إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ترجمة الأستاذ محمد الزكراوي - تعليقات على ترجمة النصوص الفلسفية من اليوناني إلى العر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ترجمة الأستاذ محمد الزكراوي - تعليقات على ترجمة النصوص الفلسفية من اليوناني إلى العر

    الجمعية الدولية لمترجمي العربية تعليقات على ترجمة النصوص الفلسفية من اليوناني إلى العربي - ترجمة الأستاذ محمد الزكراوي تعليقات على ترجمة النصوص الفلسفية من اليوناني إلى العربي[1] كتبه ب. تيي ترجمه محمد الزكراوي[2] نشأت بعيد استقرار الخلافة ببغداد، حوالي سنة 750[3]، على عهد المنصور، حركة ثقافية عظيمة، سرعان ما تمخض عنها العزم على ترجمة الأعمال المحفوظة في الكتب المتخلفة عن البلدان المفتوحة، ولاسيما هؤلاء الإغريق الأوائل، أسلاف البيزنطيين، وهم الروم عند العرب. ولم تكن اللغة العربية مهيأة للتعبير عن مفاهيم فلسفية. وبعد أن ترجمت أوائل المصنفات في الرياضيات والفلك والطب كان على التراجمة أن ينقلوا إلى العربية نصوصا كتبها الفلاسفة. فاعترضتهم عندئذ عقبات جديدة. نعم، لم يخلف لنا التراجمة تفاصيل ما تخطوه من الصعاب في محاولتهم أن يضعوا بين يدي قرائهم نصا عربيا مفهوما، لكن ليس من المحال السعي في بيان حذقهم ومهارتهم فيما أنجزوه، فما زالت آثاره ظاهرة في نقولهم. ولنذكر بأن الترجمات جميعها، إلا ما ندر، كانت من وضع النصارى؛ وكانت لغتهم الأم هي السريانية[4]، وبها يقضون شعائر ملتهم. وإلى السريانية نقل قبل ذلك عدد من النصوص اليونانية، معظمها نصوص في الشعائر واللاهوت، وبعضها في الطب وأيضا في المنطق[5]. والسريانية لغة سامية، كالعربية؛ فكانت مثالا صالحا من حينه لفهم النصوص الفلسفية، وأيسر من اللغة اليونانية الأصل. وما أكثر الترجمات العربية للفلسفة اليونانية التي نقلت عن ترجمات سريانية تقدمتها[6]. وقد تجشم بعض التراجمة مشقة نقل النص اليوناني الذي بين أيديهم نسخة منه إلى السرياني أولا، ثم إلى العربي بعد ذلك[7]. وفي ذلك شاهد على أمرين اثنين: على نزاهة صناع تلك الترجمات، وعلى أن النقل من اليوناني إلى السرياني كان أيسر عليهم من النقل من اليوناني إلى العربي. وليس المقصود هنا التطرق إلى جميع مظاهر هذه الجهود لتطويع العربية لكي تعبر عن مضمون كتب الفلسفية اليونانية، ولا عرض كافة الخصوصيات التي من شأن الملاحظ أن يراها في الاصطلاحات الفنية. فهذا مجال للبحث فيه متسع؛ وسأقصر كلامي على بضعة أمثلة وحسب. 1. ترجمة الاصطلاحات الفلسفية الخالصة مفهوم "الجوهر" يقال له في اليونانية ούσία[8] (أوسيا). وأنا من أتباع التقليد الجاري في الفرنسية بترجمته بلفظ Substance، وهو لفظ لا تتجلى فيه صلة ذلك المصطلح بفعل الكينونة Etre[9]. فكيف نقله تراجمتنا؟ لا يخفى على أحد أن فعل الكينونة لا وجود له في العربية؛ وهاهنا أيضا كان لابد من جهود كبرى[10] – تشهد عليها الترجمات المختلفة – لنقل عبارات مثل τό είναι (طو إيناي)، وτό όν (طو أون)، وτί εστι (طي إسطي)، وτό τί ην είναι[11] (طو طي إن إيناي). أما ούσία (أوسيا) فكانت لفظة جارية بعد على ألسنة أصحاب اللاهوت، بالمعاني التي لها في اليونانية، لكن منقولة بالحرف السرياني. والظاهر أن العربية لم تستسغ اللفظة اليونانية ولا السريانية؛ وذلك أن ترجمته المتداولة هي "الجوهر". وليس "الجوهر" من الألفاظ القرآنية؛ وهو رباعي؛ والراجح أن أصله فارسي[12]؛ فما معناه؟ معناه "الدرة" و"الحلية" و"الحجر الكريم". ولعل التراجمة اختاروه مهتدين بمعنى آخر للفظ ούσία (أوسيا) غير معناه الفلسفي، وهو "الأموال" و"الثروة"[13]. وقد كان لفظ "الجوهر" متداولا بين التراجمة في وقت مبكر، ترجمة للفظ ούσία[14] (أوسيا). ونذكر بعد هذا استعمالا آخر أندر، إلا أنه أجدر بالعناية. وذلك أن العبارة τό τί ην είναι (طو طي إن إيناي) تستعصي على من يريد ترجمتها، وإن فهم المراد منها[15]. ففي كتاب الجدل (I، 5، 101ب38) يفيدنا أرسطو أن الحد هو القول الدال على τό τί ην είναι (طو طي إن إيناي)؛ فترجمها برنشفيك ترجمة أنيقة بقوله: "ما هو جوهري في جوهر الشيء"؛ وفي هذا الموضع