إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

امريكا وروسيا واولويات السياسة الخارجية الامريكية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • امريكا وروسيا واولويات السياسة الخارجية الامريكية

    امريكا وروسيا واولويات السياسة الخارجية الامريكية

    د. بشير موسى نافع

    انتهت في كانون الاول (ديسمبر) الماضي صلاحية معاهدة ستارت - 1، المتعلقة بمراقبة وتقليص حجم أسلحة الصواريخ الهجومية الاستراتيجية النووية، الروسية والامريكية، والتي تم التوصل إليها في مطلع التسعينات. وكانت الاتفاقية الأولى قد أبرمت في عهد الاتحاد السوفييتي، ولكن سريان مفعولها بدأ في كانون الاول (ديسمبر) عام 1994.
    وفق تلك المعاهدة، تعهدت موسكو وواشنطن بتقليص السلاح النووي الاحتياطي إلى 6 آلاف رأس نووي. وقد نصت الاتفاقية الثانية على تقليص إضافي للصواريخ النووية الاستراتيجية بين موسكو وواشنطن، واعتبرت مكملة للأولى. صدق الكونغرس على ستارت - 1 في تشرين الثاني (نوفمبر) 1996، أما روسيا فتأخر تصديقها على الاتفاقية حتى 2000، بسبب عدم كفاية التمويل اللازم وتوتر العلاقات الروسية - الامريكية إثر الحرب في البلقان وتدخل الناتو العسكري في المنطقة. في حزيران (يونيو) 2002، قررت إدارة بوش الابن الانسحاب من معاهدة الحد من منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ، الموقعة عام 1972، بدون تفاوض مع روسيا، وهو ما أدى إلى عرقلة العمل بستارت 1.
    اليوم، 8 نيسان (ابريل)، يلتقي الرئيسان الامريكي باراك أوباما والروسي ديمتري ميدفيديف للتوقيع على الاتفاقية الثالثة، أو ستارت 2. وكان الوفدان المكلفان بالتفاوض من البلدين قد أسرعا وتيرة العمل للتوصل إلى الاتفاقية في وقت لا يتأخر كثيراً عن انتهاء العمل بسابقتها، التي اكتنف تطبيقها العقبات النابعة من سياسات إدارة بوش الانفرادية، واستهتارها البالغ بالمصالح الروسية. تقلص الاتفاقية الجديدة حجم الاحتياطي النووي لدى امريكا وروسيا إلى مستوى لم تعرفه العلاقات بينهما منذ بدأ سباق التسلح النووي كواحد من أبرز سمات الحرب الباردة. وسيثير التوقيع على الاتفاقية الكثير من التكهنات حول العلاقات الروسية - الامريكية، وما إن كانت مقدمة لتفاهمات أكبر وأوسع نطاقاً، سيما في الملفات العالقة ومحل الخلاف. ما تدل عليه المؤشرات حتى الآن أن اتفاقية ستارت هي شأن منفصل، فرضتها حاجة الدولتين للتعامل مع الاحتياطي النووي ومتطلبات خفض هذا الاحتياطي، بعد أن انتهت الحاجة لمثل هذا العدد الهائل من الأسلحة النووية. والأرجح أن هذه الاتفاقية لن تغير من طبيعة الخلافات الأخرى، التي تسم طبيعة العلاقات بين واشنطن وموسكو بسماتها، منذ بدأت مجموعة بوتين في إعادة التوكيد على دور ومصالح روسيا.
