إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

دردشة في الحداثة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دردشة في الحداثة

    دردشة في الحداثة



    الحداثة مفهوم ملتبس ومراوغ ، يتيح لكل باحث أن يفسره على هواه ، وبما ينسجم مع ما يؤمن به من الأفكار والأيديولوجيات ؛ وهذا اللبس وعدم الوضوح وعدم التحديد المعرفي الدقيق لمفهوم الحداثة أحد أسباب الكم الهائل من السجالات التي دارت ومازالت تدور حوله . والحداثة ، وإن انطلقت من فكرة عامة واحدة ( أو تكاد أن تكون كذلك) ، إلا أنها في سياق الصيرورة والتجسد الواقعي قد أخذت مسارات متعددة ، بمعنى أن الحداثة حداثات وليست شيئاً واحداً محدداً .


    والحداثة فعل ناقص يبحث عن تمامه باستمرار ، ومن طبيعته أن يبقى فعلاً ناقصاً ، إنه من هذه الناحية يشبه اليوتوبيا أوالكمال الذي يبقى حافزاً للنضال من أجله ، مع التسليم بفكرة أنه لا يمكن أن يتحقق أو ينجز في عالمنا ، عالم الكون والفساد ( حسب تعبير الفلاسفة والمناطقة ) . فالحداثة ، كما أفهمها أنا على الأقل ، تبقى في أفق ما ينبغي ألا يتم أو يكتمل ، مع الاستمرار في صنعه ومحاولة إنجازه ، إنه المحرك الأول للتقدم والتطور . والحداثة ، بالمفهوم المتداول ، من إنتاج الفكر الغربي ، ولاسيما ما تم التعبير عنه في القرن الثامن عشر ، عصر الأنوار الأوربي ، عصر العقلانية والكرامة الإنسانية ، حين تم إحضار الإنسان بقوة ليشارك في صنع حاضره ورسم ملامح مستقبله ، بعد أن كان هذا الإنسان (الأوربي ) مغيباً ، روحه في قبضة الكاهن وجسمه في خدمة الإقطاعي .


    أرجو أن أكون قد وصلت بالقارئ إلى فكرة أن الحداثة من إنتاج الفكر الغربي ، لتحرير الإنسان الغربي ، حين قام المفكرون الغربيون بوضع تراث الغرب وعقائده فوق غربال النقد العقلاني الصارم ، وإزاحة فكرة القداسة عن أية أعمال أو أفكار أنتجها الأقدمون في العصور السابقة ( فهم رجال ونحن رجال ) ، وهذا ما ينبغي أن يتم تعلمه من قبل الشعوب الأخرى .فالحداثة ليست شيئاً آخر عير العقلانية التي تحترم الإنسان من حيث هو كذلك ، وليست فعلاً شيطانياً ابتدعه الغرب لتدمير تراث الشعوب ، وازدراء قيمها ، والحط من شأن مقدساتها .... أما إن حدث ما يشبه ذلك ، فليس الذنب ذنب الغرب ولا ذنب الحداثة ، وإنما ذنب هذه الشعوب على جنبها ( كما يقولون ) ، أو بالأحرى ذنب بعض أفراد النخبة فيها ، الذين تعاملوا مع الحداثة ( الغربية ) كزبائن ومستهلكين وليس كمتعلمين ، بعد أن ظنوا أن تاريخ الغرب تاريخ للعالم كله ، ولم ينتبهوا للخصوصيات والهويات والقيم والمشكلات والأسئلة والحاجات التي تختلف من مجتمع إلى آخر ومن مكان إلى آخر ، وأرادوا أن ينقلوا الحداثة الغربية نقلاً أفقياً ساذجاً ، وفكها وتركيبها واستلامها وتسليمها بطريقة المفتاح باليد ، على أساس أن ما نجح في مكان ما لا بد أن ينجح في كل مكان آخر .ثم إن الانبهار الذي أصاب بعض أفراد تلك النخبة حال دون رؤيتهم المتكاملة للحداثة الغربية ، ولمآلاتها التي تجسدت في نمط آخر من استلاب الإنسان ، الإنسان الغربي والإنسان عموماً . فمن رحم هذه الحداثة ( العقلانية والعلمانية والديمقراطية ، أو التي انطلقت لتكون كذلك ) خرج الاستعمار والإمبريالية والنازية والفاشية والمحافظون الجدد ( وما يسمى بالنيوليبرالية / أو الليبرالية الجديدة ) ، وعلى يد بعض الحداثيين الغربيين عانت الشعوب ما عانت من الحروب والكوارث والإبادة الجماعية في أكثر من مكان . ومن المؤسف أن نجد في الغرب مفكرين ( حداثيين ؟! ) لم يتورعوا عن تقديم التبريرات والتسويغات لكل الأعمال الاستعمارية والاستيطانية والامبريالية التي اقترفتها حكومات بلادهم ، التي تصف نفسها بالحداثة ، منذ إبادة الهنود الحمر وسكان أوستراليا الأصليين واستعمار بلاد الشرق ، وليس انتهاءً ( بالحروب العادلة ) التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية في أكثر من مكان من بلاد العرب والمسلمين . دون أن ننكر وجود مفكرين آخرين قاموا بانتقاد هذه الحداثة ومآلاتها ، وحاولوا أن يعودوا بها إلى المنابع العقلانية الأولى التي انطلقت منها ، كما حاولوا أن يمزقوا الغطاء الصفيق من الشعارات التي يرفعها بعض السياسيين في الغرب لتحقيق أغراض استعمارية ، ومن هذه الشعارات ( البراقة والهائلة) شعارات من عيار : التقدم .. والديمقراطية .. وحقوق الإنسان .... وبيّنوا كم من الجرائم ارتكبت باسم هذه الشعارات .ولا يعجب المرء من شيء عجبه من تغاضي بعض أفراد النخبة من ( الحداثويين ) العرب ، وفيهم قامات سامقة من المفكرين والباحثين والكتاب ، عن الوجه القبيح للحداثة الغربية ، وإصرارهم على نقلها ، بعجرها وبجرها ، إلى بلاد العرب ، بعد القيام بقطيعة معرفية تامة مع التاريخ العربي ، والتراث العربي الإسلامي .

    مما جعل الحداثة ، المطلوبة بشدة في بعض جوانبها الإيجابية ، ولاسيما ما يتعلق بالعقلانية والعلمانية وحضور الإنسان وكرامته ، منبوذة وموضع اتهام ، وجعل الناس ينظرون إلى هؤلاء الحداثويين نظرة فيها كثير من الشك والريبة ، ويصفونهم بأنهم أحصنة طروادة لاختراق مجتمعاتهم وثقافتها وقيمها لصالح الآخر الذي لا يخفي أطماعه وعداءه لكل ما هو عربي أو مسلم . مما دفع بعض الجهات الأصولية لاستغلال ذلك الشك وقيادة ردة ( رجعية وظلامية ) ، ليس في وجه الجوانب السلبية للحداثة فحسب ، ولو كان الأمر كذلك لشكرناهم وشددنا على أياديهم ، وإنما كانت ردتهم في وجه الحداثة بصورة كلية . وقد قدمت كتابات بعض أصوليي الحداثة من المفكرين الغربيين، وكتابات تلاميذهم ومريدهم من العرب دعماً إضافياً غير متوقع لأعداء الحداثة ، لأنهم ظلوا يلوكون شعارات لم تؤت أكلها على الأرض العربية ، غير عابئين بما جرى ، ويجري ، في سياق التاريخ . مما أدى إلى ضياع الصالح بالطالح من أمور الحداثة .‏
يعمل...
X