نفسه وجدنا قولهم بالعربية: "ماهية الشيء"[16]، ويمكن ترجمته بالفرنسية: "Quiddité de la chose"؛ وعلق أحدهم (في مخطوطة باريس) فوق هذا الكلام بمداد أحمر ما نصه: "بالسرياني: نفس جوهره"؛ وهذا – لعمري – اختراع رائع. والظاهر أن التعبير عن مفهوم "الصورة" كان أعسر. ولئن كان مفهوم "الجوهر" مألوفا عند اللاهوتيين الناطقين بالسرياني فمفهوم "الصورة" الفلسفي – أي في فلسفة أرسطو خاصة – لم يكن كذلك. فقد ورد في ترجمات الأرغانون لفظ "الشكل"، وهو باليوناني σχήμα (سكيما)، أي "شكل" القياس؛ غير أن هذه اللفظة السريانية المنقولة عن اليونانية ليست يتيمة في العربية، بل لها نظير، هو لفظ "إشكيم" (بصيغة الجمع)؛ وقد ورد في ترجمة كتاب النفس (في III 1, 425a18[17]، وتوافقها ص 63، 13 من ط بدوي). وقد ترجم لفظ είδος (إيدوس) في اللغة الفلسفية العربية بلفظ "الصورة"، ويفيد أول ما يفيد الصورة المرئية – مع أن الفلاسفة لا يترددون في إطلاقه للدلالة على "الصورة المثالية" التي لا يدركها البصر ولا أي إدراك محسوس؛ غير أنه قد ورد في الترجمات التي بين أيدينا ألفاظ أخر ترجم بها لفظ είδος (إيدوس) اليوناني؛ ولكن قبل عرضها لابد من التذكير بأن هذه اللفظة اليونانية ليس لها معنى واحد وحسب، بل أطلقت أيضا – في مؤلفات أرسطو المنطقية – على النوع الداخل تحت "الجنس"[18]. وهاهنا درج التراجمة على استعمال اللفظ العربي "النوع"، وهو من أصل معناه "الفرع" والقسيم" (أي الفرع الخارج من الشيء)[19]. وقد أشار أرسطو إلى تعدد معاني كثير من الكلمات؛ ومنها είδος (إيدوس)؛ وينبغي الفرق فيها بين المعاني التالية: 1ً الصورة المرئية (وهذا هو معناها الأصلي)؛ 2ً النوع، بالمعنى المنطقي؛ 3ً المثال الأفلاطوني، أي صورة الواقع المثالية؛ 4ً العلة الصورية، وهي غير العلة المادية، وهما علتان متقابلتان، إلا أن الصورة تتحد بالمادة؛ 5ً الصورة جوهر، وهي مبدأ الموجود المحسوس (العيني)، وهذا لا يكون جوهرا إلا إذا اتحدت بالصورة "المادة" التي إنما هي موضوعها[20]. ومن شأن السياق عادة بيان هذه المعاني المختلفة للفظ είδος (إيدوس). وقد استعمل أرسطو نفسه ألفاظا أخر للدلالة على "الصورة"، منها ίδέα (إيديا) وμορφή مورفي)، وأحيانا σχήμα (سكيما)، وهذا الأخير هو الصورة الهندسية بالمعنى الصحيح؛ وقد قدمنا أن معناه أيضا صورة القياس. وأبرز ما يكون أثر النظرية الأفلاطونية في التراجمة عندما يترجمون ίδέα (إيديا) بلفظ "المثال"، ومعناه "الأنموذج" (وهو في النحو "المثال" Paradigme)؛ وقد جاء في ترجمة ما بعد الطبيعة، في الموضع الذي ذكر فيه أرسطو أولئك "الذين يقولون الصور"[21]. وللفظ είδος المعنى نفسه؛ فلذلك ترجم بلفظ "المثال"، في ما بعد الطبيعة، Z 14, 1039b12 (ص 978، 13 من نشرة بدوي)؛ غير أن ίδέα (إيديا) – وقد لا يختلف معناه عن είδος (إيدوس) عند أفلاطون – كثيرا ما ترجم بلفظ "الصورة"؛ والأمثلة عليه كثيرة، في كتابي ما بعد الطبيعة والجدل[22]. ويجب الإشارة إلى أن "النوع" ترجموا به أيضا ίδέα (إيديا)، وإن كان بالمعنى الأفلاطوني، في ما بعد الطبيعة، A 9, 990b16 (= ص 116، 14). وقد يقع لأرسطو أن يستعمل لفظ μορφή (مورفي) معادلا للفظ είδος (إيدوس)، مع أن الأول يدل في الأغلب الأعم على الصورة المرئية، فيكون معناه في هذه الحالة قريبا من معنى الثاني. وقد فطن بعض التراجمة إلى ذلك الفرق؛ ففي الترجمة العربية لكتاب النفس، في I 3, 407b24، وقد وصلت إلينا[23]، ورد لفظ "الشبح"؛ وترجمت العبارة: είδος καί μορφή (إيدوس كاي مورفي) بقوله: "شبح وصورة" (ص 17، 23 من نشرة بدوي)، وفيه قلب لترتيب اللفظتين في اليونانية؛ وفي II 2, 414a9 ورد قوله: μορφή καί είδος (مورفي كاي إيدوس)، وترجم بقوله: "شبح وصورة" (ص 34، 4 من نشرة بدوي)، والترتيب فيه موافق للأصل اليوناني. ولفظ "الشبح" معناه "الشخص"[24] و"الطيف" و"الشيء تراه من بعيد"؛ فالظاهر أن الترجمان أصاب في اختياره. ونشير فضلا عن هذا كله – وهذه مسألة تقنية – إلى أن أسطاث قد ترجم في ما بعد الطبيعة (I 4, 1055b13) هذه العبارة: τοΰ είδους καί τής μορφής (طو إيدوس كاي طيس مورفيس) بقوله: "الصورة والسنخ"، على ما جاء في نشرة بويج (ص 1315، 2). و"السنخ"، هذا اللفظ العربي المقترح هنا ترجمة للفظ μορφή (مورفي)، معناه "الجِذْم"[25]؛ وقد ورد في ترجمة الكتاب H[26]. وقد تستغرب استعمال هذا اللفظ هاهنا، غير أنه من الممكن تبرئة الترجمان من هذا الشذوذ المخالف للمعنى المراد؛ وذلك أن احتمال خطأ من الناسخ أو من قارئ المخطوطة احتمال قوي؛ فالنقط التي تتميز بها الحروف العربية بعضها من بعض قد يغفلها النساخ، وقد تمحي، وقد توضع أيضا في غير مواضعها؛ مثال ذلك هذه العلامة: سٮح؛ فهي "سنخ" في قراءة يويج (أو الناسخ الذي كتب المخطوطة التي بين يديه)، وفي قراءة عبد الرحمن بدوي "شبح"؛ والراجح أن أسطاث إنما أراد العبارة عن معنى "الشخص"، لا عن معنى "الجذم"؛ فالأصوب ترجيح قراءة "الشبح" حيثما ترجم أسطاث لفظ μορφή (مورفي) في الكتاب H من ما بعد الطبيعة. لقد تبين من الترجمات المتقدم ذكرها أن "الصورة" فيها قد فهمها التراجمة على أنها صورة الشيء، بغض النظر – فيما يظهر – عن الذات المدركة لذلك الشيء. لكن ίδέα (إيديا) وείδος (إيدوس) يوحيان بوجود الذات التي ترى[27]. وقد يذهب الظن إلى أن هذه الترجمة التي يؤخذ فيها المعنى الأصلي بعين الاعتبار هي التي قصد مترجم وِلاَد الحيوان – وما من شيء يثبت أنه يحيى بن البِطريق[28]. وعندئذ – وهذا أمر غريب – يكون لفظ μορφή (مورفي) هو الذي ترجم بلفظ "المنظر"، ومعناه "المرأى" و"المشهد"[29]؛ وتكون "الصورة" في مقابل είδος (إيدوس). ويبدو أن لفظ σχήμα (سكيما) ترجم بلفظ آخر ترجمة لم يؤخذ فيها المعنى الأصلي بعين الاعتبار، وهو "الجبلّة"[30]، ومعناه "الخلقة والصورة الطبيعية" (هل هي شخص جبل من الجبال أم هذا "الجبل" المعروف في أفريقيا الشمالية؟)؛ لكن بعضهم يرى من قبيل المحال أن يستعمل التراجمة تلك الكلمة للعبارة عن معنى "الصورة"[31]؛ والذي أثار هذا الشك هو الشبه في رسم الكلمتين العربيتين "الجبلة" و"الحلية"، وهذا الأخير وارد أيضا ترجمة لمفهوم "الصورة". وقد جاءت "الجبلة" في نص للفارابي يتحدث فيه عن "صور" الأجسام الصناعية؛ وهذه الصور قد سميت بأسماء، ثم نقلت تلك الأسماء فأطلقت للدلالة على العنصر الصوري في الأجسام الطبيعية[32]. ووقع لفظ "الحلية" أيضا في جامع لكتاب النفس لإسحق بن حنين؛ وكان إسحق هذا من أكابر التراجمة للنصوص الفلسفية، ولعله هنا إنما كان مترجما. فعرض إسحق محتوى الكتاب وأخبرنا أن ‹المؤلف› "ذكر الصورة وعلى كم معنى تقال، وأنها تكون حلية الشيء الذي هي صورته، وتكون النفس تفارق الجسم الذي هي فيه من غير فساد، وتكون غير مفارقة للجسم الذي هي فيه"[33].ثم ذكر هذا اللفظ مرة أخرى على أنه مرادف للفظي "الصورة" و"الشكل"؛ ولعله ترجمة لليوناني μορφή (مورفي). وأصل هذه الكلمة في العربية ينعقد على معنى الزينة، ويطلق فيراد به على السواء حلي النساء وحسن صورة جسم الإنسان. نعم، هذا لفظ نادر؛ وليس هذا محل الاستفاضة فيه؛ إنما وجب التنبيه عليه، لأنه هو اللفظ عينه الذي ترجم إلى اللاتيني في كتاب الخير المحض، بقولهم: Helyatin (أو Yliatim)؛ ونص الترجمة: "Et intelligencia est habens helyatin, quoniam est esse et forma…". وقد اشتبه هذا اللفظ على الشراح بلفظ آخر، هو Hayûlä (الهيولى، أي "المادة"، وسيأتي ذكره)، فحسبوا أن للعقل مادة[34]. وظل القوم على هذا الخطأ، ولم يزل بعد، مع أن لفظ "الحلية" لا ذكر له في نص كتاب الخير المحض الذي نشره بردنهيفر[35]. وعسى أن يكون في ذلك عبرة للساعي في "ترجمة الفلاسفة"، إلا أن هذا ليس محل الخوض فيها. ومما يجدر ذكره أيضا لفظ آخر تجده في الترجمات العربية للعبارة عن معنى الصورة، هو "الخلقة"؛ وهو شائع الاستعمال في الترجمة العربية لكتاب السماع الطبيعي لأرسطو[36]، ترجم به تارة μορφή (مورفي) وطورا είδος (إيدوس). وهذا اللفظ جدير بالاهتمام: فأصله الخاء واللام والدال، وينعقد معناه على الخلق والإنشاء؛ والصورة صادرة عن صناعة وصياغة. ولئن كان في هذا اللفظ ما يشير إلى العقيدة فسوف يكون ذلك من المفارقات، إذ يكون قد جيء به للدلالة على مفهوم "الصورة" الأرسطي، وهو مفهوم لا يمكن بحال أن يصدر عن "تكوين" γένεσις (جناسيس). واللغة العربية من الاتساع بحيث فيها ألفاظ أخر للعبارة عن مفهوم الصورة؛ لكن ليس بين أيدينا ترجمات معروفة استعملت فيها تلك الألفاظ؛ فلذلك نترك الكلام عليها؛ والراجح أن الفلاسفة الناطقين بالعربية قد اخترعوها، أو قل طوعوها لتفي بمقاصدهم المذهبية؛ فهم حقا أبو عذرتها، لكن إلى أجل مسمى. أما مفهوم "المادة" فلعله نشأ عند أفلاطون، غير أن قلمه لم يسعفه باللفظة الفنية الملائمة، فكان أرسطو هو المخترع لها. تلك هي لفظة ϋλη (هيولى)؛ والظاهر أن معناها تعين حقا على يد فيلسوف اسطغيرا. ولا يخفى على أحد ما كان من تداولها حتى استعملها الأفلاطونيون أنفسهم[37]، بل حتى استكثر منها أنصار الأفلاطونية المحدثة. وسترى أن التراجمة إلى العربي لم يجدوا اللفظ المناسب للعبارة عن هذا المفهوم من أول وهلة. فقد استعمل لفظ "الطين" أو "الطينة" للدلالة على "المادة". وهو لفظ قديم، يطلق على هذا الطين المعروف المستعمل في البناء. وهو من ألفاظ القرآن؛ ومعناه فيه – في معظم المواضع التي ورد فيها – هو الطين الذي برأ منه الخالق الإنسان[38] والطير[39]؛ وهذه مخلوقات من هذا العالم؛ أما الشيطان فخلق من نار (الأعراف 7، 12). وفي موضعين منه ليس المراد بالطين ما منه يخلق الكائن الحي. والموضع الأول ذكر فيه رسل إبراهيم وأنهم بعثوا إلى قوم مجرمين ليرسلوا عليهم "حجارة من طين"، وهي حجارة مسوّمة. وفي الموضع الثاني، وهو في سورة القصص (28، 38)، جاء لفظ الطين بمعنى يجب ذكره؛ ذلك أن فرعون أراد الازدراء بدين موسى فأمر خادمه هامان بأن يوقد له على الطين[40] ويبني له صرحا لعله يلقى فيه إله موسى؛ لكن موسى كان كاذبا، فلم يصنع من ذلك شيئا. فالطين هاهنا مادة البناء؛ وهو ما قد يذهب بالمرء إلى الظن بأن التراجمة أخذوا بعين الاعتبار معنى هذا اللفظ في القرآن، فترجموا به لفظ الهيولى اليوناني؛ إلا أن من ظن ذلك قد نسي أن التراجمة – مع معرفتهم بالإسلام، ومع أنهم أحيانا ناظروا المسلمين في مسائل من العقيدة – لم يتخذوا القرآن أصلا للمعجم الفلسفي. والأرجح أنهم أنعموا النظر في سبب اختيار المفكرين اليونانيين لذلك اللفظ. ففي بلاد اليونان ما من شك في أن مادة البناء الأولى كانت هي الخشب (وأن الأعمدة القديمة إنما هي – إذا صحت العبارة – "معدنة" لجذوع الأشجار)؛ وعلى ذلك قال اللاتين Silva (غابة)، فصار لهذه الكلمة ما للفظ "المادة" من معنى فلسفي[41]. أما في بلاد ما بين النهرين فمادة البناء هي الطين، ومنها كانوا يصنعون الآجر (غير المطبوخ)؛ واللفظ المستعمل للدلالة عليها هو "الطين"؛ فالراجح أن هذا هو الأصل في استعمالهم لها ترجمة للفظة اليونانية "هيولى". ومن ألفاظ السريانية لفظ Tyno، ومعناه الوحل، وهو الذي يترجم به اللفظ اليوناني μηλός[42] (ميلوس). و"الطينة" في كتاب النفس (I 1, 403b18) هي ترجمة "الهيولى" اليوناني (ص 7، 13 من نشرة بدوي)؛ وهي التي يعبر بها في الأغلب الأعم عن المادة إخوان الصفاء والكندي وابن سينا. واستعملوا أيضا للدلالة على معنى المادة لفظ "المادة"؛ بل كان أكثر تداولا من "الطينة". وهو يوحي بمعنى الامتداد؛ فلذلك قد يتبادر إلى الذهن أنه استعمل ترجمة لمفهوم χώρα (خورا)، وهو "المادة"، وقد ورد في طيماوس[43]؛ لكن لا شيء يدل على أن الأمر كان كذلك. وقد ظل لفظ "المادة" شائع الاستعمال عند الفلاسفة الناطقين بالعربية، منافسا ومرادفا للفظ آخر يوناني معرّب عن السرياني، هو لفظ "الهيولى"[44]؛ وهو كثير التداول على ألسنة الفلاسفة الناطقين بالعربية؛ والظاهر أن ابن رشد قد فضله على لفظ "المادة". وورد في بعض الترجمات لفظ "العنصر"؛ ومعناه "المبدأ" أو "الأصل"؛ إلا أنه أكثر ما استعمل مقابلا للفظ "الهيولى" اليوناني في الترجمات العربية للنصوص الفلسفية. والفقرة التي جاءت في Placita[45] تحت عنوان Περί ϋλης (فيري هوليس، في الهيولى) (I 9, 882C، ص 59، 1 من نشرة مو Mau) جاءت هكذا في العربية: "في العنصر" (ص 115، 7 من نشرة بدوي)، وحيثما ورد ذلك اللفظ فهو مقابل للفظ "الهيولى" اليوناني. وفي ما بعد الطبيعة لأرسطو ترجم لفظ "الهيولى" بلفظ "العنصر"، في ترجمت أسطاث[46]، ومنها