    وربما يمكن اعتبار الزيارة التي قام بها بوتين إلى فينزويلا، في الأسبوع الماضي، وتوقيعه عدداً من الاتفاقيات الاستراتيجية، الاقتصادية والخاصة بالتسلح، مع حكومة شافيز، والاجتماع غير العادي الذي سيعقده الرئيس الامريكي على هامش الاحتفال بتوقيع ستارت 3، والذي سيضم قادة دول وسط أوروبا، دليلاً واضحاً على أن الاتفاقية لن تمثل بالضرورة منعطفاً جديداً في العلاقات الامريكية الروسية ككل، سيما في الساحة الأوروبية. المفترض أن يشهد اللقاء مع أوباما كل من رؤساء حكومات هنغاريا وبولندا، وقادة كل من رومانيا، والتشيك، وسلوفاكيا، وبلغاريا، وكرواتيا، ودول البلطيق الثلاث. كل هذه الدول كانت جزءاً من الكتلة الشيوعية، واختارت بعد الحرب الباردة أن تنحاز إلى الجانب الغربي، سواء كأعضاء في حلف الناتو، أو في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي معاً. وثمة مؤشرات على أن قلقاً بات ينتاب هذه الدول، لأن الغرب، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، لم ترد بشكل كاف على حملة التأديب العسكرية الواسعة التي تعهدتها روسيا ضد جورجيا قبل عامين، وأن إدارة أوباما قامت بإعادة النظر في مشروع نشر رادارات وصواريخ مضادة للصواريخ في بولندا والتشيك.
    بالرغم من نهاية الحرب الباردة، والتراجع الملموس في مقدرات روسيا وقدرتها على المناورة والانتشار على المسرح العالمي، كل دول الكتلة الشيوعية السابقة تعيش هاجس الهيمنة الروسية. وبتبني إدارة بوتين سياسة إعادة التوكيد على المصالح الروسية منذ 2005، تصاعد قلق هذه الدول وتكاثرت هواجسها. ويبدو لقاء أوباما بقادة هذه الدول محاولة لتجديد الالتزام الامريكي بأمنها واستقلالها، ورسالة للقادة الروس حول حدود المسموح وغير المسموح به في الساحة الأوروبية، في الوقت نفسه. منذ نهاية القرن الثامن عشر، وأوروبا هي ساحة الصراع الأساسية للقوة. وما تقوم به موسكو منذ سنوات قليلة هو السعي إلى استعادة مواقع روسيا الاستراتيجية الحيوية في القارة، التي خسرت أغلبها في سنوات التراجع التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، أو ما يسمى 'الخارج القريب' في لغة الاستراتيجيا الروسية. وتنقسم هذه المواقع إلى ثلاث كتل: الأولى، شمال القوقاز، حيث تقع أذربيجان وأرمينيا وجورجيا؛ الثانية، أوكرانيا، حيث الممر السهلي الذي عبرته كل الغزوات الأوروبية لروسيا؛ والثالثة، دول البلطيق، حيث يتداخل القوس البري والبحري الغربي للاستراتيجية الروسية. في القوقاز، استردت روسيا كلاً من أرمينيا وأذربيجان، ولكن الوضع في جورجيا لم يزل يشكل صداعاً كبيراً لموسكو. وقد أعادت الانتخابات الأخيرة أوكرانيا إلى المظلة الروسية، ولم يعد لدى موسكو من خوف من توسع الناتو شرقاً إلى حدود روسيا المباشرة. وبالرغم من أن بيلاروسيا ظلت من البداية جزءاً من المظلة الروسية، فإن دول البلطيق الصغيرة الثلاث الأخرى، إضافة إلى بولندا، تقف موقفاً عدائياً من روسيا. ما يعنيه هذا، أن جورجيا ودول البلطيق ستكون هدف روسيا القادم. وهذا ما يشكل ملف الخلاف الروسي - الامريكي الرئيسي.
