إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشاعر د. سعيد العيسائي الذي خرجت من معطفه أجيال اشتغلت على السرد والشعر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشاعر د. سعيد العيسائي الذي خرجت من معطفه أجيال اشتغلت على السرد والشعر

    مبارك العامري: اللغة كيمياء الشعر يجب ترويضها وسبر أغوارها
    الإبداع قادر على خلخلة الذاكرة واكتناه صيرورة الواقع
    د. سعيد العيسائي


    شاعر خرجت من معطفه أجيال اشتغلت على السرد والشعر معا لها مكانتها اليوم في الساحة الأدبية العمانية إلا انه يرفض ان ينسب له أي فضل تواضعا وخجلا لا يمتلكه إلا شاعر شفاف بنقاء الضوء ، ولم يكن يكتفي بتشجيع أي تجربة بل كان يساعد في تكوين مخزون فكري ومعرفي لهذه التجارب من خلال إعارتها كتبه الفكرية والنقدية والأدبية عامة ويظل محفزا للاستمرار في المطالعة ومحرضا لتلك التجارب للبحث عن جمالية خاصة للعناية بسردها وشعرها .
    يعتبر مبارك العامري من رواد الصحافة الثقافية العُمانية منذ الثمانينات حيث اشرف على الملف الثقافي لمجلة العقيدة والتي أخرجت أسماء مهمة في الحقل الثقافي اليوم..
    هو أيضا روائي صدرت له (مدارات العزلة ، وشارع الفراهيدي ، ورواية أخرى لم ينته منها بعد) ولا يثني أي تجربة مهما كان حجمها فهو يطالع كل ما تصدره الساحة العمانية ، ولعل ديوانه( بسالة الغرقى) تضمن نصف التجربة التي مازال يعيد صياغة بعض نصوصها لإصدار قادم .ورغم طباعته مؤخرا إلا انه راض بأنه لم يخرج مبكرا للضوء كعادة الزهر لا يتفتح إلا وشذاه يعبق في المكان .
    المرض لم يثنه ولم يفرض عليه عزلته لأنه اختارها مسبقا لا بعدا عن الساحة لأنه كان متواجدا مع الأصدقاء وحاضرا في الفعاليات ،ولكن كانت عزلته تلك في التأمل واعادة خلق للقصيدة والكتابة ومراجعة ما احتوتها التجربة وحتى تجارب الغير، كان حاضرا وغائبا في آن واحد .
    ولكنه ينهض اليوم من تلك العزلة ومن الكبوة التي ألمت به كطائر رخ رفض انتهاء الأسطورة فعاد محلقا كأنه ولد الآن .. ها هو اليوم يشتغل على رواية جديدة وشعر جديد وقراءة متجددة تلو أخرى لأنه مدرك بأن البقاء للشعر وللجمال .. لنذهب الى ذلك العالم المحاط بالمعرفة والفكر والسحر الأصيل..
    *مرحلة تأمل ومراجعة
    v الشاعر مبارك بين عزلة معاناة المرض وبين عزلة اختارها بنفسه، أين هو؟
    u كانت تلك بمثابة فترة تأمل ومراجعة للذات وتقييم المنجز الإبداعي الممتد عبر سنوات عديدة والمتوزع بين الشعر وأجناس الكتابة الأخرى. وقد حرصت طيلة تلك الفترة أن يكون التقييم الذاتي موضوعياً وقاسياً وبعيداً عن تضخم الـ «أنا»، بحيث تكون المرحلة القادمة أكثر نضجاً وعمقاً فكرياً ووعياً بالشروط الفنية والجمالية للكتابة الأدبية. وأعتقد أن تلك المرحلة (مرحلة التأمل والمراجعة) سوف يتمخض عنها نتاج مغاير شكلاً ومضموناً، يركز في المقام الأول على كيفية استخدام اللغة وتخليصها من الشوائب والزيادات عند بناء النص، ومراعاة البعد المعرفي والفكري بشكل أفضل وتوظيفه التوظيف الفني الذي لا يخل بالعنصر الجمالي، ويستفيد من الحقل الدلالي للغة بالقدر الذي يُغني بنية النص ويجعله أكثر تماسكاً ونقاءً. لقد مرت تجربتي الشعرية خصوصاً على صعيد الشكل بأكثر من مرحلة توزعت بين الموزون المقفى والتفعيلة وقصيدة النثر؛ لكنها تمحورت أكثر حول متن قصيدة النثر؛ التي هي في الحقيقة أصعب عند التعاطي معها من الصنفين الآخرين (الموزون والتفعيلة) والاشتغال عليها يحتاج إلى توافر تقنيات فنية غير عادية وإلى مخيلة خصبة ومعرفة استثنائية بخصائص اللغة يمكن بواسطتها استنباط صور مبتكرة تثري النص وتعصمه من زلل الإنشاء والركاكة. وفي توقعي أن المرحلة القادمة ستنحاز بصورة جلية للشرط الجمالي للنص من خلال الاستفادة من إمكانية اللغة واستثمار خصائصها التفجيرية وقدرتها الفائقة على نفخ الروح في فضاء الكتابة؛ بحيث تصبح القصيدة كأنها كائن ينبض بالحياة ويتفاعل مع أحاسيس المتلقي وهواجسه.


    المرض محرضا للخيال


    v الصراع الذي عايشته وما تزال تعايشه، كشاعر له حضوره الروحي ، ما هو عزاء الشاعر لحظة المرض؟
    u رغم الألم والمعاناة الموغلة عميقاً في ثنايا الجسد إلاّ أنّ سطوة المرض وقساوته لم تفلحا في ضعضعة انثيالات الروح أو الحد من وميضها الشفيف، وقد ساعدني ذلك كثيراً في الانسلال من بؤرة النفق المعتم وتلمّس درب الخلاص والمضي بهدوء وتؤدة إلى حيث يسطع ضوء الحياة.
    كان المرض، إلى جانب كونه وحشاً شرساً ينهش الأعضاء محاولاً إطفاء جذوة الحياة والإطباق على مكمن الأنفاس، كان محرضاً للخيال وباعثاً على التحليق نحو آفاق وفضاءات الحلم الرحبة، وكان ذلك عزائي الوحيد حين تستبد بي الأوجاع وتخونني قواي الفسيولوجية، كان بمثابة الدافع القوي نحو التشبث بخيط الأمل الرفيع، هذا الخيط الذي ما لبث وان استحال إشراقاً أضاء الداخل وبالتالي عزّز لدي إرادة العيش وعجّل في الشفاء، حتى ولو كان هذا الشفاء نسبياً.

    العبرة ليست بالكم

    v تريثت كثيرا لحين اصدارك الديوان الأول ( بسالة الغرقى ) لماذا كل هذا الانتظار؟
    u هذا التريّث لم يكن مردّه نوعاً من جلد الذات أو نزوعاً نحو سلوك مازوشي، بل هو إمعان أكبر وتأمل أعمق في أنساق وأبعاد العملية الإبداعية التي لم تكن في أي من مراحلها الفنية الثلاث السابقة باعثة على الرضا أو متسامقة إلى حيث يرنو الطموح. وطوال الفترة الماضية كنت أتابع بعين الناقد المتمحص جُلّ ما كان ينشر من نصوص شعرية لا سيّما ما كانت تنتظمه الإصدارات العمانية في حقل الشعر، وقد خلصت تلك المتابعة المتفحصة إلى نتيجة مؤداها أن الكثير من هذه الكتابات الشعرية لا يتمّثل روح الشعر بمعناه الجمالي المصفى، بل أن منها ما هو بعيد شكلاً ومضموناً عن فضاء الشعر ومناخاته، والأنكى من ذلك أن هناك استسهالاً لدى البعض في التعامل مع القصيدة وعدم احترام قوانينها الفنية، تتساوى في ذلك القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، فالعمودي عند البعض لا يعدو كونه نظماً والتفعيلة إسهاباً في الإنشاء والضحالة وقصيدة النثر إغراقاً في الغموض أو محاكاة لفن الخاطرة. وأنا على يقين تام بأن العبرة ليست بالكم وإنما بالكيف، فالوعي بالخصائص الجمالية أمر مهم بالنسة للشاعر، ومن دون امتلاك مهارات التقنية الفنية عند الكتابة يصبح المبدع منزوع السلاح وأعزل، بالتالي لا يستطيع أن ينتج نصاً ذا قيمة. ومع هذا فإنني أقول أن من الأهمية بمكان توثيق النتاجات الأدبية بشتى أجناسها وأشكالها في إصدارات ولكن شريطة توافر عنصر مهم وهو النضج الفني والنأي عن السطحية والاستسهال، وضرورة إدراك البعد المعرفي والمعطى الفكري وتوظيفهما بشكل متقن في النصوص.

