إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وجهاً لوجه الشاعر خليل مردم بك و الشاعر الدكتور خالد محي الدين البرادعي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وجهاً لوجه الشاعر خليل مردم بك و الشاعر الدكتور خالد محي الدين البرادعي


    - الشاعر الراحل خليل مردم بك
    صاحب
    النشيد الوطني السوري
    حُمــاة الدّيــارِ عليكم سلام أبت أن تذِلَّ النّفــوسُ الكرام

    عرين العـــروبة بيتٌ حَرام وعرش الشّموسِ حِمىً لا يُضام

    = الشاعر الدكتور خالد محي الدين البرادعي

    النموذج القومي – والمستويان
    فــي أدائــه الفـــني
    من خلال ما وصلنا، أو قل من خلال ما عرفنا، نستنتج أن خليل مردم بك سليل إحدى الأسر الدمشقية الأصيلة الموسرة، وهو يشبه موقع نزار قباني من أكثر من جانب، دمشق جنته الأولى، وثقافتها السائدة هي البطانة النفسية والمعيشية والفكرية له، فجاه عائلي، وبحبوحة مادية، وسبل للتعليم والتثقيف ميسرة وموهبة شعرية تفجرت لديه بسن مبكرة، وإذا كان زميله اللاحق نزار قباني وجد في صباه الرغد أن شاعريته منجذبة بسيرتها الأولى على الحب والكشف عن سحر الأنثى والغاز الأنوثة، فإن خليلاً عبثت فيه ريح الحزن المبكر، لتقطع صباباته بالأنوثة وتفرغه وصفها وإضفاء المحسنات الشعرية على أسرارها وطلاسمها.
    صحيح أن أول نسمة شعرية هبت على إدراكه كانت نفحة امرأة، وسحر أنثى حتى لا يشذ خليل مردم بك عن تكوين الشاعر العربي منذ فجر القصائد الجاهلية التي وصلت إلينا وحتى الآن:
    (قد كان قلبي كالحديد قساوة
    قبل الصبابة لا مثيل لطبعهِ
    لكنه لما تعشق لانَ إذ
    سطعت أشعة عين من أهوى بهِ)
    كانت أول ما قاله، وكان في السادسة من عمره، وأرسل بعدها مقطعات ليست قصائد كتجارب يغني بها شغفه بالأنثى لولا ريح الحزن المبكرة التي انتزعت أباه منه بعد سنتين فقط من اكتشافه موهبته، ولم تمهله أكثر من سنتين أخريين لتنتزع منه أمه ورثا كليهما بأبيات، قال لأمه المتوفاة يمتدح نسبته العربية من خطوط هويتها:
    (كذاك حلت هنا بنت الذين سموا
    فخراً ومجداً على الجوزا وكيوانِ
    يا قبرُ لم تدرِ ما ضَمِّنتَ من شرفٍ
    عال تفرَّع من فهر وعدنانِ)
    متبعاً أستاذه الخالد أبا الطيب المتنبي في نفس النداء الذي أسمعه الدنيا وهو يرثي أخت سيف الدولة، ويرثي جدته أم والدته.
    لم يكن مبالغاً كثيراً حسب رأيه عندما أنهى رثاء والدته بقوله ( يابنت خير أب) فأبو أمه مفتي الشام آنذاك، وله تآليف وتصانيف في الدين، وأبوه دمشقي عريق المحتد، وأمته تعيش قهراً وإذلالاً تحت نير السلطان التركي، ممزقة مفككة منهوكة القوى.
    تحت وطأة هذين الإحساسين نبل النسب، وقهر الأمة كان عليه أن يجد مظهراً آخر، ومنفذاً أكثر شمولية وضوءاً من البحث عن حواء وأسرارها، فارسل عينيه باتجاهين هما تاريخ أمنه العظيمة الغارق بالأمجاد والمكرمات، والطبيعة التي منحته قدرة بصرية عجيبة على لمس جزئياتها وسبر أغوار أشيائها، ليصبح وهو شاب أكثر شعراء جيله تجاوباً مع البحر والخضرة والرمال والرياح، يصفها وصف المصور الخبير حامل الآلة التي لا تخطئ هدفها.