    في آسيا، خطت روسيا خطوات واسعة نحو تأمين فضائها الاستراتيجي. ولعل الاتفاق الجمركي الأخير مع كازاخستان، أكبر دول الاتحاد السوفييتي السابق في آسيا، يؤشر إلى حد كبير إلى حجم الإنجاز الروسي في المنطقة. إيران، التي تمثل واحدة من أولويات السياسة الامريكية الخارجية في الشرق الأوسط، لارتباطها الوثيق بملفات أخرى، من فلسطين ولبنان والخليج إلى العلاقة الامريكية - الإسرائيلية، لا تحتل موقعاً بارزاً في الاستراتيجية الروسية. روسيا الحالية ليست الاتحاد السوفييتي، والقيادة الروسية تدرك أن ليس لديها لا الإمكانيات السياسية والاقتصادية ولا الأداة الإيديولوجية للانتشار العالمي. أهداف روسيا الحالية تتعلق بالمتطلبات الاستراتيجية الحيوية، بالخارج القريب، وليس بصناعة حلفاء وموالين بين دول العالم الثالث، اللهم إن لم تكن هناك من أعباء خاصة يستوجب على روسيا تحملها لقاء هذا التحالف. ولذا، فما تقوم به موسكو في الملف الإيراني أقرب إلى اللعبة السياسية مع واشنطن، بدون اكتراث كبير بما يمكن أن تكون العواقب بالنسبة للإيرانيين. عندما يشتد الضغط الأورو - أمريكي، تتراجع المعارضة الروسية لمشاريع العقوبات الغربية على إيران. وعندما تتاح أمام موسكو نافذة ما، أو تجد روسيا من الضروري الرد على تجاوز أمريكي ما على مصالحها في هذه الدائرة أو تلك، تعلن موافقتها على إكمال المفاعل النووي الإيراني في بوشهر، أو عن صفقة سلاح جديدة لإيران. في النهاية، ترى موسكو أن الأمور تسير لصالحها في إيران. إن قامت الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية للمواقع النووية الإيرانية، وقامت إيران بالرد، فإن تورط الامريكيين في إيران، مباشرة أو في شكل غير مباشر، سيزداد؛ وهذا ما سيلقي بأعباء جديدة على السياسة الخارجية الامريكية وموقع ودور امريكا العالمي. أما إن انتهت الأزمة الإيرانية سلماً، وارتضت واشنطن التعايش مع القدرات النووية الإيرانية، فستظل إيران مدينة لروسيا، ولخطواتها الإيجابية، مهما كانت محدودة، تجاهها طوال سنوات الأزمة.
    الرغبة الروسية في أن تتعمق تورطات الولايات المتحدة في الأزمات المختلفة هي التي تجعل موسكو غير قلقة بالضرورة من توسع نطاق الوجود العسكري الامريكي في أفغانستان، التي بات ينظر إليها باعتبارها حرب إدارة أوباما. اختارت إدارة بوش غزو العراق كرافعة للتفوق الاستراتيجي الامريكي في العالم؛ ولكن احتلال العراق انتهى إلى كارثة كبرى على العراق نفسه وعلى الولايات المتحدة، عسكرياً وسياسياً ومالياً. ولذا، فما يراه الروس أن أفغانستان، مهما كانت نتيجة الحرب، ستكون حلقة أخرى في استنزاف الولايات المتحدة، واستهلاك جهدها السياسي والعسكري بعيداً عن الساحة الأوروبية، بالغة الحيوية لروسيا. أما إن تورط الامريكيون في إيران، فسيصبح الاستنزاف الامريكي مضاعفاً. وبالرغم من أن المنطقة العربية أكثر حسياسية وأهمية لتوازنات القوى الدولية، فإن السياسة الروسية بخصوص الصراع العربي الإسرائيلي والخليج لا تختلف كثيراً عن الموقف الروسي في إيران وأفغانستان. هنا أيضاً تدرك روسيا حدود المقدرات المتاحة، وبينما تحاول الحفاظ على الحضور باعتبارها واحدة من دول العالم الرئيسية، فلن تسعى إلى لعب دور شبيه بالدور السوفييتي؛ ولكنها في الآن نفسه ستنظر بسعادة إلى تراجع الدور والنفوذ الامريكيين، سواء لتعقد عملية السلام، أو لانهيار ثقة الشعوب والحكام بالإدارات الامريكية المتعاقبة.
    روسيا وامريكا، باختصار، العلاقة بينهما متعددة الألوان والمستويات. ليست هذه بحرب باردة أخرى، ولن تتطور إلى حرب باردة؛ ليس فقط لأن التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن أيضاً لأن روسيا ليست الاتحاد السوفييتي. ولعل عنصر القوة الأهم في السياسة الروسية الخارجية هو إدراك مجموعة بوتين لهذه الحقيقة. في الوقت نفسه، تبذل روسيا كل جهد ممكن للحفاظ على موقعها كعضو في نادي الكبار، لاستعادة مواقعها الاستراتيجية الحيوية في أوروبا، ودفع السياسة الدولية إلى النظام التعددي.
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر
يعمل...
X