    بيئة «كزموبوليتية»

    v اصدرت روايتين (مدارات العزلة ) ، و(شارع الفراهيدي) لكن لديك انطباع مغاير عن السائد الذي يروج له البعض حول الرواية في عُمان، لماذا ؟
    u بمجرد أن يخرج أي إصدار من يد الكاتب يصبح ملكاً للمتلقي، ومن حق المتلقي أن يقبله أو يرفضه، ودور الكاتب ينتهي حال تسليم الكتاب للمطبعة. وبالنسبة لـ «مدارات العزلة» أو «شارع الفراهيدي» وهما كتابان قمت بإصدارهما منذ بضع سنوات، فإن حظهما من النقد لم يكن معدوماً، بل على العكس كتب عنهما الكثير فور صدورهما سواء في صحافتنا المحلية أو في الخارج أو عبر المواقع الأدبية بالإنترنت، إلاّ أن أغلب هذه الكتابات النقدية كان انطباعياً، أو نقداً سريعاً ذا طابع صحفي.
    واسمحي لي هنا أن أسجّل انطباعاً سريعاً حول واقع المنجز الروائي في عمان، ففي تصوري أن الرواية تحتاج، في المقام الأول، إلى وجود بيئة «كزموبوليتية» تؤمّن مادة روائية ثرية ذات خصائص مدينية. قد يكون هذا الشرط متوفراً نسبياً هنا في عمان في الوقت الراهن؛ ولكنه غير متحقق تمام التحقق في المنجز الروائي العماني (مع وجود استثناءات قليلة) وذلك بسبب غياب شرط أساسي آخر لا تكتمل أي عملية إبداعية أو فكرية بدونه، هذا الشرط هو حرية القول أو التعبير. ففي ظل النظرة ذات البعد الآحادي وما يكتنف المشهد العام من ضبابية، ووجود المحاذير الكثيرة وانعدام التنوع، يشعر الكاتب بأنه مؤطّر ومحاط بالعديد من المثبّطات، وبالتالي يكون عاجزاً عن الإتيان بإبداع يكسر الرتابة ويتخطى تخوم المناطق الضيقة، وَيعْبُر بإبداعه إلى أفق أرحب، فتصل رسالته إلى الآخر، وتتماهى مع هموم الإنسان وتطلعاته في أي مكان.

    لا ابداع بدون قراءة

    v أنت تقرأ كثيرا ، وأدين لك بهذا الجانب من تجربتي الشخصية ، ما الذي شكلته لك القراءات ، وكيف تحافظ على روحك وذهنك بين التراكمات الحياتية والمرض وبين هذا العشق ؟
    u لا يوجد إبداع دون قراءة. القراءة عامل مهم وأساسي في العملية الإبداعية بشتى أشكالها، سواء بالنسبة لفنون الكتابة أو الفنون البصرية أو مختلف الإبداعات الجمالية والفكرية الأخرى. وفيما يتعلق بي فقد أدركت مدى أهمية هذه الخاصية مبكراً، فتعلقت منذ البدء بالكتاب وأصبح صنواً لحياتي برمتها وزاداً متجدداً أنهل من معينه المعرفة والثقافة والفكر. وفي مرحلة المرض والمعاناة كان الكتاب هو الملجأ الآمن والرفيق الحميم والعزاء الذي خفّف من وطأة الألم وضخ في الروح إكسير الهدوء والراحة.
    ومنذ الخطوة الأولى في عالم الكتابة شكلت لي القراءة رهاناً معرفياً وخياراً عقلياً وروحياً وعاطفياً ظل مترسخاً في كياني ووجداني، بل هو يزداد رسوخاً وأهمية يوماً تلو آخر، وقد يكون ذلك نابعاً من الفلسفة التي أؤمن بها وأتبناها في هذا الجانب والمتمثلة في كون الإنسان، بطبعه، كائناً مفكراً؛ نظراً للخصائص الفسيولوجية التي يمتاز بها وما يتواءم معها من صفات سيكيولوجية تمثل أطيافاً من النزعات والرغبات والمثل والسلوكيات، وما دام ذلك يجسد جماع التركيبة البشرية فإن هذا الكائن الحي المفكر الذي هو الإنسان يحتاج إلى أطر معرفية تُفعّل لديه ملكاته العقلية وتجعله جديراً بأن يعيش عزيزاً وفاعلاً في هذه الحياة، وأن يؤدي دوره المنوط به بدأب وإخلاص وكرامة تتوافق مع آدميته، كما أنه يحتاج إلى قوانين وتشريعات تنظم له أمور حياته وتحمي حقوقه وتبيّن واجباته وتعرّفه على ما له وما عليه. وقد تنبه المشرّعون والمنظّرون والفلاسفة على مر العصور منذ سقراط (وربما قبله) وحتى يومنا هذا، إلى حتمية تحكيم العقل والمنطق في معالجة كل المسائل التي تتعلق بشؤون الإنسان، وأن يكون ذلك في إطار من المعرفة الحقّة، فالجهل وقلة المعلومات يشكلان سدّاً منيعاً يقف في وجه العقول العميقة الرؤى، التي تحاول السيطرة على عبثية الوجود الإنساني، وابتكار الأساليب والطرائق الكفيلة بأنسنة الإنسان وجعله خليقاً بالمساهمة الفاعلة في صنع الحضارة. أما ما عدا ذلك فقد يؤدي إلى السقوط المريع في غياهب العدمية وبراثن الجنون؛ ذلك الجنون (المَرَضي) الذي نظّر له المفكر وعالم النفس الفرنسي ميشيل فوكو في كتابه تاريخ الجنون (الذي قام بترجمته إلى اللغة الانجليزية ريتشارد هوارد تحت عنوان «الجنون والحضارة») حيث قدّم فوكو في كتابه هذا دراسة معمّقة ووافية عن الجنون منذ العصور الوسطى وحتى بداية القرن التاسع عشر.
    إن العقل نعمة جُلّى.. ولكي يثمر ويتفاعل ويؤدي دوره لا بد أن تغذيه المعرفة وبدونها يظل جامداً كجلمود صخر، وقد تكتنفه العتمة وتصبح ظلاميته عبئاً، وربما خطراً على الآخرين. يقول إدوارد سعيد، المفكر الكبير، في كتابه القيّم (الاستشراق): «المعرفة هي القوة».. حيث أن من يمتلك المعرفة يكون بمقدوره أن يحرز النجاح، بل والتفوق عن جدارة، فهذه المعرفة التي بحوزته تجعله يفكر بصورة صحيحة ويبني استنتاجاته على أسس متينة؛ وبالتالي يستطيع أن يخطط بشكل سليم، ومن ثم يصل إلى الهدف الذي يصبو إلى تحقيقه بسهولة ويسر.
    لقد برهنت هذه الثنائية (العقل - المعرفة) منذ بداية الخليقة وحتى الآن على أن غريزة البقاء لدى الإنسان تحتّم عليه أن يمعن الفكر ويحشد قدراً كافياً من المعلومات إذا ما أراد تلبية حاجة ما أو تحقيق هدف أو غاية لها علاقة بضمان استمراره في الحياة والتواصل مع أقرانه، ولذا طوّر من مفهومه للغة من محاكاة الحيوان والرسم على صخور الكهوف وجدران المعابد إلى الكتابة الحروفية؛ حتى وصل إلى النقلة النوعية المتطورة في مجال الاتصال في عصرنا الحاضر. وقد رافق ذلك تحولات كثيرة في شتى المجالات الحياتية، كان لها أثرها العميق على السلوكيات والمفاهيم والمعتقدات، وما تبع ذلك من مواقف ووقائع وممارسات وأحكام، سواء على الصعيد الفردي أو الجمعي. وفي خضم هذه المتغيرات والتحولات وتزاحم النتاجات الثقافية والفكرية والفنية والعلمية وتزايد المخترعات التكنولوجية كمّاً ونوعاً، واكتساب الوعي صوراً وأنماطاً حديثة، فإن جذوة العقل لم تخفت يوماً بل ازدادت تأججاً بفضل القيم المعرفية الجديدة وحاجة إنسان هذا العصر إلى الحكمة والإيغال أكثر، وبعمق، في نسيج الحضارة المعاصرة، ومواجهة التحديات التي تعصف بالعُزّل الذين لا يضيئون سراج العقل ولا يمتشقون سلاح المعرفة، مما قد ينجم عنه أزمات ومحن تنعكس سلباً على المجتمع بأسره، وتصيبه بالتصدع والتقهقر والانغلاق.
