إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

واقعية اللغة فى الحوار

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • واقعية اللغة فى الحوار

    واقعية اللغة فى الحوار

    الواقعية الفنية
    إن الفن الأدبى فى جميع مذاهبه يهدف إلى تصوير المشاعر و التجارب الإنسانية فى صورة تنبض بالحياة ، و تنزلها من عالم التجريد إلى عالم التجسيد ، فكان الواقع ماثلاً فى هذه الإبداعات الأدبية ، و من ثم أصبحت الواقعية فى الأعمال القصصية و الروائية شرطاً يلتزم به المؤلف و الناقد لكى يكون العمل الأدبى ناجحاً .
    إلا أن هذه الواقعية التى لازمت الأدب اكتسبت خلال العصور مفهوماً خاصاً بها ، فهى واقعية فنية لا تطابق الواقع ، و لا تحاكيه محاكاة حمقاء .
    و قد ندد ( روجروم بسفيلد ) بأولئك الذين يرون أن الواقعية هى الأمانة فى تصوير الأحداث و الشخصيات ، ونقلها نقلاً حرفياً كما تلتقطه آلة التصوير ، حين قال عن هذا المفهوم :
    " ليس هذا التفسير إلا أسطورة من الأساطير ، و قد تولى نفسها حتى أولئك الكتاب المسرحيون الذين شاركوا مشاركة وثيقة فى حركة المذهب الإنطباعى .
    التفاوت بين الفن و الواقع :
    اختلط على كثير من الأدباء و النقاد فى العالم العربى ، مفهوم الواقعية فى الأدب ، فطالبوا الواقع مائلاً فى الأعمال الروائية و القصصية و المسرحية ، بزعم الواقعية ، لكن شتان ما بين الواقع و الأدب .
    و لو أخذت البشرية بمبدأ مطابقة الواقع لخرج الأدب عن فنياته ، و فقد سر تفرده الذى هو مصدر تفوقه و بقائه ، ولاستحالت بقية الفنون الأخرى فلم تقم لها وزناً .
    و قد عبر ( فكتور هوجو ) فى تعريفه للمسرح عن الواقعية الفنية بصورة تبرز التفاوت الواضح بين الفن و الواقع ، و تنفى تطابقهما ، و ذلك حين قال : " ليس المسرح بلد الواقع ، ففيه أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، و سماء أسمال و قطع ألماس من الزجاج ، و ذهب من صفائح ، و جواهر زائفة بالخضاب ، و خدود عليها بهرج الزينة ، و شمس تبرز من تحت الأرض و لكنه بلد الحقيقة ، ففيه قلوب إنسانية على المشهد و قلوب إنسانية خلف المسرح ، و قلوب إنسانية أمام (( العرض )) " .
    و هو تصوير دقيق يظهر عمق الواقعية المختصة بالفن ، و هى واقعية نفسية تعتمد على المشاعر و الأحساسيس و صدق العواطف ، لكنها ليست بأى حال مطابقة للواقع المعاش ، بل تختلف عن اختلاف الحقيقة عن صورتها الزائفة ، إلا أنها صورة غنية بالتعبير ، صادقة فى رسم مكنونات النفس ، و دخائل الصدور فالأدب فى جميع أنواعه ابتداء بالشعر ، و انتهاء بالقصة القصيرة ليس نقلاً غفلاً للواقع ، و إلا كان كل كلام أدباً ، و كل ناطق من الناس أديب ، و ليس الأمر كذلك .
    لهذا فإن واقعية الأدب بسماتها الفنية الإبداعية ذات البعد التخيلى ، غير الواقع بقيوده الصادقة ، و يمكننا أن نشير إلى شئ من أوجه الاختلاف بين هذين الواقعين :

    أولاً : تصور الواقعية : -
    لاتصور الواقعية فى الشعر الأِشياء كما هى ، و إلا لما رأينا تلك الصور و الأخيلة المتفاوتة للشعراء و الشاعرات ، و لما اختلفت وجهات نظرهم فى حقائق الحياة ، فكم من بدر كان فى ليل الشاعر حزين شاحباً ، و كم من هلال فى جو ملبد بالغيوم ، خاله آخر وجه الحبيب يطل من خلف الستار .
    ثانياً : الزمن التصورى للرواية : -
    الرواية تصور فترات زمنية قد تصل إلى عقود من الزمن و لكنها لا ترصد فى سردها إلا فترات قصيرة ، و لا تنتقى إلا أحداثاً محددة يوظفها الكاتب لتطوير عمله .
    و لو طالبنا بمطابقة الواقعية الأدبية للواقع ، للزم المؤلف تتبع كل الأحداث و المشاهد و لاحتاج الأمر إلى مئات الصفحات لتسجيل حقبة زمنية محددة .
    ثالثاً : مسافرة الخيال عبر الزمان و المكان
    يسمح الخيال الأدبى للمؤلف بالانتقال خلال الزمان و المكان فى القصة و الرواية و المسرحية ، عن طريق عبارة أو إشارة ، فيتابعه المتلقى ، و يسافر خياله إلى أماكن الرواية و أزمانها ، و المتلقى يستمتع بهذا كله ، على الرغم من هذه التنقلات التى لا يمكن أن تتحقق فى الواقع ، ففى عمله واقعية أدبية ، ينشدها المتلقى ، و هى سر متابعته و تشوقه ، لكنها تبقى غير نقل للحقيقة .
    رابعاً : واقعية و خيالية الحوار الأدبى : -
    إن الحوار القصصى و المسرحى ليس مطابقاً للواقع بإى حال من الأحوال ، لأننا لو طالبنا بهذه المطابقة فإننا نطالب بجمل متقطعه تفتقد الترابط و التسلسل ، " إن الناس عادة ما يثرثرون أكثر مما يتحدثون ، و ينتقلون من موضوع إلى موضوع و بلا هدف معين "، لكن المؤلف يهذب أحاديث الناس و ينسقها ولتصب فى الخط الأساسى الذى تجرى فيه الأحداث .
    يقول : ( ولسن ثورنلى ) لمؤلف القصة : -
    " يجب أن تدرك أن الحوار الذى تكتبه فى قصتك لن يكون حواراً حقيقياً " .
    و إن كان " أشخاص قصتك سوف يتكلمون و يستعملون ما يستعمله الناس من تعابير و طرق كلام ، و مع ذلك فمازالوا فى إطار شروطك و حول الغرض الذى تريد ، و ليس بشكل عشوائى كما يحدث أحياناً فى واقع الحياة . " و مصدر الخلاف هنا بين حوار الأدب و حوار الواقع هو الهدف الذى من أجله أدير الحوار ، فهو ليس مجرد كلام عارض يأتى فى سياق العمل ، لكن له أغراضاً يقصدها المؤلف ، و من أجلها أدار حواراً بين الشخصيات ، ومن هنا كان الحوار القصصى يمتاز بأمور ترفعه عن مستوى الكلام العالى فى الواقع المعاش ، فليس غرض الحوار أن يحكى الحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم فى ثوب المحادثة ما لا يوجد فى محادثة ، فيكون مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث المحادثة مضيعة ، مبيناً واضحاً حيث المحادثة متمتمة أو غامضة .

