العولمـــــــة
لقد توسّع رأس المال و تجاوزت القوى المنتجة إطار الدولة
القومية ، فأصبح العالم كله حقلا لنشاط المجموعات الصناعية
الكبرى التي اندمجت بقيادة بنوكها لبعث مجموعات مالية ،
فغطت الكرة الأرضية شبكة استثماراتها و قروضها ، سعيا
وراء الربح الأقصى الذي لا يتأتي إلا عبر الهيمنة على
البلدان الأجنبية ، لذلك ظهرت الحاجة إلى فضاءات إقتصادية
موحدة ، لا تعرقلها الحدود القومية ، فتعاونت حكومات
الدول الإمبريالية على قاعدة المصالح المشتركة على تقسيم
العالم و استغلال شعوبه بجعل الدول المسمّاة " في طريق النموّ "
أسواقا لترويج بضائعها ، و مصدرا تنهب منه المواد الخام
بأبخس الأثمان , و يساعدها في تحقيق هذه الغاية وكلاء محليون
يسهرون على تسيير مصالحها و تطبيق سياستها.
إن ظهور المجموعات المالية الكبرى و التروستات جعلت الملكية
الخاصة لوسائل الإنتاج تصبح شيئا فشيئا غير مسايرة
للوقت ، لأن وسائل الإنتاج يقع تجميعها في شكل شركات ضخمة
خفيّة الإسم ، و هو ما يعني نهاية الملكية الرأسمالية
الفردية في إطار الرأسمالية نفسها ، كما يعني أن حكومات
الدول الرأسمالية - و ليس الأفراد - أخذت على عاتقها
مهمة تسيير هذه التروستات أو المجموعات المالية الكبرى ،
و الحفاظ على مصالحها بكل ما تملكه من وسائل : اقتصادية
و سياسية و عسكرية حتى تضمن نموّ و سيطرة إمبرياليتها على
الإمبرياليات المنافسة . و لهذا فإن النظام الإقتصادي
الإمبريالي لم يعد إقتصاد سوق بل أصبح إقتصادا إحتكاريا
عالي المركزة تديره الدولة الإمبريالية ذات الطبيعة
الإحتكارية لأنها وحدها القادرة على منافسة الإمبرياليات
الأخرى.إن تدخل الدولة في البلدان الرأسمالية من أجل
إدارة مصالح رؤوس أموالها و ذلك بتوليها الإنفاق على
مختلف النشاطات و الاستثمارات الغير مربحة و قيامها
بتشييد البنية الأساسية الضرورية لمختلف المشاريع ،
ليس مردّه الصّراع مع الرساميل الأخرى من أجل ضمان أكثر
ما يمكن من الأرباح ، فحسب ، و إنّما أيضا لتحقيق
التوازن الإجتماعي و الإقتصادي بين مختلف طبقاتها
الإجتماعية ، فكلّما حّق بلد إمبريالي ربحا من نهبه للشعوب
الأخرى إلا و تمكن من رفع مستوى المعيشة لطبقاته المستَغَلـّة.
لذلك فإن سعي البلدان الإمبريالية للهيمنة على الشعوب
الأخرى هو ضمان لرفاهية شعوبها و بالتالي ضمان لاستقرارها
الإقتصادي و الإجتماعي و السياسي .
و بالرغم من أنّ الرأسمال تجاوز حدود الدّولة و الحدود
القوميّة إلا أنّ تدخل الدولة يبقى ضروريا لتحقيق
هذه الغاية.لقد كانت الدول الإشتراكية ، و على رأسها
الإتحاد السوفيتي سابقا تحدّ من تدخّل الإمبريالية في
المستعمرات و أشباه المستعمرات ، و تسعى لإفشال كلّ
المخططات الرامية لاستغلال الشعوب ، و تدافع عن حقّ
الطبقات الشعبية في العيش الكريم ، و في التمتع بخيرات
بلادها ، و في المساواة و الحرية و العدالة الإجتماعية.
فحققت بذلك نوعا من التوازن على المستوى العسكري
و الإقتصادي و السياسي و الثقافي ساهم في تقليص
الفوارق الطبقية و في فضح المخططات البشعة للإمبريالية .
