إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أسرار البلاغة

تقليص
هذا موضوع مثبت
X
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: أسرار البلاغة

    فصل في الفرق بين الاستعارة والتمثيل


    اعلم أن من المقاصد التي تقع العناية بها أن نُبيّن

    حالَ الاستعارةِ مع التمثيل، أهي هو على الإطلاق

    حتى لا فرق بين العبارتين، أم حدُّها غيرُ حدِّه

    إلا أنها تتضمّنه وتَتَّصل به?

    فيجب أن نُفرِد جملةً من القول في حالها مَع التَّمثيل،

    قد مضى في الاستعارة أن حدّها يكون

    للّفظ اللُّغوي أصلٌ، ثم يُنقَل عن ذلك الأصل

    على الشرط المتقدم، وهذا الحدّ لا يجيء في الذي

    تقدَّم في معنى التمثيل، من أنه الأصل في كونه

    مَثَلاً وتمثيلاً، وهو التشبيه المنتزَع من

    مجموع أمور، والذي لا يُحصّله لك إلا جملةٌ

    من الكلام أو أكثر، لأنك قد تجد الألفاظَ في

    الجمل التي يُعقَد منها جاريةً على أصولها

    وحقائقها في اللغة، وإذا كان الأمر كذلك،

    بانَ أَنَّ الاستعارة يجب أن تُقيد حكماً زائداً

    على المراد بالتمثيل، إذ لو كان مرادُنا بالاستعارة

    هو المراد بالتمثيل، لوَجب أن يصحّ إطلاقُها في

    كل شيء يقال فيه إنه تمثيلٌ ومَثَل، والقول فيها

    أنّها دِلالة على حكمٍ يثبت للّفظ، وهو نقلُه عن

    الأصل اللغويّ وإجراؤه على ما لم يوضع له،

    ثم إن هذا النقل يكون في الغالب من أجل شَبَهٍ

    بين ما نُقِلَ إليه وما نُقِلَ عنه، وبيان ذلك ما مضى

    من أنك تقول: رأيت أسداً، تريد رجلاً شبيهاً به

    في الشجاعة وظبيةً تريد امرأة شبيهة بالظبية،

    فالتشبيه ليس هو الاستعارة ولكن الاستعارة

    كانت من أجل التشبيه، وهو كالغرض فيها،

    وكالعلّة والسبب في فِعْلها. فإن قلت كيف تكون

    الاستعارة من أجل التشبيه، والتشبيه يكون

    ولا استعارةَ؛ وذلك إذا جئتَ بحرفه الظاهر فقلت زيد الأسد.


    فالجواب أن الأمر كما قلتَ، ولكنّ التشبيه يحصُل

    بالاستعارة على وجه خاصٍّ وهو المبالغة،

    فقولي: من أجل التشبيه، أردتُ به من أجل التشبيه

    على هذا الشرط، وكما أن التشبيه الكائنَ على

    وجه المبالغة غَرَضٌ فيه وعِلَّة، كذلك الاختصار

    والإيجاز غَرَضٌ من أغراضها،

    ألا ترى أنك تُفيد بالاسمِ الواحدِ الموصوفَ

    والصفةَ والتشبيهَ والمبالغةَ، لأنك تُفيد بقولك رأيت أسداً،

    أنك رأيت شجاعاً شبيهاً بالأسد،

    وأنّ شَبَهه به في الشجاعة على أتمّ ما يكون وأبلغِه،

    حتى إنه لا ينقص عن الأسد فيها، وإذا ثبت ذلك،

    فكما لا يصحّ أن يقال إن الاستعارة هي الاختصار

    والإيجاز على الحقيقة، وأنّ حقيقتها وحقيقتهما واحدة،

    ولكن يقال إن الاختصار والإيجاز يحصلان بها،

    أو هما غرضان فيها، ومن جملة ما دعا إلى فِعْلِها،

    كذلك حكمُ التشبيه معها، فإذا ثبت أنها ليست التشبيهَ

    على الحقيقة، كذلك لا تكون التمثيل على الحقيقة،

    لأن التمثيلَ تشبيهٌ إلا أنه تشبيهٌ خاصٌّ،

    فكلُّ تمثيلٍ تشبيهٌ، وليس كلُّ تشبيهٍ تمثيلاً.



    وإذا قد تقرَّرتْ هذه الجملة، فإذا كان الشَبَه بين

    المستعار منه والمستعار له من المحسوس

    والغرائزِ والطِّباع وما يجري مجرَاها من الأوصاف المعروفة،

    كان حقّها أن يقال إنها تتضمّن التشبيه،

    ولا يقال إنّ فيها تمثيلاً وضَرْبَ مَثَل،

    وإذا كان الشَّبَه عقلياً جاز إطلاق التمثيل فيها،

    وأَن يقال ضُرِبَ الاسمُ مَثَلاً لكذا، كقولنا ضُرب

    النور مثلاً للقرآن، والحياةُ مَثَلاً للعلم.


    فقد حصلنا من هذه الجملة على أن المستعير يَعْمِد

    إلى نقل اللفظ عن أصله في اللغة إلى غيره،

    ويجوز به مكانَه الأصليَّ إلى مكان آخر،

    لأجل الأغراض التي ذكرنا من التشبيه والمبالغة

    والاختصار، والضَّارب للمثل لا يفعل ذلك ولا يقصِده،

    ولكنه يقصِد إلى تقرير الشَّبه بين الشيئين من

    الوجه الذي مضى، ثم إنْ وقع في أَثناء ما يُعْقَد به

    المثلُ من الجملة والجملتين والثلاث لفظةٌ منقولةٌ

    عن أصلها في اللغة، فذاك شيءٌ لم يعتمده من جهة

    المَثَلُ الذي هو ضاربه، وهكذا كان متعاطٍ لتشبيهٍ صريحٍ،

    لا يكون نَقْل اللفظ من شأنه ولا مِن مُقتضى غرضه،

    فإذا قلت: زيد كالأسد، وهذا الخبر كالشمس في الشهرة،

    وله رأيٌ كالسَّيف في المضاء، لم يكن منك نقلٌ للفظِ

    عن موضوعه، ولو كان الأمر على خلاف ذلك،

    لوجب أن لا يكون في الدنيا تشبيه إلا وهو مجاز،

    وهذا مُحالٌ، لأن التشبيه معنًى من المعاني وله

    حروف وأسماءٌ تدلّ عليه، فإذا صُرّح بذلك ما هو

    موضوع للدلالة عليه، كان الكلام حقيقةً كالحكم في

    سائر المعاني فاعرفه.



    واعلم أن اللفظة المستعارة لا تخلو من أن

    تكون اسماً أو فعلاً، فإذا كانت اسماً كان اسمَ جنس أو صفةً،

    فإذا كاناسمَ جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي

    تُنقَل فيها محتملاً مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل،

    وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه،

    فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به

    أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم،

    وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة،

    وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال،

    وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد.

    وإن كان فعلاً أو صفةً، كان فيهما هذا الاحتمال

    في بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ

    وأجريتَ الصفة على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون

    أصلاً في تلك الصفة وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما،

    نحو أن تقول: أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير،

    فهذا الكلام يحتمل أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين

    على الحقيقة، بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام

    ذوات النور وأن يكونَا واقعَين على المجاز،

    بأن تريد بالشيء نوعاً من العلم والرأي وما أشبه

    ذلك من المعاني التي لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً،

    وإنما توصف به على سبيل التشبيه.


    وفي الفعل والصفة شيء آخرُ، وهو أنك كأنك تدَّعي

    معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له، فإذا قلتَ:

    قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة، فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور،

    ولذلك تجيء فتُضيفه إليك، كما تضاف المعاني

    التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ إلى الفاعل والموصوف

    فتقول: نُورُ هذه الحجّة جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي،

    كما تقول: ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً

    من هذه الأحكام، فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين

    احتمال شيئينِ ولا أن يُدَّعى معناه للشيء،

    ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله.


    وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً

    آخر يُبنَى عليه، وهو أن الاستعارة وإن كانت

    تعتمد التشبيه والتمثيلَ وكان التشبيهُ يقتضي شيئين

    مشبَّهاً ومشبَّهاً به، وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ

    إلا أنه عقليٌّ فإن الاستعارة من شأنها أن

    تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه، وتدَّعَي له

    الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به،

    كما مضى من قولك: رأيت أسداً، تريد رجلاً شجاعاً

    ووردتُ بحراً زاخراً، تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ

    الكفّ وأبديتُ نوراً، تريد علماً وما شاكل ذلك،

    فاسم الَّذِي هو المشبَّه غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى،

    وقد نقلتَ الحديثَ إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ،

    فتضع اللَّفظ بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور،

    كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا

    الصنيع حيث يقع الاسم المستعار فاعلاً أو مفعولاً

    أو مجروراً بحرف الجرّ أو مضافاً إليه، فالفاعل كقولك:

    بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ

    ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:

    جنسٍ فإنك تراه في أكثر الأحوال التي تُنقَل فيها محتملاً

    مُتَكَفِّئاً بين أن يكون للأصل،

    وبين أن يكون للفرع الذي من شأنه أن يُنقَل إليه،

    فإذا قلتَ: رأيت أسداً، صَلَحَ هذا الكلام لأن تريد به

    أنك رأيتَ واحداً من جنس السَّبُعِ المعلوم،

    وجاز أن تريد أنك رأيتَ شجاعاً باسلاً شديد الجُرأة،

    وإنما يَفْصِل لك أحدَ الغَرَضين من الآخر شاهدُ الحال،

    وما يتَّصل به من الكلام من قبل وبعد.


    وإن كان فعلاً أو صفةً، كان فيهما هذا الاحتمال في

    بعض الأحوال، وذلك إذا أسندتَ الفعلَ وأجريتَ الصفة

    على اسم مُبهَم يقعُ على ما يكون أصلاً في تلك الصفة

    وذاك الفعل، وما يكون فرعاً فيهما، نحو أن تقول:

    أنار لي شيءٌ وهذا شيءٌ مُنِير، فهذا الكلام يحتمل

    أن يكون أنار ومُنِير فيه واقعَين على الحقيقة،

    بأن تعني بالشيء بعضَ الأجسام ذوات النور وأن

    يكونَا واقعَين على المجاز، بأن تريد بالشيء نوعاً

    من العلم والرأي وما أشبه ذلك من المعاني التي

    لا يَصِحُّ وجود النور فيها حقيقةً، وإنما توصف به

    على سبيل التشبيه. وفي الفعل والصفة شيء آخرُ،

    وهو أنك كأنك تدَّعي معنى اللَّفظ المستعار للمستعار له،

    فإذا قلتَ: قد أنارت حُجَّتُه، وهذه حجَّةٌ منيرة،

    فقد ادّعيتَ للحُجَّة النور، ولذلك تجيء فتُضيفه إليك،

    كما تضاف المعاني التي يُشتقّ منها الفعلُ والصفةُ

    إلى الفاعل والموصوف فتقول: نُورُ هذه الحجّة

    جَلاَ بَصَرِي، وشرح صَدْرِي، كما تقول:

    ظهر نُورُ الشمس، والمثل لا يوجب شيئاً من هذه الأحكام،

    فلا هو يقتضي تردُّدَ اللفظ بين احتمال شيئينِ

    ولا أن يُدَّعى معناه للشيء، ولكنه يدَعُ اللفظَ مستقرّاً على أصله.


    وإذ قد ثبت هذا الأصل، فاعلم أن هاهنا أصلاً آخر يُبنَى عليه،

    وهو أن الاستعارة وإن كانت تعتمد التشبيه والتمثيلَ

    وكان التشبيهُ يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به،

    وكذلك التمثيل، لأنه كما عرفت تشبيهٌ إلا أنه عقليٌّ فإن

    الاستعارة من شأنها أن تُسقِطَ ذكرَ المشبَّه من البَيْنِ وتطرحه،

    وتدَّعَي له الاسمَ الموضوعَ للمشبَّه به،

    كما مضى من قولك: رأيت أسداً،

    تريد رجلاً شجاعاً ووردتُ بحراً زاخراً،

    تريد رجلاً كثير الجُود فائضَ الكفّ وأبديتُ نوراً،


    تريد علماً وما شاكل ذلك، فاسم الَّذِي هو المشبَّه

    غير مذكورٍ بوجه من الوجوه كما ترى، وقد نقلتَ الحديثَ

    إلى اسم المشبَّه به، لقَصْدك أن تبالغ، فتضع اللَّفظ

    بحيث يُخيّل أنَّ معك نَفْس الأسد والبحر والنور،

    كي تُقوِّي أمر المشابهة وتشدّده، ويكون لها هذا الصنيع

    حيث يقع الاسم المستعار فاعلاً أو مفعولاً أو مجروراً

    بحرف الجرّ أو مضافاً إليه، فالفاعل كقولك:

    بدا لي أسدٌ وانبرى لي لَيْثٌ وبدا نُورٌ وظهرت شمسٌ

    ساطعة وفاض لي بالمواهبِ بحرٌ، كقوله:

    وَفِي الجِيرة الغَادِين من بَطن وَجْرةٍ ** غزالٌ كَحِيلُ المُقلـتَـيْن رَبِـيبُ


    والمفعولُ كما ذكرت من قولك: رأيت أسداً،

    والمجرور نحو قولك لا عَارَ إن فَرّ من أَسدٍ يَزْأَر،

    والمضاف إليه كقوله:

    يَا ابن الكواكب من أَئِمّة هاشمٍ ** والرُجَّحِ الأَحسابِ والأَحْـلامِ


    وإذا جاوزتَ هذه الأحوال، كان اسم المشبَّه

    مذكوراً وكان مبتدأ، واسمُ المشبَّه به واقعاً في

    موضع الخبر، كقولك: زيد أسد، أو على هذا الحد،

    وهل يستحقّ الاسم في هذه الحالة أن يوصف بالاستعارة أم لا?

    فيه شبهة وكلامٌ سيأتيك إن شاء اللَّه تعالى.



    وإذ قد عرفت هذه الجملةَ،

    فينبغي أن تعلم أنه ليس كل شيء يجيء مشبَّهاً به

    بكافٍ أو بإضافة مِثْلَ إليه، يجوز أن تسلّط عليه الاستعارة،

    وتُنفِذ حكمَها فيه، حتى تنقله عن صاحبه وتدّعيه للمشبَّه

    على حدّْ قولك: أبديتُ نوراً تريد علماً، وسللتُ سيفاً صارماً،

    تريد رأياً نافذاً وإنما يجوز ذلك إذا كان الشَّبه بين

    الشيئين مما يقرُب مأخذه وَيَسْهُل متناوَلُه،

    ويكونُ في الحالِ دليلٌ عليه، وفي العُرف شاهدٌ له،

    حتى يُمكن المخاطَبَ إذا أطلقت له الاسم أن يعرف

    الغَرَضَ ويعلم ما أردت، فكل شيء كان من الضَّرب الأول

    الذي ذكرتُ أنك تكتفي فيه بإطلاق الاسم داخلاً عليه

    حرف التشبيه نحو قولهم هو كالأسد، فإنك إذا أدخلت

    عليه حكم الاستعارة وجدت في دليل الحال،

    وفي العرف ما يُبيِّن غرضك، إذ يُعْلَم إذا قلت رأيت أسداً،

    وأنت تريد الممدوح، أنّك قصدت وصفَه بالشجاعة

    وإذا قلت طلعت شمسٌ، أنت تريد امرأة،

    عُلِم أنك تريد وَصْفها بالحسن، وإن أردت الممدوح

    عُلِم أنك تقصِد وصفَه بالنَّباهة والشرف.



    فأما إذا كان من الضرب الثاني الذي لا سبيل إلى

    معرفة المقصود من الشبه فيه إلا بعد ذكر الجمل

    التي يعقد بها التمثيل، فإن الاستعارة لا تدخله،

    لأن وجه الشبه إذا كان غامضاً لم يَجُز أن تقتسر

    الاسم وتَغْصِب عليه موضعه، وتنقله إلى غير ما هو

    أهله من غير أن يكون معك شاهدٌ يُنبئُ عن الشَبه.


    فلو حاولتَ في قوله: "فإنَّك كالليلِ الَّذِي هو مُدْرِكِي"

    أن تُعامل الليلَ معاملةَ الأسد في قولك: رأيت أسداً،

    أعني أن تُسقط ذكر الممدوح من البَيْن،

    لم تجد له مذهباً في الكلام، ولا صادفت طريقةً تُوَصِّلك إليه،

    لأنك لا تخلُو من أحد أمرين إمّا أن تحذفَ الصفةَ وتقتصر

    على ذكر الليل مجرّداً فتقول إن فررتُ أظلّني اللَّيل،

    وهذا محال، لأنه ليس في الليل دليل على النكتة التي

    قصدها من أنه لا يفوتُه وإن أبعد في الهرب،

    وصار إلى أقصى الأرض، لسعة مُلكه وطول يده،

    وأَنّ له في جميع الآفاق عاملاً وصاحبَ جيش

    ومُطيعاً لأوامره يردُّ الهارب عليه ويسوقه إليه وغايةُ

    ما يتأتَّى في ذلك أن يريد أنه إن هرب عنه أظلمت عليه الدنيا،

    وتحيَّر ولم يهتدِ، فصار كمن يحصُل في ظُلمة الليل،

    وهذا شيء خارج عن الغَرَض، وكلامنا على أن تستعير

    الاسم ليؤدَّى به التشبيه الذي قُصِد في البيت ولم أُرِد

    أنه لا تُمكن استعارته على معنًى ما، ولا يَصْلُح في

    غرض من الأغراض. وإن لم تحذف الصفة،

    وجدت طريق الاستعارة فيه يؤدِّي إلى تعسّف،

    إذ لو قلت إن فررتُ منك وجدتُ ليلاً يُدْركني،

    وإن ظننتُ أنّ المنتأَى واسعٌ والمهرَبَ بعيدٌ قلتَ ما

    لا تقبله الطِّباع، وسلكتَ طريقةً مجهولةً،

    لأن العُرف لم يَجْرِ بأن يُجعل الممدوحُ ليلاً هكذا،

    فأمّا قولهم إن التشبيه بالليل يتضمّن الدِّلالة على سُخطه،

    فإنه لا يُفسح في أن يجرى اسم الليل على الممدوح

    جَرْيَ الأسدِ والشمس ونحوهما، وإنما تصلُح استعارة

    الليل لمن يُقصَد وصفُه بالسَّواد والظلمة،

    كما قال ابن طباطبا: "بَعثْتَ معي قِطْعاً من الليل مُظلمَا"

    يعني زِنْجيّاً قد أنفذه المخاطَبُ معه حين انصرف عنه

    إلى منزله، هذا وربّما - بل كلما - وجدتَ ما إن رُمْتَ

    فيه طريقةَ الاستعارة، لم تجد فيه هذا القدر من التُّمحل

    والتكلُّف أيضاً،و وهو كقولِ النبيّ صلى الله عليه وسلم:

    "الناسُ كإبلٍ مئة لا تجدُ فيها راحلة"،

    قُل الآن من أيّ جهة تصِلُ إلى الاستعارة ههنا،

    وبأيّ ذريعة تَتذرَّع إليها?

    هل تقدر أن تقول: رأيت إبلاً مئة لا تجد فيها راحلة في معنى:

    رأيت ناساً أو الإبل المئة التي لا تجد فيها راحلةً،

    تريد الناس، كما قلت: رأيت أسداً على معنى رجلاً كالأسد أو الأسد،

    على معنى الذي هو كالأسدُ? وكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:

    " مَثَلُ المُؤمِن كمثل النَّخلة أو مثل الخامة"،

    لا تستطيع أن تتعاطى الاستعارة في شيء منه فتقولَ:

    رأيت نَخلة أو خامةً على معنى رأيت مؤمناً،

    إنَّ من رام مثل هذا كان كما قال صاحب الكتاب:

    مُلْغِزاً تاركاً لكلام الناس الذي يَسْبِق إلى أفئدتهم،

    وقد قدّمتُ طرفاً من هذا الفصل فيما مضى،

    ولكنني أعدته هاهنا لاتصاله بما أريد ذكره.



    فقد ظهر أنه ليس كل شيء يجيء فيه التشبيه الصريح

    بذكر الكاف ونحوها، يستقيم نَقْلُ الكلام فيه

    إلى طريقة الاستعارة، وإسقاطِ ذكر المشبَّه جملةً،

    والاقتصار على المشبَّه به، وبقي أن نتعرّف الحكمَ

    في الحالة الأخرى، وهي التي يكون كل واحدٍ من

    المشبَّه والمشبَّه به مذكوراً فيه، نحو زيدٌ أسدٌ ووجدته أسداً،

    هل تُساوِقُ صريحَ التشبيه حتى يجوز في كل شيئين

    قُصِدَ تشبيهُ أحدهما بالآخر أن تحذف الكافَ ونحوها من الثاني،

    وتجعله خبراً عن الأول أو بمنزلة الخبر?

    والقولُ في ذلك أن التشبيه إذا كان صريحاً بالكاف،

    ومثل، كان الأعرفُ الأشهر في المشبَّه به أن يكون معرفةً،

    كقولك: هو كالأسد وهو كالشمس وهو كالبحر وكليث

    العرين وكالصبح وكالنجم وما شاكل ذلك، ولا يكاد يجيء

    نكرةً مجيئاً يُرتضَى نحو هو كأسد وكبحر وكغَيْث،

    إلا أن يُخَصَّص بصفة نحو كبحرٍ زاخر، فإذا جعلت

    الاسمَ المجرور بالكاف مُعْرَباً بالإعراب الذي يستحقّه الخبر

    من الرفع أو النصب، كان كلا الأمرين - التعريف والتنكيرِ -

    فيه حسناً جميلاً،

    تقول: زيدٌ الأسد والشمس والبحرُ وزيد أسدٌ وشمس

    وبدر وبحر. وإذْ قد عرفت هذا فارجع إلى نحو

    "فإنك كالليل الذي هو مدركي"

    واعلم أنه قد يجوز فيه أن تحذف الكاف وتجعل المجرور كان به،

    خبراً، فتقول: فإنك الليل الذي هو مدركي،

    أو أنت الليل الذي هو مدركي، وتقول في

    قول النبي صلى الله عليه وسلم:

    "مَثَلُ المؤمن مَثَل الخامة من الزرع"،

    المؤمن الخامة من الزرع، وفي قوله عليه السلام:

    (الناس كإبلٍ مئة) الناس إبل مئة، ويكون تقديره

    على أنك قدّرت مضافاً محذوفاً على حدّ:

    "وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ" "يوسف: 82"، تجعل الأصل:

    فإنك مثلُ الليل ثم تحذف مِثْلاً،

    والنكتةُ في الفرق بين هذا الضرب الذي لا بُدّ للمجرور

    بالكاف ونحوِها من وَصْفه بجملة من الكلام أو نحوها،

    وبين الضرب الأول الذي هو نحو زيد كالأسد

    أنك إذا حذفتَ الكاف هناك فقلت: زيدٌ الأسد،

    فالقصد أن تبالغ في التشبيه فتجعل المذكورَ كأنه الأسد،

    وتشير إلى مثل ما يَحصُلُ لك من المعنى إذا حذفت ذكر

    المشبَّه أصلاً فقلت: رأيت أسداً أو الأسَد،

    فأمّا في نحو فإنك كالليل الذي هو مدركي،

    فلا يجوز أن تقصِد جعلَ الممدوحِ الليلَ،

    ولكنك تنوي أنك أردت أن تقول فإنك مِثل الليل،

    ثم حذفت المضاف من اللفظ، وأبْقَيت المعنى

    على حاله إذا لم تحذف، وأمَّا هناك،

    فإنه وإن كان يقال أيضاً إن الأصل زيد مثل أسد

    ثم تحذف فليس الحذفُ فيه على هذا الحدّ، بل على

    أنه جُعل كأَنْ لم يكن لقصد المبالغة، ألا تراهم يقولون:

    جعله الأسد? وبعيدٌ أن تقول جعله الليل،

    لأن القصد لم يقع إلى وصف في الليل كالظلمة ونحوها،

    وإنّما قُصد الحكمُ الذي له، من تعميمه الآفاق،

    وامتناعِ أن يصير الإنسان إلى مكان لا يُدركه الليلُ فيه.


    وإن أردت أن تزداد علماً بأن الأمر كذلك أعني أن

    هاهنا ما يصلح فيه التشبيه الظاهر ولا تصلح فيه

    المبُالغة وجَعلُ الأولِ الثاني فاعمد إلى ما تجد الاسم

    الذي افتُتح به المَثَل فيه غيرَ محتمل لضربٍ

    من التشبيه إذا أُفردِ وقُطع عن الكلام بعده،

    كقوله تعالى: "إنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ

    مِنَ السَّمَاءِ" "يونس: 34"، لو قلت إنما الحياة

    الدنيا ماءٌ أنزلناه من السماء أو الماء ينزل من السماء

    فتخضّر منه الأرض، لم يكن للكلام وجهٌ غيرُ أن

    تقدّر حذف مِثْل نحو إنما الحياة الدنيا مِثْلُ ماء

    ينزل من السماء فيكون كيت وكيت،

    إذ لا يُتصوَّر بين الحياة الدنيا والماء شَبَهٌ يصحُّ

    قصدُه وقد أُفْرِد، كما قد يُتخيَّل في البيت أنه قصد تشبيه

    الممدوح بالليل في السُّخط. وهذا موضعٌ في الجملة مُشْكِلٌ،

    ولا يمكن القطع فيه بحكم على التفصيل،

    ولكن لا سبيل إلى جَحْد أنك تجد الاسم في الكثير

    وقد وُضِع موضعاً في التشبيه بالكاف،

    لو حاولتَ أن تُخرجه في ذلك الموضع بعينه إلى

    حدّ الاستعارة والمبالغة، وجَعْلِ هذا ذاك، لم يَنْقَدْ لك،

    كالنكرة التي هي ماء في الآية وفي الآي الأُخَر

    نحو قوله تعالى: "أَو كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ

    وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" "البقرة: 19"، ولو قلت هم صيّبٌ،

    ولا تُضمر مِثلاً ألبتَّة، على حدّ هو أسد لم يجز،

    لأنه لا معنى لجعلهم صيِّباً في هذا الموضع،

    وإن كان لا يمتنعُ أن يقعَ صيِّب في موضع آخر

    ليس من هذا الغَرَض في شيء استعارةً ومبالغةً،

    كقولك: فاضَ صَيِّبٌ منه، تريد جوده، وهو صَيِّب يَفيض،

    تريد مندفق في الجود، فلسنا نقول إن هاهنا اسمَ جنسٍ

    واسماً صفةً لا يصلح للاستعارة في حال من الأحوال،

    وهذا شِعب من القولِ يحتاج إلى كلام أكثر من

    هذا ويدخل فيه مسائل، ولكن استقصاءه يقطع عن الغرض.


    فإن قلت فلا بدّ من أصلٍ يُرجع إليه في الفرق بين

    ما يحسُن أن يُصرَف وَجْهُه إلى الاستعارة والمبالغة،

    وما لا يحسن ذلك فيه، ولا يُجيبك المعنى إليه،

    بل يصدُّ بوجهه عنك متى أردته عليه .


    فالجواب إنه لا يمكن أن يقال فيه قولٌ قاطع،

    ولكن هاهنا نكتة يجب الاعتماد عليها والنظر إليها،

    وهي أن الشَّبه إذا كان وصفاً معروفاً في الشيء

    قد جرى العُرف بأن يُشبَّه من أجله به،

    وتُعُورف كونه أصلاً فيه يقاسُ عليه كالنور

    والحُسن في الشمس، أو الاشتهار والظهور،

    وأنّها لا تَخْفَى فيها أيضاً وكالطيب في المسك،

    والحلاوة في العسل، والمرارة في الصاب،

    والشجاعة في الأسد، والفيض في البحر والغيث،

    والمَضاء والقَطْع والحِدَّة في السيف، والنفاذِ في السِّنان،

    وسرعة المرور في السَّهم، وسرعة الحركةِ في

    شعلةِ النار، وما شاكل ذلك من الأوصاف التي

    لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه،

    ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على

    معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة،

    وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء

    قد تعورف كونها أصولاً فيها، وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها،

    فكل أحد يعلم أن أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ،

    فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه، لم يخفَ المرادُ،

    ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة، لم يَجُزْ أن

    تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز،

    فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة من

    الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ في شيء،

    فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح، ولسان الحال فيها أفصح،

    أعني أنك إذا قُلتَ: "يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ"

    وَ: "يا ابنَ الليوثِ الغُر" فأجريت الاسمَ على المشبَّة

    إجراءَه على أصله الذي وُضع له وادّعيتَه له،

    كان قولك: هم الكواكب و هم الليوث أو هم كواكب وليوث،

    أحْرَى أن تقوله، وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في

    وقوعِ العلم له به.

    واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا

    جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً،

    أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ إلى

    الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ عن نفسه

    الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد، ألقى صورة

    الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه،

    فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له حظّاً ظاهراً

    في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد، وإذا قال هو الأسد،

    تناهَى في الدعوى، إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل،

    وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته

    عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً،

    وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر الأسد

    في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على ذلك

    السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها من

    صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها في

    استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه به

    تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ،

    فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على

    معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه

    المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه الآخر

    توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت: زيد هو أبو عبد اللَه،

    عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه،

    من الأوصاف التي لكل وَصْف منها جنسٌ هو أصل فيه،

    ومُقدَّم في معانيه فاستعارةُ الاسم للشيء على

    معنى ذلك الشَّبه تجيء سهلةً مُنْقادة، وتقع مألوفةً معتادة،

    وذلك أنّ هذه الأوصافَ من هذه الأسماء

    قد تعورف كونها أصولاً فيها،

    وأنها أخصُّ ما توجد فيه بها، فكل أحد يعلم أن

    أخصَّ المنيرات بالنور الشمسُ،

    فإذا أُطلقَتْ ودلَّت الحال على التشبيه،

    لم يخفَ المرادُ، ولو أنك أردت من الشمس الاستدارة،

    لم يَجُزْ أن تدلّ عليه بالاستعارة، ولكن إن أردتها من الفَلَك جاز،

    فإن قصدتها من الكُرة كان أبْين، لأن الاستدارة

    من الكُرة أشهر وصفٍ فيها، ومتى صَلَحت الاستعارةُ

    في شيء، فالمبالغة فيه أصلح، وطريقها أوضح،

    ولسان الحال فيها أفصح، أعني أنك إذا قُلتَ:

    "يا ابن الكواكبِ من أئمّة هاشمِ" وَ: "يا ابنَ الليوثِ الغُر"

    فأجريت الاسمَ على المشبَّة إجراءَه على أصله الذي

    وُضع له وادّعيتَه له، كان قولك: هم الكواكب

    و هم الليوث أو هم كواكب وليوث، أحْرَى أن تقوله،

    وأَخفَّ مَؤُونةً على السامع في وقوعِ العلم له به.


    واعلم أن المعنى في المبالغة وتفسيرنا لها بقولنا

    جَعَلَ هذا ذاك، وجعله الأسد وادّعى أنه الأسد حقيقةً،

    أنّ المشبِّه الشيءَ بالشيء من شأنه أن ينظرَ

    إلى الوصف الذي به يجمع بين الشيئين، وينفيَ

    عن نفسه الفكرفيما سواه جملةً، فإذا شبَّه بالأسد،

    ألقى صورة الشجاعة بين عينيه، ألقى ما عداها فلم ينظر إليه،

    فإنْ هو قال زيد كالأسد، كان قد أثبت له

    حظّاً ظاهراً في الشجاعة، ولم يخرج عن الاقتصاد،

    وإذا قال هو الأسد، تناهَى في الدعوى،

    إمّا قريباً من المحقِّ لفرط بسالة الرجل،

    وإما متجوِّزاً في القول، فجعله بحيث لا تنقص شجاعته

    عن شجاعة الأسد ولا يَعْدَمُ منها شيئاً،

    وإذا كان بحكم التشبيه،وبأنه مقصودُه من ذكر

    الأسد في حكم مَن يعتقدُ أنّ الاسمَ لم يوضع على

    ذلك السَّبعُ إلا للشجاعة التي فيه، وأنّ ما عداها

    من صورته وسائر صفاته عِيالٌ عليها وتَبَعٌ لها

    في استحقاقه هذا الاسمَ، ثم أثبتَ لهذا الذي يشبِّهه

    به تلك الشجاعةَ بعينها حتى لا اختلافَ ولا تفاوتَ،

    فقد جعلَهُ الأسدَ لا محالة، لأن قولنا هو هو على

    معنيين أحدهما أن يكون للشيء اسمان يعرفه

    المخاطَبُ بأحدهما دون الآخر، فإذا ذُكر باسمه

    الآخر توهَّم أن معك شيئين، فإذا قلت:

    زيد هو أبو عبد اللَه، عرّفته أن هذا الذي تذكر الآن

    بزيد هو الذي عَرَفه بأبي عبد اللَّه، والثاني أن يراد

    تحققُ التشابُه بين الشيئين، وتكميلُه لهما،

    ونَفْيُ الاختلاف والتفاوت عنهما، فيقال: هو هو،

    أي لا يمكن الفرقُ بينهما، لأن الفرق يقع إذا اخْتُصَّ

    أحدهما بصفةٍ لا تكون في الآخر،

    هذا المعنى الثاني فرعٌ على الأوّل،

    وذلك أن المتشابهين التشابُهَ التامَّ،

    لمَّا كان يُحسَبُ أحدهما الآخر، ويَتوهَم الرائي لهما

    في حالين أنه رأى شيئاً واحداً، صاروا إذا حققوا

    التشابُه بين الشيئين يقولون هو هو،

    والمشبّه إذا وقف وَهْمَه كما عرَّفتُك على الشجاعة

    دون سائر الأمور، ثم لم يُثبت بين شجاعة صاحبه

    وشجاعة الأسد فرقاً، فقد صار إلى معنى قولنا:

    هو هو بلا شبهة. وإذا تقررت هذه الجملة فقوله

    "فإنك كالليل الذي هو مدركي"

    إن حاولت فيه طريقة المبالغة فقلت:

    فإنك الليل الذي هو مدركي، لزمك لا محالة

    أن تعْمِد إلى صفةٍ من أجلها تجعله الليل،

    كالشجاعة التي من أجلها جعلت الرجلَ الأسدَ،

    فإن قلت تلك الصفةُ الظُّلمةُ، وإنّه قصد شدّةَ سخطِه،

    وراعى حال المسخوط عليه، وتوهّم أن الدنيا تُظلم

    في عينيه حسَب الحال في المُسْتَوْحِش الشديد الوَحْشَة،

    كما قال "أَعيدوا صَباحِي فَهْوَ عند الكواعبِ"

    قيل لك هذا التقدير، إن استجزناه وعملنا عليه،

    فإنا نحتمله، والكلامُ على ظاهره، وحرف التشبيه

    مذكورٌ داخلٌ على الليل كما تراه في البيت،

    فأمّا وأنت تريد المبالغة، فلا يجيء لك ذلك،

    لأن الصفات المذكورة لا يُواجَه بها الممدوحون،

    ولا تُسْتعار الأسماء الدالّة عليها لهم إلا بعد أن يُتدارك

    وتُقرَن إليها أضدادها من الأوصاف المحبوبة،

    كقوله "أنت الصَّاب والعَسَلُ"

    ولا تقول وأنت مادح أنت الصابُ وتسكت،

    وحتى إن الحاذقَ لا يرضى بهذا الاحتراز وحده

    حتى يزيد ويحتال في دفع ما يَغْشَى النفسَ من

    الكراهة بإطلاق الصفة التي ليست من الصفات المحبوبة،

    فيصل بالكلام ما يخرُج به إلى نوع من المدح،

    كقول المتنبي:

    حَسَنٌ في وُجوهِ أعدائهِ أقْـ ** ـبَحُ من ضَيْفه رَأَته السَّوَامُ


    بدأ فجعله حسناً على الإطلاق،

    ثم أراد أن يجعله قبيحاً في عيون أعدائه،

    على العادة في مدح الرجل بأن عدوَّه يكرهه،

    فلم يُقنعه ما سبق من تمهيده وتقدّم من احترازه

    في تلاقي ما يجنيه إطلاق صفة القُبح، حتى وصل

    به هذه الزيادةَ من المدح، وهي كراهةُ سَوامِهِ

    لرؤية أضيافه، وحتى حصل ذكرُ القبح مغموراً بين حُسنين،

    فصار كما يقول المنجّمون: يقع النَّحس مضغوطاً بين سَعْدين،

    فيبطل فعله وينمحق أثره. وقد عرفتَ ما جَناه

    التهاوُنُ بهذا النحو من الاحتراز على أبي تمّام،

    حتى صار ما يُنعَى عليه منه أبلغ شيء في

    بسط لسان القادح فيه والمُنْكِر لفضله،

    وأحْضَر حُجّةً للمتعصّب عليه، وذلك أنه لم يُبالِ في

    كثير من مخاطبات الممدوح بتحسين ظاهر اللفظ،

    واقتصر على صميم التشبيه، وأطلق اسم الجنس

    الخسيس كإطلاق الشريف النَّبيه، كقوله:

    وإذا ما أردتُ كنتَ رِشاءً ** وإذا ما أردتُ كنتَ قَليبَا


    فصَكَّ وجهَ الممدوح كما ترى بأنه رشاءٌ وقليبٌ، ولم يحتشم أن قال:

    مازَال يهذِي بالمكارِم والعُلَى ** حتى ظَنَنّا أنَّه مَـحْـمُـومُ

    فجعله يهذي وجعل عليه الحُمَّى،

    وظنّ أنه إذاحصلَ له المبالغة في إثبات المكارم له،

    وجعلها مستبدّة بأفكاره وخواطره،

    حتى لا يصدر عنه غيرُها، فلا ضير أن يتلقَّاه

    بمثل هذا الخطاب الجافي، والمدح المتنافي.


    فكذلك أنت هذه قِصّتك، وهذه قضيّتك، في اقتراحك علينا

    أن نسلك بالليل في البيت طريق المبالغَة على تأويل السُّخط.


    فإن قلت أَفَتَرَى أن تأبَى هذا التقدير في البيت أيضاً

    حتى يُقْصَر التشبيهُ على ما تُفيده الجملة الجارية

    في صلة الذي، قلتُ إنّ ذلك الوجهُ فيما أظنُّه،

    فقد جاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم:

    لَيدخُلنَّ هذا الدينُ ما دَخَل عليه الليلُ، فكما تجرَّد

    المعنى هاهنا للحكم الذي هو لليل من الوصول إلى

    كل مكان، ولم يكن لاعتبار ما اعتبروه من شبه ظلمته وجهٌ،

    كذلك يجوز أن يتجرّد في البيت له،

    ويكون ما ادَّعوه من الإشارة بظُلْمة الليل إلى إدراكه

    له ساخطاً، ضرباً من التعمّق والتطلُّب لما لعلّ الشاعر

    لم يقصده، وأحسنُ ما يمكن أن يُنتصَر به لهذا التقدير

    أن يقال إن النهارَ بمنزلة الليل في وصوله إلى كل مكان،

    فما مِنْ موضع من الأرض إلا ويُدركه كلُّ واحد منهما،

    فكما أن الكائن في النهار لا يُمكنه أن يصير إلى مكان

    لا يكون به ليل، كذلك الكائن في الليل لا يجد موضعاً

    لا يلحقه فيه نهار، فاختصاصُه الليلَ دليلٌ على أنه

    قد روَّى في نفسه، فلما علم أن حالَة إدراكه وقد

    هربَ منه حالةُ سُخْطٍ، رأى التمثيل بالليل أولَى،

    ويُمكن أن يزاد في نصرته بقوله:

    نعمةٌ كالشَّمْس لمَّا طَلعَتْ ** بَثَّتِ الإشراقَ في كلِّ بَلَدْ

    وذاك أنه قصد هاهنا نفس ما قصده النابغة في تعميم الأقطار،

    والوصول إلى كل مكان، إلاّ أن النعمة لما كانت

    تَسُرُّ وتُؤنِس، أخذ المثلَ لها من الشمس،

    ولو أنه ضرب المثل لوصول النعمة إلى أقاصي البلاد،

    وانتشارِها في العباد، بالليل ووصوله إلى كل بَلَدٍ،

    وبُلوغه كلَّ أحد، لكان قد أخطأ خطأً فاحشاً،

    إلاّ أن هذا وإن كان يجيء مستوياً في الموازنة،

    ففرقٌ بين ما يُكرَهُ من الشَّبه وما يُحَبُّ،

    لأن الصفةَ المحبوبة إذا اتصلت بالغَرَض من التشبيه،

    نالت من العناية بها المحافظة عليها قريباً مما يناله

    الغَرَض نفسه، وأّما ما ليس بمحبوب،

    فَيَحْسُن أَن يعْرض عنها صفحاً، ويدَع الفكر فيها،

    وأما تركُه أن يمثَّل بالنهار، وإن كان بمنزلة الليل فيما أراه،

    فيمكن أن يُجاب عنه بأنّ هذا الخطابَ من النابغة

    كان بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلّمه وهو في النهار،

    بَعُدَ أن يضرب المثل بإدراك النهار له،

    وكان الظاهر أن يمثِّل بإدراك الليل الذي إقباله منتظَر،

    وطَرَيانه على النهار متوقَّع، فكأنّه قال وهو في صدر

    النهار أو آخره لو سرتُ عنك لم أجد مكاناً يقيني الطلبَ منك،

    ولكان إدراكُك لي وإن بعُدت واجباً، كإدراك هذا الليل

    المقبل في عَقب نهارِي هذا إيَّاي، ووصوله إلى أيِّ

    موضع بلغتُ من الأرض. وهاهنا شيء آخر وهو

    أنّ تشبيه النعمة في البيت بالشمس،

    وإن كان من حيثُ الغرضُ الخاصُّ، وهو الدِّلالة

    على العموم، فكان الشَّبه الآخرُ من كونها مُؤْنسةً للقلوب،

    ومُلبسةً العَالَم البهجةَ والبهاءَ كما تفعل الشمس،

    حاصلاً على سبيل العَرَض، وبضَرْبٍ من التطفُّل،

    فإنّ تجريدَ التشبيه لهذا الوجه الذي هو الآن تابعٌ،

    وجَعْلَهُ أصلاً ومقصوداً على الانفراد، مألوفٌ

    معروفٌ كقولنا نعمتك شمسٌ طالعة،

    وليس كذلك الحكم في الليل، لأن تجريدَه لوصف

    الممدوح بالسُّخْط مُسْتَكرَهٌ، حتى لو قلت أنت في حال

    السخط ليلٌ وفي الرّضى نهارٌ، فكافحتَ هكذا تجعله

    ليلاً لسخطه، لم يحسُن، وإنما الواجب أن تقول:

    النهار ليل على من تغضبُ عليه، والليل نهار على

    من ترضى عنه، وزمانُ عدوِّك ليلٌ كله، وأوقات

    وَلِيِّك نهارٌ كلها، كما قال:

    أَيَّامُنَا مَصْقولةٌ أطرافُها ** بك واللَّيالي كُلُّها أَسْحَارُ

    وقد يقول الرجل لمحبوبه أنت ليلى ونهارى،

    أي بك تُضيء لي الدنيا وتُظلم، فإذا رضيتَ فدهري نهارٌ،

    وإذا غضِبت فليلٌ كما تقول: أنت دَائي ودَوائي،

    وبُرْئٍي وسِقامي، ولا تكاد تجد أحدا يقول أنت ليل،

    على معنى أن سخطك تُظلم به الدنيا، لأن هذه العبارة بالذمِّ،

    وبالوصف بالظُلمة وسواد الجلد، وتَجهُّمِ الوجه، أخصُّ،

    وبأن يُرَاد بها أخلق، وهذا المعنى منها إلى القلب

    أسبق فاعرفه.
    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #17
      رد: أسرار البلاغة

      فصل



      اعلم أنك تجد الاسم وقد وقع من نظم الكلام المَوْقعَ

      الذي يقتضي كونَهُ مستعاراً، ثم لا يكون مستعاراً،

      وذاك لأن التشبيهَ المقصودَ مَنُوطٌ به مع غيره،

      وليس له شَبَهٌ ينفرِدُ به، على ما قدّمتُ لك من أن
      الشبه يجيء مُنْتَزَعاً من مجموع جملة من الكلام،

      فمن ذلك قول داود بن عليّ حين خطب فقال شُكراً شكراً،

      إنّا واللَّه ما خرجنا لنَحْفِر فيكم نَهَراً، ولا لنَبْنِيَ فيكم قَصْراً،

      أَظَنَّ عدوُّ اللَّه أن لن يُظفَر به، أُرخيَ له في زِمامه،

      حتى عَثَر في فضل خطَامه، فالآن عاد الأمرُ في نِصابه،

      وطلعت الشمس من مَطْلعها، والآن قد أَخذ القوسَ باريها،

      وعاد النَّبْلُ إلى النَزَعة، ورجع الأَمر إلى مستقَرِّه في

      أهلِ بيت نبيّكم، أهلِ بيت الرَّأْفَة والرَّحْمة، فقوله

      الآن أخذَ القَوْسَ بَاريها، وإن كان القوس تقع كنايةً

      عن الخلافة، والبَاري عن المستحقّ لها،

      فإنه لا يجوز أن يقال إن القوس مستعارٌ للخلافة

      على حدِّ استعارة النور والشمس،

      لأجل أنه لا يتَصَوَّر أن يَخرج للخلافة شَبَهٌ من القول

      على الانفراد، وأن يقال: هي قوس، كما يقال:

      هي نور وشمس، وإنما الشَّبَهُ مؤلَّفٌ لحال الخِلافة

      مع القائم بها، من حال القَوْس مع الذي بَرَاهَا،

      وهو أن البَارِي للقوس أعرفُ بخيرها وشرّها،

      وأهدَى إلى توتيرها وتصريفها، إذ كان العاملَ لها

      فكذلك الكائنُ على الأوصاف المعتبرَة في الإمامة

      والجامعُ لها، يكون أهدى إلى توفية الخلافة حقَّها،

      وأَعْرَفَ بما يحفظ مَصارفها عن الخَلَل،

      وأن يراعَي في سياسة الخلق بالأمر والنَّهْي التي

      هي المقصودُ منها ترتيباً ووزناً تقع به الأفعالُ مواقعَها

      من الصواب، كما أنّ العارف بالقوس يراعي في

      تسوية جوانبها، وإقامة وَتَرها، وكيفيةِ نَزْعها ووَضْعِ

      السهم الموضعَ الخاصَّ منها، ما يوجب في سهامه

      أن تصيب الأغراض، وتُقرطس في الأَهداف،

      وتقع في المَقاتل، وتُصيب شاكلة الرَّمِيّ.