    خامساً : الحدث المسرحى المتباين : -
    الحدث المسرحى يختلف عن الحدث فى الواقع ، ففى حدث الواقع يبقى كل شخص معزولاً فى طبقته و مهنته التى ينتمى إليها ، على حين ليس من حدث معزول فردى فى المسرحية بل إنه يمارس تأثيرات مباشرة فى مختلف الشخصيات و لا حياة فنية للمسرحية ،ما لم تتفاعل الشخصيات ، و يحتدم الصراع بينها .
    و الحوادث فى الواقع تأتى مزعزعة فيها انطباعات ، و هامشية للكثير منها ، لكنها فى الأدب تأتى مرتبة متوالية مهرولة و بإعداد تام مقصود ، و هذا على غير ما هو فيه فى واقع الحياة .
    مهما بلغت تقنيات المسرح فإنه لا يمكن فيه محاكاة الواقع حرفياً إذ لا يمكن إظهار جميع لوازم الناس فى أحاديثهم و معايشتهم .
    و إذا استطاعت إمكانيات الإخراج المتقدمة أن تظهر شيئاً من واقع الحياة على خشبة المسرح ، فما هى إلا أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، كما قال الكاتب الكبير ( فكتور هوجو ) .
    مفهوم الشخصية فى الحوار :

    ميز النقاد الغربيون بين كلام الأشخاص فى الحياة العادية ، و بين كلام الشخصيات الروائية و المسرحية ، حيث استعملوا مصطلح ( محادثة ) للكلام فى الحياة العادية ، و مصطلح ( حوار ) لكلام الشخصيات فى الروايات و المسرح ، و قد أشار إلى ذلك ( هرمان اولد ) و استعمل هذا الاصطلاح بقية النقاد و فى هذا التفريط إدراك واع للدور الذى يقوم به الحوار فى نمو العمل ، و رسم الشخصيات ، فالسرد مهما أجاده المؤلف ، يبقى تقريراً لأمور غائبة عن المتلقى ، لكن جملة أو كلمة فى الحوار تستطيع أن ترسم صورة الشخصية ببعديها الظاهر و الباطن ، و تظهر الموقف أمام خيال المتلقى رأى العين و لهذا فإنه يستحيل إنشاء محادثة طبيعية تماماً ، إذا كان لابد ، أن تسهم كل عبارة منها فى تطوير المسرحية ، و إذا كان يلزم أن تكشف كل عبارة ، و كل كلمة عن المعالم الجوهرية و العميقة فى الشخصية .
    إن المقصود بالواقعية الأدبية هو أن يلتزم المؤلف حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها ، لا أن ينقلها كما هى فى واقع حياتها .
    و المؤلف – بلا ريب – يستمد من الواقع مادته لكنه لا ينقلها كما هى ، بل يبث فيها الروح الفنية التى تميزها و تمنحها سماتها ، و لو أدار الحوار على ألسنة شخصياته كما يتحدثون فى الحياة الواقعية ، دون اختيار و لا تهذيب ، لجاء حواره لهواً و هذراً لا طائل من ورائه ، يستحيل أن يقوم عليه نص أدبى متميز .
    و الخطر الفنى الحقيقى ، هو مجافاة المسرحية أو القصة للواقع المضمون و الفن لا فى لغة الأداء .
    فلا ضير أن يحاور صبى أو عامى باللغة العربية التى لا إغراب فيها و لا فيهقة ، و لكن الضرر كل الضرر أن يجرى المؤلف على لسان صبى أو عامل عبارات متكلفة لا يتصور فى الواقع أن تمر ببالها .
    و قد كتب أدباء باللغات الأخرى أعمالاً أدبية رسمت فى ثناياها صوراً و مشاهداً لشعوب أخرى ، نقلوا من خلالها مواقف لشخصيات تتحدث بلغاتها ، و مع ذلك انطقها كل مؤلف بلغته ، و بأساليب التعبير فيها ، و لم يشر إلى أساليب الحوار اللغوية للغة الأصلية للشخصيات ، و قد أبدع أدباء العالم فناً راقياً و تراثاً خالداً ، و لم يقل أحد إن هذا المؤلف أو ذاك لم يكن واقعياً فى حوار شخصياته ، فلم ينطقها بلغاتها أو بلهجاتها الأصلية .
    و أقرب مثال على ذلك الكتاب العرب فى المغرب العربى الذين كتبوا نتاجهم الأدبى باللغة الفرنسية ، مصورين معاناة شعوبهم ، و مظاهر الحياة فى الأرياف و القرى ، بحواريها و منعطفاتها العتيقة ، و ما يدور على ألسنة سكانها من أحاديث ، فأنطقوا شخصياتهم باللغة الفرنسية ، ومع ذلك كانوا واقعيين .
    و شهد لهم أهل تلك اللغة بالتميز و الإبداع ، لأنهم جسدوا واقعهم فى أعمالهم على نحو فريد ، ومن هذا يتبين لنا موقف المؤلف حيال الواقع الذى يستمد منه إيحاءات أعماله ، فمهاراته تعتمد على الأنموذج الفنى الذى يصنعه بتقنياته لذلك الأصل الذى أثاره و حفز كوامنه .
    لا أن ينقل ذلك الأصل كما شاهده ، و لا أن يملأ عمله بتسجيل كلام الناس ، و ما يجرى بينهم من أحاديث فى أنديتهم و أسواقهم ، لأن الإبداع الأدبى ليس فى الكاتب لمشاعر شخصياته ، و رصد التعبيرات التى تكتنفها ، من جراء معاناتها من واقعها ، و القدرة على إجراء الحوار بينها بصورة تظهر آثار تفاعلها مع بعضها ، و اصطدامها مع واقعها ، و آثار ذلك التفاعل على تصرفاتها ، بحيث تكون الشخصية أنموذجاً فنياً لواقعها المادى .

    الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة :
    فى الوطن العربى ، أخذ مفهوم الواقعية الفنية منحى آخر لعله أشد خطراً فى فهم هذا المصطلح النقدى ، حين وجه توجيهاً خاطئاً فقصد به مطابقة الواقع اللغوى فى الحوار ، فأبعد الفن عن سموه و جمالياته ، ليصبح فى كثير من الأحيان نقلاً ساذجاً لألفاظ العامة و مهاتراتها .
    إن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة ، و الخلط بينهما لا يصدر إلا عن قصور شنيع فى فهم الواقعية .
    فالواقعية يقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة و المجتمع . فالمؤلف لا ينطق بلسان المقال بل بلسان الحال ، فيعيرها أسلوباً تعبر به عن واقعها فى عمق ، قد لا يحتمل صدوره عن الشخصية فى مثل حالتها فى الواقع ، لكن لابد فى عالم الأدب من الاختيار و التعمق لا الاقتصار على نقل الواقع .
    و لقد كان الحوار القصصى و المسرحى بهذا المفهوم المنحرف للواقعية مجالاً واسعاً لإقحام اللهجات العامية بسطحيتها مجال التعبير الفنى ، على زعم أن التعبير بغير هذه اللغة تزييفاً للحياة الواقعية ، خاصة إذا كان هذا الحوار يدور بين أناس بسطاء فى بيئة شعبية .
    و لهذا شغل كثير من النقاد العرب بمطلب الواقعية اللغوية فى الحوار ، و انحرافوا بهذا المفهوم النقدى عن دلالته عند جميع الأمم ، و حصروه لدينا فى مقولة : وجوب كون الحوار بالعامية وواقعية اللغة فى الحوار أمر يتطلبه العمل الفنى ، لكنه ليس بهذا المفهوم الذى شاع لدى نقادنا ، فليس المقصود بواقعية اللغة أن تدع كل شخصية فى الرواية تتحدث بلغتها الخاصة ، و إلا جاءت المسرحية خليطاً غير مفهوم – و إنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها بشخصيات الرواية ، فهى الواقعية النفسية و العقلية و العاطفية ، فلا يتحدث أمى بأفكار الفلاسفة .
    و أما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة فى التأليف المسرحى أو التأليف الأدبى الذى لا يخرج أن يكون فناً ، و كل فن صناعة . .
    و لقد جاء هذا المفهوم المضلل للواقعية الفنية نتيجة فى فهم الفن الأدبى ، و مصادر جمالياته ، و سموه فى الوسائل و الغايات ، فقد وضعت المسألة وضعاً خاطئاً على أساس الواقع و مسايرته ، لا على أساس مطلب الأدب ، وما ينبغى أن يكون من أجل النهضة بالأجناس الأدبية ، و هذا هدف يقصر بالفن ، و يجعله من المتاع الذى لا هدف له إلا دغدغة أحاسيس المتلقى بأية صورة و بأى ثمن و يصبح كل كلام يجرى بين الناس فناً ، مهما كانت صورته ، و ليس الأمر كذلك ، إذ الفن ليس نزولاً و انحطاطاً ، و إنما هو رقى بالمشاعر يرفع جمهوره عن سفاسف الأمور و بذئ الألفاظ .
    و الكوميدى منه بالذات ، بمقولة الواقع العامى ، الذى يلزم معه وجود بعض العبارات العامية التى تقصر الفصحى عن التعبير عنها .
    و هذا تدن خطير فى إدراك جماليات المسرح الكوميدى و تذوقها ، أدى إلى ظهور مسرح هابط فى الساحة العربية يعتمد على النكات اللفظية ، البذيئة غالباً ، و التنابز بالألقاب ، و ما إليها من عبارات ذات طابع محلى ، تهدف إلى استدرار ضحك الجمهور .
    و فى هذا تزييف لواقع مسرح الملهاة الناضج كما يفهم لدى جميع الأمم ذلك أن " جوهر الملهاة " فى الموقف ، و المفارقات التى تثير الضحك ، لا فى عبارات الشتم و الدعابة ""
    أما غير ذلك من عبارات الحوار فى سائر الفنون الأدبية ، فإنها تعتمد اعتماداً شاملاً على قدرة المؤلف فى تقمص شخصياته ، و التعبير عنها خلال تفاعلها مع الأحداث ، و اصطدمها بالواقع ، و ما ينتج عن هذا من انفعالات و أحاسيس تنجلى فى أساليب التعبير ، و طرائق معالجة الأفكار المثابرة ، فتظهر من خلالها محاولات الشخصيات فى التوافق مع هذا الواقع أو محاولة تغيير ..
    و ما أن يتوقف المتلقى ليقول أن الناس لا يتكلمون فى الواقع كما يتكلمون فى الكتابة ، حتى يكون فى حالة انفلات سيطرة المؤلف عليه ، و إذ ذاك لا يكون النقص فى الحوار فقط بل فى المتحاورين أنفسهم ، لأنهم قدموا تقديماً سيئاً غير مبنى على فهم واقعهم و بيئتهم و طبيعة حياتهم و دلالاتهم الاجتماعية فيجئ حوارهم متجانفاً مع الواقع .
    على أن هناك جانباً آخر ، له أثر كبير فى توجيه هذه القضية ، يحسن الإشارة إليه هنا ، و هو ثقافة المؤلف اللغوية و عمق تجربته فى المجال القصصى ، و أثر ذلك فى أخذ المؤلف بالفصحى و تجويد أسلوبه .