    ترويض اللغة لصالح النص
    v في قصائدك عنايةٌ فائقةٌ باللغة ونَهْلٌ من ذاكرة المكان. وبين اللغة والمكان وروح الشاعر حبلٌ سُرِّي يُنتِج القصيدة. متى يقطع الشاعر هذا الحبل؟ ومتى يحافظ عليه؟
    u الشعر مغامرة لغوية في الأساس بمعناها الجمالي والدلالي، ومن يمتلك أسرار اللغة ويوقن أنها تتعشقه إلى درجة أن تسلمه زمام الانقياد وتتجسد مطواعة ولينة في يراعه، فإنه بلا مواربة أو أدنى شك، يستطيع أن يبتني قصيدته الخاصة، فاللغة كيمياء الشعر وبعدها تأتي العناصر والمكونات الأخرى برغم أهميتها.
    إن أي تجربة شعرية لا تصل إلى درجة النضج الفني إلا بتوافر شروط وعناصر معينة، ومن أهم هذه الشروط القدرة على ترويض اللغة واكتناه أسرارها وسبر أغوار حقلها الدلالي؛ لتكون أداة طيّعة يمكن بواسطتها الكشف عن كوامن الذات الإنسانية، وترجمة الصراعات التي تمور في الداخل، ونقلها إلى المتلقي بشكل شفيف وصادق. فهي هنا بمثابة مجسّ وناقل لما يعتمل في النفس البشرية.
    وإذا سلّمنا جدلاً بوجود الشاعر الذي تتوافر لديه هذه المميزات، أي امتلاك زمام اللغة والموهبة والأدوات الفنية، ويعي بأن القصيدة أضحت صنعة تتطلب اشتغالاً حاذقاً ومهارة وصبراً، فإنه ينبغي ألاَّ نغفل، بأي حال من الأحوال، ضرورة توافر عنصر مهم آخر يستقي منه الشاعر مضامينه، هذا العنصر المهم هو المكان.
    وفي هذا السياق فإن لـ «غاستون باشلار» المفكر والفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت في الأوساط الفكرية والثقافية، كتاباً فريداً عنوانه (جماليات المكان) تنبع أهميته من كونه يكشف جماليات الأشياء القريبة منا؛ والتي بقدر ما هي قريبة ومألوفة لا نشعر بمدى حميميتها وقدرتها على التأثير في نفوسنا، ومن هذه الأشياء التفاصيل الصغيرة التي تحيط بنا، والتي لشدة اعتياديتها تصبح غير ملفتة لانتباهنا، ونصبح بالتالي غير مدركين لما تتوافر عليه من بُعدٍ جمالي قد يكون خلاّقاً ومؤثراً إلى درجة الإدهاش.
    كذلك هم البشر، لاسيما القريبون منا قرب الساق من الساق، قد لا نشعر بجمالهم الداخلي (صفاتهم الإنسانية الحسنة وخصائص شخصياتهم النبيلة) إلا إذا فقدناهم أو غيّبتنا المسافات عنهم، أو إذا أمعنا التفكير والتأمل في حقيقة ما يتصفون به من شمائل وما يميزهم عن الغير من سمات جديرة بالإعجاب والتقدير..فحين ذلك سوف نكتشف ما لم نتمكن من اكتشافه في خضم الحياة اليومية وضجيج قطارها الذي لا يعرف الكلل . وهذا الأمر ينسحب كذلك على الأمكنة، فالمكان العزيز على قلوبنا (الوطن، المدينة، البيت…إلخ) تظل معزته ساكنة فينا ونظل مسكونين بها مادمنا أحياء، ولكن هذه المعزة الغائرة في الأعماق تتكشّف بصورة جليّة، وأحياناً بشكل مبهر، حين ننظر إلى المكان/ الرمز من خارجه، فمثلاً إذا طال بنا المقام في بلد ما فإن ثمة ما يشبه المارد الرابض في اللاشعور سرعان ما يتحرك محولاً المعزة التي نكنّها للوطن إلى شوقٍ عارمٍ وحنين جارف للأرض والأهل والأحبة والأصدقاء، بل وحتى لأصغر الأشياء، سواء المرئي منها أو اللامرئي، كحبات التراب ورائحة أعذاق النخل وعبق الأحياء القديمة وقسمات الوجوه التي لوحتها الشمس والصخور التي عادة لا يلتفت إليها أحد إلاَّ الجيولوجيون المتخصصون.
    إن الأمكنة والأشياء، حتى ولو كانت جامدة لا روح لها قد تتحول في كيمياء الذاكرة إلى كائنات ذات حركة ونبض، فالمخيلة البشرية هي التي تنفخ الروح في سكونية الجماد، فتحوله إلى كائن حي (مجازاً) له وظيفته الجمالية وفعله الخلاّق، وبالتالي يصبح له أثره في النفس والوجدان.
    إننا حين ننأى بعيداً ونغترب عن الأمكنة التي ألفناها وأقمنا معها صلة ود ومحبة، نظل مشدودين إليها بعمق، نحملها بين جوانحنا، وكثيراً ما تتزاحم صورها على شاشة الذاكرة، خاصة في اللحظات التي يثب فيها الحنين من مخبئه السري.إن هذا الرابط القوي بين الإنسان والأمكنة التي ينتمي إليها، مهما غيّبته الجغرافيا وباعدت بينه وبينها المسافات، هو بلا شك دليل ساطع على أن كل مغريات الحياة وانشغالاتها الآنية لا تستطيع، بأي حال من الأحوال، أن تقف حائلاّ دون حضور هذه الأمكنة الفاعل والمؤثر في وعيه، بل وفي حياته بأسرها، فيستمد منها زاداّ معنوياّ يمنحه القوة لمواصلة العطاء.
    الذات المتشظية موئل الابداع
    v لماذا تخلِّى الشعر عن أغراضه التقليدية التي كانت تشارك في حركة الحياة، وميله إلى أن يكون ديوانًا للذات، سواء كانت هذه الذات ذات شاعر أو ذات أمَّة، بدلاً من أن يكون ديوانًا للواقع، بمجرياته وأحداثه ؟
    u الآن، وفي هذه المرحلة بالذات، وهي مرحلة عصيبة بكل المقاييس، تسقط كل الأغراض التقليدية التي عادةً ما تعتبر أثيرة لدى الأدباء، كما سقطت بموازاتها كل الأقنعة التي أورثتنا المرارة والخذلان والخداع، وتبقى الذات المتشظية وحدها هي المعيار والموئل الحقيقي للإبداع.
    إن الشعر الحق يحتاج إلى مناخات خاصة ذات مواصفات استثنائية حتى تزهر براعمه، فهو له علاقة عميقة بتحولات الذات وتقلباتها، وهو تماماً كالكائن الحي ينبض ويتنفس كلما توافرت له عوامل الحياة، وإذا ما فقد الشعر أي عنصر من عناصر نموه وانتعاشه الأساسية فإن ديناميكيته سوف يعتريها الخلل لا محالة، وقد يصاب بالضمور كالذي يصيب العصب لدى الإنسان.
    لقد أضحت الذات بالفعل هي المحور الرئيسي الذي تدور حوله العملية الإبداعية في مجال الشعر، بل هي المعيار لجُلّ النصوص الشعرية الحديثة في العالم العربي، ولا غرو في ذلك لأن الحزن هو الإكسير الذي يغذي وجودنا.. هو خبزنا اليومي الذي بدونه نشعر أن حياتنا ناقصة. ربما يعود ذلك إلى تواتر حقب المآسي الجمعية المتكدسة في الذاكرة، فتاريخنا دموي وحاضرنا دموي، ولا مكان للفرح فيهما إلاّ نادراً. هذا إلى جانب انعكاسات الواقع الصغير المتأزم لكل فئة أو فرد منا؛ الأمر الذي جعل رهان الذات يطغى على فعل الكتابة لا سيما الشعرية منها. ولكن من بين ركام هذا الحزن سوف ينبجس، لا محالة، قبس من ضوء ينير لنا الطريق، وسوف يحلّق طائر أسطوري جميل شبيه بطائر الرخ ململماً حطامنا وباعثاً في نفوسنا الأمل. لعله الحلم الذي ما زلنا نتشبث به ونقبض عليه بنواجذنا
    هي التي تكتبني
    v كيف تكتب القصيدة؟ هل تأتي دفعة واحدة ؟
    u تخاتلني القصيدة على حين غرّة.. في الليل أو النهار، في الصباح أو المساء، في الهزيع الأول أو الأخير من الليل أو أطراف الفجر. وعندما تأتي بنبلها أو جنونها فإنها تتماهى مع أطياف الحلم؛ حيث ينعدم الشعور بالزمن وتصبح لها السطوة والسيطرة التامة على الكيان برمته. وأنا أكتب القصيدة (أو بالأحرى هي التي تكتبني) تنعشني مناخاتها وأشعر أن كياني بأسره يتجدّد، وأنها تحيط بروحي ووجداني كهالة رَهِقة فأستكين لها لحظة الكتابة. وأحياناً تأتيني القصيدة عاصفةً هائجة كفرس جموح؛ فتضطرب لها النفس ولا تبرح مكانها إلا بعد أن تدمغ وشمها. وحين تفترش القصيدة بياض الورقة، حسب كثافة أو تمدد أنفاسها، أشعر أن ثمة حملاً ثقيلاً كان يؤرقني قد تخفـّف. إلاّ أن قلق الكتابة يظل يخامرني، وأن انثيال القصيدة، مهما كانت رهافته وشفافيته وكثافته، غير كافٍ؛ فألجأ حينها لشكل آخر من أشكال الإبداع، وبما أن لي مراناً من قبل على مقاربة الرواية فإنني أجدها أكثر تماساً مع ذاتي؛ فأكتبها كما تكتبني القصيدة.
