقى من (الحلوزي) (والأرتي) ومن اشتراء قطعة جديدة من الثياب لائقة في كل شهرين تقريبا.
    لكن هذه الأيام...
    ***

    ابتسامة واحدة فقط كانت كفيلة بأن تجعل كل الأحكام التي أصدرها على الأيام والحياة في خطر. فقد استيقظ ذات يوم كالعادة متأخرا. وأبعد عن فراشه (... ) أوراق الفصل الثالث من مسرحية (الثلوج المتراكمة) التي يكتبها, والقلم والشمعة التي تركها مشتعلة حتى أتت على نفسها. نظر إلى ساعته يتعرف الوقت فوجدها قد توقفت في الساعة الواحدة. وبعد جهد حمل نفسه على النهوض, ففتح النافذة آملا أن يمر أحد يسأله عن الوقت, فإن لم تمض الساعة الحادية عشرة, أسرع ليلتحق بالمسرح حيث تواعد مع مدير إحدى الجمعيات التمثيلية.
    وربما هي المرة الأولى التي يرفع فيها رأسه إلى العلو المقابل, حيث التقت عيناه بعينين غسقيتين, تبعثان القشعريرة في الجسد. ولم يصدق عينيه حين انفرجت شفتان عذبتان رقيقتان, عن ابتسامة محتشمة, فأمد عنقه, وأدار رأسه ذات اليمين وذات الشمال; فقد يكون هنالك أحد غيره ابتسمت له. ولكن لا, إنها تبتسم له, هو بالذات. أعاد النظر إليها مرة ثانية, كانت لا تتجاوز, على أكثر تقدير, الثامنة عشر من عمرها, سمراء ربعة القدّ, دقيقة الخصر, ساحرة حقا, وفاتنة مثيرة.
    حاول أن يرد التحية بأحسن منها, ولو أنه يجد في ذلك مشقة وعناء أكثر مما يجدهما حين يحمل نفسه على النهوض من مضجعه. لكنها داعبت شعرها بيدها اللطيفة, وولت إلى الخلف في رشاقة ودلال, ليظل بصره عالقا بالنافذة لحظات, شارد الذهن, مشتت الأفكار. أين كانت? ترى هل هي تقطن ها هنا منذ زمن بعيد ? وهل إنها كانت تطل عليه, متوسلة بعينيها الغسقيتين, وهو خارج, أو داخل, ليرفع رأسه? أين كانت طيلة هذه المدة...?
    أيكون اليأس المستولي عليه هو الذي جعله يترك ببساطة شبابه يفلت منه..? أيكون هذا هو الداء العضال الذي جعل الإنسان العربي لا يعرف طور الشباب? كم هو قاتل اليأس! مسكينة! لا شك أنها تقضي أوقاتا طويلة في انتظاري, وأنها هي أيضا تتخبط في أمواج اليأس, إلا أنها لم تستسلم له بعد, كما يبدو! ولعل ذلك, لأنها لا شغل لها تصرف فيه طاقتها...
    يا لي من فاشل مستسلم, بل يا لنا, فالماء مبذول لشاربه ونحن نحتضر ظمأ...
    دار كل هذا في رأسه قبل أن يترك النافذة. دون أن ينتظرها, ارتدى ثيابه بسرعة, وغسل أطرافه ومرق كالسهم, كله نشاط وأمل وحبور. وعلى غير عادته, ما أن تقابل مع مدير الجمعية التمثيلية بالمسرح, وأمضى العقد, وتسلم تسبقة على مسرحية قدمها له, حتى عاد إلى غرفته, وأشبعها تنظيفا وجيئة وذهابا. وحس بالهواء خانقا, فعجب من نفسه كيف كان يعيش في هذا الجو, ففتح النافذتين على مصراعيهما, وجلس وراء النافذة المشرفة على علو الجيران, وحمل القلم والفصل الثالث.. ينظر نظرة إلى الورقة أمامه وعشرا إلى النافذة.. علّها تعود, ويحدث نفسه بين الفينة والأخرى بأنها عائدة لاشك.
    إن لابتساماتها معنى صريحا, لو كنت من الخبراء في هذا الميدان, لاكتشفت أسرارا تخفيها. ويقين أنها ستطل لأول فرصة تجدها, وأنها تفكر في أكثر مما أفكر فيها. وشعر كأنما تيار كهربائي يسري في جسده, وبالمقعد تحته يهتز, حين التقت عيناهما, في لهفة وظمأ. لم يعُد إليه هدوؤه إلا بعد عناء وجهد, فرفع يده إلى شفتيه يرسل لها قَبلا. وانطلق حين ردت عليه بأحسن من تحيته, فتلمست شفتيها ثم قلبها وأرسلت زفرة حارة تحرك لها نهداها المنتصبان على صدرها ينذران بالخطر. وأشار لها بيده, ما إذا كان في إمكانها أن تقابله, فرفعت حاجبيها.. أنْ يا ليْت. وقال لها هل تستطيع أن تخرج معه? فأعادت بحاجبيها: يا ليْت...
    وفجأة التفتت وراءها, ثم أنذرته وتوارت.
    ***

