إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

القطة الشجاعة وزوجة الطحان - قصة - حسنة محمود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القطة الشجاعة وزوجة الطحان - قصة - حسنة محمود


    القطة الشجاعة وزوجة الطحان
    قصة
    حسنة محمود


    الحياة جميلة وجديرة أن يناضل الإنسان من أجل أن يملأها بالحب والأماني الجميلة وخاصة تلك التي يكون الحب مبدأها وهدفها وصدق العلاقة وسيلتها.
    أبو سعيد أب لثلاثة أطفال ذكور، يحبهم كثيراً وأحسن تربيتهم فكان كشجرة مباركة طرحت ثمراً لذيذاً. صرف عليهم من عرق جبينه وهو يحمد الله ويطلب الصحة والعافية ليتابع كفاحه في سبيل أسرته.
    يعمل طحّاناً يلبي حاجة سكان القرية من الطحين وغيره.
    زوجته (أم سعيد) جميلة هنيّه اعتبرها نعمةً وهبةً من الخالق سبحانه. كانت في شبابها من النساء الجميلات الفاتنات التي لا تزال آثار ذلك الجمال بادية في رشاقتها فهي كشجرة السرو. وفي عينيها البراقتين ووجنتيها اللتين تشبهان تفاحتين جميلتين (كما يقول عنها أهل القرية معجونة بدمها).وكذلك شموخ نهديها اللذين أرضعت منهما أولادها الحب والإخلاص والوفاء كما أرضعتهم الحليب.
    تتكلم بهدوء وبراءة وتتصرف بوقار ورزانة تحب الجميع ، وهم يبادلونها الحب والتقدير، وعندما يرد ذكرها في سهرة، أو جلسة جماعية، يثني عليها الجميع، ويباركون تربيتها، ويقولون (صحيح أبو سعيد فقير ولكنه يمتلك كنزاً لا يقدر وحقاً يحسد عليه والمقصود أم سعيد).
    عاشت أم سعيد بين زوجها وأولادها عيشة هانئة متوسطة الحال ولكنها قانعة بما قسم الله لهم من مال وبنين. وفي جلسات خاصة، كانا يسترجعان أيام الشباب، والغرام، أبو سعيد يتذكر تلك الأيام بفخر،ٍ ونشوة،ٍ فيفّتل شاربيه ويغمز بعينيه ثم يرد غرّته قائلاً:
    إيه يا أم سعيد..! تتذكرين أول مرة رأيتك فيها؟! كنت تقطفين ثمار التين فكان لون عينيك بلونها، وقامتك تطاول الشجرة الفتية، وكلماتك أكثر عذوبة وحلاوة من الثمرة الطازجة.
    فترد أم سعيد بدلال المرأة الوقور متنهدة من أعماقها وكأنها تريد أن يعود بها الزمن أعواماً كثيرة.
    وهل هربت منّي هذه المواصفات؟ .. فيخجل أبو سعيد ويستدرك: حاشى لله لا تزالين أجمل نساء العالم، وتزدادين جمالاً كالذهب العتيق. فترد معقبة على ذلك.
    إيه رزق الله على تلك الأيام..! كم كانت جميلة وساحرة ! أذكر عندما حدقت بي، اضطربت وشعرت أن نظراتك اخترقتني كسهم ناري، اشعل جسدي بنار الحب، فسقطت الثمرات على الأرض، بدلاً من أن تسقط في السلة، وكانت يداي ترتجفان مع تسارع نبضات قلبي، وكأنّ في داخلي بركاناً أوشك أن ينفجر. شعرت بوجنتي تلتهبان كجمرتين من خجلي.
    ثم ينظر كل منهما للآخر نظرةً ملؤها الحبّ والاحترام ويضّمان بعضهما ويضحكان ضحكة تملأ البيت فرحاً.
    وهكذا عاش الزوجان مع أولادهما الثلاثة. كبر الأولاد وتّلقوا علومهم في مدرسة القرية ثم أكملوها في المدينة.
    دارت الأيام وأصبح الصغار رجالاً. وحان دورهم ليكملوا مسيرة الحياة حيث أسّس كل منهم أسرة مستقلة،عمادها الحب والاحترام، فكانوا فروعاً قويةً وارفةً لتلك الشجرة الصّلبة الراسخة في الأرض.