    *تطهر وانعتاق من خراب الداخل
    v معيار الشعرية مختلف بين عصر وعصر: فهو عند أرسطو المحاكاة، وعند الرومانسيين التعبير؛ وهو التعبير عن الواقع في الواقعية، إلخ. ما هو معيار الشعرية عند الشاعر مبارك العامري؟
    u الشعرية، حسب فهمي لها، هي نزوع نحو ولادة جديدة وتطهر وانعتاق من خراب الداخل، فأنا أكتب القصيدة لأجسّ سلامة نبضي وتواتر أنفاسي وأتلمّس بأنامل رَهِفَة مكوناتي الفيزيقية وأحافظ على توازني النفسي والروحي. أكتب القصيدة لأبرهن لذاتي أنني ما زلت قادراً على التنفس وأن صدري لا يزال ضاجاً بالحياة. أكتب القصيدة لأعي ما حولي وأفهم العالم وأندغم في ثناياه. أكتب القصيدة، نكايةً في العدم ورفضاً لكل محاولات تغييب الإنسان وتهميشه وإذلاله؛ فالإنسان يسمو بالإبداع ويزداد نبلاً ونقاءً ومحبة.
    أنا من الذين يؤمنون بأن الإبداع قادر على خلخلة الذاكرة واكتناه صيرورة الواقع، فهو ليس ترفاً، بل هو في الحقيقة يختزن طاقة تحريضية هائلة ضد كل أشكال الظلم والتعسف والقمع والغطرسة. وكما أشرت في مكان آخر من هذا الحوار حول سطوة الحزن وتغلغله في أعماقنا كمبدعين؛ إلا أنه يمكنني القول هنا أن بمقدورنا استثمار هذا الحزن إبداعياً وتثويره، أي أن نجعل الصورة التي تبدو قاتمة أداة فاعلة في مواجهة القبح والتبعية والهزال الفكري. وحين يستطيع المبدعون أن يستثمروا الحزن الضارب أطنابه في أعماقهم ويحولوه إلى نص أو لوحة أو مشهد مسرحي أو فيلم سينمائي أو مقطوعة موسيقية جميلة فلا شك أنهم بذلك يؤكدون فعل الإبداع الخارق في تخليص الضمير الإنساني من هيمنة الـ «أنا» المتضخمة ومن براثن السائد الممجوج، وبذلك يستعيد إنساننا صورته النقية بعيداً عن البهرجة والتلوث الأخلاقي والخداع العقلي العفن.
    مشحونة بالتوجس
    v كتبت الموزون وشعر التفعيلة واتجهت إلى النثر في فترة لاحقة، كيف تفسر الشعرية في قصائد النثر التي كتبتها مقارنة بالتقليدية في قصائدك الموزونة، حدثنا عن تطور هذه التجرية؟
    u إذا ما عدت بالذاكرة إلى الوراء، إلى ما يقارب ثلاثين سنة خلت، فإنني أستطيع القول أن الإرهاصات الأولى للكتابة الشعرية كانت مشحونة بالتوجس؛ خشية ولوج عالم جديد، سحري وشائك، دون الإحاطة التامة بأسراره أو امتلاك مفاتيحه. ومع ذلك لم تكن النصوص الأولى متعثرة (حسب معايير الكتابة الإبداعية) بل حاولت في وقت مبكر نسبياً أن أوفّق بين طرفي المعادلة المتمثلة في جمالية الشكل واللغة وجدية المضمون. وهنا لا أدّعي، بأي حال من الأحوال، أن البدايات كانت ناضجة تماماً، وخالية من الهنات أو الزلاّت التي عادةً ما ترافق الخطوات البكر، ولكن ما أردت قوله أن الاندغام الأول في نسيج القصيدة كان حميمياً وجريئاً، مفعماً بالصدق، مقارباً، إلى درجة التماهي، للشروط الفنية التي ترتكز عليها قصيدة التفعيلة آنذاك (هذا القول كان إطاره الزمني الربع الأخير من عقد السبعينيات). بعد ذلك، ومع تطور أفق التجربة واتساع فضاءاتها، أخذت كتابتي الشعرية منحى آخر، حيث تركت للقصيدة زمام القيادة، لها أن تقرر ما تشاء وأنا أتبعها طائعاً كمن يسير متسربلاً بالحلم، فقادتني إلى تخوم قصيدة النثر، التي ظلت وستبقى خياري الأثير. وفي حقيقة الأمر أنا من الذين يراهنون كثيراً على إبداعية قصيدة النثر، وأرى أنها هي التي تشكل اليوم المشهد الشعري في العالم العربي، نظراً لنجاحها في التخلص من الزخارف اللفظية الممجوجة، وعدم انصياعها للتأطير الوزني واختراقها لحاجز القافية الذي كبّل القصيدة العربية وأرغمها على الرزوح تحت وطأته قروناً عديدة. وأرى أن قصيدة النثر ظُلمت كثيراً حين أُلحق بها وصف «نثر» فهي قصيدة بامتياز، لا يضيرها بتاتاً لا مبالاتها بقيود الوزن والقافية، بل على العكس جعلها ذلك متفرّدة فنياً ومحافظة على كينونتها وهويتها؛ كونها ترتكز على مقومات فنية متماسكة ومتناغمة؛ كشعرية المفردة وجمال وعمق الصورة، وانعتاقها من ربقة الطابع الإنشائي الزخرفي، واعتمادها في المقام الأول على الجرس والإيقاع الداخلي، ومرونتها في استيحاء الدلالات الأعمق غوراً والأجمل وقعاً في النفس، ومن هذا المنطلق تأتلق قصيدة النثر الآن أكثر من غيرها عبر المشهد الثقافي العربي، إلاّ أن هذا لا يعني، بأي حال من الأحوال، إلغاء أو تهميش التجارب الشعرية العربية التي سبقت؛ كالقصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، فهذان الشكلان ما زال لهما مكانتهما ومعزتهما في الوجدان، رغم كونهما تجربتين استكملتا دورتهما التاريخية، واستنفدتا شروطهما الفنية.
    بين جيل الصخر والبحر !!
    v اشعل ذاكرتك قليلا .. ولنتحدث عن جيلك كيف استمد وعيه بدون وجود آباء له ؟ وكيف ترى الجيل الحالي ؟
    u يمكنني القول، وباختصار شديد، أن جيلي كان كمن ينحت في الصخر، أما الجيل الحالي فكمن يغرف من بحر.
    إن ما يؤلمني كثيراً كمتتبع لراهن التجربة الشعرية في عمان استسهال التعامل مع الشعر، لا سيما مع قصيدة النثر، فأصبح اليوم هناك شعراء وما هم بشعراء؛ يُنَصِّبون أنفسهم أو يُنَصِّبهم الآخرون عنوة، متجاهلين حقيقة أن الشعر موهبة في الأساس، وأن هذه الموهبة من غير الممكن إطلاقاً أن تأتي هكذا اعتباطاً أو اغتصاباً، بل لابد أن تكون متجذرة في أعماق الإنسان حتى يمكنه أن يمارس جنون الشعر الجميل. إضافة إلى ذلك هناك شروط فنية وموضوعية لابد من توافرها عند كتابة القصيدة، وهذه مسألة تحتاج إلى مران وثقافة واسعة وإحاطة باللغة ومناخاتها. ولكن في المقابل يزخر المشهد الشعري في عمان بأصوات متميزة نحتت طريقها بأظافرها، فشكّلت تجربتها الخاصة، وأثبتت قدرتها الفائقة على الإمساك بزمام القصيدة والإيغال في مكنوناتها، واستيفاء شروطها الجمالية، ولا غرو، والحال كذلك، أن نجد اليوم شعراء من عمان يتواكبون بفاعلية إبداعية فذّة مع أهم الأصوات التي تمثل المشهد الشعري العربي. كما أن الصوت الشعري النسائي في عمان يؤكد، يوماً بعد آخر، حضوره القوي؛ سواء على صعيد الإصدارات الشعرية أو النشر عبر الصفحات الثقافية في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي ذات الصلة، أو على صعيد المشاركة الفاعلة في الأمسيات والملتقيات الشعرية.