      وهكذا قول القائل وقد سمع كلاماً حسنا من رجلٍ دَميم:

      عَسَلٌ طيّبٌ في ظَرْفِ سَوْءٍ، ليس عَسَلٌ هاهنا على

      حدِّه في قولك ألفاظه عسل،

      لأجل أنه لم يقصد إلى بيان حال اللَّفظ الحسن

      وتشبيهه بالعسل في هذا الكلام، وإن كَان ذلك أمراً معتاداً،

      وإنما قصد إلى بيان حال الكلام الحَسَن من المتكلم

      المَشْنُوء في منظره، وقياسِ اجتماع فَضْلِ المخبر

      مع نَقْص المنظر، بالشبه المؤلَّف من العَسَل والظَّرْف،

      ألا ترى أن الذي يقابل الرجل هو ظَرْف سَوْءٍ

      وظرفُ سَوْءٍ لا يصلح تشبيهُ الرجل به على الانفراد،

      لأن الدَّمامةَ لا تُعطيه صفة الظَّرف من حيث هي دمامةٌ،

      ما لم يتقدم شيءٌ يُشبه مَا في الظرف من الكلام الحسن

      أو الخُلقِ الجميلِ، أو سائر المعاني التي تجعَل

      الأشخاصُ أوعيةً لها.



      فمن حقك أن تحافظ على هذا الأصل،

      وهو أن الشَّبَه إذا كان موجوداً في الشيء على

      الانفراد من غير أن يكون نتيجةً بينه وبين شيء

      آخر فالاسمُ مستعارٌ لما أخذ له الشَّبه منه،

      كالنور للعلم والظلمة للجهل، والشمس للوجه الجميل،

      أو الرجل النبيه الجليل، وإذا لم تكن نسبةُ الشَّبَه

      إلى الشيء على الانفراد، وكان مركَّباً من حاله مع غيره،

      فليس الاسم بمستعار، ولكن مجموع الكلام مَثَل.

      واعلم أن هذه الأمور التي قصدتُ البحث عنها

      أمورٌ كأنّها معروفة مجهولة، وذلك أنها معروفة

      على الجملة، لا ينكر قيامَها في نفوس العارفين ذَوْقُ الكلام،

      والمتمهّرين في فصل جيده من رديئه، ومجهولةٌ من

      حيث لم يتفق فيها أوضاعٌ تجري مجرى القوانين التي

      يُرجَع إليها، فتُستخرج منها العلَل في حُسن ما استُحْسِن

      وقُبح ما استُهْجن، حتى تُعْلَم عِلْمَ اليقين غيرَ الموهوم،

      وتُضبَط ضبطَ المزْموم المَخْطومِ، ولعلَّ المَلال إن عرض لك،

      أو النشاط إن فَتَر عنك، قلتَ ما الحاجة إلى كل هذه الإطالة?

      وإنما يكفي أن يقال الاستعارة مثل كذا، فتُعَدُّ كلمات،

      وتُنْشَدُ أبيات، وهكذا يكفينا المَؤُونةَ في التشبيه

      والتمثيل يَسيرٌ من القول، فإنك تعلم أن قائلاً لو

      قال الخبر مثل قولنا زيد منطلق، ورضي به وقَنِع،

      ولم تطالبه نفسُه بأن يعرف حدّاً للخبر، إذا عرفه

      تَميَّز في نفسه من سائر الكلام، حتى يمكنهُ أن

      يعلم هاهنا كلاماً لفظُه لفظُ الخبر، وليس هو بخبرٍ،

      ولكنه دعاءٌ كقولنا: رحمةُ اللَّه عليه وغفر الله له

      ولم يجد في نفسه طلباً لأن يعرف أن الخبر هل ينقسم

      أو لا ينقسم، وأنّ أوّل أمره في القسمة أنه ينقسم إلى

      جملة من الفعل والفاعل، وجملة من مبتدأ وخبر،

      وأَنَّ ما عدا هذا من الكلام لا يأتلف، نعم ولم يُحبَّ

      أن يعلم أن هذه الجملة يدخل عليها حروفٌ بعضها يؤكّد كونها خبراً،

      وبعضها يُحدث فيها معاني تخرُج بها عن الخَبَرية

      واحتمال الصدق والكذب.


      وهكذا يقول إذا قيل له: الاسم مثل زيد وعمرو،

      اكتفيتُ ولا أحتاج إلى وصفٍ أو حدٍّ يُميّزه من

      الفعل والحرف أو حدٍّ لهما، إذا عرفتهما عرفتُ

      أن ما خالفهما هو الاسم، على طريقة الكُتّاب،

      ويقول لا أحتاج إلى أن أعرف أنَّ الاسم ينقسم

      فيكون متمكّناً أو غير متمكّن، والمتمكن يكون

      منصرفاً وغير منصرف، ولا إلى أن أعلم شرح

      غير المنصرف، الأسباب التسعة التي يقف هذا

      الحكم على اجتماع سببين منها أو تكرُّر سببٍ في الاسم

      ولا أنه ينقسم إلى المعرفة والنكرة، وأن النكرة

      ما عَمَّ شيئين فأكثر، وما أريدَ به واحدٌ من جنس لا بعينه،

      والمعرفة ما أيد به واحدُ بعينه أو جنس بعينه على

      الإطلاق ولا إلى أن أعلم شيئاً من الانقسامات التي تجيء

      في الاسم، كان قد أساء الاختيار، وأسرف في دعوى

      الاستغناء عما هو محتاج إليه إن أراد هذا النوع من

      العلم ولئن كان الذي نتكلّف شرحَه لا يزيد على مؤدَّى

      ثلاثةِ أسماء، وهي التمثيل والتشبيه والاستعارة،

      فإن ذلك يستدعي جُملاً من القول يَصْعُبُ استقصاؤها،

      وشُعَباً من الكلام لا يستبين لأول النظر أنحاؤها،

      إذ قولُنا: شيء يحتوي على ثلاثة أحرف، ولكنك

      إذا مددت يداً إلى القسْمة وأخذت في بيان ما تحويه

      هذه اللفظة، احتجت إلى أن تقرأ أوراقاً لا تُحصَى،

      وتتجشّمَ من المَشقَّة والنَظرِ والتفكير ما ليس بالقليل النزر،

      والجزء الذي لا يتجزّأ، يفوت العين، ويدقّ عن البَصَر،

      والكلام عليه يملأ أجلاداً عظيمة الحجم، فهذا مَثَلك إن

      أنكرت ما عُنيتُ به من هذا التَتبُّع، ورأيتُه من البحث،

      وآثرتُه من تجشُّم الفكرة وسَوْمها أن تدخل في جوانب

      هذه المسائل وزواياها، وتستثير كوامنَها وخفاياها،

      فإن كنتَ ممن يرضى لنفسه أن يكون هذا مَثَله،

      وهاهنا محلُّه، فعِبْ كيف شئتَ، وقل ما هَويتَ،

      وثقْ بأن الزمان عونُك على ما ابتغيت،

      وشاهدُك فيما ادّعيت، وأنك واجدٌ من يصوّب رأيك

      ويحسِّن مذهبك، ويخاصم عنك، ويُعادِي المخالف لك
      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #18
        رد: أسرار البلاغة

        فصل في الأخذ والسرقة:


        وما في ذلك من التعليل، وضروب الحقيقة والتخييل"

        القسم العقلي

        اعلم أن الُحكْم على الشاعر بأنه أخذ من غيره وسَرَق،

        واقتدى بمن تقدَّم وسبق، لا يخلو من أن يكون

        في المعنى صريحاً، أو في صيغة تتعلق بالعبارة،

        ويجب أن نتكلم أوّلاً على المعاني، وهي تنقسم أوَّلاً قسمين:

        عقليّ وتخييليّ، وكل واحدٍ منهما يتنوّع،

        فالذي هو العقلي على أنواع: أوّلها:

        عقليٌّ صحيحٌ مَجراه في الشعر والكتابة والبيانِ والخطابة،

        مَجْرَى الأدلّة التي تستنبطها العقلاء،

        والفوائد التي تُثيرها الحكماء، ولذلك تجدُ الأكثر من

        هذا الجنس مُنْتَزَعاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم

        وكلام الصحابة رضي اللَّه عنهم، ومنقولاً من آثار السلف

        الذين شأنُهم الصدق، وقصدُهم الحقُّ،

        أو ترى له أصلاً في الأمثال القديمة والحكم المأثورة

        عن القدماء، فقوله:

        وَمَا الحسَبُ المورُوثُ لا دَرَّ دَرُّه ** بمُحْتَسَبٍ إلاّ بآخَرَ مُكْـتـسَـبْ

        ونظائرُه، كقوله:

        إنّي وإن كنتُ ابنَ سَـيِّد عـامـرٍ ** وفي السِّرِّ منها والصَّريحِ المهذَّبِ

        لَمَا سوَّدتني عـامـرٌ عـن وِراثةٍ ** أَبَى اللَّه أن أسمُـو بـأُمٍّ ولا أب


        معنًى صريحٌ محضٌ يشهد له العقل بالصحة،

        ويُعطيه من نفسه أكرم النِّسبة، وتتفق العقلاء على الأخذ به،

        والحكم بموجَبه، في كل جيل وأمّة،

        ويوجد له أصل في كل لسَان ولُغة، وأعلى مَنَاسبه وأنورُها،

        وأجلُّها وأفخرها، قول اللَّه تعالى:

        "إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّه أَتْقَاكُمْ"" "الحجرات: 13"،

        وقول النبي صلى الله عليه وسلم:

        "من أَبْطأَ به علمُه لم يُسْرِع به نسبُه"،

        وقوله عليه السلام:

        "يا بني هاشم، لا تجيئني الناسُ بالأعمال وتجيئوني بالأنساب"،

        وذلك أنه لو كانت القضيّة على ظاهرٍ يَغْترُّ به الجاهل،

        ويعتمدُه المنقوصُ، لأدَّى ذلك إلى إبطال النَّسب أيضاً،

        وإحالة التكثّر به، والرجوع إلى شَرَفه، فإن الأوّل لو

        عَدِمَ الفضائلَ المكتسَبة، والمساعيَ الشريفة،

        ولم يَبِنْ من أهل زمانه بأفعالٍ تُؤْثر، ومناقب تُدَوَّن وتُسَطَّر،

        لما كان أَوَّلاً، ولكان المَعْلَم من أمره مَجْهلاً،

        ولما تُصُوّر افتخار الثاني بالانتماء إليه،

        وتعويلُه في المفاضلة عليه، ولكان لا يُتصوَّر فَرْقٌ بين أن يقول:

        هذا أبي، ومنه نسبي، وبين أن يُنسَب إلى الطين،

        الذي هو أصل الخلق أجمعين،

        ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:

        "كلُّكم لآدم، وآدمُ من التراب"،

        وقال محمد بن الربيع الْمَوْصلي:

        الناس في صورة التّشبيه أكفاءُ ** أبـوهُـمُ آدمٌ والأُمُّ حــوَّاءُ
        فإن يكن لهُم في أصلها شَرَفٌ ** يفاخرون به فالطِّين والـمـاءُ
        ما الفضل إلا لأهل العلم إنهـمُ ** على الهُدَى لمن استهدَى أَدلاّءُ
        ووَزْنُ كل امرئ ما كان يُحسنه ** والجاهلون لأهل العلم أعـداءُ


        فهذا كما ترى باب من المعاني التي تُجمَع فيها النظائر،

        وتُذكَر الأبيات الدالّة عليها، فإنها تتلاقى وتتناظر،

        وتتشابه وتتشاكل، ومكانُه من العقل ما ظَهَر لك

        واستبان ووضح واستنار، وكذلك قوله:

        وكل امرئ يُولِي الجميلَ محبَّبٌ

        صريحُ معنًى ليس للشعر في جوهره وذاته نصيب،

        وإنما له ما يُلْبَسه من اللفظ، ويكسوه من العبارة،

        وكيفيةِ التأدية من الاختصار وخلافه، والكشف أو ضدّه،

        وأصله قول النبي صلى الله عليه وسلم:

        "جُبلت القلوبُ على حُبّ من أحسن إليها"،

        بَل قول اللَّه عز وجل:

        "ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ

        عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ" "فصلت: 34"،

        وكذا قوله:

        لاَ يَسْلَم الشَّرفُ الرَّفيع من الأَذَى ** حتَّى يُراقَ على جَوانِبِـه الـدَّمُ


        معنًى معقولٌ لم يزل العُقلاءُ يَقْضون بصحّته،

        ويرى العارفون بالسياسة الأخذَ بسنَّته،

        وبه جاءت أوامِر اللَّه سبحانه، وعليه جَرَت الأحكام

        الشرعية والسّنَن النبوية، وبه استقام لأهل الدِّين دينهم،

        وانتفى عنهم أذَى مَن يَفْتِنهم ويَضيرُهم، إذ كان

        موضوع الجبلَّة على أن لا تخلو الدنيا من الطُغاة المارِدين،

        والغُواة المعاندين، الذين لا يَعُونَ الحكمة فَتَرْدَعَهم،

        ولا يَتَصوَّرون الرشدَ فيكُفَّهم النُّصْحُ ويمنعهم،

        ولا يُحسّون بنقائص الغَيّ والضلال، وما في الجَوْر

        والظلم من الضَّعة والخَبال، فيجِدوا لذلك مَسَّ أَلَمٍ

        يحبِسُهم علَى الأمر، ويقف بهم عند الزجر، بل كانوا

        كالبهائم والسِّباع، لا يوجعهم إلاّ ما يَخْرِق الأبشار

        من حَدّ الحديد، وسَطْو البأس الشديد، فلو لم تُطبَع

        لأمثالهم السيوف، ولم تُطلَق فيهم الحتوف،

        لما استقام دينٌ ولا دنيَا، ولا نال أهلُ الشرف ما نالوه

        من الرتبة العليا، فلا يطيب الشُرب من مَنْهلٍ لم تُنفَ

        عنه الأَقذاء، ولا تَقَرُّ الروح في بدنٍ لم تُدفَع عنه الأَدواء.

        وكذلك قوله:

        إذا أنت أكرمت الكـريم مَـلَـكْـتَـه ** وَإن أَنت أكرمْـت الـلَّـئيمَ تَـمَـرَّدا
        وَضْعُ النَدى في مَوْضِع السيف بالعلَـى ** مُضرٌّ كَوضْع السَّيف في مَوْضِع الندَى

        القسم التخييلي

        وأما القسم التخييلي، فهو الذي لا يمكن أن يقال إنه صِدقٌ،

        وإنَّ ما أثبتَه ثابت وما نفاه منفيّ، وهو مفتنُّ المذاهب،

        كثير المسالك، لا يكاد يُحصَر إلاّ تقريباً، ولا يُحاط به

        تقسيماً وتبويباً، ثم إنه يجيء طبقاتٍ، ويأتي على درجاتٍ،

        فمنه ما يجيء مصنوعاً قد تُلُطِّف فيه، واستعين عليه

        بالرِفق والحِذق، حتى أُعطَي شَبَهاً من الحقّ،

        وغُشِّي رَوْنَقاً من الصّدق، باحتجاج تُمُحِّل، وقياسٍ تُصُنِّع

        فيه وتُعُمِّلَ، ومثالُه قول أبي تمام:

        اتُنكري عَطَلَ الكَريم من الغِنَى ** فالسَّيلُ حَرْبٌ للمكانِ العالـى


        فهذا قد خَيَّل إلى السامع أن الكريم إذا كان موصوفاً بالعلوّ،

        والرِّفعة في قدره، وكان الغِنَى كالغَيْث في حاجة الخلق

        إليه وعِظَمِ نَفْعه، وجب بالقياس أن يزِلَّ عن الكريم،

        زَلِيلَ السَّيل عن الطَّوْد العظيم، ومعلومٌ أنه قياسُ تخييلٍ وإيهامٍ،

        لا تحصيلٍ وإحكام، فالعلّة في أن السيل لا يستقرّ على

        الأمكنة العالية، أن الماء سيَّال لا يثبت إلا إذا حصل

        في موضع له جوانبُ تَدْفعه عن الانصباب، وتمنعه عن الانسياب،

        وليس في الكريم والمال، شيء من هذه الخلال،

        وأقوى من هذا في أن يُظنَّ حقّاً وصدقاً،

        وهو على التخيّل قوله:

        الشيبُ كُرْهٌ وكُرْهٌ أن يفـارِقَـنـي ** أَعْجِبْ بشيءٍ على البَغْضَاء مَوْدودِ

        هو من حيث الظاهر صدق وحقيقة، لأن الإنسان لا يعجبه

        أن يُدركه الشيب، فإذا هو أدركه كره أن يفارقه،

        فتراه لذلك يُنكره ويتكرَّهه على إرادته أن يدومَ له،

        إلا أنك إذا رجعت إلى التحقيق، كانت الكراهةُ والبغضاء

        لاحقةُ للشيب على الحقيقة، فأما كونه مُرَاداً و مودوداً،

        فمتخيَّلٌ فيه، وليس بالحقَّ والصدق،

        بل المودود الحياة والبقاءُ، إلا أنه لما كانت العادة جاريةً

        بأنّ في زوال رؤية الإنسان للشيب، زوالَه عن الدنيا

        وخروجه منها، وكان العيش فيها محبَّباً إلى النفوس،

        صارت محبّته لما لا يَبْقَى له حتى يبقى الشيب، كأنّها محبّة للشيب.


        من ذلك صَنِيعهم إذا أرادوا تفضيلَ شيء أو َقْصَه،

        ومدحه أو ذمَّه، فتعلّقوا ببعض ما يشاركُه في

        أوصافٍ ليست هي سبب الفضيلة والنقيصة، وظواهرِ أُمورٍ

        لا تَصحّح ما قصدوه من التهجين والتزيين على الحقيقة،

        كما تراه في باب الشيب والشباب، كقول البحتري:

        بَيَاضُ البازيِّ أصدقُ حسنـا ** إنْ تأمّلتِ من سَواد الغُرابِ


        وليس إذا كان البياضُ في البازي آنَقَ في العين

        وأخلق بالحسن من السواد في الغراب،

        وجب لذلك أن لايُذَمَّ الشيبُ ولا تنفرُ منه طباع ذوي الألباب،

        لأنه ليس الذنب كلَّه لتحوُّل الصِّبْغ وتبدُّل اللون،

        ولا أتَت الغواني ما أتت من الصدّ والإعراض لمجرَّد البياض،

        فإنهن يرينه في قُباطيّ مصر فيأنسن، وفي أنوار

        الرَّوض وأوراق النرجس الغضّ فلا يعبِسْن،

        فما أنكرن ابيضاض شَعَر الفتى لنفس اللون وذاته،

        بل لذهاب بَهجاته، وإدباره في حياته،

        وإنك لترى الصُّفرة الخالصةَ في أوراق الأشجار المتناثرة

        عند الخريف وإقبال الشتاء وهبوب الشَّمال،

        فتكرهها وتنفرُ منها، وتراها بعينها في إقبال الربيع

        في الزَّهر المتفتِّق، وفيما ينْشئه ويَشِيه من الديباج المُؤْنق،

        فتجد نفسَك على خِلاف تلك القضيّة، وتمتلئ من الأريحيّة،

        ذاك لأنك رأيت اللونَ حيُ النماءُ والزيادة، والحياةُ المستفادة،

        وحيث أبشرتْ أرواح الرياحين، وبشّرت أنواع التحاسين،

        ورأيته في الوقت الآخَر حين ولَّت السعود، واقشعرَّ العُود،

        وذهبت البَشَاشة والبشْر، وجاء العُبوس والعُسْر.




        هذا ولو عدِم البازي فضيلةَ أنه جارح، وأنه من عَتيق الطير،

        لم تجد لبياضه الحسن الذي تراه، ولم يكن للمحتجِّ به

        على من يُنكر الشيب ويذمُّه ما تراه من الاستظهار،

        كما أنه لولا ما يُهدي إليك المسك من رَيَّاه التي

        تتطلع إلها الأرواح، وتَهَشُّ لها النفوس وترتاح،

        ولضَعُفَت حُجّة المتعلق به في تفضيل الشَّباب،

        وكما لم تكن العلّةُ في كراهةِ الشيب بياضُهُ،

        ولم يكن هو الذي غَضَّ عنه الأبصار، ومنحه العيبَ والإنكار،

        كذلك لم يَحْسن سواد الشَعَر في العيون لكونه سواداً فقط،

        بل لأَنك رأيتَ رَوْنق الشباب ونضارتَه،

        وبَهْجتَه وطُلاَوتَه وَرأيت بريقَه وبصيصَه يَعِدانك الإقبال،

        ويُريانك الاقتبال، ويُحْضِرانك الثقَةَ بالبقاء،

        ويُبْعِدان عنك الخوفَ من الغناء، وإنّك لترى الرَّجُل

        وقد طَعَن في السنّ وشَعَرُه لم يبيضّ، وشيبه لم ينقضّ،

        ولكنه على ذاك قد عدِم إبهاجه الذي كان،

        وعاد لا يزينُ كما زان، وظهر فيه من الكمودوالجمود،

        ما يُريكَه غيرَ محمود. وهكذا قوله:

        والصَّارمُ المَصْقُولُ أحسنُ حالةً ** يومَ الوغَى من صارمٍ لم يُصْقَل


        احتجاجٌ على فضيلة الشيب، وأنه أحسن منظراً

        من جهة التعلق باللون، وإشارةٌ إلى أن السواد كالصَدَأ

        على صفحة السيف، فكما أن السيف إذا صُقل وجُلي

        وأزيل عنه الصَّدَأ ونُقِّيَ كان أبهى وأحسن،

        وأعجبَ إلى الرائي وفي عينه أزين، كذلك يجب أن

        يكون حُكْمُ الشعَر في انجلاء صدأ السواد عنه،

        وظهور بياض الصِّقَالِ فيه، وقد ترك أن يفكّر فيما

        عدا ذلك من المعاني التي لها يُكرَه الشيب، ويُنَاط به العيب.


        وعلى هذا موضوع الشعر والخطابة،

        أن يجعلوا اجتماعَ الشيئين في وصفٍ عِلةً لحكمٍ يريدونه،

        وإن لم يكن كذلك في المعقول ومُقْتَضَيَات العقول،

        ولا يؤخذ الشاعر بأن يصحِّح كونَ ما جعله أصلاً

        وعلّة كما ادَّعاهُ فيما يُبْرِم أو يَنْقض من قضيّة،

        وأَن يأتي على ما صَيَّره قاعدةً وأساساً بيّنة عقلية،

        بل تُسلَّم مقدّمتُه التي اعتمدها بيّنةً، كتسليمنا

        أَنّ عائب الشيب لم ينكر منه إلاّ لونَه،

        وتناسِينا سائر المعاني التي لها كُره، ومن أجلها عِيب،

        وكذلك قول البحتري:

        كَلَّفْتُمُونَا حُدُودَ مَـنْـطِـقـكُـم ** في الشِّعر يَكْفِي عن صِدْقِهِ كَذِبُهْ


        أراد كلّفتمونا أن نُجري مقاييس الشعر على حدود المنطق،

        ونأخذ نفوسَنا فيه بالقول المحقَّق،

        حتى لاَ ندَّعي إلا ما يقول عليه من العقل برهان يقطع به،

        ويُلجئ إلى موجَبه، ولا شكّْ أنه إلى هذا النحو قَصَد،

        وإيّاه عَمَد، إذ يبعُد أن يريد بالكذب إعطاءَ الممدوح

        حظَّاً من الفضل والسُّؤدد ليس له، ويُبلّغه بالصفة حظّاً

        من التعظيم ليس هو أهلَه، وأن يجاوز به من الإكثار محلَّه،

        لأن هذا الكذبَ لا يُبين بالحجَج المنطقية، والقوانين العقلية،

        وإنما يكذَّب فيه القائل بالرجوع إلى حال المذكور

        واختباره فيما وُصف به، والكشف عن قدره وخسّته،

        ورفعته أو ضَعَته، ومعرفة محلّه ومرتبته.


        وكذلك قول من قال خير الشعر أكذبه، فهذا مراده،

        لأن الشعر لا يكتسب من حيث هو شعرٌ فضلاً ونقصاً،

        وانحطاطاً وارتفاعاً، بأن يَنحَل الوضيعَ صفةً من

        الرفعة هو منها عارِ، أو يصفَ الشريف بنقص وعار،

        فكم جواد بخَّله الشعر وبخيلٍ سخَّاه؛ وشُجاعٍ وسمه

        بالجُبن وجبانٍ سَاوَى به الليث؛ ودَنِيٍّ أوطأه قِيمّة العيُّوق،

        وغَبيٍّ قضى له بالفهم، وطائش ادَّعى له طبيعة الحُكْم،

        ثم لم يُعتَبر ذلك في الشعر نفسه حيث تُنتقَدُ دنانيره

        وتُنشَر ديابيجه، ويُفتَق مسكه فيضوعُ أَريجُهُ.


        وأما من قال في معارضة هذا القول:

        خير الشعر أصدقه، كما قال:

        وإنَّ أَحْسَن بيتٍ أنت قائلهُ ** بَيْتٌ يقالُ إذا أنشدتَه صَدَقَا


        فقد يجوز أن يراد به أن خير الشعر ما دلّ

        على حِكْمة يقبلها العقلُ، وأدبٍ يجب به الفضل،

        وموعظةٍ تُروِّض جماح الهوى وتبعث على التقوى،

        وتُبيّن موضع القُبح والحُسن في الأفعال،

        وتَفْصل بين المحمود والمذموم من الخصال،

        وقد يُنحَى بها نحو الصدق في مدح الرجال،

        كما قيل: كان زهير لا يمدح الرجل إلا بما فيه،

        والأول أولى، لأنهما قولان يتعارضان في اختيار نوعي الشعر.



        فمن قال خيره أصدقه كان تركُ الإغراق والمبالغة

        والتجوُّز إلى التحقيق والتصحيح، واعتمادُ ما يجرى

        من العقل على أصل صحيح، أحبَّ إليه وآثرَ عنده،

        إذ كان ثمره أحلى، وأثره أبقى، وفائدته أظهر،

        وحاصله أكثر، ومن قال أكذبُه،

        ذهب إلى أن الصنعة إنما تَمُدُّ باعها، وتنشر شُعَاعها،

        ويتّسع مَيْدانها، وتتفرّع أفنانها، حيث يعتمد الاتّساع والتخييل،

        ويُدَّعى الحقيقة فيما أصله التقريب والتخيل وحيث

        يُقصَد التلطف و التأويل ويذهب بالقول مذهب المبالغة

        والإغراق في المدح والذمّ والوصف والنعت والفخر

        والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض،

        وهناك يجد الشاعرُ سبيلاً إلى أن يُبدع ويزيد،

        ويُبدي في اختراع الصّور ويُعيد، ويصادف مضطرباً

        كيف شاء واسعاً، ومَدَداً من المعاني متتابعاً،

        ويكون كالمغترف من عِدٍّ لا ينقطع، والمُسْتَخرج

        من مَعْدِنٍ لا ينتهي. وأما القبيل الأول فهو فيه

        كالمقصور المُدانَى قَيْدُه، والذي لا تتّسع كيف شاء يَدُه وأيْدُه،

        ثم هو في الأكثر يسرد على السامعين معانىَ معروفةً

        وصوراً مشهورة، ويتصرّف في أصول هي وإن كانت شريفةً،

        فإنها كالجواهر تُحفَظ أعدادها، ولا يُرْجَى ازديادها،

        وكالأعيان الجامدة التي لا تَنْمي ولا تزيد، ولا تربح ولا تُفيد،

        وكالحسناء العقيم، والشجرة الرَّائقة لا تُمتِّع بجَنًى كريم.



        هذا ونحوه يمكن أن يُتَعلَّق به في نصرة التخييل وتفضيله،

        والعقل بعدُ على تفضيل القبيل الأول وتقديمه

        وتفخيم قدره وتعظيمه، وما كان العقلُ ناصرَهُ،

        والتحقيقُ شاهدَه، فهو العزيز جانبه، المنيع مَنَاكبُه،

        وقد قيل الباطل مخصوم وإن قُضي له،

        والحقّ مُفْلجٌ وإن قُضي عليه، هذا ومَنْ سلَّم أنّ المعاني

        المُعرِقة في الصدق، المستخرَجة من مَعْدِن الحقّ،

        في حكم الجامد الذي لا يَنْمِي، والمحصور الذي لا يزيد؛

        وإن أردت أن تعرف بُطْلان هذه الدعوى فانظر

        إلى قول أبي فراس:

        وكنَّا كالسهامِ إذَا أصابَتْ ** مَرَامِيَها فَرَامِيهَا أَصَابَا


        ألست تراه عقليّاً عريقاً في نسبه، معترَفاً بقوّة سببه،

        وهو على ذلك من فوائد أبي فراسٍ التي هي أبو عُذْرِها،

        والسابق ُإلى إثارة سِرّها، واعلم أن الاستعارة

        لا تدخل في قبيل التخييل، لأن المستعير لا يقصد

        إلى إثبات معنى اللفظةِ المستعارة، وإنما يعمد إلى

        إثبات شَبَهٍ هناك، فلا يكون مَخْبَرُهُ على خلاف خَبَره،

        وكيف يعرض الشكُّ في أَنْ لا مدخل للاستعارة في هذا الفنّ،

        وهي كثيرة في التنزيل على ما لا يخفَى،

        كقوله عز وجل: "وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً" "مريم: 4"،

        ثم لا شبهةَ في أنْ ليس المعنى على إثبات الاشتعال ظاهراً،

        وإنما المراد إثبات شَبهه،

        وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:

        المؤمن مرآة المؤمن، ليس على إثباته مِرآةً من حيث

        الجسم الصَّقيل، لكن من حيث الشَّبه المعقول،

        وهو كونها سبباً للعلم بما لولاها لم يعْلَم،

        لأن ذلك العلم طريقُه الرؤية، ولا سبيل إلى أن يرى

        الإنسان وجهَه إلا بالمرآة وما جرى مجراها

        من الأجسام الصَّقيلة، فقد جمع بين المؤمن

        والمرآة في صفة معقولة، وهي أن المؤمن

        ينصَح أخاه ويُريه الحسَن من القبيح، كما تري

        المرآةُ الناظرَ فيها ما يكون بوجهه من الحسن وخلافه،

        وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:

        "إياكم وخَضْراءَ الدِّمَن"،

        معلوم أن ليس القصدُ إثباتَ معنى ظاهر اللفظين،

        ولكن الشَّبهُ الحاصل من مجموعهما،

        وذلك ُحسن الظاهر مع خُبْثِ الأصل، وإذا كان هذا كذلك،

        بانَ منه أيضاً أنّ لك مع لُزوم الصدق، والثبوت

        على محض الحقّ، الميدانَ الفسيح والمجالَ الواسع،

        وأنْ ليس الأمر على ما ظنَّه ناصر الإغراق والتخييل

        الخارج إلى أن يكون الخَبَر على خلاف المَخْبَر،

        من أنه إنما يتّسع المقال ويَفْتَنّ، وتكثر موارد الصنعة

        ويغزُر يُنْبُوعها، وتكثر أغصانها وتتشعّب فروعها،

        إذا بُسِط من عنان الدعوى، فادُّعي ما لا يَصحّ دعواه،

        وأثبت ما ينفيه العقل ويَأباه. وجملة الحديث أن الذي

        أريده بالتخييل ها هنا، ما يُثبت فيه الشاعر أمراً هو

        غير ثابتٍ أصلاً، ويدَّعي دعوَى لا طريقَ إلى تحصيلها،

        ويقولُ قولاً يخدع فيه نفسه ويُريها ما لا ترى،

        فأمَّا الاستعارة فإن سبيلَها سبيلُ الكلام المحذوف،

        في أنك إذا رجعت إلى أصله، وجدتَ قائله وهو يُبت

        أمراً عقليّاً صحيحاً، ويدّعي دعوَى لها سِنْخٌ في العقل،

        وستمرُّ بك ضروبٌ من التخييل هي أظهرُ أمراً

        في البُعد عن الحقيقة، وأكشفُ وجهاً في أنه خداعٌ للعقل،

        وضربٌ من التزويق، فتزداد استبانة للغَرَض بهذا الفصل،

        وأَزيدُك حينئذ إن شاء اللَّه، كلاماً في الفرق بين ما يدخل

        في حيّز قولهم خير الشعر أكذبه،

        وبين ما لا يدخل فيه مما يشاركه في أنه اتِّساع وتجوّزٌ

        فاعرفه. وكيف دار الأمرُ فإنهم لم يقولوا خير الشعر أكذبه،

        وهم يريدون كلاماً غُفْلاً ساذجاً يكذب فيه صاحبُه ويُفْرِط،

        نحو أن يصف الحارسَ بأوصاف الخليفة،

        ويقول للبائس المسكين إنّك أمير العِرَاقَيْن،

        ولكن ما فيه صنعةٌ يتعمَّل لها، وتدقيقٌ في المعاني

        يحتاج معه إلى فطنة لطيفةٍ وفهمٍ ثاقبٍ وغوصٍ شديد،

        واللَّه الموافق للصواب، وأعود إلى ما كنت فيه من

        الفصل بين المعنى الحقيقي وغير الحقيقي.



        واعلم أن ما شأنه التخييل، أمْرُه في عِظَم شجرته

        إذا تُؤُمِّلَ نَسَبُه، وعُرفت شُعُوبه وشُعَبُه، على

        ما أشرت إليه قُبَيلُ، لا يكاد تجيء فيه ِقِسْمةٌ تستوعبه،

        وتفصيل يَستغرقه، وإنما الطريق فيه أن يُتَّبَعَ الشيء

        بعد الشيءِ ويُجمع ما يحصُره الاستقراء،

        فالذي بدأتُ به من دعوى أصلٍ وعلّةٍ في حُكمٍ من الأحكام،

        هما كذلك ما تُرِكَتْ المضايقة، وأُخذ بالمسامحة،

        ونُظر إلى الظاهر، ولم يُنقَّر عن السرائر،

        وهو النَمَطُ العَدْل والنُمْرُقة الوُسطَى،

        وهو شيءٌ تراه كثيراً بالآداب والحِكم البريئة من الكذب،

        ومن الأمثلة فيه قول أبي تمام:

        إنّ رَيْبَ الزمـان يُحْـسِـنُ أن يُهـ ** ـدِي الرَّزَايا إلى ذَوي الأحـسـابِ
        فَلِهذَا يَجـفُّ بَـعْـدَ اخـضـرارٍ ** قَبْلَ رَوْضِ الوِهادِ رَوْضُ الرَّوَابي


        وكذا قولُه يذكر أنّ الممدوح قد زاده،

        مَع بُعده عنه وغيبتِه، في العطايا على الحاضرين

        عنده اللاَّزمين خِدْمَته:

        لَزِمُوا مَرْكَزَ الـنَّـدَى وذَراهُ ** وعَدَتْنا عَنْ مثْل ذاك العَوَادي
        غيرَ أنَّ الرُّبَى إلى سَبَل الأنو ** اءِ أدنَى والحظُّ حَظُّ الوِهَادِ


        لم يقصِد من الربى هاهنا إلى العلوّ، ولكن إلى الدنوّ فقط،

        وكذلك لم يُردْ بذكر الوهاد الضَّعةَ والتَّسفُّل والهُبوط،

        كما أشار إليه في قوله

        "والسَّيْلُ حَربٌ للمكان العالي"

        وإنما أراد أن الوهاد ليس لها قُرْبُ الرُّبَى من فيض الأنواء،

        ثم إنها تتجاوزُ الرُّبَى التي هي دانية قريبة إليها،

        إلى الوهاد التي ليس لها ذلك القُرْب. ومن هذا النَّمط،

        في أنه تخييل شبيةٌ بالحقيقة لاعتدال أمره،

        وأنّ ما تعلَّق به من العِلَّة موجود على ظاهرِ مَا ادَّعى،

        قولُه:

        لَيْسَ الحجابُ بمُقْصِ عنك لي أمَلاً ** إنَّ السماءَ تُرَجَّى حِين تَحْتَجِـبُ


        فاستتارُ السماء بالغيم هو سبب رجاءِ الغَيْث الذي

        يُعَدُّ في مجرى العادة جُوداً منها ونعْمةً، صادرةً عنها،

        كما قال ابن المعتز:

        ما تَرَى نعْمةَ السماءِ على الأَرْ ** ضِ وشُكْرَ الرِّياضِ للأمْطارِ


        وهذا نوعٌ آخرُ، وهو دعواهم في الوصف

        هو خِلقةٌ في الشيء وطبيعةٌ، أو واجبٌ على الجملة،

        من حيث هو أنّ ذلك الوصف حصل له من الممدوح ومنه استفادَهُ،

        وأصل هذا التشبيهُ، ثم يتزايد فيبلُغ هذا الحدَّ،

        ولهم فيه عباراتٌ منها قولهم إن الشمس تستعير منه

        النور وتستفيد، أو تتعلّم منه الإشراق وتكتسب منه الإضاءة،

        وألطفُ ذلك أن قال: تسْرقُ، وأن نورها مسروق من الممدوح،

        وكذلك يقال المِسْكُ يَسْرِق منْ عَرْفِه،

        وأنّ طيبه مُسْتَرَقٌ منه ومن أخلاقه، قال ابن بابك:

        ألا يا رياضَ الحَزْن من أَبرق الحِمَى ** نَسِيمُك مسروقٌ ووَصفُك مُنْتَـحَـلْ
        حكيتِ أبا سَعْدٍ فنَـشْـرُكِ نَـشْـرُهُ ** ولكنْ له صِدْقُ الهَوَى ولكِ المَلَـلْ

        ونوع آخر، وهو أن يدَّعيَ في الصفة الثانية للشيء

        أنه إنما كان لِعلَّةٍ يضعها الشاعر ويختلقُها،

        إمّا لأمرٍ يرجع إلى تعظيم الممدوح، أو تعظيم أمرٍ من الأمور،

        فمن الغريب في ذلك معنى بيت فارسيٍّ ترجَمَتُهُ:

        لَوْ لَم تكن نِيَّةُ الجوزاءِ خِدْمتَهُ ** لَمَا رأيتَ عليها عِقْدَ مُنْتطقِ


        فهذا ليس من جنس ما مضى، أعني ما أصله التشبيه،

        ثم أريد التناهي في المبالغة والإغراق والإغراب.


        ويدخل في هذا الفن قول المتنبي:

        لم يَحْكِ نائلَكَ السَّحابُ وإَّنما ** حُمَّتْ به فصبيبُها الرُّحَضاءُ


        لأنه وإن كان أصله التشبيه، من حيث يشبّه الجَوَاد بالغَيْث،

        فإنه وَضَعَ المعنى وضعاً وصوَّره في صورةٍ خرج معها إلى

        ما لا أصل له في التشبيه، فهو كالواقع بين الضَرْبَين،

        وقريبٌ منه في أن أصله التشبيه ثم باعده بالصنعة في

        تشبيهه وخلع عنه صورته خلعاً، قولُهُ:

        ومَا رِيحُ الرِّياض لَها ولكـن ** كَسَاها دَفْنُهُمْ في التُرْبِ طيبَا

        ومن لطيف هذا النوع قولُ أبي العباس الضبّي:

        لا تركننَّ إلـى الـفـرا ** قِ وإن سَكَنْتَ إلى العِنَاقِ
        فالشمسُ عِنْدَ غروبـهـا ** تصفَرُّ من فَرَقِ الفِراقِ


        ادَّعَى لتعظيم شأن الفراق أنّ ما يُرَى من الصُفرة في

        الشمس حين يرِقُّ نورها بدنّوها من الأرض،

        إنما هو لأنها تُفارق الأُفٌق الذي كانت فيه، أو الناسَ الذين

        طلعت عليهم وأنِسَتْ بهم وأنِسوا بها وسَرَّتْهم رُؤْيتُها،

        ونوع منه قولُ الآخر:

        قضيبُ الكَرْمِ نَقْطَعه فَيَبْكِي ** ولا تَبْكي وقد قَطَع الحبيبُ


        وهو منسوب إلى إنشاد الشّبلي، ويقال أيضاً أن أبا العباس

        أخذ معناه في بيته من قول بعض الصُّوفية وقيل له:

        لِمَ تصفرُّ الشمس عند الغروب؛ فقال من حَذَر الفراق،

        ومن لطيف هذا الجنس قول الصُّولي:

        الرِّيح تَحْسُدُني عـلـيـ ** ـكِ ولم أخَلْهَا في العِدَا
        لَمَّا هَمَمْـتُ بـقُـبْـلةٍ ** رَدَت على الوَجْهِ الرِّدَا


        وذلك أن الريح إذا كان وجهها نحو الوَجْه،

        فواجب في طِباعها أن تردّ الرداء عليه، وأن تلُفّ من طرفيه،

        وقد ادّعى أن ذلك منها لحسدٍ بها وغَيْرَةٍ على المحبوبة،

        وهي من أجل ما في نفسها تَحُول بينه وبين أن ينال من وجهها.


        وفي هذه الطريقة قوله:

        وحَارَبَني فيه رَيْبُ الزَّمانِ ** كأنَّ الزَّمانَ لهُ عاشـقُ


        إلاَّ أنه لم يضع عِلّة ومعلولاً من طريق النصّ على شيء،

        بل أثبت محاربةً من الزمان في معنى الحبيب،

        ثم جعل دليلاً على عِلَّتها جوازَ أن يكون شريكاً له في عشقه،

        وإذا حقَّقْنا لم يجب لأجل أن جَعَلَ العِشقِ عِلَّة للمحاربة،

        وجَمَع بين الزمان والريح، في ادعاء العداوةِ لَهُما

        أن يتناسب البيتان من طريق الخصوص والتفصيل.


        وذاك أن الكلام في وضع الشاعر للأمر الواجب علّةً غيرَ

        معقولٍ كونُها علّةً لذلك الأمر، وكونُ العشق علّةً للمعاداة

        في المحبوب معقولٌ معروف غير بِدْعٍ ولا مُنكَر،

        فإذا بدأ فادّعى أن الزمان يعاديه ويحاربه فيه،

        فقد أعطاك أنّ ذلك لمثل هذه العلّة وليس إذا ردَّت الريح الرِّداء،

        فقد وَجب أن يكون ذلك لعلّة الحسد أو لغيرها،

        لأن ردَّ الرداء شأنُها، فاعرفه، فإن مِنْ شَأن حكم المُحصِّل

        أن لا ينظر في تلاقي المعاني وتناظُرها إلى جُمَل الأمور،

        وإلى الإطلاق والعموم، بل ينبغي أن يدقّقَ النظر في ذلك،

        ويراعَى التناسب من طريق الخصوص والتفاصيل،

        فأنت في نحو بيت ابن وُهيب تدّعى صفةً غير ثابتة،

        وهي إذا ثبتت اقتضت مثل العِلّة التي ذكرها،

        وفي نحو بيت الريح، تذكر صفةً غير ثابتة حاصلةً على الحقيقة،

        ثم تدّعي لها علة من عند نفسك وضعاً واختراعاً، فافهمه،

        وهكذا قول المتنبي:

        مَلامِي النَّوَى في ظُلْمها غايةُ الظُّلْمِ ** لعلَّ بها مِثْلَ الَّذِي بِي مِن السُّقـمِ
        فَلَوْ لم تَغَرْ لم تَزْوِ عَنِّي لِقـاءَكُـم ** ولو لم تُرِدْكُمْ لم تكنْ فِيكُمُ خَصْمِي


        الدعوى في إثبات الخصومة، وجَعْلِ النَّوى كالشيء

        الذي يعقل ويميّز ويريد ويختار، وحديثُ الغَيرةِ والمشاركةِ

        في هوى الحبيب، يثبُتُ بثبوت ذلك من غير أن يفتقر مِنك

        إلى وَضْعٍ واختراع.



        ومما يلحق بالفنّ الذي بدأتُ به قولُه:

        بِنَفسِيَ ما يشكوهُ مَن راح طَرْفُهُ ** ونَرْجِسُهُ مِمّا دَهَى حُسنَه وَردُ
        أراقَتّْ دَمِي عَمْداً مَحاسنُ وجهه ** فأضْحَى وفي عَيْنَيه آثارُه تَبْدُو


        لأنه قد أتى لحمرة العين وهي عارض يَعْرِض لها من

        حيث هي عينٌ بعلّةٍ يعلم أنها مخترعَة موضوعة،

        فليس ثمَّ إراقة دم، وأصْل هذا قول ابن المعتز:

        قَالُوا اشتكتْ عَيْنُه فقُلْتُ لَهُـم ** مِن كَثْرةِ القَتْل نَالَها الوَصَبُ
        حُمْرتُها مِن دِماءِ مَن قتلَـتْ ** والدَّمُ في النَّصْل شاهدٌ عَجَبُ


        وبين هذا الجنس وبين نحو الرّيح تحسدني، فرقٌ،

        وذلك أن لك هناك فِعلاً هو ثابت واجب في الريح،

        وهو ردُّ الرداء على الوجه، ثم أحببت أن تتطرّف،

        فادَّعيت لذلك الفعل علّةً من عند نفسك،

        وأما هاهنا فنظرتَ إلى صفةٍ موجودة، فتأوّلتَ فيها أنها

        صارت إلى العين من غيرها، وليست هي التي من شأنها

        أن تكونَ في العين، فليس معك هنا إلا معنىً واحدٌ،

        وأما هناك فمعك معنيان: أحدُهما موجودٌ معلومٌ،

        والآخرُ مُدَّعًى موهومٌ فاعرفه.



        وممّا يشبه هذا الفَنَّ الذي هو تأوُّلٌ في الصفة فقط،

        من غير أن يكون معلولٌ وعلّةٌ، ما تراه من تأوُّلهم في

        الأمراض والحمَّيَات أنها ليست بأمراض،

        ولكنها فِطَنٌ ثاقبة وأذهانٌ متوقِّدة وعَزَمات،

        كقوله:

        وحُوشِيتَ أن تَضْرَى بجسمك عِلَّةٌ ** ألاَ إنَّها تلك العُزُوم الثَّـواقـبُ

        وقال ابن بابك:

        فترتَ وما وجدتَ أبا العلاءِ ** سِوَى فَرْط التوقُّد والذَّكاءِ

        ولكشاجم، يقوله في علي بن سليمان الأخفش:

        ولقد أخطـأَ قـومٌ زعـمـوا ** أنها من فَضْل بَرْدٍ في العَصَبْ
        هُو ذَاكَ الذِّهـن أذكـى نَـارَه ** وَالمِزَاجُ المُفْرِطُ الحَرِّ التهبْ

        ولا يكون قول المتنبي:

        وَمَنازلُ الحُمَّى الجُسومُ فقلْ لنا ** مَا عُذْرُها في تَرْكها خَيراتِها
        أعجبتَها شَرَفاً فَطَال وُقُوفُهـا ** الأعضاءِ لاَ لأَذَاتِـهـا


        من هذا في شيء، بأكثر من أن كلا القولين في ذكر الحُمَّى،

        وفي تطييب النفس عنها، فهو اشتراك في الغَرض والجنس،

        فأما في عمود المعنى وصورته الخاصة فلاَ،

        لأن المتنبي لم ينكر أنه ما يجده الممدوح حُمَّى كما أنكره الآخر،

        ولكنّه كأنه سأل نفسه كيف اجترأت الحمَّى على الممدوح،

        مع جلالته وهيبته، أم كيف جَاز أن يقصد شيءٌ إلى

        أذاه مع كَرَمه ونُبله، وأن المحبّة من النفوس مقصورة عليه?

