إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #46
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    قد ينجح.. ولكن
    عرفات سيحكم غزة وأريحا..‏
    وسيرفع بعد بضع سنوات إلى منصب أعلى من رئيس ذلك المخفر على حدود الأرض المحتلة، ليصبح حاكم الضفة الغربية وغزة.‏
    وربما تُوّج، بعد أن يمر بالاختبار الصعب، رئيساً لبلدية حي من أحياء القدس الموحدة. ولكنه لن يكون في أية لحظة أكثر من سمسار للمصالح الإسرائيلية- الأميركية، ولن يجد له أمناً واطمئناناً وراحة إلا بحماية الإسرائيليين، ولن تكون له صناعة إلا ترويج المقولات الغربية والصهيونية في الأوساط العربية والإسلامية. وسيكون سعيداً بهذا الدور لأنه سيمكنه من الاعتماد على أصدقائه في البيت الأبيض وتل أبيب ليستروا عريه بزينة وموكب وإشاعات ترافق موكبه الكرتوني وتسبقه إلى أعتاب الملوك والرؤساء.‏
    عرفات سوف يمكَّن من النجاح بنظر أكثر من مليوني فلسطيني سيشغلهم بما يقدم إليهم من مشاريع وأحلام وأوهام، عن السكين التي ابتلعوها؛ وسيبادل عرفات سكان المستوطنات اليهود في الضفة وغزة بعرب من عرب فلسطين 1948 ممن يسكنون في الجليل أو سواها. سيفعل ذلك تحت ضغط الأوصياء والحماة، والأوضاع والمستجدات، وسوف ينظر إلى ذلك ويقدمه للناس على أنه نصر وتحرير للفلسطينيين من قبضة الاحتلال " الإسرائيلي "؛ في حين أنه يخرجهم من فلسطين الجغرافية بعد أن أخرجهم من فلسطين التاريخ.‏
    وسوف ينجح عرفات بترويج السلع والمشاريع الاقتصادية الإسرائيلية خصوصاً والغربية عموماً، وسيسوق " إسرائيل " عربياً، ويكون جسر التطبيع في أكثر من مجال، وربما في كل المجالات، وسيقبض عمولة "السمسار" على ذلك كله، وسيشيع رغبته في الوجاهة إلى أبعد الحدود، ويتحرك في الأرض طولاً وعرضاً مقدماً للناس "دولة فلسطينية" في قفص يحمله حكام "إسرائيل" ويعرضونه على العالم كله.‏
    وسوف تكون له فرص شخصية أكبر من تقاسمه مع رابين وبيريس جائزة اليونيسكو للسلام.. إنه باختصار سيدخل التاريخ.. ولكن أي تاريخ.. ومن الذي سيدخله التاريخ وكيف؟!‏
    بين عشية وضحاها انتقل عرفات من "إرهابي" إلى رجل سلام؛ ومن منبوذ شبه ملاحق من الغرب والصهيونية إلى صاحب حظوة في البيت الأبيض وتل أبيب. يكتشف له أصدقاء يسميهم (أصدقاء شعبه) في البيت الأبيض وهم الذين قتلوا شعبه وأمته وسرقوا وطنه وما زالوا يعلنون أنهم سوف يستمرون في مشاريعهم التي تجعل منهم حماة وأوصياء وسادة في وطن العرب.‏
    ربما يفعل عرفات الكثير، وربما يجد الكثير مما كان محروماً منه منثوراً بين يديه.. ولكنه لن يستطيع أبداً أن يقنع عربياً شريفاً بأنه لم يفرط بفلسطين وبحقوق الشعب الفلسطيني، وبقضية قومية استقطبت جهود العرب أو بعض العرب لعقود طويلة. ولن يستطيع أن يقنع عربياً واحداً بأنه لم يفرط أيضاً بصحبة أخوته الذين يسميهم الآن "أصدقاء" حين كان يسير معهم في خطاً تنسيقية مشتركة، وعلى طريق نضالية تحريرية.‏
    أما أن يصل عرفات إلى إقناع المثقفين والمعنيين من أبناء الأمة العربية بأن فلسطين شأن فلسطيني خالص لا علاقة للأمة به، ولا علاقة لعربي بقرار يتصل بها؛ فإن ذلك من المستحيلات بالنسبة للواعين قومياً والملتزمين بأمتهم وتاريخهاً ومقومات وجودها ومستقبلها.‏
    إن الذين أخذوا يعزفون على وتر القرار الفلسطيني المستقل، وأولئك الذين أخذوا يطلبون من العرب، كل العرب، أن يقيموا علاقات طيبة مع "إسرائيل" وأن ينهوا المقاطعة، ويساهموا في إلغاء كل القرارات التي تدين "إسرائيل" وتصمها بما هي أهل له في المجتمع الدولي والأمم المتحدة، على أرضية الاعتراف الفلسطيني "بإسرائيل" واعتبار القضية منتهية لأن الفلسطيني اعترف وسالم وتحالف وفرح بكل ما وصل إليه؛ إن أولئك لن يستطيعوا انتزاع فلسطين من الوجدان القومي، ولن يستطيعوا محو الذاكرة الشعبية، التي يحرص المثقفون العرب وأهل الالتزام بقضايا الأمة على تجديدها.‏
    "فلسطين عربية.. وستبقى عربية".‏
    هكذا سنقول، وهكذا سنكتب، وعلى هذا سنربي أبناءنا. ولن تحذف من مناهج مدارسنا كل ما يتصل بحقيقة أن "إسرائيل" كيان دخيل على المنطقة، أقيمت على أرض فلسطين بقوة القهر وبتواطؤ غربي، ودعم من الاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة المتجددة.‏
    لقد أخذ الإسرائيليون وأهل التطبيع مع "إسرائيل" من العرب، ومناصرو المشروع الصهيوني وصنَعته وحماته من الغربيين، أخذوا ينتشرون كالسرطان في جسم السياسة العربية، وفي أوساط على هامشها، وتسارعت خطواتهم واتسعت مطالبهم حتى أنها، ومنذ البداية، تطالب بتحقيق كل ما يمكن أن تصل إليه نهايات المسارات.. إنهم يطلبون أن ينسى العربي أرضه وتاريخه وجرحه وكل المصائب والكوارث التي ألحقها الصهاينة والغرب المتصهين به، جرَّاء مطالبته بحقوقه في فلسطين. ويطالبون بأن نتخلص من ضمائرنا ومن كل ما يشكل قوام شخصيتنا وحضورنا وتمايزنا وحضارتنا، لندخل العصر " الإسرائيلي " من أوسع أبوابه، حيث نأكل ونعمل ونحرص على مصالح العدو الذي "هبط علينا رحمةً من السماء" بعنصريتة وتعاليه وغطرسته وخداعه وحقارته!؟!.‏
    يطلبون منا أن ننسى الماضي، كل الماضي، وفي مقدمته أننا سُحقنا ودفنا أعزاءنا الذين قتلهم العدوان، وأن نتوجه إلى المستقبل الذي يفتح أبوابه لنا كلنتون "المخلص لـ " إسرائيل " أكثر من إخلاصه لنفسه" ورابين الذي يعلن اشمئزازه من منظمة التحرير في اللحظة التي يصافح فيها رئيسها. وعرفات الذي يرضيه أن يكون دمية بيد عدوه، ومدية في قلب أخيه، وحارساً لمصالح من احتقروه ودمروا شعبه، وسرقوا وطنه؛ وأحرقوا مراكب أمته لتسقط في بحر العلقم.‏
    إنهم يطلبون منا أن نقبل وننسى.. وأن نصدق رابين الذي يهددنا وهو يذرف دموع التماسيح متباكياً على سلام يسمح له بأن يحتل مزيداً من الأرض والإرادات، وأن يسيطر على المنطقة ويتجذر اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً فيها؛ وأن يدخل حاضنة دائمة له "ولدولته" بعد أن شعر بأن أميركا تريد "لإسرائيل" فطاماً من ثديها، ولكنها تحرص على أن تربط فمها إلى ثدي عربي مدرار؛ ليتحرر مبلغ كبير من المال تدريجياً تفك به أميركا أزمتها أو يساعدها على حل الأزمة الاقتصادية المستحكمة ويلغي الاحتجاج الذي بدأ يتصاعد من فقراء أميركا وأمييها الذين بلغ عددهم /90/ مليوناً في عصر ازدهار إمبراطوريتها!؟.‏
    إنهم يريدون منا، نحن المجروحين بأكثر السيوف سُميّة وحقداً في التاريخ، أن ننسى وأن نركض لنحتضن "المنقذ" الهابط إلينا من فضاء التلمود مدججاً بالحقد العنصري والقنابل النووية؛ بحجة أنه يربط في أعلى ساق حذائه العسكري دمية تمثل مصالحة مضحكة، على حقوق شعب وأمة وأجيال، لا يملك فرد الحق في أن يتنازل عنها.‏
    إنهم يهددون من يعارض، ويتوعدون من يعوق الاتفاق ويلوحون لمن لا يدعمه من العرب، أفراداً أو تنظيمات وحكومات، بالحصار والقتل والتدمير.. وهناك من يركض باحثاً عن مظلة أو زورق نجاة، وهناك من يقاوم على استحياء، وهناك من يسأل بحيرة وأحياناً بلؤم: وماذا لديكم من حلول أخرى!! وهناك من يؤمن بأن طريق الحق العربي والتحرير لا بد أن تبقى مفتوحة لتسلكها الأجيال القادمة عندما تتغير ظروف ومعطيات وتربية وتوجهات، ويرى أن مهمته، مهما ضاق مداها وقلت وسائلها، يجب ألا تكون أقل من إبقاء طريق التحرير.. طريق الكرامة.. طريق عروبة فلسطين مفتوحة أمام الأجيال العربية التي لا يجوز لأحد أن يصادر حقها أو يساوم عليه.‏
    فلنكن من حملة الشعلة.. ولندفع عن أمتنا وتاريخنا ما يمكن أن ندفعه، وليكن لنا الأمل ورصيد من التفاؤل غير الأحمق.. فليس جبروت أميركا بدائم؛ و"إسرائيل" من دون حاضنة تغذيها وثدي يرضعها، لا تصمد أكثر من عقد من الزمان. وحتى لو لم نقاوم واستمر رفضنا الجاد والحازم والحاسم "لإسرائيل" فإذا ذلك وحده يشكل كابوساً على صدر حكامها ومستوطنيها وحماتها.. فلنكن ذلك الكابوس على صدر اللص الذي يريد أن يبارك: المسروق له، والعالم كله، والربّ الخلاق، سرقتَه ومهنتَه ويدَه التي لم تقطع!!‏

    الأسبوع الأدبي/ع380//23/أيلول/1993‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #47
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      نــحو مسيرة بـــــلا ألــغام
      بعد توقيع اتفاق غزة ـ أريحا، بدأت حركة سياسية ـ تجارية - مالية عربية تأخذ طريقها بتسارع على محور العمل المشترك "العربي ـ الإسرائيلي"، لتجعل التطبيع يسابق الاعتراف، والاعتراف بالعدو يلهث ليجاري التطبيع، وكلاهما يرتمي على أعتاب مستقبل تكاد تحكمه ""إسرائيل""‏
      وتتحكم به.‏
      والناس بين دهش وهلع وغاضب ومستنكر، يراقبون من قواقعهم تدفق السواقي لتشكل نهراً عكراً يغطي حقائق التاريخ، ويجرف كل ما كتبه النضال العربي بدم الشهداء من حقائق ووقائع، والعد ويستفيد من المناخ الراهن ويعتصره إلى درجة أنه سينظف التاريخ والذاكرة العالمية من كل ممارساته، التي أُدينت عالمياً، ضد أطفال الانتفاضة وشبابها، وضد حقوق الإنسان، ويمحو من منظمة الأمم المتحدة وسجلاتها كل ما علق "بتاريخ إسرائيل" من إدانات.‏
      ويشارك بعض العرب، ومن بينهم بعض أهل فلسطين، بتشويه الذاكرة البشرية والتاريخ لصالح "إسرائيل"، التي لم تعد بنظرهم مغتصبة وعنصرية ودولة إرهاب وإجرام، وإنما دولة حل بها "اضطهاد العرب" ولا ساميتهم؟!؟ وبعد أن اعتذر عرفات عن كل التاريخ النضالي الفلسطيني وأدانه واعتبره " إرهابا وعنفاً " ضد " دولة "إسرائيل" وشعبها الذي عانى كثيراً من الاضطهاد، جاء دور العرب ليدينوا أنفسهم، وليعتبروا كل ما حققوه من خلال الأمم المتحدة بعد نضال كبير، ودماء كثيرة، وتضحيات لا تعد ولا تحصى، حالات من العدوان والتجني والإرهاب والممارسات الفاسدة، ألحقت ضرراً " بإسرائيل" وسببت تشويهاً للتاريخ" الصهيوني الناصع" ؟!؟‏
      ولا بد من إزالة ذلك بأيد عربية تتهم نفسها أولاً، وتصحح الإساءات التي ألحقتها بالغير. ويتجلى اليوم في ما تقوم به اللجنة الإسرائيلية ـ الأميركية ـ الفلسطينية ـ المصرية في الأمم المتحدة من جهد لإلغاء كل القرارات التي اتخذت بحق "إسرائيل" بما في ذلك تلك التي تمت على أرضية تصفية شعبنا العربي الفلسطيني وتكسير عظامه إبّان مد الانتفاضة المباركة.‏
      إن العمل يتم بسرعة، وتتصاعد وتائره، ويقوم تعاون دولي وتحالف تقوده الولايات المتحدة الأميركية التي تريد أن ينجح الاتفاق بأي ثمن ولذا فهي على استعداد لمعاقبة من يقاومه أو يعوقه، ومكافأة من يدعمه ويدفعه إلى الإمام، فماذا يفعل الذين يرون أن الاتفاق يفتح باباً للاعتراف العربي الشامل ب" إسرائيل " تلك التي يقول حكامها بوقاحة لا مثيل لها " يجب على العرب أن يعترفوا بـ " إسرائيل " لأنهم كانوا يقولون إن القضية الفلسطينية هي أساس الصراع العربي ـ الصهيوني، وما دام أهل القضية قد اعترفوا "بإسرائيل" وتم الاتفاق على الحل، فما الذي يمنع العرب من الاعتراف بـ " إسرائيل " والتعاون معها، ورفع كل أشكال العقوبات والمقاطعة عنها؟!.‏
      إن الحركة في مجال تنفيذ الاتفاق وتوسيع دائرة الاعتراف تنشر سرطانها بسرعة في الوطن العربي، وهناك حركة تطبيع تتسابق مع حركة الاعتراف،حتى لكأن التطبيع الذي كنا نعتقد أنه سيكون آخر معاقل العمل العربي الشعبي والرسمي ضد "إسرائيل" أصبح يروج له بأسرع مما كنا نتصور، ورأس حربته الآن المال والاستثمار، وربط الخطوط الكهربائية الإسرائيلية بالشبكة العربية ابتداء من مصر...الخ... السؤال: ماذا يفعل أولئك الذين يتحصنون بالمبدئية القومية والخُلُقية، ويتمسكون بالحق التاريخي للعرب بفلسطين، ويريدون مقاومة سرطان الاعتراف، سرطان الاتفاق؟!.‏
      إن الكلام والتوعية، والتفكير المعلن بالمواجهة،والاحتشاد وراء جبهاتها ضروري ومفيد، ولكن عوّدتنا ظروف العمل العربي السابق أن يخسر أهل الحماسة مواقعهم بعد فترة لأنهم يعتمدون عليها فقط، ولا يضعون برنامج عمل واسع وطويل النفس وممتد الرؤية، ويستند إلى استراتيجية ثابتة ومرونةِ تحرك لا تخطئ الهدف ولا تتنكر للثوابت ولا تناور لتخرقها أو لتعطلها.‏
      عوّدتنا ظروف العمل العربي، ومنذ مواجهة كامب ديفيد على الأقل أن العرب الذين تصدوا للكامب أخذتهم خلافاتهم إلى الحد الذي دعوا فيه إلى تعريب " الكامب" والانتماء إليه وتسويقه، تحت تأثير الخلافات المتبادلة والتنافس على الشعارات و المناورات الآنية التي توضع في الأسواق الاستهلاكية السياسية العربية، فضاعت المبدئيات على أيديهم وتنزلت إلى درك أدنى من بضائع الاستهلاك اليومي.‏
      إن الذي نواجهه اليوم اعتراف عربي رسمي "بإسرائيل" يتسارع على أرضية الحماية الغربية، والمباركة الرسمية من الأمم المتحدة، والانكفاء القومي، والتراجع شبه الشامل للمؤسسات العربة الحاكمة، عن ثوابت مبدئية كانت تحكم النضال وتوجهه، وتصدر حكماً خُلُقياً على من يخرج عن تلك الثوابت، يجعله يخشى الجماهير ويخشى ذلك الحكم. وهذا يجعلنا نصل إلى السؤال عن: المصداقية، خُلُقياً ومبدئياً ووجدانياً وجماهيرياً، من جهة، وعن ترجمة الرفض إلى فعل قادر على المواجهة والاستمرار فيها، وقادر على إبقاء المقاومة الوطنية داخل الأرض المحتلة وخارجها قادرة على الاستمرار.‏
      الوضع الراهن، عربياً وعالمياً، لا يجعل الطريق ممهدة أمام من يريدون إيجاد قوى داعمة لرفضهم لاسيما في أسواق السلاح الذي يحتاج إليه المقاومون، وفي أسواق المال الذي يشكل عصب المقاومة،وفي الإعلام الذي يشكل أهم أسلحة العصر، وفي السياسة الدولية المؤتمرة بأمر حكومة كل العالم التي هي حكومة صهيونية في أمريكا، أو أميركية في "إسرائيل".‏
      المواطن العربي الذي هو مادة المقاومة وأداتها وصاحب المصلحة العليا فيها، من منظور حرصه على الأرض والحق والتاريخ والمقدسات، هذا المواطن محكوم بالسياسة القطرية العربية التي تميل معظمها إلى الاعتراف "بإسرائيل" أو التطبيع معها، وسوف تحاسب مواطنيها على مناوأة سياستها تحت ذرائع وأسباب شتى. فهل يتمكن المواطن من التعبير عن انتماء للقضية الفلسطينية في جوهرها، وثوابتها ويواجه السياسات المعترفة والعاملة على التطبيع ؟!. وما الذي سنقدمه له لكي يعي ويصمد، في الوقت الذي تقدم له إغراءات مشروع "مارشال " الجديد الذي يروج له رابين وعرفات انطلاقاً من ساحة التطبيع الرئيسية، غزة ـ أريحا وعبر جسور التواصل العربية مع العدو التي تُقام، سواء كانت مادية ـ أو بشرية ؟!.‏
      إننا بحاجة إلى مؤمنين بالحق والأرض وبعروبة فلسطين في كل ساحة عربية، يعملون انطلاقاً منها من غير خوف أو انتظار مدد من أحد. وبحاجة إلى أرضية مبدئية مشتركة تجمع أولئك على ثوابت تصل إلى حدود التقديس، كما نحتاج إلى أن نضع بين أيديهم وفي أعماقهم صورة الخطر القادم، والمتجسد في "إسرائيل" المعترف بها عربياً، و "إسرائيل" التي توجه النظام الاقتصادي " الشرق أوسطي" وتقوده وتحميه، و "إسرائيل" الشرطي الجديد للمنطقة المفوض أميركياً والمدعم عالمياً على أرضية الاعتراف به عربياً، وأرضية التعاون معه رسمياً من قبل أنظمة عربية.‏
      نحتاج إلى إعلام واع، قادر مثابر يمتلك القدرة والمعلومات والاقتناع بمهمته، ونحتاج إلى جبهة مثقفين مؤمنين برفض " إسرائيل " ورفض الاعتراف بها على أسس تاريخية وعقلانية ومعرفية وخُلُقية، حيث تستطيع الجبهتان الثقافية والإعلامية العمل بانسجام وتكامل لتحقيق تواصل فعال مع الجماهير، ورد مناسب على الإعلام المواكب للاتفاق والاعتراف والتطبيع، الذي بدأ يستخدم أنيابه، ويوظف مثقفين، ويشتري ضمائر، ويكوّن جبهات مواجهة، وقوى ضغط، وعوامل تيئيس من كل التاريخ النضالي السابق، وعوامل تزيين للمستقبل الذي سيكون "رائعاً" مع " إسرائيل " ؟!.‏
      ونحتاج إلى قيادات ثورية محصنة خُلُقياً قبل كل شيء، تدرك دورها التاريخي ومسؤوليتها الكبرى للخروج من النفق المظلم الذي وضع فيه العرب اليوم ؟!.‏
      نحتاج إلى برنامج عملي يقوم على رؤية عربية ـ إسلامية متكاملة، يستطيع أن يحدث التغيير الشامل ابتداء من تكوين الفرد والأسرة، وانتهاءً بنوع المواجهة الحضارية على أرضية التقدم العلمي والتقني ومعطيات القرن الحادي والعشرين الذي ندخله مكبلين بهمومنا وجراحنا وهزائمنا وتفريط المفرطين منَّا، بوطن وقضية وأمة.‏
      إن الذين يكتبون بالدم شهادات على العصر والناس، يحتاجون إلى من يكتب عنهم شهادات للعصر والناس بالكلمة التي تستقي نورها ونارها من تلاحم الوجدان والقيمة والفعل، ويحتاجون إلى قيادة تطمئنهم إلى أنهم لن يباعوا في السوق بأرخص الأثمان، وإلى أن تضحياتهم لن تضيع على طريق قضية لا تبقى مشاعلها متقدة حتى النصر التام. كما يحتاجون إلى أدوات وأسلحة تجعل شجاعتهم مجدية، وتجعل استخدامهم لقدراتهم بإبداع أمراً ممكناً، وتجعل طريق تلك القدرات والشجاعة تزداد وضوحاً واتساعاً وتقدماً نحو الأهداف، وبمواجهة صارمة وصادقة للعدو .‏
      إننا بحاجة إلى نبذ كل الخلافات الهامشية، مهما كانت أسبابها، وإلى اعتماد نهج نضالي بثوابت مشتركة، وبحاجة إلى تغيير شامل لأساليب العمل التي ثبت عدم جدواها، ونحتاج إلى أن نقيم جسور التواصل بيننا على أرضية من الثقة، وإلى معيارية خُلُقيَّة ونضالية ومبدئية صارمة، تحقق تراتبية نظيفة وسليمة على أرض الواقع، تحققها قيادة ومواجهة مقنعة ومجدية. وحتى لا نخسر الزمن،أو لا نخسر على حد شفرة الزمن التي لا ترحم، لابد من تجاوز شكليات كثيرة والانطلاق إلى الساحات التي تمكننا من تأمين متطلبات مواجهة مجدية تستند إلى الشعب، والإيمان بالحق، وتأمين القدرات اللازمة للتحرك.‏
      لن نحرر فلسطين اليوم، ولن نتمكن من قهر العدوان غداً بالضبط، ولن نضع حداً لازدواجية المكاييل الأميركية في أسبوع أو شهر. لا نريد أوهاماً، ولا نريد أن نبني على الأوهام. إننا نريد أن نقاوم الاعتراف " بإسرائيل" الذي ينتشر كالسرطان في جسم السياسة العربية، ونريد أن نسقط اتفاقاً سيكون جسراً للتطبيع العربي مع العدو، ومدخلاً إلى زرع مشروعية "إسرائيل" في الوجدان العربي بعد زرعها في الاقتصاد والسياسة والجغرافية والأمن.‏
      نريد أن نوقف مد الانهيار العربي، والارتماء السياسي في أحضان العدو، ونبين مخاطر "إسرائيل المعترف بها" على كل مسارنا التاريخي في هذا القرن والقرون القادمة. ونريد أن نوضح إن رفضنا "لإسرائيل" ليس مجرد كلام عاطفي، أو حماسة آنية، أو تشبث حماسي بمواقف تجاوزها الزمن وشملتها المتغيرات. ونريد أن نستعيد للعربي ثقته بنفسه وثقافته وسياسته ونضاله وقضاياه على أرضية عملية ـ علمية تتحقق فيها مصداقية فعلية، ونتسلح بالعلم والوعي والأخلاق وشجاعة المؤمنين بمبادئهم والمدافعين عن أوطانهم وتاريخهم، لا شجاعة أولئك الذين يسمون التفريط والامحاء والذل شجاعة.‏
      فهل ننجح، على مستوى القيادات والمسؤولين والمثقفين أولاً، هل ننجح في تأسيس النواة الصلبة الضرورية لذلك، وكأننا نبدأ ولادة جديدة فيها نقاء المناضلين وطهرانيتهم وحماستهم، مضافاً إليها استخلاص تام لدروس الماضي، وشجاعة حقيقية للعمل انطلاقاً من أرض هشة تسيجها الصعوبات وتتحداها قوى كبيرة ؟!.‏
      إن ذلك صعب.. ولكنه هو وحده المنقذ والمطلوب الآن، ولا بد من تسريع التحرك، والعمل على رفع وتائر الاتصال والبرمجة والتنسيق، بعيداً عن الخلافات والشكليات والفرديات المتورمة، ولا يعني هذا التغاضي عن الأمراض وعمن في نفوسهم مرض، لأننا لا نحتاج في مسيرتنا الصعبة والمحفوفة بالمخاطر، إلى ألغام موقوتة، تشل تلك المسيرة أو تهددها بالشلل، نريد بكل الوضوح مسيرة تحريرية واعية ذات مصداقية وطهرانية بلا ألغام من أي نوع،فهل نحقق ذلك بأسرع ما نستطيع ؟!.‏
      إنني آمل أن يتحقق ذلك، وأتطلع إليه، وأرى ألا بد منه.‏
      والله من وراء القصد.‏

