واقعية اللغة فى الحوار
الواقعية الفنية
إن الفن الأدبى فى جميع مذاهبه يهدف إلى تصوير المشاعر و التجارب الإنسانية فى صورة تنبض بالحياة ، و تنزلها من عالم التجريد إلى عالم التجسيد ، فكان الواقع ماثلاً فى هذه الإبداعات الأدبية ، و من ثم أصبحت الواقعية فى الأعمال القصصية و الروائية شرطاً يلتزم به المؤلف و الناقد لكى يكون العمل الأدبى ناجحاً .
إلا أن هذه الواقعية التى لازمت الأدب اكتسبت خلال العصور مفهوماً خاصاً بها ، فهى واقعية فنية لا تطابق الواقع ، و لا تحاكيه محاكاة حمقاء .
و قد ندد ( روجروم بسفيلد ) بأولئك الذين يرون أن الواقعية هى الأمانة فى تصوير الأحداث و الشخصيات ، ونقلها نقلاً حرفياً كما تلتقطه آلة التصوير ، حين قال عن هذا المفهوم :
" ليس هذا التفسير إلا أسطورة من الأساطير ، و قد تولى نفسها حتى أولئك الكتاب المسرحيون الذين شاركوا مشاركة وثيقة فى حركة المذهب الإنطباعى .
التفاوت بين الفن و الواقع :
اختلط على كثير من الأدباء و النقاد فى العالم العربى ، مفهوم الواقعية فى الأدب ، فطالبوا الواقع مائلاً فى الأعمال الروائية و القصصية و المسرحية ، بزعم الواقعية ، لكن شتان ما بين الواقع و الأدب .
و لو أخذت البشرية بمبدأ مطابقة الواقع لخرج الأدب عن فنياته ، و فقد سر تفرده الذى هو مصدر تفوقه و بقائه ، ولاستحالت بقية الفنون الأخرى فلم تقم لها وزناً .
و قد عبر ( فكتور هوجو ) فى تعريفه للمسرح عن الواقعية الفنية بصورة تبرز التفاوت الواضح بين الفن و الواقع ، و تنفى تطابقهما ، و ذلك حين قال : " ليس المسرح بلد الواقع ، ففيه أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، و سماء أسمال و قطع ألماس من الزجاج ، و ذهب من صفائح ، و جواهر زائفة بالخضاب ، و خدود عليها بهرج الزينة ، و شمس تبرز من تحت الأرض و لكنه بلد الحقيقة ، ففيه قلوب إنسانية على المشهد و قلوب إنسانية خلف المسرح ، و قلوب إنسانية أمام (( العرض )) " .
و هو تصوير دقيق يظهر عمق الواقعية المختصة بالفن ، و هى واقعية نفسية تعتمد على المشاعر و الأحساسيس و صدق العواطف ، لكنها ليست بأى حال مطابقة للواقع المعاش ، بل تختلف عن اختلاف الحقيقة عن صورتها الزائفة ، إلا أنها صورة غنية بالتعبير ، صادقة فى رسم مكنونات النفس ، و دخائل الصدور فالأدب فى جميع أنواعه ابتداء بالشعر ، و انتهاء بالقصة القصيرة ليس نقلاً غفلاً للواقع ، و إلا كان كل كلام أدباً ، و كل ناطق من الناس أديب ، و ليس الأمر كذلك .
لهذا فإن واقعية الأدب بسماتها الفنية الإبداعية ذات البعد التخيلى ، غير الواقع بقيوده الصادقة ، و يمكننا أن نشير إلى شئ من أوجه الاختلاف بين هذين الواقعين :
أولاً : تصور الواقعية : -
لاتصور الواقعية فى الشعر الأِشياء كما هى ، و إلا لما رأينا تلك الصور و الأخيلة المتفاوتة للشعراء و الشاعرات ، و لما اختلفت وجهات نظرهم فى حقائق الحياة ، فكم من بدر كان فى ليل الشاعر حزين شاحباً ، و كم من هلال فى جو ملبد بالغيوم ، خاله آخر وجه الحبيب يطل من خلف الستار .
ثانياً : الزمن التصورى للرواية : -
الرواية تصور فترات زمنية قد تصل إلى عقود من الزمن و لكنها لا ترصد فى سردها إلا فترات قصيرة ، و لا تنتقى إلا أحداثاً محددة يوظفها الكاتب لتطوير عمله .
و لو طالبنا بمطابقة الواقعية الأدبية للواقع ، للزم المؤلف تتبع كل الأحداث و المشاهد و لاحتاج الأمر إلى مئات الصفحات لتسجيل حقبة زمنية محددة .
ثالثاً : مسافرة الخيال عبر الزمان و المكان
يسمح الخيال الأدبى للمؤلف بالانتقال خلال الزمان و المكان فى القصة و الرواية و المسرحية ، عن طريق عبارة أو إشارة ، فيتابعه المتلقى ، و يسافر خياله إلى أماكن الرواية و أزمانها ، و المتلقى يستمتع بهذا كله ، على الرغم من هذه التنقلات التى لا يمكن أن تتحقق فى الواقع ، ففى عمله واقعية أدبية ، ينشدها المتلقى ، و هى سر متابعته و تشوقه ، لكنها تبقى غير نقل للحقيقة .