        فتحمَّلَ لذلك جواباً، ووضع للحُمَّى فيما فعلته من الأذى عُذْراً،

        وهو تصريحُ ما اقتصر فيه على التعجُّب في قوله:

        أيَدْري مَـا أَرابَـك مَـن يُريبُ ** وَهلْ تَرْقَى إلى الفَلك الخطوبُ
        وجسمُك فَوْق هِـمَّةِ كُـلِّ داءٍ ** فقُرْبُ أقلِّها مـنـه عـجـيبُ


        إلا أن ذلك الإيهام أحسن من هذا البيان،

        وذلك التعجُّبُ موقوفاً غيرَ مجاب، أولَى بالإعجاب،

        وليس كل زيادة تُفلح، وكل استقصاء يَمْلُح.


        ومن واضح هذا النوع وجيّده قولُ ابن المعتزّ:

        صدَّت شُرَيْرُ وأزمعت هَجْرِي ** وَصَغَت ضَمائرُها إلى الغَدْرِ
        قالت كَبِرتَ وشِبتَ قلتُ لهـا ** هذا غُبارُ وَقَـائعِ الـدَّهْـرِ


        ألا تراه أنكر أن يكون الذي بدا به شيباً،

        ورأى الاعتصام بالجَحْد أخصَر طريقاً إلى نَفْي العيب

        وقطع الخصومة، ولم يسلك الطريقة العامّية فيُثبِتَ المشيب،

        ثم يمنَع العائب أن يعيب، ويُريَه الخطأ في عَيْبه به،

        ويُلزِمَه المناقضةَ في مذهبه، كنحو ما مضى،

        أعني كقول البحتري: وبياضُ البازيّ.



        وهكذا إذا تأوَّلوا في الشيب أنه ليس بابيضاض

        الشعر الكائن في مجرى العادة وموضوع الخلْقة،

        ولكنه نُور العقل والأدبِ قد انتشر، وبان وَجْهه وظهر،

        كقول الطائي الكبير:

        ولا يُرَوِّعْك إيماضُ القَتِير به ** فَإنَّ ذاك ابتسامُ الرَّأْي والأدبِ



        وينبغي أن تعلمَ أنّ باب التشبيهات قد حظِي من

        هذه الطريقة بضرب من السِّحْر، لا تأتي الصفة على غَرابته،

        ولا يبلُغ البيان كُنَه ما ناله من اللُّطف والظَّرف،

        فإنه قد بلغ حدّاً يرُدُ لمعروفَ في طِباع الغَزِل،

        ويُلْهى الثَّكْلان من الثُّكْل، ويَنْفُث في عُقَد الوَحشة،

        وينشُد ما ضلّ عنك من المسَرَّةِ، ويشهد لِلشِّعر بما يُطيل

        لِسَانه في الفخر، ويُبين جُمْلة ما للبيان من القُدرة والقَدْر،

        فمن ذلك قول ابن الرومي:

        خجِلتْ خدودُ الورد من تفضيله ** خَجَلاً تورُّدُها علـيه شـاهـدُ
        لم يَخْجَلِ الوردُ المورَّدُ لـونُـه ** إلاَّ وناحِلهُ الفضـيلةَ عـانـدُ
        للنرجس الفضلُ المُبينُ وإن أبَى ** آبٍ وحادَ عن الطـريقة حـائدُ
        فصْلُ القضـية أنّ هـذا قـائدٌ ** زَهَرَ الرياضِ وأَنّ هذا طاردُ
        شتَّانَ بين اثنين هـذا مُـوعِـدُ ** بتَسلُّبِ الـدُّنـيا وهَـذَا واعـدُ
        يَنْهَى النديمَ عن القبيح بلحظِـه ** وَعَلَى المُدامةِ والسماعِ مُساعدُ
        اطلبْ بِعَفْوك في الملاح سَمِيَّه ** أبداً فإنك لا مَـحَـالة واجـدُ
        والوَرْدُ إن فكّرتَ فردٌ في اسمه ** ما في الملاح له سمِيُّ واحـدُ
        هذي النجومُ هي التي رَبَّتْهُمـا ** بِحَيا السحابِ كما يُربِّي الوالـدُ
        فانظر إلى الأخَوَين مَن أدناهما ** شَبَهاً بوالده فذاك الـمـاجـدُ
        أين الخدودُ من العيون نَـفَـاسةً ** ورِئاسةً لولا القياسُ الفـاسـدُ


        وترتيب الصنعة في هذه القطعة، أنه عمل أوَّلاً على

        قلب طرفَي التشبيه، كما مضى في فصل التشبيهات،

        فشبّه حُمرةَ الورد بحمرة الخجل، ثم تناسَى ذلك وخَدعَ عنه نفسه،

        وحملها على أن تعتقد أنه خَجَلٌ على الحقيقة،

        ثم لما اطمأنَّ ذلك في قلبه واستحكمت صورته،

        طَلَبَ لذلك الخجل عِلّةً، فجعل عِلَّته أنْ فُضِّل على النرجس،

        ووُضِع في منزلةٍ ليس يرى نفسَهُ أهْلاً لها،

        فصار يتَشوَّر من ذلك، ويتخوّف عيبَ العائب،

        وغميزةَ المستهزئ، ويجدُ ما يجد مَنْ مُدِح مِدْحةً يَظْهر

        الكذب فيها ويُفْرِط، حتى تصير كالهُزء بمن قُصِد بها،

        ثم زادته الفِطْنة الثاقبةُ والطبع المُثْمر في سحر البيان،

        ما رأيت من وضع حِجاج في شأن النرجس،

        وجهةِ استحقاقه الفضلَ على الورد، فجاء بحُسنٍ وإحسانٍ

        لا تكاد تجد مثله إلاّ له. ومما هو خليقٌ أن يوضع في منزلة

        هذه القطع، ويلحق بها في لطف الصنعة،

        قول أبي هِلالٍ العسكري:

        زَعَم البَنَفْسَجُ أنَّـه كـعِـذَارهِ ** حُسْناً فسَلُّوا مِن قَفَاه لسـانَـهُ
        لَم يَظْلِمُوا في الحكم إذْ مَثَلوا** به فلشَدَّمَا رفع البَنَفْسَجُ شَـانَـهُ



        وقد اتفق للمتأخرين من المحْدَثين في هذا الفن نُكَتٌ ولطائف،

        وبِدَعٌ وظرائف، لا يُستكثر لها الكثير من الثّناء،

        ولا يضيق مكانُها من الفَضْل عن سَعَة الإطراء،

        فمن ذلك قول ابن نباتة في صفة الفرس:

        وأدهمُ يستمدُّ الـلـيلُ مـنـه ** وتَطلُع بين عَينَـيه الـثُّـريَّا
        سَرَى خَلْفَ الصَّباحِ يطير مَشْياً ** ويَطْوِي خَلْفَه الأفـلاكَ طَـيّاً
        فلَمّا خاف وَشْكَ الفَوْتِ مـنـه ** تَشَبَّثَ بالقـوائم والـمُـحَـيَّا

        وأحسن من هذا وأحكم صنعةً قولُه في قطعة أخرى:

        فكأنما لَطَمَ الصباحُ جـبـينَـهُ ** فاقتصَّ منه وخَاضَ في أَحشائهِ

        وأول القطعة:

        د جَاءَنا الطِّرْفُ الذي أهْـدَيْتَـهُ ** هَادِيه يَعْقِد أرضَه بـسـمـائهِ
        وِلايةً وَلَّيتَـنـا فـبَـعَـثْـتَـهُ ** رُمحاً سَبيبُ العُرفِ عَقْدُ لِوائِه
        ختال منه على أَغَرَّ محـجَّـلٍ ** ماءُ الدَّياجي قطرةٌ مـن مـائهِ
        كأنما لَطَمَ الصَّبـاحُ جـبـينَـهُ ** فاقتصَّ منه وخَاضَ في أحشائِه
        تمهِّلاً والبرقُ مـن أسـمـائه ** مُتبرقعاً والحُسْنُ من أكـفـائِه
        مَا كانت النِّيران يَكْمُنُ حَـرُّهـا ** لَوْ كان للنِّيران بعـضُ ذَكـائِه
        لا تَعْلَقُ الألحاظُ في أَعطـافِـه ** إلاَّ إذا كفكفتَ مـن غُـلَـوائهِ
        لاَ يُكمِلُ الطرْفُ المحاسنَ كُلَّها ** حَتَّى يكونَ الطَّرْفُ من أُسَرائِه



        ومما له في التفضيلِ الفَضْلُ الظاهرُ لحسن الإبداع،

        مع السلامة من التكلُّف، قوله:

        وماءٍ عَلى الرَّضْرَاض يَجْري كأنَّهُ ** صحائفُ تِبْرٍ قد سُبِكْـنَ جـداولاَ
        كأنّ بها من شدة الـجَـرْيِ جِـنَّةً ** وقَدْ ألبستهُنَّ الـرِّياحُ سَـلاَسـلاَ


        وإنما ساعده التوفيقُ، من حيث وُطّئ له من قبلُ الطريقُ،

        فسبق العُرْفُ بتشبيه الحُبُك على صفحات الغُدْران بحلَق الدروع،

        فتدرَّج من ذلك إلى أن جعلها سلاسل،

        كما فعل ابن المعتزّ في قوله:

        وأنهارِ ماءٍ كالسلاسل فُجـرّت ** لتُرضِع أولادَ الرياحين والزَهْرِ


        ثم أتمّ الحِذْق بأن جعل للماء صفة تَقْتَضي أن يُسَلْسَل،

        وقَرُبَ مأخذُ ما حاول عليه، فإن شدة الحركة وفرط

        سرعتها من صفات الجنون، كما أن التمهُّل فيها والتأنّي

        من أوصاف العقل، ومن هذا الجنس قولُ ابن المعتزّ في السيف،

        في أبيات قالها في الموفَّق، وهي:

        وفَارسٍ أَغْمَدَ فـي جُـنّةٍ ** تُقطّع السيفَ إذا ما وَرَدْ
        كأنها ماءٌ علـيه جَـرَى ** حتى إذا ما غاب فِيهِ جَمَدْ
        في كفّهِ عَضْبٌ إذا هـزَّهُ ** حسِبتَهُ من خَوْفِه يَرْتَعِـد


        فقد أراد أن يخترع لهزّةِ السيف عِلّةً،

        فجعلها رِعْدَة تناله من خوف الممدوح وهَيْبَته،

        ويُشبه أن يكون ابن بابك نظر إلى هذا البيت

        وعلَّق منه الرعدة في قوله:

        فإن عَجَمَتْني نيُوبُ الخطـوبِ ** وأَوْهَى الزمانُ قُوَى مُنَّتِـي
        فَمَا اضطرب السيفُ من خِيفةٍ ** ولا أُرعِدَ الرمحُ مـن قِـرَّةِ


        إلا أنه ذهب بها في أسلوب آخر، وقصد إلى أن يقول

        إنّ كون حركات الرمح في ظاهر حركة المرتعد،

        لا يوجبُ أن يكون ذلك من آفة وعارض،

        وكأنه عكس القضيّة فأبَى أن تكون صفة المرتعد في

        الرمح للعلل التي لمثلها تكون في الحيوان.




        وأمَّا ابن المعتزّ فحقّق كونها في السيف على حقيقة

        العلّةِ التي لها تكون في الحيوان فاعرفه.



        وقد أعاد هذا الارتعادَ على الجملة التي وصفتُ لك،

        فقال:

        قالُوا طواهُ حُزنُهُ فـانـحـنَـى ** فقلتُ والشـكُّ عـدُوُّ الـيقـين
        ما هَيَفُ النَّرجِس مـن صَـبْـوَةٍ ** ولا الضَنَى في صُفرة الياسمينْ
        ولا ارتعادُ السَّـيفِ مـن قِـرَّةٍ ** ولا انعطافُ الرمح من فَرْطِ لينْ


        ومما حقُّه أن يكون طرازاً في هذا النوع قولُ البحتري:

        يَتَعثَّرْنَ في النُّحور وفي الأَوْ ** جُهِ سُكْراً لمَّا شَربْنَ الدمَّاءَ



        جعل فِعلَ الطاعنِ بالرماح تعثُّراً منها، كما جعل

        ابن المعتزّ تحريكه للسيف وهزَّه له ارتعاداً،

        ثم طلب للتعثُّر عِلَّة، كما طلب هو للارتعاد فاعرفه.

        ومن هذا الباب قول عُلبة:

        وكأن السَّماءَ صَاهَرَت الأَرْ ** ضَ فصَار النِّثارُ من كافورِ

        وقول أبي تمام:

        كأنّ السحاب الغُرّ غَيَّبن تَحْتَها ** حَبِيباً فما تَرْقَا لهنّ مَدَامِـعُ

        وقول السريّ يصف الهلال:

        جاءَك شَهْرُ السُّرُورِ شوّالُ ** وغال شَهْر الصِّيامِ مغتالُ

        ثم قال:

        كأنـه قَـيْدُ فِـضّةٍ حَـرِجٌ ** فُضَّ عن الصائمين فاخْتالوا


        كل واحد من هؤلاء قد خدع نفسه عن التشبيه وغالطها،

        وأَوْهَمَ أن الذي جرى العُرْف بأن يؤخذ منه الشَّبه قد حضر

        وحصل بحضرتهم على الحقيقة، ولم يقتصر على دعوى

        حُصوله حتى نصب له عِلَّة، وأقام عليه شاهداً،

        فأثبت عُلبة زفافاً بين السماء والأرض،

        وجعل أبو تمام للسحاب حبيباً قد غُيّب في التراب،

        وادَّعى السريُّ أن الصائمين كانوا في قَيْدٍ، وأنه كان حَرِجاً،

        فلما فَضَّ عنهم انكسر بنصفين،

        أو اتسع فصار على شكل الهلال، والفرق بين بيت السريّ

        وبيتي الطائييَّن، أن تشبيه الثلج بالكافور معتاد عامّيٌّ

        جارٍ على الألْسُن، وجعلُ القَطْرِ الذي ينزل من السحاب دموعاً،

        ووَصْفُ السحابِ والسماءِ بأنها تبكي، كذلك،

        فأمّا تشبيه الهلال بالقَيْدِ فغير معتاد نفسه إلاّ أنَّ نظيرَه معتاد،

        ومعناه من حيث الصورة موجود،

        وأعني بالنظير ما مضى من تشبيه الهلال بالسِّوار المنفصم،

        كما قال:

        حاكياً نِصفَ سِوارٍ ** مِنْ نُضارٍ يتوقَّـدْ

        وكما قال السري نفسه:

        ولاح لنا الهلال كشطر طَوْقٍ ** على لَبَّاتِ زَرقاءِ اللـبـاسِ

        إلا أنه سَاذَجٌ لا تعليل فيه يجب من أجله أن يَكُون سِوَاراً أو طَوْقاً،

        فاعرفه، ورَأيت بعضهم ذكر بَيْت السريّ الذي هو:

        "كَأنَّه قَيْد فِضَّة حَرَجٌ"

        مع أبيات شعر جمعه إليها،

        أنشدَ قطعةَ ابن الحجاج:

        يا صَاحِبَ البَيْتِ الَّـذِي ** قد مَاتَ ضَيْفاه جمِيعَا
        مَالِي أَرى فَلَكَ الرَّغيـ ** ـفِ لدَيك مُشْتَرِفاً رَفِيعَا
        كالبدرِ لا نرجـو إلـى ** وَقْت المَسَاءِ له طُلوعَا


        ثم قال إنّه شبَّه الرغيف بالبدر، لعِلَّتين إحداهما الاستدارة،

        والثانيةُ طلوعه مَساءً، قال وخيرُ التشبيه ما جمع مَعْنيين،

        كقول ابن الرمي:

        يا شبيه البدْر في الحُسـ ** ـنِ وفي بُعد المَـنَـالِ
        جُدْ فقد تنفجِرُ الـصَّـ ** ـخرةُ بالمـاءِ الـزُّلالِ

        وأنشد أيضاً لإبراهيم بن المهدي:

        ورحمتَ أطفالاً كأفْراخ القَطَا ** وحنينَ وَالِهةٍ كقَوْسِ النَّـازِعِ


        ثم قال ومثله قولُ السَّري: "كأنه قَيْدُ فِضَّةٍ حَرَجٌ"

        وهو لا يشبه ما ذكره، إلا أنْ يَذهبَ إلى حديثِ أنه أفاد

        شكلَ الهلال بالقيد المفضوض، ولونَه بالفضة،

        فأمَّا إن قصد النكتة التي هي موضع الإغراب،

        فلا يستقيم الجمع بينه وبين ما أنشد، لأن شيئاً من تلك الأبيات

        لا يتضمَّنُ تعليلاً، وليس فيها أكثر من ضمّ شَبَهٍ إلى شبه،

        كالحنين والانحناء من القوس، والاستدارة والطلوع مساءً من البَدْر،

        وليس أحد المعنيين بِعِلّة للآخر، كيف? ولا حاجة بواحد

        من الشبهين المذكورين إلى تصحيحِ غيره له.


        ومما هو نظيرٌ لبيت السريّ وعلى طريقة قول ابن المعتزّ:

        سَقَاني وقد سُلَّ سَيفُ الصبـا ** حِ والليلُ من خَوْفه قَدْ هَرَبْ


        لم يقنع هاهنا بالتشبيه الظَّاهر والقولِ المرسَل، كما اقتصر في قوله:

        حتى بدا الصباحُ من نقابِ ** كما بدا المُنْصلُ من قِرابِ

        وقوله:

        أمّا الظلامُ فحِينَ رَقَّ قَـمِـيصُـهُ ** وأَتى بياضُ الصُّبْح كالسَّيف الصَّدي


        ولكنه أحبّ أن يحقّق دعواه أنّ هناك سيفاً مسلولاً،

        ويجعل نفسه كأنها لا تعلم أن هاهنا تشبيهاً،

        وأنّ القصد إلى لونِ البياضِ في الشكل المستطيل، فتوصَّلَ إلى ذلك

        بأَن جعل الظَّلام كالعدوّ المنهزم الذي سُلّ السَّيف في قَفَاه،

        فهو يهرب مخافَة أن يُضْرب به، ومثل هذا في أن جعل

        الليلَ يخافُ الصبحَ، لا في الصنعة التي أنا في سياقها،

        قولُه:

        سَبقنا إليهَا الصُّبْحَ وهو مُقـنَّـعٌ ** كَمِينٌ وقلبُ اللَّيلِ منه على حَذَرْ

        وقد أخذ الخالديُّ بيته الأوّل أخْذاً، فقال:

        والصُّبحُ قد جُرِّدت صَوارِمُه ** والليلُ قد همَّ منه بالهَـربِ

        وهذه قطعة لابن المعتزّ، بيتٌ منها هو المقصود:

        وانظُر إلى دُنْيَا ربِيعٍ أقـبـلـتْ ** مِثْلَ البَغيِّ تبـرَّجـتْ لـزُنـاةِ
        جاءَتـك زائرةٌ كـعـــامٍ أوّلٍ ** وتَلبَّستْ وتعطَّـرَتْ بـنـبـاتِ
        وَإذا تَعرَّى الصُبحُ من كـافـورِهِ ** نَطَقتْ صُنوفُ طُيورِها بِلُغـاتِ
        والوَرْدُ يضحكُ من نَواظر نَرْجسٍ ** قَذِيَت وآذنَ حَيُّهـا بـمَـمَـاتِ


        هذا البيت الأخير هو المراد، وذلك أن الضَحِك في

        الوَرْد وكلِّ ريحان ونُوْرٍ يَتَفَتَّح، مشهور معروف،

        وقد علَّله في هذا البيت، وجعل الوَرْد كأنه يعقل ويميّز،

        فهو يَشْمَت بالنرجس لانقضاء مُدّته وإدبار دَوْلته،

        وبُدُوِّ أمارات الفناء فيه، وأعاد هذا الضحك من الورد فقال:

        ضَحِكَ الوَرْدُ في قَفَا المَنْثُورِ ** واسْتَرحْنَا من رِعْدَةِ المَقرُورِ

        أراد إقبال الصيف وحَرّ الهواء، ألا تراه قال بعده:


        وَاستَطَبْنا المَقِيلَ في بَرْد ظِلّ ** وَشَمِمْنَا الرَّيحانَ بالكـافـورِ
        فالرحيلَ الرحيلَ يا عَسْكرَ اللـ ** ذّاتِ عن كُلِّ رَوْضةٍ وغَدِيرِ

        فهذا من شأنِ الورد الذي عابَه به ابن الرومي في قوله:

        فَصْل القضية أن هـذا قـائد ** زَهَرَ الرياضِ وأن هذا طاردُ

        وقد جعله ابن المعتز لهذا الطَّرْدِ ضاحكاً ضحكَ مَن استولى

        وظفر وابتَزَّ غيرَه على وِلاية الزَّمان واستبدَّ بها،

        ومما يشوب الضحِكَ فيه شيءٌ من التَّعليل قوله أيضاً:

        مَات الهَوى مِنّي وضاع شَبَابـي ** وقَضَيْتُ من لَـذَّاتـه آرَابـي
        وإذا أردتُ تَصَابياً في مجلـسٍ ** فالشَّيْبُ يضحَك بِي مَع الأَحبابِ


        لا شكّ أن لهذا الضحك زيادةَ معنًى ليست للضحك في

        نحو قول دعبل: "ضَحِكَ المَشِيبُ بِرَأْسِه فبَكَى"

        وما تلك الزيادة إلا أنه جعل المشيبَ يضحك ضَحِكَ المتعجِّبِ

        من تعاطي الرجل ما لا يليق به، وتكلُّفه الشيءَ ليس هو من أهله،

        وفي ذلك ما ذكرتُ من إخفاءِ صُورة التشبيه،

        وأَخْذِ النفس بتناسيه، وهكذا قوله:

        لَمَّا رأونا في خَمِـيسٍ يلـتـهـبْ ** في شَارِقٍ يَضْحَك مِنْ غَيرِ عجبْ
        كَأنَّهُ صَبَّ علـى الأرض ذَهـبْ ** وقد بَدَت أسيافُنا مـن الـقُـرُبْ
        حَتىَّ تكونَ لِمـنـاياهُـمْ سَـبَـبْ ** نرفُلُ في الحَدِيد والأرضُ تجِـبْ
        وحَنَّ شَريانٌ ونَبْعٌ فاصطَخبْ ** تَتَرَّسُوا مِنَ القتالِ بالهَـرَبْ


        المقصودُ قولُه يضحك من غير عَجَبْ، وذاك أنّ نفيه العلّة

        إشارةٌ إلى أنه من جنس ما يُعلَّل، وأنّه ضَحِكٌ قَطْعاً وحقيقةً،

        ألا ترى أنّك لو رحبتَ إلى صريح التشبيه فقلت هيئتُه

        في تلألؤه كهيئة الضاحك، ثم قلت من غير عجب،

        قلت قولاً غير مَقْبُولٍ، واعلم أنك إن عددتَ قولَ بعض العرب:

        ونَثْرَةٍ تهزأُ بالنِّصـالِ ** كأنّها من خِلَع الهلالِ



        الهِلال الحيّة هاهنا، واللام للجنس في هذا القبيل، لم يكن لك ذلك.
        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #19
          رد: أسرار البلاغة

          وهذا نوع آخر في التعليل

          وهو أن يكون للمعنى من المعاني والفعلِ

          من الأفعال علّةٌ مشهورة من طريق العادات والطباع،

          ثم يجيءُ الشاعر فيمنع أن تكون لتلك المعروفة،

          ويضع له عِلَّةً أخرى، مثاله قول المتنبي:

          مَا بِه قتلُ أعـاديه ولـكـن ** يتّقي إخلافَ ما تَرْجُو الذئابُ


          الذي يتعارفه الناس أن الرجل إذا قتل أعاديه فلإرادته هلاكَهم،

          وأن يدفع مضارَّهم عن نفسه،

          وليسلَم مُلكه ويصفُوَ من منازَعاتهم،

          وقد ادَّعى المتنبي كما ترى أن العِلةَ في قتل هذا الممدوح لأعدائه غير ذلك.




          واعلم أن هذا لا يكون حتى يكون في استئناف

          هذه العِلّة المدَّعاةِ فائدة شريفة فيما يتصل بالممدوح،

          أو يكون لها تأثير في الذمّ، كقصد المتنبي هاهنا في

          أن يبالغ في وصفه بالسَّخاء والجود، وأَنّ طبيعةَ الكرمِ

          قد غلبت عليه، ومحبَّته أن يُصدِّق رجاء الراجين،

          وأن يجنِّبهم الخيبة في آمالهم، قد بلغت به هذا الحدَّ،

          فلما علم أنه إذا غدا للحرب غَدَت الذئاب تتوقّع أن يتسع عليها الرزق،

          ويُخْصِب لها الوقت من قَتْلَى عداه، كَرِهَ أن يُخْلِفها،

          وأن يخيِّبَ رجاءهَا ولا يُسعِفُها، وفيه نوع آخر من المدح،

          وهو أنه يهزم العِدَى ويكسِرهم كسراً لا يطمَعون بعده في المعاوَدة،

          فيستغني بذلك عن قَتْلَهم وإراقة دمائهم،

          وأنه ليس ممن يُسْرف في القتل طاعةً للغَيْظ والحَنَق،

          ولا يعفو إذا قَدَر، وما يُشبه هذه الأوصاف الحَميدة فاعرفه.



          ومن الغريب في هذا الجنس على تَعَمُّقٍ فيه،

          قول أبي طالب المأموني في قصيدة يمدح بها

          بعض الوزراء بِبُخارى:

          مُغرَمٌ بالثناءِ صَبٌّ بكسـب الـ ** ـمَجْدِ يهتزُّ للسَّماح ارتـياحَـا

          لا يَذُوق الإغفـاءَ إلاّ رجـاءً ** أن يَرَى طيفَ مسْتَمِيحٍ رَوَاحَا



          وكأنه شَرَطَ الرّواح على معنى أن العُفاة والرَّاجين

          إنّما يَحْضُرونه في صَدْر النهار على عادة السلاطين،

          فإذا كان الرواح ونحوه من الأوقات التي ليست من

          أوقاتِ الإذن قَلُّوا، فهو يشتاق إليهم فينام ليأنس برُؤية طيفهم،

          والإفراط في التعمّق ربما أخلَّ بالمعنى من حيث يُرَاد تأكيدُه به،

          ألا تَرى أن هذا الكلام قد يُوهم أنه يحتجّ له أنه ممن

          لا يرغب كل واحد في أخْذِ عطائه،

          وأنه ليس في طبقة من قيل فيه:

          عَطاؤُك زَينٌ لامرئٍ إن أَصبتَه ** بخير وما كُلّ العَطـاءِ يَزِينُ



          وممّا يدفع عنه الاعتراض ويُوجب قلّةَ الاحتفال به،

          أن الشاعر يُهِمُّه أبداً إثبات ممدوحه جواداً أو توّاقاً

          إلى السُّؤَّال فرِحاً بهم، وأن يُبَرِّئه من عبوس البخيل

          وقطوب المتكلِّف في البذل، الذي يقاتل نفسه

          عن مالِه حتى يُقال جوادٌ، ومَنْ يهوى الثَّناء والثّراء معاً،

          ولا يتمكَّن في نفسه معنى قولِ أبي تمام:

          وَلَمْ يجتمع شَرقٌ وغربٌ لقـاصـدٍ ** ولا المجدُ في كفِّ امرئٍ والدراهمُ



          فهو يُسرع إلى استماع المدائح، ويُبطئ عن صِلة المادح،

          نعم، فإذا سُلِّم للشاعر هذا الغرض، لم يفكر في خَطَرات الظنون.


          وقد يجوز شيءٌ من الوَهْم الذي ذكرتُه على قولِ المتنبي:

          يُعطي المُبشِّرَ بالقُصَّاد قَبْلَهُم ** كمن يُبشِّره بالماء عطشانَا



          وهذا شيءٌ عَرَضِ، ولاستقصائه موضعٌ آخرُ،

          إن وفَّق اللّه. وأصل بيت الطيف المستميح،

          من نحو قوله:

          وَإنّي لأسْتَغْشِي وما بِيَ نَعْسةٌ ** لعلَ خيالاً منكِ يَلْقَى خيالـيَا



          وهذا الأصل غير بعيد أن يكون أيضاً من باب

          ما استُؤنف له علّةٌ غير معروفة، إلاّ أنه لا يبلغ في

          القوة ذلك المبلغ في الغرابة والبعد من العادة،

          وذلك أنه قد يُتصوَّر أن يُريد المُغرَمُ المتيَّم، إذا بَعُدَ عهده بحبيبه،

          أن يراه في المنام، وإذا أراد ذلك جاز أن يريد النوم

          له خاصَّةً فاعرفه. ومما يلحق بهذا الفصْل قوله:

          رَحَل العزاءُ برحْلَتي فكأنني ** أتبعتُه الأَنفاسَ للتـشـييعِ



          وذلك أنه علّل تصعُّد الأَنفاس من صدره بهذه العلة الغريبة،

          وترك ما هو المعلوم المشهور من السبب والعلة فيه،

          وهو التحسّر والتأسّف، والمعنى:

          رحل عنِّي العزاء بارتحالي عنكم،

          أي: عنده ومعه أو به وبسببه،

          فكأنه لما كان محلّ الصبر الصَّدْر،

          وكانت الأنفاس تتصعّد منه أيضاً، صار العزاءُ وتنفُّس

          الصَّعَداء كأنهما نزيلان ورفيقان، فلما رحل ذاك،

          كان حقّ هذا أن يشيّعه قضاءً لحق الصُّحبة.




          ومما يلاحِظُ هذا النوع، يجري في مسلكه ويَنْتظم في سِلْكه،

          قولُ ابن المعتز:

          عاقبتُ عَيْني بالدَّمع والسَّهَـر ** إذ غار قلبي عَلَيك من بَصَري

          وَاحتملتْ ذاك وهـي رَابـحةٌ ** فيكَ وفازت بلذَّة الـنّـظـرِ



          وذاك أن العادة في دمع العين وسَهرها أن يكون

          السببَ فيه إعراضُ الحبيب، أو اعتراض الرقيب،

          ونحو ذلك من الأسباب المُوجِبة للاكتئاب، وقد ترك ذلك كله كما تَرَى،

          وادّعى أن العلة ما ذكره من غَيْرةِ القلب منها

          على الحبيب وإيثارِه أن يتفرَّد برؤيته، وأنه بطاعة القلب

          وامتثال رَسْمه، رامَ للعين عقوبةً، فجعل ذاك أن أبكاها،

          ومَنَعها النوم وحماها، وله أيضاً في عقوبة العين

          بالدَّمع والسهر، من قصيدة أوّلها:

          قُلْ لأَحلَى العباد شِكـلاً وقـدَّا ** أَبجِدٍّ ذَا الهجرُأمْ لـيس جِـدَّا

          ما بِذَا كانت المُنَى حدَّثَتْـنـي ** لَهْفَ نفسي أَراك قد خُنتَ ودَّا

          ما تَرَى في مُتَيَّمٍ بـكَ صَـبٍّ ** خاضِعٍ لا يرى من الذُلِّ بُـدَّا

          إن زَنَتْ عينُه بغيرك فاضربْـ ** ـها بطُول السُهاد والدَّمْع حَدَّا




          قد جعل البكاءَ والسهاد عقوبةً على ذنبِ أَثبته للعين،

          كما فعل في البيت الأول، إلا أنّ صورة الذنب هاهنا

          غير صورته هناك، فالذنب هاهنا نَظَرُها إلى غير الحبيب،

          واستجازتُها من ذلك ما هو محرَّم محظور والذنب هناك نظَرُها

          إلى الحبيب نفسه، ومزاحمتها القلب في رؤيته، وغَيْرةُ القلب

          من العين سببُ العقوبة هناك، فأمّا هاهنا فالغيرة كائنة

          بين الحبيب وبين شخصٍ آخر فاعرفه.



          ولا شُبْهة في قصور البيت الثاني عن الأول،

          وأنّ للأوّل عليه فضلاً كبيراً، وذلك بأن جعل بعضَه يغار من بعض،

          وجعل الخصومة في الحبيب بين عينيه وقلبه،

          وهو تمام الظَّرْف واللطف، فأمّا الغيرة في البيت الآخر،

          فعلى ما يكون أبداً، هذا ولفظ زَنَتْ، وإن كان ما يتلوها

          من أحكام الصنعة يُحَسّنها، وورودُها في الخبر العينُ تزني،

          ويؤنِس بها، فليست تَدَعُ ما هو حكمها من إدخال نُفْرةٍ على النفس.


          وإن أردت أن ترى هذا المعنى بهذه الصنعة في

          أعجب صورة وأظرفها، فانظر إلى قول القائل:

          أَتتني تُؤَنِّبني بـالـبـكـا ** فأهلاً بهَا وبتأنِـيبـهَـا

          تقولُ وفي قولها حِشْـمةٌ ** أتبكي بعَيْنٍ تراني بـهـا

          فقلت إذا استحسنتْ غيرَكم ** أمرتُ الدُّموع بتأديبـهـا



          أعطاك بلفظة التأديب، حُسْنَ أدب اللبيب، في صيانة اللَّفظ

          عما يُحرج إلى الاعتذار، ويؤدّي إلى النِّفار،

          إلا أن الأُستاذية بعدُ ظاهرةٌ في بيت ابن المعتز،

          وليس كل فضيلة تبدُو مع البديهة، بل بعَقِب النَّظرِ والرويَّة،

          وبأن يفكَّر في أول الحديث وآخره، وأنت تعلم أنه لا يكون

          أبلغ في الذي أراد من تعظيم شأن الذنب، من ذكر الحدّ،

          وأنّ ذلك لا يتمّ له إلاّ بلفظة زنت، ومن هذه الجهة

          يلحَقُ الضَّيْمُ كثيراً من شأنُه وطريقُه طريقُ أبي تمام،

          ولم يكن من المطبوعين، وموضعُ البَسْط في ذلك غير

          هذا فَغَرَضي الآن أن أُرِيَك أنواعاً من التخييل،

          وأضَعَ شِبْهَ القوانين ليُستعان بها على ما يُراد بعدُ من

          التفصيل والتبيين.
          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #20
            رد: أسرار البلاغة

            فصل في تخييل بغير تعليل :



            وهذا نوع آخر من التخييل، وهو يرجع إلي ما مضى من

            تناسي التَّشبيه وصرف النفس عن توهُّمه، إلا أنَّ ما مضى مُعلَّل،

            وهذا غير معلّل، بيان ذلك أنهم يستعيرون الصِّفة المحسوسة

            من صفات الأشخاص للأوصاف المعقولة،

            ثم تراهم كأنهم قد وجدوا تلك الصفة بعينها،

            وأدركوها بأعينهم على حقيقتها، وكأنّ حديث الاستعارة

            والقياس لم يجرِ منهم على بال ولم يرَوْه ولا طيفَ خَيال.



            ومثالُه استعارتُهم العلوَّ لزيادة الرجل على غيره

            في الفضل والقدر والسلطان، ثم وَضْعُهم الكلام وضعَ

            من يذكر علُواً من طريق المكان،

            ألا ترى إلى قول أبي تمام:

            ويَصْعَدُ حَتَّى يظُنَّ الجَهولُ بأنّ لَهُ حاجةً في السماءِ

            فلولا قصده أن يُنْسِيَ الشبيه ويرفعَه بجهده،

            ويُصمِّم على إنكاره وجَحْده، فيجعله صاعداً في السماء

            من حيث المسافة المكانية، لمَا كان لهذا الكلام وجهٌ.



            ومن أبلغ ما يكون في هذا المعنى قول ابن الرومي:

            أعْلَمُ الناسِ بالنجومِ بَنُـو نُـو بَخْتَ عِلماً لم يَأْتهم بالحِسـابِ

            بَلْ بَأنْ شاهدُوا السَّماءَ سُمُـوّاً بِتَرَقٍّ في المكرماتِ الصِّعابِ

            مبلغٌ لم يكُنْ ليبلُغَـه الـطـا لِبُ إلاّ بتِلـكُـمُ الأسْـبـابِ


            وأعاده في موضع آخر، فزاد الدعوى قُوَّةً،

            ومرّ فيها مرورَ من يقول صِدقاً ويذكر حقّاً:

            يا آل نُوبَخْتَ لا عَدِمتُـكُـم ولا تَبدَّلْتُ بعـدكـم بَـدَلاَ

            إن صَحَّ علمُ النجوم كان لكم حقًّاٍ إذا ما سواكُمُ انتحـلاَ

            كَمْ عالمٍ فيكُم وَلَـيْس بـأنْ قاس ولكن بأن رَقِي فَعَلاَ

            أعلاكُمُ في السماء مَجدُكـمُ فلستمُ تَجْهلون مَا جُـهِـلاَ

            شافَهْتُم البدرَ بالسُّؤال عن ال أَمْرِ إلى أن بلغتُـمُ زُحَـلاَ




            وهكذا الحكم إذا استعاروا اسمَ الشيء بعينه من نحو شمس

            أو بدر أو بحر أو أسد، فإنهم يبلغون به هذا الحدّ،

            ويصوغون الكلام صياغاتٍ تقضي بأن لا تشبيه هناك

            ولا استعارة، مثاله قوله:

            قامت تظلِّلني من الشمس نفسٌ أعزُّ عليَّ من نَفْسِي

            قامت تظلِّلني ومن عَجَبٍ شمسٌ تُظَلِّلني من الشَّمس


            فلولا أنه أنْسَى نفسَهُ أن هاهنا استعارةً ومجازاً من القول،

            وعَمِلَ على دعوى شمس على الحقيقة،

            لما كان لهذا التعجّب معنًى، فليس ببِدْعٍ ولا مُنكَر أن يظلِّلَ إنسانٌ

            حسن الوجه إنساناً ويَقِيه وَهَجاً بشخصه.


            وهكذا قول البحتري:

            طَلَعْتَ لهم وَقْتَ الشُّروق فعَـايَنُـوا سَنَا الشّمسِ من أُفْقٍ ووَجْهَك من أُفْقِ

            وما عَاينُوا شمسين قبلهما الْـتَـقَـى ضياؤُهما وَفْقاً من الغَرْب الشَّـرْقِ



            معلوم أن القصد أن يُخرج السامعين إلى التعجّب لرؤية ما لم يروه قط،

            ولم تَجْرِ العادة به، ولم يتمَّ للتعجُّب معناه الذي عناه،

            ولا تظهر صورته على وصفها الخاصّ،

            حتى يجترئ على الدَّعوى جُرْأةَ من لا يتوقف ولا يَخشى إنكارَ مُنْكرٍ،

            ولا يَحْفِل بتكذيب الظاهر له، ويسُوم النفس، شاءَت أمْ أَبَتْ،

            تصوُّرَ شَمْسٍ ثانية طلعت من حيث تغرب الشمس،

            فالتقتَا وَفْقاً، وصار غرْب تلك القديمة لهذه المتجددةِ شرقاً.



            ومدارُ هذا النوع في الغالب على التعجُّب، وهو والي أمره،


            وصانع سِحْره، وصاحب سرّه،

            وتراه أبداً وقد أفضى بك إلى خِلابةٍ لم تكن عندك،

            وبرز لك في صورة ما حسبتها تظهر لك، ألا ترى أن صورة

            قوله شمس تظللني من الشمس، غير صورة قوله

            وما عاينوا شمسين، وإن اتَّفق الشعران في أنهما يتعجّبان

            من وجود الشيء على خلاف ما يُعقَل ويُعرَف.


            وهكذا قول المتنبي:

            كَبَّرتُ حَوْلَ دِيارهم لـمّـا بَـدَت منها الشُّموسُ وليسَ فيها المشرقُ


            له صورةٌ غير صورة الأوَّلين. وكذا قوله:

            ولم أَر قَبْلي مَنْ مَشَى البدرُ نحوهُ ولا رَجُلاً قَامت تُعانقُه الأُسْـدُ


            يعرض صورة غير تلك الصُّوَر كلها، والاشتراك بينها

            عامّيٌّ لا يدخل في السَّرِقة، إذ لا اتِّفاق بأكثر من أن

            أثبت الشيء في جميع ذلك على خلاف ما يعرفه الناس،

            فأمّا إذا جئت إلى خصوصٍ ما يخرج به عن المتعارف،

            فلا اتفاق ولا تناسُب، لأن مكان الأعجوبة مرّةً أن تظلل

            شمسٌ من الشمس، وأخرى أن يُرَى للشمس مِثْلٌ لا يطلع

            من الغرب عند طلوعها من الشرق، وثالثةً أن تُرَى الشموس

            طالعةً من ديارهم، وعلى هذا الحد قوله ولم أرَ قبلي مَن

            مَشَى البدر نحوه، العجب من أن يمشيَ البدر إلى آدميٍّ،

            وتُعانِقَ الأسْد رجُلاً.




            واعلم أن في هذا النوع مذهباً هو كأنه عكس مذهب التعجب ونقيضُه،

            وهو لطيف جدّاً، وذلك أن يُنظر إلى خاصيَّة ومعنًى دقيقٍ

            يكون في المشبَّه به، ثم يُثَبِّت تلك الخاصيّة وذلك المعنى للمشبّه،

            ويُتوصَّل بذلك إلى إيهام أن التشبيه قد خرج من البَيْن،

            وزال عن الوَهْم والعين أحسنَ توصُّلٍ وألطفَه،

            ويقام منه شِبهُ الحجّة على أنْ لا تشبيهَ ولا مجازَ،

            ومثال قوله:

            لاَ تَعْجَبُوا من بِلَى غِلاَلتـه قد زرَّ أَزْرَاره على القمَر


            قد عمد، كما ترى إلى شيء هو خاصية في طبيعةِ القمر،

            وأمرٌ غريب من تأثيره، ثم جَعلَ يُرِى أن قوماً أنكروا

            بِلَى الكتّان بسُرعة، وأنه قد أخذ ينهاهم عن التعجُّب

            من ذلك ويقول أما ترونه قد زرَّ أزرارَه على القمر،

            والقمرُ من شأنه أن يُسْرِع بِلَى الكتان، وغرضه بهذا كله

            أن يُعلِم أن لا شكَّ ولا مِريَة في أن المعاملة مع القمر نفسِهِ،

            وأن الحديث عنه بعينه، وليس في البَين شيءٌ غيره،

            وأن التشبيهَ قد نُسي وأُنْسيَ، وصار كما يقول الشيخ أبو عليّ

            فيما يتعلق به الظرف: إنّه شريعَةٌ منسوخة.



            وهذا موضعٌ في غاية اللُّطْفِ، لا يَبين إلا إذا كان المتصفِّح للكلام حسَّاساً،

            يعرف وَحْي طَبْع الشعر، وخفيَّ حركته التي هي كالخَلْسِ،

            وكَمَسْرَى النّفْسِ في النّفْس. وإن أردت أن تظهرَ لك صحّةُ

            عزيمتهم في هذا النحو على إخفاءِ التشبيه ومَحْوِ صورته من الوهم،

            فأبرِزْ صفة التَّشبيه، واكشفْ عن وجهه،

            وقُلْ لا تعجبوا مِن بِلى غِلاَلته، فقد زرَّ أزرارَهُ على مَنْ حُسْنُه حسنُ القمر،

            ثم انظر هل ترى إلاّ كلاماً فاتراً ومعنًى نازلاً،

            واخبُرْ نفسك هل تجد ما كنت تجده من الأريحيّة?


            وانظر في أعين السامعين هل ترى ما كنت تراه

            من ترجمةٍ عن المسرَّة، ودِلاَلةٍ على الإعجاب?


            ومن أين ذلك وأنَّى وأنت بإظهار التشبيه تُبطل على نفسك

            ما له وُضِعَ البيتُ من الاحتجاج على وُجوب البِلَى في الغلالة،

            والمَنْعِ من العجب فيه بتقرير الدِّلالة.



            وقد قال آخر في هذا المعنى بعينه،

            إلاّ أن لفظه لا يُنبئ عن القوة التي لهذا البيت في دعوى القمر،

            وهو قوله:

            تَرَى الثِّياب من الكَتَّان يلمَحُهـا نُورٌ من البدر أحياناً فيُبْلـيهَـا

            فكيف تُنكر أَن تَبْلَى مَعَاجرُهـا والبدرُ في كل وقتِ طَالِعٌ فيها




            ومما ينظر إلى قوله قد زرَّ أزراره على القمر،

            في أنه بلغ بدعواه في المجاز حقيقةً، مبلغَ الاحتجاج به

            كما يُحتجُّ بالحقيقة، قولُ العبّاس بن الأحنف:

            هِيَ الشَّمْسُ مَسْكَنُها في السماء فَعَزِّ الفؤادَ عَـزاءً جـمـيلاَ

            فلن تَسْتطيع إليهَا الصُّـعـودَ ولن تستطيعَ إليكَ الـنُـزولاَ



            صورة هذا الكلام ونِصْبَته والقالب الذي فيه أُفْرِغ،

            يقتضي أن التشبيه لم يَجْرِ في خَلَده،

            وأنه معه كما يقال: لستُ منه وليسَ مِنّي،

            وأن الأمر في ذلك قد بلغ مبلغاً لا حاجة معه إلى إقامة

            دليل وتصحيح دعوى، بل هو في الصِّحّة والصدق بحيث

            تُصحَّح به دعوى ثانيةٌ، ألا تراه كأنه يقول للنفس

            ما وَجْهُ الطمع في الوصول وقد علمت أن حديثك مع الشمس،

            ومَسْكَنُ الشمس السماء؛ أفلا تراه قد جعل كونها الشَّمس

            حُجَّةً له على نفسه، يصرفها بها عن أن ترجو الوصول إليها،

            ويُلْجِئُها إلى العزاء، ورَدَّها في ذلك إلى ما لا تشكُّ فيه،

            وهو مستقرٌّ ثابت، كما تقول: أوَما علمت ذلك?