      الأسبوع الأدبي/ع381//30/أيلول/1993‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #48
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        مـــن نــحن؟!
        بدأ الأردن تحركاً سريعاً، لافتاً للنظر، على طريق تطبيع العلاقات مع "إسرائيل" دون ضجيج إعلامي كبير، وأخذ التنسيق والتعاون شكلاً عملياً، وكان آخر ما أعلن عن السعي لإنجازه بينهما توحيد مينائي العقبة وإيلات، وإقامة مطار مشترك هناك، فضلاً عن التعاون الاقتصادي الذي تم الاتفاق عليه في واشنطن، للانطلاق نحو "شرق أوسط جديد" أو "بنيلوكس" في "الشرق الأوسط" قوامه "إسرائيل" والأردن والفلسطينيون، وهو الحلم السابق لعرفات قبل اتفاق غزة- أريحا.‏
        ومن يستذكر الصدمة التي هزت العرب يوم إعلان اتفاق "أوسلو" تلك التي أثرت في الأردن تأثيراً ملحوظاً، ربما أكثر من سواه، لساعات معدودة، يستطيع أن يطرح السؤال صخَّاباً: ما الذي حدث وغير الأمور بهذه السرعة هناك؟! هل هو اتصال كلنتون الذي مارس ضغطاً أو حرك بالإغراء أنظمة وأشخاصاً، أم تراه شيء آخر. ذلك الذي فعل، فعل السحر في نفوس وسياسات؟!‏
        في الأردن تحرك الشارع تلقائياً بعد الإعلان، على أرضية واقعية تتصل بالانتخابات الفلسطينية، والجنسية الأردنية الممنوحة لفلسطينيين، وبموضوع استيعاب ما يقرب من ثمانمائة ألف فلسطيني لا بد من بحث أمد "توطينهم هناك" كما يريد رابين وبيريس. وفي الأردن مشكلة سكانية -سياسية- اقتصادية عميقة التأثير حول هذا الموضوع، وفي الأردن تاريخ في العلاقة التي كانت دموية في أيلول الأسود، والتي ما زالت موضوع شحن وتفريغ بين فئات اجتماعية مترجحة الولاء بين الأرْدَنَة والفَلَسْطَنَة- [ آه يا زمن سايكس- بيكو الذي أصبح يشكل الوجدان بعد أن شكل الجنسية والانتماء والهوية؟!؟... آه يا لك من زمن رديء لعين مهين] - وعلى هذه الأرضية، أرادت السياسة الأردنية أن تثبت لعرفات أنه ليس أشطر منها، وأنه لن يستطيع أن يضعها بين المطرقة والسندان بتحالفه مع رابين، ولن يخلق لها المشكلات بل هي التي ستضعه بين المطرقة والسندان وتخلق له المشكلات إذ لزم الأمر، ولذلك سارعت إلى اللقاءات والتوقيع والتطبيع وجعلت ثقل الدولة المستقرة يرجح في الميزان، عند ذوي الحسابات الدقيقة، على المنظمة التي تواجه انقسامات حول اتفاق غزة -أريحا.‏
        ولا يستبعد على الإطلاق أن يكون هناك أكثر من إيحاء وإغراء أميركيين حول هذا الموضوع، ذلك لأن الولايات المتحدة الأميركية، بعد أن "فوجئت" بمدى الاتفاق والتنسيق الإسرائيلي- الفلسطيني. سارعت إلى إيجاد حلقات مضمونة بيدها حتى لا تفاجأ بالمزيد، لا سيما و"إسرائيل" تركض نحو الصين، وتبيع لدولة المليار ومئة مليون إنسان تقنيات أميركية متقدمة، تأسيساً لعلاقات مستقبلية، وإذا كان الأردن يسارع الآن على هذا المسار لأسباب ومصالح وحسابات، فإن دولاً عربية أخرى اقتحمت "المحرَّم" بعد أن خرق جداره عرفات بعد السادات.‏
        فتونس تحتضن الاجتماعات والمسؤولين "الإسرائيليين"، والمغرب كان قد رحّب برابين بعد توقيع اتفاق غزة- أريحا، وبعض دول الخليج تدرس موضوع تمديد أنابيب البترول إلى حيفا، وتمديد أنابيب الغاز إلى إيلات، وتشارك في دعم كل مشروع استثماري تستفيد منه المنطقة "الشرق أوسطية" باسمها الجديد؟!؟ والمقاطعة العربية لـ " إسرائيل " وللشركات المتعاملة معها رفعت لولا بعض الحياء العربي الذي استيقظ على مطارق السوريين واللبنانيين..‏
        باختصار شديد.. هناك عرب يتسابقون على دخول العصر " الإسرائيلي " من بابه العريض، وهم يتزاحمون حتى لا تفوتهم "الغنائم" أو حتى لا يتهمون بالتقصير!! وحيال هذا التشكل الجديد للعلاقات العربية -العربية نحن إزاء مراحل جديدة من العمل والمواجهة والصراعات، فيها أطراف تقبض وأطراف تدفع، وأطراف تعيش على الخلافات وانتهاز الفرص؟! وعلى خلفية ذلك نتساءل: هل نحن على أبواب "البينلوكس" الشرق أوسطي؟! أم على أبواب سوق اقتصادية عربية -إسرائيلية تزري بالسوق العربية المشتركة التي ما زالت تقبع في الأدراج منذ قرر بعض العرب أن يقاوموا العدوان بالكلام والشعارات؟!‏
        إن حصاراً اقتصادياً سيفرض على سورية ولبنان إذا لم تلتحقا بركب الموقعين، وسيقوم العرب أولاً بفرض هذا الحصار بالتعاون مع "إسرائيل" وأميركا، لكي يضطروا سورية أن تشرب من الكأس ذاتها التي شربوا هم منها، أو أسقيت لهم بشكل أو بآخر، وذلك جزء من عملية دفاعية، نفسية- سياسية واجتماعية، تجعل من تلطيخ الآخرين ضرورة حتى تتساوى الرؤوس فتهدأ تحت غربال واحد.‏
        وحين يرفض السوريون ذلك فإن الحرب عليهم ستفتح ابتداء من الجبهة التي بدأت التحركات في أوساطها، وأعني "لبنان"، وانتهاء بكل الساحات السياسية العربية التي لا تريد أن "يزايد" عليها أحد، ولا أن "يبيعها" أحد مواقف ووطنيات؟!‏
        لكن.. إذا قبل السوريون التوقيع مع "إسرائيل" واعترفوا وقبلت هي إعادة الجولان السورية مشترطة عليها إلغاء البعد القومي للقضية، أي شطب اهتمامها بمقولة: الحل الشامل، والوقوف عند حدود العلاقات والاتفاقيات الثنائية بعيداً عن قضايا شائكة مثل: القدس وحق العودة بالنسبة للاجئين.. الخ وعلى فرض أن ذلك قد تم تحت وطأة الحصار والعزلة والضغط والتهديد والمتغيرات.. الخ. وإن السوريون ساروا أخيراً فيما سار فيه الناس فإنهم لم يعدموا وجود من يرفع أنفه في وجوههم /من رفاق الدرب/ ساخراً شامتاً، ومن يتطاول بأشكال القول، وألوان الفعل، معتبراً أن العقاب من جنس الفعل، وأنه من فصيلة ذاك الذي قام به الآخرون، فلم إذن كان التلكؤ، وعلام إذن يكون التشامخ؟!‏
        هذا فضلاً عن الإحباط القومي والوجداني الذي لا بد أن يصيب شرائح اجتماعية وأفراد وتنظيمات عربية بنت أحلامها القومية والتحريرية والوحدوية على سورية ونهجها المبدئي الثابت ومواقفها.‏
        إن ما يمكن أن يرد به على ذلك كله معروف، وربما كان منطقياً مقبولاً ومسوغاً أيضاً، ولكنه سيرسب في الوجدان الكثير من الحنظل، وسيستثير المشاعر وسيدفع كذلك كله أسئلة قنفذية التكوين والتلوين إلى الحلوق، ويجعل من يتشبثون بحق الأمة التاريخي في فلسطين، وبالدفاع عن كرامة الأمة وثوابتها من منطلقات قومية -مبدئية- وخُلُقية، سيجعلهم محاصرين باحتمالات شتى، وتساؤلات كثيرة يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:‏
        -على أية أرضية "واقعية" يبني الحالمون أعشاشهم؟! وهل هناك أشجار حية واقفة يمكن أن يغردوا عليها؟! وكيف سيكون وقع أناشيدهم الحماسية في الصباحات العربية التي تعبق بروائح بضائع التجار؟!‏
        -من سيلوم من؟! ومن سيبني مع من؟! وما طعم اللوم، وما شكل البناء؟! وفي أي اتجاه تسير القوافل البشرية؟! هل في مسارات الاعتراف، والاتفاقات والتعامل، والمصالح والتطبيع؟! أم على مسارات أخرى.. وفي هذه الحالة هل سيسمح بمسارات أخرى؟!‏
        -هل سيتاح أمل لنظام عربي: يرفض الاعتراف "بإسرائيل" وتطبيع العلاقات معها، والتعاون التام، المباشر أو غير المباشر، معها!؟ هل سيسمح له بأن يبقى ويستقر ويبني، وفق خطط مغايرة؟! وهل سيتمكن من ذلك؟! وهل يصبح حاضنة للعرب الذين يحلمون أحلاماً يقول بعض "المناطقة العصريين" أنها خارج العصر ككل؟!‏
        -هل سيكون هناك تواصل بين أنظمة عربية، ومثقفين عرب، يختلفون حتى العظم حول هذا الموضوع ـ نضالياً ثقافياً وسياسياً واجتماعياً ـ الذي كان موضوعاً مركزياً بالنسبة للسياسات والمثقفين العرب، طوال العقود الماضية من هذا القرن؟! وكيف سيكون التعامل والتواصل والتعبير عن المواقف؟! هل سيبقى لذلك أية صلة يا ترى بالانتماء القومي والانتماء لقضية ورؤية؟! أم أن ذلك كله سيزول ويشمله التغيير وتحكم العلاقات والصلات بمعايير جديدة، من تلك التي ستروج وستحمل اسم "المعايير الشرق أوسطية"؟!‏
        -هل سيصبح الصوت العربي الذي يتمسك بالتحرير ملاحقاً، أم سيكتفي باعتباره- من منظور "واقعي" -خارج المرحلة أو خارج العصر؟! هل سيكون هناك قبول- على أرضية ديمقراطية- حتى بالمنظور الأميركي للديمقراطية ذلك الذي تجلى في موسكو مؤخراً- لوجود ذلك النوع من البشر والتفكير والتحرك، أم سيعتبر أولئك- عربياً- ممن يعكرون صفو "السوق" الجديدة، والعلاقات الجديدة؟!‏
        -وهل سيصبح معيار العلاقات العربية- العربية، هو قربها أو بعدها من "إسرائيل" بعد أن كان المعيار هو جذريتها في العداء "لإسرائيل"؟!‏
        إننا على أبواب مستجدات تكثر وتنمو وتسعى في الساحات ووسائل الإعلام وفي المحافل السياسية العربية، وهناك من يحشرها في الأنوف ويزرعها في المنافع والمصالح بإغراءات مثيرة كثيرة، لتكبر وتتجذر!!‏
        ويكاد يطفر السؤال المر من جلد القنفذ المحشو في الحلق، بعد الذي نراه ونسمعه ويحاصرنا:‏
        من نحن اليوم؟! والإنسان جملة أفكاره ومواقفه وقضاياه وانتماءاته ورؤاه؟! من نحن على أعتاب الاعتراف العربي "بإسرائيل" والاتفاقيات التي تنمو في أحضان سياسات عربية عدة؟!‏
        وما هو المقدس والثابت والمبدئي من مقوماتنا واعتقاداتنا ونظرياتنا؟! من نحن.. وما هو المقياس الذي يجعل "منا".. "نحن" على أرضية هوية نضالية- حضارية- إنسانية؟! هل نحن جزء من البشرية العائمة فوق سطح أرض ما، في فلك ما، في كون ما؟! أم نحن من سكان الأرض الذين ينتمون إلى تاريخ ويعيشون في جغرافية محددة، وتُمايزهم عن الآخرين مقومات هوية وحضارة وخصوصية ويجمعهم مع الآخرين جوهر إنساني وتعايش خلاق ومصير مشترك ومصالح مشتركة؟!‏
        إن معرفة: من نحن.. تتجلى، أكثر ما تتجلى، عندما نحل قضايانا الكبرى بطرقنا الخاصة، وبما يثبت حقوقنا وإبداعنا في الوصول إلى الحقوق بكرامة وشهامة ومنطق واقتدار.‏