إلا أن تفكك الدول الإشتراكية و حيادها عن القيام
بدورها فسح المجال شاسعا أمام قوى الإستغلال لنهب
خيرات الشعوب و تركيعها و إذلالها و جعلها مجرّد أداة
لتحقيق مآربها فسعت إلى القضاء على الأنظمة الوطنية
المعادية لسياستها و الرافضة للإنخراط في منظومتها ،
مكشرة بذلك عن أنيابها ، و كاشفة عن طبيعتها
و حقيقة نواياها ، مستعملة في ذلك كل الوسائل
الشرعية و غير الشرعية ، الديبلوماسية و العسكرية ،
همّها في ذلك تحقيق أكثر ما يمكن من الأرباح لفائدة
رساميلها و توفير الحدّ الأدنى من الخدمات لإلجام طبقاتها
الشعبية في ذات الوقت الذي تسعى فيه رؤوس الأموال
في الدول الإمبريالية إلى توطيد و تدعيم دور الدولة
باعتباره الضامن الوحيد لمصالحها و لتحقيق التوازن
الإجتماعي - بقطع النظر عن طبيعة سياستها الخارجية
( استعمار مباشر أو غير مباشر أو ما يسمى بالإستعمار
الجديد) - فإن البلدان المستعمرة تسعى جاهدة إلى
التفريط في القطاع العام لفائدة القطاع الخاص ،
منخرطة بذلك في النظام العالمي الجديد الذي رسمت
حدوده الإمبريالية وفق مصالحها لمزيد إحكام قبضتها
على العالم ، و بالتالي فإنها أوكلت لهذا القطاع
الخاص مهمة التنمية و النهوض بالإقتصاد بالرغم
من أن هذا القطاع مازال هشا و غير قادر على المنافسة
مما يجعله تابعا للرأسمال الأجنبي ، مطبقة بذلك تعليمات
الدوائر الاحتكارية العالمية مثل صندوق النقد
الدولي و البنك العالمي . و ما رسائل الشكر الواردة
على هذه الحكومات من طرف هذه الدوائر و المنوهة بحسن
تطبيقها للتعليمات المتمثلة في الترفيع أكثر ما يمكن
في قيمة الضرائب المسلطة على شعوبها و تشغيل أقل ما
يمكن من اليد العاملة في القطاع العمومي ، إلا دليل
قاطع على انخراطها في صلب هذه السياسة المفروضة عليها
من طرف الدوائر الإحتكارية العالميةو من نتائج
هذه السياسة :
- تعميق الفوارق الطبقية بين مختلف طبقات الشعب
و القضاء على الطبقة الوسطى و ذلك بتجميع رؤوس
الأموال عند قلّة من المحتكرين الذين سعوا إلى مزيد
استغلال الطبقات الكادحة و ذلك من خلال الترفيع
أكثر ما يمكن في أسعار المواد الإستهلاكيةو التخفيض
أكثر ما يمكن في الأجور . و تعميق الفوارق الطبقية
قسم المجتمع إلى طبقتين : الأولى مالكة لوسائل الإنتاج
و تتمتع بكل خيرات البلاد ، و تعيش في رفاهية مطلقة.
و الثانية - و تمثل الأغلية الساحقة - تعيش في حالة
من البؤس و الشقاء و تلهث وراء القوت اليومي
و تعجز في بعض الأحيان عن توفير أهم الضروريات.
- عدم مراعاة التوازن بين الجهات على مستوى الإستثمارات
و بالتالي العناية بالبنية التحتية ، و هو ما خلق
تفاوتا بين الجهات و قسمها إلى منطقتين : الأولى تعيش
نوعا من الرفاهية و تتمتع بنوعية جيدة من الخدمات
( تعليم ، صحة ، أنشطة رياضية و ثقافية ...)
و تتوفر فيها البنية التحتية و بالتالي تتركز فيها
الاستثمارات و توجد بها مناطق الشغل و الثانية جهات
محرومة تفتقر إلى بنية تحتية من شأنها أنتشجع على
الاستثمار ، كما أن النشاط الفلاحي الموسمي المرتبط
بالظروف المناخية لا يفي بحاجة سكانها لذلك يكثر
نزوحهم بحثا عنمواطن الشغل ، و هو ما يشجع المشغلين
على مزيد استغلالهم.
- إن التباين بين المناطق و بين الجهات خلق نوعا من
العداء بين الأفراد و بين الطبقات ، و هو ما جعل
المجتمع يعيش حالة من التفكك زادته السياسة
التعليمية و الثاقافية عمقا ، و ذلك بترسيخ الفلسفة
الفردانية ، مقابل تشويهها للفلسفة الجمعية ، و هو
ما عمق التباين بين طبقات المجتمع و غيب التكافل
الإجتماعي و طمس فكرة التعاون و التآزر بين مختلف
الطبقات الإجتماعية ، فأصبح الآخر هو العدوّ و المصلحة
تقتضي دحره و نفيه من الوجود.و من نتائج هذه
السياسة أيضا :
- عدم تركيز رؤوس الأموال على الإستثمار في القطاعات
الإستراتيجية ( الفلاحة ، الصناعات الثقيلة )
و تركيزهم على الإستثمار في القطاعات الهشة
( الصناعات التحويلية ، الخدمات ، السياحة ...)