    أسلوبية محمود تيمور المتجددة
    ذكرت الدكتورة { نفوسة زكريا } حديثاً لها مع الكاتب الكبير محمود تيمور و رائد القصة ، يشير فيه إلى أنه استخدم العامية عندما كان كاتباً ناشئاً ، يحاول أن يتعرف على الطرق فى بداية القصة ، و يجرى فى حقلها مختلف التجارب باحثاً عن الأسلوب الكتابى فيها ، و عن أصلح الأدوات اللازمة له .
    و قد كان يلحظ على أسلوبه مؤاخذات لغوية ، و أسلوبية ، مما جعله يعرض أعماله على الأستاذ { شوقى أمين} ليصحح التركيب الإنشائى فى قصصه ، إلى أن تمكن بعد ذلك من زمام اللغة ، و أصبح ذا أسلوب متميز رصين
    و لعل هذا الجانب – أعنى ثقافة الكاتب اللغوية و قدراته على إدارة الحوار بالفصحى – يشكل العامل الأهم فى رفض بعض الكتاب استعمال الفصحى فى حوارهم . و هو على كل حال قصور ذاتى ، لا علاقة له باللغة و قدراتها ، و مدى ملاءمتها للتعبير عن البيئات المختلفة .
    و يمكن للمؤلف الحريص على تجويد عمله و الرقى به ، أن يطور نفسه كما فعل محمود تيمور الذى بلغ من حرصه على صقل إبداعه أن رجع إلى بعض قصصه الأولى التى كتب حوارها بالعامية فأعاد كتابتها بالفصحى


    العمق الإبداعى و دقة التعبير
    الفن الأدبى عمل إبداعى فيه من العمق و دقة التعبير ما يحتاج معه المؤلف إلى صقل موهبته و تثقيفها و العناية بلغته و أسلوبه ، كما يحتاج إلى جمهور يرنو إلى السمو بفكره و خياله ، لا أن ينظر إلى أسفل القاع ، و فى هذا كله دلالة على أن الأدب ليس مسايرة للمألوف ، و ما هو موجود ، و إن أخطر شئ على الأدب القصصى أن نجارى وقائع الأمور أو نتتبع أيسر الطرق ، أو أن نجافى ما سارت عليه الآداب فى الأمم التى عنيت بلغتها الأدبية .
    و مما هو معروف لدى الأدباء العالميين فى مسرحهم الواقعى حرصهم على اختيار العبارة الدالة و إحكام صياغتها ووضعها موضعها الدرامى ، بل و يستحسن كثير من الواعين فى لغة الأداء الفنى استعمال الشعر نفسه فى المسرحيات الواقعية .
    و إذا كان هذا مدى احتفاء الأدباء و النقاد بمستوى التجويد فى الحوار الأدبى ، فإن جعل الشخصيات العامة تنطق بالعربية الفصحى لا يتنافى مع الواقعية بمدلولها الفنى على أن الحوار بالفصحى واجب يحتمه حق لأمتنا على أدبائها و مثقفيها ، كى تصان هويتها ، يجعل لسانها حياً يحفظ لها أصالتها ، و يمدها بسلاح لاستمرارها ، و بناء مستقبلها .
    لذلك اعتمدت الفنون الإنسانية فى جميع العصور على تقليد الواقع المعاش ، و تحويره بما يلائم طبيعة هذا الفن أو ذاك ، فكان ارتباط الحاسة الفنية بواقعها عنصراً أصيلاً التزمته فى جميع ممارساتها ، حيث نادى أفلاطون بنظرية محاكاة الموجودات ، و حصرها أرسطو فى الفنون .
    و قامت الواقعية و الطبيعية و غيرها من مذاهب الأدب ، فكانت تصل الواقع بأوثق الأسباب ، وكان تصويره ركيزه أساسية ، امتزج فيها بفلسفاتها الخاصة بشكل أو بآخر .
    و بالتالى فعندما يلتقى الأدب و الثقافة على صعيد اللغة فهذه اللغة ليست فى الواقع واحدة عند كليهما بكل أبعادها و دلالاتها و إيحاءاتها .
    إن لغة الأدب هى لغة الذات الواقعية الإنسانية التى لا تحد أعماقها و أبعادها و عواطفها حدود .
    أما لغة الواقعية فهى لغة الحس المعلن و الكشف الموضوعى عن الحقائق ، و لغة التعبير المحدد الدقيق ..
    و مادام الهاجس السائد فى الوقت الحاضر لتطور اللغة و استحسان الواقعية يعتبر بمثابة تحقيق ديناميكية علمية موازية للديناميكية الأدبية التى سادت العالم عصوراً فلابد من البحث عن الأسس التى قامت عليها هذه الديناميكية و عن كل ما يدعم وجودها و تطورها و يكفل استمراريتها .