        الأسبوع الأدبي/ع383//14/ت1/1993‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #49
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          فليكن شيء أيها القادرون
          قال رأس الأفعى الصهيونية حاييم هرتزوغ، وهو ينهي زيارته لبولونيا يوم الجمعة الماضي: " إن الحركات الإسلامية لا تهدد الشرق الأوسط وحده، وإنما تنتشر في العالم كله ". وكان هو ذاته قد وجه الانتباه الغربي منذ سنتين تقريباً، وفي أثناء زيارته لإسبانيا، إلى أن الخطر الجديد الذي يتهدد منطقة الشرق الأوسط، بعد انهيار الشيوعية، هو خطر الأصولية الإسلامية، وأبدى استعداد " بلاده " لمحاربة هذا الخطر، فجيشه أقل كلفة مما لو قامت أميركا أو أية جهة أخرى بنقل جيوشها إلى المنطقة، كما تم في حرب الخليج الثانية.‏
          فما هو هدف هذا التركيز الصهيوني على الموضوع، وممارسة الاستفزاز والقمع لإخراج الناس وإحراقهم؟!‏
          لقد طرح في أثناء أزمة الخليج وفي أثناء الحرب، وبعد المتغيرات الكثيرة التي عصفت بالعالم كله، وبعد سقوط الشيوعية، أن " إسرائيل " لم تعد تقوم بالدور الأهم في المنطقة، لأن أميركا خاضت حرباً من دون الاعتماد عليها، ولأن الشيوعية لم تعد الخطر الذي تدفع أميركا الكثير لمحاربته ولإبعاد شبحه عن منابع النفط، ومناطق النفوذ في الشرق الأوسط يعاد النظر فيها؛ لا سيما الموقف والموقع اللذان " لـ " إسرائيل " " في الاستراتيجية المقبلة، وفي المساعدات المالية المترتبة على ذلك. ولأن " إسرائيل " لا تريد أن تفقد ثلاثة مليارات دولار سنوياً يقدمها لها دافع الضرائب الأميركي صاغراً تحت تأثير " ايباك " ومصالح الساسة الأميركيين ورجال الكونغرس. ولأنها تريد أن تحصل على استمرار تدفق القروض بضمانات أميركية، والمساعدات بضغوط أميركية أيضاً، وتريد أن تكون الحامي الأوحد للمصالح الأميركية المهددة في المنطقة التي، لا يعرف أحد متى تتحرك وتنفجر، ولأن مشكلة " إسرائيل " الأولى اليوم كما، قال رابين يوم الجمعة الماضي أمام تجمع للصناعيين في تل أبيب: " أنها لا تستطيع تعزيز أمنها من دون أموال دافع الضرائب الأميركي ".‏
          لذلك كله ولسواه من ضرورات تأتي على رأسها برامج تستدعي تنفيذها استراتيجية التوسع الاستيطاني والعدوان المبرمج دورياً الرامي لجعل العرب في حالة استنزاف من جهة، وفي حالة استشعار للدونية والقهر من جهة أخرى. لهذا كله وللظهور أمام أميركا بمظهر الحارس الواعي القادر الوحيد في المنطقة - والمطوِّع المجرب ـ فإن الصهيونية العالمية و " إسرائيل " تحرصان على خلق البديل للخطر الذي زال، ودفع الناس بالقهر والإبادة وسد المنافذ إلى انتهاج طريق العنف وتعدد مظاهره وظواهره، للإعلان عن أن الخطر ما زال قائماً ومستمراً في المنطقة سواء على المصالح الأميركية، أو على حلفاء الغرب، أو على " الديمقراطية " العزيزة على قلب الغرب - المزيف الأكبر للديمقراطية وحقوق الإنسان - وهذا الخطر هو خطر الأصولية الإسلامية؛ والآن لم يعد هذا الخطر محصوراً في المنطقة، بل أصبح منتشراً في العالم كما يقول هرتزوغ؛ ويعزز منطقه أو يؤكده قول أو أقوال عربية من مثل " ظاهرة الأصولية كالطاعون تنتشر في العالم كله " وهو قول مطابق لقول هرتزوغ .‏
          وبالتفجير الذي تم في نيويورك واتهم به عربي، فلسطيني - أردني على الرغم من ندرة الأدلة ضده، فإن الصهيونية تضع الإدارة الأميركية والرأي العام الغربي أمام ضرورة اعتماد " إسرائيل " باستمرار شرطياً للمنطقة العربية، وتقدم لها المليارات الثلاثة من الدولارات سنوياً، وضمانات القروض والأسلحة، وتقيم معها حلفاً ضد " الشيطان " الذي اخترعته من جديد، وبدأت تستحضر له وجهاً تاريخياً " بشعاً " بنظر الغرب .‏
          لقد نجحت الصهيونية في خلق الخطر البديل،، وأقنعت الأميركي به وضمنت لسنوات قادمة أموالاً طائلة على شكل مساعدات وقروض لحل مشكلاتها الاقتصادية ولتأخير الفطام الذي لن تبلغه أبداً فيما يبدو؛ كما ضمنت دعماً سياسياً وعسكرياً في إطار التحالف المتجدد، وقرَّبت منها دولاً عربية كانت تنافسها على دور الحامي للمصالح الأميركية في المنطقة، وعلى دور " المطوِّع " الذي يسوق العرب والمسلمين في ركاب السيد الأميركي، بل إنها خطت خطوات واسعة نحو الظهور بمظهر المحامي لبعض الأنظمة العربية من الهجمة الأصولية.‏
          وغداً، قبيل انعقاد الجولة التاسعة من مفاوضات السلام، حينما تبيع المبعدين لأنظمة عربية دخلت مسيرة الدم مع الأصولية وما زالت تخوض تلك المسيرة، فإنها سوف تعطي هي وأميركا دفعة جديدة لتيار العنف والعنف المضاد في الوطن. لأنها ستبرر فتكاً أشد في مقابل إعادة المبعدين؛ وهذا بدوره سيولد عنفاً أشد، والكاسب هو " إسرائيل " والخاسر هم العرب والمسلمون معاً.‏
          إن " إسرائيل " ترتب أوضاعها وتبعد الولايات المتحدة الأميركية عن العرب المعتدلين وتضرب بهم وبالغرب الآخرين، وتنطلق في عربدتها واستهتارها إلى المدى الذي تريد، مستندة إلى حليف قوي لها عليه نفوذ، ولها في نظامه موالون وأنصار وأتباع ومستفيدون وصهاينة يتبنون الحلم العنصري التوسعي ويعملون من أجله.‏
          ومستنده بالدرجة الأولى إلى ما يقوم به أولئك الذين فقدوا السيطرة على زمام الأمر في بعض المناطق من الوطن العربي والعالم الإسلامي، وباتوا تحت تأثير الفعل ورد الفعل، ووضِعوا في ظروف وشروط عيش وعمل ومواجهة تفرض عليهم أن يسيروا في الطريق التي تبدو وحيدة ومفتوحة أمامهم، وهي طريق العنف.‏
          والسؤال الذي نطرحه على أنفسنا وعلى من يعنيهم الأمر، بعد الذي جرى وما آل إليه الوضع العام في وطننا هو: هل نبقى محكومين بآلية الفعل ورد الفعل من غير تدقيق بحسابات وخلفيات وأبعاد أخرى؟! هل تستهلكنا إلى أن تهلكنا في الوطن العربي آليةُ العنف والعنف المضاد بين سلطة ومعارضة، إلى الحد الذي ننسى فيه ما يخطَّط ويدبر لنا جميعاً من أعداء أمتنا؟! هل نقبل أن يكون هناك باستمرار وصي وشرطي ووكيل أعمال في هذه المنطقة، ولص ومتعهد استنزاف وتدمير وتخويف وموت؛ نسلم له قيادنا، أو نحتمي به من شرور أنفسنا، ويلوذ به ضعيفنا من قوينا؟! أم أن هناك إمكانية حقيقية لقطع الطريق على مثل تلك الأفعال والممارسات والأعمال؟!‏
          من المؤكد أن العدو سيستمر في سعيه لتدميرنا بكل الوسائل، وأن صاحب المصلحة سيستمر هو الآخر في المحافظة على مصالحه، وفي استغلال الضحية إلى أبعد الحدود؛ وحالة الضعف تجعل الضحية أكثر استسلاماً للجلاد. فهل معنى هذا الاستسلام والدخول في نفق العتمة من دون أمل أو استشعار لشعاع ضوء؟!‏
          من المؤكد أن هنالك حلاً غير دوامة الدم والعنف والتنازع التي تهلكنا عربياً-، وعربياً - إسلامياً. ومن المؤكد أيضاً أنه هناك في هذا العالم الرحب من يمكن أن نتعاون معه إذا أحسنا استقراء الأحداث والمصالح والمواقف والتوجهات. ومن المؤكد إن قوانا وإمكاناتنا، إذا حفظت من التصادم والتفاني الذاتيين، سوف تكون عامل إنعاش وقوة وتحرير لنا ولإرادتنا.‏
          أفلا يبادر القادرون والمسؤولون والموثوقون عربياً، إلى تقديم المشروع المخرج، وبناء الثقة، وإيقاف عجلة الموت والدم والضعف، ليبدأ الحوار وتبدأ الرؤية، ويبدأ الاعتراف بحق الآخر في الوجود والاختلاف تحت سقف الوطن وضمن إطار معاييره وثوابته التي تزن الفعل والسلوك والقول استنادا إلى معيار قيمة محترم ومعقول؟!‏
          أن الخطر يتضخم و" إسرائيل " تكسب وتزداد شراسة، وترسخ أنموذج " الخطر " الداهم في ذهن أقوى قوة في عالم اليوم، ولدينا من أبناء أمتنا من لهم حضور وتأثير ونفوذ.. أفلا نجمع القوة والرأي ومقومات التأثير في إطار تضامن عربي ونحن في قلب المأساة ؟!‏
          إنها، إذا صدقت العزائم والنيات والجهود، تثمر التحركات. فليكن من ذلك شيء يرد الثقة والعافية ويشرع أبواب الأمل ... فليكن شيء من ذلك أيها العرب القادرون، قبل فوات الأوان.‏
          وإنكم عليه قادرون.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #50
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            علمونا.. وأجركم على الله
            يتمنى علينا " الواقعيون الجدد " من الفلسطينيين " الاتفاقيّين " ومن يناصرهم من العرب لو ننتقل إلى التعامل مع الحقائق التي أصبحت راسخة على الأرض بدلاً من الصراخ غير المجدي في وجهها، فنتعامل مع اتفاق غزة - أريحا بدلاً من الكلام على رفضه ومقاومته وإسقاطه.‏
            ويحاولون بتعال مكتسب من تقليد الضعيف للقوي، وقدوتهم هنا معروفة، أن يظهروا أنفسهم متقدمين على سواهم سنوات أن لم يكن عقوداً، وأنهم " حضاريون " كما كان السادات " حضارياً " يوم زار القدس،ومقاتلاً من نوع " إنساني " منذ يوم " الدفرسوار " !؟.‏
            ويقولون بكل الوضوح، وربما الاعتزاز والتحدي: من يستطيع أن يقف بوجه الاتفاق " البلدوزر" الذي يندفع بقوة حكومة كل العالم ومن يدور في فلكها، وبقوة المال والمصالح التي تقف وراءه؟! وماذا يرفع أولئك من أسلحة بوجه " الاتفاق " غير الشعارات، وهم أنفسهم يتلقون المساعدة المالية ممن وقع الاتفاق؟!‏
            وهم يرون في الاتفاق: عودة ودولة وخلاصاً من واقع عربي كانوا ومازالوا - حسب قولهم - يعيشون فجائعه ونكباته وممارساته وتحكّمه وديكتاتوريته؟! ويذهب نفر من أولئك إلى أحد الصراخ النزق بوجه من بقيت لديهم الجرأة على الإعلان عن انتمائهم العربي وتمسكهم بفلسطين، كل فلسطين، وبوحدة الأمَّة في مستوى الحلم والأمل: نريد أن نعيش مع اليهود.. هذا شأننا ولا علاقة لأحد بنا.‏
            ويذهب فريق من أولئك الواقعيين " الناضجين " إلى الدعوة الصريحة للعمل من خلال الاتفاق الذي أصبح يجسد مرحلية الميثاق الوطني الفلسطيني " الموءود "،ومن خلال الحكم الذاتي الذي يشكل بديلاً لمنظمة التحرير لأنه المدخل إلى الدولة،فمصير المنظمة إلى ذوبان أو إلى أن تصبح حزباً سياسياً داخل الدولة القادمة؛ ويطرحون على الآخرين التحديات المستقبلية ذات الطبيعة الاقتصادية والعلمية والحضارية، ويعتقدون أن لديهم رزمة من الآمال تدفعهم إلى العمل.‏
            من حق كل إنسان أن يعتقد ما يشاء،وربما كان من حق أولئك بالذات أن يتهموا من يخالفهم الرأي، فتلك ممارسة ترتبط بتاريخهم؛ وهي شيء من تقليد عريق يرون ضرورة المحافظة عليه، ليبقى شيء من قوام الشخصية بعد أن دخلوا في حكم ذاتي يستلب منهم السيادة كلياً حتى على مكاتبهم وغرف نومهم. من حقهم أن يفعلوا ذلك لأن الاتهام والهجوم بدلاً من الدفاع،وقلب الحقائق،واستعمال المال، والقفز خلف خطوط الحاضر كل ذلك تاريخ محفوف بالغار لدى بعض الأنظمة ولدى المنظمة، ونحن لا نعترض إطلاقاً على أي طرح، حتى لو كان من ذلك النوع المعروف بـ " كلمة الحق يراد بها الباطل"، ولكن يبدو أننا مضطرون لمناقشة تدخل على نحو ما في الخيار الذي قدمه بيريس للعرب واليهود حين ركز في أحد لقاءاته على اختيار بطاقة الفيلم الذي يريد أن يشاهده الجميع هل هو من أفلام القرن التاسع عشر أم من أفلام القرن الحادي والعشرين والثمن وأحد في الحالتين ؟!.‏
            إن مداخل مناقشة تلك الآراء وتفنيد الحجج كثيرة، ولكن يبدو أن الأرضية المشتركة هي التي تحتاج إلى فحص وتدقيق وسبر واختبار !! وهي أرضية تتصل بأخلاقيات وقيم ومبادئ وحقوق، ولا يقيم لها ذلك الفريق وزناً،وتشكل جذراً لا يقوم من دونه ساق. وهي من المشترك القومي الذي يبدو بوضوح أنه دخل متاحف التاريخ عند بعض العرب ويزعجهم كثيراً أن يذكروا به،وهي أيضاً مما يتصل بجوهر القضية الذي يشعرون في الأعماق أنهم فرَّطوا به ولا يريدون مواجهة تلك الحقيقة المرة على الإطلاق.‏
            إنهم يظنون أنهم يدخلون مرحلية الميثاق على أرضية الاتفاق، ويجاهرون بحجة أن المرحلية النضالية برنامج أقرّه الفلسطينيون ولم يعترض عليه العرب.‏
            ولكنهم يتناسون تماماً أنهم عندما اجتازوا عتبة الاتفاق نقضوا الميثاق كله سراً وعلناً، وأنهم اعترفوا بالعدو وبحقه في الوجود، وبدولته وحقه التاريخي، فأي مرحلية وأي برنامج نضالي بقي ليطبقوه؟!‏
            اللهم إلا إذا قصدوا مرحلية الوصول إلى تطبيق ما نص عليه الاتفاق الذي يبدأ بغزه وأريحا ثم يمتد إلى الضفة كلها.. وذلك أمر آخر وحلم آخر تماماً لا صلة له بالميثاق الوطني الفلسطيني ومرحلياته، ولا صلة له بحق العودة الذي يشمل كل اللاجئين لا سيما الذين لجئوا عام 1948ولا بقضية التحرير التي تقبل على أساس استراتيجيتها ومبدئيتها وثوابتها المرحليات والتحركات والمناورات لقد حسم الأمر في هذه النقطة الجوهرية على أساس مغاير لمبدئي التحرير وحق العودة ولذلك لم يعد الاتفاق يحمل طهارة الميثاق ومبديته ومرحليته.‏
            أمّا بشان التبشير بعودة بعض عرب فلسطين ممن شردوا بعد (1967) فإنها عودة مشروطة بموافقة "إسرائيل" على من يعود،وهي عودة لا تتحكم بها السيادة المستلبة كلياً من اليد الفلسطينية ـ ولنتذكر هاني الهندي في طابا ـ وهي عودة مبرمجة على أرضية " جمع شمل العائلات " وستمتد بنظر"الإسرائيليين" عقوداً، ويمكن أن يطرد من يعود عندما يشكل إزعاجاً لـ " إسرائيل" أو للمتعاونين معها، فذلك من الحقوق التي ضمنها الاتفاق لـ " إسرائيل " حيث لها أن تمارس كل ما يتصل بالسيادة والأمن من النهر إلى البحر ومن طابا إلى الناقورة.‏
            أمّا الاندفاع " النضالي " على أمل كسب السباق الاقتصادي فهو أمر يدعو إلى الأسى إذا ما صح الاعتقاد به. وذلك ليس لأن الاقتصاد " الإسرائيلي " لا يمكن أن يُغلب أو أن يُقاوم، وليس لأن اليهودي الجديد هجر شايلوك المرابي أو يمكن أن يهجره، وليس لأن الاتفاق غيَّر أو يمكن أن يغيّر الأطماع الصهيونية، فكل ذلك يحتمل النقاش؛ ولكن الذي يدفع إلى الآسي هو أن " الاقتصاد" الفلسطيني غير موجود أصلاً، وإذا وجدت بعض ملامحه فسيكون ذلك من خلال الاقتصاد " الإسرائيلي "، الذي يسيطر عليه سيطرة تامة ويضمن تلك السيطرة للمستقبل. فضلاً عن أن القرار السياسي الذي سيؤثر على القرار الاقتصادي ليس قراراً فلسطينياً حراً حسب الاتفاق، فالمنظمة التي رفعت في وجه العرب مقولة: القرار الفلسطيني المستقل، رهنت كل قرارها وكل صور استقلالها بيد العدو الصهيوني في صيغة التحالف غير المتكافئ التي ثبتها الاتفاق،ومن المؤسف والمؤلم والمضحك أن تثبت مع الزمن مقولة لمفكر فلسطيني أشار إليها الدكتور أنيس صايغ ساخراً منها، من دون أن يذكر اسم قائلها، وهي تقول :" إن للفلسطيني عدوّين: "إسرائيل" والعرب. وإذا جاز أن يحالف أحدهما ضد الآخر فعليه أن يحالف " الإسرائيليين " ضد العرب ". ويريد منا " الواقعيون الجدد " أن نتعامل مع الاتفاق من الداخل، ضمن صيغة من صيغ المعارضة الداخلية، لتتحقق قوة دفع تمكنهم من تحقيق الأهداف المرحلية الأخرى،ولا ندري ما هي الأهداف الأخرى التي تستحق أن نقبل من أجلها اتفاقاً يقوم على أرضية الاعتراف الكامل بـ " إسرائيل " دولة على أرض فلسطين والتحالف التام معها من أجل خبز أبيض بدلاً من خبز أقل بياضاً، ومن أجل تجارة أوسع بدلاً من مساحات تجارية ضيقة ذات ربح قليل؟!.‏
            إننا نقول بكل وضوح: إن هذا لعب صُراح على المبادئ والشعوب والدول، والمثقف الذي يشارك في هذه اللعبة هو حصان سلطة ولسانها، قبض ثمناً ومازال مستعداً لأن يقبض أكثر؛ وهو يخدم من يدفع أكثر، ولجامه بيد راكبة. فهو حصان معروض في سوق الكلام، يركبه من يعلفه ويقتنيه. ويدخل في فصيلة ذلك النوع من المثقفين من يقول على سبيل المثال: " إن فتح متقدمة على الشعبية بخمس سنوات، والفلسطيني متقدم على العربي بعقود .." ذلك لأنه كان يقبض وما زال يفتح خرجه؛ فهو من المتعيشة في الأسواق السياسية والخلافية العربية، ومن الدعاة للأعداء بحجة أنه صاحب اسم وصاحب قلم. ولكن شرف الاسم والكلمة والقلم ينبع أصلاً من الانتماء للمبادئ والقيم والحقوق، لا من العبث واللعب على كل ذلك والسخرية منه، وجرِّ الناس إلى الموت تحت هذا الشعار أو ذاك مما يتغير بتغير المدفوعات والمصالح ؟!‏
            إن الوطن ليس موضوع مساومة ولا وجوده وحدوده وحريته واستقلاله من التعاريف التي ترتبط بالنضج أو بالتقدم الحضاري، على فرض وجود " ناضجين ومتقدمين حضارياً " تسلم لهم القيادة العامة للفكر وللمقدرات في معسكر الموالين للعدو الصهيوني والذاهبين في تياره.‏
            إن الذين يتمنون على القلة العربية المتشبثة بفلسطين وبقومية الصراع مع العدو، وبأمة عربية،وبحق تاريخي،وبنضال تنفتح أبوابه على الزمن والأجيال، مهما طال الزمن وتعددت الأجيال من أجل استعادة الحق والأرض والأحلام والآمال وتحقيق ذلك على أرض الواقع، أن المتمنين على تلك القلة أن تستيقظ من سباتها، وأن تكف عن ابتلاع الوهم، وعن الصراخ بالشعارات التي لن تقاوم " البلدوزرات " الزاحفة بقوة النظام الدولي الجديد. ما هم في حقيقة الأمر إلا طلائع الموت الروحي الذي يقتحم جسد الأمَّة وروحها،ومقومات ألحق والوعي،وبوابات التاريخ، إنهم الظلام والظلم الاستعماريان اللذان عرفنا نماذجهما منذ زحف نابليون على مصر،ومازالت تلك النماذج المتعددة تخدم كل عدو للأمة تحت ذرائع مختلفة. ولكن ليتذكر أولئك جيداً،أنه بعد الاستعمار التام للوطن العربي تحرر هذا الوطن من الوجود المباشر للمستعمرين ولم يكن هناك توازن قوي بين المستعمِر والمستعمَر، وما زال يقاوم سطوتهم ويدافع عن الشخصية الثقافية للأمة التي هي المستهدفة أولاً وليس التراب والثروات، تلك الشخصية التي من أبرز مقوماتها: اللغة العربية والإسلام والمقومات والسمات والعادات والتقاليد والصلات القومية العربية؛ تلك التي تتجسد بنظرهم أعداء تحت مسميات وشعارات مختلفة من فترة نضالية إلى أخرى، وتلك النماذج مجسَّدة اليوم على شكل مأساوي بـ " إسرائيل " ومن يدعمها ويسوقها ويدسها في أنوفنا ويستحلي اشمئزازها منه واحتقارها له وقتلها لمواطنيه، وحذفها لوجوده الفعلي، مع حرصها على وجوده الشكلي، لأنه يشكل رأس الحربة ضد جسد الأمَّة الروحي والثقافي الذي يتماسك، وجسر العبور لتأمين المصالح والانتشار، على الرغم من استمرار الاحتلال ومشاريع التوطين والاستعمار .‏
            إن "إسرائيل"، أيها السادة المتربعون على وسادة من وهم، هي التي صنعت اتفاق غزة أريحا ولم يُفرض عليها، وإنها وحدها المستفيدة منه لأنه على الأقل جلب لها الاعتراف بها من العرب وفتح أمامها أبواب الوطن العربي والعالم الإسلامي على مصا ريعها، وإنها هي التي تحللت من نفقات عسكرية كبيرة كانت تدفعها، وأعفاها من الانتفاضة التي كانت تزعجها وتقلقها،ومكَّنها من التفرغ للاستيطان والهيمنة الاقتصادية والمنية على المنطقة،ولتصدير نفسها كصانعة سلام، وهي وحدها التي اخترقت الجدار العربي ووضعت الأخ الفلسطيني بمواجهة أخيه الفلسطيني والعربي، وأشاعت طاعون " النظام الدولي الجديد" في أجساد عرب ورؤاهم،وما هو سوى نظام أميركا الصهيونية أو "إسرائيل" - الأمريكية؛ وهو في نهاية المطاف نظام يزري بالأخلاق والمبادئ ويعلي مصلحته فوق كل شيء، وهو نظام ينهب الشعوب ويحتقرها ونظام يعلن الغزو الثقافي على الآخرين ويمزق قوام الثقافات والأخلاق ،هو النظام المزدوج للمعايير والأقوال والمواقف والأخلاق، وهو النظام الذي ذبح أهل البوسنة والصومال،ومجَّد العنصرية في "إسرائيل" وجنوب إفريقيا،وزيَّف الديمقراطية وبارك اليد التي تحطم البرلمانات عند اللزوم.. إنه الوجه القبيح للبشرية أيها السادة المتعالون فكيف اكتشفتم فيه الصديق الكبير للفلسطينيين وهو الذي ذبح الفلسطينيين وبارك ذبحهم في بيروت وفي الأرض المحتلة،وهو نفسه النظام الذي كنتم تقولون،في أثناء حرب الخليج الثانية، إنه الشر الذي يغزو العالم؛ فكيف أصبح بين عشية وضحاها صديقاً وخيّراً وجميلاً!؟.‏
            أين النضج وما هي معاييره من فضلكم؟! أين القيم والثوابت ومقومات الإنسان الحر في وطن حر،وما هي مقوماتها ومعاييرها من فضلكم؟!‏
            أين المصلحة العليا لأمةٍ أو لشعبٍ تريدون / منها ومنه / أن يكون تبعاً للعدو!؟ اشرحوا لنا ذلك من فضلكم؟! فنحن نحتاج دائماً إلى أن نتعلم ولا نزعم أبداً أننا وصلنا إلى مرحلة الاكتفاء بما نعلم؟! افعلوا ذلك على أرضية الثوابت الخُلُقيَّة والقيمية والمعرفية والإنسانية، فنحن نحتاج إليه؛ افعلوه وأجركم على الله، وستجدوننا إن شاء الله من الصابرين.‏

