Announcement

Collapse
No announcement yet.

الخيال الشعري لابي القاسم الشابي

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • الخيال الشعري لابي القاسم الشابي

    محاور العمل :
    ـ التعريف بصاحب الكتاب،
    ـ مقدمة عن الخيال،
    ـ الخيال، نشأته في الفكر البشري، ما كان يفهم منه
    عند الإنسان الأول، انقسامه
    ـ الخيال الشعري والأساطير العربية،
    ـ الخيال الشعري والطبيعة عند العرب،
    ـ في سبيل الختم.

    التعريف بصاحب الكتاب
    أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي شاعر تونسي، وينتمي لشعراء العصر الحديث، اطلع على الشعر العربي القديم والحديث بالإضافة للشعر الغربي وكانت له آراؤه الأدبية المميزة، عانى أبو القاسم الشابي من المرض الذي أودى بحياته وهو ما يزال في ريعان الشباب، وعلى الرغم من رحلته القصيرة في هذه الحياة إلا أنه قدم عددا من المؤلفات، بالإضافة لديوان شعر تضمن قصائده التي قدمها خلال حياته. تميز الشابي بأشعاره الرومانسية، ولغته المشرقة وكان أحد صور التجديد في الشعر العربي.
    ولد أبو القاسم الشابي عام 1909م بقرية الشابية بضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية بالجنوب، كان والده محمد الشابي قاضياً تلقى دراسته بالأزهر الشريف بمصر وحصل على الإجازة المصرية، وقد كان أبو القاسم مرافقاً لوالده في جميع المدن التونسية التي عمل بها.
    حصل أبو القاسم على شهادة الابتدائية ثم انتقل إلى تونس العاصمة وهناك واصل دراسته الثانوية بجامع الزيتونة، درس كلا من الفقه واللغة العربية وكان دائم الذهاب إلى المكتبة للاطلاع على المزيد من الكتب، فكانت كل من مكتبة "قدماء الصادقية" و"المكتبة الخلدونية" هما المكانين الأساسين اللذان يفد عليهما أبو القاسم ليستقي معارفه فاطلع على الأدب العربي القديم والحديث، والدواوين الشعرية، كما سعى للاطلاع على الأدب الأوربي عن طريق المترجمات العربية، بالإضافة لحرصه على حضور المجالس الأدبية والفكرية.
    بعد أن انتهى الشابي من دراسته الثانوية قام بالالتحاق بمدرسة الحقوق بتونس وحصل منها على شهادته في الحقوق عام 1930م.
    عكف أبو القاسم الشابي على كتابة الشعر والإطلاع على الكتب الأدبية وحضور المجالس الأدبية، وعلى الرغم من فترة حياته القصيرة إلا انه تمكن من إصدار عدد من المؤلفات وقدم العديد من القصائد الشعرية المتميزة.
    قام بكتابة مذكراته وله ديوان شعر مطبوع بعنوان "أغاني الحياة"، وكتاب "الخيال الشعري عند العرب"، و"آثار الشابي"، و"مذكرات".
    تميز شعر أبو القاسم الشابي بالرومانسية وحب الطبيعة، وقد سيطر عليه في بعض قصائده إحساسه بالخوف من الموت ورفضه له فظهرت قصائده محتوية على الكثير من الأسى، وقد دعا أبو القاسم في شعره إلى تأمل النفس وحب الطبيعة، وظهر إحساسه العميق بكل ما يحيط به، وقد تضمن شعره العديد من العناصر فعبّر عن الكون والحياة والموت والبشر والحب والمرأة.

    مقدمة عن الخيال
    قبل بدء الحديث عن مضمون الكتاب لا بأس بإلقاء نظرة بسيطة ومقتضبة عن الخيال والتخييل على اعتبار أن التخييل قضية نقدية تطرق لها النقاد القدامى في كتبهم ومصنفاتهم.
    فالتخييل لغة: من خال الشيء: ظنه وتفرس فيه، وأخاله: اشتبه. وأما اصطلاحا: فهو مصطلح صاغه الفلاسفة المسلمون وعنوا به ذلك الأثر الذي يتركه الكلام المتخيل في نفوس سامعيه.
    يقول ابن سينا: "إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة، وعند العرب مقفاة، ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية". أبو علي ابن سينا: فن الشعر من كتاب الشفاء، ص161 دار الثقافة بيروت.
    فالشعر حسب ابن سينا والفلاسفة المسلمين قول قائم على المحاكاة والتخييل الفني والجمالي/ الاستطيقي والانفعالي، ويرى أن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق. والتخييل من أهم الفنون البلاغية والنقدية لأنه يتصل بالإبداع الفني، وهو أساس الشعر الأصيل، وعليه، فإنه يندرج ضمن التخييل التصوير البلاغي القائم على التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
    والتخييل هو قوام الشعر لذلك فإننا نجد ضمن التعريفات القديمة المعطاة للشعر، نجدها تتضمن كلها عنصر التخييل.
    يقول حازم القرطاجني في معرض حديثه عن التخييل معرّفا الشعر: "الشعر هو كلام مخيّل موزون مختص في لسان العرب بزيادة التقفية". ويضيف: "قد تقدم الكلام في أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية، والإقناع هو قوام المعاني الخطابية". حازم القرطاجني، المنهاج، ص: 361
    إن الشعر المخيّل هو القائم على التوهيم الخيالي وإثارة الاندهاش. والتخييل له علاقة بالصدق والكذب. والكذب يساوي في الشعر عملية الخلق والإبداع الفني. وهذا ما جعل القدماء يقولون "أعذب الشعر أكذبه"، لذلك أصبح للكذب قوة تخييلية توظف في الشعر، والكذب في الشعر ليس كذبا أخلاقيا إنما هو كذب فني.
    وهكذا إذن، يكون التخييل عنصرا أساسيا في الشعر وسائر الفنون الأدبية القائمة على الخيال الفني طالما أنه يقوم على إعادة تشكيل المدركات في صور فنية جديدة ليست مدركة للحس من قبل. ومن ثم كان التخييل وسيلة لإثارة المتلقي وتوليد الانفعال لديه من خلال القول المخيّل القائم على جمع وتركيب لعناصر متباعدة أو متنافرة في الواقع على مستوى الشعر، وهذا الجمع يتم بواسطة الخيال الذي يتحكم فيه موقف الشاعر مما حوله.