و ذلك جريا وراء الربح السريع ، مما يجعل الرأسمال
الوطني غير قادر على القيام بمهمة التنمية الشاملة ،
و غير ضامن لتحقيق الإكتفاء الغذائي ، و بالتالي ،
فإن القطاع الخاص يبقى عاجزا عن تحقيق حاجيات السوق
الداخلية بما يجعل البلاد في حاجة للبضائع الأجنبية ،
و هو ما يشرع للبلدان الأمبريالية التدخل في السياسة
الداخلية و في جميع المجالات ( اقتصاد ، تعليم ،
ثقافة ...) و الأخطر من ذلك هو انخراط البلدان
العربية في سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني
باعتبارها مملاة من طرف الأمبريالية الأمريكية التي
تسعى إلى تحقيق مشروعها الاستعماري الذي أطلقت
عليه اسم " الشرق الأوسط الجديد " و هو ما يعني
طمس هويتنا العربية الإسلامية و تجريدنا من الشعور
الوطني .
- نشر ثقافة تغريبية تعمق الهوة بين ما هو معيش
و ما هو مدرك ، مما يساهم في تغييب الوعي بجملة
القضايا الوطنية و العربية و الإنسانية عموما
و ينتج فئة غير قادرة على تحمل المسؤولية ، تعيش
حالة من الإنبتات و غير مدركة لأصولها و جذورها
و حقيقة انتمائها و غير قادرة على خوض الصراع
مع أعدائها ، إذ أصبح الإعلام المرئي و المسموع
و المكتوب و سيلة دعاية للأحزاب الحاكمة.
و من افرازات العولمة كذلك سعي البلدان الامبريالية
إلى ضرب اقتصاد البلدان النامية بشكل يجعلها
تعيش التبعية المطلقة و يعيق المشاريع التنموية
في مختلف المجالات و خاصة القطاعات الاستراتيجية كالفلاحة
و الصناعة ، و يحول هذه البلدان إلى سوق استهلاكية
غير قادرة على تحقيق أمنها الغذائي. و كمثال على
ذلك سعي النظام الأمريكي سنة 2002 إلى القضاء على
زراعة القطن في مصر فأوصى زارعي القطن في أمريكا ببيع
منتوجهم بنصف الثمن على أن تتكفل الدولة بدفع النصف
الآخر فكان نتيجة ذلك أن اضطر الفلاح المصري إلى
مجاراة السوق فباع محصول القطن بأقل من نصف الثمن
و هو ما جعله عاجزا عن تسديد ديونه و عاجزا في
السنة الموالية على توفير المال اللازم لإعادة زراعة
الأرض فاستغل النظام الأمريكي هذا العجز و ضاعف سعر
القطن فاستردّ الخسائر التي تكبّدها في السنة السابقة.
كما أن العولمة عملت على تخلي الدولة عن توفير الخدمات
الضرورية للمواطن و خاصة في القطاعات الهامة كالصحة
و التعليم ففي تونس مثلا كان عدد الأشخاص الذين
يتمتعون بدفتر علاج مجاني سنة 1986 ما يقارب 650 ألف
شخص من ضمن 5 ملايين نسمة أما في سنة 2002 فإن عدد
المتحصلين على دفتر العلاج المجاني لا يتجاوز 100 ألف
نسمة بالرغم من تضاعف عدد السكان و ازدياد نسبة
الفقر و ارتفاع الفوارق الطبقية. و أمام هذه
المشاكل التي أفرزتها العولمة لم تجد الدول النامية من
حلّ للحفاظ على الاستقرار و الأمن إلا مضاعفة عدد
الانتدابات في وزارات الداخلية حتى تستطيع أن تلجم
كل الأصوات المعارضة للأنظمة الحاكمة و المطالبة
بضرورة اعتماد سياسة التوزيع العادل للثروات ،
و بالتالي نستطيع القول أن سياسة العولمة تحمل في
ذاتها مؤشرات انقراضها و زوالها. و لكن مع هذا يبقى
السؤال المطروح متعلقا بكيفية مجابهة أخطار العولمة ؟
و بدور المثقفين و خاصة العرب في التصدي للعولمة
باعتبارها شكلا من أشكال الاستعمار الجديد ؟
الهادي الزغيدي
الهادي الزغيدي
تعليق