            الأسبوع الأدبي/ع384//21/ت1/1993‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #51
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              هوامش على ((اتفاق غزة ـ أريحا ))
              اتفاق غزة - أريحا مشروع " " إسرائيلي " " قدم للسياسة المصرية فتبنته وسوَّقته فلسطينياً وساهمت في رعايته، طُبخ في أوسلو الباردة وصدِّر إلينا ساخناً وتكفَّلت واشنطن ببقائه كذلك وبتقديمه بالإغراء أو بالإكراه إلى المعنيين، وبالدفاع عن تركيبته ومذاقه وأهدافه، وهي، مع فريق دولي واسع، تتابع ذلك لمصالحها ومصالح حليفها العهيد " إسرائيل ".‏
              والاتفاق نتيجة واستمرار لاتفاق كامب ديفيد ولكنه يحقق للفلسطينيين أقل بكثير مما حقق لهم أو كان سيحقق لهم ذلك الاتفاق الذي عرب ففتك بالقضية العربية وبالعلاقات العربية - العربية وما زال.‏
              - غزة - أريحا تم بسرية تشكل غدراً بالعربي الأخ الشريك في مراحل القضية كلها، والذي يفاوض جنباً إلى جنب مع الفلسطيني؛ ولأنه تم على هذه الصورة، وبتمويه متعمَّد شارك فيه العدو الصهيوني، وقام ذلك التمويه على افتراء مكشوف قال بان سورية ستعقد اتفاقاً منفرداً مع " إسرائيل "، وترافق الافتراء بحملة إعلامية مرتبة جيداً لإحراج سورية؛ فإنه زاد المرارة في النفوس وكسر جسوراً للثقة كانت تبني بعد أن تحطمت جسور الثقة بين العرب والعرب جرَّاء حروب ومؤامرات ومهاترات ومصالح ضيقة؛ ولقد أتى ذلك على ما تبقى من حلم باستعادة التضامن العربي ولو في إطار تنسيق يواكب تفاوضاً مفروضاً مرفوضاً بالنسبة لوجدان البعض؛ ولأنه كذلك فقد أثر تأثيراً مباشراً على العلاقات الهشة بين العرب، التي تحتاج على أن تكون على أقوى ما تكون عليه في هذه الظروف بالذات.‏
              - غزة - أريحا نَسَفَ مؤتمر مدريد من أساسه والجهود العربية التي بذلت ليكون 242، 338 ومبدأ الأرض مقابل السلام، وفرض الحل الشامل من خلال حضور عربي شامل، هو الأساس والمرجع؛ وجعل السياسة "الإسرائيلية" هي التي تنتصر لأنها كانت تريد دائماً حلولاً تجزيئيّة وترفض 242،338 ومبدأ مقايضة الأرض بالسلام وتعرض على العرب الآخرين مفاوضات سرية، وانفراداً في الحلول الجزئية ومرحلية في الحصول على الحقوق، مع حرصها على أخذ السلام كله جملة وتفصيلاً وتسويقه لصالحها في العالم لتربح من ذلك مادياً ومعنوياً .‏
              وهاهي " إسرائيل " بعد الاتفاق المشؤوم تُرَتِّب العرب على بابها بالدور أو هكذا ترغب، وتقول لهم: فاوضوني سرياً وإفرادياً، وعلى ما يخصكم كأقطار فقط واتركوا شمولية الحل لا سيما فيما يتصل باللاجئين، وحق تقرير المصير، والقدس وتعالوا نجلس بعيداً عن بساط مدريد وخارج حدود صيغة مؤتمرها تلك الصيغة التي لا أرتاح إليها ولا أريد لها الحياة بل لا أريد أن يذكِّرني أحد بها ". على الرغم من أن صيغة مدريد صيغة فُرضت على العرب في ظروف معروفة للقاضي والداني بعد حرب الخليج الثانية والمتغيرات الدولية التي عصفت بالعالم؛ ولأن الاتفاق جاء كذلك: سرياً جزئياً إنفرادياً تآمرياً فإنه جعل مساحة أريحا موضوع تفاوض والمناضلين الفلسطينيين موضوع تفاوض والمفاوضين الفلسطينيين أنفسهم موضوع تفاوض؛ وعلينا أن نتذكر جيداً أن منظمة التحرير في إطار مدريد فرضت نفسها ومرجعيتها لاحقاً على الوفد الفلسطيني الذي كان تحت المظلة الأردنية، وفرضت مفاوضيها وممثليها في الثنائية والمتعددة وأحرجت " إسرائيل " لأن سندها العربي والدولي قوي، ولأن مرجعيتها، مرجعية مدريد، واضحة؛ أما في إطار اتفاق غزة - أريحا فإنها لم تستطع أن تفرض حتى مفاوضيها في طابا - هاني الهندي مثلاً - ولا هي استطاعت أن تفرض تنفيذ أول اتفاق لها مع " الإسرائيليين " في طابا حول الإفراج عن 760 معتقلاً، حيث لم يُفرَج عن معتقلي "حماس والجهاد الإسلامي" من الأطفال والنساء والشيوخ، وكأن الاتفاق اقتصر علناً على " فتح " وليس على منظمة التحرير وفصائلها.‏
              -غزة - أريحا زلزل قضية وشكَّل ثغرة في الصراع العربي - الصهيوني وجعل " إسرائيل " تزاود على العرب كلهم أمام العالم وتدعوهم إلى أن "يخرجوا لصبح السلام بعد أن وافق الفلسطينيون على الاعتراف بـ " إسرائيل " وحقها في الوجود ". ومستند ذلك القول هو أن قضية فلسطين تخص الفلسطينيين أولاً !! ولكنها تخص العرب كأمة أيضاً، وحتى إذا زعم بعض الأشخاص أن فلسطين وقضيتها شأن فلسطيني خاص انطلاقاً من وراثتهم الشرعية (لسايكس - بيكو) ومقولات الاستعمار ونظرياته وحدوده وقيوده وتعليماته، فإنهم لا يستطيعون أن يلغوا من الوجدان والتاريخ وأرض الواقع حقيقة أن فلسطين عربية وأن القضية الفلسطينية انعكست بشكل أو بآخر على كل العرب - بتفاوت نسبي - وساهم فيها بالدم والمال والمسؤولية والمعاناة كلُّ العرب، بتفاوت ملحوظ فيما بينهم؛ ومن ثمة فهي قضية ذات بعد عربي - قومي شامل يحاول اتفاق غزة - أريحا أن يلغيه ويحاول بعض الفلسطينيين أن يشوهه أو يطمسه، ولكن ذلك غير ممكن على الإطلاق. وفضلاً عن البعد القومي للقضية الفلسطينية فإنها منذ نشأت أقامت صراعاً عربياً - صهيونياً شاملاً نظرياً وشبه شامل عملياً، وهذا الصراع بمفهومه وترجمته العملية وأبعاده وأهدافه ليس فلسطينيا حصراً لأنه صراع وجود يتصل بالهوية والحضور القومي والدور الحضاري، بالتاريخ والقيم والمفاهيم؛ كما يتصل بالمشروع الصهيوني ذاته الذي يرفع شعار " من الفرات إلى النيل" و"أرض"إسرائيل" الكبرى " التي هي الآن خارج فلسطين " سايكس بيكو " و " أرض " إسرائيل " التوراتية " أو " " إسرائيل " - رباتي".‏
              وكل هذه الأبعاد لمشروع استعماري - استيطاني صهيوني تتصل بأرض العرب وثقافتهم ووجودهم الأمر الذي يجعل الصراع العربي - الصهيوني مستمراً ما استمر وجود صهيوني في أرض العرب وعدوان صهيوني عليهم ومشاريع توسعية وعدوانية موجهة ضدهم.‏
              وحين يعترف الفلسطينيون، الذين هم رأس الحربة في الصراع العربي - الصهيوني، والذين تحملوا جراءة أكثر من سواهم من العرب؛ حين يعترفون بـ " إسرائيل " ويقولون " بانتهاء هذا الصراع " على نحو ما قالوا في إطار اتفاق غزة - أريحا فإنهم إنما يعلنون أحد الأمور الآتية:‏
              - انفصالهم عن العرب، سواء أكان ذلك في حدود الصراع والتزاماته أو في حدود الانتماء ومقوماته، وفي جميع الأحوال الناتجة عن ذلك فإنهم يفصلون قرارهم عن القرار القومي أو يشككون بالقرار القومي ومرجعيته وشموله؛ أو يعلنون عدم جدواه وفراغه، ومن ثمة يقفون خارج تلك الدائرة. وهذا يقود إلى أمر آخر وهو:‏
              - حيادهم حيال ذلك الصراع أو تحالفهم مع أحد أطرافه. وبما أنهم يعلنون اعترافاً بالعدو فإنهم يعلنون منطقياً اعترافاً بحقوقه وإقامة سلام معه. وهذا يؤدى إلى عدم خوض حروب أو صراعات ضد " إسرائيل " على أرضية صراع حول الوجود، وعدم خوض حرب معها إذا لم تدع المصالح والأبعاد الحيوية القطرية " إلى ذلك.‏

              وهذا سيقود منطقياً، مع استمرار الصراع العربي الصهيوني وسخونته واشتعاله، إلى الوقوف أمام خيارات تسفر عن اتخاذ مواقف وقرارات: فإمَّا أن يكون أصحاب اتفاق غزة - أريحا / الإدارة الذاتية أو الحكم الذاتي أو الحكومة الاتحادية - أو الدولة / حلفاء للعدو " الإسرائيلي " أو محايدون يحمي هو أو حلفاؤه حيادهم؛ ومن ثمة فهم مفصولون بشكل أو بآخر عن قرار الأمَّة العربية وصراعاتها ومصيرها .‏
              وهذا البعد إذا ما تحقق فإنه بعد خطير جداً يقوم بدور تفتيتي مؤثر في كيان الأمَّة العربية ويفتك بتطلعاتها وأحلامها التحررية والوحدوية والحضارية، ويؤسس لقيام فسيفساء بشرية متناحرة أو متضاربة الأهداف والمشاريع والانتماءات والتحالفات على الأرض المحيطة بـ " إسرائيل ". وهو ما كانت " إسرائيل " تسعى إليه في لبنان وسواه، وهو ما زالت تسعى إليه اليوم وغداً.‏
              وإخراج فلسطين وفلسطيني (الاتفاق) من دائرة الصراع العربي - الصهيوني سوف يشجع فكراً وثقافة يبرران ذلك ويسوِّغانه ويدفعانه نحو الوجود والصمود، أو سيخلق مثل ذلك الفكر وتلك الثقافة.‏
              وكما انتعشت الفرعونية في مصر على اثر كامب ديفيد وانتعشت طائفية أدت إلى انتعاش تعصب في مقابلها فسوف تولد، على ما تبقَّى من أرض فلسطين وبين صفوف أبناء شعبها المنتشرين في الأرض، مثل هذه الأمور؛ وسيؤدي ذلك إلى صراعات مطلوبة من " إسرائيل " بل ومشترَطة أساساً في الاتفاق، حتى على المستوى الفلسطيني - الفلسطيني. وقيام مثل هذا المناخ وتلك المعطيات سوف يؤدي إلى انتشار التصدّع في المفاهيم القومية وفي مقومات الوجود العربي والهوية والمصير العربي المشترك.‏
              وبناء على ذلك فإن الصراع العربي مع أيَّة قوة، سواء أكان ذلك على المصالح أو على المبادئ ومقومات الاستقلال والوجود؛ لن يحظى بوحدة موقف ووحدة شعب ووحدة نضال ووحدة قرار،ولا حتى بتضامن هش حول ذلك الأمر،الذي يظهر خطورة كامب ديفيد ثم غزة -أريحا على مجمل العمل القومي،وعلى مفهوم الصراع العربي الصهيوني مع العدو الصهيوني،وعلى مفهوم الصراع العربي مع أي عدو محتمل؛ وتأثير غزة -أريحا على الصراع العربي-"الإسرائيلي" في بعده القومي ملحوظ. ولكن الاتفاق لا يستطيع أن يلغى حقيقة استمرار هذا الصراع لأنه مرتبط بوجودين فوق أرض لا تتسع إلاَّ لوجود وأحد؛ وعلى "الاتفاقيِّين" أن يحددوا اختيارهم وانتماءهم أو مواقفهم من ذلك.‏
              وخطورة الاتفاق أنه يطرح عليهم هذا الخيار في ظل ضعفهم واستعداد الأعداء لتقديم كل دعم وقوة لهم تسندهم في وجه أمَّة ضعيفة مشتتة في حالة انحسار قوة وإرادة ووعي، على أرضية خواء داخلى وغياب نصير خارجي، وهذه الأمَّة هي أمتهم.‏
              - غزة - أريحا اتفاق أملاه الصهاينة وإنجاز " إسرائيلي " يحل مشاكل " إسرائيل "، ولكنه حاضنة أميركية تقيمها لـ " إسرائيل " بعد اقتراب حالة الفطام أو تخوفاً من اقتراب وقته، لا سيما بعد أن بدأ الشارع الأميركي يطرح أسئلة تتعلق بالمال والمساعدات المقدمة للآخرين، في حين يوجد فقر وجوع وبطالة وأميَّة في أميركا؛ ولذلك تأثير كبير على إدارة كلنتون، التى جاءت للحكم أصلاً تحت شعار حل الأزمة الاقتصادية ومعالجة كل ما يتصل بها وينشأ عنها .‏
              ولأن " إسرائيل " تحتاج إلى المال وإلى أن تُفتح بوجهها الأسواق، لا سيما أسواق بيع السلاح مستقبلاً، ولأن العرب مستهلكين جيدين لمجمل السلع بما فيها السلاح؛ فإن السوق العربية المفتوحة لـ " إسرائيل " تشكل حاضنة مثالية لدولة تعبت أميركا من تزويدها بالمال، وتريد لها أن تعيش وتزدهر، وتريد لها أن تبقى قوية لتساعدها في تامين مصالحها أيضاً تحت تهديد القوة إذا اقتضى الأمر .‏
              ولأن اليهود الأميركيين - أكثر من خمسة ملايين ـ يملكون أموالاً ويريدون توسيع استثمار اتهم في الشرق، فإن الاستثمار من خلال التفوق الأمني " الإسرائيلي " والهيمنة التامة على أرض العرب الغنيّة وعلى الشعب العربي " الكريم المتلاف " قضية حيوية تستحق المغامرة، لا سيما وأن فيها ضمان استمرار بقاء " إسرائيل " قوية، وضمان استمرار تنفيذ المشروع الصهيوني بطرق مختلفة خاصة: التوسع الاستيطاني وتمتين القاعدة الاقتصادية المستقلة القوية، التي تحتاج إليها القفزة القادمة نحو خطوة في مشروع " إسرائيل " التوراتية ".‏
              ونظراً لأهمية هذه الأبعاد فقد اتخذ مشروع غزة - أريحا توجها اقتصادياً هو الأهم في الاتفاق، حيث يغدو " الاتفاقيّيون " مجرد مروجين للتطبيع والبضائع والسلع والمشاريع الصهيونية - الغربية ولهم سمسرة معينة " كومسيون "، وسوف يؤمن لهم ذلك دخلاً وتجارة في حدود " سلام المستسلمين " ويعطيهم امتيازات تشكِّل بديلاً للدكاكين السياسية السابقة التي كانت تدرُّ دخلاً. إننا نغير الواجهات والمواقع وبدلاً من دكان القرية نفتح " سوبر ماركت " مغطاة بالملصقات الإعلانية الصهيونية - الأميركية، وفوقها قرص كبير يسهل رؤية محطة الــ s.n.n وبقية المحطات الأخرى التي تتكفل بإعادة صوغ الإنسان الفلسطيني خاصة والعربي عامة صوغاً يجعله مستهلكاً من نوع جديد، لكل أنواع البضائع الثقافية والسلع الغربية والمواد السوداء التي تنخر الروح والجسم معاً وتفتك بالقيم والعادات والتقاليد والأخلاق العربية والشرقية، وتجعل إنسان المستقبل العربي أنموذجاً للتابع المريض الذي يستجدي قوَّته وأفيونه وقوتَه من مالك قراراه ولقمته وهمته ورسنه.‏
              والاتفاق يهيئ الأرضية واسعة لهذا المنحى الاقتصادي الاستهلاكي والسياسي - التجاري بالذات، ويضع بتصرف مشروع مارشال جديد أموالاً تشغل الناس وتجعلهم في خدمة أطماع قريبة تجردهم من الكراهية والمثل والقيم والتطلعات الوطنية والقومية الأصلية والكبيرة.‏
              وعلى هامش هذا السوق الذي ينشأ على مقبرة الشهداء العرب الذين عبروا بالدم الزكي والحناء والحداء القومي العظيم نحو فلسطين التاريخ، على هامش هذا السوق سوف تقام مناطق شبه حرة للقمار والتجارة والدعارة وهي مناطق مشتركة تمتد من إيلات على ساحل البحر الأحمر بطول خمسين كيلو متراً يرتادها أولئك الذين يصرفون أموالهم على هكذا اهتمامات وأكثرهم من العرب، فيكون مجيئهم إليها شبه يومي وصرفهم في مغانيها عظيم، وكأن ذلك الذي يجنيه تجار النهار وعماله يأخذه لصوص الليل؛ وهكذا يعود المال إلى شايلوك الذي لا يتردد في الربا كما لا يتردد بأن يقدِّم نساء وإغراء وسموماً ليكسب أكثر ويفتك بالآخرين أكثر تحت شعار استغلال "الغوييم " واستعادة أملاك اليهود منهم بكل طريقة ممكنة ولن يكون مستغرباً عندها إذا اشترك رابين أو بيريس مع مسؤولين فلسطينيين وعرب آخرين في إقامة واستثمار أحد أندية القمار.. أَوَليس اتفاق غزة - أريحا كله نوع من مغامرة كسب فيها " الإسرائيلي " الصفقة كلها وخسر الفلسطيني والعربي الذي أيَّدَه فلسطين والمستقبل وقامر بأرواح الشهداء وبحق المشردين بالعودة وبالوطن الذي كان والذي ما زال يرفرف على سندس أرواح الشهداء وأولئك الذين يعانون من أجل فلسطين وبسببها وتحت وطأة الصراع العربي - الصهيوني وذرائع لا تنتهي لأعمال وممارسات تتم باسمه وبسببه!؟ ولن يعدم ذلك النادي الكبير زوَّاراً يستطلعون آفاقه ويتمتعون بظلاله وهم يغضِّنون وجوههم احتجاجاً على إقامته، فالعرب لديهم هامش ذرائعي كبير وهامش أكبر للمناورات السلبية؛ ومن يعش يرَ الكثير والكثير، وسيكون من الأمنيات أن يغفروا لنا كتابة هذه الهوامش على اتفاق غزة - أريحا.‏

              الأسبوع الأدبي/ع385//28/ت1/1993‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #52
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                لماذا (لا )
                لماذا " لا " قبل أن نمتلك فعلياً مقومات قول " لا " وقبل أن نتمكَّن من القيام بالاستحقاقات التي تترتب على ذلك؟! سؤال يقف في الحلق، ويغص به المنطق ويظهرنا كمن يضع العصي في العجلات غير مدرك لما يفعل، أو كمن فاته شيء كثير وما زال يعيش في زمن ماض فهو كسكان الكهف يريد أن يصرف عملة لا تُصْرَف، وأن يعيش في عصر السرعة وقد تكلست عظامه من الرطوبة وأَلِفَ الظلام؟! بعض الناس ينظر بعطف وتفهُّم لأولئك الذين يقولون " لا " في زمن " نعم " فيرى أن الوجدان العربي الذي تكوَّن في ظل الحق والأخلاقيات والثوابت القومية لا يمكن أن يقبل بسهولة نقائض ما تكوَّن عليه ونهجاً نهجَه، وأنه لابد من ثورة عاطفية وانفعال وتمرد آني لتخف وطأة الصدمة وبعدها يعود أولئك إلى قبول الواقع وإلى التطامن في ظل الوقائع الجديدة والمعطيات التي يقدمها عالم متغير. وبعض الناس أيضاً يلتمس لأولئك الأعذار من موقع وموقف متعاليين، فهو في ظل العطف والاستصغار يقول: انفعاليون من فصائل الغزو القبَلي يهرس قلوبهم الثأر، ولا ينامون على ضيم لأنهم ما زالوا يعيشون مراحل تدفق البداوة والعواطف والأحلام والأوهام في أعصابهم وشرايينهم !؟.‏
                أما أولئك الذين يقولون " لا " دون أن ينتظروا تحقق امتلاكهم لما ترتبه "لا " من مسؤوليات وتبعات، مشحونون بالمتناقضات ويريدون تحقيق ما يقرب من المستحيل في جو عربي تسيطر عليه أيام " النقائض "، وهم مسكونون بالهم والألم والأمل في آن معاً، رؤيتهم لم يضربْها بعد فلقُ الصبح، ولكنه لم يتناءى عنها فتيأس منه. ويبدو بجلاء أنه ليس من السهل عليهم أن يضعوا كل ما عاشوا عليه وناضلوا من أجله في سلة المهملات، فضلاً عن أنهم لم يفقدوا الأمل بحزمة الأهداف والتطلعات والأحلام التي تشكل بالنسبة لهم معنى الحياة وجوهرها.‏