    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون

  • #2
    واقعية اللغة فى الحوار

    واقعية اللغة فى الحوار

    الواقعية الفنية
    إن الفن الأدبى فى جميع مذاهبه يهدف إلى تصوير المشاعر و التجارب الإنسانية فى صورة تنبض بالحياة ، و تنزلها من عالم التجريد إلى عالم التجسيد ، فكان الواقع ماثلاً فى هذه الإبداعات الأدبية ، و من ثم أصبحت الواقعية فى الأعمال القصصية و الروائية شرطاً يلتزم به المؤلف و الناقد لكى يكون العمل الأدبى ناجحاً .
    إلا أن هذه الواقعية التى لازمت الأدب اكتسبت خلال العصور مفهوماً خاصاً بها ، فهى واقعية فنية لا تطابق الواقع ، و لا تحاكيه محاكاة حمقاء .
    و قد ندد ( روجروم بسفيلد ) بأولئك الذين يرون أن الواقعية هى الأمانة فى تصوير الأحداث و الشخصيات ، ونقلها نقلاً حرفياً كما تلتقطه آلة التصوير ، حين قال عن هذا المفهوم :
    " ليس هذا التفسير إلا أسطورة من الأساطير ، و قد تولى نفسها حتى أولئك الكتاب المسرحيون الذين شاركوا مشاركة وثيقة فى حركة المذهب الإنطباعى .
    التفاوت بين الفن و الواقع :
    اختلط على كثير من الأدباء و النقاد فى العالم العربى ، مفهوم الواقعية فى الأدب ، فطالبوا الواقع مائلاً فى الأعمال الروائية و القصصية و المسرحية ، بزعم الواقعية ، لكن شتان ما بين الواقع و الأدب .
    و لو أخذت البشرية بمبدأ مطابقة الواقع لخرج الأدب عن فنياته ، و فقد سر تفرده الذى هو مصدر تفوقه و بقائه ، ولاستحالت بقية الفنون الأخرى فلم تقم لها وزناً .
    و قد عبر ( فكتور هوجو ) فى تعريفه للمسرح عن الواقعية الفنية بصورة تبرز التفاوت الواضح بين الفن و الواقع ، و تنفى تطابقهما ، و ذلك حين قال : " ليس المسرح بلد الواقع ، ففيه أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، و سماء أسمال و قطع ألماس من الزجاج ، و ذهب من صفائح ، و جواهر زائفة بالخضاب ، و خدود عليها بهرج الزينة ، و شمس تبرز من تحت الأرض و لكنه بلد الحقيقة ، ففيه قلوب إنسانية على المشهد و قلوب إنسانية خلف المسرح ، و قلوب إنسانية أمام (( العرض )) " .
    و هو تصوير دقيق يظهر عمق الواقعية المختصة بالفن ، و هى واقعية نفسية تعتمد على المشاعر و الأحساسيس و صدق العواطف ، لكنها ليست بأى حال مطابقة للواقع المعاش ، بل تختلف عن اختلاف الحقيقة عن صورتها الزائفة ، إلا أنها صورة غنية بالتعبير ، صادقة فى رسم مكنونات النفس ، و دخائل الصدور فالأدب فى جميع أنواعه ابتداء بالشعر ، و انتهاء بالقصة القصيرة ليس نقلاً غفلاً للواقع ، و إلا كان كل كلام أدباً ، و كل ناطق من الناس أديب ، و ليس الأمر كذلك .
    لهذا فإن واقعية الأدب بسماتها الفنية الإبداعية ذات البعد التخيلى ، غير الواقع بقيوده الصادقة ، و يمكننا أن نشير إلى شئ من أوجه الاختلاف بين هذين الواقعين :

    أولاً : تصور الواقعية : -
    لاتصور الواقعية فى الشعر الأِشياء كما هى ، و إلا لما رأينا تلك الصور و الأخيلة المتفاوتة للشعراء و الشاعرات ، و لما اختلفت وجهات نظرهم فى حقائق الحياة ، فكم من بدر كان فى ليل الشاعر حزين شاحباً ، و كم من هلال فى جو ملبد بالغيوم ، خاله آخر وجه الحبيب يطل من خلف الستار .
    ثانياً : الزمن التصورى للرواية : -
    الرواية تصور فترات زمنية قد تصل إلى عقود من الزمن و لكنها لا ترصد فى سردها إلا فترات قصيرة ، و لا تنتقى إلا أحداثاً محددة يوظفها الكاتب لتطوير عمله .
    و لو طالبنا بمطابقة الواقعية الأدبية للواقع ، للزم المؤلف تتبع كل الأحداث و المشاهد و لاحتاج الأمر إلى مئات الصفحات لتسجيل حقبة زمنية محددة .
    ثالثاً : مسافرة الخيال عبر الزمان و المكان
    يسمح الخيال الأدبى للمؤلف بالانتقال خلال الزمان و المكان فى القصة و الرواية و المسرحية ، عن طريق عبارة أو إشارة ، فيتابعه المتلقى ، و يسافر خياله إلى أماكن الرواية و أزمانها ، و المتلقى يستمتع بهذا كله ، على الرغم من هذه التنقلات التى لا يمكن أن تتحقق فى الواقع ، ففى عمله واقعية أدبية ، ينشدها المتلقى ، و هى سر متابعته و تشوقه ، لكنها تبقى غير نقل للحقيقة .
    رابعاً : واقعية و خيالية الحوار الأدبى : -
    إن الحوار القصصى و المسرحى ليس مطابقاً للواقع بإى حال من الأحوال ، لأننا لو طالبنا بهذه المطابقة فإننا نطالب بجمل متقطعه تفتقد الترابط و التسلسل ، " إن الناس عادة ما يثرثرون أكثر مما يتحدثون ، و ينتقلون من موضوع إلى موضوع و بلا هدف معين "، لكن المؤلف يهذب أحاديث الناس و ينسقها ولتصب فى الخط الأساسى الذى تجرى فيه الأحداث .
    يقول : ( ولسن ثورنلى ) لمؤلف القصة : -
    " يجب أن تدرك أن الحوار الذى تكتبه فى قصتك لن يكون حواراً حقيقياً " .
    و إن كان " أشخاص قصتك سوف يتكلمون و يستعملون ما يستعمله الناس من تعابير و طرق كلام ، و مع ذلك فمازالوا فى إطار شروطك و حول الغرض الذى تريد ، و ليس بشكل عشوائى كما يحدث أحياناً فى واقع الحياة . " و مصدر الخلاف هنا بين حوار الأدب و حوار الواقع هو الهدف الذى من أجله أدير الحوار ، فهو ليس مجرد كلام عارض يأتى فى سياق العمل ، لكن له أغراضاً يقصدها المؤلف ، و من أجلها أدار حواراً بين الشخصيات ، ومن هنا كان الحوار القصصى يمتاز بأمور ترفعه عن مستوى الكلام العالى فى الواقع المعاش ، فليس غرض الحوار أن يحكى الحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم فى ثوب المحادثة ما لا يوجد فى محادثة ، فيكون مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث المحادثة مضيعة ، مبيناً واضحاً حيث المحادثة متمتمة أو غامضة .