    كان أبو سعيد كلما زوّج ولداً تغمره سعادة لا توصف، بامتداد فروع شجرة الأسرة نحو المستقبل، وهو يرجو أن يمتلئ الدار بالأحفاد، كان يعيش فرح العريس. يلبس ويتأّنق ويفتل شاربيه ويتطّيب بالعطور، وكثيراً ما عاش أحلام اليقظة، في تلك اللّحظات الهامة مخاطباً نفسه : آه ماذا لو تعود الأيام وأعود شاباً وسيماً، أعيش أياماً جميلة كهذه الأيام وأجلس إلى جانب أم سعيد في الكوشة التي لم تكن موجودة في أيامنا ثم يراجع نفسه قائلاً (أم سعيد لا.. لا.. لقد كبرت وابيض شعرها وهي جدة ممتازة للأحفاد. أما أنا فلا أزال أتمتع بالصحة والعافية، وأصلح عريساً أكثر من شباب هذه الأيام، الذين فقدوا طعم الحب وحلاوة الغرام.
    يردد إيه يا أبا سعيد.. ماذا لو جدّدت شبابك مع فتاة في ربيع العمر، تمزج خريفك بربيعها وتقضي ما تبقى من عمرك في سعادة الأساطير.
    ثم يتذّكر أم سعيد وتضحياتها، ووقوفها إلى جانبه في كل الأوقات، فكانت الزوجة، والأم والأخت، والرّفيقة له في مسيرة الحياة، فيردّد فعلاً إنها بنت حلال، لقد كانت سندي على مدى ثلاثين عاماً ولا تزال.
    لكنه يعود للحوار، يحاول إقناع نفسه بما يريد، ويبحث عن المبررات لذلك, ماذا سينقص على أم سعيد لو تزوجتْ ؟. ستبقى الغالية معّززة مكّرمة، وأمّاً للجميع. وكلّنا في خدمتها. وفجأة ينتبه جفلاً على صوت العروسين يستأذنانه بالسفر لقضاء شهر العسل.
    بقي أبو سعيد بعد زواج أولاده وحيداً مع أم سعيد يمارس عمله اليومي في الطّاحونة كالمعتاد.
    لكن ماذا حصل له..؟تغير..؟ فقد عشّش شيء ما في داخله يمكن أن يولد فجأة.. متى..؟ وكيف..؟ لا يعرف ولا يتذكر وظل الأمر مستوراً.. ضابياً لا يحمل أية ملامح جادة إلى أن أتت أم رمزي.. من تكون ؟ ما دورها في انبات البذرة التي احتضنها قلب أبي سعيد..؟
    أم رمزي أرملة شابة، تحمل من الجمال ما يجعل منها محطّ إعجاب بعض رجال القريّة.. تمشي بدلال وغنج.. وتتكلم بصوت موسيقي، جذّاب، فتتبسم لهذا، وتغمز ذاك، متجاهلةً إعجاب الجميع، رغم أنها تعيش أسعد اللحظات حين ترى الإعجاب والشهوة في عيونهم وقفت بباب الطاحونة ونادته.. فاخترق صوتها قفصه الصدري ليستقر رعشة وخفقة ولحناً موسيقياً على أوتار قلبه.
    ارتبك أبو سعيد قائلاً : تفضل.. من.. ؟
    وحين دخلت شعر أن نور الشمس غمر المكان كلّه.. فقد سلبته لبّه وخطفت طلّتها بصره.. تقدمت نحوه منادية.. يا أخي عبدو.. يا أخي عبدو.. نهض أبو سعيد كحصان يستعد للسباق ونسي رحى الطاحونة تدور دون رقابة..! ملبياً نداء قلبه.. وقال : نعم.. نعمين ماذا تريد ست الكل..؟
    ردت : قصدتك في خدمة.. أجاب: اطلبي فأنت تأمرين. قالت أريد أن تطحن قمحاتي.. قال من عيوني وبنفسي سأوصلها لك إلى البيت..( كم تكون سعادته لو ينتهي الطحين من بينتها كل أسبوع لتنوّر الطاحونة).
    وكلما اشتد به الشّوق يختلق الأعذار ليحمل لها الفائض من الطحين. توطدت العلاقة بينهما حتى رجاها ذات مساء: برحمة الغوالي أن تكفَّ عن مناداته بأخي. فقط ناديني عبدو فتخرج رقيقة عذبة من بين ورقتي الريحان. تصّنعت الدّلال والخجل وقالت : وهل يجوز ذلك..؟! قال : نعم وبكلّ الحب.
