إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حصاد الليل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حصاد الليل

    حصاد الليل


    فى تلك اللليلة أشتعلت نار . نار تتحدى ظلام الليل و هيبة الصحراء . نار تنادى عيون بوم الليل و تدعوا ضباع الصحراء إلى الفرار.
    نار تسفر عن وجهها اللامع بين كل كائنات الليل , تصرح بوجودها القاتم امام الكهف المرعب فى وسط الصحراء . و امام النار لمعت نار فى عين أحد الشخصين الجالسين , شاب بلغ الثلاثين على أستحياء لونه أسمر فى لون الليل فى يده جرة للبن الناقة يرشف كل قليلاً قليلٌ منه , و على رأسه عمامة ضخمة زرقاء داكنة اللون أقرب إلى لون البحر فى وطنه قبيّل الفجر , يستر جسده جلباب فضفاض فى لون فنجان البن , و فى قدميه حذاء عجيب تشعر بأنتمائه للصحراء .
    لمعت النار فى عين الشاب و تنافر حاجبيه و ظام بفمه فى لغط و تمتمات لا تسمع, حتى أن الآخر أمام النار لم يسمعه لكنه أدرك بشكل ما غضب فى صدر الابن فقال له : ما بك يا ولدى؟؟
    قال الشاب فى شبه صراخ مخنوق : ما بي انا ؟!! ما بك انت يا أبى , اننا لسنا فى خلوة فى الصحراء اننا هاربين من بلدتنا تركناها ,,و الظلم مازلت اراه امام أنفى قابع على الطرقات مثل الشيطان , ما بي ؟!! ما بك انت يا أبي , بيتنا فى بلدتنا أصبح خواء تسكُنه الغربان , شجرة التين فى فناء البيت العتيق ستُثمر ذل و هوان , أهالينا هناك صدقوا كذب الفجار و سمونا بأهل الليل و كأننا لصوص أو زناه و بعد كل هذا تقول ما بي ؟ ما بك انت يا أبي ؟ ما بك ؟!!
    كان الاب جالس فى اليم الاخر من النار ينظر لولده فى حب و أستعطاف,, ابتسامته العميقة تدل عليه و صوت ضحكته الخافت كلما ثار الأبن,,, نظر الأب فى عيني أبنه مباشرة و أطال النظر و آه من نظرات الليل ,, ردد ضحكته الخافته و أطال النظر إلى سماء الليل فى الصحراء, فلمعت فى عينيه أقمار و أشجان و نجوم , حك أطراف أصابعه فى لحيته البيضاء بهدؤ التى أكملت جلال منظره,, فالرجل وجهه أسمر مثل ولده وكذلك كان أبوه و كذلك سيكون الحفيد الآتى يوماً , لكن هذا الوجه الاسمر ما أشبهه بالبدر .,النور يأتى من هذا الوجه الاسمر يضحك فى بشر و أسبشار و فوق جبينه بغير قليل عمامته الكبيرة الخضراء فى لون شجر الصبار , و ثوبه الفضفاض الناقى الأبيض كحليب طازج ,,و نعله الخفيف الرقيق . هذا الشيخ الذى شهد نيف و ستون رمضان و صام ستون منهم أرتسمت على هيئته صورة الرجل الوقور البار,,, لكن هذا لم يمنع من وجود خنجر مدجج به فى وسطه , و علامة ضربة قديمة من سيف وراء أذنه اليسري ..و أخيرا سمع ولده منه ضحكة أخرى خافته و قال فى كل حنان : رب هنا يا ولدى رب هناك و ما كان هناك بالجذر الضارب منذ الاف السنوات , اننا كنا هناك غصن و فى أى مكان أخر نحن الغصن و ما الجذور إلا الأنسان .
    قال الابن : يا أبي انا ولدت هناك فى البيت القديم المتهالك و كذلك انت و باقى الاجداد .
    قال الاب : أتدرى يا ولدى كيف كانت بلدتنا و كيف جاء الجدود إليها .
    قال الابن : لا أعرف يا ابي , لا أعرف إلا قلعة الحاكم و وجودها القاتم و حسبتها هناك من قبل الانسان .