مقتطفات كثيرة في حواشي الكتابين α وΛ (النص V من نشرة بويج، في أسفل الصفحة)، وفي مأخوذات Λ، من 6, 1072b16 إلى نهاية هذا الكتاب. ولم يرد لفظ "المادة" سوى مرتين (في Λ 2, 1069b24 = ص 1443، 3 من نشرة بدوي، وفي Β 3, 1070a2 = ص 1452 منها)؛ ولا ذكر البتة للفظ "الهيولى". و"الهيولى" هذه وقعت في ترجمة حنين بن إسحق لكتاب α؛ وفي ترجمة أبي بشر متى [بن يونس] لمأخوذات Λ (إلى 1072b16) تردد بين "الهيولى" و"المادة"[47]. وكفى بذلك شاهدا على أن اللفظين مترادفان؛ وهما بعدُ الجاريان على لسان ابن سينا. والسبب في ترك لفظ "العنصر" للدلالة على معنى "المادة" هو أنه قد استعمل أيضا ترجمة لليوناني στοιχείον (الأسطقس)؛ فكان ينشأ عن ذلك لبس خطير. وهذا اللبس هو الذي درأه التراجمة بتخصيص مفهوم العنصر بلفظ "الأسطقس"، وهو يوناني معرب عن السرياني. وهذا المثال كاف في تقدير ذلك: فقد ذكر نمسيوس في كتابه De Natura Hominis[48] (طبيعة الإنسان) مذهب المانوية، وعندهم أن الأنفس الطاهرة تصعد إلى النور لأنه جوهرها، وأن الأنفس الفاسدة تنزل إلى العناصر ومنها تحل في النبات والحيوان؛ فجاء في قطعة من الترجمة العربية المخطوطة[49] ما يلي: "أما الأنفس التي شابتها المادة فتحل في العناصر، ثم تنتقل من العناصر إلى النبات والحيوان"[50]؛ فلولا النص اليوناني لتعذر فهم هذا الجمع، وهو "العناصر"، على أن المراد به "الأسطقسات". ولعل القراءة الواردة في المخطوطات الأخرى – وبينها قرابة – إنما هي إصلاح لهذه الترجمة – من النص اليوناني أو من الترجمة السريانية، وهذا أرجح؛ ونصها: " الأنفس التي شابتها... تحل في الأسطقسات، ثم منها في النبات أو في الحيوان"[51]. وفي العناية بالضبط التي يشهد عليها ذلك الإصلاح (إن كان هذا تأويله الصحيح) إكبار للترجمان. وقد ذهب الناشر إلى أن هذه الترجمة من عمل إسحق بن حنين؛ لكن بين أيدينا هاهنا أثرين اثنين: فهل أصلح هذا الترجمان ترجمة له قديمة؟ أم أصلح ترجمة غيره؟ نترك الإجابة عن هذه الأسئلة لمن هو أعلم بها. لقد أوقفتنا الترجمات العربية على أربعة ألفاظ استعملت للدلالة على "المادة"، وهي من المفاهيم المهمة؛ بعضها معرب عن اليوناني، وبعضها الآخر وليد مهارة التراجمة. 2. ترجمة المعنى الأصلي قدمنا أن لفظ μορφή (مورفي) ترجم بلفظ "المنظر"، ولعله مقابل للفظ είδος (إيدوس) من حيث معناه الأصلي. وجاء ترجمان آخر فترجم اللفظ الدال على أحد مبدأي أنبادقليس، وهو νείκος (نيكوس، الضغينة)، بلفظ عربي صار فيما بعد شائع الاستعمال في ذلك السياق؛ فكان له الفضل في إغناء اللفظ العربي بمعنى جديد، بمعنى فلسفي محض؛ وذاك اللفظ هو "الغلبة"، ومعناه في المعتاد "النصر" و"المكاثرة". والسبب في انتقال ذلك المعنى في الترجمات إنما هو خطأ ظاهر؛ ذلك أن يونانية العصور المتأخرة تعبر عن معنى النصر لا بلفظ νίκη (نيكي) (في قولهم: ή νίκη، إ نيكي)، بل بلفظ νίκος (نيكوس) (في قولهم: τό νίκος، طو نيكوس)؛ وهو ما جاء في إنجيل متى، 12، 20 وفي رسالة كورنثوس الأولى، 15، 54-55-57[52]. ولفظ "الغلبة" ليس من الألفاظ القرآنية؛ نعم، هذا الأصل، أعني الغين واللام والباء، واقع في القرآن، لكن الاسم المستعمل فيه للعبارة عن معنى "النصر" هو لفظ "النصر" نفسه، في قريب من عشرين موضعا. وفي الترجمات (الحديثة؟) للأناجيل ورد لفظ "الغلبة" (وورد في الموضع المذكور من إنجيل متى في ترجمة أخرى لفظ "النصرة"). واللفظان اليونانيان من أصل واحد، لكن معناهما يختلف؛ فلعل التراجمة الأوائل تشابه عليهم نطقهما، وكانوا على علم بالأناجيل، فظنوا حقا أن أنبادقليس قد جعل من هذه "الغلبة" مبدأ. غير أن الراجح أن قراء تلك الترجمات والشراح قد فطنوا إلى الفرق بينهما، ولم يشتبه عليهم معنيا "الغلبة"، كما لم يتشابه على قراء أرسطو معنيا "الهيولى". ولفظ "الغلبة" هو الوارد في ترجمة أسطاث لكتاب ما بعد الطبيعة لأرسطو[53]؛ وهو اللفظ الذي اختار استعماله مترجم كتاب النفس[54]؛ وفي السماع الطبيعي ترجمت νείκος (نيكوس) حيثما وردت بلفظ "الغلبة" لا غير[55]، وفيه فقرة يجب التنويه بها: ففي I 5, 188b34 منه عاد أرسطو إلى ذكر المتقدمين وانتقد رأيهم، لاسيما الذين يرون منهم أن الأضداد مبادئ؛ فكيف تكون "الغلبة" أو "المكاثرة" ضد "المحبة" أو "الصداقة"؟ لاشك أن الترجمان قد حمل "الغلبة" على معنى "الخصومة"، على معنى "الفتنة"، وهو معنى يؤديه السياق الفلسفي[56]. وللفظ νείκος (نيكوس) ترجمة أخرى بلفظ معناه المعروف هو "الكراهية" و"الشحناء" و"الضغينة"، وهو لفظ "العداوة". وقد استعمله أبو بشر متى في الترجمة العربية لكتاب ما بعد الطبيعة، في Λ 6, 1072a6 (ص 1575، 7)؛ ومن الجدير بالذكر أن ابن رشد في شرحه للمأخوذ B 4, 1000b4، وفيه "الغلبة" (ص 249، 6)، قد استبدل به لفظ "العداوة" في ما اقتبسه منه (ص 256، 15)؛ فمعنى ذلك أنه لا يحمل "الغلبة" على معناها المعروف، وهو "النصر"، بل على المعنى الذي أراده أنبادقليس بلفظ νείκος (نيكوس). وفي هذا الصدد ينبغي التنويه بترجمة إسحق بن حنين لكتاب "الألف الصغرى"، 2, 994a7: فقد قال في νείκος (نيكوس): "الغلبة العداوية"؛ أما أسطاث (في الترجمة V، 16، 5 من نشرة بويج) فإنما قال "الغلبة" وكف. ولا نشك في أننا هنا نعاين "نشأة" لفظ اكتسب مع مرور الأزمنة معنى جديدا، معنى فلسفيا. وسوف يترجم اللاتين في القرون الوسطى لفظ "الغلبة" في ما بعد الطبيعة بقولهم Lis، في الأغلب الأعم. لقد اغتنى المعجم الفلسفي العربي إذن هنا بلفظ جديد، خاص بمذهب بعينه. 3. صدأ مغار أنبادقليس نبقى مع أنبادقليس في المثال الآتي. وصلت إلينا الترجمات في نسخ – أقدمهن مخطوطات – لا تخلو من أخطاء[57] قد يكون مردها إلى أخطاء في القراءة. ومواطن الخطأ كثيرة في العربية، لاسيما في رسم ألفاظها، إذ لا عبرة فيها – إلا لماما – بالحركات غير الممدودة، ولأن بعض حروفها لا يتميز من بعض إلا بالنقط. وقد يكون مصدر الخطأ في القراءة المادة التي استعملت للكتابة؛ وهذا شاهد على ذلك. ففي أثولوجيا المنسوب إلى أرسطو، وهو نص عربي اشتمل في غير ترتيب على طرف صالح من تساعات أفلوطين (الرابع والخامس والسادس)، مع بضع زيادات تطول وتقصر، في نسخ بعضها أخطاء ظاهرة، إلا أن تكون شروحا مقحمة في المتن – أقول: في أثولوجيا[58] ورد أن أفلاطون قال: "إن البدن للنفس إنما هو كالمغار؛ وقد وافقه على ذلك أنبادقليس، غير أنه يسمي البدن الصدأ؛ وإنما عنى أنبادقليس بالصدأ هذا العالم بأسره"[59]. فما سماه أفلاطون (في الجمهورية، VII, 514a) σπήλαιον (سبيلايون) قد ترجم إلى العربية بلفظ "المغار"، وجاء "صدأ" أنبادقليس في بعض النسخ "صداء" وفي بعضها الآخر "صدى"، ومعناه "صدأ المعدن" (ويقابله اليوناني ίος). وليس في نص أفلوطين ولا في التراث الصحيح المنقول عن أنبادقليس ما يُعلَم به كيف تمخض لفظ άντρον (أنطرون، المغار) اليوناني في نص أفلوطين عن لفظ "الصدأ". قد يتبادر إلى الذهن أن خطأ في النسخ هو السبب في تصحيف الكلمة التي أرادها المترجم حقا بالكلمة التي هي محل النظر هنا؛ لكن لم يفلح أحد – على كثرة الجهود المبذولة – في إثبات ذلك. وفي عنوان هذه الأثولوجيا المنسوبة إلى أرسطو في عدة نسخ إشارة إلى أنها ترجمت عن السرياني؛ فرأى لويس في ذلك رأيا أثبته في أطروحة لم تنشر بعد، وهو أن إحدى الكلمات الدالة في السرياني على "المغار"، و هي "شقفا" Sheqphâ، قد صحفها ناسخ أو قارئ بلفظ "شقبا" Shûqpâ، ومعناه "الصدأ" – غير أنه صدأ النبات، وهو المسمى باليوناني έρυσίθη (إيروسيثي). ولاشك أن معرفة التراجمة بعلم النبات كانت محدودة (مع أن ترجمة ديوسقوريدس تشهد على كفاءة عالية في هذا الباب)؛ إلا أنه من العسير أن نتخيل كيف تحول الصدا "النباتي" صدأ "معدنيا" بالنقل من السرياني إلى العربي. أضف إلى ذلك أن رأي لويس يقتضي التسليم بصحة ما جاء في فاتحة الكتاب، وهو أنه "نقله إلى العربية عبد المسيح بن عبد الله بن ناعمة الحمصي" عن السريانية[60]. لكن زيمرمان، وهو من العلماء المتبحرين، تصدى بالأمس القريب لهذه القضية، وجزم بأن نص أفلوطين قد ترجم إلى العربية مباشرة عن اليونانية[61]؛ وأن شيئا أصاب نسخة تلك الترجمة، فكان السبب في استقلال أثولوجيا هذه ونسبتها إلى أرسطو؛ وذلك أن بعض العلماء المتبحرين (ممن كان يرتاد حلقة الكندي) أشفق من ضياع ما حوته ورقات