    ويغوص في تاريخ العرب ليستخرج الكثير من لآلئه ودره، ينشره على شعره الوطني والقومي شأنه في ذلك شان شعراء التبشير الذين عاصرهم في الشآم والعراق. وخاصة الوصف الدقيق الذي سيمتاز به واضحة في شعره، لم تنسه المرأة، ولم تصرف طاقاته بأجمعها، بل أفادته في وصف أكباد العشاق وإسباغ الإحساس الإنساني على الطير والفراش.
    بيد أن المرأة ظلت تلك العربية الحصان المتمنعة ذات الدلال بشعره وظل هو ذلك الشاعر الوفي لتقاليد العشق النبيل، فلم يتبذل، ولم يتدله، ولم يقدم الأنثى مبتذلة رخيصة في غزله ونسيبه وظل إلى سن متأخر يخاطب الأنثى بكثير من الخفر والحياء، وهو يبثها لواعج ذاته، معاتباً، أو مطالباً، أو واصفاً:
    (حللتِ فؤادي ثم أنشأت بينه
    وبين اللواتي كن فيه ركاما
    فما كان الإِمثل مكة كل ما
    سواك به أضحى عليَّ حراما)
    تغالبه صور الأقدمين، ويشده وازع ديني ووازع خلقي ورثهما صفة وثقافة.
    وأحياناً هو يذهب تباريحه الشهوانية بترجمة بعض القصائد الغزلية الرفيعة التي زين بها ديوانه، أو ينقل حالات وجده وهيامه بحواء إلى سكبها على حمامتين تتعانقان أو عصفورين يتنقلان في روض، وسارت في شعره هذه القصائد الأنوثية برفق واحتشام على مدى ثلاثين عاماً وأكثر.
    في نهايات الحرب العالمية الأولى تتدفق القصائد القومية على لسان الخليل، كان يخطو في عقد العشرين يناصر الثورة العربية التي قادها الحسين بن علي ضد الأتراك، ويتذكر القسوة والكبت والعنف التي انصبت على المقاول والأقلام بعد مجزرة جمال باشا الوحشية، ويرى في شخص الحسين منقذاً لأمته من تفككها وظلامها، هكذا تصور آنذاك، فانثالت قصائده تشيد بتلك الحركة الثورية التي كان بيته وبيوت أقاربه في دمشق مراكز دعوة لها، ويدخل الفرح إلى شعره العروبي المفعم بروح الانتماء والحس القومي، ويظل يتشبث بأيِّ عربي يحكم الشام حتى كانت وقعة ميسلون، وهنالك يتخذ شعره طابعاً آخر، هو طابع الدعوة الثورية للوحدة حتى ينذر نفسه وآل بيته لقضية العروبة.
    بعد ميسلون، ودخول الجيش الفرنسي دمشق، لم يعد ثمة مجال للتريث، فالعدوان واحد لـه أسماء عدة، وأعداء العرب يجمعهم هدف إنهاء العروبة سواء حكموا باسم الدين كالأتراك، أو حكموا باسم الحضارة كالفرنسيين، وهم أصحاب معتقد واحد إن هو استعباد الشعوب وإنهاء خصائصها القومية لسلبها، ونسمع من خليل مردم بك واحدة من القصائد النضالية ذات النفس الثوري العارم، لعلها أنموذج لنبل المناضل القومي خلال وقوع أمته تحت براثن الوحش الاستعماري، بل وأنموذج للشعر الذي مهد الطريق لظهور الفكر القومي:
    أنا ما حييت، فقد وقفت لأمتي
    نفسي ومالي في سبيل بلادي
    فإذا قتلت وتلك أقصى غايتي
    لي فالوصية عندها أولادي
    بنت لتضميد الجراح ويافع
    يعنى بتثقيف القنا المياد
    اختار الآن وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره أن يجاهد كما وصف القرآن صفوة المجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والله هو الوطن هنا، الأمة الجريح، العروبة المقهورة، الأرض التي مزقها نوم أهلها، ووحشية المتكالبين على خيراتها وموقعها.
    لا ينسى ابن الخامسة والعشرين الثوري المتحفز أن دعائم الوحدة العربية تنبع من الأرض والتاريخ واللغة والنضال المشترك في سبيل الحرية، وأن الدين بعيد عن النزعات القومية، وهكذا يجب أن يكون:
    (قالوا: وفي الدين بون دون وحدتنا
    إلى متى باسم هذا الدين نقتسمُ
    لئن أصروا على أهواء أنفسهم
    لا الدين يبقى ولا الدنيا ولا الشيم)
    إنها حساسية المرهفين، البعيدي النظر، الواسعي الأفق، الذين يدركون خطورة الطوفان إذا جاء، ولا يستثني أي قيمة في إغراقه الأشياء بما فيها الدين الذي يتسترون بوهم نصائحه، أو ما يوهمون أنه من نصائحه.