    تكريس لأشباه المثقفين
    v حدثنا عن واقع المشهد الثقافي في البلد؟ ما الذي يحتاجه هذا المشهد ؟
    u كما أشرت في إجابة على سؤال سابق بأن لدينا هنا في عمان أصوات أدبية استطاعت أن تكسر بثقة وعمق حاجز التقليدية الرثّة، منتجة إبداعاً، لا أبالغ إن قلت أنه يضاهي، إن لم يكن يتجاوز، فنياً وفكرياً، شكلاً ومضموناً ورؤى، التجارب الإبداعية الأخرى الناضجة، والتي استطاع أصحابها أن يؤسسوا وعيهم ولغتهم الخاصة بهم. وما يبهرني في الجيل الجديد من مبدعي بلادي، إضافة إلى المستوى الرفيع الذي ظهر به نتاجهم الثقافي والفني، جديتهم ومثابرتهم على تطوير أدواتهم الفنية، والنظر إلى منجزهم الإبداعي بعين الناقد المحايد، رغبة في تجاوز الآني وتقديم الأجمل والأرقى والأعمق لاحقاً. ومع هذا أكرر وأقول أن هناك أيضا من يستسهل العملية الإبداعية ولا يعطي المشروع الثقافي ما يستحقه من اهتمام وعناية، وبطبيعة الحال فإن هذا الاستسهال لا ينتج عنه إلاّ أعمال ثقافية وفكرية وفنية رديئة، وهذا لا يقتصر على الأدب وحده وإنما ينسحب على جميع الأجناس الثقافية والإبداعية. ومن هذا المنطلق، وفي ظل غياب النقد الجاد، فمن البديهي أن تشهد الساحة الثقافية في عمان تخبطاً في الممارسة الثقافية وانحساراً للأعمال الإبداعية الجادة وتدني مستوى ما هو مطروح شكلاً ومضموناً. وللأسف الشديد فإن الجهات والمؤسسات التي يفترض أنها المسؤولة عن الثقافة وتدّعي دعمها وتطويرها، قد ساهمت، بشكل أو بآخر، في الوصول بالنتاج الثقافي العماني إلى هذا المستوى المتدني، وذلك من خلال تكريسها لأشباه المثقفين و (احتضانها) لبعض الأقلام التي لا تمتلك الموهبة والوعي الفكري والإبداعي، مما أفرز كماّ لا يستهان به من النتاج الثقافي السطحي والركيك.
    كائنات الربيع العاشقة للحرية
    v ماهو مفهومك للحرية ككاتب وشاعر من الناحية الثقافية والإجتماعية، خصوصاً وأن الشعوب العربية تشهد خلال هذه المرحلة صحوة غير مسبوقة للمطالبة بحقوقها وتأكيد الذات، وذلك في اطار ربيع الثورات العربية؟
    u كل الكائنات تعشق الحرية فهي ليست حصراً على الإنسان وحده، لكنها بالنسبة لهذا الكائن العاقل المفكر الناطق الذي هو الإنسان تعد الحرية حاجة ملحة وضرورية كالهواء والماء والغذاء تماماً، بدونها يغدو المرء عبداً تابعا وسخرة لا يملك حتى الارتهان إلى ذاته وتحسس عناصر كينونته واتخاذ القرار الذي يجعله جديراً بكونه إنساناً مخيراً لا مساقاً كالبهائم. وإذا كانت هي هكذا بالنسبة للإنسان إجمالاً فما بالك إذا كان هذا الإنسان مبدعاً، إنها هنا تغدو مطلباً غير محدود؛ بمعنى أنها بالضرورة تكون مطلقة بدون قيود او تأطير، فالمبدع الحق لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينجز إبداعاً أو فكراً يخلخل السائد ويضيف جديداً وملفتاً على الصعيد الإبداعي والفكري ما لم ينعتق من ربقة ما يكبله ويحد من حريته، سواء كانت تلك القيود مثيولوجية لها علاقة بالدين والمعتقد، أو سوسيولوجية تضع اعتباراً لمفاهيم المجتمع الخاطئة وعاداته وتقاليده البالية، أو أيدولوجية ترتهن للمعطى السياسي وتضفي على أساطين السياسة الفاسدين هالة من القدسية لا معنى لها ولا تتوافق بتاتاً مع وظيفة الفكر والإبداع.
    أمّا مطلب الحرية اجتماعياً، لا سيما بالنسبة للمرأة في مجتمعاتنا العربية الذكورية بامتياز، فهو اكثر من ضرورة ملحة؛ كون المرأة في هذه المجتمعات مغبونة تاريخياً ومهضومة الحقوق ومسلوبة الامتيازات، وذلك راجع في تصوري، إلى انتفاء صفة الملكية لأهم مكوناتها الفسيولوجية وهو جسدها، فمهما ارتقت في سلم العلم والثقافة والوظيفة، ومهما حازت من المال والسلطة، إلا أنها، بفعل افتقادها لهذا العنصر الأساسي المتمثل في امتلاكها لهذا الحق الفيزيقي، لا تعدو أكثر من تابع مفرغ من أهم خصائص كينونتها كإنسانة وبالتالي فاقدة لأبرز سمات الحرية.
    أعلم أن هذا الطرح يتعارض مع الأطيقا (الآداب العامة) في سياقها الساذج ومدلولها السطحي المكرس ايديولوجياً ودينياً، والذي لا يخدم إلا مصالح ذوي السطوة والنفوذ والرعاع السائرين في ركابهم، إلا ان الامر يحتّم علينا جميعاً أن نميط اللثام عن هذه المسلّمات الجائرة، المسكوت عنها حتى في أوساط من يفترض أنهن ذوات عقل مستنير وعليهن أخذ زمام المبادرة.
    وبما أن الحرية المطلقة هي مطلب شعري ومثالي بالنسبة للمبدعين والمفكرين في أي بقعة من العالم، رغم أهميتها الحيوية، إلا إنها بالنسبة لمبدعينا ومفكرينا لا تكاد تحس، لأنها لم تتحقق حتى في أدنى درجاتها، فالقيود كثيرة وكذلك المنغصات والمثبطات والموانع.
    وتؤكد الدلائل والبراهين، في الماضي والحاضر، هنا وهناك، أن صاحب الفكر الحر والكلمة المبدعة، الصادق مع ذاته والآخرين، الذي لا يبتغي غير الجمال والتطهر من أدران المصالح، لابد لغوائل الدهر أن تطاله، وقد يتعرض فكره وإبداعه للمصادرة وربما خضع ظلماً وتعنتاً وبهتاناً للمساءلة والتحقيق مرات ومرات، كما أنه ليس من المستبعد أن يلحق به الأذى المادي والمعنوي، وقد يطال ذلك أسرته وأهله وأقرب الناس إليه، لاسيما في البلدان والمجتمعات المتخلفة حضارياً والأكثر انغلاقاً فكرياً وثقافياً واجتماعياً.
    ورغم أن القوانين والتشريعات ما وضعت إلا لحفظ الحقوق وضمان تطبيق العدالة وردع الظلم ومعاقبة الظالمين ووقف الطغيان إلا أننا، على صعيد حماية أرباب الكلمة الحرة الصادقة وأصحاب الفكر والإبداع، لم نلمس إلا العكس، فالقوانين هنا تجير ضد الكاتب أوالمبدع، وهي دوماً في صف ذوي النفوذ والسلطة، وهناك العديد من الوقائع في هذا السياق. أما لدى الآخرين (المجتمعات المتقدمة) فالقوانين ومؤسسات العدالة هي ملجأ وملاذ للمغبونين والمظلومين والباحثين عن من ينصفهم ويعيد لهم حقوقهم، سواء كانوا مبدعين، أو بشراً فاعلين في مختلف الحقول، أو أناساً عاديين.