            وأليس قد علمت?، ويُبَيِّن لك هذا التفسيرَ والتقريرَ

            فضلَ بيانٍ بأن تُقابل هذا البيت بقول الآخر:

            فقلتُ لأصْحابِي هي الشمسُ ضَوْءُها قريبٌ ولكن في تَنَاوُلِـهـا بُـعْـدُ



            وتتأمَّلْ أمر التشبيه فيه، فإنك تجده على خلاف ما وصفتُ لك،

            وذلك أنه في قوله فقلت لأصحابي هي الشمس،

            غيرُ قاصد أن يجعل كَوْنَها الشمسَ حُجَّةً على ما ذكر بعدُ،

            من قرب شخصها ومثالها في العين،

            مع بُعد منالها بل قال هي الشمس،

            وهكذا قولاً مرسلاً يُومِئُ فيه بل يُفصِح بالتشبيه،

            ولم يُرد أن يقول لا تعجبوا أن تَقْرُب وتَبْعُد بعد أن علمتم أنها الشمس،

            حتى كأَنه يقول: ما وَجْهُ شكّكِم في ذلك?،


            ولم يشكّ عاقلٌ في أن الشمس كذلك،

            كما أراد العباس أن يقول: كيف الطمع في الوُصول إليها

            مع عِلْمِك بأنها الشمس، وأن الشمسَ مَسْكنُها السماءُ،

            فبيت ابن أبي عيينة في أنْ لم ينصرف عن التشبيه جملةً،

            ولم يَبْرُز في صورة الجاحد له والمتبرّئ منه،

            كبيت بشَار الذي صرَّح فيه بالتشبيه، وهو:

            أو كبَدْر السَّماءِ غـيرُ قـريبٍ حِين يُوفِي والضوءُ فيه اقترابُ

            وكبيت المتنبي:

            كأنَّها الشمس يُعيي كفَّ قابضِهِ شُعاعُها ويَرَاه الطَّرْفُ مُقْتربَا


            فإن قلت فهذا من قولك يؤدِّي إلى أن يكون الغَرَض من ذكر الشمس،

            بيانَ حال المرأة في القُرب من وجهٍ ، والبعدِ من وجهٍ آخر،

            دون المبالغة في وصفها بالحسن وإشراق الوجه،

            وهو خلافُ المعتاد، لأن الذي يَسْبق إلى القلوب،

            أن يُقْصدَ من نحو قولنا هي كالشمسِ أو هي شمسٌ،

            الجمالُ والحُسْن والبهاء. فالجواب إنّ الأمرَ وإن كان على

            ما قلتَ، فإنه في نحو هذه الأحوال التي ُقصَد فيها إلى بيان

            أمرٍ غير الحُسن، يصير كالشيء الذي يُعقل من طريق العُرْف،

            وعلى سبيل التَّبَع، فأما أن يكون الغرضُ الذي له وُضع الكلام

            فلا وإذا تأمّلت قوله فقلت لأصحابي هي الشمس ضوءُها قريبٌ،

            وقولَ بشار: "أو كبدر السماء"، وقولَ المتنبي:

            "كأنها الشَّمس"، علمتَ أنهم جعلوا جُلَّ غَرَضهم

            أن يُصِيبوا لها شبهاً في كونها قريبة بعيدةً، فأما حديث الحُسن،

            فدخل في القصد على الحدِّ الذي مضى في قوله،

            وهو للعباس أيضاً:

            نِعْمةٌ كالشّمس لمَّا طَلَعت بَثَّت الإشراقَ في كُلّ بَلَدْ



            فكما أن هذا لم يضع كلامه لجعل النعم كالشمس

            في الضِّياء والإشراق، ولكن عَمَّت كما تعمُّ الشمس

            بإشراقها كذلك لم يضع هؤلاء أبياتهم على أن يجعلوا

            المرأة كالشمس والبدرِ في الحسن ونورِ الوجه،

            بل أَمُّوا نحو المعنى الآخر، ثم حَصَل هذا لهم من غير أن

            احتاجوا فيه إلى تجشُّمٍ، وإذا كان الأمر كذلك،

            فلم يقُل إن النعمة إنما عمّت لأنها شمس،

            ولكن أراك لعمومها وشمولها قياساً، وتحرَّى أن يكون ذلك

            القياس من شيء شَرِيف له بالنعمة شبهٌ من جهة أوصافه الخاصّة،

            فاختار الشمس، وكذلك لم يُرد ابن أبي عيينة أن يقول إنها

            إنما دَنت ونَأت لأنها شمس، أو لأنها الشمس،

            بل قاس أمرها في ذلك كما عرّفتُك.



            وأمّا العبّاس فإنه قال إنها إنما كانت بحيث لا تُنال،

            ووجب اليأس من الوصول إليها، لأجل أنها الشمس

            فاعرفه فرقاً واضحاً.


            ومما هو على طريقة بيت العبّاس في الاحتجاج،

            وإن خالفه فيما أذكره لك،

            قول الصابئ في بعض الوزراء يهنّئه بالتخلُّص من الاستِتار:

            صَحَّ أنَّ الوزيرَ بدرٌ مُـنـيرٌ إذ تَوَارَى كما تَوَارَى البدورُ

            غَاب لا غَابَ ثُمَّ عاد كما كـا نَ على الأُفْقِ طالعاً يستنيرُ

            لا تسَلْني عن الوزير فقد بَيَّ نْتُ بالوصف أنه سَـابـورُ

            لا خَلاَ منه صدرُ دَسْتٍ إذا ما قَرَّ فيه تَقِرُّ منه الـصـدورُ



            فهو كما نراه يحتجّ أن لا مجازَ في البين،

            وأنَّ ذكر البدر وتسميةَ الممدوح به حقيقة،

            واحتجاجُه صريحٌ لقوله صح أنه كذلك، وأما احتجاج العبّاس

            وصاحبه في قوله قد زرَّ أزرَارهُ على القَمر، فعلى طريق الفَحْوى،

            فهذا وَجهُ الموافقة، وأما وَجْهُ المخالفة،

            فهو أنَّهما ادّعيا الشَّمس والقَمَر بأنفسهما،

            وادَّعى الصابئ بدراً، لا البدر على الإطلاق.



            ومن ادّعاه الشمس على الإطلاق قولُ بشَّار:

            بَعَثْتُ بِذكْرها شِعري وقَدَّمتُ الهَوَى شَرَكَا

            فلمَّا شاقَها قَـولـي وشَبَّ الحبُّ فاحْتَنَكَا

            أتتني الشمـسُ زائرةً ولم تكُ تبرَحُ الفَلَكَا

            وَجَدتُ العيش في سُعدَى وكان العَيْشُ قد هَلَكَـا



            فقوله ولم تك تَبرَحُ الفَلَكا، يريك أنه ادَّعى الشمس نفسها،

            وقال أشجع يرثي الرشيد، فبدأ بالتعريف،

            ثم نكّر فخلَط إحدى الطريقتين بالأخرى، وذلك قوله:

            غَرَبَتْ بالمشرق الشـمـ ـسُ فقُلْ للعين تدمـعْ

            ما رَأَيْنا قَطُّ شَمـسـاً غَرَبت من حَيْثُ تطلعْ



            فقوله غربت بالمشْرق الشمسُ على حدّ قول بشار:

            "أتتني الشمس زائرةً، في أنه خيّل إليك شمس السماء"،


            وقوله بعد ما رأينا قَطّ شمساً، يُفتِّر أمرَ هذا التخييل،

            ويميل بك إلى أن تكون الشمس في قوله:

            غربت بالمشرق الشمس، غير شمس السماءِ،

            أعني غير مدَّعى أنها هي، وذلك مما يضطرب عليه

            المعنى وَيقْلَق، لأنه إذا لم يدَّع الشمسَ نفسها،

            لم يجب أن تكون جهة خراسان مَشْرِقاً لها،

            وإذا لم يجب ذلك، لم يحصل ما أراده من الغرابة

            في غروبها من حيث تطلع، وأظُنُّ الوجهَ فيه أن يُتأوّل

            تنكيره للشمس في الثاني على قولهم:

            خرجنا في شمس حارّة، يريدون في يوم كانَ للشمس

            فيه حرارة وفضلُ توقُّد، فيصير كأنه قال:

            ما عهدنا يوماً غَرَبت فيه الشمس من حيث تطلع،

            وهوت في جانب المشرق، وكثيراً ما يتفِق في كلام الناس

            ما يُوهم ضرباً من التنكير في الشمس كقولهم:

            "شَمْسٌ صيفية"، وكقوله:

            واللَّه لا طَلَعت شمسٌ ولا غربت

            ولا فرق بين هذا وبين قول المتنبي:

            لم يُرَ قَرْنُ الشَّمْسِ في شرْقِه فشكَّت الأنفسُ في غَرْبـهِ



            ويجيءُ التنكير في القمر والهلال على هذا الحدّ،

            فمنه قول بشّار:

            أمَلي لا تأتِ في قَمَرٍ بحديثٍ واتَّق الدُّرَعَا

            وتَوَقَّ الطيبَ لَيْلتَنـا إنَّه واشٍ إذا سَطَعا



            فهذا بمعنى لا تأت في وقت قد طلع فيه القمر،

            وهذا قولُ عمر بن أبي ربيعة:

            وَغَاب قُميْرٌ كنتُ أرجُو غُيُوبَهُ وَرَوَّحَ رُعْيَانٌ ونَوَّمَ سُـمَّـرُ


            ظاهره يوهم أنه كقولك: جاءني رجل، وليس كذلك في الحقيقة،

            لأن الاسم لا يكون نكرة حتى يعمَّ شيئين وأكثر،

            وليس هنا شيئان يَعُمّهما اسم القمر.

            وهكذا قول أبي العتاهية:


            تُسرُّ إذا نظرتَ إلـى هـلالٍ ونَقْصُك إذْ نظرتَ إلى الهلالِ




            ليس المنكَّر غير المعرَّف، على أنّ للهلال في هذا التنكير

            فضلَ تمكُّنٍ ليس للقمر، ألا تراه قد جُمع في قوله تعالى:

            "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ" "البقرة: 189"،


            ولم يجمع القمر على هذا الحدّ.


            ومن لطيف هذا التنكير قول البحتري:

            وبَدْرَين أَنْضيْنَاهما بعد ثَالثٍ أكلْناه بالإيجاف حتى تَمَحَّقَّا


            ومما أتى مستكرهاً نابياً يتظلم منه المعنى وينكره، قولُ أبي تمام:

            قَرِيبُ النَّدَى نائِي المَحَلِّ كأنّه هِلالٌ قريبُ النُّورِ ناءٍ مَنازلُهْ



            سببُ الاستكراه، وأنّ المعنى ينبو عنه أنه يُوهم بظاهره

            أنّ هاهنا أهِلَّةً ليس لها هذا الحكم،

            أعني أنه ينأَى مكانهُ ويدنو نورُه،

            وذلك مُحالٌ فالذي يستقيم عليه الكلام أن يؤتى به معرَّفاً

            على حدّه في بيت البحتري:

            كالبدْرِ أفرط في العُلوِّ وضوءُه للعُصْبة السَّارين جِدُّ قـريب



            فإن قلت أَقْطَعُ وأستأنفُ فأقولُ: كأن هلال وأسكتُ،

            ثم أَبتدئُ وآخُذ في الحديث عن شأنِ الهلال بقولي قريب النور

            ناءٍ منازله أمكنك، ولكنك تعلم ما يشكوه إليه المعنى

            من نبوّ اللفظ به وسوء ملاءَمة العبارة،

            واستقصاءُ هذا الموضع يَقْطع عن الغرض وحقُه

            أنه يُفرَد له فصل.




            وأعود إلى حديث المجاز وإخفائه،

            ودعوى الحقيقة وحمل النفس على تخيُّلها،

            فممّا يدخل في هذا الفنّ ويجب أنْ يُوازَن بينه وبين ما مضى،

            قولُ سعيد بن حميد:

            وَعدَ البَدْرُ بـالـزيارة لَـيْلاً فإذَا مَا وَفَى قَضَيْتُ نُـذُوري

            قلتُ يا سيّدي ولِمْ تُؤثِر اللـي لَ على بَهْجة النهار المُنـيرِ

            قال لي لا أحِبُّ تغيير رَسْمي هكذا الرَّسْمُ في طلوع البُدورِ


            قالوا: وله في ضدّه:

            قلتُ زُوري فأرسلت أَنا آتيك سُـحـرَهْ

            قلتُ فالليل كـان أخْ فَى وأَدنَى مسَـرَّهْ

            فأجابـت بـحُـجَّةٍ زَادت القلبَ حَسْرهْ

            أَنا شمسٌ وإنـمـا تَطْلُع الشَّمسُ بُكْرَهْ


            وينبغي أن تعلم أنَّ هذه القطعة ضدُّ الأولى،

            من حيث اختار النهارَ وقتاً للزيارة في تلك،

            والليل في هذه، فأمّا من حيث يختلف جوهر الشعر ويتَّفق،

            وخصوصاً من حيث نَنْظر الآن، فمثلٌ وشبيهٌ،

            وليس بضدٍّ ولا نقيض.



            ثم اعلم أنّا إن وازنَّا بين

            هاتين القطعتين وبين ما تقدَّم من بيت العباس:

            هي الشمس مسكنها في السماء،

            وما هو في صورته، وجدنا أمراً بَيْن أمرين بين

            ادّعاء البدر والشمس أنْفُسهما،

            وبين إثبات بدر ثانٍ وشمسٍ ثانية،

            ورأينا الشعر قد شاب في ذلك الإنكارَ بالاعتراف،

            وصادَفْتَ صورة المجاز تُعرِضُ عنك مرَّةً،

            وتَعرِضُ لك أخرى، فقوله: البدرُ بالتعريف مع قوله

            لا أحبّ تغيير رسمي، وتركه أن يقول رَسْمَ مِثْلي،

            يُخيِّلُ إليك البدر نَفسَه، وقوله في طلوع البدور بالجمع

            دون أن يفرد فيقول هكذا الرسم في طلوع البدور

            يلتفت بك إلى بدر ثانٍ، ويُعطيك الاعترافَ بالمجاز على وجه،

            وهكذا القول في القطعة الثانية لأنّ قوله:

            أنا شمس بالتنكير اعترافٌ بشمس ثانية أو كالاعتراف.



            ومما يدُلُّ دِلالةً واضحةً على دعوى الحقيقة،

            ولا يستقيم إلا عليها قولُ المتنبي:

            واستقبلَتْ قَمَرَ السماءِ بوَجهها فأَرَتْنِيَ القَمرين في وقتٍ معَا


            أراد فأرتني الشمسَ والقمرَ، ثم غَلَّب اسمَ القمر كقول الفرزدق:

            أخذنا بآفاقِ السَّماء عليكُـمُ لنَا قَمَراها والنُّجوم الطوالعُ


            لولا أنه يُخيِّل الشمسَ نفسَها، لم يكن لتغليب اسم القمر

            والتعريف بالألف واللام مَعْنًى، وكذلك لولا ضبطُه

            نفسَه حتى لا يُجرِيَ المجازَ والتشبيه في وهْمه،

            لكان قوله في وقت معَا، لغواً من القول،

            فليس بعجيبٍ أن يتراءَى لك وَجْهُ غادةٍ حَسناءَ

            في وقت طلوع القمر وتوسُّطه السماء،

            هذا أظهر من أن يخفى. وأمَّا تشبيه أبي الفتح

            لهذا البيت بقول القائل:

            وإذا الغزالةُ في السماء ترفَّعتْ وبَدَا النهارُ لوَقْتِـه يتـرجَّـلُ

            أبْدَتْ لوجه الشمسِ وجهاً مثلَهُ تلقى السماءَ بمثل ما تستقبـلُ


            فتشبيهٌ على الجملة، ومن حيث أصل المعنى وصورته في المعقول،

            فأما الصُّورة الخاصّة التي تحدُث له بالصنعة فلم يَعْرِض لها.



            ومما له طبقة عالية في هذا القبيل وشكلٌ يدلُّ على

            شدَّة الشكيمة وعلوّ المأخذ، قولُ الفرزدق:

            أبي أحمدُ الغَيْثَين صَعْصعةُ الـذي متَى تُخْلِفِ الجوزَاءُ والدَّلوُ يُمطرِ

            أجارَ بناتِ الوائدين ومـن يُجِـرْ على المَوْتِ يُعلَمْ أنه غير مُخْفَرِ



            أفلا تراه كيف ادَّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاءَ من سُلّم له ذلك،

            ومن لا يَخْطُر ببالِه أنه مجازٌ فيه،

            ومتناوِلٌ له من طريق التشبيه، وحتى كأنَّ الأمر

            في هذه الشهرة بحيث يقال: أيّ الغيثين أجود?

            فيقال صعصعة، أو يقال الغيثان، فيُعْلم أنّ أحدهمَا صعصعة،

            وحتى بلغ تمكُّنُ ذلك في العُرف إلى أن يتوقّف السامع


            عند إطلاق الاسم، فإذا قيل: أتاك الغيث، لم يعلم

            أيُراد صعصعة أم المطر. وإن أردت أن تعرف

            مقدارَ ما له من القُوَّة في هذا التخييل، وأن مصدرَه

            مَصْدَرُ الشيء المُتَعارَف الذي لا حاجة به إلى مقدِّمة

            يُبنَى عليها نحوَ أن تبدأ فتقول: أبي نظيرُ الغيث وثانٍ له


            ، وغيثٌ ثانٍ، ثم تقول:

            وهو خير الغيثين لأنه لا يُخْلِف إذا أَخلفت الأَنواء،

            فانظر إلى موقع الاسم، فإنك تراه واقعاً موقعاً

            لا سبيل لك فيه إلى حلِّ عَقْد التثنية، وتفريق المذكورَين بالاسم،

            وذلك أن أفعل لا تصحّ إضافته إلى اسمين معطوفٍ أحدُهما

            على الآخر، فلا يقال جاءَني أفضل زيد وعمرو،


            ولا إنَّ أعلمَ بكرٍ وخالدٍ عندي، بل ليس إلا أن تُضيف

            إلى اسم مثنًّى أو مجموع في نفسه، نحو أفضل الرَّجلين،

            وأفضل الرجال، وذلك أنّ أفعل التفضيل بعضُ ما يضاف إليه أبداً،

            فحقّه أن يُضاف إلى اسمٍ يحويه وغيرَه،

            وإذا كان الأمر كذلك، علمتَ أنهَ اللَّفظ بالتشبيه،

            والخروجِ عن صريح جَعْلِ اللَّفظ للحقيقة متعذرٌ عليك،

            إذ لا يمكنك أن تقول: أبي أحمَدُ الغيثِ والثاني له والشبيه به،

            ولا شيئاً من هذا النحو، لأنك تقع بذلك في إضافة أفعل

            إلى اسمين معطوفٍ أحدهما على الآخر.



            وإذ قد عرفتَ هذا فانظر إلى قول الآخر:

            قد أقْحَطَ الناسُ في زمانِهمُ حتى إذا جئتَ جئتَ بالدِّرَرِ

            غَيْثَانِ في ساعةٍ لنا اتّفقـا فمرحباً بالأمير والمَطَـرِ

            فإنك تَرَاهُ لا يبلغ هذه المنزلة، وذلك أنه كلامُ مَن يُثبته

            الآنَ غيثاً ولا يدَّعي فيه عُرْفاً جارياً، وأمراً مشهوراً مُتعارفاً،

            يعلم كل واحدٍ منه ما يعلمه، وليس بمتعذِّر أن تقول غيثٌ

            وثانٍ للغيث اتفقا، أو تقول الأميرُ ثاني الغيث والغيثُ اتّفقَا.




            فقد حصل من هذا الباب أن الاسم المستعارَ كلما كان قَدمُه

            أثبتَ في مكانه، وكان موضعه من الكلام أضَنَّ به،

            وأَشَدَّ محاماةً عليه، وأمنع لك من أن تتركه وترجعَ إلى

            الظاهر وتصرِّح بالتشبيه، فأمرُ التخييل فيه أقوى،

            ودعوى المتكلم له أظهر وأتَمُّ. واعلم أن نحوَ قول البحتري:

            غَيْثانِ إنْ جَدْبٌ تتابعَ أَقبلا وهما رَبيعُ مُؤَمِّلٍ وخَرِيفُهْ



            لا يكون مما نحن بصدده في شيء، لأنّ كلَّ واحدٍ من الغيثين

            في هذا البيت مجازٌ، لأنه أراد أن يشبِّه كل واحد من

            الممدوحَين بالغيث، والذي نحن بصَدَده، هو أن يُضَمَّ

            المجاز إلى الحقيقة في عَقْد التثنية، ولكن إن ضممتَ إليه قوله:

            فلم أَرَ ضِرغامَين أَصْدقَ منكما عِراكاً إذا الهَيَّابةُ النِكْسُ كَذَّبـا


            كان لك ذلك، لأن أحدَ الضرغامين حقيقةٌ والآخرُ مجازٌ.



            فإن قلت فهاهنا شيءُ يردُّك إلى ما أَبَيْتهُ من بقاءِ حُكم التشبيه

            في جعله أباه الغيث، وذلك أن تقدير الحقيقة في المجاز

            إنما يُتصوَّر في نحو بيت البحتري: "فلم أرَ ضِرْغَامَين"

            من حيث عَمَد إلى واحدٍ من الأسودِ،

            ثم جعل الممدوحَ أسداً على الحقيقة قد قَارَنَهُ وضامَّهُ،

            ولا سبيل للفرزدق إلى ذلك، لأن الذي يَقْرِنه إلى أبيه

            هو الغيث على الإطلاق، وإذا كان الغيثَ على الإطلاق

            ، لم يبق شيءٌ يستحقّ هذا الاسم إلا ويدخل تحته،

            وإذا كان كذلك، حصل منه أن لا يكون أبو الفرزدق

            غيثاً على الحقيقة، فالجواب أن مذهب ذلك ليس

            على ما تتوهّمه، ولكن على أصلٍ هو التشبيه،

            وهو أن يقصدَ إلى المعنى الذي من أجله يشبِّه الفرع

            بالأصل كالشجاعة في الأسد، والمضاء في السيف،

            وينحِّي سائرَ الأوصاف جانباً، وذلك المعنى في الغَيْث

            هو النّفْع العامّ، وإذا قُدّر هذا التقدير، صار جنس الغيث

            كأنه عينٌ واحدة وشيءٌ واحد، وإذا عاد بك الأمر

            إلى أن تتصوَّرَهُ تَصوُّرَ العين الواحدة دون الجنس،

            كان ضَمُّ أبي الفرزدق إليه بمنزلة ضمِّك إلى الشمس

            رجلاً أو امرأةً تريد أن تبالغ في وصفهما بأوصاف الشمس،

            وتنزيلهما منزلتها، كما تجده في نحو قوله:

            فَلَيْتَ طالعةَ الشَّمسين غَـائِبةٌ وَلَيْتَ غَائبةَ الشَّمسينِ لم تغِبِ
            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #21
              رد: أسرار البلاغة

              فصل في الفرق بين التشبيه والاستعارة


              اعلم أن الاسم إذا قُصد إجراؤُه على غير ما هو له لمشابهة بينهما،

              كان ذلك على ما مضى من الوجهين:

              أحدهما أن تُسقط ذكر المشبَّه من البَيْنِ،

              حتى لا يُعلَم من ظاهر الحال أنك أردته،

              وذلك أن تقول "عنَّت لنا ظبية"، وأنت تريد امرأة،

              ووردنا براً، وأنت تريد الممدوح، فأنت في هذا النحو

              من الكلام إنّما تعرف أن المتكلم لم يُرد ما الاسمُ موضوعٌ

              له في أصل اللغة، بدليل الحال،

              أو إفصاح المقال بعد السؤال،

              أو بفحوَى الكلام وما يتلوه من الأوصاف،

              مثال ذلك أنك إذا سمعت قوله:

              تَرَنَّحَ الشَّرْبُ واغتَالتْ حُلومَهُمُ شَمسٌ تَرَجَّلُ فِيهم ثم ترتحلُ


              استدللتَ بذكر الشَّرْب، واغتيال الحلوم، والارتحال، أنه أراد قَيْنةً،

              ولو قال: ترجلت شمس، ولم يذكر شيئاً غيره من أحوال الآدميين،

              لم يُعقَل قطُّ أنه أراد امرأة إلا بإخبارٍ مُسْتَأْنَفٍ،

              أو شاهدٍ آخَر من الشواهد، ولذلك تجد الشيءَ يلتبس

              منه حَتَّى على أهل المعرفة، كما روى أن عديَّ بن حاتم

              اشتَبَه عليه المُراد بلفظ الخَيْط في قوله تعالى:

              "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ"

              "البقرة: 187"، وحمله على ظاهره،

              فقد رُوى أنه قال لما نزلت هذه الآية أخذت عِقالاً أسودَ وعِقالاً أبيض،

              فوضعتهما تحت وسادتي، فنظرت فلم أتبيّن،

              فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:

              "إن وِسَادك لطويل عَرِيضٌ، إنما هو الليل والنهار"،

              والوجه الثاني: أن تذكر كلَّ واحدٍ من المشبَّه

              والمشبَّه به فتقول زيدٌ أسد وهندٌ بدر،

              وهذا الرجل الذي تراه سيفٌ صارمٌ على أعدائك،

              وقد كنتُ ذكرتُ فيما تقدّم، أن في إطلاق الاستعارة على هذا الضَّرب

              الثاني بعضُ الشبهة، ووعدتُك كلاماً يجيء في ذلك،

              وهذا موضعُه. اعلم أنّ الوجهَ الذي يقتضيه القياس،

              وعليه يدلّ كلام القاضي في الوساطة،

              أن لا تُطْلَق الاستعارة على نحو قولنا زيد أسَدٌ وهند بدرٌ،

              ولكن تقول: هو تشبيه، وإذا قال هو أسدٌ، لم تقُلْ استعار

              له اسم الأسد، ولكن تقول شَبَّهه بالأسد،

              وتقول في الأول إنه استعارة لا تتوقف فيه ولا تتحاشى البتّةَ،

              وإن قلت في القسم الأول: إنه تشبيه كنتَ مصيباً،

              من حيث تُخبر عمّا في نفس المتكلم وعن أصل الغرض،

              وإن أردت تمام البيان قلت أراد أن يشبّه المرأةَ بالظبية

              فاستعار لها اسمها مبالغةً. فإن قلت فكذلك فقل في

              قولك زيد أسد، إنه أراد تشبيهه بالأسد، فأجرَى اسمه عليه،

              ألا ترى أنك ذكرته بلفظ التَّنكير فقلت زيد أسد،

              كما تقول زيد واحد من الأسود، فما الفرْقُ بين الحالين،

              وقد جرى الاسم في كل واحد منهما على المشبَّه.

              فالجواب أن الفرق بيّنٌ وهو أنك عزلت في القسم الأول

              الاسمَ الأصليَّ عنه واطّرحته، وجعلته كأن ليس هو باسم له،

              وجعلت الثانيَ هو الواقعَ عليه والمتناوِلَ له،

              فصار قصدُك التشبيهَ أمراً مطويّاً في نفسك مكنوناً في ضميرك،

              وصار في ظاهر الحال وصورة الكلام ونِصْبَته، ك

              أنه الشيء الذي وُضع له الاسم في اللغة وتُصُوّر - إن تَعَلَّقَهُ الوهمُ - كذلك،

              وليس كذلك القسم الثاني، لأنك قد صرّحت فيه بذكر المشبَّه،

              وذكرُك له صريحاً يأبَى أن تَتوَّهم كونَهُ من جنس المشبَّه به،

              وإذا سمع السامع قولك زيد أسد وهذا الرجل سيف صارمٌ على الأعداء،

              استحال أن يظنّ وقد صرَّحت له بذكر زيدٍ أنك قصدت أسداً وسيفاً،

              وأكثر ما يمكن أن يُدَّعى تخيُّلُه في هذا أن يقع في نفسه

              من قولك زيد أسد، حالُ الأسد في جراءته وإقدامه وبَطْشه،

              فأمَّا أنْ يقع في وهمه أنه رجل وأَسَدٌ معاً بالصورة والشخص فمحالٌ.


              ولمَّا كان كذلك، كان قصدُ التشبيه من هذا النحو بيِّناً لائحاً،

              وكائناً من مقتضى الكلام، وواجباً من حيث موضوعه،

              حتى إن لم يُحمَلْ عليه كان مُحالاً، فالشيء الواحدُ لا يكون رجلاً وأَسداً،

              وإما يكون رجلاً وبصفَة الأسد فيما يرجع إلى غرائز النفوس والأخلاق،

              أو خصوصٍ في الهيئة كالكراهة في الوجه، وليس كذلك الأول،

              لأنه يحتمل الحمل على الظَّاهر على الصحة،

              فلست بممنوع من أن تقول عَنَّت لنا ظبيةٌ، وأنت تريد الحيوان وطلعت شمس،

              وأنت تريد الشَّمسَ، كقولك: طلعتِ اليوم شمسٌ حارّة وكذلك تقول:

              هززتُ على الأعداء سيفاً وأنت تريد السيف، كا تقوله

              وأنت تريد رجلاً باسلاً استعنت به، أو رأياً ماضياً وُفّقت فيهِ،

              وأصبت به من العدوِّ فأرهبته وأَثَّرتَ فيه، وإذا كان الأمر كذلك،

              وجب أن يُفصَل بين القسمين، فيسمَّى الأوّل: استعارةً على الإطلاق،

              ويقال في الثاني إنه تشبيه، فأما تسميةُ الأول تشبيهاً فغير ممنوع ولا غريب،

              إلاّ أنه على أنك تُخبر عن الغرض وتُنبئ عن مضمون الحال،

              فأمّا أن يكون موضوعُ الكلام وظاهره موجباً له صريحاً فَلا.



              فإن قلت فكذلك قولك هو أسد، ليس في ظاهره تشبيه،

              لأن التشبيه يحصُل بذكر الكاف أو مِثْل أو نحوهما.


              فالجواب أن الأمر وإن كان كذلك، فإنّ موضوعَه من حيث الصُّورة

              يوجب قصدك التشبيه، لاستحالة أن يكون له معنًى وهو على ظاهره،

              وله مثالٌ من طريق العَادة، وهو أنّ مَثَلَ الاسم مَثَلُ الهيئة

              التي يُستدَلّ بها على الأجناس، كزِيِّ الملوك وزيّ السُّوقة،

              فكما أنك لو خلعْتَ من الرجل أثواب السوقة،

              ونَفَيْتَ عنه كل شيء يختصُّ بالسوقة، وألبستَهُ زِيَّ الملوك،

              فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه مَلِكاً،

              وحتى لا يَصِلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار أو اختبار

              واستدلال من غير الظاهر، كنتَ قد أعرتَهُ هيئةَ المَلِك وزِيَّه على الحقيقة،

              ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه المَلِك من غير أن تُعَرِّيَهُ

              من المعاني التي تدل على كونه سُوقَةً، لم تكن قد أعرتَهُ

              بالحقيقة هيئةَ الملك، لأن المقصود من هيئة الملك أن

              يحصُل بها المَهابةُ في النفس، وأن يُتَوَّهم العظمة،

              ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سُوقة.



              افرِضْ هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يُعارُه

              الرجلُ فيلبَسُه على ثوبه أو منفرداً،

              وإنما اعتبرِ الهيئةَ وهي تحصلُ بمجموع أشياء،

              وذلك أن الهيئة هي التي يُشبه حالها حالَ الاسم،

              لأن الهيئة تخصُّ جنساً دون جنس، كما أن الاسم كذلك،

              والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تَقْترن به وتُرعَى معه،

              فإذا كان السامع قولَك: زيد أسدٌ لا يتوهَّم أنك قصدت أسداً على الحقيقة،

              لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارةً صحيحةً،

              كما أنك لم تُعِر الرجل هيئةَ الملِك حين لم تُزِلْ عنه ما يُعلَم به أنه ليس بملك،ّ

              مَثَلَ الاسم مَثَلُ الهيئة التي يُستدَلّ بها على الأجناس،

              كزِيِّ الملوك وزيّ السُّوقة، فكما أنك لو خلعْتَ من الرجل أثواب

              السوقة، ونَفَيْتَ عنه كل شيء يختصُّ بالسوقة،

              وألبستَهُ زِيَّ الملوك، فأبديته للناس في صورة الملوك حتى يتوهّموه مَلِكاً،

              وحتى لا يَصِلوا إلى معرفة حاله إلا بإخبار أو اختبار

              واستدلال من غير الظاهر، كنتَ قد أعرتَهُ هيئةَ المَلِك وزِيَّه

              على الحقيقة، ولو أنك ألقيت عليه بعض ما يلبسه المَلِك

              من غير أن تُعَرِّيَهُ من المعاني التي تدل على كونه سُوقَةً،

              لم تكن قد أعرتَهُ بالحقيقة هيئةَ الملك، لأن المقصود من هيئة

              الملك أن يحصُل بها المَهابةُ في النفس، وأن يُتَوَّهم العظمة،

              ولا يحصل ذلك مع وجود الأوصاف الدالّة على أن الرجل سُوقة.

              افرِضْ هذه الموازنة في الشيء الواحد، كالثوب الواحد يُعارُه

              الرجلُ فيلبَسُه على ثوبه أو منفرداً، وإنما اعتبرِ الهيئةَ وهي تحصلُ

              بمجموع أشياء، وذلك أن الهيئة هي التي يُشبه حالها حالَ الاسم،

              لأن الهيئة تخصُّ جنساً دون جنس، كما أن الاسم كذلك،

              والثوب على الإطلاق لا يفعل ذلك إلا بخصائص تَقْترن به وتُرعَى معه،

              فإذا كان السامع قولَك: زيد أسدٌ لا يتوهَّم أنك قصدت أسداً على الحقيقة،

              لم يكن الاسم قد لحقه، ولم تكن قد أعرته إياه إعارةً صحيحةً،

              كما أنك لم تُعِر الرجل هيئةَ الملِك حين لم تُزِلْ عنه ما يُعلَم به أنه ليس بملك،

              هذا وإذا تأمّلنا حقيقةَ الاستعارة في اللغة والعادة،

              كان في ذلك أيضاً بيانٌ لصحة هذه الطريقة، ووجوبِ الفرقِ بين القسمين،

              وذاك أن من شرط المستعار أن يَحْصُل للمستعير منافعهُ على

              الحدّ الذي يحصل للمالِك، فإن كان ثوباً لَبِسَه كما لبسه،

              وإن كان أداةً استعملها في الشيء تصلح له،

              حتى إنّ الرائي إذا رآه معه لم تنفصل حاله عنده من حال ما هو مِلْكُ

              يدٍ ليس بعاريَّةٍ، وإما يفْضُلُهُ المالك في أنّ له أن يُتلف الشيء جملةً،

              أو يُدخِل التلف على بعض أجزائه قصدًا، وليس للمستعير ذلك،

              ومعلومٌ أنّ ما هو كالمنفعة من الاسم أن يوجب ذكرُه القصدَ

              إلى الشيء في نفسه، فإذا قلت زيد، عُلم أنك أردت أن تُخبر

              عن الشخص المعلوم، وإذا قلت لقِيت أسداً، عُلم أنك

              علّقت اللقاءَ بواحد من هذا الجنس، وإذا كان الأمر كذلك،

              ثم وجدنا الاسم في قولك عنّت ظبية، يُعقَل من إطلاقه أنك

              قصدت الجنس المعلوم ولا يُعلَم أنك قصدت امرأةً،

              فقد وقع من المرأة في هذا الكلام موقعَه من ذلك الحيوان على الصحة،

              فكان ذلك بمنزلةِ أن المستعير ينتفع بالمستعار انتفاعَ مالكه،

              فيلبَسُه لُبْسَهُ، ويتجمَّل به تجمُّلَه، ويكون مكانه عنده

              مكانَ الشيءِ المملوك، حتى يعتقد من يَنْظُر إلى الظاهر أنه له،

              ولما وجدنا الاسم في قولك زيد أسد، لا يقع من زيد ذلك الموقع،

              من حيث إنّ ذكرَه باسمه يمنع من أن يصير الاسم مطلقاً عليه،

              ومتناوِلاً له على حدّ تناوُله ما وُضع له، كان وِزانُ ذلك

              وِزانَ أن تضعَ عند الرجل ثوباً وتمنعَه أن يلبسه، أو بمنزلة

              أن تطرَحَ عليه طَرَفَ ثوبٍ كان عليك، فلا يكون ذلك عاريَّةً صحيحة،

              لأنك لم تُدخلْه في جملته، ولم تُعْطِه صورةَ ما يَخْتَص به ويصير إليه،

              ويخفَى كونُه لك دونه فاعرفه. وها هنا فصل آخر من طريق

              موضوع الكلام، يُبَيِّن وجوب الفرق بين القسمين:

              وهو أن الحالة التي يُخْتَلف في الاسم إذا وقع فيها،

              أيُسمَّى استعارة أم لا يسمَّى؛ هي الحالة التي يكون الاسم

              فيها خبرَ مبتدأ أو منزَّلاً منزلتَه، أعني أن يكون خبرَ كان،

              أو مفعولاً ثانياً لبابِ علمت، لأن هذه الأبواب كلها أصلها مبتدأ وخبر

              أو يكون حالاً، لأن الحال عندهم زيادةٌ في الخبر،

              فحكمها حكم الخبر فيما قصدته هاهنا خصوصاً،

              والاسم إذا وقع في هذه المواضع، فأنت واضعٌ كلامك لإثبات معناه،

              وإن أدخلت النَّفي على كلامك تَعلَّق النفي بمعناه، تفسير هذه الجملة

              أنك إذا قلت زيد منطلق، فقد وضعت كلامَك لإثبات الانطلاق لزيد،

              ولو نفيت فقلت ما زيد منطلقاً، كنت نفيت الانطلاق عن زيد، وكذلك:

              أكان زيد منطلقاً، وعلمتُ زيداً منطلقاً، ورأيت زيداً منطلقاً،

              أنت في ذلك كلِّه واضعٌ كلامك ومُزْجٍ له لتُثبت الانطلاق لزيد،

              ولو خُولفت فيه انصرف الخلافُ إلى ثبوته له،

              وإذا كان الأمر كذلك، فأنت إذا قلت زيد أسدٌ ورأيتُه أسداً،

              فقد جعلت اسم المشبَّه به خبراً عن المشبَّه،

              والاسم إذا كان خبراً عن الشيء كان خبراً عنه،

              إمّا لإثبات وَصْفٍ هو مشتقٌّ منه لذلك الشيء،

              كالانطلاق في قولك زيد منطلقْ، أو إثباتِ جنسيةٍ هو موضوعٌ لها كقولك:

              هذا رجل، فإذا امتنع في قولنا زيد أسدٌ أن تُثبت شَبَه الجنس،

              فقد اجتلبْنَا الاسم لنُحْدِثَ به التشبيه الآن، ونقرِّرَه في حيّز الحصول والثبوت،

              وإذا كان كذلك، كان خليقاً بأن تسمّيه تشبيها،

              إذ كان إنما جاءَ ليُفيدَه ويُوجبَه،

              وأمّا الحالة الأخرى التي قلنا إن الاسم فيها يكون استعارةً

              من غير خلافٍ، فهي حالةٌ إذا وقع الاسم فيها لم يكن الاسم

              مجتلَباً لإثبات معناه للشيء، ولا الكلامُ موضوعاً لذلك،

              لأن هذا حكمٌ لا يكون إلا إذا كان الاسم في منزلة الخبر من المبتدأ،

              فأمّا إذا لم يكن كذلك، وكان مبتدأ بنفسه،

              أو فاعلاً أو مفعولاً أو مضافاً إليه، فأنت واضعٌ كلامك

              لإثبات أمر آخرَ غيرِ ما هو معنى الاسم. بيان ذلك أنك إذا

              قلت جاءني أسدٌ ورأيت أسداً ومررت بأسدٍ، فقد وضعت

              الكلام لإثبات المجيء واقعاً من الأسد، والرؤية والمرور

              واقعَين منك عليه، وكذلك إن قلت الأسدُ مُقبِل،

              فالكلام موضوعٌ لإثبات الإقبال للأسد، لا لإثبات معنى الأسد،

              وإذا كان الأمر كذلك، ثم قلت عنّتْ لنا ظبيةٌ،

              وهززت سيفاً صارماً على الأعداء وأنت تعني بالظبية امرأةً،

              وبالسيف رجلاً لم يكن ذكرُك للاسمين في كلامك هذا

              لإثبات الشُّبه المقصودِ الآن، وكيف يُتصوَّر أن تقصد إلى

              إثبات الشبه منهما بشيءٍ، وأنت لم تذكر قبلهما شيئاً ينصرف

              إثبات الشبه إليه، وإنما تُثبت الشُّبه من طريق الرجوع إلى الحال،

              والبحثِ عن خَبِئٍ في نفس المتكلم.



              وإذا كان كذلك بانَ أن الاسم في قولك زيد أسدٌ،

              مقصودٌ به إيقاع التشبيه في الحال وإيجابه، وأما في قولك:

              عنّت لنا ظبيةٌ وسللتُ سيفاً على العدوّ، فوُضعَ الاسم

              هكذا انتهازاً واقتضاباً على المقصود، وادّعاء أنه

              من الجنس الذي وُضع له الاسم في أصل اللغة،

              وإذا افترقا هذا الافتراقَ، وجب أن نفرق بينهما في

              الاصطلاح والعبارة، كما أنّا نفصِل بين الخبر والصفة

              في العبارة، لاختلاف الحكم فيهما، بأنّ الخبر إثباتٌ في الوقت للمعنى،

              والصفة تبيينٌ وتوضيحٌ وتخصيصٌ بأمرٍ قد ثبت واستقرَّ

              وعُرِفَ، فكما لم نرضَ لاتفاق الغَرَض في الخبر الصِّفة

              على الجملة واشتراكهما إذا قلت زيد ظريفٌ وجاءَني زيد الظَّريف،

              في التباس زيد في الظرف واكتسائه له،

              أَنْ تجعلهما في الوضع الاصطلاحيّ شيئاً واحداً، ولا نفرِّق بتسميتنا

              هذا خبراً وذلك صفةً كذلك ينبغي أن لا يدعونا - اتفاق قولنا:

              جاءني أسد وهززت سيفاً صارماً وقولنا زيد أسد وسيف صارم،

              في مطلق التشبيه - إلى التسوية بينهما، وتَرْكِ الفَرْق من طريق العبارة،


              بل وجب أن نفرِّق، فنسمِّي ذاك استعارةً وهذا تشبيهاً،

              فإن أبيتَ إلا أن تُطلق الاستعارة على هذا القسم الثاني،

              فينبغي أن تعلم أن إطلاقها لا يجوز في كل موضعٍ يحسن

              دخول حرف التشبيه فيه بسهولة، وذلك نحو قولك:

              هو الأسد وهو شمسُ النهار وهو البدر حسناً وبهجةً،

              والقضيبُ عطفاً، وهكذا كل موضع ذكر فيه المشبَّه به بلفظ التعريف،

              فإن قلت: هو بحر وهو ليثٌ ووجدته بحراً، وأردت أن تقول إنه استعارة،


              كنت أعذَرَ وأشبه بأن تكون على جانب من القياس،

              ومتشبّثاً بطَرفٍ من الصواب، وذلك أن الاسم قد خرج بالتنكير

              عن أن يحسن إدخال حرف التشبيه عليه، فلو قلت هو كأسد وهو كبحر،

              كان كلاماً نازلاً غير مقبول، كما يكون قولك هو كالأسد،

              إلا أنَّه وإن كان لا يحسن فيه الكاف فإنه يحسن فيه كأنّ

              كقولك كأنه أسد، أو ما يجري مجرى كأنّ في نحو تحسِبُه

              أسداً وتَخَالُه سيفاً، فإن غَمَض مكانُ الكاف وكأن،



              بأن يوصف الاسم الذي فيه التشبيهُ بصفةٍ لا تكون في

              ذلك الجنس، وأمرٍ خاصٍّ غريبٍ فقيل هو بحر من البلاغة،

              وهو بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب،

              وكقوله:

              شَمْسٌ تألَّقُ والفِرَاقُ غُروبُها عَنَّا وبَدْرٌ والصُّدُودُ كُسوفُهُ


              فهو أقرب إلى أن نسمّيه استعارةً، لأنه قد غمضَ تقدير حرف التشبيه فيه،

              إذ لا تصلُ إلى الكاف حتى تُبطل بِنْيةَ الكلام وتُبدِّل صورته فتقول:

              هو كالشمس المتألِّقة، إلا أن فراقَها هو الغروب،

              وكالبدرِ إلا أن صدودَه الكسوف. وقد يكون في الصفات

              التي تجيء في هذا النحو، والصِّلات التي تُوصَل بها،

              ما يختلّ به تقدير التشبيه، فيقرب حينئذ من القبيل الذي

              تُطلَق عليه الاستعارة من بعض الوجوه، وذلك مِثل قوله:

              أَسدٌ دمُ الأَسَدِ الهِزَبْرِ خِضابُـهُ مَوْتٌ فَرِيصُ الموتِ منه ترْعَدُ


              لا سبيل لك إلى أن تقول: هو كالأسد وهو كالموت،

              لما يكون في ذلك من التناقض، لأنك إذا قلت هو كالأسد

              فقد شبّهته بجنس السبعُ المعروف، ومُحالٌ أن تجعله


              محمولاً في الشَّبه على هذا الجنس أوَّلاً، ثم تجعل دَمَ الهزَبْرِ

              الذي هو أقوى الجنس، خضابَ يده، لأنّ حملك له عليه

              في الشَّبه دليل على أنه دونه، وقولك بَعْدُ دمُ الهزبر من الأسود خضابه،

              دليل على أنه فوقها، وكذلك محالٌ أن تشبَّهه بالموت المعروف،

              ثم تجعله يخافه، وترتعد منه أكتافه، وكذا قوله:

              سَحَابٌ عَدَاني سَيْلُه وهو مُسبـلٌ وبَحْرٌ عَدَاني فيْضُه وَهْو مُفْعَـمُ

              وبَدرٌ أضاءَ الأَرضَ شرقاً ومغرِباً ومَوْضِعُ رَحْلِي منه أسْوَدُ مُظلمُ


              إن رجعت فيه إلى التشبيه الساذَج فقلت هو كالبدر،

              ثم جئت تقول أضاء الأَرض شرقاً ومغرباً ومَوْضِع رحلي

              مظلمٌ لم يضيء به، كنتَ كأنك تجعل البدر المعروف يُلبس

              الأرضَ الضياءَ ويمنعه رحلَك، وذلك مُحَالٌ، وإنما أردت

              أن تُثبت من الممدوح بدراً مفرداً له هذه الخاصية العجيبة

              التي لم تُعرَف للبدر، وهذا إنما يَتَأتَّى بكلام بعيدٍ من هذا النظم،

              وهو أن يقال: هل سمعت بأن البَدْر يطلع في أُفُقٍ،

              ثم يمنع ضوءه موضعاً من المواضع التي هي مُعرَّضة

              له وكائنة في مقابلته، حتى ترى الأرض الفضاء قد

              أضاءَت بنوره البيت، فهذا النحو موضوع على تخييلِ أنه

              زاد في جنس البدر واحدٌ له حُكمٌ وخاصّةٌ لم تُعرَف.


              وإذا كان الأمر كذلك صار كلامُك موضوعاً لا لإثبات الشبه

              بينه وبين البدر، ولكن لإثبات الصِّفة في واحد متجدّدٍ حادثٍ

              من جنس البدر، لم تُعرَف تلك الصفة للبدر، فيصير بمنزلة

              قولك زيد رجل يقري الضيوفَ ويفعل كيت وكيت، فلا يكون

              قصدك إثباتَ زيدٍ رجلاً، ولكن إثباتُ الصفة التي ذكرتَها له،

              فإذا خرج الاسم الذي يتعلق به التشبيه من أن يكون مقصوداً

              بالإثبات، تبيَّن أنه خارج عن الأصل الذي تقدّم، من كون الاسم

              لإثبات الشبه، فالبحتري في قوله: "وَبَدْرٌ أضاءَ الأَرْضَ" قد بَنَى

              كلامه على أن كونَ الممدوح بدراً، أمرٌ قد استقرَّ وثَبت، وإنما يعمل

              في إثبات الصفة الغريبة، والحالةِ التي هي موضع التعجّب،

              وكما يمتنع دخول الكاف في هذا النحو، كذلك يمتَنِعُ

              دخولُ كأَن وتحسب وتخال، فلو قلت كأنه بدر أضاء

              الأرض شرقاً ومغرباً وموضع رحلي منه مظلم كان خَلْفاً من القول.