    لم يكتف خليل بتسخير شاعريته لتأصيل الإحساس القومي، لم يكتف بالتحريض على الثورة، لم يكتف بالغناء بأمجاد أمته والكتابة عن تاريخها وتراثها بل لاحق الانتماء القومي من كل جوانبه، وكتب عن العرب المارقين الذين صفقوا للجنود البريطانيين وذكر التاريخ القادم بـ:
    (أن الذين تجافى عنهم الشرف
    الشام تبرأ من عار الذي اقترفوا
    كادوا لها قبل أن كادوا لمصر فلا
    تؤاخذهم بذنب منه منتصف)
    وهل أخلص من انتصاف الأمة للخارجين من جلودهم تبرأ من نبل الانتماء؟ لقد ظل اسم المناضل والشهيد، مواطناً وشاعراً في سفر الخلود، رمزاً لتقديس الأجيال، وطرح السائرون على دروب النضال كافة المارقين والصغار.
    واستقام عود الشاعر، واستقام أسلوبه الفني في الأداء، ورسخ طريق القصيدة القومية التي تستمد لغتها وأدوات بنائها من حجارة الشعر القديم، وتملؤها بقضايا العصر وأحداثه الدامية.
    كانت الحرارة، ومكان الدفء وكان اللصوق بأفق الإحساس القومي، هي الخصائص التي ميزت شعر خليل مردم بك بينما كان الرمز والصورة عنصرين يختفيان حيناً ويبرزان حيناً ويمّحيان حيناً ثالثاً من شعره، لم يجترح معجزات التجديد بقدر ما أراد أن يكون قصيدهُ شاهد عصره ومترجم أفكاره وتطلعاته لبعث أمته.
    وبإيجاز كان شعره بناءاً جاهلياً حمل هموم ومشاهدات عصر في فترة دقيقة، احتملت وجود استعمارين، ووجود ثوار وشهداء، وخائفين ومارقين ومتطلعين إلى بعث أمجاد العروبة واستئناف مسيرها.
    كان يرى في مدينة دمشق، التي انطلق منها أولاً رمزاً مثقلاً بالحس القومي والحركة التاريخية، والقدرة الذاتية المدهشة على إضاءة الوطن العربي بالفعل الثوري، وقد سجل هذه الانطباعات بوصف حسي لأرض دمشق وطبيعتها، ليخلص إلى وصفها التاريخي ذي التحرك الثوري والقومي وكأن دمشق التي أحبها، ما احبها إلا لأنها:
    ( كم من زكيّ دم ونفس حرة
    فاضا لوصلك في حمى اليرموكِ
    عمر الذي وطئت سنابك خيله
    إيوان كسرى قد ترجل فيكِ
    رفعت أمية فيكِ أعظم دولة
    كانت قواعدها سيوف بنيكِ
    كم من شموس ليس يغرب نورها
    من عبد شمس ضمها ناديكِ
    وغدا صلاح الدين دونكِ باذلاً
    نفساً يضن بمثلها ليقيكِ
    وظللت خالصة العروبة حينما
    أخذت بنوك بمحنة التتريكِ
    رمز وسر ولغز هي دمشق، هكذا رآها خليل فأعطاها جانباً كبيراً من حياته الشعرية، وازينت كالعروس عبر صفحات ديوانه.
