إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تتشكل الهند شخصية كــ أمة مثيرة للفضول المعرفي بعناصر الديانات والأعراق والحداثة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تتشكل الهند شخصية كــ أمة مثيرة للفضول المعرفي بعناصر الديانات والأعراق والحداثة

    أمة مثيرة للفضول المعرفي تتشكل

    شخصيتها بعناصر الديانات والأعراق والحداثة

    الهند.. نص بكر




    بالنسبة إلينا، تبدو الهند غارقة في عتمة فكرة مسبقة عنها غالبا ما روّجت لها وسائل الإعلام بحيث اختصرت شبه القارة تلك بالجوع والفقر، وفي أحسن الأحوال في بعض النصوص التأسيسية القديمة المترجمة إلى العربية نقلا عن الانجليزية، غالبا.

    وواقع الأمر، أن الهند أمةً ـ دولة مثيرة للفضول المعرفي على نحو ما هي عليه اليوم، ليس لأنها، تختصر بؤس العالم الثالث، بل لأنها قد تجاوزت هذا البؤس وتعيش مرحلة من مراحل الدولة التي تختلط فيها العناصر التقليدية للحياة اليومية والعيش المشترك بين الطوائف والديانات والأعراق بعناصر الحداثة وما بعدها وتتعايش معا في الشخصية الهندية، ليس على مستوى الأدب فحسب بل قبل ذلك على كل المستويات التي تتجلى عبرها مظاهر الحياة بتنوعها واختلافها وتعددها.ما يلي ترجمة كاملة لمقالة أكاش كابور فمقاطع واسعة من الفصل الأول من “ملكة جمال الهند الجديدة” بحسب ما وردتا في “نيويورك تايمز”.
    تقديم وترجمة: جهاد هديب


    ويقينا، فالهند نص بكر بالنسبة إلينا، لم نقرأه نحن العرب حتى اليوم بحيث من الممكن الاستفادة منه ومن خبراته وتجاربه، وبالتأكيد فإن حال الهند في ذلك هي حال أمم عديدة تجاورنا شرقا وغربا وجنوبا، لكننا لم نعد ننظر إليها مليّا مثلما كان يفعل أجدادنا في السابق، حتى لكأننا فقدنا في العصر الحديث أحد الركائز التي لا غنى عنها لتحصيل المعرفة وهي “فضول” معرفة “الآخر” على ما هو عليه وبتحييد مطلق للفكرة المسبقة عنه وللموقف منه، فهما اللذان يحولان دون تحقق تلك المعرفة وهما ـ أي الفكرة والموقف ـ قد تكوّنا حديثا خلال فترة ما بعد الاستقلال حيث كانت أغلب بقاع الكرة الأرضية تتثاءب من غفوة كولونيالية طال أمدها.
    ما همّ، فقد نشرت اليومية الأميركية “نيويورك تايمز” مطلع هذا الشهر فصلا طويلا من رواية تصدر الآن للروائية الهندية بارَتي موخَرجي حملت العنوان: “ملكة جمال الهند الجديدة”، أعقبها بعد ذلك بثلاثة أيام نشر مقالة نقدية عن الرواية للناقد والكاتب الهندي أكاش كابور من كتابه “الهند الجذّابة” الذي يصدر بالانجليزية في مارس المقبل.
    وبصورة غير مباشرة، قد يرى البعض من بيننا ما لم يكن يعرف من قبل، او أقلها لم يكن أكيدا من هذه المعرفة، مما يعين المرء على تلمّس شيئا من الحراك الاجتماعي ـ التاريخي للهند الحديثة، حيث يمارس الأدب ونقده دورهما السوسيولوجي في الكشف عن ما يمور به المجتمع في هذه المرحلة. فالأدب ونقده هنا ليسا مرآة فحسب بل تشريحا أيضا لبنية العلاقات السائدة بين الأفراد بعضهم ببعض من جهة ثم بينهم وبين الطبقات التراتبية دينيا واقتصاديا من جهة أخرى، غير أن تركيز الأدب ونقده في هذا السياق هو الفرد ثم ذلك الأثر الذي تتركه في العلاقات الاجتماعية في أتون ذلك حراك ذي سرعات متعددة غنما لا يعرف البطء أو التوقف، حتى لكان حياة الفرد أشبه بحبة مطر قد تقع هنا او هناك لتكون مفيدة على نحو ما أو أن مصيرها إلى الجفاف.
    «بارَتي مُخَرْجي» تكتب حكاية رمزية للهند المعاصرة
    أكاش كابور
    الأمم حكايا. كل بلاد تشكّلت من مجموعة من الأفكار والأساطير. وعلى نحو يتعذّر اجتنابه، هي شُروحات، وغالبا كليشيهات، لكنها مجتمعة تغيّبُ البلادَ وتفرض على مختلَف السكّان ترابطا منطقيا محددا.
    تغيّرت حكاية الهند الحديثة خلال بضعة العقود الأخيرة. ولعدة منها ـ أي العقود ـ في فترة ما بعد استقلالها جسّدت الهند مفهوم العالم الثالث. كانت أرضَ جوعٍ بائسٍ ومراتب كهنوتية منظّمة غير قابلة للتغيير ـ “منطقة ظلام”، بحسب العنوان الجدير بالذكر للكتاب الأول لفي. إس. نايبول عن هذه البلاد؛ ومكان: “الطقس الحارّ والغبار”؛ هذا العنوان الأقل كآبة فقط، إنما على نحو أكثر ازدراءً، لرواية 1957 لروث براور جابفالا. لكنّ الهند قد بدأت تتحرك الآن، وإلى حدّ بعيد هي الحكاية الهندية ذاتها. فعلى نحو سريع، برزت الهند إلى حيّز الوجود منذ فترة مبكِّرة من التسعينيات، عندما جرى من جديد إصلاح اقتصادها الاشتراكي الذي أثبت جنونه.
    اليوم، وبوصف الهند قد أصبحت قوة عالمية واثقة من نفسها بصورة متزايدة، احْتُلَّ مكان الحكايا القديمة، بصورة متساوية، من قبل الأخرى الجديدة ـ التي أصبح أغلبها كليشيهات ـ حول لا نهائية انتهاز الفرص والوفرة الهائلة والقابلية الاجتماعية للانتقال والتحرك والبراعة التكنولوجية الفائقة.
    بارَتي مُخَرْجي، تنغمس رواتها الثامنة في الكثير من هذه الكليشيهات الجديدة. بطلة “ملكة جمال الهند الجديدة” امرأة شابة، أنجالي بوس، التي تفّرُ من عوائق البلدة الصغيرة بيهار، إحدى أكثر الولايات الهندية تخلّفا، إلى بَنغالور الواعدة، واحدة من أكثر مدن البلاد (بل والعالم) نموا. هناك تعمل في مركز للمخابرة الهاتفية، وتحبّ، وتقابل شابا ديناميكيا، يعمل منتجا يلقّن المبتدئين ويتعاقد معهم، يجعلها تندهش من كل ما يحيط بها. تلاقي حصّتَها من الأذى ـ وحشية الشرطة، والاحتيالات العقارية ـ لكنها في النهاية تنجح في إعادة تلفيق نفسها. والعنوان “ملكة جمال الهند الجديدة” يقترح، بالتالي صورة انطباعية جديدة للبلاد الشاسعة المتنوعة، فهو ضَربٌ من الحكاية الرمزية للأمة الجديدة. وهذه الحكاية ليست خُلوا من غبطتها: كتابة مُخَرْجي بوسعها أن تثير الذكريات والمشاعر، حتى أنّ بوسعها أنْ تكون شعريةً أيضا.
    إنّ توصيفها للانتزاع الثقافي لأنجالي قد تمَّ تدوينه غالبا بذكاء اجتماعي متّقد. والمشكلة أن حبكة الرواية تتضح تقريبا بأسلوب من الممكن التنبؤ به برمّته. والنوع الرقيق لنثر موخرجي من الصعب أن يُخدم عن طريق مُحافَظة سردية أكيدة ومتصلة بموضوع الحكاية، ثمة قصور بيِّنٌ إلى ما وراء ما تُوُوضٍعَ على صحته وكذلك من الصعب أن يخدم هذا النوع من السرد بواسطة ابتذالات منتشرة الآن تلك التي جاءت كي تُعَرِّف “الهند الجديدة” (بشيء ما من الابتذال نفسه، بما أن الأمة ما تزال خليطا ممخوضا دفعةً واحدةً ومُحتارا بين القديم والجديد، وبين ما تمّ هجرانه والحديث).