رابعاً : واقعية و خيالية الحوار الأدبى : -
إن الحوار القصصى و المسرحى ليس مطابقاً للواقع بإى حال من الأحوال ، لأننا لو طالبنا بهذه المطابقة فإننا نطالب بجمل متقطعه تفتقد الترابط و التسلسل ، " إن الناس عادة ما يثرثرون أكثر مما يتحدثون ، و ينتقلون من موضوع إلى موضوع و بلا هدف معين "، لكن المؤلف يهذب أحاديث الناس و ينسقها ولتصب فى الخط الأساسى الذى تجرى فيه الأحداث .
يقول : ( ولسن ثورنلى ) لمؤلف القصة : -
" يجب أن تدرك أن الحوار الذى تكتبه فى قصتك لن يكون حواراً حقيقياً " .
و إن كان " أشخاص قصتك سوف يتكلمون و يستعملون ما يستعمله الناس من تعابير و طرق كلام ، و مع ذلك فمازالوا فى إطار شروطك و حول الغرض الذى تريد ، و ليس بشكل عشوائى كما يحدث أحياناً فى واقع الحياة . " و مصدر الخلاف هنا بين حوار الأدب و حوار الواقع هو الهدف الذى من أجله أدير الحوار ، فهو ليس مجرد كلام عارض يأتى فى سياق العمل ، لكن له أغراضاً يقصدها المؤلف ، و من أجلها أدار حواراً بين الشخصيات ، ومن هنا كان الحوار القصصى يمتاز بأمور ترفعه عن مستوى الكلام العالى فى الواقع المعاش ، فليس غرض الحوار أن يحكى الحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم فى ثوب المحادثة ما لا يوجد فى محادثة ، فيكون مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث المحادثة مضيعة ، مبيناً واضحاً حيث المحادثة متمتمة أو غامضة .
خامساً : الحدث المسرحى المتباين : -
الحدث المسرحى يختلف عن الحدث فى الواقع ، ففى حدث الواقع يبقى كل شخص معزولاً فى طبقته و مهنته التى ينتمى إليها ، على حين ليس من حدث معزول فردى فى المسرحية بل إنه يمارس تأثيرات مباشرة فى مختلف الشخصيات و لا حياة فنية للمسرحية ،ما لم تتفاعل الشخصيات ، و يحتدم الصراع بينها .
و الحوادث فى الواقع تأتى مزعزعة فيها انطباعات ، و هامشية للكثير منها ، لكنها فى الأدب تأتى مرتبة متوالية مهرولة و بإعداد تام مقصود ، و هذا على غير ما هو فيه فى واقع الحياة .
مهما بلغت تقنيات المسرح فإنه لا يمكن فيه محاكاة الواقع حرفياً إذ لا يمكن إظهار جميع لوازم الناس فى أحاديثهم و معايشتهم .
و إذا استطاعت إمكانيات الإخراج المتقدمة أن تظهر شيئاً من واقع الحياة على خشبة المسرح ، فما هى إلا أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، كما قال الكاتب الكبير ( فكتور هوجو ) .
مفهوم الشخصية فى الحوار :
الواقعية الفنية
إن الفن الأدبى فى جميع مذاهبه يهدف إلى تصوير المشاعر و التجارب الإنسانية فى صورة تنبض بالحياة ، و تنزلها من عالم التجريد إلى عالم التجسيد ، فكان الواقع ماثلاً فى هذه الإبداعات الأدبية ، و من ثم أصبحت الواقعية فى الأعمال القصصية و الروائية شرطاً يلتزم به المؤلف و الناقد لكى يكون العمل الأدبى ناجحاً .
إلا أن هذه الواقعية التى لازمت الأدب اكتسبت خلال العصور مفهوماً خاصاً بها ، فهى واقعية فنية لا تطابق الواقع ، و لا تحاكيه محاكاة حمقاء .
و قد ندد ( روجروم بسفيلد ) بأولئك الذين يرون أن الواقعية هى الأمانة فى تصوير الأحداث و الشخصيات ، ونقلها نقلاً حرفياً كما تلتقطه آلة التصوير ، حين قال عن هذا المفهوم :
" ليس هذا التفسير إلا أسطورة من الأساطير ، و قد تولى نفسها حتى أولئك الكتاب المسرحيون الذين شاركوا مشاركة وثيقة فى حركة المذهب الإنطباعى .
التفاوت بين الفن و الواقع :
اختلط على كثير من الأدباء و النقاد فى العالم العربى ، مفهوم الواقعية فى الأدب ، فطالبوا الواقع مائلاً فى الأعمال الروائية و القصصية و المسرحية ، بزعم الواقعية ، لكن شتان ما بين الواقع و الأدب .
و لو أخذت البشرية بمبدأ مطابقة الواقع لخرج الأدب عن فنياته ، و فقد سر تفرده الذى هو مصدر تفوقه و بقائه ، ولاستحالت بقية الفنون الأخرى فلم تقم لها وزناً .