              وكذلك إن قلت: تحسبه بدراً أضاء الأرض ورحلي منه مظلم،

              كان كالأوّل في الضعف، ووجه بُعده من القبول بيِّنٌ،

              وهو أنّ كأن وحسبت وخلت وظننت تدخل إذا كان الخبر

              والمفعول الثاني أمراً معقولاً ثابتاً في الجملة،

              إلا أنه في كونه متعلقاً بما هو اسم كأن أو المفعول الأوّل م

              ن حسبت مشكوك فيه، كقولنا كأن زيداً منطلق،

              أو مجازٌ يُقصَد به خلاف ظاهره، نحوُ كأنّ زيداً أسدٌ،

              فالأسد على الجملة ثابت معروف، والغريب هو كون زيدٍ إياه

              ومن جنسه، والنكرة في نحو هذه الأبيات موصوفةٌ

              بأوصاف تدلُّ على أنك تُخبر بظهور شيءٍ لا يُعرَف ولا يُتصوَّر،


              وإذا كان كذلك، كان إدخال كأن وحسبت عليه كالقياس

              على المجهول.



              وتأّمّلْ هذه النكتة فإنه يَضْعُفُ ثانياً إطلاق الاستعارة

              على هذا النحو أيضاً، لأن موضوع الاستعارة - كيف دارت القضيةُ -

              على التشبه، وإذا بانَ بما ذكرتُ أن هذا الجنس إذا فَلَيتَهُ عن سِرّه،

              ونقَّرتَ عن خبيئه، فمحصوله أنك تدّعي حدوثَ شيء هو من

              الجنس المذكور، إلا أنه اختُصَّ بصفة غريبة وخاصية بديعة،

              لم يكن يُتوهَّم جوازُها على ذلك الجنس، كأنك تقول:

              ما كنّا نعلم أن هاهنا بدراً هذه صفته كان تقدير التشبيه

              فيه نقضاً لهذا الغرض، لأنه لا معنى لقولك: أشبّهه ببدرٍ حَدَثٍ خلافِ

              البدور ما كان يُعرَف. وهذا موضع لطيف جدّاً لا تنتصف منه

              إلاّ باستعانة الطبع عليه، ولا يمكن توفيةُ الكشف فيه حقَّه بالعبارة،

              لدقَّة مسلكه. ويتصل به أن في الاستعارة الصحيحة ما لا يحسن

              دخول كَلِمِ التشبيه عليه، وذلك إذا قوي التشَّبَهُ بين الأصل والفرع،

              حتى يتمكن الفرعُ في النفس بمداخلة ذلك الأصل والاتحاد به،

              وكونِه إياه، وذلك في نحو النور إذا استعير للعلم والإيمان،

              والظلمة للكفر والجهل، فهذا النحو لتمكُّنه وقوَّةِ شَبهه ومَتانة سببه،

              قد صار كأنه حقيقة، ولا يحسن لذلك أن تقول في العلم كأنه نور،

              وفي الجهل كأنه ظلمة، ولا تكاد تقول للرجل في هذا الجنس كأنَّك

              قد أوقعتني في ظلمة بل تقول: أوقعتني في ظلمة، وكذلك الأكثرُ

              على الألسُن والأسبقُ إلى القلوب أن تقول: فهمت المسألة

              فانشرح صدري وحصل في قلبي نور، ولا تقول:

              كأنّ نُوراً حصل في قلبي، ولكن إذا تجاوزتَ هذا النوع إلى نحو قولك:

              سللتُ منه سيفاً على الأعداء، وجدتَ كأن حسنةً هناك كثيرةً، كقولك:

              بعثته إلى العدوّ فكأني سللت سيفاً وكذلك في نحو: زيدٌ أسد


              وكأن زيداً أسد، وهكذا يتدرج الحُكْمُ فيه، حتى كلَّما كان مكان

              الشَبَه بين الشيئين أخفى وأغمضَ وأبعدَ من العُرْف،

              كان الإتيان بكلمة التشبيه أبين وأحسنَ وأكثرَ في الاستعمال.




              ومما يجب أن تجعله على ذكر منك أبداً، وفيه البيان الشافي

              أنّ بين القسمين تبايُناً شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك

              رأيت أسداً وهو ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ

              يصلح في نحو زيد أسدٌ حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً،


              ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه، ولا يصلح في القسم

              الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه.


              ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام:لقسمين تبايُناً

              شديداً أعني بين قولك زيد أسد وقولك رأيت أسداً وهو

              ما قدّمته لك من أنك قد تجدُ الشيءَ يصلح في نحو زيد أسدٌ

              حيث تذكُرُ المشبَّه باسمه أَوّلاً، ثم تُجري اسم المشبَّه به عليه،

              ولا يصلح في القسم الآخر الذي لا تذر فيه المشبَّه أصلاً وتطْرحُه.



              ومن الأمثلة البيّنة في ذلك قولُ أبي تمام:

              وكَانَ المَطْلُ في بَدْءٍ وعَوْدٍ دُخاناً للصَّنِيعةِ وهي نـارُ


              قد شبَّه المطل بالدُّخان، والصنيعة بالنار، ولكنه صرّح بذكر المشبَّه

              ، وأوقع المشبَّه به خبراً عنه، وهو كلام مستقيم. ولو سلكت

              بهِ طريقةَ ما يسقط فيه ذكر المشبَّه فقلت مثلاً:

              أقْبَسْتَني ناراً لها دخان، كان ساقطاً، ولو قلت أقبستَني

              نوراً أضاء أُفُقي به، تريد علماً، كان حَسَناً، حُسْنَه إذا قلت

              عِلْمُك نور في أُفقي، والسبب في ذلك أنّ اطِّراحَ ذكر المشبَّه

              والاقتصارَ على اسم المشبَّه به، وتنزيلَهُ منزلته،

              وإعطاءَه الخلافة على المقصود، إنما يصحّ إذا تقرَّر الشَّبه

              بين المقصود وبين ما تستعير اسمه له، وتستبينه في الدِّلالة،

              وقد تَقرَّر في العُرف الشبه بين النور والعلم وظهرَ وَاشْتُهِر،

              كما تقرر الشَّبه بين المرأة والظبية، وبينَها وبينَ الشمس

              ولم يتقرر في العُرْف شَبَهٌ بين الصَّنيعة والنار، وإنما

              هو شيءٌ يضعه الآن أبو تمام ويتمحّله، ويعمل في تصويره،

              فلا بُدّ له من ذكر المشبَّه والمشبَّه به جميعاً حتى يُعقَلَ

              عنه ما يريده، ويَبِينَ الغرض الذي يقصده، وإلاّ كان بمنزلة

              من يريد في إعلام السامع أنّ عنده رجلاً هو مثل زيد في العلم



              مثلاً، فيقول له: عندي زيد، ويَسُومه أن يَعْقِل من

              كلامه أنه أراد أن يقول: عندي رجل مثل زيد، أو غيره من المعاني،

              وذلك تكليفُ علم الغيب. فاعرف هذا الأصل وتبيَّنْه،

              فإنك تزداد به بصيرةً في وجوب الفَرْق بين الضربين،

              وذلك أنهما لو كانا يَجْرِيان مجرىً واحداً في حقيقة الاستعارة،

              لوجب أن يَسْتَويَا في القضيّة، حتى إذا استقامَ وَضْعُ الاسم في

              أحدهما استقام وَضْعه في الآخر فاعرفه. فإن قلت فما

              تقول في نحو قولهم لقيتُ به أسداً ورأيت منه ليثاً.


              فإنه مما لا وجه لتسميته استعارةً، ألا تراهم قالوا:

              لئن لقيتُ فلاناً لَيلْقَيَنَّك منه الأسَدُ، فأتوا به معرفةً على

              حدِّه إذا قالوا: احذرِ الأسد، وقد جاء على هذه الطريقة

              ما لا يُتَصوَّر فيه التشبيه، فُظَنَّ أنّه استعارة، وهو قوله عز وجل:

              "لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ" "فصلت: 28"، والمعنى - واللَّه أعلم -

              أنّ النَّار هي دار الخلد، وأنت تعلم أن لا معنى هاهنا لأن

              يقال إن النار شُبّهت بدارِ الخلد، إذ ليس المعنى على تشبيه

              النَّار بشيء يسمَّى دار الخلد، كما تقول في زيد إنه مثل الأسد،

              ثم تقول: هو الأسد، وإنما هو كقولك: النار منزلهم ومسكنهم،

              نعوذ باللَّه منها. وكذا قوله:

              يَأبَى الظُلاَمَةَ مِنْهُ النَّوْفَلُ الزُّفَرُ


              المعنى على أنه النَّوفل الزُّفَر، وليس الزفر باسمٍ لجنسٍ غير

              جنس الممدوح كالأسد، فيقالَ إنه شبّه الممدوح به،

              وإنما هو صفة كقولك هو الشجاع وهو السيّد وهو

              النهَّاض بأعباء السيادة، وكذلك قولُه:

              يَا خَيْرَ مَن يَرْكَبُ المطيَّ وَلاَ يَشْرَبُ كأسَاً بكَفِّ مَن بَخِلا


              لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل، هذا

              وإنما يُتصوَّر الحكمُ على الاسم بالاستعارة، إذا جرى بوجهٍ

              على ما يُدَّعَى أنه مستعارٌ له، والاسمُ في قولك لقيتُ به أسداً

              أو لقيني منه أسداً، لا يُتصوَّر جَرْيه على المذكور بوجه،

              لأنه ليس بخبرٍ عنه، ولا صفةٍ له، ولا حالٍ، وإنما هو بنفسه

              مفعولُ لقيتُ وفاعل لقيني، ولو جاز أن يجري الاسم،

              هاهنا مجرى المستعارِ المتناوِل المستعارَ له،

              لوجب أن نقول في قوله:

              حتَّى إذا جَنَّ الظَّلامُ وَاخـتـلـطْ جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأَيتَ الذئبَ قَطّْ

              إنه استعار اسم الذئب للمَذْق، وذلك بَيِّنُ الفساد. وكذا نحو قوله:

              نُبِّئْتُ أنّ أبا قَابُوسَ أَوْعَـدَنـي ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ


              لا يكون استعارة، وإن كنت تجد من يفهم البيت قد يقول:

              أراد بالأسد النُّعمان، أو شبَّهه بالأسد، لأن ذلك بيانٌ للغَرَض،

              فأمَّا القضيةُ الصحيحةُ وما يَقَع في نفس العارف،

              ويوجِبُه نقد الصَّيْرَف، فإنّ الأسد واقع على حقيقته حتى كأنه قال:

              ولا قَرَار على زَأْر هذا الأسد، وأشار إلى الأسد خارجاً

              من عَرِينه مُهدِّداً مُوعداً بزئيره، وأيُّ وجْهٍ للشكِّ في ذلك،

              وهو يؤدّي إلى أن يكون الكلام على حدّ قولك:

              ولا قَرَار على زَأْرِ مَن هُو كالأسد? وفيه من العِيِّ والفَجَاجة

              شيءٌ غير قليل. هذا ومن حقّ غالطٍ غَلِطَ في نحو ما ذكرتُ

              - على قلَّة عُذْرِه - أن لا يغلط في قول الفرزدق:

              قِيَاماً يَنْظُرون إلى سَعيدٍ كأنَّهُمُ يَرَون به هلالاَ

              ولا يُتَوَهَّم أن هلالاً استعارة لسعيد، لأن الحكم على الاسم

              بالاستعارة مع وجود التشبيه الصريح، محالٌ جارٍ مجرى

              أن يكون كُلّ اسم دخل عليه كافُ التشبيه مستعاراً،

              وإذا لم يغلط في هذا فالباقي بمنزلته فاعرفه.
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #22
                رد: أسرار البلاغة

                فصل في الاتّفاق في الأَخْذ والسَّرقة والاستمداد والاستعانَة



                اعلم أنّ الشاعرين إذَا اتفقَا، لم يخلُ ذلك من أن يكون

                في الغَرَض على الجملة والعموم، أو في وجه الدلالة

                على ذلك الغَرض، والاشتراك في الغَرَض على العموم

                أن يقصد كلُّ واحد منهما وصفَ ممدوحه بالشجاعة والسخاء،

                أو حُسن الوجه والبهاء، أو وصفَ فرسه بالسرعة،

                أو ما جرى هذا المجرى.


                وأمّا وجه الدِّلاَلة على الغرض،

                فهو أن يَذْكر ما يُستدلّ به على إثباته له الشجاعةَ والسخاء مثلاً،

                وذلك ينقسم أقساماً:

                1- منها التشبيهُ بما يوجَد هذا الوصف فيه على

                الوجهِ البليغ والغاية البعيدةِ، كالتشبيه بالأسد،

                وبالبحر في البأس والجود،

                والبَدْر والشَّمسِ في الحسن والبهاء والإنارة والإشراق،

                2- ومنها ذكر هَيْئاتٍ تدلّ على الصِّفة من حيث

                كانت لا تكون إلا فيمن له الصِّفة،

                كوصف الرَّجل في حال الحرب بالابتسام

                وسكون الجوارح وقلَّة الفكر، كقوله:

                كأنّ دَنَانِيراً عَلى قَسماتِـهـم ** وإنْ كان قَدْ شفَّ الوُجُوهَ لِقاءُ


                وكذلك الجوادُ يوصف بالتَّهَلُّل عند وُرود العُفاة،

                والارتياح لرؤية المُجتَدين، والبخيلُ بالعبوس

                والقُطوب وقلّة البشر، مع سَعَة ذات اليد ومُساعدة الدهر.


                فأما الاتفاق في عموم الغَرض،

                فما لا يكون الاشتراك فيه داخلاً في الأَخذ والسرقة

                والاستمداد والاستعانة،

                لا ترى مَنْ به حِسٌّ يدَّعي ذلك،

                ويأبَى الحكمَ بأنه لا يدخل في باب الأخذ،

                وإنما يقع الغلط من بعض مَن لا يُحسن التحصيل،

                ولا يُنْعم التأمُّل، فيما يؤدِّي إلى ذلك،

                حتى يُدّعَى عليه في المُحَاجّة أنه بما قاله قد دخل في

                حكم من يجعل أحد الشاعرَين عِيالاً على الآخر في

                تصوُّر معنى الشجاعة، وأنّها مما يُمدَح به،

                وأن الجهل مما يُذَمُّ به، فأمّا أن يقوله صريحاً ويرتكبه قَصْداً فلا،

                وأمَّا الاتفاق في وجه الدِّلالة على الغرض،

                فيجب أنْ يُنظَر، فإن كان مما اشترك الناس في معرفته،

                وكان مستقرّاً في العقول والعادات، فإنَّ حُكْمَ ذلك،

                وإن كان خصوصاً في المعنى، حُكْمُ العموم الذي تقدَّم ذكره.


                من ذلك التشبيه بالأسد في الشجاعة، وبالبحر في السخاء،

                وبالبدر في النور والبهاء، وبالصبح في الظهور

                والجلاء ونَفْي الالتباسِ عنه والخفاء، وكذلك قياس

                الواحدِ في خَصْلة من الخِصال على المذكور بذلك

                والمشهورِ به والمشار إليه، سواءٌ كان ذلك ممن

                حضرك في زمانِك،

                أو كان ممن سَبق في الأزمنة الماضية والقرون الخالية،

                لأن هذا مما لا يُخْتَص بمعرفته قومٌ دون قوم،

                ولا يحتاج في العلم به إلى رَوِيّةٍ واستنباط وتدبُّر وتأمُّل،

                وإنما هو في حكم الغرائز المركوزَةِ في النفوس،

                والقضايا التي وُضع العلم بها في القلوب،

                وإن كان مما ينتهي إليه المُتَكلِّم بنظرٍ وتدبُّر،

                وَيَنَالُه بطلبٍ واجتهاد، ولم يكن كالأوّل في حضوره إياه،

                وكونه في حكم ما يقابله الذي لا معاناةَ عليه فيه،

                ولا حاجةً به إلى المحاولة والمزاولةِ والقياس

                والمباحثة والاستنباط والاستثارة،

                بل كان من دُونه حجابٌ يحتاج إلى خَرْقِه بالنظر،

                وعليه كِمٌّ يفتقر إلى شَقَّه بالتفكير، وكان دُرّاً في قَعر

                بحر لا بدّ لهُ من تكلُّف الغَوَص عليه ،

                وممتنعاً في شاهقٍ لا ينالُه إلاّ بتجشّم الصعود إليه

                وكامناً كالنار في الزَّند، لا يظهر حتى تقتدحه،

                ومُشابكاً لغيره كعُرُوق الذهب التي لا تُبدِي صَفْحتها بالهُوَيْنَا،

                بل تُنال بالحَفْرِ عنها وتعرِيقِ الجبين في طلب التمكن منها.


                نعم إذا كان هذا شأنُه،

                وهاهنا مكانه وبهذا الشرط يكون إمكانه،

                فهو الذي يجوز أن يُدَّعى فيه الاختصاصُ والسَّبق والتقدُّم والأوَّلية،

                وأن يُجعَل فيه سَلَفٌ وخَلَفٌ، ومُفيد ومستفيد،

                وأَن يُقضَى بين القائلَين فيه بالتفاضُل والتبايُن،

                وأنّ أحدَهما فيه أكملُ من الآخر، وأنّ الثاني زاد على

                الأوَّل أو نَقَص عنه، وترقَّى إلى غايةٍ أبعد من غايته،

                أو انحطّ إلى منزلةٍ هي دون منزلته.


                واعلم أن ذلك الأوّل الذي هو المشتَرك العاميّ،

                والظاهر الجليّ، والذي قلتُ إنّ التفاضلَ لا يدخله،

                والتفاوتَ لا يصحّ فيه، إنما يكون كذلك ما كان صريحاً

                ظاهراً لم تلحقه صنعة، وساذَجاً لم يُعمَل فيه نقش

                فأَمَّا إذا رُكِّب عليه معنًى، ووُصل به لطيفة،

                ودُخل إليه من باب الكناية والتعريض،

                والرَّمز والتلويح، فقد صار بماغَيّر من طريقته،

                واستُؤْنِف من صورته، واستُجدَّ له من المِعرَض،

                وكُسي من دَلّ التعرض، داخلاً في قبيل الخاصّ

                الذي يُتملَّك بالفكرة والتعمُّل، ويُتوصَّل إليه بالتدبُّر والتأمُّل،

                وذلك كقولهم، وهم يريدون التشبيه: سلبْن الظِّباء العيونَ،

                كقول بعض العَرَب:

                سَلَبْنَ ظباءَ ذي نَفَرٍ طُلاهـا ** ونُجْلَ الأَعيُن البَقَرَ الصِّوارا

                وكقوله:

                إنَّ السحابَ لَتَسْتَحيى إذا نَظَرت ** إلى نَداك فقاسته بما فِـيهـا

                وكقوله:

                لم تَلْقَ هذا الوَجْهَ شمسُ نهارنا ** إلاّ بوَجْهٍ لـيس فـيه حَـيَاء

                وَكقوله:

                وَاهتَزَّ في وَرَقِ النَّدَى فتحيَّرَتْ ** حَرَكاتُ غصْنِ البَانَة المُتـأوِّدِ

                وكقوله:

                فَأفْضيتُ من قُرْبٍ إلى ذِي مَهَابةٍ ** أُقابِلُ بَدْرَ الأُفْق حِين أقـابـلُـهْ

                إلى مُسْرفٍ في الجود لو أنّ حاتماً ** لَدَيْه لأَمْسَى حاتمٌ وهو عـاذِلُـهْ


                فهذا كله في أصله ومغزاه وحقيقة معناه تشبيهٌ،

                ولكن كَنَى لك عنه، وخُودِعتَ فيه،

                وأُتِيتَ به من طريق الخِلابة في مسلك السحر ومذهب التَّخييل،

                فصار لذلك غريبَ الشكل، بديع الفن، منيعَ الجانب،

                لا يدينُ لكل أحد،

                وأَبيَّ العِطْف لا يدين به إلاّ للمُروِّي المجتهد،

                وإذا حقّقت النظر، فالخصوصُ الذي تراه، والحالةُ التي تراها،

                تنفي الاشتراك وتأباه،

                إنما هُما من أجل أنهم جعلوا التشبيه مدلولاً عليه بأمرٍ

                آخرَ ليس هو من قبيل الظاهر المعروف، بل هو في

                حدِّ لحن القول والتعمية اللَّذَين يُتعمَّد فيهما إلى إخفاء

                المقصود حتى يصير المعلومُ اضطراراً،

                يُعرف امتحاناً واختياراً، كقوله:

                مررتُ بباب هِنْدَ فَكَلَّمَتْنِـي ** فلا واللَّه ما نَطَقَتْ بحَرْفِ


                فكما يوهمك بإتقان اللفظ أنه أراد الكلام،

                وأن الميم موصولة باللام، كذلك المشبِّه

                إذا قال سرقن الظباءَ العيونَ،

                فقد أوهم أن ثَمَّ سرقةً وأنّ العيون منقولةٌ إليها من الظباء،

                وإن كنت تعلم إذا نظرتَ أنّه يريد أن يقول

                إن عيونها كعيون الظباء في الحسن والهيئة وفَتْرةِ النظر،

                وكذلك يوهمك بقوله: إن السحاب لتسْتَحيى،

                أن السحاب حيٌّ يعرف ويعقل، وأنه يقيس فيضه

                بفيض كفّ الممدوح فَيَخْزَى ويخجَل.


                فالاحتفال والصَّنعة في التصويرات التي تروق الساميعن وتَرُوعهم،

                والتخييلات التي تهزُّ الممدوحين وتُحرّكهم،

                وتفعل فعلاً شبيهاً بما يقع في نفس النَّاظر إلى التصاوير

                التي يشكِّلها الحُذَّاق بالتَّخطيط والنقش، أو بالنَّحت والنقر،

                فكما أن تلك تُعجب وتَخْلب، وتَروقُ وتُؤْنِق،

                وتَدْخُل النفسَ من مشاهدتها حالةٌ غريبة لم تكن قَبْلِ رؤيتها،

                ويغشاها ضربٌ من الفتنة لا يُنكَر مكانه ولا يخفى شأنه.


                فقد عَرَفْت قضيَّة الأصنام وما عليه أصحابها من

                الافتتان بها والإعظام لها، كذلك حكم الشعر فيما

                يصنعه من الصُوَر، ويُشكّله من البِدَع،

                ويوقعه في النفوس من المعاني التي يُتوَّهم بها الجماد

                الصامتُ في صورة الحيّ الناطق، والمواتُ الأَخرس

                في قضية الفصيح المُعرب والمُبيّن المميِّز،

                والمعدومُ المفقود في حكم الموجود المشاهَد،

                كما قدَّمتُ القول عليه في باب التمثيل، حتى يكسب الدنيُّ رفعةً،

                والغامضُ القدرِ نباهةً، وعلى العكس يغضُّ

                من شرف الشريف، ويطأُ من قَدْرِ ذي العِزَّة المنيف،

                ويظلم الفضل ويَتَهضَّمُه، ويَخْدِش وجه الجمال ويَتَخَوَّنُه،

                ويُعطي الشبهةَ سُلطانَ الحجّة، ويردُّ الحجَّة إلى صيغة الشبهة،

                ويصنع من المادة الخسيسة بِدَعاً تغلو في القيمة وتعْلو،

                ويفعل من قلب الجواهر وتبديل الطبائع

                ما ترى به الكيمياء وقد صَحَّت، ودعوى الإكْسِير وقد وَضَحت،

                إلاّ أنها روحانية تتلبّس بالأوهام والأفهام،

                دون الأجسام والأجرام، و لذلك قال:

                يُرِي حِكْمةً ما فيه وَهْوَ فُكـاهةٌ ** ويَقْضِي بما يَقْضِي به وهو ظالمُ

                وقال:

                عَليمٌ بإبْدالِ الحروف وقامـعٌ ** لكلِّ خطيبٍ يَقْمَع الحقَّ باطلُهْ

                وقال ابن سُكّرة فأحسن:

                والشعر نارٌ بـلا دُخـانٍ ** وللقوافِي رُقىً لَطـيفـهْ

                لو هُجِيَ المِسْك وهْو أهلٌ ** لكل مدحٍ لصار جِيفَـهْ

                كَمْ من ثقيلِ المحلِّ سـامٍ ** هَوت به أحْرُفٌ خَفيفـهْ


                وقد عرفتَ ما كان من أمر القبيلة الَّذين كانوا

                يعيَّرون بأَنْف الناقة، حتى قال الحطيئة:

                قومٌ هُم الأَنْفُ والأذْنَابُ غيرُهُم ** ومَن يُسَوّي بأَنْف النَّاقة الذَّنَبا


                فنَفَى العار، وصحّح الافتخار، وجعل ما كان نَقْصاً وشَيْناً،

                فضلاً وزَيْناً، وما كان لقباً ونَبْزًا يسوءُ السمع،

                شَرَفاً وعزّاً يرفع الطرف، وما ذاك إلا بحسن الانتزاع،

                ولُطف القريحة الصَّناع،

                والذِّهن الناقد في دقائق الإحسان والإبداع،

                كما كساهم الجمالَ من حي كانوا عُرُوا منه،

                وأثبتهم في نِصَاب الفضل من حيث نُفُوا عنه،

                فَلرُبَّ أنفٍ سَليم قد وَضع الشعرُ عليه حَدَّه فجدَعَه،

                واسمٍ رفيع قَلَب معناه حتى حطّ به صاحبَه ووَضَعه،

                كما قال:

                يا حاجبَ الوزراء إنّك عندَهم ** سَعْدٌ ولكن أنتَ سَعْدُ الذابـحُ

                ومن العجيب في ذلك قول القائل في كثير بن أحمد:

                لَوْ عَلِمَ اللَّه فِـيه خَـيْراً ** ما قال لا خَيْرَ في كَثير


                فانظر من أي مدخل دخل عليه،

                وكيف بالهوينا هَدَى البلاءَ إليه?

                وكَثِير هذا هو الذي يقول فيه الصاحب:

                "ومِثْلُ كَثِير في الزَّمَان قَلِيلُ"

                فقد صار الاسم الواحد وسيلةً إلى الهَدْم والبناء،

                والمدح والهجاء، وذريعةً إلى التزيين والتهَجين.



                ومن عجيب ما اتفق في هذا الباب قولُ ابن المعتزّ في ذمّ القمر،

                واجتراؤُه بقدرة البيان على تقبيحه،

                وهو الأصْل والمثل وعليه الاعتماد والمعوَّل في تحسين كل حَسَن،

                وتزيين كلِّ مزيَّن، وأوَّلُ ما يقع في النفوس إذا أريد

                المبالغة في الوصف بالجمال، والبلوغُ فيه غايةَ الكمال،

                فيقال وجهٌ كأنه القمر، وكأَنه فِلْقَةُ قمر،

                ذلك لثقته بأنّ هذا القول إذا شَاء سَحَر، وقَلَبَ الصُورَ،

                وأنه لا يَهاب أن يخرق الإجماع،

                ويسحَر العقولَ ويَقْتَسر الطباع، وهو:

                يا سارقَ الأنوار من شَمْس الضُّحَى ** يا مُثْكِلي طيبَ الكَرَى ومُنَغِّصِـي

                أمّا ضياء الشمسِ فيك فنـاقـصٌ ** وأرَى حَرَارةَ نارِها لم تَنْـقُـصِ

                لم يَظْفَرِ التشبيهُ مـنـك بـطـائِل ** مُتسَلِّخٌ بَهَقـاً كـلَـوْنِ الأَبْـرصِ



                وقد عُلِم أنْ ليس في الدنيا مُثْلَة أخزَى وأشنعُ،

                ونكالٌ أبلغ وأفظع،

                ومَنْظرٌ أحق بأن يملأ النفوس إنكاراً،

                ويُزْعج القلوبَ استفظاعاً له واستنكاراً،

                ويُغْري الألسنةَ بالاستعاذة من سُوء القضاء،

                ودَرَكِ الشقاء، من أن يُصلَب المقتول ويشبَّح في الجِذع،

                ثم قَدْ تَرَى مَرثيةَ أبي الحسن الأنباري لابن بقيّة حين صُلب،

                وما صَنَع فيها من السّحر،

                حتى قَلَبَ جُملةَ ما يُستنكر من أحوال المصلوب إلى خِلافها،

                وتأَوّلَ فيها تأويلات أراك فيها وبها ما تقضي منْه العجَب:

                عُلوٌّ في الحياةِ وفي المـمـاتِ ** بحَقٍّ أَنت إحدى المعـجـزاتِ

                كأنّ الناسَ حَوْلَك حينَ قـامـوا ** وُفودُ نـداك أيّامَ الـصِّـلاتِ

                كأنك قائمٌ فـيهـم خـطـيبـاً ** وكلُّـهُـمُ قـيامٌ لـلـصَّـلاةِ

                مددتَ يَدَيْك نحوهُمُ احـتـفـاءً ** كمدِّهما إليهـم بِـالـهِـبَـاتِ

                ولما ضاق بطنُ الأرض عن أنْ ** يَضُمَّ عُلاكَ من بعد المـمـاتِ

                أصَاروا الجوَّ قبرَك واستَنَابُـوا ** عن الأكفانِ ثوبَ السَّـافـياتِ

                لعُظْمك في النفوس تبيتُ تُرعَى ** بحُـرَّاس وحُـفَّـاظٍ ِثِـقـاتِ

                وتُشعَلُ عندك الـنـيرانُ لـيلاً ** كذلـك كـنـتَ أيامَ الـحـياةِ

                ركبتَ مَطِيَّة، مـن قَـبـلُ زيدٌ ** عَلاَها في السِّنين الماضـياتِ

                وتلك فـضـيلةٌ فـيهـا تَـأسّ ** تُباعد عنك تَـعـييرَ الـعُـداةِ

                أسأتَ إلى الحوادث فاستثـارت ** فأنت قتيلُ ثَـأْرِ الـنـائبـاتِ

                ولَوْ أنّي قَدَرتُ على قِـيامـي ** بفَرْضك والحقوق الواجبـاتِ

                مَلأْتُ الأَرض من نَظْم القوافي ** ونُحْتُ بها خِلال الـنـائحـاتِ

                ولكنّي أُصَبِّر عنك نـفـسـي ** مخافةَ أن أُعَدَّ من الـجُـنَـاةِ

                وما لك تُرْبةٌ فأقول تُـسْـقَـى ** لأنّك نُصْبُ هَطْلِ الهاطـلات

                عليك تحيّةُ الرَّحمـن تَـتْـرَى ** برَحْـمَـاتٍ غـوادٍ رائحـاتِ



                ومما هو من هذا الباب، إلاّ أنه مع ذلك احتجاج عَقْلي صحيح، قولُ المتنبي:

                وَمَا التأنيثُ لاسم الشمسِ عَيْبٌ ** ولا التذكيرُ فخرٌ للـهـلال


                فحقّ هذا أن يكون عنوانَ هذا الجنس، وفي صدر صحيفته،

                وطِرازًا لديباجته، لأنه دفعٌ لنقص، وإبطالٌ له،

                من حيث يَشْهَدُ العقل للحجّة التي نطق بها بالصّحة،

                وذلك أن الصِّفات الشريفةَ شريفةٌ بأنفُسها،

                وليس شرفُها من حيث الموصوف،

                وكيف والأوصاف سبب التفاضُل بين الموصوفات،

                فكان الموصوفُ شريفاً أوغيرَ شريف من حيث الصفة،

                ولم تكن الصفة شريفةً أو خسيسةً من حيث الموصوف،

                وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يعترض على الصفات الشريفة

                بشيءٍ إن كان نقصاً، فهو في خارج منها،

                وفيما لا يرجع إليها أنفُسِها ولا حقيقتها،

                وذلك الخارج هاهنا هو كون الشخص على صورةٍ دون صورة،

                وإذا كان كذلك، كان الأمر: مقدارُ ضَرَر التأنيث إذا وُجد في

                الخلقة على الأوصاف الشريفة،

                مقدارُه إذا وُجد في الاسم الموضوع للشيء الشريف،

                لأنه في أَنْ لا تأثير له من طريق العقل في تلك الأوصاف في الحالين

                على صورة واحدة، لأن الفضائل التي بها فُضِّل الرجل على المرأة،

                لم تكن فضائلَ لأنها قارنت صورة التذكير وخِلْقته،

                ولا أوجبت ما أوجبت من التعظيم لاقترانها بهذه الخلقة دون تلك،

                بل إنماأوجبته لأنفُسِها ومن حيث هي،

                كما أنّ الشيء لم يكن شريفاً أو غير شريف من حيث أُنِّث اسمُه أو ذُكِّر،

                بل يثبُت الشرفُ وغيرُ الشرف للمسمَّيات من حيث أنفُسُها وأوصافُها،

                لا من حيث أسماؤها، لاستحالة أن يتعدَّى من لفظٍ، هو صوتٌ مسموع،

                نقصٌ أو فضلٌ إلى ما جُعل علامةً له فاعرفه.



                واعلم أن هذا هو الصحيح في تفسير هذا البيت،

                والطريقة المستقيمة في الموازنة بين تأنيث الخِلقة وتأنيث الاسم،

                لا أن يقال إنّ المعنى أن المرأة إذا كانت في كمال الرجل

                من حيث العقل والفضل وسائر الخلال الممدوحة،

                كانت من حيث المعنى رجلاً، وإن عُدَّت في الظاهر امرأةً،

                لأجل أنه يفسُد من وجهين: أحدهما أنه قال ولا التذكير فخر للهلال،

                ومعلومٌ أنه لا يريد أن يقول إن الهلال وإن ذكِّر في لفظه

                فهو مؤنَّث في المعنى، لفساد ذلك، ولأجل أنه إن كان يريد

                أن يضربَ تأنيث اسم الشمس مثلاً لتأنيث المرأة،

                على معنى أنها في المعنى رجلٌ، وأن يُثبت لها تذكيراً،

                فأيُّ معنىً لأن يعود فَيُنْحِيَ على التذكير،

                ويُغضَّ منه ويقول ليس هو بفخر للهلال هذا بَيِّن التناقض
                .
                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #23
                  رد: أسرار البلاغة

                  فصل في حَدّي الحقيقة والمجاز


                  واعلم أن حدَّ كل واحد من وصفى المجاز والحقيقة إذا كان

                  الموصوف به المفرد، غيرُ حدّه إذا كان الموصوف به الجملة،

                  وأنا أبدأ بحدّهما في المفرد،

                  كلُّ كلمة أريد بها ما وقعتْ له في وَضّْع واضع،

                  وإن شئت قلت: في مُواضعة، وقوعاً لا تستند فيه إلى غيره فهي حقيقة،

                  وهذه عبارةٌ تنتظم الوضعَ الأوّل وما تأخَّر عنه،

                  كلُغةٍ تحدث في قبيلة من العرب، أو في جميع العرب،

                  أو في جميع الناسَ مثلاً، أو تحدُثُ اليوم ويدخل فيها الأعلام

                  منقولة كانت كزيد وعمرو،

                  أو مرتجلَةً كغَطفان وكلِّ كلمة استُؤْنِف لها على الجملة مواضعةٌ،

                  أو ادُّعِيَ الاستئناف فيها. وإنما اشترطتُ هذا كلَّه،

                  لأنّ وصف اللَّفظة بأنها حقيقة أو مجازٌ،

                  حُكمٌ فيها من حيث إنّ لها دِلالةً على الجملة،

                  لا من حيث هي عربية أو فارسية، أو سابقة في الوضع،

                  أو مُحدَثة، مولَّدة، فمن حقّ الحدِّ أن يكون بحيث يجري

                  في جميع الألفاظ الدالَّةِ، ونظيرُ هذا نظيرُ أن تضع حدّاً للاسم والصفة،

                  في أنك تضعه بحيث لو اعتبرتَ به لغةً غير لغة العرب،

                  وجدته يجري فيها جَرَيانه في العربية،

                  لأنك تَحُدُّ من جهةٍ لا اختصاصَ لها بلُغةٍ دون لغة،

                  ألا تَرَى أن حدَّك الخبر بأنه ما احتمل الصدق والكذب مما

                  لا يخُصُّ لساناً دون لسان؛ ونظائر ذلك كثيرةٌ،

                  وهو أحدُ ما غَفَل عنه الناس، ودخل عليهم اللبس فيه،

                  حتى ظنُّوا أنه ليس لهذا العلم قوانينُ عقليةٌ،

                  وأنَّ مسائلَه مُشبَّهة باللغة، في كونها اصطلاحاً يُتوهَّم عليه النقل ،

                  والتبديل، ولقد فَحُش غلَطُهم فيه، وليس هذا موضعُ القولِ في ذلك.


                  وإن أردت أن تمتحن هذا الحدَّ، فانظر إلى قولك الأسد،

                  تريد به السَّبُعَ، فإنك تراه يؤدِّي جميعَ شرائطه،

                  لأنَّك قد أردت به ما تَعلم أنّه وقع له في وضع واضع اللغة،

                  وكذلك تعلم أنه غير مستند في هذا الوقوع إلى شيء غير السَّبُعِ،

                  أي: لا يحتاج أن يُتصوَّر له أصلٌ أدّاه إلى السبع من أجل

                  التباسِ بينهما وملاحظة، وهذا الحكمُ إذا كانت الكلمة حادثةً،

                  ولو وُضعت اليوم،متى كان وضعُها كذلك، وكذلك الأعلام،

                  وذلك أنّي قلت ما وقعتْ له في وضع واضعٍ أو مواضعةٍ على التنكير،

                  ولم أقل في وَضْع الواضع الذي ابتدأَ اللغة، أو في المواضعة اللغوية،

                  فيُتَوهَّمَ أن الأعلام أو غيرهما مما تأخّر وَضْعُه

                  عن أصل اللغة يخرج عنه، ومعلومٌ أن الرجل يُواضع قومَه في اسم ابنه،

                  فإذا سمّاه زيداً، فحاله الآن فيه كحال واضع اللغة

                  حين جعله مصدراً لزاد يزيدُ، وسَبْقُ وَاضع اللغة له

                  في وضعه للمصدر المعلوم، لا يقدَحُ في اعتبارنا،

                  لأنه يقع عند تسميته به ابنه وقوعاً باتّاً،

                  ولا تستند حاله هذه إلى السابق من حاله بوجه من الوجوه،

                  وأمّا المجاز فكلُّ كلمة أريد بها غيرُ ماوقت له في وَضْع واضعها،

                  لملاحظةٍ بين الثاني والأوّل، فهي مجاز وإن شئت قلت:

                  كلُّ كلمة جُزْتَ بها ما وقعتْ به في وَضْع الواضع إلى ما لم توضع له،

                  من غير أن تستأنف فيها وضعاً، لملاحظةٍ بين ما تُجُوّز بها إليه،

                  وبين أصلها الذي وُضعتْ له فيوضع واضعها، فهي مجاز.


                  ومعنى الملاحظة هو أنها تستند في الجملة إلى غير

                  هذا الذي تريده بها الآن، إلا أنّ هذا الاستنادَ يَقْوَى ويَضْعُف،

                  بَيَانُه ما مضى من أنّك إذا قلت: رأيت أسداً،

                  تريد رجلاً شبيهاً بالأسد،

                  لم يشتبه عليك الأمر في حاجة الثاني إلى الأوّل،

                  إذ لا يُتصَوَّر أن يقع الأسدُ للرجل على هذا المعنى الذي أردته على

                  التشبيه على حدّ المبالغة، وإيهامِ أنّ معنى من الأسدحصل فيه إلا

                  بعدأن تجعل كونَهُ اسماً للسبع إزاء عينيك، فهذا إسنادٌ تعلمه ضرورةً،

                  ولو حاولتَ دَفْعَه عن وَهْمك حاولت محالاً،

                  فمتى عُقِل فرعٌ من غير أصل، ومشبَّهٌ من غير مشبَّه به?

                  وكلُّ ما طريقه التشبيه فهذا سبيله أعني:

                  كل اسم جرى على الشيء للاستعارة، فالاستناد فيه قائمٌ ضرورةً.


                  وأما ما عَدا ذلك، فلا يَقْوَى استنادُه هذه القوةَ،

                  حتى لو حاول محاولٌ أن ينكره أمكنه في ظاهر الحال،

                  ولم يلزمه به خروجٌ إلى المحال، وذلك كاليد للنعمة لو

                  تكلَّفَ متكلّفٌ فزعم أنه وضعٌ مستأنَفٌ أو في حُكم لغةٍ مفردٍةٍ،

                  لم يمكن دفعُه إلاً برفقٍ وباعتبارٍ خفيٍّ،

                  وهو ما قدّمتُ من أنّا رأيناهم لا يوقعُون هذه اللفظة على

                  ما ليس بينه وبين هذه الجارحة التباسٌ واختصاصٌ.


                  ودليل آخر وهو أن اليد لا تكاد تقع للنعمة إلا وفي الكلام إشارةُ

                  إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها،

                  ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم

                  أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد،

                  ولا تقول اتّسعت اليد في البلد، وتقول: أَقتَني نعمةً،

                  ولا تقول اقتني يداً، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال:

                  جلَّت يدُه عندي، وكُثرت أياديه لدَيَّ، فتعلم أن الأصل صنائعُ يده

                  وفوائدُه الصادرةُ عن يده وآثارِ يده، ومحالٌ أن تكون اليد

                  اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق، ثم لا تقع موقع النعمة،

                  لو جاز ذلك، لجاز أن يكون المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى،

                  واضعاً اسمَها من تلك اللغة في مواضعَ لا تقع النعمة

                  فيها من لغة العرب، وذلك محالٌ. ونظير هذا قولهم في صفة

                  راعي الإبل إّن له عليه إصبْعاً، أي أثراً َحسَناً،

                  وأنشدوا:كلام إشارةُ إلى مَصْدَر تلك النعمة، وإلى المُولِي، لها،

                  ولا تصلح حيث تراد النعمة مجرَّدةً من إضافةٍ لها إلى المُنعِم

                  أو تلويحٌ به. بيان ذلك أنك تقول اتسعت النعمةُ في البلد،

                  ولا تقول اتّسعت اليد في البلد، وتقول: أَقتَني نعمةً،

                  ولا تقول اقتني يداً، وأمثال ذلك تكثر إذا تأمّلت وإنما يقال:

                  جلَّت يدُه عندي، وكُثرت أياديه لدَيَّ، فتعلم أن الأصل

                  صنائعُ يده وفوائدُه الصادرةُ عن يده وآثارِ يده،

                  ومحالٌ أن تكون اليد اسماً للنعمة هكذا على الإطلاق،

                  ثم لا تقع موقع النعمة، لو جاز ذلك، لجاز أن يكون

                  المترجم للنعمة باسم لها في لغة أخرى، واضعاً اسمَها

                  من تلك اللغة في مواضعَ لا تقع النعمة فيها من لغة العرب،

                  وذلك محالٌ. ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل إّن له عليه إصبْعاً،

                  أي أثراً َحسَناً، وأنشدوا:

                  ضَعِيفُ العَصَا بادي العروقِ ترى له ** عليها إذا ما أجدبَ الناسُ إصبَـعَـا


                  وأنشد شَيخنا رحمه اللَّه مع هذا البيت قولَ الآخر:

                  "صُلْبُ العَصا بالضَّرب قد دَمَّاها"

                  أي جعلها كالدُّمَى في الحُسن، وكأن قولَهُ صُلْب العَصا،

                  وإن كان ضِدَّ قول الآخر ضَعيفُ العَصا،

                  فإنهما يرجعان إلى غرض واحد، وهوحُسن الرِّعْية،

                  والعملُ بما يُصلحها ويحسُنُ أثره عليها،

                  فأراد الأول بجعله ضَعيف العصا أنه رفيقٌ بها مُشفقٌ عليها،

                  لا يقصِد من حمل العصا أن يُوجعَها بالضرب من غير فائدة،

                  فهو يتخيَّر ما لانَ من العِصيّ، وأراد الثاني أنه جيّد الضَّبط لها

                  عارفٌ بسياستها في الرَّعي، ويزجُرها عن المراعي التي لا تُحمَد،

                  ويتوخَّى بها ما تسمَنُ عليه، ويتضمّن أيضاً أنه يمنعها

                  عن التشرُّد والتبدُّد وأنها، لِمَاعَرَفت من شدّة شكيمته وقوة عزيمته،

                  وتنساق وتَستوسق في الجهة التي يريدها،

                  من غير أن يجدّد لها في كل حال ضرباً، وقال آخر:

                  "صُلْبُ العَصَا جَافٍ عن التَّغَزُّلِ" فهذا لم يبيّن ما بيّنه الآخر

                  وأعود إلى الغرض فأنت الآن لا تشكُّ أن الإصبع مشارٌ بها

                  إلى إصبع اليد، وأن وقوعها بمعنى الأثر الحسن،

                  ليس على أنه وضعٌ مستأنَفٌ في إحدى اللغتين،

                  ألا تراهم لا يقولون رأيت أصَابع الدار، بمعنى آثارَ الدار،

                  وله إصبع حسنة، وإصبع قبيحة، على معنى أَثرٍ حسن وأَثرٍ قبيح ونحو ذلك،

                  وإنّما أرادوا أن يقولوا له عليها أِثَرُ حذْقٍ، فدلُّوا عليه بالإصبع،

                  لأن الأْعمال الدقيقة له اختصاص بالأصابع،

                  وما من حِذْقٍ في عمل يَدٍ إلا وهو مستفاد من حسن تصريف الأصابع،

                  واللُّطْف في رفعها ووضعها، كما تعلم في الخطّ

                  والنقش وكُلِّ عمل دقيق،

                  وعلى ذلك قالوا في تفسير قوله عزَّ وجلّ:

                  "بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوّيَ بَنَانَهُ" "القيامة: 4"،

                  أي نجعلَها كخُفِّ البعير فلا تتمكّن من الأعمال اللَّطيفة.



                  فكما علمتَ ملاحظةَ الإصبع لأصلها،

                  وامتناعَ أن تكون مستأنفةً بأنك رأيتها لا يصحُّ استعمالها

                  حيث يراد الأثر على الإطلاق، ولا يُقصد الإشارة إلى حِذْق في الصنعة،

                  وأن يُجعل أَثر الإصبع إصبعاً كذلك ينبغي أن تعلم

                  ذلك في اليد لقيام هذه العلّة فيها، أعني أن لم يُجْعَل أثرُ اليد يداً،

                  لم تقع للنعمة مجرَّدةً من هذه الإشارات،

                  وحيثُ لا يُتَصوَّر ذلك كقولنا أقتني نعمة فاعرفه.