    خامساً : الحدث المسرحى المتباين : -
    الحدث المسرحى يختلف عن الحدث فى الواقع ، ففى حدث الواقع يبقى كل شخص معزولاً فى طبقته و مهنته التى ينتمى إليها ، على حين ليس من حدث معزول فردى فى المسرحية بل إنه يمارس تأثيرات مباشرة فى مختلف الشخصيات و لا حياة فنية للمسرحية ،ما لم تتفاعل الشخصيات ، و يحتدم الصراع بينها .
    و الحوادث فى الواقع تأتى مزعزعة فيها انطباعات ، و هامشية للكثير منها ، لكنها فى الأدب تأتى مرتبة متوالية مهرولة و بإعداد تام مقصود ، و هذا على غير ما هو فيه فى واقع الحياة .
    مهما بلغت تقنيات المسرح فإنه لا يمكن فيه محاكاة الواقع حرفياً إذ لا يمكن إظهار جميع لوازم الناس فى أحاديثهم و معايشتهم .
    و إذا استطاعت إمكانيات الإخراج المتقدمة أن تظهر شيئاً من واقع الحياة على خشبة المسرح ، فما هى إلا أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، كما قال الكاتب الكبير ( فكتور هوجو ) .
    مفهوم الشخصية فى الحوار :

    ميز النقاد الغربيون بين كلام الأشخاص فى الحياة العادية ، و بين كلام الشخصيات الروائية و المسرحية ، حيث استعملوا مصطلح ( محادثة ) للكلام فى الحياة العادية ، و مصطلح ( حوار ) لكلام الشخصيات فى الروايات و المسرح ، و قد أشار إلى ذلك ( هرمان اولد ) و استعمل هذا الاصطلاح بقية النقاد و فى هذا التفريط إدراك واع للدور الذى يقوم به الحوار فى نمو العمل ، و رسم الشخصيات ، فالسرد مهما أجاده المؤلف ، يبقى تقريراً لأمور غائبة عن المتلقى ، لكن جملة أو كلمة فى الحوار تستطيع أن ترسم صورة الشخصية ببعديها الظاهر و الباطن ، و تظهر الموقف أمام خيال المتلقى رأى العين و لهذا فإنه يستحيل إنشاء محادثة طبيعية تماماً ، إذا كان لابد ، أن تسهم كل عبارة منها فى تطوير المسرحية ، و إذا كان يلزم أن تكشف كل عبارة ، و كل كلمة عن المعالم الجوهرية و العميقة فى الشخصية .
    إن المقصود بالواقعية الأدبية هو أن يلتزم المؤلف حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها ، لا أن ينقلها كما هى فى واقع حياتها .
    و المؤلف – بلا ريب – يستمد من الواقع مادته لكنه لا ينقلها كما هى ، بل يبث فيها الروح الفنية التى تميزها و تمنحها سماتها ، و لو أدار الحوار على ألسنة شخصياته كما يتحدثون فى الحياة الواقعية ، دون اختيار و لا تهذيب ، لجاء حواره لهواً و هذراً لا طائل من ورائه ، يستحيل أن يقوم عليه نص أدبى متميز .
    و الخطر الفنى الحقيقى ، هو مجافاة المسرحية أو القصة للواقع المضمون و الفن لا فى لغة الأداء .
    فلا ضير أن يحاور صبى أو عامى باللغة العربية التى لا إغراب فيها و لا فيهقة ، و لكن الضرر كل الضرر أن يجرى المؤلف على لسان صبى أو عامل عبارات متكلفة لا يتصور فى الواقع أن تمر ببالها .
    و قد كتب أدباء باللغات الأخرى أعمالاً أدبية رسمت فى ثناياها صوراً و مشاهداً لشعوب أخرى ، نقلوا من خلالها مواقف لشخصيات تتحدث بلغاتها ، و مع ذلك انطقها كل مؤلف بلغته ، و بأساليب التعبير فيها ، و لم يشر إلى أساليب الحوار اللغوية للغة الأصلية للشخصيات ، و قد أبدع أدباء العالم فناً راقياً و تراثاً خالداً ، و لم يقل أحد إن هذا المؤلف أو ذاك لم يكن واقعياً فى حوار شخصياته ، فلم ينطقها بلغاتها أو بلهجاتها الأصلية .
    و أقرب مثال على ذلك الكتاب العرب فى المغرب العربى الذين كتبوا نتاجهم الأدبى باللغة الفرنسية ، مصورين معاناة شعوبهم ، و مظاهر الحياة فى الأرياف و القرى ، بحواريها و منعطفاتها العتيقة ، و ما يدور على ألسنة سكانها من أحاديث ، فأنطقوا شخصياتهم باللغة الفرنسية ، ومع ذلك كانوا واقعيين .
    و شهد لهم أهل تلك اللغة بالتميز و الإبداع ، لأنهم جسدوا واقعهم فى أعمالهم على نحو فريد ، ومن هذا يتبين لنا موقف المؤلف حيال الواقع الذى يستمد منه إيحاءات أعماله ، فمهاراته تعتمد على الأنموذج الفنى الذى يصنعه بتقنياته لذلك الأصل الذى أثاره و حفز كوامنه .
    لا أن ينقل ذلك الأصل كما شاهده ، و لا أن يملأ عمله بتسجيل كلام الناس ، و ما يجرى بينهم من أحاديث فى أنديتهم و أسواقهم ، لأن الإبداع الأدبى ليس فى الكاتب لمشاعر شخصياته ، و رصد التعبيرات التى تكتنفها ، من جراء معاناتها من واقعها ، و القدرة على إجراء الحوار بينها بصورة تظهر آثار تفاعلها مع بعضها ، و اصطدامها مع واقعها ، و آثار ذلك التفاعل على تصرفاتها ، بحيث تكون الشخصية أنموذجاً فنياً لواقعها المادى .

    الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة :
    فى الوطن العربى ، أخذ مفهوم الواقعية الفنية منحى آخر لعله أشد خطراً فى فهم هذا المصطلح النقدى ، حين وجه توجيهاً خاطئاً فقصد به مطابقة الواقع اللغوى فى الحوار ، فأبعد الفن عن سموه و جمالياته ، ليصبح فى كثير من الأحيان نقلاً ساذجاً لألفاظ العامة و مهاتراتها .
    إن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة ، و الخلط بينهما لا يصدر إلا عن قصور شنيع فى فهم الواقعية .
    فالواقعية يقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة و المجتمع . فالمؤلف لا ينطق بلسان المقال بل بلسان الحال ، فيعيرها أسلوباً تعبر به عن واقعها فى عمق ، قد لا يحتمل صدوره عن الشخصية فى مثل حالتها فى الواقع ، لكن لابد فى عالم الأدب من الاختيار و التعمق لا الاقتصار على نقل الواقع .
    و لقد كان الحوار القصصى و المسرحى بهذا المفهوم المنحرف للواقعية مجالاً واسعاً لإقحام اللهجات العامية بسطحيتها مجال التعبير الفنى ، على زعم أن التعبير بغير هذه اللغة تزييفاً للحياة الواقعية ، خاصة إذا كان هذا الحوار يدور بين أناس بسطاء فى بيئة شعبية .
    و لهذا شغل كثير من النقاد العرب بمطلب الواقعية اللغوية فى الحوار ، و انحرافوا بهذا المفهوم النقدى عن دلالته عند جميع الأمم ، و حصروه لدينا فى مقولة : وجوب كون الحوار بالعامية وواقعية اللغة فى الحوار أمر يتطلبه العمل الفنى ، لكنه ليس بهذا المفهوم الذى شاع لدى نقادنا ، فليس المقصود بواقعية اللغة أن تدع كل شخصية فى الرواية تتحدث بلغتها الخاصة ، و إلا جاءت المسرحية خليطاً غير مفهوم – و إنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها بشخصيات الرواية ، فهى الواقعية النفسية و العقلية و العاطفية ، فلا يتحدث أمى بأفكار الفلاسفة .
    و أما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة فى التأليف المسرحى أو التأليف الأدبى الذى لا يخرج أن يكون فناً ، و كل فن صناعة . .
    و لقد جاء هذا المفهوم المضلل للواقعية الفنية نتيجة فى فهم الفن الأدبى ، و مصادر جمالياته ، و سموه فى الوسائل و الغايات ، فقد وضعت المسألة وضعاً خاطئاً على أساس الواقع و مسايرته ، لا على أساس مطلب الأدب ، وما ينبغى أن يكون من أجل النهضة بالأجناس الأدبية ، و هذا هدف يقصر بالفن ، و يجعله من المتاع الذى لا هدف له إلا دغدغة أحاسيس المتلقى بأية صورة و بأى ثمن و يصبح كل كلام يجرى بين الناس فناً ، مهما كانت صورته ، و ليس الأمر كذلك ، إذ الفن ليس نزولاً و انحطاطاً ، و إنما هو رقى بالمشاعر يرفع جمهوره عن سفاسف الأمور و بذئ الألفاظ .
    و الكوميدى منه بالذات ، بمقولة الواقع العامى ، الذى يلزم معه وجود بعض العبارات العامية التى تقصر الفصحى عن التعبير عنها .
    و هذا تدن خطير فى إدراك جماليات المسرح الكوميدى و تذوقها ، أدى إلى ظهور مسرح هابط فى الساحة العربية يعتمد على النكات اللفظية ، البذيئة غالباً ، و التنابز بالألقاب ، و ما إليها من عبارات ذات طابع محلى ، تهدف إلى استدرار ضحك الجمهور .
    و فى هذا تزييف لواقع مسرح الملهاة الناضج كما يفهم لدى جميع الأمم ذلك أن " جوهر الملهاة " فى الموقف ، و المفارقات التى تثير الضحك ، لا فى عبارات الشتم و الدعابة ""
    أما غير ذلك من عبارات الحوار فى سائر الفنون الأدبية ، فإنها تعتمد اعتماداً شاملاً على قدرة المؤلف فى تقمص شخصياته ، و التعبير عنها خلال تفاعلها مع الأحداث ، و اصطدمها بالواقع ، و ما ينتج عن هذا من انفعالات و أحاسيس تنجلى فى أساليب التعبير ، و طرائق معالجة الأفكار المثابرة ، فتظهر من خلالها محاولات الشخصيات فى التوافق مع هذا الواقع أو محاولة تغيير ..
    و ما أن يتوقف المتلقى ليقول أن الناس لا يتكلمون فى الواقع كما يتكلمون فى الكتابة ، حتى يكون فى حالة انفلات سيطرة المؤلف عليه ، و إذ ذاك لا يكون النقص فى الحوار فقط بل فى المتحاورين أنفسهم ، لأنهم قدموا تقديماً سيئاً غير مبنى على فهم واقعهم و بيئتهم و طبيعة حياتهم و دلالاتهم الاجتماعية فيجئ حوارهم متجانفاً مع الواقع .
    على أن هناك جانباً آخر ، له أثر كبير فى توجيه هذه القضية ، يحسن الإشارة إليه هنا ، و هو ثقافة المؤلف اللغوية و عمق تجربته فى المجال القصصى ، و أثر ذلك فى أخذ المؤلف بالفصحى و تجويد أسلوبه .