و قد عبر ( فكتور هوجو ) فى تعريفه للمسرح عن الواقعية الفنية بصورة تبرز التفاوت الواضح بين الفن و الواقع ، و تنفى تطابقهما ، و ذلك حين قال : " ليس المسرح بلد الواقع ، ففيه أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، و سماء أسمال و قطع ألماس من الزجاج ، و ذهب من صفائح ، و جواهر زائفة بالخضاب ، و خدود عليها بهرج الزينة ، و شمس تبرز من تحت الأرض و لكنه بلد الحقيقة ، ففيه قلوب إنسانية على المشهد و قلوب إنسانية خلف المسرح ، و قلوب إنسانية أمام (( العرض )) " .
و هو تصوير دقيق يظهر عمق الواقعية المختصة بالفن ، و هى واقعية نفسية تعتمد على المشاعر و الأحساسيس و صدق العواطف ، لكنها ليست بأى حال مطابقة للواقع المعاش ، بل تختلف عن اختلاف الحقيقة عن صورتها الزائفة ، إلا أنها صورة غنية بالتعبير ، صادقة فى رسم مكنونات النفس ، و دخائل الصدور فالأدب فى جميع أنواعه ابتداء بالشعر ، و انتهاء بالقصة القصيرة ليس نقلاً غفلاً للواقع ، و إلا كان كل كلام أدباً ، و كل ناطق من الناس أديب ، و ليس الأمر كذلك .
لهذا فإن واقعية الأدب بسماتها الفنية الإبداعية ذات البعد التخيلى ، غير الواقع بقيوده الصادقة ، و يمكننا أن نشير إلى شئ من أوجه الاختلاف بين هذين الواقعين :
أولاً : تصور الواقعية : -
لاتصور الواقعية فى الشعر الأِشياء كما هى ، و إلا لما رأينا تلك الصور و الأخيلة المتفاوتة للشعراء و الشاعرات ، و لما اختلفت وجهات نظرهم فى حقائق الحياة ، فكم من بدر كان فى ليل الشاعر حزين شاحباً ، و كم من هلال فى جو ملبد بالغيوم ، خاله آخر وجه الحبيب يطل من خلف الستار .
ثانياً : الزمن التصورى للرواية : -
الرواية تصور فترات زمنية قد تصل إلى عقود من الزمن و لكنها لا ترصد فى سردها إلا فترات قصيرة ، و لا تنتقى إلا أحداثاً محددة يوظفها الكاتب لتطوير عمله .
و لو طالبنا بمطابقة الواقعية الأدبية للواقع ، للزم المؤلف تتبع كل الأحداث و المشاهد و لاحتاج الأمر إلى مئات الصفحات لتسجيل حقبة زمنية محددة .
ثالثاً : مسافرة الخيال عبر الزمان و المكان
يسمح الخيال الأدبى للمؤلف بالانتقال خلال الزمان و المكان فى القصة و الرواية و المسرحية ، عن طريق عبارة أو إشارة ، فيتابعه المتلقى ، و يسافر خياله إلى أماكن الرواية و أزمانها ، و المتلقى يستمتع بهذا كله ، على الرغم من هذه التنقلات التى لا يمكن أن تتحقق فى الواقع ، ففى عمله واقعية أدبية ، ينشدها المتلقى ، و هى سر متابعته و تشوقه ، لكنها تبقى غير نقل للحقيقة .
رابعاً : واقعية و خيالية الحوار الأدبى : -
إن الحوار القصصى و المسرحى ليس مطابقاً للواقع بإى حال من الأحوال ، لأننا لو طالبنا بهذه المطابقة فإننا نطالب بجمل متقطعه تفتقد الترابط و التسلسل ، " إن الناس عادة ما يثرثرون أكثر مما يتحدثون ، و ينتقلون من موضوع إلى موضوع و بلا هدف معين "، لكن المؤلف يهذب أحاديث الناس و ينسقها ولتصب فى الخط الأساسى الذى تجرى فيه الأحداث .
يقول : ( ولسن ثورنلى ) لمؤلف القصة : -
" يجب أن تدرك أن الحوار الذى تكتبه فى قصتك لن يكون حواراً حقيقياً " .
و إن كان " أشخاص قصتك سوف يتكلمون و يستعملون ما يستعمله الناس من تعابير و طرق كلام ، و مع ذلك فمازالوا فى إطار شروطك و حول الغرض الذى تريد ، و ليس بشكل عشوائى كما يحدث أحياناً فى واقع الحياة . " و مصدر الخلاف هنا بين حوار الأدب و حوار الواقع هو الهدف الذى من أجله أدير الحوار ، فهو ليس مجرد كلام عارض يأتى فى سياق العمل ، لكن له أغراضاً يقصدها المؤلف ، و من أجلها أدار حواراً بين الشخصيات ، ومن هنا كان الحوار القصصى يمتاز بأمور ترفعه عن مستوى الكلام العالى فى الواقع المعاش ، فليس غرض الحوار أن يحكى الحادثة حكاية طبيعية ، بل أن يقدم فى ثوب المحادثة ما لا يوجد فى محادثة ، فيكون مسلياً حيث المحادثة مملة ، مقتصداً حيث المحادثة مضيعة ، مبيناً واضحاً حيث المحادثة متمتمة أو غامضة .
خامساً : الحدث المسرحى المتباين : -
الحدث المسرحى يختلف عن الحدث فى الواقع ، ففى حدث الواقع يبقى كل شخص معزولاً فى طبقته و مهنته التى ينتمى إليها ، على حين ليس من حدث معزول فردى فى المسرحية بل إنه يمارس تأثيرات مباشرة فى مختلف الشخصيات و لا حياة فنية للمسرحية ،ما لم تتفاعل الشخصيات ، و يحتدم الصراع بينها .