                  ويُشبه هذا في أن عُبَّر عن أثر اليد والإصبع باسمهما،

                  وضعُهم الخاتَم موضع الخَتْم كقولهم عليه خاتمُ الملك،

                  وعليه طابَعٌ من الكرم، والمحصول أثَر الخاتَم والطابَع،

                  قال:

                  وقُلْنَ حَرَامٌ قد أُخِلَّ بربِّنـا**وتُتْرَكُ أمْوالٌ عليها الخواتِمُ

                  وكذا قولُ الآخر:

                  إذا قُضَّت خَواتِمُها وفُكَّت** يقال لها دمُ الوَدَجِ الذبيحُ


                  وأما تقدير الشيخ أبو عليٍّ في هذين البيتين حَذْفَ المضاف،

                  وتأويلُه على معنى وتترك أموالٌ عليها نقشُ الخواتم،

                  وإذا فُضَّ خَتْمُ خواتمها، فبيانٌ لما يقتضيه الكلام من أصله،

                  دون أن يكون الأمر على خلاف ما ذكرتُ من جعلِ أثر الخاتم خاتَماً،

                  وأنت إذا نظرت إلى الشعر من جهته الخاصّة به،

                  وذُقته بالحاسّة المهيَّأة لمعرفة طَعْمه،

                  لم تشكَّ في أن الأمر على ما أشرتُ لك إليه ويدلّ على

                  أن المضاف قد وقع في المَنسَأة، وصار كالشَّريعة المنسوخة،

                  تأنيُث الفعل في قوله إذا فَضَّتْ خواتمها، ولو كان حكمه باقياً

                  لذكَّرت الفعل كما تُذكّره مع الإظهار، ولاستقصاء هذا موضع آخر.



                  وينظُر إلى هذا المكان قولهم: ضربتُه سوطاً، لأنهم عَبَّروا

                  عن الضربة التي هي واقعة بالسَّوط باسمه،

                  وجعلوا أثر السَّوط سوطاً، وتعلم على ذلك أن تفسيرهم له

                  بقولهم إن المعنى ضربته ضربةً بسوطٍ، بيانٌ لما كان

                  عليه الكلام في أصله، وأنّ ذلك قد نُسي ونُسخ،

                  وجُعل كأن لم يَكُن فاعرفه. وأمَّا إذا أريد باليد القدرة،

                  فهي إذَنْ أحَنُّ إلى موضعها الذي بُدئت منه، وأَصَبُّ بأصلها،

                  لأنك لا تكاد تجدها تُراد معها القدرةُ، إلا والكلام مَثَلٌ صريحٌ،

                  ومعنى القدرة منتزع من اليد مع غيرها، أو هناك تلويحٌ بالمَثَل.



                  فمن الصريح قولهم: فلان طويلُ اليَد، يراد: فَضْلُ القُدْرة،

                  فأنت لو وضعتَ القدرة هاهنا في موضع اليد أحَلْتَ،

                  كما أنك لو حاولت في قول النبي صلى الله عليه وسلم

                  وقد قالت له نساؤه صلى الله عليه وسلم:

                  أَيَّتُّهَا أسرعُ لحاقاً بك يا رسول اللَّه? فقال:

                  "أَطْوَلكُنَّ يداً"، يريد السخاءَ والجُود وبَسْط اليَدِ بالبَذْل

                  أن تضع موضع اليد شيئاً مما أريد بهذا الكلام،

                  خرجتَ من المعقول، وذلك أن الشَّبه مأخوذٌ من مجموع

                  الطويلِ واليَدِ مضافاً ذاك إلى هذه، فطلبُه من اليد وحدها طلبُ

                  الشيء على غير وجهه، ومن الظاهر في كون الشبه مأخوذاً

                  ما بين اليد، وغيرها قوله تعالى:

                  "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولهِ"

                  "الحجرات:1"، المعنى على أنهم أُمِروا باتِّباع الأمر،

                  فلما كان المتقدِّم بين يدي الرَّجُل خارجاً عن صفة المتابع له،

                  ضَرَب جملة هذا الكلام مَثَلاً للاتباع في الأمر،

                  فصار النَّهي عن التقدُّم متعلّقاً باليد نهياً عن تَرْكِ الاتباع،

                  فهذا مما لا يخفي على ذي عقل أنه لا تكون فيه

                  اليد بانفرادها عبارة عن شيء، كما قد يُتوهَّم أنها عبارة

                  عن النعمة ومتناولةٌ لها، كالوضع المسْتأنَف،

                  حتى كأنْ لم تكن قَطُّ اسم جارحة.


                  وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم:

                  "المؤمنون تَتَكافأُ دِماؤُهم، ويَسْعَى بذِمَّتهم أَدناهم،

                  وهم يدٌ على من سواهم"،

                  المعنى وإن كان على قولك وهُم عونٌ على من سواهم،

                  فلا تقول إن اليد بمعنى العون حقيقةٌ، بل المعنى أن مَثَلَهم

                  مع كثرتهم في وجوب الاتِّفاق بينهم، مَثَلُ اليد الواحدة فكما

                  لا يُتصوَّر أن يخذل بعضُ أجزاء اليد بعضاً،

                  وأن تختلف بها الجهة في التصرف، كذلك سبيل المؤمنين

                  في تعاضُدهم على المشركين، لأن كلمةَ التوحيد جامعةٌ لهم،

                  فلذلك كانوا كنفس واحدة، فهذا كله مما يعترف لك كل أحد فيه،

                  بأنّ اليد على انفرادها لا تقع على شيء،

                  فيُتوهَّمُ لها نقلٌ من معنى إلى معنى على حدّ وضع الاسم واستئنافه.



                  فأمَّا ما تكون اليد فيه للقدرة على سبيل التلويح بالمثَل دون التصريح،

                  حتى ترى كثيراً من الناس يُطلق القول إنها بمعنى

                  القدرة ويُجريها مَجرَى اللفظ يقع لمعنيين، فكقوله تعالى:

                  "وَالسَّمَوَاتُ مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ" "الزمر: 67"،

                  تراهم يُطلقون اليمين بمعنى القدرة،

                  ويصِلون إليه قولَ الشمّاخ:

                  إذَا مَا رَايةٌ رُفِعَتْ لمَجْدٍ** تَلَقَّاهَا عَرابةُ باليمـينِ


                  كما فعل أبو العباس في الكامل، فإنه أنشد البيت ثم قال:

                  قال أصحاب المعاني معناه بالقوة، وقالُوا مِثْل ذلك في قوله تعالى:

                  "وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه"، وهذا منهم تفسيرٌ على الجملة،

                  وقصدٌ إلى نَفْي الجارحة بسرعةٍ، خوفاً على السامع

                  من خَطَراتٍ تقع للجُهَّال وأهلِ التشبيه جلّ اللَّه وتعالى

                  عن شبه المخلوقين ولم يقصدوا إلى بيان الطريقة

                  والجهة التي منها يُحصَل على القُدرة والقوة،

                  وإذا تأمّلت علمت أنه على طريقة المَثَلَ،

                  وكما أنّا نعلم في صَدْر هذه الآية وهو قوله عز وجل:

                  "وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَة" "الزمر: 67"،

                  أن محصول المعنى على القدرة،

                  ثم لا نستجيز أن نجعل القبضةَ اسماً للقدرة،

                  بل نَصير إلى القدرة من طريق التأويل والمَثَل،

                  فنقول إنّ المعنى واللَّه أعلم أن مَثَل الأرض في تصرُّفها

                  تحت أمر اللَّه وقدرته، وأنه لا يشذّ شيءٌ مما فيها من سلطانه عزّ وجلّ،

                  مَثَلُ الشيء يكون في قبضة الآخذِ له مِنّاً والجامع يده عليه،

                  كذلك حقُّنا أن نسلك بقوله تعالى: "مَطْويَّاتٌ بِيَمِينِهِ"

                  هذا المسلَك، فكأنّ المعنى - واللَّه أعلم -

                  أنه عزّ وجلّ يخلق فيها صفةَ الطيّ حتى تُرَى كالكتاب

                  المطويِّ بيمين الواحد منكم، وخصَّ اليمين لتكون

                  أعلى وأفخمَ للمثل، وإذا كنت تقول الأمرُ كُلُّه للَّه،

                  فتعلم أنه على سبيل أنْ لا سلطان لأحد دونه ولا استبداد

                  وكذلك إذا قلت للمخلوق الأمر بيدك، أردت المَثَل،

                  وأنَّ الأمر كالشيء يَحصُل في يده من حيث لا يمتنع عليه،

                  فما معنى التوقُّف في أن اليمين مَثَلٌ، وليست باسم للقُدْرة،

                  وكاللغة المستأنَفة، ومن أين يُتصوَّر ذلك وأنت لا تراها

                  تصلُح حيث لا وجه للمَثَل والتشبيه فلا يقال: هو عظيم اليمين،

                  بمعنى عَظِيم القدرة، وقد عرفتُ يمينَك على هذا

                  كما تقول عرفتُ قدرتك. وهكذا شأن البَيْت،

                  إذا أحسنت النَّظر وجدتَه إذا لم تأخذه من طريق المثل،

                  ولم تأخذ المعنى من مجموع التلقّي واليمين على

                  حدّ قولهم تقبَّلته بكلتا اليدين، وكقوله:

                  ولكن باليَدَيْنِ ضَمَانَـتَـي** ومَلَّ بفَلْجٍ فالقنافِذ عُوَّدي

                  وقبل هذا البيت:

                  لَعَمْرُكَ مَا مَلَّت ثَواءَ ثَوِيِّهـا** حَلِيمَةُ إذْ ألقَى مَراسِيَ مُقْعَدِ


                  وهو يشكوك إلى طبع الشعر، ورأيت المعنى يتألَّم وَيَتظلَّم،

                  وإن أردت أن تختبرَ ذلك فقل:

                  إذا ما رايةٌ رُفعت لمجد** تلقَّاها عَرابةُ باقتـدارِ


                  ثم انظر، هل تَجِدُ ما كنت تجد، إن كنت ممَّن يعرف طعمَ الشعر،

                  ويُفَرِّق بين التَّفِه الذي لا يكون له طعمٌ وبين الحلو اللذيذ.


                  وممّا يبيَّن ذلك من جهة العبارة:

                  أنّ الشعر كما تعلم لمدحِ الرَّجل بالجود والسخاء،

                  لأنه سألَ الشمّاخَ عمَّا أَقدَمه؛ فقال: جئتُ لأمْتار،

                  فأوْقَرَ راحله تمراً وأتْحفه بغير ذلك، وإذا كان كذلك،

                  كان المجدُ الذي تطاوَل له ومدَّ إليه يده،

                  من المجد الذي أراده أبو تمام بقوله:

                  تَوَجَّعُ أَن رأَتْ جِسْمي نحيفاً** كأنَّ المَجْدَ يُدرَكُ بالصِّراعِ


                  ولو كان في ذكرالبأس والبطش وحيث تراد القوة والشدة،

                  لكان حَمْلُ اليمين على صريح القُوّة أشبه،

                  وبأن يقع منه في القلب معنىً يتماسَكُ أجدر،

                  فإن قال أراد تلقّاها بجدّ وقوّةِ رغبةٍ،

                  قيل فينبغي أن يضع اليمين في مثل هذه المواضع،

                  ومن التزم ذَلك فالسكوت عنه أحسن،

                  وما زال الناسُ يقولون للرجل إذا أرادوا حثَّه على الأمر،

                  وأَن يأخذ فيه بالجِدّ أخرج يدك اليُمْنَى وذاك أنها أشرف اليدين وأقواهما،

                  والتي لا غناء للأخرى دونها،

                  فلا عُني إنسان بشيء إلا بدأ بيمينه فهيّأها لنَيْله،

                  ومتى ما قصدوا جعل الشيء في جهة العناية،

                  جعلوه في اليد اليمنى،

                  وعلى ذلك قول البحتري:

                  وإنَّ يدي وَقَد أسْنَدتَ أمري** إليه اليومَ في يَدِك اليمينِ


                  إليه يعني إلى يونس بن بُغا، وكان حَظِيّاً عند الممدوح،

                  وهو المعتز باللهَ، ولو أن قائلاً قَال:

                  إذَا ما رايةٌ رُفعت لمَجـدٍ** ومَكْرُمةٍ مددتُ لها اليَمِينا

                  لم تره عادلاً باليمين عن الموضع الذي وَضَعها الشمّاخ فيه،

                  ولو أن هذا التأويل منهم كان في قول سُلَيْمان بن قَتّة العَدَوِيّ:

                  بَنَي تَيْم بـن مُـرَّةَ إنّ ربّـي ** كَفَاني أمْرَكم وكَفاكُمُـونـي

                  فَحَيُّوا ما بَداَ لـكُـمُ فـإنِّـي** شديدُ الفَرْسِ للضَغِنِ الَحَرُونِ

                  يُعاني فَقْـدَكُـم أَسَـدٌ مُـدِلٌّ ** شديدُ الأسر يَضْبِثُ باليمـينِ


                  لكان أعذرَ فيه، لأن المدح مدحٌ بالقوة والشدة،

                  وعلى ذلك فإنّ اعتبار الأصل الذي قدّمتُ،

                  وهو أنك لا ترى اليمين حيث لا معنى لليد،

                  يقف بنا على الظاهر، كأنه قال إذا ضَبَث ضَبَثَ باليمين،

                  ومما يبيِّن موضوعَ بيت الشمّاخ، إذا اعتبرتَ به،

                  قولُ الخنساء:

                  إذَا القومُ مَـدُّوا بـأَيْديهـمُ ** إلى المَجْـد مَـدَّ إلـيه يَدَا

                  فنالَ الـذي فَـوْق أَيْديهـم ** من المجد ثم مَضى مُصعِدَا


                  إذا رجعت إلى نفسك، لم تجد فرقاً بين أن يمُدَّ إلى المجد يداً،

                  وبين أن يتلقَّى رايته باليمين،

                  وهذا إن أردت الحقَّ أبينُ من أن تحتاج فيه إلى فَضْلِ قَوْلٍ،

                  إلاّ أنّ هذا الضرب من الغلط، كالداء الدَّوِيّ،

                  حقُّه أن يُستقصَى في الكيِّ عليه والعلاج منه،

                  فجنايتَه على معاني ما شَرُف من الكلام عظيمة،

                  وهو مادَّةٌ للمتكلفين في التأويلات البعيدة والأقوال الشَّنِيعة،

                  ومَثَلُ من تَوقَّف في التفات هذه الأسامي إلى معانيها الأُوَل،

                  وظَنَّ أنها مقطوعةٌ عنها قطعاً يرفع الصلةَ بينها وبين ما جازت إليه،

                  مَثَلُ مَنْ إذا نَظر في قوله تعالى:

                  "إنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ" "ق: 37"،

                  فرأى المعنى على الفهم والعقل أخذه ساذجاً وقَبِله غُفْلاً،

                  وقال القلب، هاهنا بمعنى العقل وترك أن يأخُذه من جهتِه،

                  ويدخُلَ إلى المعنى من طريق المَثَل فيقولَ إنّه حين لم ينتفع بقلبه،

                  ولم يفهم بعد أن كان القلب للفهم، جُعِلَ كأنه قد عدِم القلبَ

                  جملةً وخُلع من صدره خَلْعاً،

                  كما جُعل الذي لا يَعِي الحكمة ولا يُعمل الفِكْر فيما تُدركه عَيْنه وتسمَعُه أُذُنه،

                  كأنه عادمٌ للسمع والبصر، وداخلٌ في العَمَى والصمم

                  ويذهبُ عن أنّ الرجل إذا قال قد غاب عني قلبي،

                  وليس يحضُرني قلبي فإنه يريد أن يُخيِّل إلى السامع أنه قد فقد قلبه،

                  دون أن يقول غابَ عني علمي وعَزَب عقلي،

                  وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، كما أنه إذا قال لم أكن هاهنا،

                  يريد شدّة غفلته عن الشيء، فهو يضع كلامه على

                  تخييل أنه كان غاب هكذا بجملته وبذاته،

                  دون أن يريد الإخبار بأنّ علمه لم يكن هناك،

                  وغرضي بهذا أنْ أُعْلِمك أنّ مَن عَدَل عن الطريقة في الخَفِيِّ،

                  أفضى به الأمرُ إلى أن يُنكر الجليّ، وصار من دَقيق الخطأ إلى الجليل،

                  ومن بعض الانحرافات إلى ترك السبيل،

                  والذي جلب التَّخليط والخَبْطَ الذي تراه في هذا الفنّ،

                  أَنَّ الفَرْق بين أن يُؤْخذ ما بين شيئين، ويُنْتَزع من مجموع كلام،

                  هو كما عرّفتُك في الفرق بين الاستعارة والتمثيل بابٌ

                  من القول تدخل فيه الشُّبهة على الإنسان من حيث لا يعلم،

                  وهو من السَّهل الممتنع، يُريك أن قد انقاد وبه إباءٌ،

                  ويُوهمك أنْ قد أَثَّرَتْ فيه رياضتُك وبه بَقيّة شِمَاسٍ.



                  ومن خاصّيته أنك لا تفرق فيه بين الموافق والمخالف،

                  والمعترِف به والمُنكِر له، فإنك ترى الرجل يُوافقك في الشيء منه،

                  ويُقِرُّ بأنه مَثَلٌ، حتى إذا صار إلى نظيرٍ له خَلَّط إمَّا في أصل المعنى،

                  وإمَا في العبارة، فالتخليط في المعنى كما مضى،

                  من تأوُّل اليمين على القوة، وكذِكْرهم أن القلب في الآية بمعنى العقل،

                  ثم عَدِّهم ذلك وجهاً ثانياً. والتخليط في العبارة،

                  كنحو ما ذكره بعضهم في قوله:

                  "هوِّن عليكَ فإنّ الأُمورَ بكفِّ الإلهِ مقاديرُها"

                  فإنه استشهد به في تأويل خبرٍ جاء في عِظَم الثواب

                  على الزكاة إذا كانت من الطّيب ثم قال الكفُّ هاهنا بمعنى

                  السلطان والمُلك والقدرة، قال وقيل الكف هاهنا بمعنى النعمة،

                  والخبر هو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:

                  إنّ أحدكم إذا تصدّق بالتمرة من الطَّيِّب - ولا يقبل اللَّه إلاّ الطيب -

                  جعل اللَّه ذلك في كفّه، فيُربّيها كما يربّي أحدُكم فَلُوَّه

                  حتى يبلغ بالتمرة مثل أُحُد، مايظَنُّ بمن نَظَر في العربية يوماً

                  أن يَتَوهَّم أن الكفّ يكون على هذا الإطلاق، وعلى الانفراد،

                  بمعنى السلطان والقدرة والنعمة، ولكنه أراد المَثل فأساء العبارة،

                  إلاّ أنّ من سُوء العبارة ما أَثَرُ التقصير فيه أظهر،

                  وضررُه على الكلام أبين.



                  واستقصاءُ هذا الباب لا يتمّ حتى يُفرَد بكلام،

                  والوجهُ الرجوع إلى الغرض، ويجب أن تَعلم قبل ذلك أنّ خِلاف

                  مَن خالف في اليد واليمين، وسائر ما هو مجاز لا

                  من طريق التشبيه الصريح أو التمثيل، لا يقدح فيما

                  قدّمتُ من حدَّث الحقيقة والمجاز، لأنه لا يخرج في خِلافه

                  عن واحدٍ من الاعتبارين، فمتى جَعَل اليمين على انفرادها تُفيد القوة،

                  فقد جعلها حقيقةً، وأغناها عن أن تستند في دلالتها إلى

                  شيء وإن اعترف بضَربٍ من الحاجة إلى الجارحة والنظر إليها،

                  فقد وافق في أنها مجاز، وكذا القياس في الباب كله فاعرفه.
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #24
                    رد: أسرار البلاغة

                    فصل في المجاز العقلي والمجاز اللغوي والفرق بينهما:


                    والذي ينبغي أن يُذكر الآن حدُّ الجملة في الحقيقة والمجاز،

                    إلاَّ أنك تحتاج أن تعرف في صدر القول عليها ومقدّمته أصلاً،

                    وهو المعنى الذي من أجله اختُصّت الفائدة بالجملة،

                    ولم يجز حصولها بالكلمة الواحدة، كالاسم الواحد،

                    والفعل من غير اسم يُضَمّ إليه،

                    والعلّة في ذلك أن مَدَارَ الفائدة في الحقيقة على الإثبات والنفي،

                    ألا ترى أن الخبر أوّل معاني الكلام وأقدمُها،

                    والذي تستند سائر المعاني إليه وتترتّب عليه وهو ينقسم إلى هذين الحكمين،

                    وإذا ثبت ذلك، فإن الإثبات يقتضي مُثبِتاً ومُثبَتاً له،

                    نحو أنك إذا قلت ضَربَ زيدٌ أؤ زيدٌ ضاربٌ،

                    فقد أثبتَّ الضرب فعلاً أو وصفاً لزيد وكذلك النفي

                    يقتضي مَنْفيّاً ومنفيّاً عنه، فإذا قلت ما ضربَ زيدٌ وما زيدٌ ضاربٌ،

                    فقد نفيت الضرب عن زيد وأخرجته عن أن يكون فعلاً له،

                    فلما كان الأمر كذلك احتيج إلى شيئين يتعلّق الإثباتُ والنفي بهما،

                    فيكون أحدهما مُثبتاً والآخر مثبتاً له وكذلك يكون أحدهما

                    منفيّاً والآخر منفيّاً عنه،

                    فكان ذانك الشيئان المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل،

                    وقيل للمثَبت وللمنفي مُسنَدٌ وحديثٌ، وللمثبَت له والمنفيِّ عنه

                    مُسنَدٌ إليه ومحدَّثٌ عنه، وإذا رُمْتَ الفائدة أن تحصل لك

                    من الاسم الواحد أو الفعل وحده،

                    صرت كأنّك تطلُب أن يكون الشيء الواحد مُثْبِتاً ومثبَتاً له،

                    ومنفيّاً ومنفيّاً عنه، وذلك محال، فقد حصل من هذا أنّ لكل واحدٍ

                    من حكمي الإثبات والنفي حاجةً إلى أن تُقيِّده مرّتين،

                    وتُعلّقه بشيئين، تفسير ذلك أنك إذا قلت ضربَ زيدٌ،

                    فقد قصدت إثبات الضرب لزيد، فقولك إثباتُ الضربِ،

                    تقييدٌ للإثبات بإضافته إلى الضرب ثم لا يكفيك هذا التقييد

                    حتى تُقيّده مرّةً أخرى فتقول إثبات الضرب لزيد،

                    فقولك: لزيد، تقييدٌ ثانٍ وفي حكم إضافة ثانية،

                    وكما لا يُتصوَّر أن يكون هاهنا إثباتٌ مطلقٌ غيرُ مقيَّد بوجه

                    أعني أن يكون إثباتٌ ولا مُثْبَتٌ له ولا شيءٌ يُقصَد بذلك الإثبات إليه،

                    لا صفةٌ ولا حكمٌ ولا موهومٌ بوجه من الوجوه

                    كذلك لا يُتصوَّر أن يكون هاهنا إثباتٌ مقيّدٌ تقييداً واحداً،

                    نحوُ إثبات شيء فقط، دون أن تقول إثبات شيءٍ لشيء،

                    كما مضى من إثبات الضرب لزيد، والنفيُ بهذه المنزلة،

                    فلا يتصوَّر نفيٌ مطلقٌ، ولا نَفْيُ شيءٍ فقط ،

                    بل تحتاج إلى قيدين كقولك نفيُ شيء عَنْ شيء، فهذه هي

                    القضية المُبْرمة الثابتةُ التي تزول الرَّاسيات ولا تزول،

                    ولا تنظر إلى قولهم فلان يُثْبت كذا، أي يدَّعي أنه موجود،

                    وينفي كذا، أي يقضي بعَدَمه كقولنا أبو الحسن يثبت مِثَال

                    جُخْدَب بفتح الدال، وصاحب الكتاب ينفيه، لأنّ الذي قصدتَهُ

                    هو الإثباتُ والنفيُ في الكلام. ثم اعلم أن في الإثبات والنفي

                    بعد هذين التقييدين حكماً آخر: هو كتقييد ثالث،

                    وذلك أنّ للإثبات جهةً، وكذلك النفي،

                    ومعنى ذلك أنك تُثبت الشيء للشيء مرَّةً من جهة،

                    وأخرى من جهة غير تلك الأولى، وتفسيره أنّك تقول ضرب زيد،

                    فتثبت الضرب فعلاً لزيد وتقول مَرض زيد فتُثبت المَرض وصفاً له،

                    وهكذا سائر ما كان من أفعال الغرائز والطباع،

                    وذلك في الجملة على ما لا يوصف الإنسان بالقدرة عليه،

                    نحو كَرُم وظَرُف وحَسُن وقَبُح وطَال وقَصُر،

                    وقد يُتصوَّر في الشيء الواحد أن تُثبته من الجهتين جميعاً،

                    وذلك في كل فعلٍ دَلَّ على معنًى يفعله الإنسان في نفسه نحو قام وقعد،

                    إذا قلت قام زيد، فقد أثبتَّ القيام فعلاً له من حيث تقول فَعَلَ

                    القيام وأمرتُه بأن يفعل القيام، وأثبتَّه أيضاً وصفاً له

                    من حيث أن تلك الهيئة موجودة فيه، وهو في اكتسابه

                    لها كالشخص المنتصب، والشجرة القائمة على ساقها

                    التي توصف بالقِيام، لا من حيث كانت فاعلةً له،

                    بل من حيث كان وصفاً موجوداً فيها، وإذ قد عرفتَ هذا الأصل،

                    فهاهنا أصل آخر يدخل في غرضنا وهو أن الأفعال على ضربين:

                    متعدّ وغير متعدّ،

                    فالمتعدّي على ضربين: ضربٌ يتعدَّى إلى شيءٍ هو مفعول به،

                    كقولك: ضربتُ زيداً، زيداَ مفعولٌ به،

                    لأنك فعلت به الضرب ولم يفعله بنفسه.

                    وضربٌ يتعدَّى إلى شيءٍ هو مفعول على الإطلاق،

                    وهو في الحقيقة كفَعَلَ وكلِّ ما كان مِثْلَه في كونه عامّاً

                    غيرَ مشتقّ من معنًى خاصّ كصَنَعَ، وعَمِلَ، وأَوْجَدَ، وأَنْشَأَ،

                    ومعنى قولي من معنًى خاصّ أنه ليس كضَرَبَ الذي هو مشتقّ

                    من الضرب أو أَعلَمَ الذي هو مأخوذ من العلم،

                    وهكذا كل ما له مصدرٌ، ذلك المصدرُ في حُكم جنس من المعاني،

                    فهذا الضَّربُ إذا أُسند إلى شيءٍ كان المنصوبُ له

                    مفعولاً لذلك الشيء على الإطلاق، كقولك: فعل زيدٌ القيامَ،

                    فالقيام مفعولٌ في نفسه وليس بمفعول به،ن العلم، وهكذا كل ما له مصدرٌ،

                    ذلك المصدرُ في حُكم جنس من المعاني،

                    فهذا الضَّربُ إذا أُسند إلى شيءٍ كان المنصوبُ له مفعولاً

                    لذلك الشيء على الإطلاق، كقولك: فعل زيدٌ القيامَ،

                    فالقيام مفعولٌ في نفسه وليس بمفعول به،

                    وأحقُّ من ذلك أن تقول خَلق اللَّه الأنَاسِيَّ، وأنشأ العالم،

                    وخلق الموتَ والحياة، والمنصوب في هذا كله مفعول مطلق لا تقييد فيه،

                    إذ من المحال أن يكون معنى خلق العالم فَعَلَ الخلق به،

                    كما تقول في ضربت زيداً فعلتُ الضرب بزيد،

                    لأن الخَلْق من خَلَق كالفعل من فَعَلَ، فلو جاز أن يكون المخلوق كالمضروب،

                    لجاز أن يكون المفعول في نفسه كذلك، حتى يكون معنى

                    فَعَلَ القيام فعل شيئاً بالقيام، وذلك من شنيع المُحال،

                    وإذ قد عرفت هذا فاعلم أن الإثبات في جميع هذا الضرب

                    أعني فيما منصوبُه مفعولٌ، وليس مفعولاً به يتعلق بنفس المفعول،

                    فإذا قلت فعل زيدٌ الضرب، كنت أثبتَّ الضرب فعلاً لزيد،

                    وكذلك تُثبت العالم في قولك خلق اللَّه العالم، خَلْقاً للَّه تعالى،

                    ولا يصحُّ في شيء من هذا الباب أن تُثبت المفعول وصفاً ألبتة،

                    وتوهُّم ذلك خطاً عظيم وجهلٌ نعوذُ باللَّه منه،

                    وأما الضرب الآخر وهو الذي منصوبه مفعولٌ به،

                    فإنك تُثبت فيه المعنى الذي اشتُقَّ منه فعَلَ فعلاً للشيء،

                    كإثباتك الضرب لنفسك في قولك ضربتُ زيداً،

                    فلا يُتَصَوَّر أن يلحَق الإثبات مفعولَه، لأنه إذا كان مفعولاً به،

                    ولم يكن فعلاً لك، استحال أن تُثبته فِعْلاً، وإثباتُه وصفاً أبعدُ في الإحالة.


                    فأما قولُنا في نحو ضربتُ زيداً، إنك أثبتَّ زيداً مضروباً،

                    فإنّ ذلك يرجع إلى أنك تُثبت الضربَ واقعاً به منك،

                    فأمّا أن تُثبِت ذاتَ زيد لك، فلا يُتصَوَّر،

                    لأن الإثبات كما مضى لا بدّ له من جهة، ولا جهةَ هاهنا،

                    وهكذا إذا قلت أحْيا اللَّه زيداً، كنت في هذا الكلام مُثبِتاً الحياةَ

                    فِعلاً للَّه تعالى في زيد، فأما ذات زَيد، فلم تُثبتها فعلاً للَّه بهذا الكلام،

                    وإنما يتأتَّى لك ذلك بكلام آخر، نحو أن تقول خلق اللَّه

                    زيداً ووأوجده وما شاكله، مما لا يُشتقّ من معنًى خاصّ

                    كالحياة والموت ونحوهما من المعاني،

                    وإذ قد تقرَّرتْ هذه المسائل، فينبغي أن تعلم أن من حقك إذا أردت

                    أن تقضي في الجملة بمجاز أو حقيقة، أن تنظر إليها من جهتين:

                    إحداهما أن تنظر إلى ما وقع بها من الإثبات،

                    أهو في حقه وموضعه، أم قد زال عن الموضع الذي ينبغي

                    أن يكون فيه

                    والثانية أن تنظر إلى المعنى المُثْبَت أعني ما وقع عليه

                    الإثبات كالحياة في قولك أحيا اللَّه زيداً،

                    والشيب في قولك أشابَ اللَّه رأسِي، أثابتٌ هو على الحقيقة،

                    أم قد عُدِل به عنها.


                    وإذا مُثِّل لك دخول المجاز على الجملة من الطريقين،

                    عرفت ثَبَاتُها على الحقيقة منهما، فمثالُ ما دخله المجاز

                    من جهة الإثبات دون المُثْبَت قوله:

                    "وَشَيَّبَ أيّامُ الفِرَاق مَفارِقِي وأَنْشَزْنَ نَفْسي فوق حَيْثُ تكونُ"

                    وقوله: "أَشَابَ الصغيرَ وأَفْنَى الكبي رَ كَرُّ الغَدَاةِ ومَرُّ العَشِي"

                    المجاز واقعٌ في إثبات الشيب فعلاً للأيام ولكرّ الليالي،

                    وهو الذي أُزيل عن موضعه الذي ينبغي أن يكون فيه،

                    لأن من حق هذا الإثبات، أعني إثبات الشَّيب فعلاً،

                    أن لا يكون إلا مع أسماء اللّه تعالى،

                    فليس يصحّ وجود الشيب فعلاً لغير القديم سبحانه،

                    وقد وُجٍّه في البيتين كما ترى إلى الأيام وكرّ الليالي،

                    وذلك ما لا يُثَبت له فعلٌ بوجهٍ، لا الشيبُ ولا غيرُ الشيب،

                    وأما المُثْبَت فلم يقع فيه مجاز، لأنه الشيب وهو موجود كما ترى،

                    وهكذا إذا قلت سرَّنى الخبر وسرَّنى لقاؤك،

                    فالمجاز في الإثبات دون المثبَت، لأن المثبَت هو السرور،

                    وهو حاصل على حقيقته، ومثال ما دخل المجازُ في مُثبته دون إثباته،

                    قوله عز وجل:

                    "أوَ مَنْ كَانَ مَيْتاً فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ" "الأنعام: 221"،

                    وذلك أن المعنى - واللّه أعلم - على أن جُعل العلمُ والهُدَى

                    والحكمة حياة للقلوب، على حدِّ قوله عز وجل:

                    "وَكَذَلِكَ أوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحاً مِنْ أمْرِنَا" "الشورى: 25"،

                    فالمجاز في المُثْبَت وهو الحياة، فأما الإثبات فواقع على حقيقته،

                    لأنه ينصرف إلى أن الهدى والعلم والحكمة فَضْلٌ من اللّه

                    وكائنٌ من عنده، ومن الواضح في ذلك قوله عز وجل:

                    "فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" "فاطر:9"،

                    وقوله: "إنَّ الَّذِي أحْيَاهَا لَمُحْيِي المَوْتَى" "فصلت: 39"،

                    جعل خُضرة الأَرْض ونَضْرتها وبَهْجتها بما يُظهره اللَّه تعالى

                    فيها من النَّبات والأَنْوار والأَزْهار وعجائب الصنع، حياةً لها،

                    فكان ذلك مجازاً في المُثبَت، من حيث جعل ما ليس بحياةٍ حياةً على التشبيه،

                    فأَما نفس الإثبات فمحضُ الحقيقة،

                    لأنه إثباتٌ لما ضرب الحياة مثلاً له فعلاً للَّه تعالى،

                    لا حقيقةَ أحقّ من ذلك، وقد يُتَصوَّر أن يدخل المجاز الجملةَ

                    من الطريقين جميعاً، وذلك أنْ يُشبَّه معنًى بمعنًى وصفةٌ بصفةٍ،

                    فيستعار لهذه اسمُ تلك، ثم تُثبَت فعلاً لما لا يصحّ الفِعْل منه،

                    أو فعلُ تلك الصفة، فيكون أيضاً في كل واحد من الإثبات والمثبَت مجازٌ،

                    كقول الرجل لصاحبه أحيَتْني رؤيتُك، يريد آنسَتْني وسَرَّتْنِي ونحوه،

                    فقد جعل الأُنس والمسرَّة الحاصلةَ بالرؤية حياةً أوَّلاً،

                    ثم جعل الرؤية فاعلةً لتلك الحياة، وشبيهٌ به قول المتنبي:

                    وتُحيى لَهُ المالَ الصَّوارِمُ والقَنَا ** ويقتلُ ما تُحيي التَّبسُّمُ والجَـدَا


                    جعل الزيادة والوفور حياةً في المال، وتفريقه في العطاء قتلاً،

                    ثم أثبتَ الحياة فعلاً للصوارم، والقتل فعلاً للتبسم،

                    مع العلم بأنَّ الفعل لا يصحُّ منهما،

                    ونوع منه أهْلَكَ النَّاسَ الدينارُ والدرهمُ، جعل الفتنة هلاكاً على المجاز،

                    ثم أثبت الهلاك فعلاً للدينار والدرهم، وليسا مما يفعلان فاعرفه.



                    وإذ قد تبيّن لك المنهاج في الفرق بين دخول المجاز في الإثبات،

                    وبين دخوله في المثبَت، وبين أن ينتظمهما عرفتَ الصورة في الجميع،

                    فاعلم أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل،

                    وإذا عرض في المُثْبَت فهو متلقّى من اللغة،

                    فإن طلبتَ الحجّةَ على صحة هذه الدَّعوى،

                    فإنَّ فيما قدّمتُ من القول ما يُبيّنها لك،

                    ويختصر لك الطريق إلى معرفتها،

                    وذلك أن الإثبات إذا كان من شرطه أن يقيَّد مرَّتين كقولك:

                    إثبات شيء لشيء، ولزم من ذلك أن لا يحصل إلا بالجملة

                    التي هي تأليف بين حديث ومحدَّث عنه، ومسنَد ومُسنَد إليه،

                    علمتَ أن مأخذَه العقل، وأنه القاضي فيه دون اللغة،

                    لأن اللغة لم تأت لتحكُمَ بحُكم أو لتُثْبت وتنفي، وتَنْقُض وتُبرم،

                    فالحكم بأَن الضَّرب فعل لزيد، أو ليس بفعل له،

                    وأن المرضَ صفةٌ له، أو ليس بصفة له،

                    شيءٌ يضعه المتكلم ودَعْوى يدَّعيها،

                    ومَا يعترض على هذه الدعوى من تصديق أو تكذيب،

                    واعتراف أو إنكار، وتصحيح أو إفساد،

                    فهو اعتراض على المتكلِّم، وليس اللغة من ذلك بسبيل،

                    ولا منه في قليلٍ ولا كثيرٍ.


                    وإذا كان كذلك كان كلُّ وصف يستحقُّه هذا الحكمُ من صحة وفَساد،

                    وحقيقة ومجاز، واحتمال واستحالة،

                    فالمرجع فيه والوجهُ إلى العقل المحض وليس للغة فيه حظٌّ،

                    فلا تُحْلَى ولا تُمِرُّ، والعربيّ فيه كالعجميّ،

                    والعجميّ كالتركيّ،

                    لأن قضايا العقول هي القواعدُ والأُسُس التي يُبنى غيرها عليها،

                    والأصولُ التي يُرَدُّ ماسواها إليها،

                    فأما إذا كان المجاز في المُثْبَت كنحو قوله تعالى:

                    "فَأحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ" "سورة فاطر: 9"،

                    فإنما كان مأخذُه اللغة،

                    لأجل أنّ طريقةَ المجاز بأنْ أُجْرِيَ اسمُ الحياة على ما ليس بحياة،

                    تشبيهاً وتمثيلاً،

                    ثم اشتُقّ منها - وهي في هذا التقدير - الفِعْلُ الذي هو أحيا،

                    واللغة هي التي اقتضتْ أن تكون الحياة

                    اسماً للصِّفة التي هي ضدُّ الموت،

                    فإذا تُجُوّز في الاسم فأُجري على غيرها، فالحديثُ مع اللغة فاعرفه.



                    إن قال قائلٌ في أصل الكلام الذي وضعتُه على

                    أن المجاز يقع تارة في الإثبات، وتارة في المُثْبَت،

                    وأنه إذا وقع في الإثبات فهو طالع عليك من جهة العقل،

                    وبادٍ لك من أُفُقِهِ وإذا عرض في المُثَبت فهو آتيك من ناحية اللغة:

                    ما قولكم إن سَوَّيتُ بين المسألتين،

                    وادَّعيت أن المجاز بينهما جميعاً في المثبَت وأُنزِّل هكذا فأقول:

                    الفِعْل الذي هو مصدر فَعَلَ قد وُضع في اللغة للتأثير في وجود الحادث،

                    كما أن الحياة موضوعة للصفة المعلومة،

                    فإذا قيل فَعَلَ الرَّبيع النّوْرَ،

                    جُعِلَ تعلُّقُ النَّور في الوجود بالربيع من طريق السَّبب والعادة فعلاً،

                    كما تجعَل خُضرة الأرض وبهجتها حياةً،

                    والعلم في قلب المؤمن نُوراً وحياة، وإذا كان كذلك،

                    كان المجاز في أن جعل ما ليس بفعل فعلاً،

                    وأُطلق اسم الفعل على غير ما وُضع له في اللغة،

                    كما جعل ماليس بحياة حياةً وأجري اسمها عليه،

                    فإذا كان ذلك مجازاً لغويّاً فينبغي أن يكون هذا كذلك.


                    فالجواب إنّ الذي يدفع هذه الشبهة،

                    أن تنظر إلى مدخل المجاز في المسألتين،

                    فإن كان مدخلهما من جانب واحدٍ، فالأمر كما ظننتَ،

                    وإن لم يكن كذلك استبان لك الخطأ في ظنّك،

                    والذي بيّن اختلاف دخوله فيهما، أنك تحصُل على المجاز

                    في مسألة الفعل بالإضافة لا بنفس الاسم،

                    فلو قلت: أثبتُّ النَّوْرَ فعلاً لم تقع في مجاز،

                    لأنه فعلٌ للَّه تعالى،

                    وإنما تصير إلى المجاز إذا قلت: أثبتُّ النَّوْرَ فعلاً للربيع،

                    وأما في مسألة الحياة، فإنك تحصل على المجاز بإطلاق

                    الاسم فحَسْبُ من غير إضافة،

                    وذلك قولك أثبتَ بهجةَ الأرض حياةً أو جعلها حياةً،

                    أفلا ترى المجاز قد ظهر لك في الحياة من غير أن أضفتها

                    إلى شيء، أي من غير أن قلت لكذا.


                    وهكذا إذا عبَّرت بالنفس، تقول في مسألة الفعل:

                    جعل ما ليس بفعلٍ للربيع فعلاً له، وتقول في هذه:

                    جعل ما ليس بحياة حياةً وتسكت، ولا تحتاج أن تقول:

                    جعل ما ليس بحياةٍ للأرض حياة للأرض، بل لا معنى لهذا الكلام،

                    لأن يقتضي أنك أضفت حياةً حقيقةً إلى الأرض،

                    وجعلتها مثلاً تحيا بحياة غيرها، وذلك بيّنُ الإحالة،

                    ومن حقِّ المسائل الدقيقة أن تُتأمَّل فيها العباراتُ

                    التي تجري بين السائل والمجيب، وتُحَقَّق،

                    فإنّ ذلك يكشف عن الغَرض، ويبيّن جهة الغلط،

                    وقولك جعل ما ليس بفعل فعلاً احتذاءً لقولنا جعل

                    ما ليس بحياة حياة لا يصحّ - لأن معنى هذه العبارة

                    أن يراد بالاسم غير معناه لشَبَهٍ يُدَّعَى أو شيءٍ كالشبه،

                    لا أن يعطَّل الاسم من الفائدة، فَيُرَاد بها ما ليس بمعقول .



                    فنحن إذاتجوّزنا في الحياة، فأردنا بها العلم،

                    فقد أَوْدَعْنا الاسم معنىً، وأردنا به صفةً معقولةً

                    كالحياة نفسها ولا يمكنك أن تشير في قولك:

                    فعل الربيع النَّوْرَ، إلى معنًى تزعُم أن لفظ الفعل يُنقَل

                    عن معناه إليه، فيرادُ به، حتى يكون ذلك المعنى معقولاً منه،

                    كما عُقل التأثير في الوجود،

                    وحتى تقول لم أرد به التأثير في الوجود،

                    ولكن أردت المعنى الفلانيّ الذي هو شبيهٌ به أو كالشبيه،

                    أو ليس بشبيه مثلاً، إلا أنه معنًى خَلَفَ معنى آخر على الاسم،

                    إذ ليس وجود النور بعقب المطر، أو في زمان دون زمان،

                    مما يعطيك معنًى في المطر أو في الزمان،

                    فتُريدُه بلفظ الفعل، فليس إلا أن تقول:

                    لما كان النَّوْر لا يوجد إلا بوجود الربيع،

                    تُوُهّم للربيع تأثيرٌ في وجوده، فأَثبتُّ له ذلك،

                    وإثبات الحكم أو الوصف لما ليس له قضيّةٌ عقلية،

                    لا تعلُّق لها في صحّةٍ وفسادٍ باللغة فاعرفه.


                    ومما يجب ضبطُه في هذا الباب أن كل حكم يجب في العقل

                    وجوباً حتى لا يجوز خلافه،

                    فإضافتُه إلى دِلالة اللَّغة وجعلُه مشروطاً فيها،

                    محالٌ لأن اللغة تجري مجرى العلامات والسِّمات،

                    ولا معنى للعلامة والسِّمة حتى يحتمل الشيءُ ما جعلت

                    العلامة دليلاً عليه وخلافَه، فإنما كانت ما مثلاً عَلماً للنفس،

                    لأن هاهنا نقيضاً له وهو الإثبات،

                    وهكذا إنما كانت مَنْ لما يعقل، لأن هاهنا ما لا يعقل،

                    فمن ذهب يدَّعي أن في قولنا: فَعَلَ وصَنَعَ ونحوه دلالةً

                    من جهة اللغة على القادر، فقد أساء من حيث قصد الإحسان،

                    لأنه - والعياذُ باللَّه - يقتضي جوازَ أن يكون هاهنا تأثيرٌ

                    في وجود الحادث لغير القادر، حتى يُحتاج إلى تضمين

                    اللفظِ الدلالةَ على اختصاصه بالقادر، وذلك خطأٌ عظيم،

                    فالواجب أن يقال الفعل موضوع للتأثير في وجود الحادث في اللغة،

                    والعقلُ قد قضى وبَتَّ الحكم بأنْ لا حظَّ في هذا التأثير لغير القادر،

                    وما يقوله أهلُ النظر من أنّ من لم يعلم الحادث موجوداً

                    من جهة القادر عليه، فهو لم يعلمه فعلاً لا يخالف هذه الجملة،

                    بل لا يصحّ حَقّ صحّتِه إلا مع اعتبارها،

                    وذلك أن الفعل إذا كان موضوعاً للتأثير في وجود الحادث،

                    وكان العقل قد بيّن بالحجج القاطعة والبراهين الساطعة

                    استحالةَ أن يكون لغير القادر تأثير في وجود الحادث،

                    وأن يقع شيء مما ليس له صفة القادر،

                    فمن ظَنَّ الشيء واقعاً من غير القادر، فهو لم يعلمه فعلاً،

                    لأنه لا يكون مستحقّاً هذا الاسم حتى يكون واقعاً من غيره،

                    ومن نَسَبَ وقوعَه إلى ما لا يصح وقوعه منه،

                    ولا يُتَصوَّر أن يكون له تأثير في وجوده وخروجه من العدم،

                    فلم يعلمه واقعاً من شيء ألبتة،

                    وإذا لم يعلمه واقعاً من شيء، لم يعلمه فعلاً،

                    كما أنه إذا لم يعلمه كائناً بعد أن لم يكن،

                    لم يعلمه واقعاً ولا حادثاً فاعرفه.



                    واعلم أنك إن أردت أن ترى المجاز وقد وقع في نفس الفعل والخلق،

                    ولحقهما من حيثُ هما لا إثباتُهما، وإضافتُهما،

                    فالمثال في ذلك قولهم في الرجل يُشْفِي على هلَكة

                    ثم يتخلّص منها هو إنما خُلِق الآن وإنما أُنشئ اليوم

                    وقد عُدِم ثم أُنشئ نشأةً ثانية، وذلك أنك تُثبت هاهنا خلقاً وإنشاءً،

                    من غير أن يُعقَل ثابتاً على الحقيقة، بل على تأويل وتنزيلٍ،

                    وهو أنْ جعلتَ حالة إشفائه على الهلكة عدماً وفناءً

                    وخروجاً من الوجود،

                    حتى أنتج هذا التقديرُ أن يكون خلاصه منها ابتداءَ وجودٍ وخلقاً وإنشاءً،

                    أفيمكنك أن تقول في نحو: فعل الربيع النَّوْر بمثل هذا التأويل،

                    فتزعُمَ أنك أثبتَّ فعلاً وقع على النَّوْر من غير أن كان ثَمَّ فعلٌ،

                    ومن غير أن يكون النَّور مفعولاً?