    سارت الأمور كما أراد لها أبو سعيد. بسرّية تامة. أم سعيد ما عندها إلا الله وآياته. تهتم بزوجها وبيتها.. وبالعنزة والدجاجات. وأحفادها أثناء زيارتهم لها.
    تنبّهت ذات صباح إلى أناقة أبي سعيد ،واهتمامه بنفسه شعره. وشاربيه. عطره.. وكأنّها تراه لأول مرة.
    زاد إعجابها به،داعيةً له بطول العمر، والصحة، وقالت بفخر: والله العظيم يليق به لا يزال شيخ الشباب وسند البيت وجسره. وخشية كلام الجيران على الأرملة المغرورة أخذا يلتقيان في الطاحونة مساءً.
    قطة أم سعيد التي اعتبرها الجميع فرداً من الأسرة من حيث الاهتمام والدلال. والتي اعتادت مرافقة أبي سعيد في عمله.. كانت ترقب سلوكه بحزن مشفقة على رفيقتها المخلصة (أم سعيد) تتحسر وتموء بألم (دون أن ينتبه لها العاشق المتصابي) تمنت لو أنها تستطيع أن تخبر أم سعيد بخيانة رفيق عمرها، وفي كل مرة تقنع نفسها : لا أريد أن أخرب بيتها، أن أحزنها، فهي تقارن بين وفاء أم سعيد وتضحياتها، ومراهقة زوجها. وذات يومٍ قررت القطة أن تتصرف بنفسها.. واختبأت خلف باب الطاحونة، وحبست أنفاسها، وقبل الموعد كان أبو سعيد يصل، يهّيء المكان، ويستعدّ للقاء. جلس العاشقان يتحدثان بشوق عن معاناتهما، ووجدهما، وعن مشاعرهما الجّياشة، التي صار من الصعب إخفاؤها فعيونهما بدأت تفضح ما يخفيانه.. وعندما قصرت المسافة بينهما ، أحدثت القطة حركة غير عادية.. جفلا وابتعدا ، أقنعها بأنّه مجرد جرذ يبحث عن طعامه بين فضلات الطاحونة، كررت القطة الحركة بقوة الغضب من أبي سعيد، مع نفس عميق افزع أم رمزي فأسرعت في الرّحيل.. حاول إقناعها أن تنتظر قليلاً، ليستطلع المكان، لكنها أسرعت لا تلوي على شيء. لحق بها ليمسكها، فتعثر بخشبة، كأنها وضعت في طريقه بقصدٍ، فسقط أرضاً وهو يصيح مستنجداً.. رجلي.. رجلي كُسرت، لكن أم رمزي خرجت بحذرٍ متجاهلةً استغاثة الحبيب المغرور، حتى لا يلحظ خروجها أحد.
    خرجت القطة مسرعة إلى البيت، وهي تموء بصوت مضطرب، ومتواصل، وكأنها تريد أن تخبر أم سعيد بأمر ما. تفّقدتها أم سعيد لم تجد فيها جرح، أو كسر، أو غير ذلك، ثم لحقت بها مسرعة، حتى وصلت الطاحونة، فوجدت أبا سعيد ملقىً على الأرض يتألم، بصوت خجول. ساعدته على الوقوف والاستناد على كتفها كما كان يفعل دائماً.
    بكت حزناً عليه وإشفاقاً، وهي تعتذر وتطلب السماح قائلةً : نحن السبب.. ترهق نفسك ليلاً ونهاراً من أجلنا.. ارحم نفسك يا رجل ساعة لك وساعة لربك.. ستكون بخير إن شاء الله.
    أما أبو سعيد فقد خجل من نفسه قائلاً بهمس : أنا من يجب أن يعتذر ويطلب السماح.. هذا جزاء خيانتي لك يا أوفى النساء..
    لازمت القطة فراش أبي سعيد.. تلحس رجله المصابة بين الحين والآخر من فوق الجبيرة.. تحاول أن تسليه بحركات رشيقة وهي سعيدة جداً لأنها انتصرت عليه وساعدت أم سعيد الوفية.
    = - = - =

    القطة الشجاعة وزوجة الطحان - قصة - حسنة محمود
يعمل...
X