و الحوادث فى الواقع تأتى مزعزعة فيها انطباعات ، و هامشية للكثير منها ، لكنها فى الأدب تأتى مرتبة متوالية مهرولة و بإعداد تام مقصود ، و هذا على غير ما هو فيه فى واقع الحياة .
مهما بلغت تقنيات المسرح فإنه لا يمكن فيه محاكاة الواقع حرفياً إذ لا يمكن إظهار جميع لوازم الناس فى أحاديثهم و معايشتهم .
و إذا استطاعت إمكانيات الإخراج المتقدمة أن تظهر شيئاً من واقع الحياة على خشبة المسرح ، فما هى إلا أشجار من ورق ، و قصور من نسيج ، كما قال الكاتب الكبير ( فكتور هوجو ) .
مفهوم الشخصية فى الحوار :
ميز النقاد الغربيون بين كلام الأشخاص فى الحياة العادية ، و بين كلام الشخصيات الروائية و المسرحية ، حيث استعملوا مصطلح ( محادثة ) للكلام فى الحياة العادية ، و مصطلح ( حوار ) لكلام الشخصيات فى الروايات و المسرح ، و قد أشار إلى ذلك ( هرمان اولد ) و استعمل هذا الاصطلاح بقية النقاد و فى هذا التفريط إدراك واع للدور الذى يقوم به الحوار فى نمو العمل ، و رسم الشخصيات ، فالسرد مهما أجاده المؤلف ، يبقى تقريراً لأمور غائبة عن المتلقى ، لكن جملة أو كلمة فى الحوار تستطيع أن ترسم صورة الشخصية ببعديها الظاهر و الباطن ، و تظهر الموقف أمام خيال المتلقى رأى العين و لهذا فإنه يستحيل إنشاء محادثة طبيعية تماماً ، إذا كان لابد ، أن تسهم كل عبارة منها فى تطوير المسرحية ، و إذا كان يلزم أن تكشف كل عبارة ، و كل كلمة عن المعالم الجوهرية و العميقة فى الشخصية .
إن المقصود بالواقعية الأدبية هو أن يلتزم المؤلف حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها ، لا أن ينقلها كما هى فى واقع حياتها .
و المؤلف – بلا ريب – يستمد من الواقع مادته لكنه لا ينقلها كما هى ، بل يبث فيها الروح الفنية التى تميزها و تمنحها سماتها ، و لو أدار الحوار على ألسنة شخصياته كما يتحدثون فى الحياة الواقعية ، دون اختيار و لا تهذيب ، لجاء حواره لهواً و هذراً لا طائل من ورائه ، يستحيل أن يقوم عليه نص أدبى متميز .
و الخطر الفنى الحقيقى ، هو مجافاة المسرحية أو القصة للواقع المضمون و الفن لا فى لغة الأداء .
فلا ضير أن يحاور صبى أو عامى باللغة العربية التى لا إغراب فيها و لا فيهقة ، و لكن الضرر كل الضرر أن يجرى المؤلف على لسان صبى أو عامل عبارات متكلفة لا يتصور فى الواقع أن تمر ببالها .
و قد كتب أدباء باللغات الأخرى أعمالاً أدبية رسمت فى ثناياها صوراً و مشاهداً لشعوب أخرى ، نقلوا من خلالها مواقف لشخصيات تتحدث بلغاتها ، و مع ذلك انطقها كل مؤلف بلغته ، و بأساليب التعبير فيها ، و لم يشر إلى أساليب الحوار اللغوية للغة الأصلية للشخصيات ، و قد أبدع أدباء العالم فناً راقياً و تراثاً خالداً ، و لم يقل أحد إن هذا المؤلف أو ذاك لم يكن واقعياً فى حوار شخصياته ، فلم ينطقها بلغاتها أو بلهجاتها الأصلية .
و أقرب مثال على ذلك الكتاب العرب فى المغرب العربى الذين كتبوا نتاجهم الأدبى باللغة الفرنسية ، مصورين معاناة شعوبهم ، و مظاهر الحياة فى الأرياف و القرى ، بحواريها و منعطفاتها العتيقة ، و ما يدور على ألسنة سكانها من أحاديث ، فأنطقوا شخصياتهم باللغة الفرنسية ، ومع ذلك كانوا واقعيين .
و شهد لهم أهل تلك اللغة بالتميز و الإبداع ، لأنهم جسدوا واقعهم فى أعمالهم على نحو فريد ، ومن هذا يتبين لنا موقف المؤلف حيال الواقع الذى يستمد منه إيحاءات أعماله ، فمهاراته تعتمد على الأنموذج الفنى الذى يصنعه بتقنياته لذلك الأصل الذى أثاره و حفز كوامنه .
لا أن ينقل ذلك الأصل كما شاهده ، و لا أن يملأ عمله بتسجيل كلام الناس ، و ما يجرى بينهم من أحاديث فى أنديتهم و أسواقهم ، لأن الإبداع الأدبى ليس فى الكاتب لمشاعر شخصياته ، و رصد التعبيرات التى تكتنفها ، من جراء معاناتها من واقعها ، و القدرة على إجراء الحوار بينها بصورة تظهر آثار تفاعلها مع بعضها ، و اصطدامها مع واقعها ، و آثار ذلك التفاعل على تصرفاتها ، بحيث تكون الشخصية أنموذجاً فنياً لواقعها المادى .
الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة :
فى الوطن العربى ، أخذ مفهوم الواقعية الفنية منحى آخر لعله أشد خطراً فى فهم هذا المصطلح النقدى ، حين وجه توجيهاً خاطئاً فقصد به مطابقة الواقع اللغوى فى الحوار ، فأبعد الفن عن سموه و جمالياته ، ليصبح فى كثير من الأحيان نقلاً ساذجاً لألفاظ العامة و مهاتراتها .
إن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة ، و الخلط بينهما لا يصدر إلا عن قصور شنيع فى فهم الواقعية .
فالواقعية يقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة و المجتمع . فالمؤلف لا ينطق بلسان المقال بل بلسان الحال ، فيعيرها أسلوباً تعبر به عن واقعها فى عمق ، قد لا يحتمل صدوره عن الشخصية فى مثل حالتها فى الواقع ، لكن لابد فى عالم الأدب من الاختيار و التعمق لا الاقتصار على نقل الواقع .
و لقد كان الحوار القصصى و المسرحى بهذا المفهوم المنحرف للواقعية مجالاً واسعاً لإقحام اللهجات العامية بسطحيتها مجال التعبير الفنى ، على زعم أن التعبير بغير هذه اللغة تزييفاً للحياة الواقعية ، خاصة إذا كان هذا الحوار يدور بين أناس بسطاء فى بيئة شعبية .
و لهذا شغل كثير من النقاد العرب بمطلب الواقعية اللغوية فى الحوار ، و انحرافوا بهذا المفهوم النقدى عن دلالته عند جميع الأمم ، و حصروه لدينا فى مقولة : وجوب كون الحوار بالعامية وواقعية اللغة فى الحوار أمر يتطلبه العمل الفنى ، لكنه ليس بهذا المفهوم الذى شاع لدى نقادنا ، فليس المقصود بواقعية اللغة أن تدع كل شخصية فى الرواية تتحدث بلغتها الخاصة ، و إلا جاءت المسرحية خليطاً غير مفهوم – و إنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها بشخصيات الرواية ، فهى الواقعية النفسية و العقلية و العاطفية ، فلا يتحدث أمى بأفكار الفلاسفة .
و أما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة فى التأليف المسرحى أو التأليف الأدبى الذى لا يخرج أن يكون فناً ، و كل فن صناعة . .
و لقد جاء هذا المفهوم المضلل للواقعية الفنية نتيجة فى فهم الفن الأدبى ، و مصادر جمالياته ، و سموه فى الوسائل و الغايات ، فقد وضعت المسألة وضعاً خاطئاً على أساس الواقع و مسايرته ، لا على أساس مطلب الأدب ، وما ينبغى أن يكون من أجل النهضة بالأجناس الأدبية ، و هذا هدف يقصر بالفن ، و يجعله من المتاع الذى لا هدف له إلا دغدغة أحاسيس المتلقى بأية صورة و بأى ثمن و يصبح كل كلام يجرى بين الناس فناً ، مهما كانت صورته ، و ليس الأمر كذلك ، إذ الفن ليس نزولاً و انحطاطاً ، و إنما هو رقى بالمشاعر يرفع جمهوره عن سفاسف الأمور و بذئ الألفاظ .
و الكوميدى منه بالذات ، بمقولة الواقع العامى ، الذى يلزم معه وجود بعض العبارات العامية التى تقصر الفصحى عن التعبير عنها .
و هذا تدن خطير فى إدراك جماليات المسرح الكوميدى و تذوقها ، أدى إلى ظهور مسرح هابط فى الساحة العربية يعتمد على النكات اللفظية ، البذيئة غالباً ، و التنابز بالألقاب ، و ما إليها من عبارات ذات طابع محلى ، تهدف إلى استدرار ضحك الجمهور .
و فى هذا تزييف لواقع مسرح الملهاة الناضج كما يفهم لدى جميع الأمم ذلك أن " جوهر الملهاة " فى الموقف ، و المفارقات التى تثير الضحك ، لا فى عبارات الشتم و الدعابة ""
أما غير ذلك من عبارات الحوار فى سائر الفنون الأدبية ، فإنها تعتمد اعتماداً شاملاً على قدرة المؤلف فى تقمص شخصياته ، و التعبير عنها خلال تفاعلها مع الأحداث ، و اصطدمها بالواقع ، و ما ينتج عن هذا من انفعالات و أحاسيس تنجلى فى أساليب التعبير ، و طرائق معالجة الأفكار المثابرة ، فتظهر من خلالها محاولات الشخصيات فى التوافق مع هذا الواقع أو محاولة تغيير ..
و ما أن يتوقف المتلقى ليقول أن الناس لا يتكلمون فى الواقع كما يتكلمون فى الكتابة ، حتى يكون فى حالة انفلات سيطرة المؤلف عليه ، و إذ ذاك لا يكون النقص فى الحوار فقط بل فى المتحاورين أنفسهم ، لأنهم قدموا تقديماً سيئاً غير مبنى على فهم واقعهم و بيئتهم و طبيعة حياتهم و دلالاتهم الاجتماعية فيجئ حوارهم متجانفاً مع الواقع .