    الخيال
    نشأته في الفكر البشري
    ما كان يفهم منه عند الإنسان الأول
    انقسامه

    يرى الشابي بهذا الخصوص أن الخيال ضروري للإنسان لا غنى عنه، لأنه نشأ في النفس الإنسانية بحكم هذا العالم الذي عاش فيه ونشأ، وبدافع الطبع والغريزة الإنسانية الكامنة خلف الميول والرغبات، وما كان الطبع منشؤه ومنبعه فهو حي خالد لا يمّحي ولا يزول، إلا عند فناء العالم وتناثر الأيام والسنين.
    ثم إن الإنسان الأول عند استعماله الخيال في تعبيراته المختلفة، لم يكن يفهم منه هاته المعاني الثانوية، التي نفهمها نحن ونعيها وندعوها "مجازا"، ولكن هذا الاستعمال لم يكن يخال أنه كلام مجازي إنما هو كلام مباشر وحقيقي. على سبيل المثال: "ماتت الريح"، أو "أقبل الليل" كان هذا القول قولا حقيقيا وليس مجازا، ولهذا قصة قديمة ذلك أن الأساطير القديمة تؤمن بأن الريح والليل إلهان من الآلهة الأقوياء...
    وكنقطة ثالثة فإن الخيال ينقسم إلى قسمين:
    ـ قسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهر الكون وتعابير الحياة المختلفة.
    ـ وقسم اتخذه لإظهار ما في نفسه من معنى، لا يفصح عنه الكلام العادي المألوف، ومن هذا القسم الثاني تولّد قسم آخر، ولدته الحضارة في النفوس أو ارتقاء الإنسان نوعا ما عما كان عليه، وهذا القسم الآخر هو "الخيال اللفظي" الذي يراد منه تجميل العبارة وتزويقها وتنميقها ليس إلا.
    والقسم الأول هو أقدم القسمين نشوءا في النفس -حسب الشابي- ، لأن الإنسان أخذ يتعرف ما حوله أولا حتى إذا ما جاشت بقلبه المعاني، أخذ يعبّر عنها بالألفاظ والتراكيب. فالإنسان شاعر بطبعه، في جبلته يكمن الشعر، وفي روحه يترنم البيان.
    ويرى الشابي أن الإنسان مضطر إلى الخيال بطبعه، ومحتاج إليه بفطرته، لأن فيه غذاءه الروحي والمادي. وإن اضطراره إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالا، وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطورت نظرته إلى الحياة ومظاهرها المختلفة.
    ولكنه رغم كل ذلك لم يزل بحاجة إلى الخيال، لأنه، وإن أصبح يحتكم إلى العقل، ويستطيع التعبير عن خوالج نفسه، فهو لم يزل يحتكم إلى الشعور، وسيظل كذلك، لأن الشعور هو العنصر الفعال والأساس عند البشر.
    والخيال أنواع، هناك الخيال الفني الذي تنطبع فيه النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الواسع، والخيال الشعري الذي يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور. والخيال الصناعي الذي هو ضرب من الصناعات اللفظية، ويسمى أيضا "الخيال المجازي" لأنه مجاز على كل حال، سواء قصد منه المجاز، أو لم يقصد منه المجاز، أو لم يقصد منه ذلك كما عند الإنسان القديم.
    وحدد الشابي مجال بحث "الخيال الشعري عند العرب" في الخيال الذي يتكشف عن نهر الإنسانية الجميل الذي أوله لا نهاية الإنسان، وهي الروح، وآخره لا نهاية الحياة، وهي الذات الإلهية. أي بكلمة، البحث عند العرب على الخيال الشعري أو الخيال الفني عبر تلك الثروة الأدبية والمعرفية الطائلة حتى نعرف ما عليه هذا الخيال من قوة إنتاج وإبداع، وصور مغرية من فنون الخيال.