    حدث في حياة خليل أن تفجر في واحدة من أهم قصائد ديوانه عام 1925 يوم وصف بشاعة الانتقام الفرنسي من الثوار، وأسبغ على دمشق إحساسه العربي القديم، هي قصيدة (يوم الفزع الأكبر) التي سارعت صحف عربية آنذاك لنشرها وأحس الفرنسيون بخطر الشعر المناضل حتى لو كان مليئاً بالدموع والأنين والمواجع:
    (أبكت دمشق بنيها يوم محنتها
    فلم تجد غير من صحت عقائدهُ
    ترى الحنيفي يوم الروع مبتدراً
    إلى المسيحي في البلوى يساعدهُ
    خلى حماه ليحمي عرض صاحبه
    وصال خشية أن تؤتَى مواردهُ
    فتى دمشق اصطبر للخطب تجبهه
    إن العروبة جيش أنت قائدهُ
    لا عذر في اليأس مما كان ممتنعاً
    إذا تقصيت أمراً أنت واجدهُ
    هذا بعد أن وصف بدقة وتدخل في الأحداث دمشق وخرابها وقذائف الفرنسيين الهطالة على كل مرتفع ومتحرك فيها فحاكمت السلطات الفرنسية خليلاً وبحثت عنه لتزجه في أحد سجون المدينة التي أحب ولم يمكنهم من ذلك فتخفى وهرب إلى لبنان ومنها إلى مصر، وكأنه رأى فرصة أخرى ومتسعاً من الوقت ليتزود بالمعرفة والثقافة مادام شعره يصل إلى الجماهير أينما كان ومادامت أمته تتحرك في وجدانه وفي خياله، في يقظته. فسافر إلى لندن وانتسب إلى جامعتها ليعود بعد أربع سنوات مزوداً بسلاح ثقافي جديد ليستمر في وصف الطبيعة بتلك العين الحادية الثاقبة ووصف أهله وبلده محرضاً مثوِّراً لا يفوت حادثاً دون أن يسابقه بشعره وعرف أن بعضاً يلومونه لهربه إلى لندن وفراره من وجه السلطات الفرنسية فرسم لوحة رائعة لهذه الحادثة كانت بمثابة تبرير لسلوكه وكان هربه هو الوسيلة لاستمراره في حركة نضال قومي آنذاك:
    (رمت بي عن دمشق نوى شطون
    غداة أشارف الحدث المهولا
    تمطى الواغلون بها وضاقت
    عليَّ فلم أجد فيها مقيلا
    وكنتُ إذا حملت على خنوع
    ولم أصلت لـه عضباً صقيلا
    نأيتُ بجانبي وأجبت: كلا
    بملء فمي وأزمعت الرحيلا
    لأن العروبة تعيش فيه ولأن الوطن العربي يسكنه ولأن تاريخ العرب الذي قدسه مشرقاً وهاجساً يتغلغل في أعماقه، إدراكاً وتذكراً وتطلعاً. نسي انه عاش في بريطانيا أربع سنين، فلم نعثر على أي أثر في ديوانه، لأرضها، ولا لسمائها، ولا لأناسها، فهو كالعاشق العذري الذي شغلته حبيبته عن نساء العالمين وهنا أجدني مضطراً لمخالفة رأي الدكتور جميل صليبا الذي عزا هذا النقص في حياته الشعرية لأسباب قد لا تقنع المتوغلين في عشق أمتهم ودورانهم الفكري في فلك تاريخها وبعثها معافاة حرة، والخليل لم يكتف باللون القومي العربي في إبداعه، بل بحث عن المناضلين الشرفاء وأحس أنهم اخوانه وأهله، وينتمون إلى ما ينتمي إليه ماداموا يبحثون عن الحرية والوحدة وبعث تاريخ أممهم جديداً معافى([1'>).
    كان ذلك الطرف أو البعد الإنساني في انتمائه وثورته ومعاناته إلى توهجه ونقائه في قصيدته التي أنشأها في حاكم ايرلندا الذي مات إضراباً عن الطعام احتجاجاً على تعسف الإنكليز وإذلالهم شعبه هذا المناضل يراه الخليل رفيقاً لـه أو أخاً بل يرى فيه رمزاً للشرفاء والمناضلين من أجل الحرية والقومية:
    كأنك من ذوي قرباي لما
    رأيتك باكياً نظماً ونثرا
    ولم تك ذا ولاء في معد
    ولم تبلغ بك الأجداد فهرا
    ورغم النكبات المتتالية التي ابتليت العروبة بها ظل هذا الشاعر القومي مؤمناً بنبلها، بقدراتها، بقوة اندفاعها الذاتي وظل متفائلاً بخلاصها المطهر من التجزئة والتخلف والاستعباد ليس تفاؤل الحالمين والطوباويين بل تفاؤل المناضلين الذين يعرفون بالضبط أن التحريض الثوري بعد رسم الحدود القومية للذات هو الثورة المنقذة:
    فما دامت نفوس القوم يوماً
    تثور فلا يزال لهم رجاء
    وقبل أن أتحدث عن مستويين فنيين في شعر خليل مردم بك سأترك فسحة لرأي سامي الدهان الذي أفاض في الحديث عنه حول طبيعة النضال القومي في شعره (وقصائد النضال انقلبت بين يديه إلى قصائد سياسية هاجم بها الخونة والمارقين في صور مُخزيَة لهم ورسمهم كأشباه البشر بل كتجار الأعراض في سوق النخاسة يبيعون الأرض والحمى، وهذه القصائد السياسية تدور منذ صدر هذا القرن حول العروبة والعرب فما من قصيدة تخلو من ذكر عدنان وقحطان وقريش، وما تكاد تخلو من وحدة عربية كبرى يعدد حدودها دائماً ويتمنى أن تمحى بينها السدود، فالحمى واحد، والعرب أمة واحدة منذ القديم حتى اليوم)([2'>).