                    أو هو مما يَتَعَوَّذ باللَّه منه،

                    وتقول الفعل واقعٌ على النَّور حقيقةً، وهو مفعولُ مجهولٍ على الصِّحة،

                    إلا أن حقّ الفعل فيه أن يُثْبَتَ للَّه تعالى، وقد تُجُوِّزَ بإثباته للربيع؛

                    أفليس قد بان أن التجوُّز هاهنا في إثبات الفعل للربيع

                    لا في الفعل نفسه، فإن التجوُّز في مسألة المتخلِّص

                    من الهلكة حيث قلت: إنه خُلق مرةً ثانية في الفعل نفسه،

                    لا في إثباته?

                    فلكَ كيف نظرتَ فرقٌ بين المجاز في الإثبات، وبينه في المثبَت،

                    وينبغي أن تعلم أن قولي في المثبَت مجازٌ،

                    ليس مرادي أن فيه مجازاً من حيث هو مُثبَت،

                    ولكن المعنى أن المجاز في نفس الشيء الذي تَناوَله الإثبات

                    نحو أنك أثبتَّ الحياة صفةً للأرض في قوله تعالى:

                    "يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا" "سورة الحديد: 17"،

                    والمراد غيرها، فكان المجازُ في نفس الحياة لا في إثباتها

                    هذا وإذا كان لا يُتصوَّر إثبات شيء لا لشيء،

                    استحال أن يوصف المُثْبَت من حيث هو مُثْبَت بأنه مجاز أو حقيقة.



                    ومما ينتهي في البيان إلى الغاية أن يقال للسائل

                    هَبْك تُغالطنا بأن مصدر فَعَلَ نُقل أوَّلاً من موضعه في اللغة،

                    ثم اشتُقَّ منه، فقلْ لنا ما نصنع بالأفعال المشتقَّة من معانٍ خاصّة،

                    كَنَسَجَ، وصَاغ، ووَشَّى،

                    ونَقَشَ أتقول إذا قيل نَسَجَ الربيعُ وصاغ الربيعُ ووَشَّى:

                    إن المجاز في مصادر هذه الأفعال التي هي النَّسج والوَشْي والصّوْغ،

                    أم تعترف أنه في إثباتها فعلاً للربيع،

                    وكيف تقول إن في أنفُسِها مجازاً، وهي موجودةُ بحقيقتها،

                    بل ماذا يُغني عنك دَعوى المجاز فيها، لو أمكنك،

                    ولا يمكنك أن تقتصر عليها في كونِ الكلام مجازاً

                    - أعني لا يمكنك أن تقول:

                    إن الكلاممجازٌ من حيث لم يكن ائتلاف تلك الأنوار نسجاً ووشياً،

                    وتدَعَ حديثَ نسبتها إلى الربيع جانباً.



                    هذا وهاهنا مالا وجه لك لدعوى المجاز في مصدر الفعل

                    منه كقولك: سَرَّني الخبر، فإن السرور بحقيقته موجود،

                    والكلام مع ذلك مجازٌ، وإذا كان كذلك،

                    علمتَ ضرورةً ليس المجاز إلاّ في إثبات السرور فعلاً للخبر،

                    وإيهامِ أنه أثّر في حدوثه وحصوله،

                    ويَعلم كلّ عاقلٍ أن المجاز لو كان من طريق اللغة،

                    لجُعِل ما ليس بالسرور سروراً، فأمّا الحكم بأنه فعل للخبر،

                    فلا يجري في وَهْمٍ أنه يكون من اللغة بسبيل فاعرفه.


                    فإن قال النسجُ فعلُ معنًى، وهو المضامّة بين أشياء،

                    وكذلك الصَّوْغُ فعلُ الصورة في الفضّة ونحوها،

                    وإذا كان كذلك، قدّرتُ أن لفظ الصَّوغ مجازٌ من حيث دلَّ

                    على الفعل والتأثير في الوجود، حقيقةٌ من حيث دلَّ على الصُّورة،

                    كما قدّرتَ أنت في أحيا اللَّه الأرض،

                    أنّ أحيا من حيث دلّ على معنى فَعَلَ حقيقةٌ،

                    ومن حيث دلّ على الحياة مجازٌ،

                    قيل ليس لك أن تجِىء إلى لفظِ أمرين،

                    فتفرِّق دلالته وتجعله منقولاً عن أصله في أحدهما دون الآخر،

                    لو جاز هذا لجاز أن تقول في اللطم الذي هو ضرب باليد،

                    أنه يُجعلُ مجازاً من حيث هو ضربٌ، وحقيقةً من حيث هو باليد،

                    وذلك محالٌ - لأن كون الضرب باليد لا ينفصل عن الضرب،

                    فكذلك كون الفعل فعلاً للصورة لا ينفصل عن الصورة،

                    وليس الأمر كذلك في قولنا أحيا اللَّه الأرض،



                    فصل


                    قال أبو القاسم الآمدي في قول البحتري:

                    فَصَاغَ ما صاغ من تِبْرٍ ومن وَرِقٍ ** وحَاكَ ما حاكَ من وَشْي وديبـاجٍ


                    صوغُ الغيثِ النبتَ وحَوْكُه النباتَ، ليسَ باستعارة بل هو حقيقة،

                    ولذلك لا يقال هو صائغ ولا كأنه صائغ وكذلك لا يقال:

                    حائك وكأنه حائك، على أن لفظة حائك خاصَّةً في غاية الركاكة،

                    إذا أُخرج على ما أخرجه عليه أبو تمام في قوله:

                    إذا الغَيْثُ غَادَى نَسْجَهُ خِلْتَ أنّـه ** خَلَتْ حِقَبٌ حَرْسٌ له وهو حائكُ


                    وهذا قبيح جدّاً، والذي قاله البحتري: وحاك ما حاك،

                    حَسَنٌ مستعمل، فانظر ما بين الكلامين لتعلم ما بين الرَّجُلين.


                    قد كتبت هذا الفصل على وجهه،

                    والمقصود منه منعُه أن تُطلَق الاستعارة على الصوغ والحوك،

                    وقد جُعلا فعلاً للربيع، واستدلالُه على ذلك بامتناع أن يقال:

                    كأنه صائغ وكأنه حائك. اعلم أن هذا الاستدلال كأحسن ما يكون،

                    إلا أن الفائدة تَتِمُّ بأَن تُبيَّن جهته، ومن أين كان كذلك?

                    والقول فيه: إن التشبيه كما لا يخفى يقتضي شيئين مشبَّهاً ومشبَّهاً به،

                    ثم ينقسم إلى الصريح وغير الصريح، فالصريح أن تقول:

                    كأنّ زيداً الأسد، فتذكر كل واحد من المشبَّه والمشبهَه به باسمه

                    - وغيرُ الصريح أن تُسقطَ المشبَّه به من الذكر،

                    وتُجرِيَ اسمه على المشبَّه كقولك: رأيتُ أسداً،

                    تريد رجلاً شبيهاً بالأسد، إلا أنك تُعيره اسمه مبالغةً وإيهاماً

                    أنْ لا فصلَ بينه وبين الأسد، وأنه قد استحال إلى الأسدية،

                    فإذا كان الأمر كذلك وأنت تشبّه شخصاً بشخص،

                    فإنك إذا شبّهت فعلاً بفعل كان هذا حكمه،

                    فأنت تقول مرة كأن تزيينَه لِكلامه نظْمُ درّ، فتصرّح بالمشبَّه والمشبَّه به،

                    وتقول أخرى: إنما يَنْظِم دُرّاً، تجعله كأنه ناظمٌ دُرّاً على الحقيقة.



                    وتقول في وصف الفرس كأن سيرَهُ سِباحة،

                    وكأن جريه طيرانُ طائر، هذا إذا صرّحتَ،

                    وإذا أخفيتَ واستعرتَ قلت: يسبح براكبه، ويطير بفارسه،

                    فتجعل حركته سباحةً وطيراناً.



                    ومن لَطيف ذلك ما كان كقول أبي دُلامة يصف بغلته:

                    أرَى الشهباءَ تَعْجِنُ إذْ غَدْونا ** برِجلَيها وتخبِزُ بالـيمـينِ

                    شبّه حركة رجليها حين لم تُثبتهما على موضع تعتمد بهما

                    عليه وَهَوَتَا ذاهبتين نحو يديها، بحركة يدي العاجن،

                    فإنه لا يُثبت اليد في موضع، بل يُزِلّها إلى قُدّام،

                    وتَزِلّ من عند نفسها لرَخَاوة العجين -

                    وشبَّه حركة يديها بحركة يد الخابز،

                    من حيث كان الخابزُ يثني يدَه نحو بَطْنه، ويُحدث فيها ضرباً من التقويس،

                    كما تجد في يد الدابّة إذا اضطربت في سيرها،

                    ولم تَقِفْ على ضبط يديها، ولن ترمي بها إلى قُدّام،

                    ولن تشدَّ اعتمادها، حتى تثبُت في الموضع الذي تقع

                    عليه فلا تزول عنه ولا تنثني وأعود إلى المقصود،

                    فإذا كان لا تشبيهَ حتى يكون معك شيئان،

                    وكان معنى الاستعارة أن تُعِير المشبَّه لفظ المشبَّه به،

                    ولم يكن معنا في صاغ الربيعُ أو حاك الربيعُ إلا شيء واحدٌ،

                    وهو الصَّوْغ أو الحَوْك،

                    كان تقدير الاستعارة فيه محالاً جارياً مجرى أن تشبّه الشيء بنفسه،

                    وتجعل اسمَهُ عاريَّة فيه، وذلك بيّنُ الفساد،

                    فإن قلت: أليس الكلام على الجملة معقوداً على تشبيهِ الربيع بالقادر،

                    في تعلُّق وجود الصوغ والنسج به?

                    فكيف لم يَجُزْ دخول كأنّ في الكلام من هذه الجهة.



                    فإن هذا التشبيه ليس هو التشبيه الذي يُعقَد في الكلام

                    ويُفادُ بكأن والكاف ونحوهما، وإنما هو عبارة عن الجهة

                    التي راعاها المتكلم حين أَعْطَى الربيع حكم القادر في إسناد الفعل إليه،

                    وِزَانُه وِزَانُ قولنا: إنهم يشبّهون ما بليس،

                    فيرفعون بها المبتدأ وينصبون بها الخبر فيقولون:

                    ما زيدٌ منطلقاً، كما يقولون: ليس زيد منطلقاً،

                    فنُخبر عن تقديرٍ قدّروه في نفوسهم، وجهةٍ راعَوْها

                    في إعطاء ما حكم ليس في العمل، فكما لا يُتصوَّر أن يكون قولنا:

                    ما زيد منطلقاً، تشبيهاً على حدّ كأَنَّ زيداً الأسد،

                    كذلك لا يكون صاغ الربيعُ من التشبيه،

                    فكلامنا إذَن في تشبيه مَقُولٍ منطوقٍ به،

                    وأنت في تشبيه معقولٍ غيرِ داخلٍ في النطق،

                    هذا وإن يكن هاهنا تشبيهٌ، فهو في الربيع لا في الفعل المُسْنَد إليه،

                    واختلافنا في صاغ وحاك هل يكون تشبيهاً واستعارة أم لا؛

                    فلا يلتقي التشبيهان، أو يلتقي المُشئِم والمُعرِقُ.



                    وهذا هو القولُ علي الجملة إذا كانت حقيقةً أو مجازاً،

                    وكيف وَجْهُ الحدِّ فيها فكلُّ جملة وضعتَها على أن

                    الحكمَ المُفادَ بها على ما هو عليه في العقل،

                    وواقعٌ موقعَه منه، فهي حقيقةٌ،

                    ولن تكون كذلك حتى تَعْرَى من التأوُّل،

                    ولا فصل بين أن تكون مصيباً فيما أفدتَ بها من الحكم

                    أو مخطئاً وصادقاً أو غير صادقٍ، فمثال وقوع الحكم

                    المفادِ موقعه من العقل على الصحة واليقين والقطع قولنا:

                    خلق اللَّه تعالى الخلق، وأَنشأَ العالم، وأوجدَ كل موجودٍ سواه،

                    فهذه من أحقّ الحقائق وأرسخها في العقول،

                    وأقعدِها نسباً في العقول،

                    والتي إن رُمْتَ أن تغيب عنها غِبتَ عن عقلك،

                    ومتى هَمَمْتَ بالتوقُّف في ثبوتها استولى النَّفْي على معقولك،

                    ووَجَدْتَك كالمرميِّ به من حالق إلى حيث لا مقرّ لقَدَم،

                    ولامساغ لتأخُّر وتقدُّم، كما قال أصدق القائلين جَلَّت أسماؤه،

                    وعظمت كبرياؤه:

                    "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ

                    الطَّيْرُ أْو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" "الحج: 31"،

                    وأمَّا مثالُ أن توضع الجملة على أن الحكم المُفَاد

                    بها واقعٌ موقعَه من العقل، وليس كذلك،

                    إلا أنه صادِرٌ من اعتقادٍ فاسدٍ وظنّ كاذب،

                    فمثلُ ما يجيء في التنزيل من الحكاية عن الكفار نحو:

                    "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ" "الجاثية: 24"،

                    فهذا ونحوه من حيث لم يتكلم به قائله على أنَّه متأوّلٌ،

                    بل أطلقه بجهله وعماه إطلاقَ مَنْ يضع الصِّفة في موضعها،

                    لا يُوصف بالمجاز، ولكن يقال عند قائله أنه حقيقة،

                    وهو كذبٌ وباطلٌ، وإثباتٌ لما ليس بثابت،

                    أو نَفْيٌ لما ليس بمنتفٍ، وحكمٌ لا يصحّحه العقل في الجملة،

                    بل يردُّه ويدفعُه، إلاّ أن قائله جَهِلَ مكان الكذبِ والبطلانِ فيه،

                    أو جَحَد وباهَتَ، ولا يتخلَّص لك الفصلُ بين الباطل وبين المجاز،

                    حتى تعرف حدَّ المجاز،

                    وحدُّه أنّ كلّ جملة أَخرجتَ الحكم المُفَادَ بها عن موضعه

                    من العقل لضربٍ من التأوُّل، فهي مجاز،

                    ومثاله ما مضى من قولهم: فَعَلَ الربيع،

                    وكما جاء في الخبر إنّ ممَّا يُنبِتُ الربيعُ ما يَقْتلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ،

                    قد أثبت الإنبات للربيع، وذلك خارج عن موضعه من العقل،

                    لأن إثبات الفعل لغير القادر لا يصحُّ في قضايا العقول،

                    إلاّ أن ذلك على سبيل التأوُّل، وعلى العُرْف الجاري بين الناس،

                    أن يجعلوا الشيء،

                    إذا كان سبباً أو كالسبب في وجود الفعل من فاعله،

                    كأنه فاعل، فلما أجرى اللّه سبحانه العادةَ وأنفذَ القضِيَّة

                    أن تُورق الأشجارُ، وتظهر الأنْوار، وتلبس

                    الأرض ثوب شبَابِها في زمان الربيع،

                    صار يُتوهَّم في ظاهر الأمرِ ومجرى العادة،

                    كأنّ لوجود هذه الأشياء حاجةً إلى الربيع،

                    فأسند الفِعلَ إليه على هذا التأوُّل والتنزيل.



                    وهذا الضرب من المجاز كثير في القرآن،

                    فمنه قوله تعالى: "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإذْنِ رَبِّهَا" "إبْرَاهيم: 25"،

                    وقوله عزَّ اسمه: "وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَاناً" "الأنفال: 2"،

                    وفي الأخرى: "فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذِهِ إيمَاناً" "التوبة: 124"،

                    وقوله: "وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا" "الزلزلة: 2"،

                    وقوله عز وجل: "حَتَّى إذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّت" "الأعراف: 57"،

                    أثبتَ الفعلَ في جميع ذلك لما لا يثبُت له فعلٌ إذا رجعْنَا إلى المعقول،

                    على مَعْنى السَّبب، وإلاّ فمعلومٌ أن النخلة ليست تُحدث الأُكُل،

                    ولا الآياتُ تُوجد العلم في قلب السامع لها،

                    ولا الأرضُ تُخرج الكامن في بطنها من الأثقال،

                    ولكن إذا حَدَثت فيها الحركةُ بقدرة اللَّه، ظهر ما كُنِزَ فيها وأُودِع جوفهَا،

                    وإذا ثبت ذلك فالمبطِلُ والكاذبُ لايتأوَّل في إخراج الحكم

                    عن موضعه وإعطائه غير المستحق،

                    ولا يشبه كونَ المقصود سبباً بكَوْن الفاعل فاعلاً،

                    بل يُثبت القضية من غير أن ينظرَ فيها من شيءٍ إلى شيءٍ،

                    ويردَّ فرعاً إلى أصل، وتراه أعمى أكمهَ يظنّ ما لا يصحُّ صحيحاً،

                    وما لا يثبُت ثابتاً، وما ليس في موضعه من الحكم موضوعاً موضعه،

                    وهكذا المتعمِّد للكذب يدّعي أن الأمر على

                    ما وضعه تلبيساَ وتمويهاً، وليس هو من التأوُّيل في شيء.



                    والنكتةُ أن المجاز لم يكن مجازاً لأنه إثبات الحكم لغير مستحقّه

                    ، بل لأنه أثبت لما لا يستحق، تشبيهاً وردّاً له إلى ما يستحقّ ،

                    وأنه ينظر من هذا إلى ذاك، وإثباتُه ما أثبت للفرع

                    الذي ليس بمستحقّ، ويتضمَّن الإثباتَ للأصل الذي هو المستحقّ،

                    فلا يُتصَوَّر الجمع بين شيئين في وصفٍ أو حكم من طريق التشبيه والتأويل،

                    حتى يُبْدَأ بالأصل في إثبات ذلك الوصف والحكم له،

                    ألا تراك لا تقدِرُ على أن تشبّهَ الرجل بالأسد في الشجاعة،

                    ما لم تجعل كونَها من أخصّ أوصاف الأسد وأغلبها عليه

                    نَصْبَ عينيك وكذلك لا يُتَصوَّر أن يُثبت المثبتُ الفعلَ للشىء

                    على أنه سببٌ، ما لم ينظر إلى ما هو راسخ في العَقْل

                    من أن لا فِعْل على الحقيقة إلا للقادر، لأنه لو كان نَسَبَ

                    الفعلَ إلى هذا السبب نسبةً مطلقةً - لا يرجع فيها إلى الحكم القادر،

                    والجمع بينهما من حيث تعلّق وجوده بهذا السبب من طريق العادة،

                    كما يتعلق بالقادر من طريق الوجوب

                    - لما اعترف بأنه سببٌ، ولادّعى أنه أصلٌ بنفسه،

                    مؤثّر في وجود الحادث كالقادر،

                    وإن تجَاهَلَ متجاهلٌ فقال بذلك - على ظهور الفضيحة

                    وإسراعها إلى مدَّعيه - كان الكلام عنده حقيقةً،

                    ولم يكن من مسألتنا في شيء، ولحقَ بنحو قول الكُفَار:

                    "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ" "الجاثية: 24"،

                    وليس ذلك المقصودَ في مسألتنا، لأن الغرض هاهنا

                    ما وَضَعَ فيه الحكمَ واضعُه على طريق التأوُّل فاعرفه.



                    ومن أوضح ما يدّل على أنّ إثبات الفعل للشيء

                    على أنه سببٌ يتضمّن إثباتَه للمسبِّب،

                    من حيث لا يُتصوَّر دون تصوُّره،

                    أن تنظر إلى الأفعال المسنَدة إلى الأدوات والآلات،

                    كقولك قطع السكِّين وقَتل السيف،

                    فإنك تعلم أنه لا يقع في النفس من هذا الإثبات صورةٌ،

                    ما لم تنظر إلى إثبات الفعل للمُعْمِل الأدَاة والفاعِل بها،

                    فلو فرضت أن لا يكون هاهنا قاطع بالسكِّين ومصرِّفٌ لها،

                    أعياك أن تعقل من قولك قطع السكين معنى بوجه من الوجوه،

                    وهذا من الوضوح، بحيث لا يشكّ عاقل فيه.



                    وهذه الأفعال المسنَدة إلى من تقع تلك الأفعال بأمره،

                    كقولك: ضَرَبَ الأمير الدرهم وبَنَى السُّور،

                    لا تقوم في نفسك صورةٌ لإثبات الضّرْب والبِناء فعلاً للأمير،

                    بمعنى الأمرِ به، حتى تنظر إلى ثبوتهما للمباشر لهما على الحقيقة،

                    والأمثلة في هذا المعنى كثيرة تتلّقاك من كل جهة،

                    وتجدها أنَّى شئتَ.

                    واعلم أنه لا يجوز الحكم على الجملة

                    بأنها مجازٌ إلا بأحدِ أمرين: فإمَّا أنه يكون الشيء

                    الذي أُثبت له الفعل مما لا يدّعي أحدٌ من المحقِّين

                    والمبطلين أن مما يصحّ أن يكون له تأثيرٌ في وجود

                    المعنى الذي أُثبت له، وذلك نحو قول الرجل:

                    محبَّتُك جاءَتْ بي إليك، وكقول عمرو بن العاص

                    في ذكر الكلمات التي استحسنها: هُنَّ مُخْرِجاتي من الشأم،

                    فهذا ما لا يشتبه على أحد أنّه مجاز.



                    وإمَّا أنه يكون قد عُلم من اعتقاد المتكلِّم أنه لا يُثبت الفعل

                    إلا للقادر، وأنه ممن لا يعتقد الاعتقادات الفاسدة،

                    كنحو ما قاله المشركون وظَنّوه من ثُبوت الهلاكِ فعلاً للدهر،

                    فإذا سمعنا نحو قوله:

                    أشاب الصغيرَ وأَفْنَى الكبيـ ** ـرَ كرُّ الغَداة ومرُّ العَشِي

                    وقولِ ذي الإِصبع:

                    أهْلَكَنَا الليلُ والنهارُ مَـعًـا ** والدَّهْرُ يَعْدُو مُصمِّماً جَذَعَا


                    كان طريق الحكم عليه بالمجاز، أن تعلم اعتقادَهم التوحيدَ،

                    إما بمعرفة أحوالهم السابقة،

                    أو بأن تجد في كلامهم من بَعْدِ إطلاق هذا النحو،

                    ما يكشف عن قصد المجاز فيه، كنحو ما صَنَع أبو النجم،

                    فإنه قال أوّلاً:

                    قَدْ أصبحَتْ أمُّ الخِـيارِ تَـدَّعـي عليَّ ذَنْباً كـلُّـه لـم أَصْـنـعِ

                    مِن أنْ رأت رأسِي كرأسِ الأصْلِع مَيَّزَ عنه قُنْزُعًـا عـن قُـنْـزُعِ

                    مرُّ الليالي أبْطئي أو أسـرعِـي

                    فهذا على المجاز وجعلِ الفعل للَّيالي ومرورها،

                    إلاّ أنه خفيٌّ غير بادي الصفحة،

                    ثم فَسّر وكشَف عن وجه التأوُّل وأفاد أنه بنى أول

                    كلامه على التخيُّل فقال:

                    أَفْنَاه قِيلُ اللّه للشمس اطلُعي ** حَتَّى إذا واراكِ أُفْقٌ فارجعي


                    فبيَّن أن الفعل للَّه تعالى، وأنه المعيد والمبدي، والمنشئ والمفني،

                    لأنّ المعنى في قِيل اللَّه، أمر اللَّه،

                    وإذا جعل الفناءَ بأمره فقد صرّح بالحقيقة وبيّن ما كان

                    عليه من الطريقة. واعلم أنه لا يصحّ أن يكون قول الكُفَّار:

                    "وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهرُ"، ومن باب التأويل والمجاز،

                    وأن يكون الإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ،

                    وأنّ فيه إيهامًا للخطأ، كيف وقد قال تعالى بعقب الحكاية عنهم:

                    "وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إنْ هُمْ إلاَ يَظُنُّونَ" "سورة الجاثية: 24"،

                    والمتجوِّز أو المخطئ في العبارة لا يوصف بالظن،

                    إنّما الظانّ من يعتقد أن الأمر على ما قاله وكما

                    يوجبه ظاهر كلامه، وكيف يجوز أن يكون الإنكار

                    من طريق إطلاق اللفظ دون إثبات الدهر فاعلاً للهلاك،

                    وأنت ترى في نصّ القرآن ما جرى فيه اللفظ على

                    إضافة فعل الهلاكِ إلى الريح مع استحالة أن تكون فاعلةً،

                    وذلك قوله عز وجل: "مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا

                    كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ"

                    "آل عمران:117"،

                    وأمثال ذلك كثير ومَن قدح في المجاز،

                    وهمَّ أن يصفَه بغير الصدق، فقد خَبَط خَبْطاً عظيماً،

                    ويَهْرِفُ بما لا يخفى، ولو لم يجب البحث عن حقيقة المجاز والعناية به،

                    حتى تُحصَّل ضروبه، وتُضبَط أقسامه، إلا للسلامة من مثل هذه المقالة،

                    والخلاص ممَّا نحا نحوَ هذه الشُّبْهة،

                    لكان من حقّ العاقل أن يَتَوفَّر عليه، ويصرف العناية إليه،

                    فكيف وبطالبِ الدِّين حاجةٌ مَاسَّةٌ إليه من جهات يطول عدُّها،

                    وللشيطان من جانب الجهلِ به مداخلُ خفَّيةٌ يأتيهم منها،

                    فيسرق دِينَهُم من حيث لا يشعرون،

                    ويُلقيهم في الضلالة من حيث ظنّوا أنهم يهتدون?

                    وقد اقتسمهم البلاء فيه من جانبى الإفراط والتفريط،

                    فمن مغرورٍ مُغرىً بَنَفْيِه دَفعة، والبراءة منه جملة،

                    يشمئزُّ من ذكره، وينبُو عن اسمه، يرى أن لزوم الظواهر فرضٌ لازمٌ،

                    وضرب الخِيام حولَهَا حَتْمٌ واجب، وآخرُ يغلُو فيه ويُفرط،

                    ويتجاوز حدَّه وَيخبط، فيعدل عن الظاهر والمعنى عليه،

                    ويَسُوم نفسه التعمُّق في التأويل ولا سببَ يدعو إليه.



                    أمَّا التفريط فما تجد عليه قوماً في نحو قوله تعالى:

                    "هَلْ يَنْظُرُون إلاَّ أنْ يَأتِيَهُمُ اللّه" "البقرة: 12"،

                    وقوله: "وَجَاءَ رَبُّك" "الفجر: 22"،

                    و: "الرَّحْمن عَلَى العَرْش اسْتَوَى" "طه: 5"،

                    وأشباه ذلك من النُّبُوِّ عن أقوال أهل التحقيق،

                    فإذا قيل لهم: الإتيان والمجيء انتقال من مكان إلى مكان،

                    وصفةٌ من صفات الأجسام، وأن الاستواء

                    إن حُمل على ظاهره لم يصحّ إلاّ في جسم يشغَل حيِّزاً

                    ويأخذُ مكاناً، واللَّه عز وجل خالق الأماكن والأزمنة،

                    ومنشئ كل ما تصحّ عليه الحركة والنُّقلة،

                    والتمكن والسكون، والانفصال والاتصال،

                    والمماسَّة والمحاذَاة، وأن المعنى على إلاَّ أن يأتيه

                    م أمرً اللَّه وجاءَ أمْرُ ربك، وأنّ حقَه أن يعبَّر بقوله تعالى:

                    "فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَم يَحْتَسِبُوا" "الحشر: 2"،

                    وقول الرجل: آتيك من حيث لا تشعرُ، يريد أُنزلُ بك المكروه،

                    وأفعلُ ما يكون جزاءً لسوء صنيعِك، في حال غَفْلةٍ منك،

                    ومن حيث تأمن حُلولَه بك، وعلى ذلك قوله:

                    أَتَيْنَاهُم مِن أَيْمَنِ الشِّقِّ عندهُم ** ويَأتِي الشقيَّ الحَيْنُ من حَيْثُ لا يَدْرِي

                    نعم، إذا قلت ذلك للواحد منهم، رأيته إن أعطاك الوِفاق بلسانه،

                    فبين جنبيه قلبٌ يترددّ في الحيرة ويتقلّب،

                    ونفسٌ تَفِرُّ من الصواب وتَهْرُب، وفكرٌ واقف لا يجيء ولا يذهب،

                    يُحْضِره الطبيبُ بما يُبرئه من دائه،

                    ويُريه المرشدُ وجه الخلاص من عميائه،

                    ويأبَى إلا نِفاراً عن العقل، ورجوعاً إلى الجهل،

                    لا يحضره التوفيق بقَدْر ما يعلم به أنه إذا كان لا يجري

                    في قوله تعالى: "وَاسْئلِ القَرْيَةَ" "يوسف: 82"،

                    على الظاهر لأجل علمه أن الجماد لا يُسأَل مع

                    أنه لو تجاهل متجاهلٌ فادَّعى أن اللَّه تعالى خَلق

                    الحياة في تلك القرية حتى عَقَلت السؤال، وأجابت عنه ونطقت،

                    لم يكن قال قولاً يكفر به،

                    ولم يزِد على شيء يُعلَم كذبه فيه فمن حقّه

                    أن لا يَجْثِمَ هاهنا على الظاهر، ولا يضرب الحجاب

                    دون سمعه وبصره حتى لا يعي ولا يُراعى، مع ما فيه،

                    إذا أُخذ على ظاهره، من التعرض للهلاك والوقوع في الشرك.



                    فأمَّا الإفراطُ، فما يتعاطاه قوم يُحبُّون الإغراب في التأويل،

                    ويَحْرِصون على تكثير الوجوه،

                    وينسَوْن أن احتمال اللفظ شرطٌ في كل ما يُعدَل به عن الظاهر،

                    فهم يستكرهون الألفاظ على ما لا تُقِلُّه من المعاني،

                    يَدَعون السليم من المعنى إلى السقيم، ويرون الفائدة

                    حاضرةً قد أبدت صفحتَها وكشفت قِناعَها، فيُعرضون عنها حُبّاً للتشوُّف،

                    أو قصداً إلى التمويه وذهاباً في الضلالة.


                    وليس القصد هاهنا بيان ذلك فأذكر أمثلتَه،

                    على أن كثيراً من هذا الفنّ مما يُرغَب عن ذكره لسخفه،

                    وإنما غرضى بما ذكرتُ أن أُرِيَكَ عِظَم الآفة في الجهل

                    بحقيقة المجاز وتحصيله، وأن الخطأ فيه مُورِّطٌ صاحبَه،

                    ،وفاضحٌ له، ومُسقطٌ قَدْرَه، وجاعله ضُحْكةً يُتفَكَّهُ به،

                    وكاسِيهِ عاراً يبقى على وجه الدهر،

                    وفي مثل هذا قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

                    "يَحْمِلُ هذا العلمَ من كل خَلَف عُدُولُه،

                    يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المبطلين،

                    وتأويل الجاهلين، وليس حَمْلُه روايتَه وسَرْدَ ألفاظه،

                    بل العلمُ بمعانيه ومخارجه، وطرقِه ومناهجه،

                    والفرق بين الجائز منه والممتنع، والمنقاد المُصْحِب،

                    والنَّابي النافر.



                    وأقلُّ ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفةُ الأولى،

                    وهم المنكرون للمجاز،

                    أن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها،

                    ولم يُخرج الألفاظ عن دلالتها، وأنَّ شيئاً من ذلك

                    إن زيد إليه ما لم يكن قبل الشرع يدلُّ عليه،

                    أو ضُمِّن ما لم يتضمّنه أُتبعْ ببيانٍ من عند النبي صلى الله عليه وسلم،

                    وذلك كبيانه للصلاة والحج والزكاة والصوم،

                    كذلك لم يقضِ بتبديل عاداتِ أهلها، ولم ينقلهم

                    عن أساليبهم وطرقهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه

                    من التشبيه والتمثيل والحذف، والاتساع،

                    وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى أن تعلم،

                    أنه عزّ وجلّ لم يرضَ لنظم كتابه الذي سمّاه هُدىً وشفاء،

                    ونوراً وضياءً، وحياةً تحيا بها القلوب،

                    ورُوحاً تنشرح عنه الصدور ما هو عند القوم الذين خوطبوا

                    به خلافُ البيان، وفي حدّ الإغلاق والبُعد من التبيان،

                    وأنه تعالى لم يكن ليُعْجِزَ بكتابه من طريق الإلباس والتعمية،

                    كما يتعاطاه المُلغز من الشعراء والمُحاجي من الناس،

                    كيف وقد وصفه بأنه عربيٌّ مبينٌ.



                    هذا وليس التعسُّف الذي يرتكبه بعض من يجهل التأويلَ

                    من جنس ما يقصده أولو الألغاز وأصحاب الأحاجي،

                    بل هو شيء يخرج عن كلِّ طريق، ويُباين كلَّ مذهب،

                    وإنما هو سوء نظر منهم، ووضعٌ للشيء في غيرِ موضعه،

                    وإخلالٌ بالشريطة، وخروجٌ عن القانون،

                    وتوهُّمُ أن المعنى إذا دار في نفوسهم، وعُقِل من تفسيرهم،

                    فقد فُهِم من لفظ المفسَّر، وحتى كأنّ الألفاظ تنقلب عن سجيّتها،

                    وتزول عن موضوعها، فتحتمل ما ليس من شأنها أن تحتمله،

                    وتؤدِّي ما لا يوجب حكمها أن تؤدِّيَهُ.
                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #25
                      رد: أسرار البلاغة

                      هذا كلام في ذكر المجاز وفي بيان معناه وحقيقته


                      المجاز مَفْعَلٌ من جازَ الشيءَ يَجُوزه، إذا تعدَّاه،

                      وإذا عُدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز،

                      على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصليَّ،

                      أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أوَّلاً، ثُمَّ اعلم بَعْدُ أنَّ

                      في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطاً،

                      وهو أن يقع نَقْلُه علي وجهٍ لا يَعْرَى معه من ملاحظة الأصل،

                      ومعنى الملاحظة، أن الاسم يقع لما تقول إنه مجاز فيه،

                      بسببٍ بينه وبين الذين تجعله حقيقةً فيه، نحو أن اليد تقع للنعمة،

                      وأصلها الجارحة، لأجل أن الاعتبارات اللغوية

                      تتبع أحوال المخلوقين وعاداتهم، وما يقتضيه

                      ظاهر البِنْيَة وموضوع الجِبِلّة، ومن شأن النعمة أن تصدُر عن اليد،

                      ومنها تصل إلى المقصودِ بها،

                      وفي ذكر اليد إشارةٌ إلى مَصْدَرِ تلك النعمةِ الواصلةِ إلى المقصود بها،

                      والموهوبةِ هي منه، وكذلك الحكم إذا أريد باليد القوة والقدرة،

                      لأن القدرة أثر ما يظهر سُلطانها في اليد،

                      وبها يكون البطش والأَخذُ والدفعُ والمنعُ والجذبُ والضربُ والقطعُ،

                      وغيرِ ذلك من الأفاعيل التي تُخبر فَضْلَ إخبارٍ عن وجوه القُدْرة،

                      وتُنبئ عن مكانها، ولذلك تجدهم لا يريدون باليد شيئاً لا ملابسة

                      بينه وبين هذه الجارحة بوجهٍ. ولوجوب اعتبار هذه النكتة

                      في وصف اللَّفْظ بأنه مجاز،

                      لم يَجُز استعماله في الألفاظ التي يقع فيها اشتراك من غير

                      سبب يكون بين المشترِكَيْن، كبعض الأسماء المجموعة في المَلاحن،

                      مِثْلُ أن الثَّوْرَ يكون اسما للقطعة الكبيرة من الأَقِطِ،

                      والنهار اسمٌ لفرخ الحُبَارَى، والليل، لولد الكَرَوان، كما قال:

                      أكَلْتُ النَّهار بِنِصْفِ النَّهارِ ** ولَيْلاً أكلتُ بلَيْلٍ بَـهِـيم


                      وذلك أن اسم الثور لم يقع على الأقط لأمرٍ بينه وبين الحيوان المعلم،

                      ولا النهار على الفرخ لأمْرٍ بينه وبين ضوء الشمس،

                      أدّاه إليه وساقه نحوه، والغرضُ المقصود بهذِه العبارة

                      - أعني قولَنا: المجازُ - أن نبيّن أن للَّفظ أَصلاً مبدوءاً به

                      في الوضع ومقصوداً،

                      وأنَّ جريه على الثاني إنما هو على سبيل الحُكْم يتأدَّى إلى الشيء من غيره،

                      وكما يعبَق الشيءُ برائحةِ مايجاورُه،

                      وَينْصَبغ بلونِ ما يدانيه، ولذلك لم ترهم يُطلقون المجاز في الأعلام،

                      إطلاقَهم لفظ النَّقل فيها حيث قالوا:

                      العَلَمُ على ضربين منقولٌ ومرتجلٌ،

                      وأن المنقول منها يكون منقولاً عن اسم جنسٍ، كأسد وثور وزيد وعمرو،

                      أو صفةٍ، كعاصم وحارث، أو فعل، كيزيد ويشكر أو صَوْتٍ كبَبَّة،

                      فأثبتوا لهذا كله النَّقل من غير العَلَمية إلى العلمية،

                      ولم يروا أن يصِفُوه بالمجاز فيقولوا مثلاً:

                      إن يشكر حقيقة في مضارع شَكَرَ،

                      ومجاز في كونه اسم رجل وأن حَجَراً حقيقة في الجماد،

                      ومجازٌ في اسم الرجل، وذلك أن الحجر لم يقع اسماً للرجل

                      لالتباسٍ كان بينه وبين الصخر، على حسب ما كان بين اليد والنعمة،

                      وبينها وبين القدرة ولا كما كان بين الظَّهر الكامل وبين المحمول

                      في نحو تسميتهم المزادة راوية، وهي اسم للبعير الذي

                      يحملها في الأصل وكتسميتهم البعير حَفَضاً،

                      وهو اسم لمتاع البيت الذي حُمَل عليه ولا كنحو

                      ما بين الجزء من الشخص وبين جملة الشخص،

                      كتسميتهم الرجل عَيْناً، إذا كان ربيئةً،

                      والناقةَ ناباً ولا كما بين النَّبت والغيث، وبين السماء والمطر،

                      حيث قالوا: رعينا الغيثَ، يريدون النبتَ الذي الغيث

                      سببٌ في كونه وقالوا: أصابنا السماء، يريدون المطر،

                      وقال "تَلُفُّهُ الأَرْوَاحُ والسُمِيُّ"

                      وذلك أن في هذا كله تأوُّلاً،

                      وهو الذي أفضى بالاسم إلى ما ليس بأصل فيه فالعين

                      لما كانت المقصودة في كون الرجل ربيئةً،

                      صارت كأنها الشخص كلُّه، إذْ كان ما عداها لا يُغنى شيئاً

                      مع فقدها و الغيث، لمَّا كان النبت يكون عنه،

                      صار كأنه هو والمطر لما كان ينزل من السماء،

                      عبروا عنه باسمها.




                      واعلم أن هذه الأسباب الكائنةَ

                      بين المنقول والمنقول عنه، تختلف في القوة والضعف

                      والظهور وخلافه، فهذه الأسماء التي ذكرتها،

                      إذا نظرتَ إلى المعاني التي وصلت بين ما هي له،

                      وبين ما رُدَّت إليه، وجدتها أقوى من نحو ما تراه في

                      تسميتهم الشاةَ التي تُذبَح عن الصبيِّ إذا حُلِقَتْ عقيقتُه،

                      عقيقةً وتجد حالها بعدُ أقوى من حال العَقِيرة،

                      في وقوعها للصوت في قولهم: رَفع عقِيرته،

                      وذلك أنَّه شيء جرى اتفاقاً، ولا معنَى يصل بين الصَّوت

                      وبين الرِجْل المعقورة، على أن القياس يقتضي أن لا يسمَّى مجازاً،

                      ولكن يُجرَى مُجْرَى الشيء يُحكَى بعد وُقُوعه،

                      كالمَثَل إذا حُكَي فيه كلامٌ صَدَر عن قائله من غير قَصْدٍ

                      إلى قياس وتشبيه، بل للإخبار عن أمر مَن قَصَده بالخطاب

                      كقولهم: الصَّيْفَ ضَيَّعَتِ اللَّبن،

                      ولهذا الموضع تحقيق لا يتمّ إلاّ بأن يوضع له فصل مُفْرَدٌ.


                      والمقصود الآن غير ذلك، لأن قصدي في هذا الفَصْل

                      أن أبيّن أن المجازَ أعمُّ من الاستعارة،

                      وأن الصحيح من القضيّة في ذلك:

                      أن كلَّ استعارةٍ مجازٌ، وليس كلُّ مجازٍ استعارة،

                      وذلك أنّا نرى كلامَ العارفين بهذا الشأن أعني علم الخطابة ونَقْدِ الشعر،

                      والذين وضعوا الكتب في أقسام البديع،

                      يجري على أن الاستعارة نقلُ الاسم من أصله إلى غيره

                      للتشبيه على حدِّ المبالغة،

                      قال القاضي أبو الحسن في أثناء فَصْلٍ يذكرها فيه:

                      ومِلاكُ الاستعارة، تقريب الشَّبه، ومناسبة المستعار للمستعار منه،

                      وهكذا تراهم يعدّونها في أقسام البديع،

                      حيث يُذكر التجنيس والتطبيق والترشيح وردُّ العجز على الصدر

                      وغير ذلك، من غير أن يشترطوا شرطاً،

                      ويُعقِبُوا ذِكرَها بتقييد فيقولوا:

                      ومن البديع الاستعارةُ التي من شأنها كذا،

                      فلولا أنها عندهم لنَقْل الاسم بشرط التشبيه على المبالغة،

                      وإمَّا قَطْعاً وإمَّا قريباً من المقطوع عليه، لما استجازوا ذكرها،

                      مطلقةً غير مقيّدة،

                      يبيِّن ذلك أنها إن كانت تُساوِقُ المجازَ وتجري مَجْراه

                      حتى تصلح لكل ما يصلح له، فذِكْرُها في أقسام البديع يقتضي

                      أن كل موصوف بأنه مجازٌ، فهو بديع عندهم،

                      حتى يكون إجراءُ اليد على النعمة بديعاً، وتسمية البعير حَفَضاً،

                      والناقةِ ناباً، والربيئةِ عيناً، والشاةِ عقيقةً، بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد.



                      وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ نقله

                      التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة،

                      فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى اختلاط

                      الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً،

                      وأنشد: بديعاً كله، وذلك بيّن الفساد.



                      وأمَّا ما تجده في كتب اللغة من إدخال ما ليس طريقُ

                      نقله التشبيه في الاستعارة، كما صنع أبو بكر بن دريد في الجمهرة،

                      فإنه ابتدأ بَاباً فقال: باب الاستعارات ثم ذكر فيه أن الوغَى

                      اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كَثُر وصارت الحرب وَغىً،

                      وأنشد:

                      إضْمَامَةٌ مِن ذَوْدِها الثَّلاثينْ ** لَهَا وغًى مِثْل وَغَى الثَّمانينْ


                      يعني اختلاط أصواتها وذكر قولهم:

                      رعَيْنَا الغيث والسَّماء، يعني المطر وذكر ما هو أبعد من ذلك

                      فقال: الخُرْس، ما تُطْعَمُه النُّفَساء،

                      ثم صارت الدَّعوة للولادة خُرْساً والإعذار الختان،

                      وسُمّي الطعام للختان إعْذَاراً وأن الظعينة أصلها المرأة في الهَوْدَج،

                      ثم صار البعير والهودج ظَعِينَةً والخَطْرُ ضرب البعير بذنبه جانبي وَرِكيه،

                      ثم صار مالصِق من البول بالوركين خَطْراً،

                      وذكر أيضاً الرَّاوية بمعنى المزادة، والعقيقةَ،

                      وذكر فيما بين ذِكْرِه لهذه الكلم أشياءَ هي استعارةٌ على الحقيقة،

                      على طريقة أهل الخطابة ونقد الشعر،

                      لأنه قال: الظمأ، العطشُ وشهوةُ الماء،

                      ثم كثر ذلك حتى قالوا: ظمِئتُ إلى لقائك،

                      وقال: الوَجُورُ ما أوجرته الإنسان من دَواءِ أو غيره،

                      ثم قالوا: أَوْجَره الرمحَ، إذا طعنه في فيه.



                      فالوجه في هذا الذي رأوه من إطلاق الاستعارة على

                      ما هو تشبيه، كما هو شرط أهل العلم بالشعر،

                      وعلى ما ليس من التشبيه في شيءٍ،

                      ولكنه نقلُ اللفظ عن الشيء إلى الشيء بسبب اختصاصٍ

                      وضربٍ من الملابسة بينهما، وخَلْطِ أحدهما بالآخر

                      أنهم كانوا نظروا إلى ما يتعارفه الناس في معنى العاريَّة،

                      وأنها شيءٌ حُوِّل عن مالكه ونُقل عن مقرّه الذي هو

                      أصلٌ في استحقاقه، إلى ما ليس بأصل، ولم يُراعوا عُرْف القوم،

                      ووِزانهم في ذلك وِزَانُ من يترك عُرف النحويين في التمييز،

                      واختصاصهم له بما احتمل أجناساً مختلفةً كالمقادير

                      والأعداد وما شاركهما، في أن الإبهام الذي يراد كشْفُه

                      منه هو احتماله الأجناس، فيُسمِّي الحالَ مثلاً تمييزاً،

                      من حيث أنك إذا قلت: راكباً، فقد ميَّزت المقصود وبيّنته،

                      كما فعلت ذلك في قولك:

                      عشرون درهماً ومَنَوَانِ سمناً وقَفِيزان بُرّاً ولي مثلُهُ رجلاً وللَّه درَّه رجلاً.




                      وليس هذا المذهب بالمذهب المرضيّ،

                      بل الصواب أن تُقصَر الاستعارة على ما نقْلُه نَقْلُ التشبيه للمبالغة،

                      لأن هذا نقلٌ يَطّرد على حدٍّ واحد، وله فوائد عظيمة ونتائج شريفة،

                      فالتطفُلُ به على غيره في الذكر،

                      وتركُه مغموراً فيما بين أشياءَ ليس لها في نقلها مِثْلُ نظامه

                      ولا أمثالُ فوائده، ضعفٌ من الرأي وتقصيرٌ في النظر.



                      وربما وَقع في كلام العلماء بهذا الشأن الاستعارةُ

                      على تلك الطريقة العامّية، إلا أنه لا يكون عند ذكر القوانين

                      وحيث تُقرَّرُ الأصول،

                      ومثاله أن أبا القاسم الآمدي قال في أثناء فصل يُجيب فيه

                      عن شيءٍ اعتُرض به على البحتري في قوله:

                      فكأَنَّ مَجْلِسَهُ المُحجَّبَ مَحْفِلٌ ** وكأَنَّ خَلْوَتَه الخفيَّةَ مَشْهَـدُ


                      أن المكانَ لا يسمَّى مجلساً إلاَّ وفيه قوم،

                      ثم قال: ألا ترى إلى قول المُهَلْهل "واستَبَّ بَعْدَك يا كُلَيْبُ المجلس"

                      على الاستعارة، فأطلق لفظ الاستعارة على وقوع المجلس هنا،

                      بمعنى القوم الذين يجتمعون في الأمور،

                      وليس المجلس إذا وقع على القوم من طريق التشبيه،

                      بل على حدِّ وقوع الشيء على ما يتَّصلُ به، وتكثُر ملابَستُه إياه،

                      وأيُّ شبه يكون بين القوم ومكانهم الذي يجتعون فيه?