    لم يعر عبد الستار أدنى اهتمام, لما قالته عيناها: يا ليت.. وانغمس في الحبور, والسرور, طالقًا العنان لمخيلته, ترسم ما تشاء من الأماني والآمال, وتشيد ما حلا لها من قصور السعادة والهناء والانطلاق: ستتبدل الحياة غير الحياة, وستتحول الأيام التي كانت تمرّ وكأنها صخور لجدارين يحصران ممرا ضيقا نتنا قذرا لا منتهى له. سيصبح كل يوم عالمًا بذاته, زاخرًا بالجديد, وطورًا من أطوار الشباب لا ينتهي, وحاجزًا قائمًا في وجه الكهولة والشيخوخة لا ممرًّا يفضى إليهما... ولشدة ما نسي نفسه وفلسفته, راح يتساءل:
    - ياللّه ! ما الذي يمنع الإنسان العربي من ممارسة شبابه? الماء مبذول لشاربه, ونحن نحتضر ظمأ: لماذا?
    وبالرغم من أنه لم يتناول خمرًا, ولم ينم أكثر من ست ساعات كل ليلة, فإن الأيام الثلاثة التي مرت.. لم يدر كيف مرت. وكل يوم كأنه إغفاءة لذيذة, يحييها فتحييه, يرسل إليها قبلة, فتقذفه بعشر.. يعانقها من بعيد فتعانقه.. وسرعان ما عرف عنها الكثير. اسمها (وردة), يتيمة الأم مثله, أبوها يشغل منصب (كوميسار) والذي يهمه أن يعرفه عنها, هو أنها أحبته من زمن بعيد.
    حتى كان اليوم الرابع.
    أطلت عليه كئيبة, يبدو على عينيها خيط أسود.. جعله يدرك للوهلة الأولى أنهما لم تغمضا طيلة ليلة البارحة, وأن دموعا غزيرة انهمرت منهما.
    وقبل أن يستفسرها عما بها, ألقت برسالة تحت نافذته, فأسرع, وبأصابع مرتجفة, تمسك للمرة الأولى رسالة كتبتها أنثى, التقطها, وعاد إلى مكانه, يلتهم سطورها التهاما:
    عزيزي عبد الستار, كم كنت أتوسل إلى اللّه ألا يجعل بداية حبنا نهاية لمأساة.. وأن يجعله يشذ عن حب الآخرين! وكم كنت أود لو أننا اتصلنا ببعضنا قبل الآن, بل كم أعاتب نفسي وأحنق عليها, لأني لم ألفت نظرك قبل اليوم, وخانتني شجاعتي في ذلك. والحق أنني كنت مستسلمة إلى الأيام تجرني في ممرها إلى النهاية التي ينتهي عندها...
    عزيزي (عبد الستار), البارحة, وقبل أن أنام, أستغفر اللّه, قبل أن آوي إلى مخدعي, قدمت لي زوج أبي صورة لشاب, قائلة: إن أباك يكون مسرورًا, إذا ما وافقت على الزواج منه... إنني لم أعطها الرد الحاسم, إذ أنني أثق سلفًا أنه عند أبي الفظ.. هل لديك أنت من حل ياعزيزي?
    وأحرّ قبلاتى في الختام. المتألمة: وردة.
    رفع رأسه إثر انتهائه من تلاوة الرسالة, فوجدها تنظر إليه وفي عينيها تتلألأ دمعتان, وبصوت متهدج, مختنق, ملؤه اليأس والقنوط قال لها:
    - ليس كلانا في الممر مادام ليس في وسعه أن يفلت من قبضته. أجيبي أباك بالإيجاب, أما أنا فإنني سأرتحل عما قريب..
    ثم أغلق النافذة, وتناول (...) الفصل الثالث من مسرحية (الثلوج المتراكمة) واسترسل بعزيمة الدهر... .

يعمل...
X