    الخيال الشعري والأساطير العربية

    يقر الشابي بأن التاريخ لا يعرف إلا النزر اليسير من الأساطير العربية، وهنا تكمن صعوبة استخلاص رأي فاصل أو نتيجة جازمة بخصوص هذا الموضوع. فالأساطير العربية إنما هي نبذ متفرقة في كثير من كتب الأدب والأخبار، لا يمكن ضمها إلا بعد جهد كبير، هذا على غير ما نجد في أساطير الأمم الأخرى، فأساطيرنا العربية بعضها لها اتصال بعقائد العرب قبل الإسلام، وبعضها له علاقة بعوائدهم وتقاليدهم، والبعض الآخر يتصل بالتاريخ القديم للمجتمع العربي.
    ومع كل ما تقدم، يمكننا تقسيم الأساطير العربية إلى قسمين رئيسين:
    القسم الأول: فيه الأساطير الدينية، ويندرج تحت هذا القسم ما كان من قبيل العوائد، لأن أكثر العوائد إنما هي متحجرة بمفعول الزمن.
    القسم الثاني: نجد فيه الأساطير التاريخية، وهي تلك الأخبار والمرويات التي لها ارتباط بتاريخ العرب القديم.
    وقد اقتصر الشابي على القسم الأول من الأساطير، دلك أن المرمى والهدف هو معرفة حظ هذه الأساطير من الخيال الشعري قلة وكثرة. لأن النوع الثاني رغم ما فيه من صنعة الخيال، إلا أنه ليس من عمل الخيال الشعري البحت.
    فالأساطير الدينية لا حظ لها من وضاءة الفن وإشراق الحياة، ومن المحال جدا أن يجد الباحث فيها ما اعتاد أن يجده في أساطير الإغريق والرومان من خيال خصب جميل، وعذوبة شعرية متدفقة، فالآلهة العربية لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال، ولا تمثل مظهرا من مظاهر الكون، أو عاطفة من عواطف الإنسان، وإنما هي أنصاب وأزلام بسيطة ساذجة شبيهة بلعب الصبية وعرائس الأطفال، والأخرى لا تفصح عن فكر عميق أو شعور دقيق ولا ترمز لمعنى من المعاني السامية، ويستثنى من ذلك أسطورة النجوم التي عليها شيء من وضاءة الشعر ونضارة الخيال.
    إن أساطير العرب وثنية جامدة جافية لا تبلغ الخيال ولا تشتمل على شيء من فلسفة الحياة. وهذا على خلاف بقية الأمم الأخرى التي نجد أساطيرها مشبعة بالروح الشعرية الجميلة، وكمثال أسطورة "أفروديت"، التي نسج حولها اليونان أساطير شعرية شتى لم يعرفها الآشوريون، على اعتبار أنهم أخذوها عن الآشوريين وبدلوا اسمها من عشتروت إلى أفروديت وزعموا أنها خلقت من أمواج البحار. واتخذوا إلها للحب سموه "إيروس" وزعموا أنه ابن أفروديت، وأن له جناحين ذهبيين وأنه يحمل دائما وأبدا سهاما حادة ومشاعل تلتهب...!
    وهنا يتبدّى ذلك العمق الفكري والسعة في الخيال في الأساطير غير العربية. فآلهة اليونان وأساطيرهم عنها: آراء شعرية يتعانق فيها الفكر والخيال، فكل آلهة رمز لفكرة أو عاطفة أو قوة من قوى الوجود وظاهرة من الظواهر الطبيعية المختلفة. ويبرز كذلك تلك المخيّلة القوية والإحساس الفياض الذي يشمل العالم ويحس بأدق نبضات الحياة ودقاتها.

    الخيال الشعري والطبيعة (في رأي الأدب العربي)

    يواصل أبو القاسم الشابي حديثه عن الخيال الشعري ولكن هذه المرة في علاقته بالطبيعة، إن الجمال الطبيعي هو الذي يستفز كوامن الحس ويهز أدق أعلاق الشعور، والذي له أثره في النفوس. والجمال هو الذي مهّد للإنسانية هذا السبيل الذي تضرب فيه واستثار أفكار الجبابرة من مراقد النسيان. ولولا هذا الجمال المنبث في مظاهر الكون وطواياه لاتخذت الإنسانية سبيلا وديدنا آخر غير هذا الذي تعرفه ولحرم العالم من ثمار خالدة أنتجتها العقول والألباب.
    وإذا أردنا تطبيق هذا القياس على الوسط الطبيعي الذي عاشت فيه الأمة العربية فيمكننا أن نقول إن شاعريتها وإبداعها سيكونان شبيهين بالوسط الطبيعي الذي نمت وتدرّجت فيه. وسط محروم من الخضرة والجمال الذي يستفز المشاعر ويؤجج الخيال. فهي أرض خلاء لا يعترض العين فيها سوى الصحاري والفيافي الموحشة المقفرة، وقد يعثر الطرف على رقعة ومساحة يهتز فيها النيات أو جدول صغير يتدفق بين الرمال أو غدير نائم بين الصخور العارية. وبهذا فحتما ستكون طبيعة خيالهم بسيطة وساذجة.
    وبعد هذا الرأي أو الحكم قسم الشابي الأدب العربي إلى أربعة أدوار: الدور الجاهلي، والدور الأموي، والدور العباسي، ةالدور الأندلسي. وفي هاته الأدوار الأربعة بحث عن الطبيعة وحظها من الخيال الشعري. مع الإشارة إلى أن الدورين الجاهلي والأموي قد كانا خاليين أو كذلك من الشعر الذي يتغنى بمحاسن الكون ومفاتن الوجود وسحر الطبيعة. فأدب هذين العصرين قد كان لا يعرض لوصف مناظر الطبيعة إلا إذا دعت إليها الحاجة والضرورة دونما إسهاب في الوصف وإشباع في القول.
    وفي العصر العباسي تبدلت الرؤية وتغيرت الأمزجة والطباع، مع اصطباغ الثقافة والحياة الإسلامية بصبغة قوية مشتركة من حضارات وأقوام مختلفة، هذا التعايش منحنا حضارة جديدة ناعمة جمعت كل ما عرفه الفرس والروم والإسلام، من أفكار وطباع ودين، وأتقن الفرس والروم اللغة العربية ونظموا الشعر بأمزجة غير الأمزجة العربية وأذواق غريبة عن طبائع العرب، وسكن نوابغ الشعر العربي المدن المترفة فعاشوا في أوساط جميلة ووسط طبيعي مغاير لما نشأوا فيه. ففي هذا الوسط تغير كل شيء، وتغنى الشعراء بسحر الطبيعة في مختلف مظاهرها.
    يقول أبو تمام:
    ياصاحبي! تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصور
    تريا نهارا مشمسا، قد شابه زهر الرُّبا، فكأنما هو مُقمر!