    وتتضح نزعة موخرجي إلى إفراغ معرفة تقليدية في قالب جديد غالبا في توصيفها، لمدينة هي في المخيلة الشعبية مألوفة وغريبة معا، بانغالور، فجاء تقديمها على أنها استعارة لهند القرن الحادي والعشرين بعض الشيء. بنغالور موخرجي (أو Bang-a-B ck بحسب ما تصّر إحدى الشخصيات على مناداتها) هي كاريكاتير عادي جدا كلُّه. هي “رأسمالية على نحو صاخب” و”المركز الجديد للكون”، و”اذهب ـ كي ـ تفلس”، وسلطة ـ شدّ ـ وتر القوس، وانْسَ ـ ما يتعلق ـ بالبارحة، ودعنا نغادرها كلها”.. هي مكان جرى احتلاله من وعي تكنولوجي؛ من شبّان هنود ما فوق مغرورين من الذين يتكلمون لهجات أميركية مبالغ في تضخيمها واستعاضوا عن اعتدال جيل سابق بدغدغة الجنس المتقطّع والكحول والأندية الليلية.
    هذه الصور ليست خاطئة تماما. (على الرغم من أن الكتاب يتضمن أخطاءً اقتضائيةً: ستاربكس، هذه الشركة التي لها شعار يحفّز تخيُّلات المتعة العقلية لدى أنجالي، لم تؤسس متجرا في الهند). في الواقع، بانغالور مكان مثير للإعجاب، لولا أنّ موخرجي تسلط الضوء على نسخة ملائمة لمدينة إيضاح فظٍ، وشريحةٍ مصغّرةٍ للتجربة الهندية الحديثة. وهي كذلك ـ أي المدينة بحسب موخرجي ـ واثقة من نفسها قليلا في بلد حيث ما تزال الملايين جوعى وعطاشى، وحيث ما تزال الأكثرية محجوبة بوفرة مروِّعة وفرصة تمّانتهازها من نخبة قليلة. (تأمل، على سبيل المثال، بلدا من 1.2 بليون نسمة يُستخدم قرابة المليونين من بينهم في التكنولوجيا والقطاعات الخدمية والصناعات الأقل أجرا المرتبطة بها نجحت مؤخرا في تحديد إدراك عام للمجتمع بصورة عامة).
    لحسن الحظ تتحسن الرواية بسبب نقل موخرجي اهتمامها المذكّرات الاجتماعية إلى تفاصيل تجربة أنجالي في بانغالور. في روايات مبكّرة مثل “ياسمين” و”فتيات مرغوب بهنّ” كتبت موخرجي بصورة مثيرة للمشاعر عن الخبرة المهاجرة؛ وبوضوح، على أرض مألوفة وراسخة، عندما ترسم خريطة كفاح أنجالي من أجل ذاتها الشرقية في عالم لا يشبه ذلك العالم الذي عرفته من قبل. إن عقدة أنجالي، التي تتكشف تدريجيا بسببتوالي وقائع وأحداث الرواية، تعطي فكرة خاطئة عن نبوئية وسطحية المشهد التخييلي الذي تقيم فيه.
    “لقد رأت الفيلم لمئة مرة” تكتب موخرجي مبكرا، بُعيْدَ وصول أنجالي إلى بانغالور. وبرغم أنه فضولي، إلا أنّ ذلك خلاصة حادّة الذكاء للرواية ككل، والتي تشعر بأنها مكررة قليلا كردّ فعل على فانتازيات الطبقة الوسطى وأساطيرها التي عرّفَتْ الهند على نحو متزايد أكثر فأكثر، وذلك نوع ملائم لمشروع بناء الأمة.
    إنّ التفاؤل والطاقة الهائلين للهند الحديثة امتداد هام تغذى من طريق أوهام احترام الذات التي تخصّ البلد. لكنْ ينبغي على الأدب أنْ يذهب إلى أعمق ـ أسفل سطح المعرفة التقليدية، وإلى ما وراء القصص البسيطة والتبسيطية التي ترغب الأمم في أنْ تُخبرها عن نفسها.