على أن هناك جانباً آخر ، له أثر كبير فى توجيه هذه القضية ، يحسن الإشارة إليه هنا ، و هو ثقافة المؤلف اللغوية و عمق تجربته فى المجال القصصى ، و أثر ذلك فى أخذ المؤلف بالفصحى و تجويد أسلوبه .
أسلوبية محمود تيمور المتجددة
ذكرت الدكتورة { نفوسة زكريا } حديثاً لها مع الكاتب الكبير محمود تيمور و رائد القصة ، يشير فيه إلى أنه استخدم العامية عندما كان كاتباً ناشئاً ، يحاول أن يتعرف على الطرق فى بداية القصة ، و يجرى فى حقلها مختلف التجارب باحثاً عن الأسلوب الكتابى فيها ، و عن أصلح الأدوات اللازمة له .
و قد كان يلحظ على أسلوبه مؤاخذات لغوية ، و أسلوبية ، مما جعله يعرض أعماله على الأستاذ { شوقى أمين} ليصحح التركيب الإنشائى فى قصصه ، إلى أن تمكن بعد ذلك من زمام اللغة ، و أصبح ذا أسلوب متميز رصين
و لعل هذا الجانب – أعنى ثقافة الكاتب اللغوية و قدراته على إدارة الحوار بالفصحى – يشكل العامل الأهم فى رفض بعض الكتاب استعمال الفصحى فى حوارهم . و هو على كل حال قصور ذاتى ، لا علاقة له باللغة و قدراتها ، و مدى ملاءمتها للتعبير عن البيئات المختلفة .
و يمكن للمؤلف الحريص على تجويد عمله و الرقى به ، أن يطور نفسه كما فعل محمود تيمور الذى بلغ من حرصه على صقل إبداعه أن رجع إلى بعض قصصه الأولى التى كتب حوارها بالعامية فأعاد كتابتها بالفصحى
إن المقصود بالواقعية الأدبية هو أن يلتزم المؤلف حدود الشخصية المرسومة فلا ينطقها إلا بما يتلاءم معها ، لا أن ينقلها كما هى فى واقع حياتها .
و المؤلف – بلا ريب – يستمد من الواقع مادته لكنه لا ينقلها كما هى ، بل يبث فيها الروح الفنية التى تميزها و تمنحها سماتها ، و لو أدار الحوار على ألسنة شخصياته كما يتحدثون فى الحياة الواقعية ، دون اختيار و لا تهذيب ، لجاء حواره لهواً و هذراً لا طائل من ورائه ، يستحيل أن يقوم عليه نص أدبى متميز .
و الخطر الفنى الحقيقى ، هو مجافاة المسرحية أو القصة للواقع المضمون و الفن لا فى لغة الأداء .
فلا ضير أن يحاور صبى أو عامى باللغة العربية التى لا إغراب فيها و لا فيهقة ، و لكن الضرر كل الضرر أن يجرى المؤلف على لسان صبى أو عامل عبارات متكلفة لا يتصور فى الواقع أن تمر ببالها .
و قد كتب أدباء باللغات الأخرى أعمالاً أدبية رسمت فى ثناياها صوراً و مشاهداً لشعوب أخرى ، نقلوا من خلالها مواقف لشخصيات تتحدث بلغاتها ، و مع ذلك انطقها كل مؤلف بلغته ، و بأساليب التعبير فيها ، و لم يشر إلى أساليب الحوار اللغوية للغة الأصلية للشخصيات ، و قد أبدع أدباء العالم فناً راقياً و تراثاً خالداً ، و لم يقل أحد إن هذا المؤلف أو ذاك لم يكن واقعياً فى حوار شخصياته ، فلم ينطقها بلغاتها أو بلهجاتها الأصلية .
و أقرب مثال على ذلك الكتاب العرب فى المغرب العربى الذين كتبوا نتاجهم الأدبى باللغة الفرنسية ، مصورين معاناة شعوبهم ، و مظاهر الحياة فى الأرياف و القرى ، بحواريها و منعطفاتها العتيقة ، و ما يدور على ألسنة سكانها من أحاديث ، فأنطقوا شخصياتهم باللغة الفرنسية ، ومع ذلك كانوا واقعيين .
و شهد لهم أهل تلك اللغة بالتميز و الإبداع ، لأنهم جسدوا واقعهم فى أعمالهم على نحو فريد ، ومن هذا يتبين لنا موقف المؤلف حيال الواقع الذى يستمد منه إيحاءات أعماله ، فمهاراته تعتمد على الأنموذج الفنى الذى يصنعه بتقنياته لذلك الأصل الذى أثاره و حفز كوامنه .
لا أن ينقل ذلك الأصل كما شاهده ، و لا أن يملأ عمله بتسجيل كلام الناس ، و ما يجرى بينهم من أحاديث فى أنديتهم و أسواقهم ، لأن الإبداع الأدبى ليس فى الكاتب لمشاعر شخصياته ، و رصد التعبيرات التى تكتنفها ، من جراء معاناتها من واقعها ، و القدرة على إجراء الحوار بينها بصورة تظهر آثار تفاعلها مع بعضها ، و اصطدامها مع واقعها ، و آثار ذلك التفاعل على تصرفاتها ، بحيث تكون الشخصية أنموذجاً فنياً لواقعها المادى .
الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة :
فى الوطن العربى ، أخذ مفهوم الواقعية الفنية منحى آخر لعله أشد خطراً فى فهم هذا المصطلح النقدى ، حين وجه توجيهاً خاطئاً فقصد به مطابقة الواقع اللغوى فى الحوار ، فأبعد الفن عن سموه و جمالياته ، ليصبح فى كثير من الأحيان نقلاً ساذجاً لألفاظ العامة و مهاتراتها .
إن الفرق شاسع بين معنى الواقعية الفنية و الواقعية فى اللغة ، و الخلط بينهما لا يصدر إلا عن قصور شنيع فى فهم الواقعية .
فالواقعية يقصد بها واقعية النفس البشرية ، وواقعية الحياة و المجتمع . فالمؤلف لا ينطق بلسان المقال بل بلسان الحال ، فيعيرها أسلوباً تعبر به عن واقعها فى عمق ، قد لا يحتمل صدوره عن الشخصية فى مثل حالتها فى الواقع ، لكن لابد فى عالم الأدب من الاختيار و التعمق لا الاقتصار على نقل الواقع .
و لقد كان الحوار القصصى و المسرحى بهذا المفهوم المنحرف للواقعية مجالاً واسعاً لإقحام اللهجات العامية بسطحيتها مجال التعبير الفنى ، على زعم أن التعبير بغير هذه اللغة تزييفاً للحياة الواقعية ، خاصة إذا كان هذا الحوار يدور بين أناس بسطاء فى بيئة شعبية .
و لهذا شغل كثير من النقاد العرب بمطلب الواقعية اللغوية فى الحوار ، و انحرافوا بهذا المفهوم النقدى عن دلالته عند جميع الأمم ، و حصروه لدينا فى مقولة : وجوب كون الحوار بالعامية وواقعية اللغة فى الحوار أمر يتطلبه العمل الفنى ، لكنه ليس بهذا المفهوم الذى شاع لدى نقادنا ، فليس المقصود بواقعية اللغة أن تدع كل شخصية فى الرواية تتحدث بلغتها الخاصة ، و إلا جاءت المسرحية خليطاً غير مفهوم – و إنما المقصود بواقعية اللغة ملاءمتها بشخصيات الرواية ، فهى الواقعية النفسية و العقلية و العاطفية ، فلا يتحدث أمى بأفكار الفلاسفة .
و أما الواقعية اللفظية فليست بمقصودة فى التأليف المسرحى أو التأليف الأدبى الذى لا يخرج أن يكون فناً ، و كل فن صناعة . .
و لقد جاء هذا المفهوم المضلل للواقعية الفنية نتيجة فى فهم الفن الأدبى ، و مصادر جمالياته ، و سموه فى الوسائل و الغايات ، فقد وضعت المسألة وضعاً خاطئاً على أساس الواقع و مسايرته ، لا على أساس مطلب الأدب ، وما ينبغى أن يكون من أجل النهضة بالأجناس الأدبية ، و هذا هدف يقصر بالفن ، و يجعله من المتاع الذى لا هدف له إلا دغدغة أحاسيس المتلقى بأية صورة و بأى ثمن و يصبح كل كلام يجرى بين الناس فناً ، مهما كانت صورته ، و ليس الأمر كذلك ، إذ الفن ليس نزولاً و انحطاطاً ، و إنما هو رقى بالمشاعر يرفع جمهوره عن سفاسف الأمور و بذئ الألفاظ .
و الكوميدى منه بالذات ، بمقولة الواقع العامى ، الذى يلزم معه وجود بعض العبارات العامية التى تقصر الفصحى عن التعبير عنها .
و هذا تدن خطير فى إدراك جماليات المسرح الكوميدى و تذوقها ، أدى إلى ظهور مسرح هابط فى الساحة العربية يعتمد على النكات اللفظية ، البذيئة غالباً ، و التنابز بالألقاب ، و ما إليها من عبارات ذات طابع محلى ، تهدف إلى استدرار ضحك الجمهور .
و فى هذا تزييف لواقع مسرح الملهاة الناضج كما يفهم لدى جميع الأمم ذلك أن " جوهر الملهاة " فى الموقف ، و المفارقات التى تثير الضحك ، لا فى عبارات الشتم و الدعابة ""
أما غير ذلك من عبارات الحوار فى سائر الفنون الأدبية ، فإنها تعتمد اعتماداً شاملاً على قدرة المؤلف فى تقمص شخصياته ، و التعبير عنها خلال تفاعلها مع الأحداث ، و اصطدمها بالواقع ، و ما ينتج عن هذا من انفعالات و أحاسيس تنجلى فى أساليب التعبير ، و طرائق معالجة الأفكار المثابرة ، فتظهر من خلالها محاولات الشخصيات فى التوافق مع هذا الواقع أو محاولة تغيير ..
و ما أن يتوقف المتلقى ليقول أن الناس لا يتكلمون فى الواقع كما يتكلمون فى الكتابة ، حتى يكون فى حالة انفلات سيطرة المؤلف عليه ، و إذ ذاك لا يكون النقص فى الحوار فقط بل فى المتحاورين أنفسهم ، لأنهم قدموا تقديماً سيئاً غير مبنى على فهم واقعهم و بيئتهم و طبيعة حياتهم و دلالاتهم الاجتماعية فيجئ حوارهم متجانفاً مع الواقع .