    والبحتري:
    أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
    وقد نبه النوروز، في غلس الدجى أوائل ورد، كن بالأمس نوّما
    وغيرهما من الشعراء الذين أبدعوا في وصف مظاهر الطبيعة المختلفة.
    وفي الأدب الأندلسي تفشى هذا الأدب الطبيعي تفشيا واسعا حتى كاد يسيطر على غيره من فنون الشعر، وحتى أضحت الطبيعة هي ذلك الحلم البهيج الذي يملأ قلوب الشعراء في سكرات الخيال.
    ومع ذلك للشابي رأي مؤداه أن الفن الطبيعي في الأدب العباسي كان أبعد نظرا وأعمق خيالا وأدق شعورا منه في الأدب الأندلسي. رغما عن أن الأدب الأندلسي أحفل وأزخر بهذا الفن من الأدب العباسي وغيره. ورغما كذلك عن أن البلاد الأندلسية أشد جمالا وأعظم روعة، والأدب الأندلسي أنصع ديباجة وأرقى أسلوبا وأدق تصويرا. ويذهب أبعد من ذلك ليقول بأنه يجد البحتري وأبا تمام وابن الرومي أصدق شعورا وأقوى عاطفة من شعراء الأندلس كابن خفاجة وابن زيدون ويورد نماذج عن ذلك.
    وكخلاصة لهذا الفصل فإن الشعر الطبيعي في العصرين الأولين أي الجاهلي والأموي كان أقل إبداعا في هذا المجال، على خلاف العصرين العباسي والأندلسي حيث تغيرت أنماط اللفظ وصياغة الكلام. وهنا تبرز الفروق الدقيقة التي بينها في تناول الأشياء والنظر إليها.
    ثم أبرز الشابي بعد ذلك كلمتين لشاعرين من شعراء الغرب: لامارتين وغوثه.
    ليتبين الفرق بين الرنة العربية الساذجة والبسيطة، وبين الرنة الغربية العميقة الداوية. وكيف نظر الأدب الغربي إلى الطبيعة.
    فلامارتين يقول "إن الطبيعة أكبر قساوسة الله، وأمهر مصوريه، وأقدر شعرائه وأبرع مغنيه(...)، وفي الزهور ينتشر أرجها في الفضاء وينتثر ورقها على القبور."
    وغوثه يقول: "أرى كل شيء حولي ينبت ويزهر، وحينما كنت أبصر هذه الجبال المغطاة بأشجار الدوم من أسفلها إلى أعاليها. وتلك الأودية المظللة مجانيها بالغابات الأنيقة، وذلك النهر ينساب هادئا بين نغمات القصب المهتزة(...)، وأشعر لحظة واحدة على قصوري وضعفي، بنقطة تجري في دمي من سعادة ذلك الموجود الذي يخلق كل شيء في ذاته وبذاته".
    ليخلص بعد هذا الشابي مرة أخرى إلى أن النظرة العربية إلى الطبيعة بسيطة مهما بلغت من العمق والشعور، وكلمات غوثه الأخيرة هي الأغنية الخالدة التي ترددها النفوس الشاعرة في أعماقها، كلما شاهدت بهجة الكون وجلال الوجود.
    أما شعراء العربية فلم يعبّروا عن مثل هذه الإحساسات الشعرية العميقة، لأنهم لم ينظروا إلى الطبيعة نظرة الحي الخاشع إلى الحي الجليل، وإنما كانوا ينظرون إليها نظرتهم إلى رداء منمّق وطراز جميل، لا تزيد عن الإعجاب البسيط. ومثل هذه الرؤية لا ينتظر منها أن تُشرق بالخيال الشعري لأن منشأه الإحساس الملتهب الفيّاض والشعور العميق، وشعراء العربية لم يحسوا بهذا التيار المتدفق في قلب الطبيعة إلا إحساسا بسيطا خاليا من الحس ونشوة الخيال، كما نجد ذلك في شعر البحتري وأبي تمام وبعض الشعراء الآخرين.






    في سبيل الختم

    قدم أبو القاسم الشابي العديد من الآراء الجريئة والتي عبر عنها في كتاب "الخيال الشعري عند العرب"، والذي استعرض فيه كل ما أنتجه العرب من شعر، فتحدث فيه عن الصورة الشعرية واضعاً الأمثلة الدالة على ما يذهب إليه الشعر العربي في العصور المختلفة، وعمل على عقد مقارنة بين نماذج من الشعر العربي ومقتطفات من أدب الغرب، وذلك ليثبت أن العرب تمسكوا بالصورة المادية في شعرهم، وجعلوا منها محور القول والتفكير، وأن الغرب تمعنوا أكثر فيما وراء الماديات مما زاد في الخرافات والأساطير في الشعر والنثر عندهم.
    وطني علمني ان حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء
    وطني علمني ان التاريخ البشري بدون حب عويل ونكاح في الصحراءhttp://www.wahitalibdaa.com/image.ph...ine=1272034613

  • #2
    الخيال الشعري لابي القاسم الشابي

    محاور العمل :
    ـ التعريف بصاحب الكتاب،
    ـ مقدمة عن الخيال،
    ـ الخيال، نشأته في الفكر البشري، ما كان يفهم منه
    عند الإنسان الأول، انقسامه
    ـ الخيال الشعري والأساطير العربية،
    ـ الخيال الشعري والطبيعة عند العرب،
    ـ في سبيل الختم.