    أنجالي لم تتلَقَّ العالم بخمول
    (فصل من رواية «ملكة جمال الهند الجديدة» لبارَتي موخَرجي)
    في التاسعة عشرة، كانت أنجالي بوسي فتاة طويلة، مائة وثلاث وسبعون سنتيمترا ـ خمسة أقدام وثمانية بالعشرة من القدم ـ اكثر طولا من معظم الصبية في كلِيَّتها. كانت من بين الفتيات لاعبات فريق الهوكي. تبتسم عن طيب نَفْس عندما تفعل ذلك؛ ويمكنها أن تُضيء غرفة مثل مصباح الهالوجين. تظهر خصائص الشكل التقليدي نفسها عبر الأهداب الطويلة والحواف المستديرة المكحولة والعينين السوداوين الناعستين. دَرَتْ النسوةُ الخجولات بالنظرةَ العجلى، المتجاهلة، المتجهة إلى أعلى من مقدمة الرأس. أنجالي لم تتلَقَّ العالم بخمول عينين واسعتين. عوّضت عن ضوئها واخضرار عينيها بعظام في وجنتين عاليتين وحاجبين ناتئين. حلّ الوجهُ نفسَه عقدة فكّ طويل وفم ضخم بشفتين ممتلئتين وأسنان بارزة. ترقب والداها اليوم الذي سوف ينبغي أن يزوّجانها فيه، كانا قلقين بشكل علني من قَسَماتها الحازمة بأكثر مما ينبغي. لكنّ ندرةً من الغرباء هي التي مرّت بالبلدة، عاملو صحة أو خبراء معونات مالية ينوبون عن مؤسسات دولية. تحدّثت إليهم، تباهَتْ أحيانا بأثَرِ أجداد من بورما أو النيبال. أخبرتهم بالعديد من القصص، كانت كلُّها مقبولة ظاهريا، حتى أن البعض من بينها ربما تكون حقيقيةً. صنعتْ دائما انطباعا أولا عنها ممتازا.
    أي طريق تؤدي إلى البلدة الريفية في غوريبور، في ولاية بيهار، حيث من الممكن انْ توجد هناك دزينة من “أناجالي ـ ات” هنّ “تَقْدِماتٌ لإله” لكن ما من رجل ليس من الأقرباء يجسُرُ على مناداتهن بالاسم. والأغلب من بين ال”أنجالي ـ ات” الأخريات يرغبن في الزواج؛ يرغبْنَ أنْ يكُنَّ مقيدات بالساريس، يحملن أطفالا أو يمسكن بأصابعهن أيديهم وهم يمشون الهوينى فيما يساوم الأزواج دونما براعة من أجل سمك وخضار. يأتي الشارع برجل على درّاجة ومن عادته أنْ يكون مفضوحا. ينبغي أنْ يكون النداء لها، الراكب في بنطلون جينز وتي شيرت يُعلن عن رحلة عذراء (هامبورغ، شتوتغارت، كولن، بازل، زيورخ، فيينا، براتيسلافا) لقد أحبّتْ هذا الإبدال الصوتي لبانزر ديلايت، فرقة موسيقى البانك الألمانية، قبل سنوات عديدة. المرأة الشابة التي تنتظر ترغب أنْ تنادى بالاسم الذي تفضله: آنجيلا، أو بالأحسن منه أيضا: آنجي. درّاجة لامبرِتا قديمة وصدئة، النوع الذي كان شائعا من خلال مكتب غوريبور للعمال يعود إلى الستينات، فرمل ثم توقفت بأزيز؛ سائقها تموّج بها ثم دفعها برفق نحوها عبر دخان الديزل الأزرق الخارج من الباصات والشاحنات؛ والركام المُلْتزّ من عربات ودرّاجات هوائية: هند متورِّمة ومضطربة في حوزة الحركة.
    كانت تقف خارج بازار غوريبور، المعروف محليا ببنكي محل، صرحُ البلدة ذو الطوابق الثلاثة بحسب التطوّر المديني. عندما كان بنكي محل يُبن، حُمِلتْ الآجُّرات واحدة في إثر أخرى من قِبَل أعداد كبيرة من الأطفال الشغيلة المأجورين خلال النهار. وصفوف من النسوة العاملات سَلَكْنَ طريقهنّ على طول الألواح الخشبية المفردة فيما يُوازِنَّ كرات من الإسمنت على رؤوسهنّ ويفرِغْنَها في أكياس من البلاستيك. وخلال عملية البناء وقفت لوحة إعلانات عامة على شارع لال باهادور شاستري، إنها البورتريه الملحمي الذي يغذّي جمهورا ساذجا: رائع إلى حدٍ استثنائي، برجُ مكاتب الشركات بطوابقه الخمس، خلف مشهد صغير لغابة من الظلال والأشجار المزهرة والمُرَيْجة الخضراء والينابيع والساعة الرملية. وفي لوحة الإعلانات أيضا حُرّاس معمَّمون يرحبون بصفٍّ يلمع من السيارات المستوردة التي تقف على مدخل البناية. وفوق الرؤوس المعمّمة أذيعت أسطورتان: HDQS العام في غوريبور الجميلة والمثيرة! ويحدث الآن! حيّز تجاري للبيع سريعا!