                " لا " قبل امتلاك مقوماتها والاستعداد لأداء استحقاقاتها على الوجه المرْضي، موقف لا يأتي من فراغ، ولا يستند إلى فراغ، ولن يبقى معلقاً في الفراغ. فهي تحمل ثقل صدق الحق والقضية والنضال الذي تم على طريقها منذ مطلع هذا القرن؛ وهي تعلن عدم موت الأمَّة وعدم موت الثقة بها، وتعلن أن الباب ما زال مفتوحاً نحو المستقبل ولم يغلقه الردم المتراكم من العدو وحلفائه وعملائه، وتعلن استعداداً لمزيد من التضحية والعمل من أجل البقاء ونوع الحضور ومعنى الحق، وهي ناقوس يقرع في كل أنحاء الوطن العربي لينذِر في صبح " الابتهاج المفتَعَل " بسلام " غزة - أريحا وسلام يهود.. لينذر بأن الخطر قادم، والمقاومة فرض عين، وفلسطين عربية، والقدس ليست كما يقول رابين " عاصمة أبدية لـ " إسرائيل " " ولا كما يقول بيريس " لا يمكن أن تكون مفتوحة لكل الأيادي إلا إذا بقيت عاصمة " إسرائيل " فنحن أفضل ضمانة لاحترام كل الأديان "!؟ ذلك لأن كذب الصهاينة يروج في الولايات المتحدة الأميركية وفي العالم الذي يخشى اتهاماتهم المكررة " بالعداء للسامية "، ولكنه لا يروج في منطقة تعرف جيداً أنهم هم العنصرية البغيضة مجسَّدة؛ وذلك من خلال التجربة المرة والممارسة المضنية، وأنهم أساس مصائب الآخرين في هذه المنطقة العربية، ولأن القدس، عبر تاريخ تَعَانُق الأديان السماوية فيها، نحن كنا سدنتها الأوفى والأعدل والأكفأ، من حيث المحافظة على المقدسات وإتاحة حرية العبادة وحرية وصول الجميع إلى مقدساتهم. لأننا نؤمن بالأنبياء ولا نفرق، ونحن لم نحرق المسجد الأقصى ولم نعتد على الكنائس ولم نلحق أذى بالكنس كما فعل اليهود بمقدسات الغير .‏
                إن قول " لا " قبل الإعداد لاستحقاقاتها بشكل ملائم يعتمد على رصيد الحق والتاريخ وعلى القوة الروحية والثوابت المبدئية التي نرفض التفريط بها؛ وهو في الوقت ذاته، ومن جهة أخرى إعلان ضرورة إعادة تجمُّع الأمَّة حول القضية القومية على أسس من العمل والتعامل والإعداد والاستعداد مختلفة عما سبق؛ وهذا يجعلنا نرى في " لا " التي نرفض ابتداء منها العدو ودولة القهر وحالة الذل، نرى فيها نداء للوعي والعمل على أرضية العلم لامتلاك القدرة على تحقيق معنى " لا " وهو مدخل لمعنى مقوماتها واستحقاقاتها. إن " لا " ترتب على من يقولها ضرورة إجراء مراجعة للذات والممارسات والاستعدادات لينشأ ابتداء من ذلك وضع مغاير للوضع الراهن الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه الآن من ضعف وارتباك وانشقاقات وتسليم بقوة الأمر الواقع الذي لا نرتضيه لأنفسنا ولأجيالنا. والمراجعة تقوم على وعي يمكِّننا من ممارسة النقد الذاتي والنقد الموضوعي بهدف إعادة البناء: بناء الذات وبناء الصلات وبناء القدرات العلمية والعملية والإنتاجية وفي هذا المنحى أحبِّذ لو تقوم التيارات الرئيسة، سياسياً وثقافياً وتنظيمياً، العاملة في ساحة الوطن العربي بمراجعة شجاعة بهدف الاستفادة من دروس الماضي واكتشاف المشترك الذي يجمع القوى المعنية بقضية مبدئية وأهداف مشتركة على طريق نضال وأحد، مع الاحتفاظ بهوامش الخلاف التي يجري حولها حوار بناء على أرضية احترام حق الآخر في الاختلاف واحترام معايير رئيسة تجعل الجميع تحت سقف الوطن والأمة والمصلحة العليا في البقاء والوجود والحفاظ على حيوية الحضور ومقومات الحياة والكرامة .‏
                وأعتقد أن التيار القومي في الوطن العربي هو المدعو للقيام بمبادرات قبل سواه، لأن المرحلة تتطلب إعادة تأكيد للالتزام القومي والثوابت القومية بالنسبة للقضية المركزية في النضال العربي قضية فلسطين، وبالنسبة للوحدة التي لا يوجد خلاص قطري من أي نوع من دون خطوات على طريقها ابتداء من التضامن وانتهاء بها، مروراً بأشكال الاتحاد والولايات العربية المتحدة. ولا أجد مبرراً لعدم قيام التيار القومي بمبادرات داخلية وخارجية باتجاه التيارات الأخرى في الساحة العربية انطلاقاً من رؤية تحمل الراهن وتستشرف المستقبل، الذي ينبغي أن يكون للجميع وأن يشارك في صنعه الجميع.‏
                إن التأسيس لمرحلة جديدة من التفاعل والتواصل بين التيارات المؤثرة في العمل العربي بكل مستوياته وأبعاده، وأقصد بصورة خاصة /التيار القومي - التيار الماركسي - التيار الإسلامي - التيار الليبرالي/ من الأهمية بمكان لجعل قدرات الأمَّة تصب في خدمتها وفي مجرى يهدف لانتشالها من التمزق والتفتيت، ووضعها على مسار الإنقاذ والنهضة والوعي العصري القائم على نظرة شاملة للحاضر في ضوء الموقع الحالي للعرب في العالم. وإذا ما التقت تلك القوى على برنامج مشترك يؤسس للعمل من أجل امتلاك مقومات رفض الانهيار ورفض الاعتراف بالعدو الصهيوني، ووضع حد للانتماءات المرضية والمشبوهة التي تقوم بها أطراف شريكة في المسؤولية والمصير، فإننا نبدأ فعلياً بتوفير الرصيد اللازم لاستحقاقات " لا ".‏
                إن " لا " لـ " إسرائيل " ومشاريع الولايات المتحدة الأميركية تحتاج إلى جبهة تستشعر الخطر وضرورات العمل المشترك، كما تستشعر بجدية ومسؤولية واجباتها حيال الوطن والحق التاريخي للأمَّة وحيال الأجيال القادمة. والسير في هذا الاتجاه يستدعي مجاوزة كثير من عقد الماضي ومآسيه وأحزانه ووقائعه وتواريخه وخلافاته ويتطلب استعداداً مبدئياً لقبول الآخر الشريك في الشرط الإنساني والمصير الإنساني، بل طرف الشراكة في الوطن والمسؤولية والانتماء. والسير في هذا الاتجاه يتطلب شجاعة وصراحة وجرأة في مواجهة الذات والآخر واستحقاقات الحاضر والمستقبل، كما يتطلب استعداداً لنبذ كل ادعاء بعصمويَّة أياً كان مصدرها، وببراءة من كل مسؤولية وتقصير أياً كان المبرر والسبب. إننا لا نريد فتح محكمة واستعادة سياط نجلد بها الذات والآخر، إننا نحتاج إلى دخول المطْهَر بكل الاستعداد للخروج منه أكثر قدرة على المحبة والتضحية وتقبُّل الواقع المر واستحقاقات المستقبل. وهذا يستدعي الحذر مسبقاً من نبذ الآخر أو العمل على إلحاقه من خلال الطلب إليه أن يلتحق بالمشروع الذي يُعْرَض عليه. ذلك لأن عملية إلغاء الشريك تتم في أكثر الحالات حين نستدرجه إلى قفص، أو حين نغلق عليه المنافذ بدفاعنا المطلق عن قفصنا الذي نحن فيه. والحوار الذي يقوم على حرية واحترام يكفل، أول ما يكفل، حق الآخر في صنع مناخه وفي المساهمة في صنع نتائجه.‏
                إن " لا " نقولها لغزة - أريحا مثلاً أو للاعتراف بـ " إسرائيل "، أو لأشكال الظلم والقهر والاستغلال والحصار بكل أبعاده - الذي يفرض على أمتنا وعلى أجزاء من شعبنا، تتطلب حسابات قائمة على مستندات ومعطيات ومقومات قوة علمية وتقنية وعملية بالدرجة الأولى، وعلى اقتصاد ووعي وثقافة و ..الخ. أي على شراكة حقيقية تقوم على توحُّد تام في الرؤية مع مراعاة للظروف والمرحليات التي يفرض مراعاتها وجودُ دول وسياسات وتواريخ، ووجود واقع لا بد من السير عبره إلى المستقبل. وإن " لا " تتطلب أن ندرس بدقة أسباب فشل " لاءات " سابقة عليها، ابتداء من لاءات الخرطوم مروراً بـ " لا " التي قلناها " لكامب ديفيد " وتلك التي نقولها لغزة أريحا، وتلك التي نقولها أو سنقولها لـ " إسرائيل " وللمشروع الاستثماري الاستعماري الغربي. وهذا التوجه يطرح سؤالاً محرجاً نظراً لما رافقه دائماً من إحباط، وهو: هل نحن قادرون؟! وهل لا بد من خوض التجربة ... والمجرَّب لا يجرب عادة؟! وبكل موضوعية التفاؤل ومسؤوليته أقول: نعم.. إذا. "ونعم.. إذا " لها مبرراتها ومستنداتها ومعطياتها وشروطها. نعم إن ذلك ممكن من خلال توافر كل الخامات الأولية والمواد التي يمكن أن تصنع وضعاً جديداً وقوة جديدة. وإذا.. شرطية مفتوحة المداخل يلخِّصها بإيجاز شديد قوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم " وهذا يتضمن مناخاً ذاتياً وموضوعياً، فردياً وجماعياً، قطرياً وقومياً، نظرياً وعملياً، آمل أن يكون لدينا الاستعداد لتوفيره لنا ولسوانا،والقدرة على تحقيق ذلك.‏

                الأسبوع الأدبي/ع388//18/ت2/1993‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #53
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  الانتفاضة في عامها السابع
                  الانتفاضة الفلسطينية المباركة تدخل عامها السابع عزيزة قوية وأكثر تصميماً على تحقيق أهدافها من أي وقت مضى.‏
                  وهي إذ تسلك طريق التحرير، رافعة مشاعل الدم، مثقلة بالمسؤولية وأكاليل الغار، يسلك غيرها، من أبناء فلسطين، طريق اتفاق " أوسلو" مختارين الهزيمة وطلاء القار، وتحالفاً مع العدو لا يشرف ولا ينقذ ولا يحمي إلا مصلحة أولئك الذين يرون أن الوطن والقضية تقزَّما وتوحَّدا في أشخاصهم ومصالحهم فقط.‏
                  والانتفاضة في عامها السابع لا تحمل أهداف ما قبله من أعوام، فلقد أضيف إلى ذلك هدف إسقاط الاتفاق ومواجهة التحالفات الجديدة، والأوضاع الجديدة في الساحتين الفلسطينية والعربية فهل تراها ستكون أقدر على مواجهة استحقاقات المرحلة القادمة، أم أنها ستعاني من فداحة ما تلاقي وثقل ما تحمل؟!.‏
                  لقد كانت المعادلة سائدة خلال السنوات الست الماضية معادلة صعبة وغير مقبولة من الجميع تلك التي يمكن تلخيصها بالآتي :‏
                  "استمرار الإبادة في الداخل، واستمرار الصراخ في الخارج. "‏
                  فهل تراها تتغير تلك المعادلة الآن إلى الأفضل أم إلى الأسوأ ؟!‏
                  من المؤشرات التي تمت حتى الآن، لا سيما بعد اتفاق"أوسلو"، أن قيادة منظمة التحرير لم يعد يهمها إلا ما يجري لبعض فصائل فتح في الداخل وهي حيال أولئك قد تملك أن تحتج ولكنها لا تملك أن تطلب من رابين تقديم الاعتذار عن قتلهم مثلما فعل رابين بعرفات عند قُتل "حاييم مزراحي".‏
                  أما أن يهتم عرفات بمن يقتلون من"حماس" والجهاد الإسلامي، مثل عماد عقل وسواه، فذلك أمر مستبعد تماماً، وقد أشار أكثر من وزير " إسرائيلي " إلى حقيقة أن منظمة التحرير التي وقعنا معها الاتفاق لا تهتم بمن يعارضون الاتفاق من الداخل والخارج وهي تتعاون أو ستتعاون معنا من أجل تصفيتهم .‏
                  وهذا المؤشر يكاد يضيء صفحة الآتي، لا سيما خلال السنة السابعة من عمر الانتفاضة، وهي بتقديري سنة حاسمة بالنسبة لها.‏
                  فهل ستواجه آلة الحقد العنصري الصهيوني ومن سيتعاون معها رسمياً لتصفية الانتفاضة التي" لم يعد لها ضرورة " كما صرح أكثر من مسؤول في منظمة التحرير، لأن اتفاق" أوسلو " أنهى ما سماه عرفات" الإرهاب " و"العنف"، وهل تكون قادرة، وحدها، في حال استمرار المعادلة التي أشرنا إليها سابقاً معادلة: "استمرار الإبادة في الداخل، واستمرار الصراخ في الخارج "!؟ .‏
                  إن تحقيق مواجهة ناجحة واستمراراً مطلوباً، غدا وحده أحد أهم المؤشرات العملية على مقاومة"الاتفاق" المشين؟!.‏
                  إن جميع الدلائل تشير إلى أن الانتفاضة المباركة سوف تكون أكثر عزلة مما مضى، وأكثر إثارة للاهتمام، لا سيما في ظل الأوضاع العربية والدولية الراهنة. وإذا لم يتمكن الرافضون للاتفاق من تقديم رفد مادي وعملياتي للانتفاضة، بتعاون وتنسيق تامين فيما بينهم من جهة، وبتعاون مع الانتفاضة في الداخل من جهة أخرى، فإن النتائج ستكون ضئيلة أو معدومة، والخسائر المادية والمعنوية، في داخل فلسطين المحتلة وفي داخل صفوف الرافضين للاتفاق وللاعتراف بإسرائيل ولكل شكل من أشكال تطبيع العلاقات معها على أرضية الاعتراف بها؛ أن النتائج والخسائر ستكون محبطة تماماً.‏
                  أنا أعرف جيداً حجم المواجهات القادمة وظروفها وشروطها، وأعرف نوع الرفد الذي يمكن أن يقدم عملياً للانتفاضة من الداخل، وهو إذا ما وصل إلى أفضل حالاته سيكون دعماً مالياً وإعلامياً؛ وكل ذلك لا يحقق فعلاً ذا ثقل مؤثر يحسم الأمر لصالح استمرار الصراع العربي الصهيوني على أسسه ومبادئه وثوابته تحقيقاً لأهدافه المعلنة، وحفاظاً على جوهره: "صراع وجود وليس نزاعاً على حدود".‏
                  ولذلك فإن رفض إسرائيل، ورفض الاعتراف بها، ورفض اتفاق"غزة- أريحا" والتمسك بثوابت الأمَّة العربية وبمقومات صراعها مع الصهيونية، كل ذلك ينبغي أن يعبر عن نفسه وعن حضوره، منذ الآن، بشكل مغاير تماماً لكل ما سبق من صور الدعم للانتفاضة والتضامن معها والتبني التام لأهدافها، ولكل ما قدم من أشكال الإعداد والاستعداد لخوض الصراع العربي الصهيوني.‏
                  من الجلي الواضح اليوم أن التوجه الرسمي العربي، في مجمله -عدا بعض الأقطار- لم يعد يقر مبدأ الصراع بمقوماته الثابتة وأهدافه الرئيسة، وأنه مع الاتفاق والاعتراف، فكيف سيكون موقفه من الانتفاضة، وهي تناقض توجهاته ومفاهيمه الراهنة؟! هل تراه سيقف منها موقفاً غير ذاك الذي يدعو إليه كل من عرفات ورابين معاً؟! وهل سيجنبها السحق والمحق والإبادة؟!.‏
                  هل سينصفها ويرعاها معنوياً، أم سيعتم عليها وينضم إلى الطاعنين بها؟! كل تلك أسئلة مطروحة وأجوبتها تكاد تكون معروفة.‏
                  وإذا كان هذا هو شان الانتفاضة المتوقع مع التوجه الرسمي العربي، فهل سيكون شأنها أفضل مع التوجه الشعبي العربي؟! وهل تراه قادراً على منحها أكثر من الكلام والعواطف، وبعض المال في أحسن الظروف؟! وهل هذا سيكفيها لتواصل جهادها في ظل الحصار الذي سيفرض عليها!!‏
                  يتراءى لي أن من صور الدعم المجدي وأشكاله، الرفد البشري بعناصر قادرة على الأداء العمليَّاتي، ولكن ذلك كان محظوراً وغير ممكن في ظل وضع عربي رسمي أكثر تأييداً للانتفاضة، فهل تراه واقعياً التفكير بدعم من هذا القبيل في ظل الوضع العربي الراهن، وهو دعم ضروري في وقت تستمر فيه أعمال التصفية البشرية لرجال الانتفاضة وأبطالها؟!.‏
                  إن ذلك مطروح للتفكير، ولا بد أن يتم النظر جدياً بكل أشكال الدعم المطلوبة للانتفاضة في عامها السابع على ضوء المتغيرات الجديدة، والواقع السياسي العربي والدولي حيالها، والواقع الفلسطيني الرسمي أيضاً، وهو واقع لا يستهان به ولا بتأثيره.‏
                  إن علينا أن نبقي شعلة الشهداء مضاءة ومرفوعة، وعلينا أن نبقي الانتفاضة مستمرة، وعلينا أن نجد صيغ الدعم الفعلي لها؛ إذا ما أردنا أن نكون أكثر مصداقية وتأثيراً وفاعلية مما مضى.‏
                  إننا نذكر جيداً كيف أن " لاءات " الخرطوم انقلبت في ضوء الأداء العربي الهزيل/رسمياً وشعبياً/ إلى أكثر من نعم، وكذلك الرفض الذي كان"لكامب ديفيد"، وننظر الآن"بواقعية سوداء"، ومأساوية أن صح التعبير، إلى الموقف الرسمي العربي من اتفاق "غزة- أريحا"، فلا نجعلن موقفنا من الانتفاضة في عامها السابع وبداية مسيرتها النوعية الجديدة في ظروفها الحالية، على شاكلة ما سبق للأمة من مواقف حيال قرارات واتفاقيات سابقة.‏
                  إن نوع السلوك والأداء والفعل والتفكير هو الذي ينبغي أن يتغير.‏
                  ومن أجل الوصول إلى ذلك لا بد من تغيير جذري في أساليب التعامل والتواصل بين الفئات التي تتخذ موقفاً رافضاً للاعتراف والاتفاق والتطبيع.‏
                  لا بد من تصالحها أولاً، ومن برنامج عمل مشترك لها ثانياً، ولا بد من اعتمادها على الشعب وتواصلها معه على أساس من المصداقية والوعي، ولا بد من معرفة ما يحرك وجدانه وما يضعه على طريق العطاء غير المحدود؛ وربما من أجل هذا كان وما زال مطلوباً: إقامة الحوار بين التيارات الرئيسة الفاعلة في الساحتين العربية والإسلامية من أجل اكتشاف المشترك وتعزيزه، ومن أجل وضع استراتيجية عمل ومرحليات تحرك تجعل لـ"لا" معنى"لا" ومردودها ومصداقيتها، وتجعل لكل كلمة - موقف تأثيراً واحتراماً ومهابة.‏
                  إن الذين يقدمون الدم في فلسطين المحتلة وعلى الحدود معها لا سيما الانتفاضة والمقاومة الوطنية اللبنانية، كل أولئك يستحق منا أن نقدم له بصدق جهداً ودعماً وتأييداً وشراكة في المصير، فهل نفعل ذلك بسرعة وصدق وفعالية يؤكدها ويحققها العلم والعمل !؟.‏
                  قل: " إن اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقل: "اعملوا فسيرى اللّه عملكم ورسوله والمؤمنون ".‏
                  صدق اللّه العظيم.‏