    التعريف بصاحب الكتاب
    أبو القاسم بن محمد بن أبي القاسم الشابي شاعر تونسي، وينتمي لشعراء العصر الحديث، اطلع على الشعر العربي القديم والحديث بالإضافة للشعر الغربي وكانت له آراؤه الأدبية المميزة، عانى أبو القاسم الشابي من المرض الذي أودى بحياته وهو ما يزال في ريعان الشباب، وعلى الرغم من رحلته القصيرة في هذه الحياة إلا أنه قدم عددا من المؤلفات، بالإضافة لديوان شعر تضمن قصائده التي قدمها خلال حياته. تميز الشابي بأشعاره الرومانسية، ولغته المشرقة وكان أحد صور التجديد في الشعر العربي.
    ولد أبو القاسم الشابي عام 1909م بقرية الشابية بضواحي توزر عاصمة الواحات التونسية بالجنوب، كان والده محمد الشابي قاضياً تلقى دراسته بالأزهر الشريف بمصر وحصل على الإجازة المصرية، وقد كان أبو القاسم مرافقاً لوالده في جميع المدن التونسية التي عمل بها.
    حصل أبو القاسم على شهادة الابتدائية ثم انتقل إلى تونس العاصمة وهناك واصل دراسته الثانوية بجامع الزيتونة، درس كلا من الفقه واللغة العربية وكان دائم الذهاب إلى المكتبة للاطلاع على المزيد من الكتب، فكانت كل من مكتبة "قدماء الصادقية" و"المكتبة الخلدونية" هما المكانين الأساسين اللذان يفد عليهما أبو القاسم ليستقي معارفه فاطلع على الأدب العربي القديم والحديث، والدواوين الشعرية، كما سعى للاطلاع على الأدب الأوربي عن طريق المترجمات العربية، بالإضافة لحرصه على حضور المجالس الأدبية والفكرية.
    بعد أن انتهى الشابي من دراسته الثانوية قام بالالتحاق بمدرسة الحقوق بتونس وحصل منها على شهادته في الحقوق عام 1930م.
    عكف أبو القاسم الشابي على كتابة الشعر والإطلاع على الكتب الأدبية وحضور المجالس الأدبية، وعلى الرغم من فترة حياته القصيرة إلا انه تمكن من إصدار عدد من المؤلفات وقدم العديد من القصائد الشعرية المتميزة.
    قام بكتابة مذكراته وله ديوان شعر مطبوع بعنوان "أغاني الحياة"، وكتاب "الخيال الشعري عند العرب"، و"آثار الشابي"، و"مذكرات".
    تميز شعر أبو القاسم الشابي بالرومانسية وحب الطبيعة، وقد سيطر عليه في بعض قصائده إحساسه بالخوف من الموت ورفضه له فظهرت قصائده محتوية على الكثير من الأسى، وقد دعا أبو القاسم في شعره إلى تأمل النفس وحب الطبيعة، وظهر إحساسه العميق بكل ما يحيط به، وقد تضمن شعره العديد من العناصر فعبّر عن الكون والحياة والموت والبشر والحب والمرأة.

    مقدمة عن الخيال
    قبل بدء الحديث عن مضمون الكتاب لا بأس بإلقاء نظرة بسيطة ومقتضبة عن الخيال والتخييل على اعتبار أن التخييل قضية نقدية تطرق لها النقاد القدامى في كتبهم ومصنفاتهم.
    فالتخييل لغة: من خال الشيء: ظنه وتفرس فيه، وأخاله: اشتبه. وأما اصطلاحا: فهو مصطلح صاغه الفلاسفة المسلمون وعنوا به ذلك الأثر الذي يتركه الكلام المتخيل في نفوس سامعيه.
    يقول ابن سينا: "إن الشعر هو كلام مخيل مؤلف من أقوال موزونة، وعند العرب مقفاة، ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفا من أقوال إيقاعية". أبو علي ابن سينا: فن الشعر من كتاب الشفاء، ص161 دار الثقافة بيروت.
    فالشعر حسب ابن سينا والفلاسفة المسلمين قول قائم على المحاكاة والتخييل الفني والجمالي/ الاستطيقي والانفعالي، ويرى أن الناس أطوع للتخييل منهم للتصديق. والتخييل من أهم الفنون البلاغية والنقدية لأنه يتصل بالإبداع الفني، وهو أساس الشعر الأصيل، وعليه، فإنه يندرج ضمن التخييل التصوير البلاغي القائم على التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
    والتخييل هو قوام الشعر لذلك فإننا نجد ضمن التعريفات القديمة المعطاة للشعر، نجدها تتضمن كلها عنصر التخييل.
    يقول حازم القرطاجني في معرض حديثه عن التخييل معرّفا الشعر: "الشعر هو كلام مخيّل موزون مختص في لسان العرب بزيادة التقفية". ويضيف: "قد تقدم الكلام في أن التخييل هو قوام المعاني الشعرية، والإقناع هو قوام المعاني الخطابية". حازم القرطاجني، المنهاج، ص: 361
    إن الشعر المخيّل هو القائم على التوهيم الخيالي وإثارة الاندهاش. والتخييل له علاقة بالصدق والكذب. والكذب يساوي في الشعر عملية الخلق والإبداع الفني. وهذا ما جعل القدماء يقولون "أعذب الشعر أكذبه"، لذلك أصبح للكذب قوة تخييلية توظف في الشعر، والكذب في الشعر ليس كذبا أخلاقيا إنما هو كذب فني.
    وهكذا إذن، يكون التخييل عنصرا أساسيا في الشعر وسائر الفنون الأدبية القائمة على الخيال الفني طالما أنه يقوم على إعادة تشكيل المدركات في صور فنية جديدة ليست مدركة للحس من قبل. ومن ثم كان التخييل وسيلة لإثارة المتلقي وتوليد الانفعال لديه من خلال القول المخيّل القائم على جمع وتركيب لعناصر متباعدة أو متنافرة في الواقع على مستوى الشعر، وهذا الجمع يتم بواسطة الخيال الذي يتحكم فيه موقف الشاعر مما حوله.