    المبدع كان شريكا فاعلا
    v هل الصحافة الثقافية اليوم تؤدي دورها بشكل جيد بحكم تجربتك السابقة في الصحافة الثقافية، مالفرق بين الصحافة الثقافية سابقاً واليوم؟
    u سأبدأ من حيث انتهى السؤال. من الناحية التقنية ، لاسيما فيما يتعلق بالإخراج الصحفي والتصميم، هناك فرق شاسع بالطبع بين الأمس واليوم، وكذلك الحال بالنسبة للنصوص الأدبية وسواها من المواد الثقافية المعدة للنشر في الصحف، خصوصاً أن بعضها يتسم بنضج فني لافت وبرؤى مغايرة ومستويات فكرية وثقافية تدل على عمق التجربة وتطورها، إلا أن اللافت، كما أرى، أن علاقة الجيل السابق من المبدعين بالصحافة كانت أكثر حميمية وحماساً في مسألة النشر الصحفي، بل ان المبدع ذاته، في أحايين كثيرة كان شريكاً فاعلاً في عملية تحرير المادة الثقافية المعدة للنشر، والحرص على متابعة نتاجه ومراجعته والتدقيق عليه من الناحية اللغوية والفنية.
    أمّا اليوم، وبفضل التطور التقني الهائل في وسائط الاتصال، فإن النص يصل جاهزاً للصحيفة دون الحاجة لمتابعة أو تدقيق لاحق من قبل الكاتب، حتى أن الكثير من الكتاب يكاد من النادر الالتقاء بأشخاصهم أو التعرف عليهم وجهاً لوجه من قبل القائمين على الصفحات والملاحق الثقافية إلا في المناسبات ذات الصلة بالمشهد الثقافي، أو من خلال صورهم الشخصية التي يرفقونها بموضوعاتهم، والتي يبعثون بها بواسطة تقنية البريد الإلكتروني للمحررين الثقافيين.
    العالم لم يعد مثلما كان عليه
    v كيف ترى النشر الإلكتروني وهل يغني عن النشر الورقي؟
    u في تصوري النشر الإلكتروني اليوم هو الرهان الذي يمكن للكاتب الأخذ به، بل وولوجه من أوسع أبوابه، نظراً لسهولة التعاطي معه، وبالتالي الوصول بالمُنتج الإبداعي إلى نطاقٍ أوسع وإلى عدد أكبر من المتلقين في شتى أنحاء المعمورة.
    كما أن التقنيات الإلكترونية الحديثة قد أتاحت للكُتّاب ومحبي القراءة حفظ وتخزين ما يرغبونه من الكتب والمؤلفات الالكترونية، دون الحاجة إلى البحث المضني في أرفف مكتباتهم الأمر الذي يُشبع نهمهم ويلبي حاجتهم للقراءة والإطلاع.
    ولا أبالغ إن قلت بأن بإمكان إنسان هذا العصر، والعصور اللاحقة بالتأكيد، الاستغناء عن الكتاب الورقي، بل وقد يكون مجرد وجوده على الأرفف في المنازل للزينة ليس إلّا، والاعتماد على ما يحتويه الحاسوب المحمول من كتب ومطبوعات في شتى العلوم والمعارف.
    وبالنسبة لي شخصياً فإنني قد شرعت بالفعل في التعامل مع الوسائط الالكترونية فيما يتعلق بمسألة النشر الآني منذ فترة ليست بقصيرة نسبياً، حيث أن لدي حالياً على موقع الفيسبوك صفحة شخصية تزخر بالكثير من نصوصي الشعرية والأدبية وأنشر فيها جديدي بشكل متواتر، ولها قراؤها ومتابعوها الكثر من مختلف الأقطار.
    كما أن بعض الأصدقاء المعجبين بنتاجي الشعري والأدبي قاموا بإنشاء صفحة على الفيسبوك تحمل اسمي وتتضمن نتاجي الأدبي وكتابات الآخرين حول التجربة، وهي تحظى بإقبال متزايد من جانب الكثير من متذوقي الشعر والأدب.
    هذا بالإضافة إلى أن حاسوبي الشخصي المحمول يتضمن مئات الكتب المخزّنة التي تتيح لي الإطلاع على ما تحتويه وقراءتها بسهولة ويسر ، مما جعل علاقتي بمكتبتي الورقية ، رغم ثرائها واحتوائها على كم كبير من الكتب المتنوعة ، تفتر قليلاً ، ليحل محلها شغفي الجديد بالكتاب الالكتروني والنشر عبر تقنيات وسائط الاتصال المتطورة باستمرار.
    إن العالم لم يعد مثلما كان عليه ايام أجدادنا، فما شهدته العقود الأخيرة قد حمل في طياته الكثير من التحولات الجذرية التي طالت جوانب متعددة في حياتنا، وأصبح، تبعاً لذلك، كل شيء يسير حسب روح العصر ومتواكباً مع معطياته ومنجزاته، لاسيما التقنية منها، فلا مجال، والأمر كذلك، للقفز على معطيات العصر أو السير عكس طبيعة التطور والارتقاء، أو اختراق المنجز الحضاري بسيوف من خشب.


    بسالـــــة الغــــرقى

    هذه المختزلة
    مرارة الألم
    ليست أولى الطعنات
    الموجعة
    لكنها أكثر اللعنات إيغالاً
    في شروخ الروح
    جاءت في البدء
    كما لطمة على صدغ
    راجف
    ثم استمرأت المكوث
    في موطئ الرمق
    حيث أفرغت الحياة
    أجنَّتها العابثة..
    وأخالها،
    كعرّاف أتقن صنعته
    لن تبرح نزلها الرحب
    إلا بمعجزة تهبط
    من خيال مجنح
    نفثت فيه البراءة
    خلاصة أسرارها.
    وحين اندلقت في الرأس
    فكرة بمنتهى البسالة
    أومأت للإرادة
    التي لا يسندها شيء.
    عند أقصى درجات التعب،
    غير اللهاث،
    أن ترمم تداعيات الذات
    لكنني كنت مثل غريق
    تتشبَّث أنفاسه الأخيرة
    بوهن اللهفة
    مستجيراً بالزبد الهارب
    كأنجمُ متطايرة
    في الأفق البعيد.


    مبارك العامري
    حميميات ...

    حميميات مبارك العامري
    « تحتل الحميمية لدى مبارك العامري بعدها النفسي الخاص في محاولة لرفع الغياب عن الآخر الى تشكيل حضور مواز في الكتابة الشعرية، فذات يوم وقبل ثلاثين عاما شكل مبارك العامري تجربة حميمية لعدد من الكتاب، الذين كانوا في بداية بحثهم عن كتابة جديدة.شكل هذا الشاعر الجميل والصحفي القديم القدير مركز استقطاب لهم، وذلك أثناء عمله كمسؤول عن الملف الثقافي بمجلة العقيدة آنذاك . في وقت لم يكن ثمة من يفتح بابا لكتابة بعد مازالت مجهولة وجديدة على ارض واقع لم يعتد على تقبل الجديد والمجهول بل ينظر اليه بعين الريبة والحذر ، والباحث عن الاسماء التي قدمها الملف الثقافي لمبارك اللعامري أنذاك لا يفاجأ بأنها اليوم أسماء ثقافية فاعلة مثل ابراهيم المعمري ومحمد اليحيائي وأحمد الوهيبي وأحمد الرحبي ومحمد الرحبي وغيرهم ، وتعاونت معه أسماء كانت قد تشكلت متوازية ومرحلة تشكله كمحمد الحارثي وعبدالله الريامي وآخرين .
    سماء عيسى
    بَسَالةُ الشعر والشاعر
    ليس أجمل من أن تذهب مع مبارك العامري في رحلة – سفر- يرفرف حضوره معك كطائر رشيق- ربما- هو، بهذا يرفرف بجناح الخفّة من ثُقْل أرض الأسلاف المزروعة بالجبال، سحرتها وأساطيرها، وأيضاً ببشرها كالطقس المتقلّب.
    أرض – مبارك – فضاء مفتوح، الكتابة أولاً ثم الصداقة، فهو بهذا من الأوائل الذين اشتغلوا في هذا الحقل المعرفي حيث- السكّة- غير سالكة حينها، فالمغامرة ومحاولة التجريب هي من تقود الى فوضى الأشياء، والى نظامها أيضاً..
    لا يتسع المجال للحديث عن – مبارك – وعن علائقه الصداقية، وما تركه من أثر شعري/ نثري، فهي معروفة.. لكن «بسالة الغرقى» ديوانه الشعري (2010) أعجبني، ولعنوانه أكثر من دلالة ومعنى. في هذا الديوان الشعري يمكن تسميته بأثر الوجود المقاوم في مواجهة الفناء والتغييب، يتسرب صوت الشعر، نداء الشعر عبر الكلمات التي تنبثق من أعماق الشاعر باستذكار حميم ومؤلم.
