ماهية الفن والهدف الانساني

محمد يونس


تقترح اللوحة في اغلب الاحوال، بعدا ميتافيزقيا، يجعلها عند لحظة المواجهة البصرية مع التلقي، تغادر الحدود المنطقية، ولكنها في ذات الوقت، تحافظ على صفة الاقناع كون تلك الصفة، لها وظيفة افقية لها تاريخ الفن، وهو تحويل الرموز الاسطورية الى عناصر تبرير، او قبول من خلال الاتجاهات الفنية الحديثة،

التي استدرجت سردها التاريخي ليكون ممكنا، على سطح اللوحة، التشكيلي العراقي، مر بتجارب كقراءة، كانت ريادية، او على مستوى المقارنة، والدرس، فشكلت تأثيرات الواسطي، نوعا من الالهام والمحايثة، على الاخص بالنسبة للأب الرائد جواد سليم، الذي كان يقترب ولو ينوع من الحذر، من الطاقات الكبرى في الكون، وعلى الاخص، بيكاسو وخوان ميرو، من جانب، الاول، كان مستلهما للتراث العالمي، بحس غير هياب، لردود الافعال، النقدية منها والاجتماعية، واذ كان يرسم لوحته (الغرونيكا) مّرية الجنود، سألوه، عن اللوحة، فأجابهم انها (الحرب، واذ سألوه عمن رسمها، اجابهم، (انتم). هذه هي تعويذة استقلال بيكاسو الجزء وما استثمره من تراث انساني ووجودي، اذ ان ثقافة الفنان، لا تكون هي المسؤولة، بقدر ما يكون المجتمع مسؤولا عن تاريخه وطابع تراثه، اذن هذا المنحى يؤكد، ان جواد سليم، من خلال نصب الحرية، كل يوم يقاضي، اولئك الذين جعلوا التضحية الانسانية، المرهونة بالحرية خلف ظهورهم. فطبيعة الفن تفرض على ثقافة الفنان، ان يهتم بالتطلعات الحرة، والطافحة انسانية، وهنا جواد سليم قد حطم الطابع الايدلوجي، واعاد بناءه انسانيا، ومجردا، في حدود الاعتبارات الروحية، خوان ميرو، هو ايضا، كان ينحى الى التحرر من المناهج، لانها خضعت لقوانين سيرورة التطور الوجودي، وليس لمعناه، وتلك الفطرة النقية، محاور اقدس المناطق، اذ هي لديه، منطقة الطهر الروحي، والخيال العفوي، لذا استثمر رسومات الاطفال، ولشد ما جلس على قارعة الطريق، ينتظر متى يعود الصغار، لينحني لخيالهم الحر، ويستثمره في الاسلوب، الذي، كان به يعاند، توجه الكون قدما الى المآسي، وليس مستغربا من ان تمتلئ رئة خوان ميرو بشهقات الاطفال، وتزفر اوهام البشرية، لذا نجده في آخر معارضه، كان، في أوج طاقته الانسانية، ويختم مسيرته الفنية، بتأكيد شجاع، لحرق لوحات المعرض، كي تضحي، خارج السياق الذي ابتغاه لها، ولا تكون بضاعة تثمن بقيمة مادية، لا اعتبارية او ذوقا معرفيا، نعم انها مقاضاة، في سياق لا يدرك بسهولة، والعيب هنا في القراءة الاجتماعية، للفنان ـ اذن كيف لنا ان نواجه نصب الحرية، أليس هو استثناء حياتنا الثقافية وتاريخها الحديث، فرغم الوعي العالي الذي يملكه جواد سليم، ازاء مجتمعه وحدود وعيه، وتقبله للفن نجد ان جواد سليم حين اشترك بتهريبه سرا (منحوتة السجين السياسي المجهول. في المسابقة العالمية للفنون في لندن عام 1953، قدم نوعا من المنجز، كان فهمه عسيرا في تفسير الكتلة وحتى هنري مور، لم يدرك، ان هناك طبيعة انسانية، تشترك مع حيثيات العمل الفني، وهذا نجده في التأسيس. كان خطاب جواد، في متجه، يؤشر هذه الريادة عربيا، اذ كان طابع الفن في حينها، في احسن احواله، يناور، وعراقيا منذ البداية الهمجية للطاغية، اضحت المنحوتات (نصب) تأجلت سخرية الكون منها لحين سقوطها، ولكن، هل يمكن، وحتى الآن، ان نعي، الدرس الانساني، الذي تفرد به جواد سليم، وان تعتبر القيمة الجمالية، شيئا ثانويا، لان القيمة الانسانية في الفن هي الريادية، وإلا فان مرور الكرام، يجعلنا، خالين من الصفة الثقافية الحقة، التي تؤطر الفكر الحي، كان فان كوخ تجرأ على السائد، بنبل محلق، لا يمكن، ان تجد له على مستوى الواقع، ما يمكن ان يقرن به، وموندلياني، لم يجديدا من ان يدير ظهره لزيف الحياة، نعم كانت هناك حقائق اولى مثل الواسطي، كان لابد لجواد سليم، ان يتأثر بها اذ ان الواسطي قفز على التابو، وسرد في اطار انساني مفسرا، تلك الحياة القاصية، نعم، لم يكن واصفا تقليديا، مكرسا تجربته وفق هذا السياق. اننا في مواجهة الفن، عبر التجارب الحرة، التي اثرت تاريخ التجربة، بعطاء وقيم واساليب. وجواد سليم انتبه لهذا المنحى، فهل يعقل ان يكتب لنا تفاحة فوق تفاحة قدر رسمها، والسجين السياسي المجهول، لم ير النور الازلي كما رأى منحوتة الحرية، اذ ان جواد يعي، ذلك التوجه الجماهيري، لقراءة العمل الفني، بانه فطري على الغالب، يريد تعميمات ومنحى ارسطي على الدوام. لذا كان على جواد سليم. ان يتحمل هماً آخر، فالمواجهة الجماهيرية العفوية، اختار لها منحوتة الحرية، فيما الثقافة العالمية، واجهها، بالقيمة الابداعية الهائلة، لتنوع ثقافته، فمن شعر وقصة وموسيقى، الى رسم ونحت، انه في افق ثقافي مبني على توجه بستملوجي، وهذه طبيعة الثقافة الحقة، لا ان يسألني شاعر في احد المعارض الريادية عن خطوط منظمة، هل هي خيول، فأجبته نعم، ولكن ليس كما في قصائدك، انها هنا تصهل. لذا لا تحتاج ان نبقى في حدود اجناس ادبية نحاور الفن، نعم ان مثلنا الاعلى جواد سليم، قد اعطانا درسا بليغا، فلاريب ان استثماره، تجرد عن نرجسية ذات مغلقة، وعلى الاخص، ان اللوحة، ليست سطحا للتأويلات واستشارات لونية، انها حقائق عليا ويجب ان تحلق كي ندركها ونعايشها، وذلك فعل ثقافي مطلوب