    الخيال
    نشأته في الفكر البشري
    ما كان يفهم منه عند الإنسان الأول
    انقسامه

    يرى الشابي بهذا الخصوص أن الخيال ضروري للإنسان لا غنى عنه، لأنه نشأ في النفس الإنسانية بحكم هذا العالم الذي عاش فيه ونشأ، وبدافع الطبع والغريزة الإنسانية الكامنة خلف الميول والرغبات، وما كان الطبع منشؤه ومنبعه فهو حي خالد لا يمّحي ولا يزول، إلا عند فناء العالم وتناثر الأيام والسنين.
    ثم إن الإنسان الأول عند استعماله الخيال في تعبيراته المختلفة، لم يكن يفهم منه هاته المعاني الثانوية، التي نفهمها نحن ونعيها وندعوها "مجازا"، ولكن هذا الاستعمال لم يكن يخال أنه كلام مجازي إنما هو كلام مباشر وحقيقي. على سبيل المثال: "ماتت الريح"، أو "أقبل الليل" كان هذا القول قولا حقيقيا وليس مجازا، ولهذا قصة قديمة ذلك أن الأساطير القديمة تؤمن بأن الريح والليل إلهان من الآلهة الأقوياء...
    وكنقطة ثالثة فإن الخيال ينقسم إلى قسمين:
    ـ قسم اتخذه الإنسان ليتفهم به مظاهر الكون وتعابير الحياة المختلفة.
    ـ وقسم اتخذه لإظهار ما في نفسه من معنى، لا يفصح عنه الكلام العادي المألوف، ومن هذا القسم الثاني تولّد قسم آخر، ولدته الحضارة في النفوس أو ارتقاء الإنسان نوعا ما عما كان عليه، وهذا القسم الآخر هو "الخيال اللفظي" الذي يراد منه تجميل العبارة وتزويقها وتنميقها ليس إلا.
    والقسم الأول هو أقدم القسمين نشوءا في النفس -حسب الشابي- ، لأن الإنسان أخذ يتعرف ما حوله أولا حتى إذا ما جاشت بقلبه المعاني، أخذ يعبّر عنها بالألفاظ والتراكيب. فالإنسان شاعر بطبعه، في جبلته يكمن الشعر، وفي روحه يترنم البيان.
    ويرى الشابي أن الإنسان مضطر إلى الخيال بطبعه، ومحتاج إليه بفطرته، لأن فيه غذاءه الروحي والمادي. وإن اضطراره إليه جعله في نظره الأول حقيقة لا خيالا، وما أصبح يعرف الخيال من الحقيقة إلا بعد أن تطورت نظرته إلى الحياة ومظاهرها المختلفة.
    ولكنه رغم كل ذلك لم يزل بحاجة إلى الخيال، لأنه، وإن أصبح يحتكم إلى العقل، ويستطيع التعبير عن خوالج نفسه، فهو لم يزل يحتكم إلى الشعور، وسيظل كذلك، لأن الشعور هو العنصر الفعال والأساس عند البشر.
    والخيال أنواع، هناك الخيال الفني الذي تنطبع فيه النظرة الفنية التي يلقيها الإنسان على هذا العالم الواسع، والخيال الشعري الذي يضرب بجذوره إلى أبعد غور في صميم الشعور. والخيال الصناعي الذي هو ضرب من الصناعات اللفظية، ويسمى أيضا "الخيال المجازي" لأنه مجاز على كل حال، سواء قصد منه المجاز، أو لم يقصد منه المجاز، أو لم يقصد منه ذلك كما عند الإنسان القديم.
    وحدد الشابي مجال بحث "الخيال الشعري عند العرب" في الخيال الذي يتكشف عن نهر الإنسانية الجميل الذي أوله لا نهاية الإنسان، وهي الروح، وآخره لا نهاية الحياة، وهي الذات الإلهية. أي بكلمة، البحث عند العرب على الخيال الشعري أو الخيال الفني عبر تلك الثروة الأدبية والمعرفية الطائلة حتى نعرف ما عليه هذا الخيال من قوة إنتاج وإبداع، وصور مغرية من فنون الخيال.