    «بسالة الغرقى» كُتِبَ بلغة سلسة كهذه الكلمات «عينان مأخوذتان بشيء ما/ سحري وغامض».
    كُتِبْ بروح الشاعر، بدم كلماته واستذكاراته، تلك الروح التي تملك البسالة التي لولاها لما صنع- مبارك- لغته ورؤيته الوجودية بتلك المثابرة التي تقاوم غرقها.
    عميق مودتي أيها الصديق والشاعر.
    طالب المعمري
    عزلة العامري
    «كان مبارك العامري في قلب المشهد الأدبي والصحفي العماني منذ 1979 وكان حاضرا في مجمل السجالات الثقافية التي شهدتها الساحة الثقافية في مطلع الثمانينات وحتى نصفها الثاني ، والتي يمكن اعتبارها فترة ذهبية وفق اعتبارت كثيرة ، ولقد أثار وأدار عبر ملتقاه الثقافي في مجلة العقيدة الالتماعات والاشراقات الاولى للكتابة الجديدة عند جيل الثمانينات والذي يعتبر مبارك العامري أحد أبرز وجوهها بوصفه عضوا أصيلا في جسد الكتابة العربية بمنجزها التقليدي في عمان وخارجها غير منبتة وغير منفصلة عنه ولم تعلن عداءها لكل ماهو قديم وتقليدي ولكنها كانت تعلن رغبتها العميقة في الخروج الحر والمفتوح على الجاهزية والنمطية والأعمق رؤية سنجد أنهم ينتمون الى تلك المرحلة غير ان مبارك العامري انسحب من قلب المشهد حين بدا له ذلك المشهد أقرب الى التفتت من التماسك وأقرب الى تعميق الفرقة بدلا من توثيق أواصر العلاقة ، لقد رأى أمامه المشهد واضحا فذهب مخلفا وراءه شظايا صورة مبعثرة في مرايا النفوس ..
    وعبر هذه الكلمات الخجلى نحيي صديقنا وزميلنا الشاعر والكاتب مبارك العامري ، منوهين بدوره الثقافي الذي يجب ألا ينسى ، تاركين له خياره الذهبي في عزلته الجليلة ، وليرقب جحيم العالم كما –هنري باربوس- من ثقب صغير في باب .
    محمد اليحيائي
    في ديوان بسالة الغرقى
    (قل لوكان البحر مدادا لكلمات ربي ..لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربي )) من القرآن الكريم.
    ((قل لو كان البحر كتابا.. والموج أسطرا لكتبت على كل موجة «يحفظك الله «)) من رسالة نصية لمبارك العامري الى كاتب السطور.
    (( قل لو كانت سفينة الطوفان نجاة الانسان .. فإن بسالة الغرقى شعلة الحياة )) اسماعيل السالمي
    « لم يستطع الكاتب والشاعر الجميل مبارك العامري في بسالته ان ينجو من ذاته ، تلك الذات الانسانية والوطنية الممتزجتان روحا وجسدا مع مبارك العامري ، فجاءت في بسالة الغرقى تجسيدا تاما سواء في اختيار الكلمات أو في مواقعها من القصيدة ..»
    اسماعيل السالمي
    ضوء يخاتل الغيم
    «في المرة الأولى سيتطاير الفراش ويملأ شوارع الفراهيدي.
    في المرة الثانية ستتجمع الغيوم فوق رأسك لتدثرك من أي مكروه.
    وفي المرة الثالثة ستمطرك السماء بألف حورية مرمية تدثر وجعك وتطيب جراحاتك الشعرية.
    وفي المرة الرابعة سيمتلئ الكون أطفالا يعبئون رئة الارض بكركراتهم الخضراء.
    وفي المرة الخامسة سيمتلئ المكان زهورا ملونة ستجعله جنة استثنائية.
    وفي المرة السادسة سيهجم النحل على المكان وتسيل أنهار العسل فيتلقفه الشعراء والكتاب ويجعلونه مدادا لكتاباتهم لألف عام مقبل .
    وفي المرة الأخيرة سيمرض المرض ، ويهرب للأبد خجلا أمام كل هذا البهاء ، وتعود كضوء يخاتل الغيم في صباح ممطر ، أو كشاعر عبر المرض مجازا في قصيدة».
    د. فاطمة الشيدية
    فنجان قهوة على شارع الفراهيدي
    « اعرف مبارك العامري صديقا ، واعرفه كاتبا ، ولعلي أتطرف في الاولى لأنني لا ألتقي به كثيرا ولكن شفافيته الروحية تمنحني الاحساس انني أسكن القلب الكبير لهذا الرجل .
    ولكنني لا اتطرف في معرفتي به ككاتب لأنني قرأت العامري ولا أزال حديث عهد بالقراءة وأكتب عنه الآن وأنا حديث عهد بالكتابة. أحس بالانتماء الى لغة مبارك العامري الشعرية، ولأنني احمل في اصابعي وشوشة العطر والقلق كما هي في مدارات العزلة وشارع الفراهيدي ، انني أقرأ مبارك العامري لأن مايبدعه هذا الكاتب والشاعر الجميل يمثل بالنسبة لي لحظات دفء تستبق الزمان والمكان وتسكن كأغنية أخيرة على شواطىء معبأة بالوحدة والانكسار ، تهب الرمل أغنيات الغربة والوحشة .
    الرواية عند العامري باقة ورد على غصن من الشوك ، نحس معها أننا ندخل وطنا بأرضه وسماواته ، بزرقة البحر وملوحته ، بكل تلك الاشراقات التي تغيب في لحظات التلاقي المميت حول صدفة مجهولة ، فهو ذلك المشغول بالتفكير في معاني مشاهد عشاق يوشوشون تحت الأشجار أو عندما أرى قرب الحديقة عاشقين متعانقين في ضوء القمر ..
    محمد سيف الرحبي
    شارع الفراهيدي
    « يمكن القول ان «شارع الفراهيدي «التي كتبها مبارك العامري اضافة الى اصداره السابق «مدارات العزلة»، رواية مسكونة بالهروب والانعتاق ، وانها رواية لا يفصح فيها كاتبها عن مغزى المجتمع الذي يشتهيه ويتوق اليه.. تحمل في طياتها الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام ، التي قد تستغرق الاجابة عنها وقتا طويلا على حد ما قاله الدكتور سقراط لغيلان « سوف يمضي وقت طويل حتى يظهر الجيل الذي تبشر به يا غيلان».
    بدر الشيدي
    لوحات العامري الرمزية
    « حينما قرأت شعرا للمبدع الجميل مبارك العامري استعرت من لوحاته مساحات ملونة بتأثير سحرها كما حدث لي أمام «مدارات العزلة ، وشارع الفراهيدي ، والملتبسون» فكان يطلق في صوره الشعرية «المانفيستو» ويصيب النسغ الذي يتصل فيه الجناح بالخاصرة ويشفي من فيض روحه جراح مخاوف المسافات المتطاولة .
    كان مبارك العامري يرسم أبجدية لهجته الانسانية الساطعة الدلالة والمعنى والقيمة الجمالية التي كمنت في هذا التضارع المعادل للموقف الثقافي والاجتماعي محتوى ، وبما فيه من رؤى نبيلة شكلا ، فبلغ في ندائه أقصى حدود الرمز والاشارة في التعبير عن موقفه من الأشياء وتفاصيل الحياة شعريا ..
    كان في تجربته المتواصلة في الشعر وفنون النثر الأخرى، التقط آخر حبة سقطت من بذور تفاحة الآلام وترك غلالة الاغتراب لحواء لأنها الى الآن لم تفطن الى البذرة الوحيدة المتبقية من تفاحة الندم ..