                      إلاّ أنه لا يُعتدُّ بمثل هذا فإنَّ ذلك قد يتَّفق حيث تُرسَل العبارة،

                      وقال الآدميُّ نفسه: ثم قد يأتي في الشعر ثلاثة أنواع أُخَر،

                      يكتسي المعنى العامّ بِها بهاءً وحسناً، حتى يخرج بعد

                      عمومه إلى أن يصير مخصوصاً ثم قال:

                      وهذه الأنواع هي التي وقع عليها اسم البَديع،

                      وهي الاستعارة والطباق والتجنيس.



                      فهذا نصٌّ في وضع القوانين على أن الاستعارة من أقسام البديع،

                      ولن يكون النَّقلُ بديعاً حتى يكون من أجل الشبيه

                      على المبالغة كما بيَّنتُ لك، وإذا كان كذلك،

                      ثم جعل الاستعارة على الإطلاق بديعاً، فقد أعلمك أنها

                      اسم للضرب المخصص من النَّقل دون كُلِّ نَقْل فاعرف.



                      واعلم أنَّا إذا أنعمنا النظر، وجدنا المنقول من أجل التشبيه

                      على المبالغة، أحقَّ بأن يوصف بالاستعارة من طريق المعنى،

                      بيان ذلك أن مِلك المُعِير لا يزول عن المستعار،

                      واستحقاقُه إيّاه لايرتفع، فالعاريّة إنما كانت عاريّةً،

                      لأن يَدَ المستعير يدٌ عليها، ما دامت يدُ المعير باقية،

                      ومِلْكه غيرُ زائل، فلا يُتصوَّر أن يكون للمستعير تصرُّفٌ

                      لم يستفده من المالك الذي أعاره، ولا أنْ تستقرّ يدُه

                      مع زوالِ اليد المنقول عنها، وهذه جملةٌ لا تراها إلاّ

                      في المنقول نقلَ التشبيه، لأنك لا تستطيع أن تتصوَّر جَرْيَ

                      الاسم على الفَرْع من غير أن تُحوِجَه إلى الأصل،

                      كيف ولا يُعقَل تشبيهٌ حتى يكون هاهنا مشبّه ومشبَّه به،

                      هذا والتشبيه ساذَجٌ مُرْسل، فكيف إذا كان على معنى المبالغة،

                      على أن يُجعل الثاني أنه انقلب مثلاً إلى جنس الأوَّل،

                      فصار الرجلُ أسداً وبَحراً وبدراً، والعلم نُوراً، والجهلُ ظلمةً،

                      لأنّه إذا كان على هذا الوجه، كانت حاجتُك إلى أن تنظر به

                      إلى الأصل أَمَسَّ، لأنه إذا لم يُتصوَّر أنْ يكون هاهنا

                      سبعٌ من شأنه الجرأة العظيمةُ والبطشُ الشديد،

                      كان تقديرك شيئاً آخر تَحوَّلَ إلى صفته وصار

                      في حكمه من أبعد المُحال.



                      وأمَّا ما كان منقولاً لا لأجل التشبيه، كاليد في نقلها إلى النعمة،

                      فلا يوجد ذلك فيه، لأنك لا تُثبت للنعمة بإجراء اسم اليد

                      عليها شيئاً من صفات الجارحة المعلومة، ولا تروم تشبيهاً بها ألبتة،

                      لا مبالغاً ولا غير مبالغ، فلو فرضنا أن تكون اليد اسماً

                      وضع للنعمة ابتداءً، ثم نُقلت إلى الجارحة، لم يكن ذلك مستحيلاً،

                      وكذلك لو ادّعَى مدَّعٍ أنّ جَرْيَ اليدِ على النعمة أصلٌ ولغةٌ على حِدَتها،

                      وليست مجازاً، لم يكن مدَّعياً شيئاً يحيله العقلُ،

                      ولو حاول مُحاولٌ أن يقول في مسألتنا قولاً شبيهاً بهذا

                      فرام تقدير شيءٍ يجري عليه اسم الأسد على المعنى

                      الذي يريده بالاستعارة، مع فقد السبُعِ المعلوم،

                      ومن غير أن يسبقَ استحقاقه لهذا الاسم في وضع اللغة،

                      رام شيئاً في غاية البعد.


                      وعبارةٌ أخرى العاريّة من شأنها أن تكون عند المستعير

                      على صفةٍ شبيهةٍ بصفتها وهي عند المالك،

                      ولسنا نجد هذه الصورة إلا فيما نُقل نَقْلَ التشبيه للمبالغة

                      دون ما سواه، ألا ترى أن الاسم المستعار يتناول المستعارَ له،

                      ليدلَّ على مشاركته المستعار منه في صفةٍ هي أخصُّ الصفات

                      التي من أجلها وُضع الاسم الأول?

                      أعني أن الشجاعة أقوى المعاني التي من أجلها سُمّي الأسد أسداً،

                      وأنت تستعير الاسم للشيء على معنى إثباتها له على حدّها في الأسد.


                      فأما اليد ونقلُها إلى النعمة، فليست من هذا في شيءٍ،

                      لأنها لم تتناول النعمةَ لتدلَّ على صفة من صفات اليد بحال،

                      ويحرِّر ذلك نكتةٌ: وهي أنك تريد بقولك: رأيت أسداً،

                      أن تُثبِتَ للرجل الأسدية، ولست تريد بقولك: له عندي يَدٌ،

                      أن تُثبت للنعمة اليديّة، وهذا واضحٌ جدّاً.


                      واعلم أنَّ الواجب كان أن لا أَعُدَّ وضع الشفةِ موضع الجحفلة،

                      والجحفلة في مكان المِشْفَر، ونظائره التي قدَّمتُ ذكرها في الاستعارة،

                      وأضَنَّ باسمها أن يقع عليه،

                      ولكني رأيتُهم قد خَلَطوه بالاستعارات وعَدُّوه مَعَدَّها،

                      فكرِهتُ التشدّد في الخلاف، واعتددت به في الجملة،

                      ونبَّهت على ضعف أمره بأن سمّيتُه استعارةً غير مُفيدة،

                      وكان وزان ذلك وِزان أن يقال:

                      المفعول على ضربين مفعول صحيح، ومشبّه بالمفعول،

                      فيُتجوَّز باعتداد المشبَّه بالمفعول في الجملة،

                      ثم يفصل بالوصف، ووجهُ شَبَهِ هذا النحو الذي

                      هو نَقْلُ الشفة إلى موضع الجحفلة بالاستعارة الحقيقية،

                      لأنك تنقل الاسم إلى مجانسٍ له،

                      ألا ترى أنّ المراد بالشفة والجحفلة عضوٌ واحد،

                      وإنما الفرق أنّ هذا من الفَرَس، وذاك من الإنسان،

                      والمجانسة والمشابهة من وادٍ واحد?

                      فأنت تقول: أعير الشيءُ اسمَه الموضوعَ له هنالك أي في الإنسان

                      - هاهنا - أي في الفرس -، لأن أحدهما مثل صاحبه وشريكه في جنسه،

                      كما أعرت الرجلَ اسم الأسد، لأنه شاركه في صفته الخاصّة به،

                      وهي الشجاعة البليغة، وليس لليد مع النعمة هذا الشبه،

                      إذ لا مجانسة بين الجارحة وبين النعمة،

                      وكذا لا شَبَهَ ولا جنسيةَ بين البعير ومَتَاعِ البيت،

                      وبين المزادة وبين البعير، ولا بين العين وبين جملة

                      الشخص فإطلاق اسم الاستعارة عليه بعيدٌ.



                      ولو كان اللفظ يستحقّ الوَصْف بالاستعارة بمجرَّد النقل،

                      لجاز أن توصف الأسماء المنقولة من الأجناس إلى الأعلام بأنها مستعارة،

                      فيقال: حَجَرٌ، مستعار في اسم الرجل،

                      ولزم كذلك في الفعل المنقول نحو: يزيد ويشكر وفي الصوت نحو:

                      بَبَّة في قوله:لأُنْكِحَـنَّ بَـبّـهْ ** جَارِيةً خِــدَبَّة

                      مُكْرَمَةً مُحـبَّـهْ ** تُجبُّ أهْلَ الكعبَهْ


                      وذلك ارتكابٌ قبيح، وفَرْطُ تعصُّبٍ على الصواب،

                      ويلوح هاهنا شيء،

                      هو أنّا وإنْ جعلنا الاستعارة من صفة اللفظ فقلنا:

                      اسم مستعارٌ، وهذا اللفظ استعارةٌ هاهنا وحقيقةٌ هناك،

                      فإنّا على ذلك نُشير بها إلى المعنى،

                      من حيث قصدنا باستعارة الاسم،

                      أنْ نُثبِتَ أخصَّ معانيه للمستعار له،

                      يدلّك على ذلك قولنا: جعله أسداً وجعله بدراً وجعل للشمال يداً،

                      فلولا أنّ استعارةَ الاسم للشيء تتضمّن استعارةَ معناه له،

                      لما كان هذا الكلام معنًى، لأن جَعَلَ،

                      لا يصلح إلا حيث يُرَاد إثبات صفة للشيء، كقولنا:

                      جعله أميراً، وجعله لِصّاً، نريد أنه أثبت له الإمارة واللصوصية،

                      وحكمُ جَعَلَ إذا تعدَّى إلى مفعولين، حكم صَيَّرَ،

                      فكما لا تقول: صيَّرتُه أميراً إلا على معنى أنك أثبتَّ

                      له صفة الإمارة،

                      وكذلك لم تقل: جعله أسداً إلا على أنه أثبت له معنًى

                      من معاني الأسود،

                      ولا يقال: جعلته زيداً، بمعنى سمّيته زيداً،

                      ولا يقال للرجل: اجعل ابنك زيداً بمعنى سَمِّهِ،

                      ولا يقال: وُلد لفلانٍ ابنٌ فجعله زيداً أي: سمّاه زيداً،

                      وإنما يدخل الغلط في ذلك على من لا يُحصِّل هذا الشأن،

                      فأما قوله تعالى: "وَجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمنِ إنَاثاً"

                      "الزخرف: 19"، فإنما جاء على الحقيقة التي وصفتُها،

                      وذلك أنهم أثبتوا للملائكة صفة الإناث،

                      واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صَدَر عنهم ما صدَر من الاسم

                      - أعني إطلاقَ اسم البنات، وليس المعنى أنهم وضعوا لها لفظَ الإناث،

                      أو لفظَ البناتِ، اسماً من غير اعتقادِ معنًى، وإثباتِ صفةِ،

                      هذا محالٌ لا يقوله عاقل - أوَ ما يسمعون قول اللَّه عز وجل:

                      "أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُون" "الزخرف: 19"،

                      فإن كانوا لم يزيدوا على إجراء الاسم على الملائكة

                      ولم يعتقدوا إثبات صفة ومعنًى،

                      فأيُّ معنى لأن يقال: أَشهدوا خلقهم هذا ولو كانوا

                      لمَ يقصدوا إثبات صفةٍ، ولم يفعلوا أكثر من أن وَضَعُوا اسماً،

                      لَمَا استحقُّوا إلاّ اليسيرَ من الذمّ، ولما كان هذا القولُ كُفْراً منهم،

                      والأَمرُ في ذلك أظهر من أن يخفى ولكن قَدْ يكون للشيء

                      المستحيل وجوهٌ في الاستحالة فتُذكَر كلُّها،

                      وإن كان في الواحِد منها ما يُزيل الشُبْهة ويُتمُّ الحُجَّةَ.
                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #26
                        رد: أسرار البلاغة

                        فصل في تقسيم المجاز

                        إلى اللغوي والعقلي،

                        واللغوي إلى الاستعارة وغيرها .

                        واعلم أن المجاز على ضربين:

                        1- مجازٌ من طريق اللغة،

                        2- ومجازٌ من طريق المعنى والمعقول،

                        فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المُفردة كقولنا:

                        اليد مجاز في النعمة والأسد مجازٌ في الإنسان

                        وكلِّ ما ليس بالسبع المعروف، كان حُكماً أجريناه

                        على ما جرى عليه من طريق اللغة،

                        لأنا أردنا أنّ المتكلم قد جاز باللفظة أصلها الذي

                        وقعت له ابتداءً في اللغة، وأوقعها على غير ذلك،

                        إمَّا تشبيهاً،و وإمَّا لصلةٍ وملابَسةٍ بين ما نقلها إليه

                        وما نقلها عنه، ومتى وصفنا بالمجاز الجملةَ من الكلام،

                        كان مجازاً من طريق المعقول دون اللغة،

                        وذلك أن الأوصاف اللاّحقة للجُمل من حيث هي جُمَل،

                        لا يصحُّ رَدُّها إلى اللغة، ولا وجهَ لنسبتها إلى واضعها،

                        لأن التأليف هو إسنادُ فعلٍ إلى اسم، واسم إلى اسم،

                        وذلك شيءٌ يحصُلُ بقصد المتكلم،

                        فلا يصير ضَرَبَ خبَراً عن زيد بواضع اللغة،

                        بل بمن قصد إثبات الضرب فعلاً له، وهكذا:

                        ليضربْ زيدٌ، لا يكون أمراً لزيد باللغة، ولا اضرب أمرا لِلرجل

                        الذي تخاطبه وتُقبل عليه من بين كلِ من يصحّ خطابُه باللغة،

                        بل بك أيُّها المتكلم، فالذي يعود إلى واضع اللغة،

                        أنّ ضَرَبَ لإثبات الضرب، وليس لإثبات الخروج،

                        وأنه لإثباته في زمانٍ ماضٍ، وليس لإثباته

                        في زمانٍ مستقبَل، فأمَّا تعيين من يُثَبت له،

                        فيتعلّق بمن أراد ذلك من المخبِرين بالأمور،

                        والمعبِّرين عن ودائع الصُّدور، والكاشفين عن

                        المقاصد والدَّعاوى، صادقةً كانت تلك الدعاوى

                        أو كاذبةً ومُجْرَاةً على صحتها، أو مُزالةً عن مكانها

                        من الحقيقة وجهتها ومطلَقةً بحسب ما تأذن فيه العقول

                        وترسُمه أو معدولاً بها عن مراسِمها نَظْماً لها في سلك التَّخِييل،

                        وسلوكاً بها في مذهب التأويل، فإذا قلنا مثلاً:

                        خَطٌّ أَحسنُ مما وشَّاه الربيع أو صَنَعه الربيع،

                        وكنّا قد ادعينا في ظاهر اللفظ أن للربيع فعلاً أو صُنْعاً،

                        وأنه شارَك الحيَّ القادر في صحَّة الفعل منه،

                        وذلك تجوُّزٌ من حيث المعقول لا من حيث اللغة،

                        لأنه إن قلنا: إنه مجازٌ من حيث اللغة،

                        صرنا كأنَّا نقول: إن اللغة هي التي أوجبت أن يختصَّ

                        الفعلُ بالحيّ القادر دون الجمادِ، وإنها لو حَكَمَتْ

                        بأنّ الجماد يصحّ منه الفعل والصُّنْعُ والوشيُ والتزيين،

                        والصِّبْغ والتحسين، لكان ما هو مجازٌ الآن حقيقةً،

                        ولعاد ما هو الآن متأوَّلٌ، معدوداً فيما هو حقٌّ مُحصَّل،

                        وذلك محالٌ، وإنما يُتصوَّر مثل هذا القولِ في الكَلِم المفردة،

                        نحو اليد للنعمة، وذاك أنه يصحُّ أن يقال:

                        لو كان واضع اللغة وضع اليد أوّلاً للنعمة،

                        ثم عدَّاها إلى الجارحة، لكان حقيقةً فيما هو الآن مجازٌ،

                        ومجازاً فيما هو حقيقة فلم يكن بواجبٍ من حيث المعقول

                        أن يكون لفظ اليد اسماً للجارحة دون النعمة،

                        ولا في العقل أن شيئاً بلفظٍ، أن يكون دليلاً عليه

                        أولى منه بلفظ، لا سيما في الأسماء الأُوَل التي

                        ليست بمشتقّة، وإنما وِزان ذلك وِزان أشكال الخطّ

                        التي جُعلت أَماراتٍ لأجراس الحروف المسموعة،

                        في أنه لا يُتصوَّر أن يكون العقل اقتضى اختصاصَ

                        كل شكل منها بما اختُصَّ به، دون أن يكون ذلك

                        لاصطلاحٍ وَقَع وتواضعٍ اتَّفق، ولو كان كذلك،

                        لم تختلف المواضعات في الألفاظ والخطوط،

                        ولكانت اللغات واحدةً، كما وجبَ في عقل كل

                        عاقل يحصِّل ما يقولُ، أن لا يُثْبَت الفعل على الحقيقة

                        إلا للحيِّ القادر، فإن قلت: فإن اللغة رسمت

                        أن يكون فَعَلَ لإثبات الفعل للشيء كما زعمتَ،

                        ولكنّا إذا قلنا: فعل الربيع الوشيَ أو وَشَّى الربيع،

                        فإننا نريد بذلك معنًى معقولاً، وهو أن الربيع سببٌ

                        في كون الأنوار التي تُشبه الوَشْي،

                        فقد نقلنا الفعل عن حُكمٍ معقولٍ وُضع له،

                        إلى حكم آخر معقولٍ شبيهٍ بذلك الحكم،

                        فصار ذلك كنقل الأسد عن السبع إلى الرجل الشبيه به

                        في الشجاعة، أفتقول: الأسد على الرجل مجازٌمن حيث المعقول،

                        لا من حيث اللغة، كما قلت في صيغة:

                        فَعَلَ إذا أُسنِدت إلى ما لا يصحّ أن يكون له فِعْلٌ إنّها

                        مجازٌ من جهة العقل، لا من جهة اللغة.


                        فالجواب أن بينهما فرقاً، وإن ظننتهما متساويين،

                        وذلك أن فَعَلَ موضوع لإثبات الفعل للشيء على الإطلاق،

                        والحكم في بيان من يستحق هذا الإثبات وتعيينُه إلى العقل،

                        وأما الأسد فموضوع للسبع قطعاً، واللغة هي التي

                        عيّنت المستحقَّ له، وبرَسْمها وحُكمِها ثبت هذا

                        الاستحقاق والاختصاص، ولولاَ نَصُّها لميُتصوَّر

                        أن يكون هذا السَّبع بهذا الاسم أوْلَى من غيره،

                        فأمّا استحقاق الحيّ القادر أن يُثبَت الفعل له

                        واختصاصه بهذا الإثبات دون كل شيء سواه،

                        فبفرض العقل ونصِّهِ لا باللغة، فقد نقلتَ الأسد

                        عن شيء هو أصل فيه باللغة لا بالعقل،

                        وأمَّا فَعَلَ فلم تنقله عن الموضع الذي وضعته اللغة فيه،

                        لأنه كما مضى، موضوع لإثبات الفعل للشيء في زمان ماضٍ،

                        وهو في قولك: فَعَلَ الربيع باقٍ على هذه الحقيقة

                        غير زائلٍ عنها، ولن يستحقَّ اللفظُ الوصفَ بأنه مجازٌ،

                        حتى يجريَ على شيء لم يوضع له في الأصل،

                        وإثبات الفعل لغير مستحقِّه، ولما ليس بفاعل على الحقيقة،

                        لا يُخرِج فَعَلَ عن أصله، ولا يجعله جارياً على شيء

                        لم يوضع له، لأن الذي وُضعَ له فَعَلَ هو إثبات

                        الفعل للشيء فقط، فأمّا وَصْف ذلك الشيء

                        الذي يقع هذا الإثبات له، فخارجٌ عن دلالته،

                        وغير داخلٍ في الموضع اللغويّ، بل لا يجوز دخولُه فيه،

                        لما قدّمتُ من استحالة أن يقال:

                        إنّ اللغة هي التي أوجبت أن يُخْتصّ الفعل بالحيّ

                        القادر دون الجماد، وما في ذلك من الفساد العظيم،

                        فاعرفه فرقاً واضحاً، وبرهاناً قاطعاً.



                        وهاهنا نكتة جامعةٌ، وهي أن المجاز في مقابلة الحقيقة،

                        فما كان طريقاً في أحدِهما من لغة أو عقلٍ،

                        فهو طريقٌ في الآخر، ولستَ تشكُّ في أنّ طريقَ كونِ

                        الأسد حقيقةً في السبع، اللُّغةُ دون العقل،

                        وإذا كانت اللغة طريقاً للحقيقة فيه،

                        وجب أن تكون هي أيضاً الطريقَ في كونه مجازاً

                        في المُشبَّه بالسَّبُع، إذا أنت أجْريت اسم الأسد عليه

                        فقلت: رأيت أسداً، تريد رجلاً لا تميّزه عن الأسد

                        في بسالته وإقدامه وبطشه، وكذلك إذا علمتَ

                        أن طريق الحقيقة في إثبات الفعل للشيء هو العقل،

                        فينبغي أن تعلم أنه أيضاً الطريقُ إلى المجاز فيه،

                        فكما أن العقل هو الذي دلَّك حين قلت: فَعَلَ الحيُّ القادرُ،

                        أنك لم تتجوّز، وأنك واضعٌ قَدَمك على مَحْضِ الحقيقة،

                        كذلك ينبغي أن يكون هو الدالَّ والمقتضَى، إذا قلت:

                        فَعَلَ الربيع، أنك قد تجوّزت وزُلْتَ عن الحقيقة فاعرفه.



                        فإن قال قائل: كان سياق هذا الكلام وتقريرُه يقتضي

                        أنّ طريقَ المجاز كلِّه العقلُ، وأنْ لا حظَّ للُّغة فيه،

                        وذاك أنّا لا نُجري اسم الأسد على المشبَّه بالأسد،

                        حتى ندَّعيَ له الأسدية، وحتى نُوهِم أنه حين أعطاك

                        من البسالة والبأس والبطش، ما تجدُهُ عند الأَسد،

                        صار كأنه واحدٌ من الأسود قد استبدلَ بصورته صورة الإنسان،

                        وقد قدَّمت أنت فيما مضى ما بَيَّنَ أنك لا تتجوّز في

                        إجراء اسم المشبَّه به على المشبَّه،

                        حتى تُخيِّل إلى نفسك أنه هو بعينه فإذا كان الأمر

                        كذلك فأنت في قولك: رأيتُ أسداً، متجوّزٌ من طريق المعقول،

                        كما أنك كذلك في فعل الربيع، وإذا كان كذلك،

                        عاد الحديثُ إلى أنّ المجاز فيهما جميعاً عقليٌّ،

                        فكيفَ قسَّمته قِسمين لغويّ وعقلي.


                        فالجواب أنّ هذا الذي زعمتَ - من أنك لا تُجري اسم

                        المشبَّه به على المشبَّه حتى تدَّعيَ أنه قد صار من ذلك الجنس،

                        نحو أن تجعل الرجل كأنه في حقيقة الأسد صحيح كما زعمت،

                        لا يدفعه أحدٌ، كيف السبيل إلى دفعه،

                        وعليه المعوَّل في كونه التشبيه على حدِّ المبالغة،

                        وهو الفرق بين الاستعارة وبين التشبيه المُرْسَل?

                        إلاّ أن هاهنا نكتةً أخرى قد أغفلتَها، وهي أنّ تجوُّزك

                        هذا الذي طريقه العقْلُ، يُفضي بك إلى أن تُجري الاسم

                        على شيء لم يوضع له في اللغة على كل حال،

                        فتجُوزَ بالاسم على الجملة الشيءَ الذي وُضع له،

                        فمن هاهنا جعلنا اللغة طريقاً فيه.


                        فإن قلت: لا أُسلِّم أنه جرى على شيءٍ لم يوضع له في اللغة،

                        لأنك إذا قلت: لا تُجريه على الرجل حتى

                        تدّعيَ له أنه في معنى الأسد، لم تكن قد أجريته

                        على ما لم يوضع له، وإنما كان يكون جارياً

                        على غير ما وُضع له، أَنْ لو كنت أجريته

                        على شيءٍ لتُفيدَ به معنًى غير الأسدية،

                        وذلك ما لا يُعقَل، لأنك لا تُفيد بالأسد في التشبيه

                        أنه رجلٌ مثلاً، أو عاقل، أو على وصفٍ لم يوضع

                        هذا الاسم للدلالة عليه ألبتة. قيل لك:

                        قُصارَى حديثك هذا أنّا أجرينا اسم الأسد على

                        الرجل المشبَّه بالأسد على طريق التأويل والتخييل،

                        أفليس على كل حال قد أجريناه على ما ليس بأسد على الحقيقة?

                        وألسنا قد جعلنا له مذهباً لم يكن له في أصل الوضع.

                        وهَبْنا قد ادَّعينا للرجل الأسدية حتى استحق بذلك أن نُجْريَ

                        عليه اسم الأسد، أترانا نتجاوز في هذه الدعوى حديثَ الشجاعة،

                        حتى ندّعي للرجل صورةَ الأسد وهيئتَه وعَبَالة عنقه ومَخالبَه،

                        وسائرَ أوصافه الظاهرة البادية للعيون ولئن كانت

                        الشجاعة من أخصِّ أوصاف الأسد وأمكنِها،

                        فإن اللغة لم تضع الاسم لها وَحْدَها،

                        بل لها في مثل تلك الجُثَّة وهاتيك الصورة والهيئة

                        وتلك الأنيابِ والمخالبِ، إلى سائر ما يُعلَم من الصورة

                        الخاصَّة في جوارحه كلِّها، ولو كانت وضعتْه لتلك

                        الشجاعة التي تعرفُها وحدها، لكان صفةً لا اسماً،

                        ولكان كل شيءٍ يُفضِي في شجاعته إلى ذلك الحدّ

                        مستحقّاً للاسم استحقاقاً حقيقيّاً، لا على طريق التشبيه والتأويل،

                        وإذا كان كذلك فإنّا وإنْ كنَّا لم ندلَّ به على معنًى

                        لم يتضمّنه اسمُ الأسد في أصل وضْعه،

                        فقد سلبناه بعضَ ما وضع له،

                        وجعلناه للمعاني التي هي باطنةٌ في الأسد وغريزة

                        وطبعٌ به وخُلُقٌ، مجرَّدةً عن المعاني الظاهرة

                        التي هي جُثَّة وهيئةٌ وخلْقٌ، وفي ذلك كفايةٌ في إزالتِه

                        عن أصلٍ وَقع له في اللغة، ونقلِه عن حدِّ جَرْيهِ فيه

                        إلى حدٍّ آخر مخالفٍ له.


                        وليس في فَعَلَ إذا تُجُوِّز فيه شيءٌ من ذلك،

                        لأنّا لم نسلُبْه لا بالتأويل ولا غير التأويل شيئاً

                        وضعتْهُ اللغة له، لأنه كما ذكرتُ غيرَ مرّةٍ:

                        لإثبات الفعل للشيء من غير أن ىُتَعَرَّض لذلك الشيء ما هو،

                        أو هو مستحقٌّ لأن يُثَبت له الفعل أو غيرُ مستحق،

                        وإذا كان كذلك، كان الذي أرادت اللغة به

                        موجوداً فيه ثابتاً له في قولك: فَعَلَ الربيع،

                        ثبوتَه إذا قلت: فعل الحيُّ القادر، لم يتغيّر له صورة،

                        ولم ينقص منه شيء، ولم يَزُل عن حدٍّ إلى حدّ فاعرفه.


                        فإن قلتَ: قد عَلِمنا أنَّ طريق المجاز ينقسم

                        إلى ما ذكرتَ من اللغة والمعقول،

                        وأنَّ فَعَلَ في نحو: فعل الربيع، مما طريقه المعقول،

                        وأنّ نحو: الأسَد إذا قُصد به التشبيه،

                        واستعير لغير السبع، طريقُ مجازه اللغة،

                        وبقي أن نعلَم لم خصَّصتَ المجاز - إذا كان طريقه العقل -

                        بأن توصف به الجملة من الكلام دون الكلمة الواحدة،

                        وهلاّ جوّزتَ أن يكون فَعَلَ على الانفراد موصوفاً به.



                        فإنّ سببَ ذلك أن المعنى الذي له وُضع فَعَلَ

                        لا يُتصوَّر الحكم عليه بمجاز أو حقيقة حتى يُسْنَد إلى الاسم،

                        وهكذا كل مثال من أمثلة الفعل،

                        لأنه موضوع لإثبات الفعل للشيءِ،

                        فما لم نبيّن ذلك الشيء الذي نُثبته له ونذكره،

                        لم يُعقَل أنّ الإثبات واقعٌ موقعَه الذي نجده مرسوماً

                        به في صحف العقول، أمْ قد زال عنه وجازه إلى غيره.



                        هذا وقولك: هلاَّ جوَّزت أن يكون فَعَلَ على الانفراد

                        موصوفاً به، محالٌ، بعد أن نثبت أنْ لا مجازَ

                        في دلالة اللفظ، وإنما المجاز في أمر خارج عنه،

                        فإن قلت أردتُ هلاّ جوَّزت أن يُنسَب المجاز إلى معناه وحده،

                        وهو إثبات الفعل فيقال: هو إثبات فعلٍ على سبيل المجاز.



                        فإنَّ ذلك لا يتأَتَّى أيضاً إلا بعد ذكر الفاعل،

                        لأن المجاز أو الحقيقة، إنما يَظْهر ويُتصوَّر من

                        المثبَت والمثبَت له والإثبات،

                        وإثبات الفعل من غير أن يقيَّد بما وقع الإثبات له،

                        لا يصحّ الحكم عليه بمجاز أو حقيقة،

                        فلا يمكنك أن تقول: إثبات الفعل مجاز أو حقيقة

                        هكذا مُرسلاً، إنما تقول: إثبات الفعل للربيع مجازٌ،

                        وإثباته للحيّ القادر حقيقة.


                        وإذا كان الأمر كذلك علمت أنْ لا سبيل إلى الحكم

                        بأنّ هاهنا مجازاً أو حقيقةً من طريق العقل،

                        إلا في جملة من الكلام، وكيف يُتصوَّر خلافُ ذلك?

                        ووِزان الحقيقة والمجاز العقليين، وِزَانُ الصدق والكذب،

                        فكما يستحيل وصفُ الكَلِم المفردة بالصدق والكذب،

                        وأنْ يُجْرَى ذلك في معانيها مفرَّقةً غير مؤلَّفةً،

                        فيقال: رجل - على الانفراد - كذبٌ أو صدقٌ،

                        كذلك يستحيل أن يكون هاهنا حكم بالمجاز أو الحقيقة،

                        وأنت تنحو نحو العقل إلا في الجملة المفيدة،

                        فاعرفه أصلاً كبيراً واللَّه الموفقُ للصواب،

                        والمسؤولُ أن يعصم من الزَّلَل بمنّه وفضله.
                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #27
                          رد: أسرار البلاغة

                          فصل في الحذف والزيادة و هل هما من المجاز أم لا :


                          واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز، لنقلك لها عن معناها،
                          كما مضى، فقد توصف به لنقلها عن حُكمٍ كان لها،
                          إلى حُكْمٍ ليس هو بحقيقة فيها، ومثالُ ذلك أن المضاف إليه
                          يكتسي إعرابَ المضافِ في نحو: "وَاسْئَلِ القَرْيَةَ" "يوسف: 82"،
                          والأصل: واسئل أهل القرية،
                          فالحكم الذي يجب للقرية في الأصل وعلى الحقيقة هو الجرُّ،
                          والنصبُ فيها مجازٌ، وهكذا قولهم: بنو فلانٍ تَطَؤُهم الطريقُ،
                          يريدون أهلَ الطريق، الرَّفع في الطريق مجاز،
                          لأنه منقول إليه عن المضاف المحذوف الذي هو الأهل،
                          والذي يستحقّه في أصله هو الجرُّ،
                          ولا ينبغي أن يقال: إن وجهَ المجاز في هذا الحذفُ،
                          فإن الحذفَ إذا تجرَّد عن تغيير حُكْم من أحكام ما بقي
                          بعد الحذفِ لم يُسَمَّ مجازاً، ألا ترى أنك تقول: زيدٌ منطلق وعمرٌو،
                          فتحذف الخبر، ثم لا توصف جملة الكلام من أجل ذلك بأنه مجازٌ?
                          وذلك لأنه لم يُؤَدِّ إلى تغيير حكم فيما بقي من الكلام،
                          ويزيدُه تقريراً أن المجاز إذا كان معناه:
                          أن تجوزَ بالشيء موضعَه وأصلَه،
                          فالحذفُ بمجرَّده لا يستحقّ الوصف به،
                          لأنَّ تَرْك الذكر وإسقاطَ الكلمة من الكلام، لا يكون نقلاً لها عن أصلها،
                          إنما يُتصوَّر النقل فيما دخل تحت النطق،
                          وإذا امتنع أن يوصف المحذوفُ بالمجاز، بقي القولُ فيما لم يحذف،
                          وما لم يُحْذَف ودخل تحت الذكر،
                          لا يزول عن أصله ومكانه حتى يُغيَّر حُكمٌ من أحكامه أو يغيَّر
                          عن مَعَانيه، فأما وهو على حاله، والمحذوفُ مذكورٌ،
                          فتوهُّمُ ذلك فيه من أبعد المحال فاعرفه.

                          وإذا صحَّ امتناعُ أن يكون مجرَّدُ الحذفِ مجازاً،
                          أو تحِقَّ صفةُ باقي الكلام بالمجاز، من أجل حذفٍ كان
                          على الإطلاق، دون أن يحدُث هناك بسبب ذلك الحذف تغيُّرُ
                          حكمٍ على وجهٍ من الوجوه علمتَ منه أنّ الزيادة في
                          هذه القضية كالحذف، فلا يجوزُ أن يقال إن زيادة ما في نحو:
                          "فَبِمَا رَحْمَةٍ" "آل عمران: 951" مجازٌ،
                          أو أن جملة الكلام تصير مجازاً من أجل زيادته فيه،
                          وذلك أنّ حقيقة الزيادة في الكلمة أنْ تَعْرَى من معناهَا،
                          وتذكرَ ولا فائدة لها سوى الصّلة، ويكون سقوطُها وثبوتُها سواءً،
                          ومحالٌ أن يكون ذلك مجازاً، لأن المجاز أن يُراد بالكلمة غير
                          ما وُضِعت له في الأصل أو يُزَادَ فيه أو يُوهَم شيءٌ ليس من شأنه،
                          كإيهامك بظاهر النَّصب في القرية أن السؤال واقعٌ عليها،
                          والزائد الذي سقوطه كثبوته لا يُتصوَّر فيه ذلك.

                          فأمَا غير الزائد من أجزاء الكلام الذي زِيدَ فيه،
                          فيجب أن يُنظَر فيه، فإن حدَثَ هناك بسبب ذلك الزائِد
                          حكمٌ تزول به الكلمة عن أصلها، جاز حينئذٍ أن يُوصَف ذلك الحكم،
                          أو ما وَقَع فيه، بأنه مجاز،
                          كقولك في نحو قوله تعالى: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" "الشورى: 11"
                          إن الجرّ في المِثْل مجازٌ، لأن أصله النصب،
                          والجرُّ حكمٌ عَرَض من أجل زيادة الكاف، ولو كانوا إذ جعلوا
                          الكاف مزيدة لم يُعملوها، لما كان لحديث المجاز سبيلٌ على هذا الكلام،
                          ويزيده وضوحاً أن الزيادة على الإطلاق لو كانت تستحق
                          الوصفَ بأنها مجاز، لكان ينبغي أن يكون كل ما ليس بمزيد
                          من الكلم مستحقّاً الوصف بأنه حقيقة، حتى يكون الأسد في قولك:
                          رأيت أسداً وأنت تريد رجلاً حقيقةً. فإن قلت: المجاز على أقسام،
                          والزيادة من أحدها، قيل هذا لك إذَا حدَّدتَ المجاز بحدٍّ تدخل الزيادة فيه،
                          ولا سبيلَ لك إلى ذلك، لأن قولَنا: المجاز،
                          يفيد أن تجوز بالكلمة موضعَها في أصل الوضع، وتنقلها
                          عن دِلالة إلى دِلالة، أو ما قَارَب ذلك، وعلى الجملة فإنه
                          لا يُعقَل من المجاز أن تَسْلُب الكلمة دِلالتَها، ثم لا تُعطيها دِلالةً،
                          وأن تُخلِيَها من أن يُرَاد بها شيء على وجهٍ من الوجوه،
                          ووصفُ اللفظة بالزيادة، يفيد أن لا يُرَاد بها معنًى،
                          وأن تُجعَل كأن لم يكن لها دلالة قطُّ، فإن قلت:
                          أَو ليس يُقال إن الكلمة لا تَعْرَى من فائدة مّا،
                          ولا تصير لَغْواً على الإطلاق، حتى قالوا إنّ ما في نحو فبما
                          رحمة من اللَّه، تفيد التوكيد. فأنا أقول إنَّ كونَ مَا تأكيداً،
                          نقلٌ لها عن أصلها ومجازٌ فيها،
                          وكذلك أقول: إن كون الباء المزيدة في ليس زيد بخارج،
                          لتأكيدِ النفي، مجازٌ في الكلمة، لأن أصلها أن تكون للإلصاق
                          فإنّ ذلك على بُعده لا يقدح فيما أردتُ تصحيحَه،
                          لأنه لا يُتصوَّر أن تصفَ الكلمة من حيث جُعلت زائدة بأنها مجازٌ،
                          ومتى ادّعينا لها شيئاً منالمعنى، فإنَّا نجعلها من تلك الجهة غير مزيدة،
                          ولذلك يقول الشيخ أبو علي في الكلمة إذا كانت تزولُ عن
                          أصلها من وجه ولا تزول من آخر مُعْتدٌّ بها من وجهٍ،
                          غيرُ مُعْتدٍّ بها من وجهٍ، كما قال في اللاّم من قولهم: لا أبا لِزَيْدٍ،
                          وجعلها من حيث مَنعت أن يتعرَّف الأبُبزيدٍ، معتدّاً بها من حيث
                          عارضها لام الفعل من الأب التي لا تعود إلا في الإضافة نحو:
                          أبو زيد وأبا زيد، غير معتدٍّ بها، وفي حكم المُقحَمة الزائدة،
                          وكذلك توصف لا في قولنا مررت برجلٍ لا طويلٍ ولا قصيرٍ،
                          بأنها مزيدةٌ ولكن على هذا الحدّ، فيقال: هي مزيدة غيرُ مُعْتدٍّ بها
                          من حيث الإعراب، ومعتدٌّ بها من حيث أوجبت نفي الطول والقِصَر
                          عن الرجل، ولولاها لكانا ثابتين له. وتطلق الزيادة على
                          لا في نحو قوله تعالى: "لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكِتَابِ أن لا يَقْدِرُونَ"
                          "الحديد: 29"،
                          لأنها لا تفيد النفي فيما دخلت عليه،
                          ولا يستقيم المعنى إلاّ على إسقاطها،
                          ثم إنْ قلنا إنّ لا هذه المزيدةَ تُفيد تأكيد النفي الذي
                          يجيء من بعدُ في قوله: "أن لاَ يَقْدِرُونَ"،
                          وتؤذن به، فإنّا نجعلها من حيث أفادت هذا التأكيد غيرَ مزيدة،
                          وإنما نجعلها مزيدة من حيث لم تُفد النفي الصريح
                          فيما دخلت عليه، كما أفادته في المسألة،
                          وإذا ثبتَ أنَّ وصفَ الكلمة بالزيادة، نقيضُ وصفها بالإفادة،
                          علمت أن الزيادة، من حيث هي زيادة، لا توجب الوصف بالمجاز،
                          فإن قلت: تكون سبباً لنقل الكلمة عن معنًى هو
                          أصلٌ فيها إلى معنًى ليس بأصلٍ كدتَ تقول قولاً يجوز الإصغاء إليه،
                          وذلك، إن صَحّ، نظير ما قدّمتُ من أن الحذف
                          أو الزيادة قد تكون سبباً لحدوث حكم في الكلمة تدخل
                          من أجله في المجاز، كنصب القرية في الآية وجرّ
                          المِثْل في الأخرى فاعرفه. واعلم أن من أصول هذا الباب:
                          أن مِن حقّ المحذوف أن المزيد أن يُنسَب إلى جُملة الكلام،
                          لا إلى الكلمة المجاورة له، فأنت تقول إذا سُئلت عن:
                          اسأل القرية: في الكلام حذفٌ، والأصل: أهل القرية،
                          ثم حُذف الأهل، تعني حُذف من بين الكلام، وكذلك تقول:
                          الكافُ زائدة في الكلام والأصلُ: ليس مثلَه شيءٌ،
                          ولا تقول هي زائدة في مثل، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقال
                          إنّ ما في فبما رحمة، مزيدةٌ في الرحمة،
                          أو في الباء وأن لا مزيدة في يعلم، وذلك بَيِّنُ الفساد،
                          لأن هذه العبارة إنما تصلح حيث يُرَاد أن حرفاً زيد
                          في صيغة اسم أو فعل، على أن لا يكون لذلك الحرف
                          على الانفراد معنَى، ولا تعُدّه وحده كلمةً،
                          كقولك: زيدت الياء للتصغير في رُجيل، والتاء للتأنيث في ضَارِبَة،
                          ولو جاز غيرُ ذلك، لجاز أن يكون خبر المبتدأ إذْ حُذف في نحو:
                          زيد منطلق وعمرو، محذوفاً من المبتدأ نفسه،
                          على حدِّ حذف اللام من يَدٍ ودَمٍ، وذلك ما لا يقوله عاقل،
                          فنحن إذا قلنا إن الكاف مزيدة في مثل، فإنما نعني
                          أنها لمّا زيدت في الجملة وُضعت في هذا الموضع منها،
                          والأَصحُّ في العبارة أن يقال: الكاف في مثل مزيدة،
                          يعني الكاف الكائنة في مثل مزيدةٌ، كما تقول الكاف
                          التي تراها في مثل مزيدةٌ وكذلك تقول: حُذِفَ المضافُ
                          من الكلام، ولا تقول: حذف المضاف من المضاف إليه،
                          وهذا أوضح من أن يخفى، ولكنيِّ استقصيتُه، لأني رأيت
                          في بعض العبارات المستعملة في المجاز والحقيقة ما يُوهم ذلك فاعرفه.

                          ومما يجب ضبطه هنا أيضاً: أن الكلام إذا امتنعَ حمله
                          على ظاهره حتى يدعو إلى تقديرِ حذفٍ، أو إسقاطِ مذكورٍ،
                          كان على وجهين: أحدهما أن يكون امتناع تركه على ظاهره،
                          لأمرٍ يرجع إلى غرض المتكلم، ومثاله الآيتان المتقلدم تلاوتهما،
                          ألا ترى أنك لو رأيت اسأل القرية في غير التنزيل،
                          لم تقطع بأن هاهنا محذوفاً، لجواز أن يكون كلام رجل
                          مرَّ بقرية قد خَرِبت وباد أهلها، فأَراد أن يقول لصاحبه
                          واعظاً ومذكّراً، أو لنفسه مُتَّعظاً ومُعْتبراً اسأل القرية عن أهلها،
                          وقلْ لها ما صنعوا، على حد قولهم: سَلِ الأرض مَن شَقَّ أنْهارَك،
                          وغَرَس أشجارك، وجَنَى ثمارك، فإنها إن لم تُجِبْك حِواراً،
                          أجابتْك اعتباراً وكذلك: إن سمعت الرجل يقول:
                          ليس كمثل زيدٍ أحدٌ، لم تقطع بزيادة الكاف،
                          وجوّزت أن يريد: ليس كالرجل المعروف بمماثلة زيد أحدٌ،
                          الوجه الثاني أن يكون امتناعُ تَركِ الكلام على ظاهره،
                          ولزومِ الحكم بحذفٍ أو زيادةٍ، من أجل الكلام نفسِه،
                          لا من حيث غَرَض المتكلم به، وذلك مثل أن يكون
                          المحذوف أحدَ جزءي الجملة،
                          كالمبتدأ في نحو قوله تعالى: "فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" "يوسف: 18-83"،
                          وقوله: "مَتَاعٌ قَلِيلٌ" "النحل: 117"، لابُدَّ من تقدير محذوف،
                          ولا سبيل إلى أن يكون له معنى دونه،
                          سواءٌ كان في التنزيل أو في غيره،
                          فإذا نظرتَ إلى: صَبْرٌ جميلٌ في قول الشاعر:

                          يشكو إليَّ جَمَلي طُولَ السُّرَى ** صَبْرٌ جَمِيلٌ، فكِلانَا مُبْتَلَـى

                          وجدته يَقْتضي تقديرَ محذوفٍ، كما اقتضاه في التنزيل،
                          وذلك أن الداعي إلى تقدير المحذوف هاهنا،
                          هو أن الاسم الواحدَ لا يفيدُ، والصفة والموصوف حكمهما
                          حكم الاسم الواحد، وجَميلٌ صفة للصَبْر. وتقول للرجل: مَنْ هذا?،
                          فيقول: زيدٌ، يريد هو زيد، فتجد هذا الإضمار واجباً،
                          لأن الاسم الواحد لا يُفيد، وكيف يُتصوَّر أن يفيد الاسم الواحد،
                          ومَدَارُ الفائدة على إثبات أو نفي،
                          وكلاهما يقتضي شيئين: مُثَبتٌ ومُثَبتٌ له، ومَنْفيٌّ ومنفيٌّ عنه.

                          وأما وجوب الحكم بالزيادة لهذه الجهة،
                          فكنحو قولهم: بحَسْبك أنْ تفعل، و: "كَفَى باللَّه" "سورة النساء: 6"،
                          وآيات أخر، إن لم تقضِ بزيادة الباء،
                          لم تجد للكلام وجهاً تصرفه إليه، وتأويلاً تتأوله عليه ألبتة،
                          فلا بدَّ لك من أن تقول إن الأصل حَسْبُكَ أن تفعل،
                          وكفَى اللَّه، وذلك أن الباء إذا كانت غير مزيدة،
                          كانت لتعدية الفعل إلى الاسم، وليس في بحسبك
                          أن تفعل فعلٌ تعدّيه الباء إلى حسبَك، ومنْ أين يتصوّر
                          أن يتعدَّى إلى المبتدأ فعلٌ، والمبتدأ هو المعرَّى من العوامل اللفظية؛
                          وهكذا الأمر في كفى أو أقوى،
                          وذلك أن الاسم الداخلَ عليه الباء في نحو: كفى بزيد،
                          فاعل كَفَى، ومحالٌ أن تُعَدِّيَ الفعل إلى الفاعل بالباء
                          أو غير الباء، ففي الفعل من الاقتضاءِ للفاعل ما
                          لا حاجة معه إلى مُتَوَسِّط ومُوصِل ومُعَدٍّ، فاعرفه،
                          واللَّه أعلم بالصواب
                          تم الكتاب بحمد الله


                          ===========
                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق

                          يعمل...
                          X