    الخيال الشعري والأساطير العربية

    يقر الشابي بأن التاريخ لا يعرف إلا النزر اليسير من الأساطير العربية، وهنا تكمن صعوبة استخلاص رأي فاصل أو نتيجة جازمة بخصوص هذا الموضوع. فالأساطير العربية إنما هي نبذ متفرقة في كثير من كتب الأدب والأخبار، لا يمكن ضمها إلا بعد جهد كبير، هذا على غير ما نجد في أساطير الأمم الأخرى، فأساطيرنا العربية بعضها لها اتصال بعقائد العرب قبل الإسلام، وبعضها له علاقة بعوائدهم وتقاليدهم، والبعض الآخر يتصل بالتاريخ القديم للمجتمع العربي.
    ومع كل ما تقدم، يمكننا تقسيم الأساطير العربية إلى قسمين رئيسين:
    القسم الأول: فيه الأساطير الدينية، ويندرج تحت هذا القسم ما كان من قبيل العوائد، لأن أكثر العوائد إنما هي متحجرة بمفعول الزمن.
    القسم الثاني: نجد فيه الأساطير التاريخية، وهي تلك الأخبار والمرويات التي لها ارتباط بتاريخ العرب القديم.
    وقد اقتصر الشابي على القسم الأول من الأساطير، دلك أن المرمى والهدف هو معرفة حظ هذه الأساطير من الخيال الشعري قلة وكثرة. لأن النوع الثاني رغم ما فيه من صنعة الخيال، إلا أنه ليس من عمل الخيال الشعري البحت.
    فالأساطير الدينية لا حظ لها من وضاءة الفن وإشراق الحياة، ومن المحال جدا أن يجد الباحث فيها ما اعتاد أن يجده في أساطير الإغريق والرومان من خيال خصب جميل، وعذوبة شعرية متدفقة، فالآلهة العربية لا تنطوي على شيء من الفكر والخيال، ولا تمثل مظهرا من مظاهر الكون، أو عاطفة من عواطف الإنسان، وإنما هي أنصاب وأزلام بسيطة ساذجة شبيهة بلعب الصبية وعرائس الأطفال، والأخرى لا تفصح عن فكر عميق أو شعور دقيق ولا ترمز لمعنى من المعاني السامية، ويستثنى من ذلك أسطورة النجوم التي عليها شيء من وضاءة الشعر ونضارة الخيال.
    إن أساطير العرب وثنية جامدة جافية لا تبلغ الخيال ولا تشتمل على شيء من فلسفة الحياة. وهذا على خلاف بقية الأمم الأخرى التي نجد أساطيرها مشبعة بالروح الشعرية الجميلة، وكمثال أسطورة "أفروديت"، التي نسج حولها اليونان أساطير شعرية شتى لم يعرفها الآشوريون، على اعتبار أنهم أخذوها عن الآشوريين وبدلوا اسمها من عشتروت إلى أفروديت وزعموا أنها خلقت من أمواج البحار. واتخذوا إلها للحب سموه "إيروس" وزعموا أنه ابن أفروديت، وأن له جناحين ذهبيين وأنه يحمل دائما وأبدا سهاما حادة ومشاعل تلتهب...!
    وهنا يتبدّى ذلك العمق الفكري والسعة في الخيال في الأساطير غير العربية. فآلهة اليونان وأساطيرهم عنها: آراء شعرية يتعانق فيها الفكر والخيال، فكل آلهة رمز لفكرة أو عاطفة أو قوة من قوى الوجود وظاهرة من الظواهر الطبيعية المختلفة. ويبرز كذلك تلك المخيّلة القوية والإحساس الفياض الذي يشمل العالم ويحس بأدق نبضات الحياة ودقاتها.

    الخيال الشعري والطبيعة (في رأي الأدب العربي)

    يواصل أبو القاسم الشابي حديثه عن الخيال الشعري ولكن هذه المرة في علاقته بالطبيعة، إن الجمال الطبيعي هو الذي يستفز كوامن الحس ويهز أدق أعلاق الشعور، والذي له أثره في النفوس. والجمال هو الذي مهّد للإنسانية هذا السبيل الذي تضرب فيه واستثار أفكار الجبابرة من مراقد النسيان. ولولا هذا الجمال المنبث في مظاهر الكون وطواياه لاتخذت الإنسانية سبيلا وديدنا آخر غير هذا الذي تعرفه ولحرم العالم من ثمار خالدة أنتجتها العقول والألباب.
    وإذا أردنا تطبيق هذا القياس على الوسط الطبيعي الذي عاشت فيه الأمة العربية فيمكننا أن نقول إن شاعريتها وإبداعها سيكونان شبيهين بالوسط الطبيعي الذي نمت وتدرّجت فيه. وسط محروم من الخضرة والجمال الذي يستفز المشاعر ويؤجج الخيال. فهي أرض خلاء لا يعترض العين فيها سوى الصحاري والفيافي الموحشة المقفرة، وقد يعثر الطرف على رقعة ومساحة يهتز فيها النيات أو جدول صغير يتدفق بين الرمال أو غدير نائم بين الصخور العارية. وبهذا فحتما ستكون طبيعة خيالهم بسيطة وساذجة.
    وبعد هذا الرأي أو الحكم قسم الشابي الأدب العربي إلى أربعة أدوار: الدور الجاهلي، والدور الأموي، والدور العباسي، ةالدور الأندلسي. وفي هاته الأدوار الأربعة بحث عن الطبيعة وحظها من الخيال الشعري. مع الإشارة إلى أن الدورين الجاهلي والأموي قد كانا خاليين أو كذلك من الشعر الذي يتغنى بمحاسن الكون ومفاتن الوجود وسحر الطبيعة. فأدب هذين العصرين قد كان لا يعرض لوصف مناظر الطبيعة إلا إذا دعت إليها الحاجة والضرورة دونما إسهاب في الوصف وإشباع في القول.
    وفي العصر العباسي تبدلت الرؤية وتغيرت الأمزجة والطباع، مع اصطباغ الثقافة والحياة الإسلامية بصبغة قوية مشتركة من حضارات وأقوام مختلفة، هذا التعايش منحنا حضارة جديدة ناعمة جمعت كل ما عرفه الفرس والروم والإسلام، من أفكار وطباع ودين، وأتقن الفرس والروم اللغة العربية ونظموا الشعر بأمزجة غير الأمزجة العربية وأذواق غريبة عن طبائع العرب، وسكن نوابغ الشعر العربي المدن المترفة فعاشوا في أوساط جميلة ووسط طبيعي مغاير لما نشأوا فيه. ففي هذا الوسط تغير كل شيء، وتغنى الشعراء بسحر الطبيعة في مختلف مظاهرها.
    يقول أبو تمام:
    ياصاحبي! تقصيا نظريكما تريا وجوه الأرض كيف تصور
    تريا نهارا مشمسا، قد شابه زهر الرُّبا، فكأنما هو مُقمر!