    هذا الوصف يطلقه مؤرخ أدبي وناقد على شاعر تفتق شعره عن أكمامه الخضر قبل ميلاد أي حركة قومية بعشرين سنة وماذا يمكن أن يكون إن لم يكن نبوءة لظهور فكر سياسي منظم.
    لمست مستويين في الأداء الفني لدى خليل مردم بك الأول مباشر يعتمد البناء القديم في التشكيل، والثاني شفاف عذب دخل في غابات التلوين وانغسل بجداول إلى الرمزية والحداثة أقرب.
    المستوى الأول ظهر واضحاً في شعره النضالي والمستوى الثاني ظهر واضحاً أيضاً في شهر الحب وشعر الطبيعة.
    علينا التأكيد قبل ذلك أن ذات خليل مردم بك كشاعر ظهرت في المستويين، وبدت مشرقة في أنواع شعره بلا استثناء، في قصائد الحزن الأول كان موجوداً، كان يمزج حزنه بحزن الناس وكانت قصائده تلك مرآة عكست ذاته ووجدانه كما عكست وجدان الآخر الذي تحدث عن بؤسه وحزنه وشقائه.
    في قصائد الحب دخل هو كمصدر أساسي فيها لم يهبط على الوصف من عل، لم يبتعد عن أحاسيسه وهو يتحدث عن حواء والأنوثة، ظهر العاشق العفيف المتحشم، بنفس القدر الذي تواجدت فيه الأنثى في حضرة هذا الشاعر المحب أو المتستر بصور أخرى لإظهار عواطف حبه.
    في القصائد النضالية كان حكماً وكان شاهداً، وكان داعية يبحث عن ذاته في تجديد بعث أمته.
    ومع ذلك تجلى فارق فني بين نمطين من أدائه الإبداعي في الشعر النضالي كان يتصبب حمماً وناراً وشواظاً على الخطأ، وحشية الآخرين خطر التخلف خطر المكوث والمهادنة.
    وكان يتصبب ناراً وشواظاً أمام الثائرين والشهداء، في هذا الجانب تغلب الأسلوب دون أن يتستر بأي رمز، دون أن يتماهى أي صورة عن الجماهير.
    كان واضحاً مباشراً تغلفت مباشرته وأتزر وضوحه بحرارة ذاته وسخونة اندفاعه، وصدق توجهه:
    (صلى الاله عليهم من مجندلة
    أشلاؤهم بين أغوار وأنجاد
    فدى العروبة بالنفس التي كرمت
    يا رحمة الله للمفديِّ والفادي)
    لا يوارب، لا يتجمل بالمحسنات، هو داعية للعروبة إلى الثأر والثورة، لا يجد متسعاً من الزمن أو فسحة تسمح لـه بالتستر خلف الرموز:
    يا ليت شعري ماذا يستفزّكم
    حمى مباح وإذلال وإفقارُ
    أرى الحجارة أحمى من أنوفكم
    كم أرسلت شرراً بالقدح أحجارُ
    إخوانكم في فلسطين تنالهم
    بالسوء والعسف أنياب وأظفارُ
    مهد المسيح ومعراج النبي وأو
    لى القبلتين بها لم يأمن الجارُ
    كم ريع سرب بها بغياً وكم هتكت
    من حرمه الحرم القدسي أستارُ)
    ألفاظه ومتانة تركيبه وإيقاعه الموسيقي الصاخب يذكرنا بنماذج من شعرنا القديم/ في المستوى الثاني هو المتقدم فنياً على الأول، تهجم علينا الصور من كل جانب وكأن خليلاً نسج في هذا اللون من الأداء ستاراً شفافاً لا يحجب الدلالة بل يبرزها ملونة بنوع من التشويق والترغيب، وبلغ بالوصف في هذا اللون مبلغ الرسام إذا كان في الشعر النضالي مصوراً يحسن التقاط المشاهد.