                  الأسبوع الأدبي/ع391//9/ك1/1993‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #54
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    مثقفو التطبيع من صنعاء إلـى غرناطة
                    في ندوة ثقافية- سياسية موسعة، عقدت في صنعاء دعماً للانتفاضة المباركة قبل عدة سنوات، رفع نفر من المثقفين " العرب " ممن "يحتكرون" لأنفسهم النضج والحداثة والمعرفة... الخ وممن ينفخ في قصبهم الغرب فيمتلئ بأصواتهم الشرق، رفع أولئك أصواتهم مروجين للتطبيع الثقافي مع العدو الصهيوني، وكان ينتظرهم أن هم نجحوا في جر المثقفين العرب إلى ذلك، وعد بما يشبع غرورهم، ولكنهم شجبوا شجباً مراً، فصعّروا خدودهم كبراً، وراحوا ينعتون الآخرين، سراً، بأنهم ما زالوا تحت مستوى النضج المطلوب، ويتهمون الأمَّة العربية كلها بما هو أبشع وأشنع من الجلافة والتخلف، وشدوا رحالهم إلى العواصم الغربية التي أوفدتهم وأغرتهم بمهامهم تلك، يحثونها على الاستمرار في تصنيع الواجهات الملائمة وتلميعها وصولاً إلى وضع يمكنها من قيادة الثقافة في الشرق، ذلك الذي لم ينضج بعد ليسير حسب الطلب، تنفيذاً للخطط المرسومة.‏
                    وراحت تلك الدوائر تعمل بالتعاون مع الصهيونية والإدارات الأميركية، وتدفع أسماء إلى دائرة ضوء الإعلام، وتلمع واجهات وتهيئ نفوساً ومناخاً لساعة يرتب لها سياسياً وثقافياً.‏
                    وقبل أيام، وبالتحديد في التاسع من كانون الأول الجاري، وهو يوم دخول الانتفاضة عامها السابع، انعقدت في"غرناطة" ندوة: ثقافية- سياسية بإشراف اليونيسكو وتمويلها، تحت عنوان "لننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام" ثقلها: مثقفون فلسطينيون ويهود، وشارك فيها المثقفون الذين صنّعهم الغرب وهيأهم لمثل هذه المناسبات، وأولئك الذين روجوا للتطبيع مع إسرائيل، زاعمين أنهم ممثلي الثقافة العربية.‏
                    وهم في فعلهم هذا لا تحدوهم إلا الرغبة في الظهور على حساب الشعب والحق والقيم، ولا يريدون إلا تأكيد"مصداقيتهم" أمام الذين صنعوهم على أنهم"متحضرين" على النمط الساداتي، وأنهم يدفعون اتفاق رابين- عرفات إلى الأمام، ويشيعون من حوله هالة من الرضا ذات بعد ثقافي (؟ ؟!). وهم يدركون جيداً أنهم يرمون إلى تحقيق تعاون وتفاعل عربي- صهيوني برعاية غربية، لتحقيق تطبيع شامل، تكون الثقافة أحد وجوهه ويريدون اختراق الجبهة الثقافية العربية الرافضة للاتفاق، والاعتراف، والتطبيع، ولأن تكون"إسرائيل" جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي والأمني للمنطقة.‏

                    ولأن هذا الفعل يشكل انتهاكاً لحركة الثوابت المبدئية: القومية والخُلُقية، التي تدفعها الثقافة العربية عالياً في هذه المرحلة، ولأنه يرمي إلى النيل من منزلة الثقافة العربية ومصداقيتها أمام الجماهير، وغرس الإحباط في كيانها بجعلها تنخرط في التفريط بالحقوق والمقدسات والأرض والمبادئ وتبارك من يفعلون ذلك وتشاركهم أفعالهم، ولأنه يتعارض مع ما ثبتته مؤتمرات الكتاب والمثقفين العرب، القومية والقطرية، وكذلك مع ما أعلنته المؤسسات الثقافية، والمؤتمرات الشعبية العربية والإسلامية، مثل: المجلس القومي للثقافة العربية، مؤتمر الشعب العربي، المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، المؤتمر القومي في إطار مركز دراسات الوحدة العربية- ملتقى الحوار- الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب- جبهة ميثاق المثقفين العرب.... الخ.. فإنه يتوجب علينا، وفي هذا الظرف بالذات، أن نعلن بملء الصوت، أن الذين يترامون على أعتاب"إسرائيل"، وعلى جوائز تهيمن عليها الصهيونية وتتخذ واجهات دولية، والذين يزعمون أنهم يمثلون مؤسسات أدبية"هي في واقع الحال ميتة تماماً ومنذ زمن"، أن هؤلاء جميعاً لا يمثلون الوجه الحقيقي للثقافة العربية، ولا التوجه الراهن للمثقفين العرب، لا سيما موقفهم من اتفاقيات التفريط، والاعتراف المجاني بعدو الأمَّة الذي لا يمكن إلا أن يبقى عدواً ما دام يحتل شبراً من أرض فلسطين، كل فلسطين، وأن هؤلاء لا ينطقون باسم ثقافة الأمة، وإنما هم رموز سوق الكلام، والقضايا الكبرى للشعوب لاتباع في الأسواق. أن أولئك إنما يقدمون أنفسهم للناس على حقيقتهم: أحصنة مستأجرة في رهان خاسر، فالثقافة العربية ستكون -فيما نؤمل- الحصن الحصين الذي يدافع عن ثوابت الأمَّة العربية، وعن أرضها وحقوقها وكرامتها، وهي لن تفرط ولن تغطي مفرطاً، ولن تركب مركب غيرها، ولن تعترف بإسرائيل، ولا بالهزيمة، حتى لو انتهت معارك وعقود زمنية لصالح العدو، فإن ذلك لا يعني ولن يعني أبداً هزيمة تاريخية شاملة ونهائية للأمة، فالباب الذي ستلجه الأجيال القادمة نحو الكرامة والتحرير لابد أن يبقى مفتوحاً، ولابد أن يحشد الناس لكي يلجوه، ولن يقوم بذلك سوى ثقافة مؤتمنة على تاريخ الأمَّة وحقوقها وثوابتها وروحها المتجدد، ولن يصنع ذلك سوى وعي معرفي عميق بدروس التاريخ العربي وعبره، وانتماء صريح للأمة في ظروفها ومعطياتها وما يمثله واقعها من: خير وشر، إيجابي وسلبي، صحة ومرض، قوة وضعف، ولن يغير شخص جلده ودمه وانتماءه وقيمه لأن تغيراً طارئاً أو عميقاً أصاب شعبه أو أصاب بعض جسده، فذلك هو الانسلاخ النابع من أنانية مفرطة أو دونية مفرطة، ونتيجته وبال على الشخص ونسله وروحه المعنوية وثقافته وشخصيته في المدى البعيد.‏
                    إن الثقافة العربية، والمثقفين العرب، مسؤولون عن إبقاء الباب مفتوحاً أمام الأجيال القادمة لتقوم بالتحرير على أرضية الوعي والانتماء والمسؤولية، والإعداد والاستعداد العلميين الكافيين والكفيلين بإحداث نقلة نوعية في التفكير والتدبير والسلوك والإنجاز، والمثقفون مسؤولون أيضاً عن إبقاء ذاكرة الأجيال حية وعامرة بكل ما يؤكد هويتها وحقها وقضاياها وثوابتها التاريخية، ومقومات الوطن وقيم المواطنة، وبكل ما يجعل الإرادة حرة وطليقة، بعيداً عما قد يكبلها من وثائق ومعوقات أملتها ظروف طارئة أو متغيرات لا طاقة لجيل بمواجهتها. أن ذلك منوط بالتركيز على تربية وتعليم وتوعية وتكوين معرفي وعلمي وأخلاقي، يأخذ المستقبل بالاعتبار، ولا يتنكر للواقع، ولكن لا يستكين له وينسحق روحياً تحت وطأة مقوماته ومعطياته. أن الثقافة العربية مدعوة الآن إلى مقاومة التطبيع ورفض الاستكانة للعدو، لا إلى أن تصبح عَرَّاباً يدخل العدو معاقل العقل والوجدان بعد أن دخل الأرض وامتد في أبعاد أخرى؟!. ومن هنا فهي مطالبة بالقيام بفعل مؤثر وشامل، فعل نوعي تماماً ينصب على مجالات التربية والتعليم والتكوين العلمي وامتلاك الثقافة والتصنيع، واستخدام الوعي المعرفي فيما يساهم في تكوين، فردي وجمعي، جديدين، يلغيان ما لحق بالنفوس والأوطان من إحباط وبؤس وخذلان، ويمسحان من الذاكرة كوابيس السادات وعرفات وأشباههما، ويجددان الانتماء القومي للقضية الفلسطينية، ويؤكد أن استمرار الصراع العربي الصهيوني إلى أن يعود الحق العربي إلى أهله، مع التأكيد على ضرورة التأهل لتغيير الأساليب والأدوات والسبل التي جعلت من ذلك الصراع صراعاً سلبي النتائج على العرب على الرغم من توافر الإمكانات التي يمكن أن تعكس تلك النتائج فيما لو استخدمت بدقة وإخلاص وعلم لصالح الأمة.‏
                    - أن الذين يريدون أن يثبتوا في"غرناطة" أو في سواها، مشروع عرفات- رابين، في جسم الثقافة بعد السياسة، وفي العقل والوجدان والذاكرة العربية، إنما يعيشون وهماً، ويدركون صعوبة ما يذهبون إليه، ولكنهم، رغم ذلك - يتسلحون له بأدوات وإمكانات واستعدادات عدة، وبقوة " إسرائيل " والغرب المتحالف معها، وبضعف منهزمين ومحبطين ومفرطين من العرب، وبمن ينخرهم في الأعماق أمثال: "عدنان ياسين" على مدى السنين، من الفلسطينيين، وهؤلاء ليسوا وجه الأمَّة ولا قلبها ولن يكونوا كذلك حتى ولو وقفت إلى جانبهم قوى تسندهم. وإذا كانت لأولئك جولة، أو حتى أكثر من جولة، فلن تكون لهم الغلبة على أمة مرّ عليها كثير من البغاة والمستعمرين والطغاة والأدعياء والعملاء والأجراء، فما ذلت ولا وهنت، ومازالت صامدة بثقافتها وعقيدتها، بهويتها وشخصيتها، تقاوم وتبني وتعيش، وترفع صوتها الخاص بين أمم الأرض، فوق أطهر الربوع وأعرقها حضارة وحضوراً.‏
                    وقد تجاوزت هذه الأمَّة كل من مر بساحتها من الغزاة ولم يمح رسمها ولا اسمها ولا إنجازها من التاريخ، كما لم يشملها النسيان، نعم أن هذا قول يستند إلى ماض، ولكن مَن مِن الأمم لم يسندها ماض في الشدائد والمحن، وأية أمة من الأمم لم تنفع بدروس التاريخ لتنهض وتكافح وتستعيد حقاً أو حضوراً؟!.‏
                    ومن الذي يفعل ذلك، وينير شموعاً في العتمة لتعبر الشعوب برازخ الزمن؟! أليسوا هم قادة الرأي وقادة الوعي، أليسوا هم الكبار من ساسة وأدباء ومفكرين وشعراء ومناضلين؟!. وهل أولئك لا وجود لهم في أمة العرب؟! حتى يهيل علينا"مثقفون" عرب من غرناطة سيل التطبيع والتركيع متعاونين مع الصهاينة الذين أثبتوا اليوم بما لا يقبل مجالاً للشك بأنهم الورثة الشرعيين لنازية هتلر وفاشية موسوليني، وأنهم منبع العنصرية البغيضة ومجراها، ومعبدها وسدنة ذلك المعبد؟! إليكم أيها الساعون إلى زرع جسم صهيوني في وجدان عربي، تذكرة مرة ما زالت صفحاتها حية في الذاكرة التي تريدون مسحها، ذاكرة العربي المعتدى عليه والمسلوبة أرضه، عشرات ألوف الشهداء، وعشرات المذابح الجماعية من قبية ونحالين ودير ياسين إلى صبرا وشاتيلا وتدمير قرى الجنوب في حرب الأيام السبعة قبل أشهر، إليكم تكسير العظام، وتهديم البيوت على ساكنيها بمدافع الدبابات وقتل عشرات الأطفال وتشريد الملايين خارج أراضيهم، وممارسة الحقد الذي تدلى قنابل فوق العواصم العربية، لا سيما بيروت، إليكم وقاحة بن غوريون ومائير ودايان وشامير ورابين وبيريس وايتان وشارون.. والقائمة تمتد طويلاً.. وما فعله أولئك وما انتزعوه من أرض وعيون وقلوب.. هي من الأعز الأعز على أمَّة العرب.‏
                    - وإليكم حادثة تافهة ولكنها ذات معنى يتصل بالكرامة وحق الإنسان الذي يتشدق الغرب بالحرص عليه(؟! ؟) كما يتصل بالطبيعة العنصرية لليهودي الجبان الذي تنكشف طبيعته تماماً في مثل هذا الموقف الذي أسوقه إليكم.‏
                    في معسكر أنصار/3/ أضرب الموقوفون جراء المعاملة السيئة للغاية التي يعاملهم بها سجانوهم، ووصل حال أولئك حد البؤس التام، الأمر الذي دفعهم إلى الإضراب، فمر عليهم وهم في تجمعهم مسؤول المعسكر، صهيوني قح، وسألهم من وراء الشريط وهم في داخله سجناء عزل تماماً، سألهم باحتقار: هل تظنون أنفسكم رجالاً؟! أروني من الرجل منكم؟!.‏
                    وكرر السؤال مرات.. وهنا ارتفع الدم إلى رأس أحدهم فوقف أمامه- عن بعد طبعاً وراء الشباك- وقال: أنا رجل وهنا تناول قائد المعسكر رشاشاً من أحد الجنود الذين يحرسونه وأطلق عليه عدة رصاصات حتى استشهد. ولكم أن تتصوروا الذعر والذل الذي أعقب ذلك.‏
                    في المهجع المجاور ضج الموقوفون فانتقل إلى هناك، وكرر الأسئلة الاستفزازية ذاتها، وتكرر الموقف ذاته من سجين عربي آخر يعرف تماماً ما جرى، وأطلق الصهيوني عليه النار بالطريقة ذاتها، ثم تكرر الفعل...‏
                    هذه هي الطبيعة العنصرية التي يدعو المثقفون"المصنعون" إلى تطبيع العلاقات معها، وإلى زرعها في وجدان الناس عندنا، فهل ترى يقبل الناس عندنا هذا النوع من الناس؟! وهل تراهم ينسون ما عانوه وما امتلأت القلوب منه؟! إنه سؤال يلقى على المثقفين المترحلين من صنعاء إلى غرناطة يحملون التطبيع وينمونه.‏
                    وعلى فرض أن الصهيوني تعلم من دروس الماضي وأراد أن يغير طبيعته -وهذا غير ممكن- فهل هناك منطق يبرر أن نقبل إعطاء وطننا"للطيبين" ونعيش مشردين في أرجاء الأرض؟!.‏
                    ومن ذا الذي يقبل ذلك، ومن ذا الذي يفرضه علينا؟!.‏
                    إن القضية أيها السادة ليست بين شعبين مستقرين، وبلدين جارين اختلفا على أرض أو على مصالح فتقاتلا ولا يمكن أن يستمر قتالهما إلى أبد الآبدين.. ومن ثمة لابد من الصلح؟! أن القضية تتصل باغتصاب أرض، وسرقة وطن، وتشريد شعب، وبمشروع يراد له أن يذل أمة ويحطم قوامها وقيمها ووجودها كله، وهو يسير حسب مراحل مراعاة للمعطيات والظروف. فكيف يراد لنا أن نضع الفأر في"عُبِّنا" وننام؟!.‏
                    وكيف يراد لنا أن نهدي بيتنا لمن يسرقه ونروح نرجوه أن يصالحنا ويعيش معنا على ألا يكرر السرقة؟!.‏
                    وكيف يراد لنا أن ننسى آلامنا وشهداءنا وأوطاننا وبيوتنا المسروقة، أو المهدومة، ونلبس أثواب"المتحضرين" الذين ينفقون كل يوم حفنة من الدولارات في"الشانزليزيه" تأتيهم من"غامض علمه" ولا يكترثون بمن يفترسه البرد وشوك الأرض ويعيش حالة التشرد والنفي، أو بمن يلوذ بظله من الذل، وقد فقد ظله بعد أن عرته اتفاقات الذل؟!؟‏
                    إن على الرائحين بين أحلامهم وأوهامهم من صنعاء التي لفظتهم إلى غرناطة التي أغرتهم، أن يعرفوا جيداً أن دور الثقافة النظيفة المنقذة هو غير هذا الدور، وهي مع السلام الدائم وهو سلام يقوم على العدل واسترداد الحق، وأمان القلوب باطمئنانها إلى خلو الديار من الذئاب والحقد والخوف والتآمر، ليتسنى لها أن تنام ملء جفونها، وتشبع قلوبها قبل عيونها من النوم. فهلا أدركوا ذلك فاستراحوا وأراحوا؟! أم تراهم شقاؤهم والشقاء بهم مهنة ومحنة؟!‏
                    إن الله وحده يعلم وينصر ويحق الحق ويكشف الصدق.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع392//16/ك1/1993‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #55
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      هل الثقافة فعل مقاوم؟؟ وكيف تكون كذلك؟!
                      الثقافة في أحد وجوهها فعل اعتراض، وحركة تحريض. اعتراض على القائم أو المستقر أو المطروح، من واقع ورأي وفكر وعلاقات ليست سوية أو مريحة للناس ولا تحقق الأهداف على النحو الأفضل، وتحريض على طرح السؤال والقيام بالعمل من أجل تغيير ما يُفترض أن يغير بالقول والعمل.‏
                      وسواء أنَظَرنا إلى حركة التغيير تلك على أنها دخول متجدد في تيار التغير النابع من تيار الحياة والمستند إليه، أو نظرنا إليها كعامل تولده الثقافة وتطرحه، فإن النتيجة تبقى في صالح حركة الحياة المتجددة والمستمرة.‏
                      " كيف تكون الثقافة فعل تغيير وفعل مقاومة؟!‏
                      الثقافة تصنع الوعي- وتسهم في تكوين مقومات الاعتراض.والمثاقفة أصلاً نوع من منافرة منطقية، وعلاقة يحكمها الجدل وتقيمها حالة الاعتداد بالنفس والاعتراضية المتبادلتين .‏
                      ? الثقافة نور يضيء أمام الإنسان سبل الحياة، ويجعله يرى، ماله وما عليه من حقوق وواجبات، على مصباح الفعل وبوعي تام. ولأن الثقافة نور فإنه تصح الرؤية في مناخها وتدق، ويثبت الوعي حق الآخر ووجوده في مقابلة الأنا وماله وما عليه، كذلك يضاء ما للسلطة عليه وما عليه للسلطة من حق وواجب.‏
                      ? الثقافة دعوة متجددة للمعرفة، والمعرفة تقيم أسس الوعي، وبالوعي يتجدد، أفق الحرية، والثقافة على هذا فعل تثويري متعلق بالحرية ومبني عليها؛ فالثقافة هي" حصيلة التفاعل بين الإنسان والبيئة " كما يقول جون ديوي. ولكن هذا المعنى يبقى منقوصاً إذا لم ينطو على توظيف للوعي واستثمار للخبرة في تيار الصيرورة، الذي يحمل الإنسان والبيئة معاً، ويحمل البيئة على جهد الإنسان ليعيد صوغها انطلاقاً من كشف قوانينها والتعامل العلمي مع معطياتها.‏
                      وإذا كانت الثقافة بهذا المعنى تكتنز قدرة خلاقة، أو تملك القدرة على تحويل الطاقة والقدرة إلى إنجازات وأفعال يتجلى فيها الإبداع والقصدية، فإنها بهذا المعنى أيضاً تنطوي على إمكانية لمجاوزة الحتميات وعلى منهجية " قولبة" - على قوة لجم وضبط وربط - تواجه الطبيعة العشوائية، بشرية وغير بشرية، والرغبة الجامحة، والانفعالات ذات القوة العمياء.. إلخ لضبطها في قوانين وقواعد، وإخضاعها لمعايير ومقاييس وقيم، وإعادة صرف الطاقة ـ بعد تكثيفها واختزالها- في أمور أخرى، بسيطرة العقل وقوانين العلم. وأحياناً توضع هذه القدرات والطاقات- لدى الفرد والجماعة والأمة، الوطن والمواطن- في خدمة أهداف وغايات تتصل بالوجود ومقوماته المادية والمعنوية، وبالحفاظ على النوع في حالة صحة وازدهار، وبالحفاظ على ما ترى أنه الأفضل في الحياة وللحياة، ويحقق السعادة .‏
                      وربما صح قول إليوت بأن الثقافة " دين جديد من حيث دورها في تحسين الحياة " ولكن الدين أصلاً هو من أهم العوامل والمقومات التي تكوِّن الشخصية الثقافية لأمة من الأمم؛ ومن ثم فالثقافة تقيم صلب " أو هيكل " الهوية، وتركز جوهرها وتحافظ عليه .‏
                      وإذا عدنا قليلاً إلى النظر للفعل" الثقافي من زاوية إمكان التحقق وضرورته اشتماله بالضرورة على حدين لضمان التحقق وهما: القوة والوعي القصدي، أو الغاية المختارة بالوعي المعرفي.) فإننا نجد أنفسنا نقف على فعل بشري عام في صورة مثالية علمية، أو علم مجرد؛ وهذه الحالة لا توجد إلا لدى أفراد قلة في المجتمعات. ولذلك فإنه من الضروري البحث عن الفعل في حالة الانتماء الواعي والهادف، أي الفعل النابع عن فرد أو أفراد بتكليف من جماعة أو سلطة تمثل الجماعة، أو ذلك النابع من مجموعة ضمن برنامج أو خطة تحقيقاً لهدف عام. ومثل تلك البرامج والخطط تأتي في برامج سلطة تمثل وطناً فيه أمم، أو سُلَط لأوطان تمثل أمة، ويكون الهدف من القيام بها تحقيقاً لأغراض خدمية أو دفاعية أو للاثنين معاً.‏
                      وهذا معناه أن الفعل الذي يقوم على الوعي ويبرمج الوعيُ لا نجازه، ويوفر من أجل ذلك القوة والمقومات والإمكانات، هو فعل متصل بالهوية (1) ونابع منها، محافظ عليها ومطور لها في حدود التأصل والتأصيل، وهو أيضاً فعل مدافع عن تلك الهوية في أثناء التفاعل والتواصل مع الآخر. إنه فعل خاص في حالة الحيوية أو الإبداع في الحياة.‏
                      والهوية سواء أكانت لشخص أو لفئة أو لأمة فإنها لا تقوم إلا بالوعي لعواملها ومقوماتها وملامحها، وهي على هذا الأساس معطى ثقافي بمجمله في تواصل الوجدان والعقل، تصنع أسسها في بوتقتين متكاملتين: في مناخ المعرفة والخبرة والطبيعة بشرية وغير بشرية)، والعقل واستعماله للمعطى المعرفي- عن الذات والآخر، وبالآخر تعرف الذات وأحياناً يعرف الآخر من الذات - في إطار يحكمه إلى حد بعيد التاريخ والجغرافية في مدار الانتماء لأمة وأرض وبيئة، وبما لا يلغي حقيقة التواصل والتفاعل، لا سيما على الصعيد البشري- الإنساني- المعرفي بين:‏
                      * الوجدان- وأكاد أقول القلب- في مناخ الخصوصية الفردية والجمعية ضمن حالة الانتماء لأمة في خصوصيتها وتجلي شخصيتها الثقافية، ولا سيما الجانب الروحي والقيمي والخلقي والاجتماعي من تلك الخصوصية، في إطار التواصل والتفاعل مع الأمم والشعوب وثقافاتها من جهة، ومع الطبيعة والذات في تيار التجربة الحياتية المحمول أصلاً في تيار الصيرورة والتطور البشري، على امتداد الزمن في حالة الحياة.‏
                      وعلى هذا فإن الثقافة التي هي بمعنى من المعاني" عمل يبذله الإنسان لغاية تطويرية " كما يقول توماس هوبز، والتي هي" دم وجود الشعب" كما يقول هردر تغدو في حالة الفعل وعلى جناحه حامل ومحمول في حالة تماهٍ تام، وفاعل ومنفعل في جدلية حالات: المد والجزر، الامتلاء الخام والتمثُّل، أو الرفض و النبذ، الأخذ والعطاء، الحذر والثقة، الكر والفر، الغزو والاستعمار.‏
                      ولما كانت أحوال الأمم تتبع معارفها، كما يتبع المعلول العلة،" كما يقول محمد عبده/ والثقافة تقوم بعملية" الارتقاء نحو الكمال الإنساني وتتم بتمثيل أفضل الأفكار التي عرفها العالم، وبتطوير الخصائص الإنسانية المميزة." كما يقول ماثيو أرنولد، لمَّا كانت الثقافة كذلك، فهي عامل ارتقاء ودافع للارتقاء في حالة التفاعل، من جهة، وهي عامل دفاع ومقوم للوعي بضروراته وأدواته من جهة أخرى؛ ولذلك تغدو فعل تقدم وارتقاء وتصبح مقوماً رئيساً للفعل في حالتي: التقدم والارتقاء والتواصل البناء مع الآخر وبه/ معرفياً على الخصوص./‏
                      * الدفاع والمقاومة عن الهوية والخصوصية / في حدود التاريخ والجغرافية/ إبان التواصل الطوعي مع الآخر أو المفروض ضده .‏
                      إذن فالثقافة التي هي وعاء الهوية والمقوم الرئيس من مقومات الشخصية / الفردية والجمعية والقومية/ هي موجِّه الفعل الذي تكمن فيه القوة ولا يتحقق إلا بها، ومن ثمة فهي محرك الإرادة بالوعي لحشد القوة والطاقة والإمكانية ولإنجاز عمل مقاوم على أساس فهم للمقاومة في منحيين :‏
                      1 ـ مقاومة أشكال التخلف والمحو والغزو وإلغاء الوجود الحي للذات فرداً أو أمة) في الوجود، ولذلك سبله ومجالاته ووسائله. أي مقاومة في الإطار المعنوي من أجل البقاء والسلامة والتقدم والارتقاء، والمحافظة على وجود نوعي فعال في الوجود المتصل للحياة والناس على أرض البشر.‏
                      2 ـ ومقاومة أشكال التصفية والإذابة والإلغاء والاقتلاع والإبادة، لوجود تاريخي حي يواصل حياته في حدود مفهوم للجغرافية: أرض تكونت عليها خصوصية بيئة صنعتها أمة عبر التاريخ. أو لوجود أمة بفاعلية وجود ثقافي وتاريخي وبشري على أرضٍ حمل التكوين البشري طعمها ومؤثراتها، ولا سيما حين تحمل معنى الوطن الذي تشكل الجغرافية حدوده الطبيعية والسياسية.‏
                      فهل ثقافتنا العربية تؤسس لفعل مقاوم، أو بالأحرى تؤسس لفعل عربي مقاوم بالمعنى الدقيق للكلمة، تضييقاً لحدود البحث ؟!؟ وهل تسند ذلك الفعل ويستند إليها، فتكون قوته وعلة حدوثه ويكمن فيها من جهة، ويذكي جذوتها بالتحقق من جهة أخرى ؟!‏
                      هل هي ثقافة مقاومة / بكسر الواو/ وهل هناك ثقافة مقاومة / بفتح الواو/ في الإنتاج الثقافي العربي ؟!‏
                      إنني معني بتلمس إجابة في مجال السؤال الأول: هل ثقافتنا العربية فعل مقاوم؟! في حدود ما سبق وبينت؟!‏
                      إن نظرة عجلى نلقيها على الإنتاج الثقافي الذي تزخر به حياتنا سواء أدته الكلمة أم وسائل التعبير الأخرى، تجعلنا نقف على حقيقة أن الثقافة العربية تقوم بدور فعال في مجالات نشر الوعي وتقديم المعرفة واستقراء التاريخ وتحليل المعطيات الحياتية على اتساع شمول مجالات الحياة والتفاعل معها؛ وهي بذلك تخلق مناخاً جديداً وتدفع بالتنوير إلى التحريض على التغيير وإلى الثورة وصولاً إلى تحقيق أهداف قطرية أو قومية أو إنسانية، مرحلية أو استراتيجية؛ وتملي أحياناً اختيار المقاومة- الإيجابية والسلبية- من أجل تحقيق أهداف التغيير والتحرير والتقدم. وهي إذ تفعل فعلها ابتداء من الذات وانتهاء بالحس الجمعي وتكوين الإرادة العامة للأكثرية الفاعلة في المجتمع، فإنها لا تتوقف عن التجدد بتجدد المعطى الحياتي العام الذي يحملها في تياره ضمن مناخ تفاعل مع الآخر.‏
                      وهي تخوض حوارها مع كل ما يُطرح عليها، سواء أكان ذلك الحوار ساخناً أم بارداً، وسواء أكان علنياً أو مستتراً، فإنه موجود ويطرح قضاياه باستمرار، ولكنه لا يسفر بالضرورة عن تقدم حسب مسار وأحد ينفذ في فراغه نفوذ السهم إلى الهدف، وإلا لكنا وصلنا بطاقتنا البشرية والمادية والروحية إلى أقصى درجات الانعتاق من كل القيود. والإبداع من الأساليب والوسائل المجدية لإقامة مجتمع الحرية والعدالة والوحدة والحضارة المتقدمة، وهو يفعل فعله في هذا الاتجاه منذ زمن. فالمسار الثقافي العربي ممتلئ بالقوى المتضادة وبالانحرافات والانعطافات والجيوب المضللة، وبالمقومات التي تخفض محصلة القوة على مسار الفعل المقاوم وتكاد تلغيها من خلال وجود : جهد " فكري " تصادمي يؤدي إلى تشتت الطاقة الجمعية.‏
                      فهناك شبه إجماع شعبي، وشعار ثقافي وسياسي عام، حول مقولات: التضامن ـ الوحدة- التحرير- التقدم الاجتماعي- الرقي الحضاري.‏
                      ولكن السبل إلى تحقيق ذلك تختلف، والتيارات تتصادم بوضوح فتجعل الفعل الثقافي العربي يقف في مواجهة الفعل العربي، على ساحة العمل العربي ذاتها؛ ولا يتوجه الجهد نحو العدو، أو نحو النهوض، أو نحو خدمة الهدف العام؛ الأمر الذي ينعكس سلباً على فعل المقاومة ومردوده وعلى الصراع العربي الصهيوني إجمالاً، وعلى مجالات العمل التي نستشعر فيها التقدم .‏
                      ولكي أوضح ذلك أتوقف عند توجهات حديثة ومعاصرة في التاريخ العربي ومواكبته للصراع العربي الصهيوني.‏
                      فهناك التيار القومي الذي يقوم على أرضية فكرية ويقدم إنتاجاً ثقافياً ويوظف المعرفة ويكون الوعي والأجيال على أساس رؤية للحلول العامة في ضوء المشروع القومي الذي يحدد أهدافاً رئيسة في شعاراته، ويرتب حلقاتها على نحو مختلف بين فريق وفريق ولكنه لا يخرج عن تلك الحلقات التي يلخصها شعار: وحدة حرية اشتراكية. اشتراكية حرية وحدة... إلخ...‏
                      وفي توجهه العام يأخذ منحى اليسار مع تفاوت في الدرجة، دون أن يلغي أهمية القومية والتاريخي والقيمي الروحي والديني من أبجديته السياسية والفكرية والاجتماعية.‏
                      ولكنه لا يتفق، حتى ضمن اتجاهه مع الفئات والأحزاب التي تشكله على موقف موحد من التاريخ ومن التراث الفكر الديني، والعقيدة، ومن مواقف وقضايا أخرى، فضلاً عن اختلافه مع الاتجاهات والتيارات الأخرى.‏
                      وهناك اليسار بفئاته وتياراته وأحزابه وما بينها من خلافات استراتيجية وتكتيكية، ونظرته إلى القومية والوحدة، لكيفية حل الصراع العربي الصهيونية، ومواقفه من التراث والدين والقومية العربية والنظرة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ولأولية الصراع الذي يخوضه المجتمع: هل هو الصراع الطبقي الذي يبدأ بانتصاره وعلى أساسه خوض الصراع مع الاحتلال، أم الوصول إلى تصفية هذا الأمر وسواه من خلال خوض صراع التحرير الذي سيحسم مواقف ويصفي وجود مواقع.‏
                      وهناك التيار الديني- الإسلامي الذي يضيق ويتسع من التعصب إلى التسامح، والذي يكوِّن موقفاً من التيار القومي ومن اليسار. وينطلق من رؤية خاصة لكيفية حسم الصراع العربي الصهيوني، ويخوض نضاله من أجل التقدم الاجتماعي والحرية والتحرير اعتماداً على منطلقات مغايرة لتلك التي يعتمدها القوميون واليساريون بفصائلهم.‏
                      وهناك التوجه الذي يعتمد السياسة القطرية لتأكيد الوجود والهوية والوطنية، ويبني على ذلك وانطلاقاً من ذلك سياسة ثقافية واستراتيجية خاصة ومرحليات وبرامج.‏
                      وهناك التوجه الذي لا يرى خلاصاً للجزء إلا في إطار الكل، وان أي شكل من أشكال تحقيق التقدم والتحرر والتحرير لا يمكن أن يتم إلا في إطار العمل العربي العام؛ وان جهد التحرير وحسم الصراع العربي الصهيوني- سلماً أو حرباً- لن يقدَّر له أن يتم بنجاح إلا عبر منظور عربي عام، وانطلاقاً من نظرة ونظرية التعامل الاقتصادي والاجتماعي والعسكري والسياسي للوطن العربي كله.‏
                      إن هذه التيارات والتوجهات ذات الأرضية الفكرية والأدبيات السياسية، والمعطى الثقافي / مسيَّس وغير مسيَّس/ وصاحبة الجهد التنظيمي والإعلامي والعسكري في الوطن العربي، يتصادم فعلها جراء تصادم فكرها ومنطلقاتها النظرية ومقومات أيديولوجيتها، وينعكس ذلك في الأدب والفن خاصة وفي الجهد الثقافي عامة، ذاك الذي يؤثر بفعالية في إطار اجتماعي معين، ليخلق مقاومة أو فعلاً بناء أو مقاوماً باتجاه معين، يتلاءم مع منظوره ومشروعه ومنطلقاته الفكرية؛ وتتعاكس هذه الرؤى والمشاريع والمنطلقات أو تتصادم أو تتضاد في ماهيَّاتها وفي ما ينتج عن تفاعل تلك الماهيَّات في الحياة ومع الآخر في معطياه الثقافي، ومن ثمة ينشأ لدينا " أفعال مقاومة" تعبر عن توجهات ثقافية متصادمة أو غير متفاهمة، تتصارع في الكيان العام للثقافة العربية فتكاد تلغي فاعليته وجدواه في ظهور وصوغ تيار ثقافي منسجم قلباً وقالباً، يصب جهده في برنامج حسب أولويات متفق عليها بغية تحقيق أهداف واضحة ومحددة.‏
                      وحين نسأل عن الثقافة العربية المقاومة، ينصرف السؤال ومفهومه، من وجهة نظرنا في هذه المنطقة من الوطن العربي، وفي عرف معظم التيارات في سورية ولبنان وبعض فلسطين وتوجهاتها، ينصرف إلى مقاومة العدو الصهيوني والمخططات الداعمة له والمحققة لأهداف أو لأغراض مرتبطة بهيمنته على المنطقة، ويكون فعل المقاومة موجهاً ضد العدو بدعم وتأييد مشرقين ومستمرين لهذا الفعل هما: الانتفاضة الفلسطينية المباركة في الأرض المحتلة-والمقاومة الوطنية اللبنانية للعدو الصهيونية في جنوب لبنان وانطلاقاً منه.‏
                      وإذا توقفنا قليلاً عند حقيقة هذا الفعل المقاوم والدور القومي فيه، والقوة الثقافية العربية المحركة له والمؤثرة فيه والمحققة لوجوده، فإنه يمكننا بوضوح أن نسجل النقاط الآتية :‏
                      أن الجماهير العربية التي تعيش حالة الفرجة على هذا الذي يجري، تؤيده وتتفاعل معه بتواتر يتباطأ في حالة ميل إلى التبلُّد، لعدم زجها فيه في مشاركة حية مباشرة، ولو بالتظاهر المؤيد. ولهذا خلفياته السياسية والفكرية التي تختلف من بلد إلى بلد ولكن النتيجة واحدة وان تغير الأسلوب والحجة والسبب .‏
                      أن الصراعات الثانوية والتي غطت الساحة ووجهت الأنظار إليها محتلة مكانة الصراع الرئيس مع العدو، عوَّقت فعل المقاومة لبنانياً وفلسطينياً) وأثرت عليه تأثيراً سلبياً. وقد تم ذلك ويتم تحت أغطية فكرية وأيديولوجية وثقافية، وتأكيداً لوجهات نظر تنطلق من أرضية ثقافية - سياسية عامة.‏
                      ويمكن الإشارة هنا إلى :‏
                      الصراع اللبناني - اللبناني وتأثيره على المقاومة في الجنوب وهو صراع يتصل بمقومات ثقافية، وتذكيه معطيات ثقافية أيضاً، وهو صراع في بعض تجلياته طائفي- سياسي ـ عقائدي..)‏
                      ويمكن التذكير ببعض محاور الصدام المؤثرة سلبياً على قضية التحرير وعلى فعل المقاومة ككل وعلى الثقافة بوصفها فعلاً مقاوماً.‏
                      * محور ثقافي- ديني- عنصري- استعماري تتشابك خيوطه بين الفئات المرتبطة بفرنسا" ثقافياً- عقائدياً" وبـ " إسرائيل " النمط العنصري- المعادي للعرب. وهو نمط يطرح معاداته للشخصية الثقافية العربية / اللغة - والدين- والصفات والملامح والسمات العامة للمجتمع والأمة./ ويخوض صراعه ضد الانتماء العربي، وضد الذين يمثلون الشخصية الثقافية العربية، ويتعاون مع العدو في فعل مقاوم مضاد.‏
                      * محور ثقافي- ديني-) يخوض صراعاً داخلياً مع ذاته ومع الأخر‏
                      أمل - حزب الله.)‏
                      * محور ثقافي- أيديولوجي..) يخوض صراعات على أسس مغايرة مع التيار الحليف له.‏
                      وكل هذه التشابكات تضعف قوة الفعل المقاوم الموجه للعدو ويأتي ذلك نتيجة لتصادم القوة الثقافية داخلياً .‏