متناثرة، فجمعها، فكان منها هذا الكتاب. فإذا صح أن صدأ أنبادقليس نشأ عن حادث طارئ فليس مرد ذلك إلى الترجمة السريانية لنص أفلوطين. وعند إنعام النظر في هذه القضية يتضح – مع ذلك – أن لفظا سريانيا هو الذي استعمل من غير شك ترجمة للفظ اليوناني άντρον (أنطرون)، وهو لفظ Kôhtô، وتتصدره "كاف"، وهو حرف رسمه شبيه بمثلث صغير منزوع الضلع الأيسر، أي منفتح من الجهة اليسرى. وكان في الورق المشرقي لعهود كثيرة بضعة عيوب أحيانا، فكان المداد ينتشر في بعض المواضع. فلعل "الكاف" المذكورة قد "انطمست" فصار من شأنها أن تشتبه بحرف آخر، يتبادر إلى الذهن هاهنا أنه "الشين"، ويبدو رسمه كأنه بقعة صغيرة من المداد على هيئة المثلث. ويتفق أن في السريانية لفظا أوله شين، هو لفظ Shôhtô[62]، ومعناه صدأ المعدن عينه؛ فلعله استعمل ترجمة للفظ ίος (إيوس)، ومن الممكن ترجمته باللفظ العربي "الصدأ". فإذا صح تقديرنا يكون هذا الطارئ المادي هو الأصل في خطأ ينبغي تبرئة ساحة المترجم منه، لأن الراجح أنه اتبع هنا النص الأصلي ولم يحد عنه. والنتيجة أن هذا الرأي الذي اقترحناه هنا من شأنه أن يؤيد الرأي الذاهب إلى أن أثولوجيا أرسطو ترجمت عن نص سرياني قد يكون هو نفسه ترجمة لنص أفلوطين اليوناني. وإذا ثبت أن تراجمة النصوص الفلسفية اليونانية إلى العربي كانوا من السريان، وأنهم لذلك قد تصوروا في أذهانهم ترجمة سريانية ثم كتبوها أو أملوها بالعربي معتقدين أن ذلك يفي بالأصل المنقول عنه، فالتحليل الذي عرضناه هنا من شأنه أن يؤيد الرأي القائل بأن الترجمة سريانية، وأنها كتبت على الورق بقلم ومداد؛ فتكون القراءة التي بين أيدينا عندئذ ناجمة لا عن اشتباه الحروف بعضها ببعض، بل عن خطأ في قراءتها، لأنه عرض أن حرفا منها ينعطف حتى يكاد ينغلق في رسمه قد "انطمس" بالمداد المنتشر على الورق، فصار مغار أنبادقليس صدأ. وهذه النادرة لا تطعن في مهارة التراجمة: فقد اضطرهم واقع الحال إلى تزويد اللغة العربية باصطلاحات خاصة بالتعبير الفلسفي؛ إلا أن فيها عبرة لقراء نصوص الفلاسفة، وذلك أن تاريخ تلك النصوص لا يمكن تصوره في استقلال عن تاريخ فقه اللغة، ولو مشخصا في أضيق مباحثه، وهو البحث الأثري في المخطوطات[63]. نعم، هذا مجال خصب للبحث خليق به. ومن نتائجه أنك تقف في أغلب الأحيان في الترجمات العربية على ما يمكن تسميته "الترجمة المضاعفة"، وفيها يترجم اللفظ الواحد – اسما كان أو فعلا أو صفة أو غير ذلك – بلفظين اثنين. وفي أغلب الأحيان أيضا تتحقق أن هذه الترجمة المضاعفة إنما تنطق عن عناية الترجمان، وعن طلبه الإحاطة بأبلغ ما يمكن من الدقة بدلالة اللفظ الأصلي (اليوناني مثلا). ولك أيضا أن تنظر في الترجمات الشارحة، وتنم هي أيضا عن العناية نفسها، لكن لأسباب تأويلية أحيانا. وفي الحالتين معا ترى إرهاصات التجديد الفلسفي، لأن الترجمات الحرفية لتلك النصوص المترجمة من شأنها أن تفتح آفاقا جديدة في المذهب الفلسفي نفسه. فكثير من الترجمات من اليوناني إلى العربي، وكثير من النصوص العربية المستوحاة من تلك الترجمات، قد ترجمه في القرون الوسطى إلى اللاتيني أو إلى العبري (ثم منه في الأغلب إلى اللاتيني) تراجمة لم يكونوا جميعا على قدم واحدة في الإحاطة بالنصوص الفلسفية لقدماء اللاتين. فجاءت الترجمات من العربي إلى اللاتيني بمعجم لاتيني مخالف أحيانا لمعجم نصوص القدماء، مثل شيشرون وسنيكا وكنتليانس وأغسطين وخلقديوس[64] وغيرهم. وما من شك أن هذا أصل تعدد مفاهيم الفلسفة الناطقة بلاتينية القرون الوسطى. وهذا واقع يجدر العناية به: فمن شأنه أن يوقف على النشأة الأولى لكثير من المفاهيم التي تنبني عليها أحدث الفلسفات. ملحق وقد كان أيضا متداولا نوعَ تداول لفظ آخر، ترجموا به أوسيا ούσία، هو لفظ "الأيس"؛ والشبه بينهما إن لم يكن من الاتفاقات الغريبة فهو من الاختراعات العجيبة. وقد ذكره الخوارزمي الكاتب في "فصل في مواضعات متكلمي الإسلام" من كتابه مفاتيح العلوم؛ قال: "أيسَ هو خلاف ليس؛ قال الخليل بن أحمد: "ليس" إنما كان "لا أيس"؛ فأسقطوا الهمزة، وجمعوا بين اللام والياء؛ والدليل على ذلك قول العرب: ائتني بكذا من حيث أيسَ وليس". وفي معجم مقاييس اللغة (2/164): "أيس: الهمزة والياء والسين ليس أصلا يقاس عليه، ولم يأت فيه إلا كلمتان ما أحسبهما من كلام العرب؛ وقد ذكرناهما لذكر الخليل إياهما. قال الخليل: أيْسَ كلمة أُميتت؛ غير أن العرب تقول: ائت به من حيث أيسَ وليس. لم يستعمل أيسَ إلا في هذه فقط؛ وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوُجد والجِدَة. وقال: إن ليس معناها "لا أيس"، أي لا وُجْدَ. والكلمة الأخرى قول الخليل: إن التأييس الاستقلال؛ يقال: ما أيّسنا فلانا، أي ما استقللنا منه خيرا". وفي المعجم الفلسفي (1/183-184؛ وراجع فيه أيضا 2/295): "أيسَ لفظ مهجور؛ تقول: جيء به من أيسَ وليس، أي من حيث هو وليس هو. قال الليث: أيسَ كلمة قد أُميتت، إلا أن الخليل ذكر أن العرب تقول: جيء به من أيسَ وليس، أي من حيث هو موجود وغير موجود. ولم تستعمل أيسَ إلا في هذه العبارة؛ وإنما معناها كمعنى حيث هو في حال الكينونة والوُجد. وأيسَ ضد ليسَ أو لا أيسَ؛ ومعنى لا أيسَ: لا وجد ولا وجود. وقد استعمل الفلاسفة أيسَ بمعنى الوجود والموجود، كما استعملوا ليس بمعنى العدم والمعدوم. قال الكندي: "يتضح لك أن الله جل ثناؤه هو الإنّيّة الحق التي لم تكن ليس، ولا تكون ليساً أبدا؛ لم يزل ولا يزال أيسَ أبدا؛ وأنه هو الحي الواحد الذي لا يتكثر بتة؛ وأنه هو العلة الأولى التي لا علة لها، الفاعلة التي لا فاعل لها، والمتممة التي لا متمم لها، والمؤيّس الكلَّ عن ليس، والمصيّر بعضَه لبعض أسبابا وعللا" (كتاب الإبانة عن العلة الفاعلة القريبة للكون والفساد، من رسائل الكندي، حققه محمد عبد الهادي أبو ريدة، ص 215، القاهرة، 1950). وقال أيضا: "الفعل الحقي الأول تأييس الأيسات عن ليس؛ وهذا الفعل بيّن أنه خاصة لله تعالى الذي هو غاية كل علة؛ فإن تأييس الأيسات عن ليسَ ليس لغيره" (راجع رسالة الفاعل الحق الأول التام والفاعل الناقص الذي هو بالمجاز، المصدر نفسه، ص 172-183). – قلت: وراجع في الكتاب المذكور على الخصوص "الفن الثالث من الجزء الأول"، ص 58-60، وأيضا في رسالة الكندي في "الفاعل الحق" تعليق المحقق على "التأييس". – وقال ابن سينا: "ومنها مثل أن يكون الشيء عالما بأن شيئا ليس، ثم يحدث الشيء، فيصير عالما بأن الشيء أيس" (الإشارات [والتنبيهات]، ص 174. قلت: توافقها 3/292 من ط دار المعارف. المترجم). فأنت ترى أن لفظ "أيس" يدل عندهم على الوجود أو الموجود، وهو كما قلت ضد "ليس" الدال على العدم أو المعدوم. والمؤيّس عندهم هو الموجد؛ والتأييس هو التأثير أو الإيجاد". قلت: وقال ابن سينا أيضا (في الشفاء، من الإلهيات، ص 266-267): "فإذا كان شيء من الأشياء لذاته سببا لوجود شيء آخر دائما كان سببا له دائما ما دامت ذاته موجودة؛ فإن كان دائم الوجود كان معلوله دائم الوجود؛ فيكون مثلُ هذا من العلل أولى بالعلّية لأنه يمنع مطلق العدم للشيء؛ فهو الذي يعطي الوجود التام للشيء. فهذا هو المعنى الذي يسمى إبداعا عند الحكماء، وهو تأييس الشيء بعد ليسٍ مطلق؛ فإن للمعلول في نفسه أن يكون "ليسَ"، ويكون له عن علته أن يكون "أيسَ". والذي يكون للشيء في نفسه أقدمُ عند الذهن بالذات لا في الزمان من الذي يكون عن غيره؛ فيكون كل معلول "أيسا" بعد "ليسٍ" بَعدية بالذات. فإن أطلق اسم المحدَث على كل ما له "أيسٌ" بعد "ليسٍ"، وإن لم تكن بعدية بالزمان، كان كل معلول محدثا. (...) إذا توهمنا شيئا وُجد عن علة أولى بتوسط علة وسطى فاعلية... فليس تأييسه عن "ليسٍ" مطلقا، بل عن "أيسٍ"، وإن لم يكن ماديا". وقال أيضا (ص 342): "فإذن كل شيء – إلا الواحد الذي هو لذاته واحد، والموجود الذي هو لذاته موجود – فإنه مستفيد الوجود عن غيره، وهو أيسٌ به، وليسٌ في ذاته؛ وهذا معنى كون الشيء مبدَعا، أي نائلَ الوجود عن غيره... والتأييس المطلق ليس تأييسا ما". واللفظ الآخر الذي كثر استعماله للدلالة على الوجود والموجود هو لفظ "الإنّيّة"؛ وهو اصطلاح فلسفي قديم؛ ولو عُرف ضبطه لتعيّن أصله: ذلك أن له شكلين اثنين: "آنيّة" و"إنّيّة"، وقد فصل القول في ضبطهما وأصلهما الدكتور أبو ريدة في حواشي تحقيق رسائل الكندي الفلسفية.
    )
يعمل...
X