    والبحتري:
    أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
    وقد نبه النوروز، في غلس الدجى أوائل ورد، كن بالأمس نوّما
    وغيرهما من الشعراء الذين أبدعوا في وصف مظاهر الطبيعة المختلفة.
    وفي الأدب الأندلسي تفشى هذا الأدب الطبيعي تفشيا واسعا حتى كاد يسيطر على غيره من فنون الشعر، وحتى أضحت الطبيعة هي ذلك الحلم البهيج الذي يملأ قلوب الشعراء في سكرات الخيال.
    ومع ذلك للشابي رأي مؤداه أن الفن الطبيعي في الأدب العباسي كان أبعد نظرا وأعمق خيالا وأدق شعورا منه في الأدب الأندلسي. رغما عن أن الأدب الأندلسي أحفل وأزخر بهذا الفن من الأدب العباسي وغيره. ورغما كذلك عن أن البلاد الأندلسية أشد جمالا وأعظم روعة، والأدب الأندلسي أنصع ديباجة وأرقى أسلوبا وأدق تصويرا. ويذهب أبعد من ذلك ليقول بأنه يجد البحتري وأبا تمام وابن الرومي أصدق شعورا وأقوى عاطفة من شعراء الأندلس كابن خفاجة وابن زيدون ويورد نماذج عن ذلك.
    وكخلاصة لهذا الفصل فإن الشعر الطبيعي في العصرين الأولين أي الجاهلي والأموي كان أقل إبداعا في هذا المجال، على خلاف العصرين العباسي والأندلسي حيث تغيرت أنماط اللفظ وصياغة الكلام. وهنا تبرز الفروق الدقيقة التي بينها في تناول الأشياء والنظر إليها.
    ثم أبرز الشابي بعد ذلك كلمتين لشاعرين من شعراء الغرب: لامارتين وغوثه.
    ليتبين الفرق بين الرنة العربية الساذجة والبسيطة، وبين الرنة الغربية العميقة الداوية. وكيف نظر الأدب الغربي إلى الطبيعة.
    فلامارتين يقول "إن الطبيعة أكبر قساوسة الله، وأمهر مصوريه، وأقدر شعرائه وأبرع مغنيه(...)، وفي الزهور ينتشر أرجها في الفضاء وينتثر ورقها على القبور."
    وغوثه يقول: "أرى كل شيء حولي ينبت ويزهر، وحينما كنت أبصر هذه الجبال المغطاة بأشجار الدوم من أسفلها إلى أعاليها. وتلك الأودية المظللة مجانيها بالغابات الأنيقة، وذلك النهر ينساب هادئا بين نغمات القصب المهتزة(...)، وأشعر لحظة واحدة على قصوري وضعفي، بنقطة تجري في دمي من سعادة ذلك الموجود الذي يخلق كل شيء في ذاته وبذاته".
    ليخلص بعد هذا الشابي مرة أخرى إلى أن النظرة العربية إلى الطبيعة بسيطة مهما بلغت من العمق والشعور، وكلمات غوثه الأخيرة هي الأغنية الخالدة التي ترددها النفوس الشاعرة في أعماقها، كلما شاهدت بهجة الكون وجلال الوجود.
    أما شعراء العربية فلم يعبّروا عن مثل هذه الإحساسات الشعرية العميقة، لأنهم لم ينظروا إلى الطبيعة نظرة الحي الخاشع إلى الحي الجليل، وإنما كانوا ينظرون إليها نظرتهم إلى رداء منمّق وطراز جميل، لا تزيد عن الإعجاب البسيط. ومثل هذه الرؤية لا ينتظر منها أن تُشرق بالخيال الشعري لأن منشأه الإحساس الملتهب الفيّاض والشعور العميق، وشعراء العربية لم يحسوا بهذا التيار المتدفق في قلب الطبيعة إلا إحساسا بسيطا خاليا من الحس ونشوة الخيال، كما نجد ذلك في شعر البحتري وأبي تمام وبعض الشعراء الآخرين.






    في سبيل الختم

    قدم أبو القاسم الشابي العديد من الآراء الجريئة والتي عبر عنها في كتاب "الخيال الشعري عند العرب"، والذي استعرض فيه كل ما أنتجه العرب من شعر، فتحدث فيه عن الصورة الشعرية واضعاً الأمثلة الدالة على ما يذهب إليه الشعر العربي في العصور المختلفة، وعمل على عقد مقارنة بين نماذج من الشعر العربي ومقتطفات من أدب الغرب، وذلك ليثبت أن العرب تمسكوا بالصورة المادية في شعرهم، وجعلوا منها محور القول والتفكير، وأن الغرب تمعنوا أكثر فيما وراء الماديات مما زاد في الخرافات والأساطير في الشعر والنثر عندهم.
    وطني علمني ان حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء
    وطني علمني ان التاريخ البشري بدون حب عويل ونكاح في الصحراءhttp://www.wahitalibdaa.com/image.ph...ine=1272034613

    Comment

    Working...
    X