    برج مكاتب الشركات، بطوابقه الثلاثة بدلا من الخمسة التي أعلن عنها، اكتمل في سنة، لكن خلال ستة شهور من افتتاحه الرسمي تفتت اللُصوق الخارجي القرنفلي مخلّفةً عروقا طويلة في الآجرّات. اشترى متعهد البناء ذلك الدهان القرنفلي فاسدا وأعاده إلى اللصوق المتعرّق. حامضٌ وقِلْوي؛ قام بشرح ذلك الرجلُ الذي يعمل في تنمية العقارات وتطويرها، ثمّ فرَّ إلى الخليج العربي ولذلك فإن الطابقين الأعلى في بنكي محل لم يُشغلا، والطابق الأرضي منه أجِّرَ وسُكِنَ من قِبَل مالكي المتاجر الصغيرة الذين زادوا لها خدمة كهربائية متذبذبة ولا هواء مكيّفا فيها بسبب أن الطابق الأدنى كان مؤجرا. أصبح بنكي محل مبنى قبيحا أفضل من انه صرحٌ ضخمٌ في مركز المدينة.
    عندما أفلس بنكي محل؛ اعتُصِرَتْ روح غوريبور.
    ثم جاء النداء ثانيةٍ، معَدّلا بهدوء: “آنجي!”
    دفع السيد شامبيون درّاجته إلى مأْمَنِ في القناة، فيما كانت أنجالي إلى الأعلى منه على الحافة العالية المكسورة لرصيف المُشاة. لم ترَ كثيرا أستاذها السابق في الأشهر الاثني عشر الماضية منذ تخرجت من ثانوية فاسكو دي غاما والتحقت ببرنامج شهادة البكالوريوس في وسائل الاتصال بكلية فاسكو دي غاما. خلال هذا الوقت نَمَتْ لحيته الضاربة إلى الحمرة مبقّعةً بالشيب. كانت حقيبة الكتب المرقعة مقذوفة إلى فوق كتفه، وما زال يرتدي الكورتا القطنية المخيطة يدويا ذات العلامة التجارية فوق الجينز الأزرق. ومن زاوية نظرها المرتفعة رأتْ شعره الذي كان قاحلا. كانت بعوضاتٌ تئزّ فوق اللطخة الصلعاء، لقد هبطن، لكن يبدو أنه لم يلاحظ.
    ينبغي أنْ يكون قد بلغ أكثر من الخمسين من العمر، فكّرتْ، كان في بيهار قبل قرابة الثلاثين سنة، لكنه ما يزال نحيل ونَشِطٌ جدا ذلك أنه يبدو غير ناضج. بدا الأميركيين كلهم – داخل المحيط الضيّق لتجربتها – غير ناضجين. كان أبوها، الذي يعمل في مكتب في سكة حديد ثانوية محلية، أكثر شبابا من السيد شامبيون لكن يبدو أكبر سنا. كان من المستحيل لأبيها البدين، بصوته الحاسم وتصرفاته المتأمِّرة، أن يفكر في أي شيء باستثناء درو الأب الذي قد جرى تنجيده. لا يستطيع أبدا أن يرتدي قميصا مجعّدا أمام الناس أو حتى لباسا غير رسمي عندما يذهب إلى المكتبن ولم يمتلك في حياته جينزا أزرق.
    “ظننت أنكِ قد غادرتِ” قال الأميركي، ثم وبتركيز أكثر “في الحقيقة، اعتقدت أنكِ قد أخبرتني أنكِ قد غادرتِ. وكان ذلك قبل شهور عديدة”.