                      . الصراع اللبناني- الفلسطيني- السوري‏
                      وما يقدمه من هدايا مرة للانتفاضة والمقاومة، وما يفرضه على الساحة العربية المقاومة من تشتت وخور عزيمة وتصادم طاقات وضياع فرصي .‏
                      وكل ذلك نتيجة خلاف سياسي- ثقافي في إطار‏
                      القومي والقطري-والقرار المستقل).‏

                      . الصراع الفلسطيني- الفلسطيني‏
                      وهو صراع يقوم أيضاً على أرضية فكرية ورؤية سياسية ونظرة تاريخية لأهداف الصراع العربي الصهيوني ومراميه ووسائل، حسمه مستنداً إلى معنى الحق الوطني الفلسطيني وحدوده وآفاقه، في إطار منظور قومي للصراع- أو منظور قطري للحل القرار المستقل- الاعتراف بإسرائيل-) والصراع السياسي بين الفصائل ذات المشارب المختلفة حزبياً وعقائدياً اليسار يسار ويمين ووسط )- التيار الإسلامي تفرعات واتجاهات) - التنظيمات القومية اتجاهات ورؤى _ إلخ...)‏
                      . اقتحام الخلافات العربية السياسية - والأيديولوجية والفكرية) لمساحة هذه الشريحة وإذكاء روح الخلاف والنزاع لتحقيق وجود في مجال القضية الفلسطينية، والتعبير عن وجهة نظر، وتغليب تيار على تيار، إما تحقيقاً لاقتناع أو تنفيذاً لمخططات وارتباطات، الأمر الذي انعكس سلبياً على فعل المقاومة .‏