    قال الأب: منذ قرون يا ولدى لم تكن بلدتنا إلا البئر ... البئر الأكبر الموجود الآن امام القلعة و كان البئر بغير شكله الذى رأيت فكان مُهمل لا يشرب منه إلا عابر سبيل فى صحراء الليل مثلى و مثلك فى هذا الوقت ,, و فى هذه الايام جاء جدنا الاعظم هارب من الظلم فى أرض الشمال , و كان رجل صالح تقى و كان هروبه بسبب صلاحه ,فى مدينته الاولى التى امتلأت بالظلم أتهموه بأبشع ما كان فهرب و قال لا مقام لنا فأرحلوا,, من بلد تحكم فيه البوم وغربان الليل . فهرب حتى وجد البئر فنصب خيمته أمامه و شرب و سقى أهله ,, و قبل غروب الشمس وجد قافلة أتيه إلى البئر فقالوا لجدنا أنت جديد على تلك الأرض فأكرمهم أولا و قال:
    انا لست غريب عن الأرض منها خلقت و عليها أعيش و فيها أعود و توضئ و صلى المغرب و أمعن فى الصلاه و دعى الله و بكاه و بعد التسليم وجد القافلة كانت تصلى ورأه و قال كبيرهم رضيناك اماما و زعيم , و جأوا بأهلهم و عاشوا جميعا أمام البئرو كان جدنا القائم على امرهم و حكم بينهم بما يرضى الله و يجعله نائم أخر الليل فى راحة و أطمئنان .
    قال الابن : فى دهشة و وجوم : جدنا كان الحاكم !!!
    قال الأب : أنت تستطيع ان تقول ان جدنا الاكبر كان الحاكم لكنه لم يدرك ذلك و لم يفطن انه أصبح ملكا بعد تشرده فى الصحراء , لكنه حسب نفسه خادم لقوم أمانوه و وثقوه فيه فكان أقلهم بيتا و أضيقهم معيشا , فكيف يكون ثري و كل منهم لديه تجارته و حرفته اما هو فكان يعمل على العدل و يشرب من البئر و يحلب ناقته و هو زارع شجر التين فى فناء البيت العتيق , و بنى أول شيئا فى مدينتنا و كان المسجد أمام البئر .
    قال الابن: فى أستعجاب : ليس هناك مسجد امام البئر ان المسجد فى أخر بلدتنا
    أبتسم الاب و قال : المسجد هو قلعة الحاكم الآن , كانت منذ زمن مسجد للعباد قال لى جدى انه سمع من جده انه كان هناك المسجد و هو الآن القلعة.
    قال الابن : بالله عليك يا أبتى كيف يتحول بيت من مسجد لله إلى قلعة ظلم و فساد .
    قال الأب : بعد نظرة طويلة إلى القمر لكنه لمح النار فقال : الناس تحب الظلم يا ولدى فضاق بهم أمر الخير فكان ..مات جدنا الاكبر التقى بانى المسجد حاكم البلدة و ورث حكم البلدة رجل نقى عابد كان اول من قال لجدنا الاكبر رضيناك امام و زعيم من اهل القافلة الاولى ,, فصار على منهاج جدنا لكن الناس ملت العدل و أشتاقت إلى حياة البرية . فللخير سحر و مذاق مثل صوت الضوء فى ملكوت الليل الحالك و مثل فيضان النهر البارد وسط جحيم القلب الغافل بالشر .. ضاقت الناس بالخير و العدل,,, كانت قد تكونت الثروات عند البعض ... فعز عليه ان يكون صاحب ارض و مال ولا يتسلط على أمر العباد .. و كان قد ازداد البعض الآخر من الفقر كثيرا فعز عليهم ان يكونوا وسط العدل فقراء ,, ففقرهم فى مدينة الخير كان فقر فى قلوبهم و أعمالهم قبل فقر اليد ,, فعز عليهم لومة الناس فأرادوا الظلم تبريرا للفقر.
    قال الابن فى استعجاب : و كيف يرضى الناس مذاق الظلم بعد عقود الخير ...
    قال الأب : ليس كل الناس محبة للظلم و لا كل الناس أنصار لميزان العدل...فإن أراد البعض ظلما و أعلنوا أخرين رغبتهم فى العدل . و البعض الاخر و الاكثر سكت و نظر إلى أيام السوء و تذكر سيرة الجد الاول و أيام بناء المسجد حين كان يحمل احجار البناء على كتفه و يسبح لله و يطلب الرحمة و العدل من رب الكون الأوحد ..وتذكر الناس رجل التقوة و ودعوا فى حسرات تلك الأيام ..و الحسرة يا ولدى عند أولئك كانت مصاحبة لليأس و الخنوع لقانون الزمن التعيس قانون البرية الأولى
    قال الأبن : و هكذا تفرق الناس بين مريدين العدل و أرباب الظلم و الراضين بخنوع قانون اى زمان ...
    نظر الأب فى عين ولده مباشرة و قد رأى في عينيه أنه فطن حكمة سنوات بدون سماع باقى القصة و أن الباقى من أحداث قد أنتشر فى تسلسل و أحكام كما تنتشر حبات المسبحة المقطوعة .. و لمح فى عيني الأبن عبرة تتشدق بباقى العين فربت على كتف ابنه فى حنان و قال له بغير كلام أطلقها يا ولدى فالدمع ليس بشيم الجبناء ... هبت ريح خفيفة زادت من شعلة نار المجلس ..