    شعر النضال لديه رؤية يملؤها ناراً ويذكيها إحساساً.
    شعر الوصف والحب رؤيا يملؤها تصوراً وتوقعاً.
    في قصيدة (فراشتان) يسمو على هذا المستوى من الأداء مستوى الرؤيا والتصور والرسم:
    تبرجتا بنفض من سوادٍ
    على أعطاف حلة أرجُوانِ
    يلوح على حواشيها بياض
    كما نصلت أصول الزعفرانِ
    إذ ما ثارتا فشرارتان
    وإما قرَّتا فشقيقتانِ
    ذوت كلتاهما قرنين دقا
    كما يزوي لغمزٍ حاجبانِ
    وضمت من جناحيها فكانت
    كعرف الديك أو حرف السنانِ
    وأرخت منهما فَبَدتْ كحلي
    تلألأ فوق لبات الحسانِ
    أفانين من الحركات زاغت
    لها عيني وعيَّ بها بياني
    فمن ضم إلى نشر لوثب
    لرفرفة إلى حرب عوانِ
    تواثبتا مثاقفة فيا من
    رأى ديكين إذ يتساورانِ
    ورفرفتا مُهاداةً كما في
    مهب الريح رفت وردتانِ
    إذا ما هبتا لبلوغ قصد
    بدا لهما – فوجَّهتا- لثانِ
    وإن إحداهما انطلقت فجدت
    بمتن الريح مطلقة العنانِ
    ترى الأخرى تزاحمها اعتراضاً
    أفي رحب الفضا تتزاحمانِ؟
    كؤوس الزهر وِردُهما فلم لا
    بأجواز الفضا تترنحانِ؟)
    ليس وصفاً إبداعياً لمشهد بل هو إسباغ حالة إنسانية على كائن لا يحمل أحاسيس الإنسان، ورسم لا تصوير وتصور لا تقرير، وانظر إلى المفردات التي اعتمدها في القصيدتين.
    هناك القذائف والحراب والويل والقتل والدمار والنار والثورة والشهادة وهنا الورد والحلي والرفيف والضم والنشر ولبات الحسان. في بعض الأبيات ألغى أدوات التشبيه واعتمد الصورة مباشرة بدون وسيط.
    هذا رسم موجز لخليل مردم بك الذي وقف حياته لوحدة وطنه وبعث أمته وإضاءة تاريخ أهله دون أن ينكث عهداً أو يخلف وعداً وغادر الحياة في أواخر الخمسينيات وعيناه معلقتان في بعث هذه الأمة.
    وكأني بالدكتور عمر الدقاق أحد المهتمين بقراءة أدبنا القومي يرسم صورة خليل مردم الشخصية وهو يتحدث عن خصائص عامة بغير تحديد للشعر القومي وللشاعر القومي([3'>):
    (وقد تجلت عناصر القومية العربية في الشعر بإلحاح الشعراء على وحدة الأصل العربي ووحدة اللغة وماضي العرب وتاريخهم المشترك، وآلامهم ونزوعهم الشديد نحو وحدة أقطارهم وشعوبهم، فمن حيث الأصل تجلى في الشعر حرص العرب على اتصال نسبهم المادي أو المعنوي بأجدادهم والمباهاة بقحطان وعدنان وكنده، وربيعة واعتبار العروبة رابطة قرابة وشيجة، وأن أفراد الشعوب العربية ليسوا إلا أبناء عم في إطار أمة واحدة).
    ------------------
    ([1'>) اعتمدنا ديوان خليل مردم الذي أصدره مجمع اللغة العربية بدمشق. وهو متوج بمقدمة نقدية للدكتور جميل صليبا.
    ([2'>) كتاب الشعراء الأعلام في سورية للدكتور سامي الدهان ص 129 .

    ([3'>) نقد الشعر القومي ص 21 منشورات اتحاد الكتاب العرب 1978. للدكتور عمر الدقاق.
    واستخدم الدكتور الدقاق عبارة (الشعوب العربية) في أكثر من موقع في هذا الكتاب. والصحيح ( الشعب العربي). لأن الفوارق التي نلمسها الآن بين عرب وعرب هي فوارق طارئة تحاول

يعمل...
X