على أن هناك جانباً آخر ، له أثر كبير فى توجيه هذه القضية ، يحسن الإشارة إليه هنا ، و هو ثقافة المؤلف اللغوية و عمق تجربته فى المجال القصصى ، و أثر ذلك فى أخذ المؤلف بالفصحى و تجويد أسلوبه .
أسلوبية محمود تيمور المتجددة
ذكرت الدكتورة { نفوسة زكريا } حديثاً لها مع الكاتب الكبير محمود تيمور و رائد القصة ، يشير فيه إلى أنه استخدم العامية عندما كان كاتباً ناشئاً ، يحاول أن يتعرف على الطرق فى بداية القصة ، و يجرى فى حقلها مختلف التجارب باحثاً عن الأسلوب الكتابى فيها ، و عن أصلح الأدوات اللازمة له .
و قد كان يلحظ على أسلوبه مؤاخذات لغوية ، و أسلوبية ، مما جعله يعرض أعماله على الأستاذ { شوقى أمين} ليصحح التركيب الإنشائى فى قصصه ، إلى أن تمكن بعد ذلك من زمام اللغة ، و أصبح ذا أسلوب متميز رصين
و لعل هذا الجانب – أعنى ثقافة الكاتب اللغوية و قدراته على إدارة الحوار بالفصحى – يشكل العامل الأهم فى رفض بعض الكتاب استعمال الفصحى فى حوارهم . و هو على كل حال قصور ذاتى ، لا علاقة له باللغة و قدراتها ، و مدى ملاءمتها للتعبير عن البيئات المختلفة .
و يمكن للمؤلف الحريص على تجويد عمله و الرقى به ، أن يطور نفسه كما فعل محمود تيمور الذى بلغ من حرصه على صقل إبداعه أن رجع إلى بعض قصصه الأولى التى كتب حوارها بالعامية فأعاد كتابتها بالفصحى
العمق الإبداعى و دقة التعبير
الفن الأدبى عمل إبداعى فيه من العمق و دقة التعبير ما يحتاج معه المؤلف إلى صقل موهبته و تثقيفها و العناية بلغته و أسلوبه ، كما يحتاج إلى جمهور يرنو إلى السمو بفكره و خياله ، لا أن ينظر إلى أسفل القاع ، و فى هذا كله دلالة على أن الأدب ليس مسايرة للمألوف ، و ما هو موجود ، و إن أخطر شئ على الأدب القصصى أن نجارى وقائع الأمور أو نتتبع أيسر الطرق ، أو أن نجافى ما سارت عليه الآداب فى الأمم التى عنيت بلغتها الأدبية .
و مما هو معروف لدى الأدباء العالميين فى مسرحهم الواقعى حرصهم على اختيار العبارة الدالة و إحكام صياغتها ووضعها موضعها الدرامى ، بل و يستحسن كثير من الواعين فى لغة الأداء الفنى استعمال الشعر نفسه فى المسرحيات الواقعية .
و إذا كان هذا مدى احتفاء الأدباء و النقاد بمستوى التجويد فى الحوار الأدبى ، فإن جعل الشخصيات العامة تنطق بالعربية الفصحى لا يتنافى مع الواقعية بمدلولها الفنى على أن الحوار بالفصحى واجب يحتمه حق لأمتنا على أدبائها و مثقفيها ، كى تصان هويتها ، يجعل لسانها حياً يحفظ لها أصالتها ، و يمدها بسلاح لاستمرارها ، و بناء مستقبلها .
لذلك اعتمدت الفنون الإنسانية فى جميع العصور على تقليد الواقع المعاش ، و تحويره بما يلائم طبيعة هذا الفن أو ذاك ، فكان ارتباط الحاسة الفنية بواقعها عنصراً أصيلاً التزمته فى جميع ممارساتها ، حيث نادى أفلاطون بنظرية محاكاة الموجودات ، و حصرها أرسطو فى الفنون .
و قامت الواقعية و الطبيعية و غيرها من مذاهب الأدب ، فكانت تصل الواقع بأوثق الأسباب ، وكان تصويره ركيزه أساسية ، امتزج فيها بفلسفاتها الخاصة بشكل أو بآخر .
و بالتالى فعندما يلتقى الأدب و الثقافة على صعيد اللغة فهذه اللغة ليست فى الواقع واحدة عند كليهما بكل أبعادها و دلالاتها و إيحاءاتها .
إن لغة الأدب هى لغة الذات الواقعية الإنسانية التى لا تحد أعماقها و أبعادها و عواطفها حدود .
أما لغة الواقعية فهى لغة الحس المعلن و الكشف الموضوعى عن الحقائق ، و لغة التعبير المحدد الدقيق ..
و مادام الهاجس السائد فى الوقت الحاضر لتطور اللغة و استحسان الواقعية يعتبر بمثابة تحقيق ديناميكية علمية موازية للديناميكية الأدبية التى سادت العالم عصوراً فلابد من البحث عن الأسس التى قامت عليها هذه الديناميكية و عن كل ما يدعم وجودها و تطورها و يكفل استمراريتها .
تعليق