    قال الأب : يا ولدى هناك دوما من يوقد نار الشر و للشر كثيرا كثيرا من الأنصار ..
    قال الأبن:رحم الله جدنا الأكبر كان صديق الخير و لكن لماذا يا أبي لم تحدثنى عنه قبل الآن و لم أسمع عنه يوما فى بلتنا؟؟
    أستحكم الشرود على الأب بعد السؤال و كأنه الآن يرى امام عينه شرور الكوابيس,, و كأنه نفق حياته كلها خائف من هذا السؤال,, و انتقلت دموع ابنه الاولى اليه بغزارة فضاقت بها عينه فجرت على وجهه كمثل نهر فى موسم فيضان طاغى حتى أبتلت لحيته البيضاء ,,,و قال و فى صوته كل معانى الحسرة و الحزن الأبدى الذى عاش بداخله عقود يرفض أن يخرجه للناس حتى لولده : يا ولدى أتذكر يوم العيد حين كنت أتممت عليك حفظ كتاب الله ؟ , و أحتفل بك جدك و جاء إليك بنعجة بيضاء و أركبك على ظهرها وسط جميع الأهل,, و أكلنا اللحم و ثريده و ختمنا ببعض التمر ,, فى ليلة هذا العيد بات جدك فى سجن قلعة الحاكم و ذاق من العذاب أصناف و الوان ما لم يذقها قبله أنسي .. و قال له الحاكم وسط زبانيته و أشر الناس ... (أرجع عن قولك و لا تذكر الناس بسيرة جدك هذا,, أنه رجل مات منذ قرون) ... لكن جدك يا ولدى رفض أن ينسي سيرة أجداده و قال و الفخر فى نفسه يتحدى ظلم الظالم ... ( انا لم أختلق قصص و أساطير, أن جدى الذى تقول عنه هو مؤسس تلك البلدة و كان خير الناس,, و الناس أحق أن تعلم بسير الصالحين)... عرف الحاكم من نبرة صوت جدك و نظرة عينه أنه لن يتراجع عن ما قال ,, و كان الحاكم يعرف جيدا ما تثيره مثل تلك القصص فى نفوس العامة من حنين إلى زمن الخير الأول و من الممكن أن يجاهد الناس حتى يعود العدل و حين يحدث ذلك ,, لن يكون هنالك مكان لممالك الشر و ملوكها فقرر أن يحارب الخير و هو طفل رضيع مجرد حكاية على لسان جدك عن جده الأكبر صاحب مدينة الخير ..فنظر الحاكم إلى شياطينه فقالوا له أعدمه على برج القلعة و ليكن عبرة لمن مثله, و إن سأل العامة لماذا يعدم الرجل الطاهر فلنقل أنه زانى و مرابى..
    و لمثل هذا القول سحر فى نفوس الضعفاء و سينتشر فى أرجاء البلدة بين ليلة و ضحاها .. و أستيقظت البلدة فى الصباح على صراخ جدك و هو مصلوب على برج القلعة ( قالها الرجل و الدموع تملأ عينه و الكلمات تخرج من شفتيه شبه مبتورة) هذا البرج الذى بناه جدنا الأكبر و كان يصعد إليه خمس مرات فى اليوم لينادى فى القوم بالصلاه... و ظل جدك على البرج سبع ايام و ليالى ... مصلوب على مأذنة جده الأكبر لقولة حق ... مات قبل رابع ليلة و هو يبشر بزمن الخير القادم حتما.. لكن الحاكم أراد له و لنا مزيد من الهوان فزاد عليه ثلاث ليالى معلق بلا روح جسد عرف كل معان الألم و الظلم لكنه لم يكذب أبدا ... بعد هذا يا ولدى ماتت حكاية جدنا الأكبر لم يجرؤ أحد أن يتذكرها,, حتى و لو فى خلايا نفسه و أستبدت مملكة الشر ... فأثرت أن أخذك و نولى وجهنا نحو ممالك جديدة بالطبع يوجد منها كثير غارق فى الشر لكن يجب أن نبحث و نجد أرض الخير ...
    قال الأب كلمته و نظر إلى السماء برهة و لكنه لم يسمح لنفسه ولا لولده بلحظة شرود و قال و قد تغيرت نبرته بعض الشئ و قال فى صوت صافى: ان الشمس فى الطريق إلينا فهيا إلى صلاه الفجر ...
    اه يا دهر هات ما شئت و انظر عزمات الرجال كيف تكون
    ما تعسفت فى بلاءك الا هان بالصبر منه ما لا يهون






    sigpic
يعمل...
X