    أسلوبية محمود تيمور المتجددة
    ذكرت الدكتورة { نفوسة زكريا } حديثاً لها مع الكاتب الكبير محمود تيمور و رائد القصة ، يشير فيه إلى أنه استخدم العامية عندما كان كاتباً ناشئاً ، يحاول أن يتعرف على الطرق فى بداية القصة ، و يجرى فى حقلها مختلف التجارب باحثاً عن الأسلوب الكتابى فيها ، و عن أصلح الأدوات اللازمة له .
    و قد كان يلحظ على أسلوبه مؤاخذات لغوية ، و أسلوبية ، مما جعله يعرض أعماله على الأستاذ { شوقى أمين} ليصحح التركيب الإنشائى فى قصصه ، إلى أن تمكن بعد ذلك من زمام اللغة ، و أصبح ذا أسلوب متميز رصين
    و لعل هذا الجانب – أعنى ثقافة الكاتب اللغوية و قدراته على إدارة الحوار بالفصحى – يشكل العامل الأهم فى رفض بعض الكتاب استعمال الفصحى فى حوارهم . و هو على كل حال قصور ذاتى ، لا علاقة له باللغة و قدراتها ، و مدى ملاءمتها للتعبير عن البيئات المختلفة .
    و يمكن للمؤلف الحريص على تجويد عمله و الرقى به ، أن يطور نفسه كما فعل محمود تيمور الذى بلغ من حرصه على صقل إبداعه أن رجع إلى بعض قصصه الأولى التى كتب حوارها بالعامية فأعاد كتابتها بالفصحى


    العمق الإبداعى و دقة التعبير
    الفن الأدبى عمل إبداعى فيه من العمق و دقة التعبير ما يحتاج معه المؤلف إلى صقل موهبته و تثقيفها و العناية بلغته و أسلوبه ، كما يحتاج إلى جمهور يرنو إلى السمو بفكره و خياله ، لا أن ينظر إلى أسفل القاع ، و فى هذا كله دلالة على أن الأدب ليس مسايرة للمألوف ، و ما هو موجود ، و إن أخطر شئ على الأدب القصصى أن نجارى وقائع الأمور أو نتتبع أيسر الطرق ، أو أن نجافى ما سارت عليه الآداب فى الأمم التى عنيت بلغتها الأدبية .
    و مما هو معروف لدى الأدباء العالميين فى مسرحهم الواقعى حرصهم على اختيار العبارة الدالة و إحكام صياغتها ووضعها موضعها الدرامى ، بل و يستحسن كثير من الواعين فى لغة الأداء الفنى استعمال الشعر نفسه فى المسرحيات الواقعية .
    و إذا كان هذا مدى احتفاء الأدباء و النقاد بمستوى التجويد فى الحوار الأدبى ، فإن جعل الشخصيات العامة تنطق بالعربية الفصحى لا يتنافى مع الواقعية بمدلولها الفنى على أن الحوار بالفصحى واجب يحتمه حق لأمتنا على أدبائها و مثقفيها ، كى تصان هويتها ، يجعل لسانها حياً يحفظ لها أصالتها ، و يمدها بسلاح لاستمرارها ، و بناء مستقبلها .
    لذلك اعتمدت الفنون الإنسانية فى جميع العصور على تقليد الواقع المعاش ، و تحويره بما يلائم طبيعة هذا الفن أو ذاك ، فكان ارتباط الحاسة الفنية بواقعها عنصراً أصيلاً التزمته فى جميع ممارساتها ، حيث نادى أفلاطون بنظرية محاكاة الموجودات ، و حصرها أرسطو فى الفنون .
    و قامت الواقعية و الطبيعية و غيرها من مذاهب الأدب ، فكانت تصل الواقع بأوثق الأسباب ، وكان تصويره ركيزه أساسية ، امتزج فيها بفلسفاتها الخاصة بشكل أو بآخر .
    و بالتالى فعندما يلتقى الأدب و الثقافة على صعيد اللغة فهذه اللغة ليست فى الواقع واحدة عند كليهما بكل أبعادها و دلالاتها و إيحاءاتها .
    إن لغة الأدب هى لغة الذات الواقعية الإنسانية التى لا تحد أعماقها و أبعادها و عواطفها حدود .
    أما لغة الواقعية فهى لغة الحس المعلن و الكشف الموضوعى عن الحقائق ، و لغة التعبير المحدد الدقيق ..
    و مادام الهاجس السائد فى الوقت الحاضر لتطور اللغة و استحسان الواقعية يعتبر بمثابة تحقيق ديناميكية علمية موازية للديناميكية الأدبية التى سادت العالم عصوراً فلابد من البحث عن الأسس التى قامت عليها هذه الديناميكية و عن كل ما يدعم وجودها و تطورها و يكفل استمراريتها .

    اللهم اجعلني خيرا مما يظنون
    ولاتؤاخذني بما يقولون
    واغفر لي مالا يعلمون

    تعليق

    يعمل...
    X