    فشعر العامري ونثره كلاهما يضيفان في كل حالة وومضة ابداع لمسة مبتكرة من خلال مجسات الناس والاشياء التي تبعث رنينا إثر رنين في نمو الأمل والفرح كمشاعر النحلة وهي تنطلق من زهرة عباد الشمس فكان الشاعر روحا غضة مرتعدة في طوية سليمة تشعر بلذة وفرحة غامرة عندما ترى سماء المحبة تمطر عشقا مع كريات الثلج ويبهجها مرأى الاطفال يتقافزون من جذع نخلة البصرة الى شجرة آدم في القرنة والعصافير تملأ آذان المارة مندفعين نحو شروق فجر جديد بعيدا عن لا نهائية الملاذ الآجل .. من هذه الرؤية أرى صور الشاعر الروائي الجميل العامري في معنى «التخليق الحداثي» ،وسيقرأه الأطفال والعشاق ويردد أشعاره المعتلون والمحرومون وسيكون مصدر الكثير من الإلهام وستمد تجربته الذاكرة بمتعة الابداع والأمان والسلام ؟
    شوكت الربيعي
    تخوم الصمت في مدارات العزلة
    «مدارات العزلة « للشاعر والكاتب الجميل مبارك العامري ، يطرح العديد من القضايا الانسانية والهموم التي تهم الانسان في كل زمان ومكان ، فالانسان الفرد يعيش في حالة من العزلة ، في شبه جزيرة ،هذه العزلة هي ناتجة عن الصمت الذي وصل الى تخوم هائلة ، أم ان حالات الصمت هي المظهر الخارجي والقشرة العارضة لحالة اخرى تسري في الابدان وتستقر في القلوب وتبيض وتعشش في خلايا العقل البشري مما يدفع هذا الانسان الى الانطواء والانعزال بعيدا في مملكة الصمت ؟
    وعندما تشتد العزلة والاغتراب بالشاعر ينبثق من اعماقه صوت يحثه على اغلاق ابواب الصمت والوحدة والعزلة ، وفتح نوافذ جديدة مشرعة على فضاء مدينة لا تعرف الهدوء ، لأن صوت الشاعر لن يتوقف ولن يهدأ ، سوف يظل هادرا في البرية منشدا أعذب الالحان ، واقسى الكلمات في أصعب المواقف ، فالشاعر موقف والا اندثر شعره ونثره وكلماته مع ذرات الرمال».
    المرحوم عبدالستار خليف
    عزلة المثقف ومداراته
    « صدر كتاب «مدارات العزلة» للكاتب العُماني مبارك العامري عام 1994 لأول مرة، فتناولته الأقلام في عروض صحفية هنا وهناك، اتفقت جميعها على أنه مجموعة من النصوص لا ترقى الى الرواية كنوع أدبي، وفي الوقت نفسه ليست قصصا قصيرة بالمعنى المعروف لهذا المصطلح. وليس هذا الاتفاق في واقع الأمر دليلا على صحة هذا الحكم النقدي، لأنه مبني على رؤية مسبقة تنظر الى المؤلف على أنه شاعر أقحم نفسه في مجال ليس من حقه أن يقتحمه، فكيف يتأتى الشاعر ان يكتب الرواية أو القصة القصيرة ؟! هذا من ناحية أما الكتاب نفسه فيثير إشكالية النوع الأدبي، فنحن أمام نص خارج على إطار الأشكال السردية التقليدية، مما يصعب على الكثيرين تصنيفه، ومن ثم استيعاب قيمه الجمالية. وهو ما حدث مع الذين تناولوا مدارات العزلة.
    مدارات العزلة - رواية قصيرة تستعين بتقنيات القصة القصيرة والسيرة الذاتية، والشعر، ثمة تداخل لأنواع أدبية متباينة، تشكل في الأخير بنية النصر السردي، وعلينا أولا أن نوضح مفهوم الرواية القصيرة، فهذا المصطلح يعني «ذلك العمل النثري الفني الذي يحقق التوازن الواعي بين الايجاز الدقيق والتوسيع المطلق، وهما العنصران اللذان يسمح بهما فن الرواية القصيرة بشكل واضح. وهو فن يستفيد بأحسن ما في القصة القصيرة والرواية معا من عناصر ومقومات» وهي فوق ذلك - أي الرواية القصيرة - متصلة بطريقة موحية بالتراجيديات القديمة، فيما يخص بساطتها وحتى طولها، ويحدد لها النقاد عدة خصائص تشكل مزيجا من خصائص الرواية والقصة القصيرة، مثل وحدة الانطباع والوصف الموجز وحرية الزمن واللغة الدالة العبرة والفكرة الجادة الثرية وتناول نوعية خاصة من الأبطال.
    أن مبارك العامري على وعي فني بما يفعله في مدارات العزلة وأدبه عامة من تجريب وفن، وهنا أقتبس الفقرة التالية التي جاءت على لسان السارد في روايته التالية «شارع الفراهيدي»، وذلك من خلال استحضاره لرأي صديق مهتم بالأدب، لعله المؤلف - مبارك العامري - نفسه إذ يقول إن الأعمال الروائية المتميزة اليوم هي تلك التي تستشرف آفاق التجريب، فتناغم وتتفاعل مع أنواع فنية وأدبية أخرى، وتسري في شرايينها دماء جديدة آتية من منابع الفكر والعلوم الانسانية والتطبيقية - لتجسد في النهاية كيانا جميلا تتناغم في جنباته شتى الألوان، والأصوات والحركات، وهذا ما رأينا الكثير منه في مدارات العزلة.»
    د. محمد عبد الحليم غنيم
    العالم
    من ثقب صغير في باب
    تعد قصة «شارع الفراهيدي « التي نشرت عام 1997 للأديب مبارك العامري صرخة عالية مدوية في وجه عالم لا تسيطر عليه الا المادة ولا يحيا الا بها في حياتنا المعاصرة ، كما تعد نقدا لاذعا لهذا العالم الذي اخذ ينجرف ويبتعد عن الفنون الأصيلة الهادفة العميقة ولا يقدر ولا يخدم الا الأشياء الهزيلة التي لا عمق فيها ولا تفكير ، هاربا من اعمال العقل وساعيا الى الراحة القاتلة ، وقد عالج الكاتب في قصته مشكلة قديمة حديثة طالما شغلت النقاد والمفكرين كل يراها من منظوره الخاص ويحاول ان يضع لها حلا ، ولكن دون جدوى ، لقد بقيت ماثلة قائمة وتزداد عمقا وعنفوانا كلما تقدم بها الزمن في عالم تسوده وتعتريه المتغيرات ويسيطر عليه الانفجار المعرفي وحضارة الانترنت والقنوات الفضائية ، انها مشكلة الصراع العنيف والمعانة التي تسيطر على المثقف العربي بشكل عام ، انها مشكلة الأدباء والفنانين والشعراء والمسرحيين الذين يعيشون غرباء في مجتمعهم وبخاصة عندما يحاولون تقديم أشياء فكرية عميقة فيصطدمون بالحواجز المادية الضخمة فتؤدي بهم الى الانعزال والهروب والانسحاب الى عالم آخر باحثين فيه عن ذاتهم وطموحهم ، واغلب شخصيات هذه القصة من هذا النوع».
    د.عطا أبو جبين
    هذا الانسان ..كما عرفته
    «شكّل الملحق الثقافي أو الاوراق الثقافية الذي يشرف عليه الصديق الجميل مبارك العامري منتدى ثقافياحقيقيا يجتمع فيه رواد الكتابة والابداع من جيل السبعينات وبداية الثمانينات في وقت لم تكن فيه المؤسسات الثقافية والمقاهي الراقية متوفرة ، وان وجدت فلم يكن لها ذلك الذي نجده اليوم ، فكانت اللقاءات الى جانب جلسات مبارك العامري لقاءات أخرى في صحيفة الوطن وعمان ومجلة السراج ومجلة النهضة في مبناها القديم بمطرح والجديد بالوطية أو منزل أحد الأدباء أو مكتبه اذ كان يعمل في قطاع ما .
    أذكر عددا من الأدباء الذين كانوا يثرون الملحق الثقافي الذي يشرف عليه الصديق الجميل مبارك بكتاباتهم ومنهم زاهر الغافري وحمد رشيد وشبر الموسوي وخالد منصور الفارسي وصالح سليمان الحارثي وأنور سليمان الجهضمي وأحمد بن سالم الفلاحي وسالم الدرمكي وسالم بن ضحي الحسني وابراهيم بن عبدالله المعمري الى جانب عدد من الكتاب العرب المقيمين بالسلطنة .
    عندما اقول ان مبارك العامري يعد أحد أكبر رواد الصحافة الثقافية في عمان بل من اوائل الصحفيين العمانيين فليس ذلك من قبيل المبالغة ، فمبارك حسب ما ذكر لي انه التحق بالعمل الصحفي في سن مبكرة .
    وقد أراني يومها بعض صوره التي شكلت بداياته الأولى في حقل الصحافة حيث انتقل بكاميراه من مدينة لأخرى لتغطية الجديد ولمتابعة حركة التنمية الشاملة في العديد من الولايات حتى انه تعرض لحادث سير مؤلم أثناء عودته من احدى هذه المهمات ترك على أثرها السياقة لليوم .
يعمل...
X