    وعندما، بشكّ، ابتسم، ابتسمت، “أحببت لحيَتكَ، سيّد شامبيون”.
    “أنا لستُ أستاذكِ بعد الآن، أنجالي. تستطيعين أن تنادينني: بيتر”.
    إن أنتَ ناديتني بآنجي، فقط”.
    كان لها سرٌّ عن أستاذها قامت بإخماده عبر سنواتها الثلاث الأخيرة في ثانوية فاسكو دي غاما، ومع أنها مثل طلبة فاسكو دي غاما الآخرين كانت تتحدث إلى أساتذتها، فقد غازلته بوصفهما سيّد وسيّدة، فقد خاطبته بسيّد شامبيون في وجهه، و”الأميركي” من خلف ظهره. كان الرجلَ العلمانيَ الوحيد دون الستين من العمر والرجل الأبيض الوحيد في المدرسة الذي خاض معركة انتخابية بساكني ولاية غوا وقساوسة الجنوب الهندي.
    “آنجي، لماذا ما تزالين هنا؟”.
    كان السؤالَ الذي غالبا ما سألته لنفسها. كان بوسعها أن تتخيل نفسها بسهولة أكثر في مقهى مومبي الفاخر تعاين مدخل الهند، تهزّ كأس عصير الفالودا بالقرنفل بملعقة طويلة في كأس مكسوٍّ بالصقيع، مقارنة بمقدار قليل من الزعتر البري اللاذع الذي تحصل عليه من باعة الشارع في غوريبور. شيء ما كانت على مقربة من أنْ تفعله عندما جفّلها شامبيون فجأة.
    “فلأسألك السؤال نفسه، سيّدي، أقصد، بيتر” ردّت بالقول، شاكرةً أنّ شفتيها وذقنها لم تكُنْ ملوَّثةً بالزيت من أكلة بكورا المقلية بعمق.
    “كذلك أنتِ، الشيءَ نفسَه”. متأملا قال.
    كانت تلك هي الممازحة الخاصة بهما، على الرغم من أنه يكسب رزقه من عيشه مدرِّسا، ففي الحقيقة فقد وجد متعةً، لمرة، في أن يقدم مُقَرَّرا تعليميا عاما عن أنماط الأعمال في الولايات المتحدة واستراتيجيات الإعلان مع وِحدات ملحقة به عن الثقافة والعبارات الاصطلاحية الأميركية، تأمل نفسه قائلا: “تلميذٌ خالدٌ”. لكنه لم يكن يحبّ الطلبة النموذجيين الهنود، أولئك المتعلِّمون المُنقادون من غير فهم لهدف وحيد: الدخول إلى معهد التكنولوجيا الهندي. حلم الرخاء الاقتصادي والنجاح الاحترافي أو الجوع والعار غير منفصل عن الكيفية التي تُحشى بها أدمغتهم بالمعلومات بصورة عديمة الشفقة من أجل امتحانات حقّ الدخول الوطني.
    “أعتقد أنكِ قلتِ بأنه ينبغي عليكِ الخروج إنْ أردتِ البقاء معافاة”.
    “كان ثمة أكثر من زواج” كذَبتْ، “تزوجت أختي، ولم يعد بمقدوري أنْ أنتشل واحدا وأمضي به، فقط”.
    ملاحظتان:
    ◆ بارَتي موخَرجي: حازت جائزة حلقة النقد للكتاب الوطني الأميركية، و”ملكة جمال الهند الجديدة” هي روايتها الثامنة، وأصدرت سابقا كتابين قصصين كما كانت مؤلفة مشاركة في كتابين نقديين آخرين.
    تشغل، الآن، منصب أستاذ الأدب الإنجليزي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
    ◆ أكاش كابور: حاز شهادة البكالوريوس في الانثروبولوجيا الاجتماعية من جامعة هارفارد ودرجة الماجستير من جامعة أكسفورد في حقل استخدام التكنولوجيا في التطوير.
    نشر العديد من مقالاته في دوريات أميركية وبريطانية ذات شان مثل: أتلانتيك، وذي إيكونوميست، وغرانتا، والنيويوركر، والملحق الخاص بعروض الكتب في النيويورك تايمز، وهيرالد تريبيون وسواها.
    باحث وكاتب في عدد من الحقول المتصلة يتعاون مع العديد من المؤسسات البحثية الدولية وغير الدولية.
يعمل...
X