                      الأسبوع الأدبي/ع393//23/ك1/1993‏

                      (1) الهوية هي الوجود المحض الصريح المستوعب لكل كمال وجودي شعوري." أبو البقاء الرندي / الكليات عن الموسوعة الفلسفية العربية ص822‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #56
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        أميركا.. هل تنهار؟!.
                        قرأت كتاب هاري فيجي وجيرالد سوانسون المعنون بـ (الانهيار القادم لأميركا) وهما يتنبآن بالإفلاس التام والشامل/اقتصادياً/ عام 1995 ويقدمان أرقاماً مذهلة عن حالة العجز التي تعاني منها الموازنة الأميركية حيث سجل عام 1992 وحده عجزاً وصل مبلغ/400/ مليار دولار ليجعل مجموع الديون المترتبة على الولايات المتحدة تصل إلى ما يقرب من/4000/ أربعة آلاف مليار دولار ثلاثة أرباعها تحققت في السنوات العشر الأخيرة.‏
                        ويتوقع الباحثان أن يصل العجز في نهاية عام 1993 إلى/640/ مليار دولار حيث تصل نسبة ما يدفع من إجمالي الضرائب التي تجبيها الإدارة لتسديد فوائد الديون إلى 92% عام ويقضي التضخم على نفوذ أميركا ويجعلها تتخلى عن موقعها العالمي وتركع طالبة الطعام.‏
                        وحين فرغت من قراءة الكتاب سألت نفسي: هل تصل الولايات المتحدة حقاً -إذا لم يتدارك الأميركيون أنفسهم بتدارك اقتصادهم- إلى وضع يصبح فيه الدولار حيال المارك نهاية عام 1995 كوضع الروبل أمام الدولار في بداية عام 1994؟! وهل يتلاشى الظل الكريه لهذا المسخ الذي يجثم على العالم؟! وهل يتخلى الأميركي عن عنجهيته وصلفه ويمتنع عن التدخل البغيض في شؤون الآخرين!! لأنه سيشعر بوطأة الدَّين والحاجة، أم أنه سيرد على ذلك الوضع بمزيد من الابتزاز والاستغلال للآخرين في كل أنحاء العالم ليجعلهم يدفعون، بقوة السلاح، ما ينقذه من ورطته وديونه؟!.‏
                        إذا صح ما ذهب إليه الباحثان فإن السياسي الأميركي المغامر، أو المقامر لا فرق، لن يستسلم للإحباط، وسيحاول أن يصدر مشاكله بكل الوسائل، وسيدفع الآخرين إلى تحمل أخطائه وحل أزماته، وسيجبرهم على توزيع الحمل الذي ينوء به كاهله؛ ذلك لأنه سيبقى مالكاً للقوة، وسيبقى سيد الابتزاز ولن تردعه الأخلاق والمبادئ، فهي ليست موجودة في السياسة، كما حاول أن يثبت من خلال البراغماتية التي جعلته يرى من الآخر المنفعة، والصيد، ونقاط الضعف، فيزيده من ذلك أضعافاً على ما قد يكون فيه أو لديه.‏
                        وعلينا أن نتذكر جيداً ما يذكرنا به جون كيونسي آدامز/الأميركي القح:‏
                        (نذكّر أن الديمقراطية لن تستمر إلى الأبد، فهي تستهلك وتقتل نفسها. ولم يحدث أن شذت ديمقراطية واحدة عن هذه القاعدة، ولا جدوى من إعادة تذكيرنا بان الديمقراطية أقل طموحاً وأنانية وبخلاً من الملكية والأرستقراطية. ولكن هذا ليس حقيقة، حيث تكمن جميع العواطف السابقة في قلوب كل الرجال والحكومات، وفي لحظة من الغفلة تستفيق القوة والعنف والخيانة من سباتها.)‏
                        ونحن نلمس هذا في كل يوم ولكن ملمسه يبقى ناعماً ومغلفاً بحرير النفاق والمداجاة ويظل ملفَّعاً بالرغبة والرهبة بنظر الضعفاء والخائفين، الذين يرجون قرب الأقوى وينتظرون تفهمه أو عطفه، لا فرق. ولكن حين يكتشفون أن فقره سوف يجعله يشهر سيفه عليهم ويطالبون بتقديم كل ما لديهم فإنهم سوف يستشعرون الرعب والاحتقار فقط، وسيلوذون بالفرار تاركين كل ما لديهم لحامل السيف المسلول والقلب المعلول والوجه الذي يقطر صدءاً ونذالة وحقداً.‏
                        إن المنطق يقتضي تفكيراً آخر، والمبادئ الإنسانية، والقوانين الدولية، وشرعة حقوق الإنسان، وأصول التعامل بين الشعوب والدول والجماعات والثقافات كل ذلك يقتضي منطلقاً آخر، ومن ثمة توقعات أخرى في حال وصول(السيد) الأميركي إلى وضع (العبد الفقير).‏
                        ولكن التاريخ يعلمنا أنه لا يردع القوة إلا القوة، ولا يوقف المتهورين إلا توازن الرعب.‏
                        وفي عالم اليوم من عام 1994 إلى عام ألفين (زمن الكارثة المنتظرة) لن يكون هناك توازن قوة يسمح للآخرين بأن يضعوا حداً لتهور المتهورين، أو يجعلهم يتمتعون بقوة ردع من نوع ما/خُلُقي أو مادي/ يضع للمقامرين والمغامرين حداً، أو يضمن عدم لجوئهم لأساليب النهب العلني/المباشر أو غير المباشر/ لثورات الآخرين وأموالهم وأرزاقهم، لا سيما حين تضغط عليهم قوى الضغط الداخلي في بلدانهم، التي نصبتهم رؤساء، وتتحكم بإسقاطهم، لكي يلبوا لها طلباتها؛ وهي عادة لا تدقق في الوسائل وإنما تنتظر النتائج والغايات.‏
                        ربما مالأ الغني قوياً، وربما يتحالف الاثنان معاً، ولكن الضحية دوماً هو الفقير قبل سواه. ولذلك فإن ما ينتظرنا نحن سكان العالم الثالث هو الشر من جراء ما ينتظر أميركا من الفقر.. نعم الفقر.. الفقر.. ولا يستغربن أحد ذلك، وحين يحل ذلك الضيف الثقيل، ستلجأ الدولة الأعظم، إلى الاستدانة -وقد لا تجد من يعطيها، أو إلى النهب.‏
                        ولن تستطيع الولايات المتحدة أن تنهب أوربا التي توحدت وازدادت قوة منذ مطلع هذا العام 1994، ولن تستطيع قطع يد الدائن الياباني أو الألماني أو حتى السعودي.... لأنها قد تحتاج إليه أو قد يطلب ودها وتعاونها في حال شهرت سيف الجائع المقامر، وهو سيف نووي فتاك. ولكنها ستبطش بآخرين، فتثير فتناً، وتشن حروباً، وتهدد بما تسيطر عليه من النفط ومصادر الثروة في العالم البائس الذي تتحكم بشؤونه وتسبب شجونه، وقد تعمد إلى فرض"جزية" و"أتاوات" من نوع عصري على كل من تستطيع أن تصل يدها إليه في هذا العالم، فهي لن تستسلم ببساطة لحقيقة الانهيار الشامل لما كانته ولما تمثله، ولن تقع- كما وقع الاتحاد السوفيتي- بين يدي خصم أقوى.‏
                        وهي في أحسن الأحوال، ستجعل الآخرين المودِعين والمستثمرين والمرتبطين باقتصادها بشكل أو بآخر، وأولئك الذين غدا الدولار بالنسبة لهم هو الرصيد الذي يحمي ظهورهم ويقيم لعملاتهم قواماً؛ ستجعل كل أولئك يساهمون في دفع ديون"السيد" المهيض الجناح، لأن التداخل بين اقتصاد الولايات المتحدة واقتصاد العالم غداً كثيفاً وعميقاً، ولأن الشركات المتعددة الجنسيات، والانتشار الاقتصادي، والاستثمارات المتداخلة كل ذلك يجعل الكثيرين يحملون عبئاً في حالة انهيار اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثمة يعملون جاهدين على ألا ينهار .‏
                        ولكن كل هذا الذي أشرت إليه لا يجعل القضية مجرد غيمة صيف، ولا يجعل أميركا الشمالية بعيدة عن شبح الكارثة، ولا يحصنها نهائياً من تفاعلات قد تكون مدمرة فعلاً.‏
                        ذلك أن الانهيارات الاقتصادية تترك تفاعلات وتنتشر في اتجاهات يصعب حصرها وتوقع آثارها ونتائجها، وتفتك أول ما تفتك بالتماسك الفعال لكيان الدولة والمجتمع، وتترك كل فرد يتلمس رأسه ويبحث عن مصلحته وعن قوت يومه، وقد يؤدي هذا إلى انفراط العقد الاجتماعي لا سيما ذاك الذي يحتاج إلى ضمانات مادية قوية تقوم منه مقام العصب من الجسم، ولا تنفع القوة العسكرية غالباً في مواجهة أزمة اقتصادية داخلية في مراحل تفاقمها النهائية، -والاتحاد السوفييتي المنهار خير دليل على ذلك وخير درس تستقى منه العظات- أن تلك القوة قد تستخدم قبل فوات الأوان في اقتناص فرص، وتحقيق مكاسب، وإيجاد مصادر دخل ومناطق إشغال بشري، ولكن ذلك إذا لم يتم قبل الانهيار بوقت كاف، وإذا لم ترصد له الإمكانات الكفيلة "باستثماره" وهي باهظة وتزيد الطين بلة في حالة الضائقات الاقتصادية، أقول إذا لم يكن ذلك كذلك فإنه لن يحقق أهدافه، ولن يمكن من القيام به، في بعض الظروف، وربما سرّع في عملية الانهيار ذاتها إذا لم يحقق أهدافه بنجاح تام وسرعة فائقة، ودون معوقات، وبضمانات تامة للتمويل الأولي الشامل.‏
                        ولا أطرح هذه الاحتياطات من باب سد منافذ الأمل الذي يراودني بانهيار قوة عسف كبيرة في هذا العصر، ولا أقوم بسد الذرائع أمام من يبشر بهذا الانهيار، فهو شيء أريده، وأتمناه وأراهن عليه، وهو بالنسبة لي ولأمتي، منقذ من وحش استثماري بشع تشكل الصهيونية -عدو الأمَّة العربية الأول- وجهه والقناع.‏
                        وإنما ذهبت فيما ذكرت إلى ضرورة توخي الحذر والعمل على ألا نكون ضحية، وأتمنى لو نساهم بوعي ومسؤولية وفعالية، بتقريب أيام ذلك الانهيار، فهلا سحب الواثقون بالدولار الأميركي ثقتهم المطلقة والعمياء به، وهلا اختار المستثمرون العرب لاستثماراتهم بلدانهم مثلاً، وهلا حرص أولئك على التنمية في الأرض التي تشكل البيت والمهد والوطن والقبر بالنسبة لهم، وفي المجتمع الذي فيه نبتوا وفيه سيعيش أبناؤهم وأحفادهم؟! والأقربون أولى بالمعروف؟! أن ذلك كله موضوع بتصرف الحريصين والقادرين والمتبصرين.‏
                        والله من وراء القصد.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع395//6/ك2/1994‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #57
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          نحو مواجهة استحقاقات قادمة
                          لقاء الرئيسين: الأسد وكلينتون في جنيف ـ 16 كانون الأول 1994 ـ يحتل حيزاً كبيراً من الاهتمام الدولي، ويسيطر على المهتمين بأوضاع المنطقة ومستقبلها، وعلى أولئك الذين يتحركون فيها، وينتظر منه العرب الكثير من المعطيات والمتغيرات، ويرى فيه بعضهم لقاء العرب مع أميركا في موقع ثالث يحمل معنى ودلالات ومغزى.‏
                          ولا أظن أننا نذهب بعيداً إذا قلنا إنه لقاء سوف يحسم موضوع الانسحاب " الإسرائيلي " من الجولان، والاعتراف السوري بإسرائيل، ويدفع المفاوضات والاتفاقات القائمة إلى نهايتها، لأنه سوف يجعل العرب الذين دخلوا مدريد يستعيدون صيغتها بشكل نسبي، وسيترك الباب مفتوحاً أمام المفاوضين من كل الأطراف المعنية ليصلوا إلى النتائج خلال مدة قصيرة، مع الحفاظ على قنوات التفاوض وجديته وارتفاع وتيرته.‏
                          ولا مبرر لأخذ كل ما يهرف به الإعلام " الإسرائيلي " بعين الاعتبار، فقد أخذت فتاوى الحاخامات تمهد للتراجع عن قرار ضم الجولان، وعن اعتباره من " أرض إسرائيل "، وبدأت الأوساط السياسية المعارضة لرابين وحزب العمل تضغط باتجاه إجراء انتخابات قبل الأوان في حال تقرر الانسحاب من الجولان، وأخذ رابين يراوغ ويصب خبثه باتجاه إظهار الاستعداد للانسحاب من الجولان مبدياً مرحليات وبعض الشروط، وهي للاستهلاك المحلي داخل الأرض المحتلة، وبرسم الإعلام في الأوساط اليهودية التي تقدم الضرائب والمساعدات والتبرعات وتلعب دوراً في " اللوبي " الضاغط لصالح "إسرائيل" في أميركا .‏
                          لقد أيقن الأميركيون قبل " الإسرائيليين "، وأيقن بيريس قبل رابين، أن الاتفاقات الثنائية لا تحل قضية بحجم القضية الفلسطينية، واتضح لهم بجلاء أن اتفاق غزة ـ أريحا ولد كسيحاً، وأنه سوف ينهار نهائياً إذا لم يُحرز تقدم فعلي على جبهات التفاوض الأخرى , لا سيما الجبهة السورية ـ اللبنانية، وأيقن كل لاعب من اللاعبين بأوراق التسوية، من عرب وأجانب، أنه لا يمكن تجاوز سورية وجعلها تقف على باب رابين تنتظر دورها في الاهتمام والتفاوض، بل وصل كل منهم إلى مرحلة الخوف والهلع جراء قدرتها على إسقاط ما بنوه سراً في أوسلو وواشنطن وأدرك الإسرائيليون جيداً أن تجاوز سورية كلياً وجعلها تلتحق بركب التفاوض والاتفاقات الثنائية، والمفاوضات السرية والحلول الجزئية، وتلك التي تنطوي على تفريط، من الأمور المستحيلة.‏
                          وكل هذا وسواه ينطوي تحت ستائر قمة " جنيف " ويتموج في أرجائها ليكون مناخها أو بعض مقومات ذلك المناخ، تلك القمة التي يلتقي فيها سيد " النظام العالمي الدولي الجديد " مع من تصنفهم دولته، تجنياً وغطرسةً وانحيازاً سياسياً فاقعاً للصهيونية مع " حماة الإرهاب " وتعلنهم " رعاته " وتتهرب من دعوتهم الصُّرَاح المتكررة لعقد مؤتمر دولي لمناقشة مفهوم الإرهاب وتحديد ذلك المفهوم. قمة جنيف ستعيد عربات قطار مدريد إلى مسارها، وبينها عربات فقدت بعض دواليبها، وبعضها يصدر صوتاً نشازاً في أثناء السير، وبعضها " يحرن " ويتعمد تعطيل القطار، ولكن يبدو أنه " لا بد من مدريد " وعلى من لا يريد أن يفعل ما يريد .‏
                          وهذا الذي يطرح نفسه بجدية في هذا العام الذي لا شك في أنه سيكون عام الحسم بنسبة كبيرة ومثيرة على الأقل. فعلى أيَّة أرضية سيكون الحسم يا ترى ؟! وهل مفهوم السلام هو تبادل رايات وسفارات ليس غير ؟! ! وما هو مدى الأمن المتحقق للجميع وما هي استحقاقاته ومقوماته في ظل ما تكتنزه الأرض من أسلحة، وما تكتنزه الصدور من عدا وات وأحقاد، وما تثيره الذاكرة من ذكريات مذابح واضطهاد وتشريد واحتلال وممارسات لم يسجل تاريخ الاحتلال والاستعمار والاضطهاد العنصري الأسود أسوأ منها وان كان قد سجل مثلها؟!! .‏
                          إذا ذهبنا إلى أقصى درجات الاعتدال، في ظل واقع القهر والضعف والإذلال، وأخذنا بالاعتبار فقدان الصديق، والقوة، وما يسند الظهر ويملأ اليد بفعل شافٍ؛ فإننا لا يمكن أن نقبل سلاماً تفوح منه رائحة السلاح النووي، ويبقى تهديداً مستمراً لوجودنا وحقوقنا وحدودنا ومصالحنا ما بقي العدو مكتنزاً بذلك النوع من السلاح، وما بقي القطب الوحيد في العالم المعاصر مصراً على حرماننا من امتلاك أي سلاح مجد في مواجهات متقدمة نوعاً، ولا يمكن أن نقبل فرض هيمنة مطلقة علينا بقوة السلاح من خلال حلف عتيد عهيد تقيمه "إسرائيل" مع " الوسيط النزيه " أميركا ؟!؟! على أرضية استراتيجية معلنة تقول: " بضمان أمن "إسرائيل" وتفوقها العسكري على العرب مجتمعين ـ بما في ذلك من يناصرهم ـ وضمان ازدهار شعبها ورفاهيته " لا يمكن أن نقبل ذلك أو نرتاح إليه لأننا نعرف جيداً أننا نحن الذين سندفع ثمن كل ذلك من أموالنا، ولن تدفعه أميركا من اقتصادها المنهار، إننا نحن العرب سندفع ذلك بأساليب مختلفة، وتحت ذرائع مختلفة أيضاً .‏
                          ولا يمكن أن نقبل بقاء أربعة ملايين فلسطيني مشردين عن ديارهم لا يتمتعون بحق في وطنهم، ويراد لهم أن يبقوا قيد التشريد وتفتيت الهوية الوطنية، وان يرين " ماء السلام " فوق رؤوسهم فيختنقون في " زفته " من دون ضجيج ومن دون اهتمام. ولا يمكن أن نقبل سلاماً يبقينا رهن الابتزاز والاستغلال، ويجعل منا تبعاً، بأشكال مختلفة، لعدو يقوم مشروعه على أساس الصهيونية ـ العنصرية وهي لن تلغي مشروعها الذي يريد أن يجمع يهود العالم في أرض العرب، ويحقق حلماً توراتياً ـ تلمودياً على أرض العرب، بإقامة دولة في وطنهم على حساب أرضهم ووجودهم وحضورهم بين الأمم وفي التاريخ الحديث. ولا يمكن أن نقبل هزيمة ملفقة مصنعة، يراد لنا أن نقبلها ولا نقبلها في أن، حتى نبقى قيد المحن النفسية والتخبط المهين .‏
                          فلو أننا في ظل الواقع ومعطياته ومتغيراته واستعدادات عربه الذين تضج من صمتهم جنبات الوطن، أقول لو أننا واجهنا أنفسنا بحقيقة أننا " هزمنا " وأن علينا أن نواجه تلك الحقيقة المرة المكشوفة، وأننا سلمنا للعدو بما سلمنا له به تحت عبء الهزيمة والقهر، لا بالاختيار والإرادة الحرة وشارات النصر، فإنه سيكون علينا عند ذلك أن نواجه أنفسنا بالحقيقة وان نعلنها بملء الفم العربي، وان نعمل تحت ضغطها لنعيد بناء أنفسنا وأوطاننا وقدراتنا لنستعيد حقاً ومكانة ونصراً، شأننا في ذلك شان أمم تعرضت لهزائم، وقامت من رمادها بأشكال عدة .‏
                          فألمانيا واليابان وسواهما من الأمثلة تجعل حقائق الحياة تنتصب متحدية واقع الإنسان فيعمل ويكافح ويصل إلى حالة التوازن الداخلي والخارجي بشكل من الأشكال، فقد ينتصر تقنياً وعلمياً واقتصادياً، وقد ينتصر بشموخ الروح والثقافة والعمل المستمر لبناء الذات والقدرات وفرض الهيبة والمكانة ومن ثمة الحق ..الخ..‏
                          ولكن أن نعطي للعدو وطناً في وطننا، ونبقيه متفوقاً ومهيمناً، ونحوله إلى صديق، ونتعاون معه على أنفسنا، ونعد أنفسنا لنكون زاده وزادته ومسوَّدة مشاريعه التوسعية، وأدواته المستقبلية ضد بعضنا بعضاً، فذلك ضياع وضلال وتيه ندخل بيداءه ولا نخرج منها ولا نسمح لأبنائنا بأن يروا التيه والضياع والضلال .‏
                          إننا ندرك جيداً حقائق الواقع، وهو يضغط علينا حتى ليكاد يسحق منا العظم،ويجبل الدم المهَراق بالدموع، ولكن لسنا الأمَّة الوحيدة بين الأمم التي تعرضت لمحنة قاسية، وأصيبت بنكسة حادة، ولسنا الاستثناء من بين أجيال الأمَّة التي لم تستطع أن تحقق نصراً بل " فازت " بخسران مبين في مواجهاتها أو بعض تلك المواجهات، لم تصب بها الأمم وأجيال الأمَّة، إذ نقيم عرساً لخيبتنا، ونصور انهزامنا نصراً، ونقدم لعدونا الذي سرق وطننا اعترافاً به إضاعة للوطن، وتسليماً بتفوقه الدائم وتقهقرنا المستمر ؟! وكل ذلك نضعه على أعيننا، في خُمار أو شبه خُمار مقيت، نشرب فيه لننسى، وننسى أنفسنا فيه فنشرب، ويبقينا ذلك نهباً لنوع من الرضا عن مرض اجتماعي ونفسي وثقافي علينا أن نواجهه لكي نرى جيداً حتى في الظلمة؛ فنميز بين الحالات والمواقع والأشياء، ونتبين المكانة والمصطلح فنسمي الأشياء والمواقع والمواقف بأسمائها، ليتاح لنا من بعد أن نبدأ النهوض من مستوى محدد، حتى لا تنخفس الأرض بنا وتضيع كل المستويات ومواقع الأقدام وتغيم الرؤى وتتداخل وتتهاوى.‏
                          إن الأنموذج الذي قدمته لنا منظمة التحرير على أرضية اتفاق غزة ـ أريحا أنموذج متهالك ومستهلك، يحيط نفسه بالرضا ولا نعرف عن شيء يرضى، ويتصنع الأمل ويصطنع النصر ولا نعرف في أي أرض يزرع الأهل ولا بماذا يصنّع النصر، لقد وصف لنا يائيل زنغر الذي صاغ الاتفاق " الإسرائيلي " ـ الفلسطيني، قمة ذلك النموذج وصفاً يكاد يلخص حالة عامة فهو يقول ما خلاصته، لقد قدمنا سقفنا الأعلى من الطلبات وقدموا هم سقفهم الأعلى وبدأنا نحن بالتقدم عليهم فتراجعوا، ثم تقدمنا فتراجعوا، ثم تقدمنا وتراجعوا، وخشينا أن نصبح خلف خطوطهم، وعندما انتهينا إلى الاتفاق سألناهم عن الوضع عامة فاكتشفنا أنهم يعرفون وأنهم راضون !!. ونحن أيضاً كنا راضين."‏
                          فيا لها من مهزلة، ويا لها من نظرة من أنفسنا لقضايانا ولأنفسنا، ويا لها من حالة نستذكرها في قول لأحد شعرائنا نود لو نرتقي إلى حدوده الدنيا حيث يقول:‏
                          وإذا كانت النفوس كباراً‏



                          تعبت في مرادها الأجسامُ .‏

                          أمّا أن تصبح نفوسنا خدماً لأجسامنا التعِبَة فتلك لعمري حالة لن تجر علينا سوى التعب الذي يجر بدوره مزيداً من التعب. إننا نريد أن نواجه حقائق قادمة في هذا العام، ومواجهتها الآن تبدأ بإعداد النفس للأصعب من القرارات والأصعب من المواجهات على أرضية رفضنا التام لـ " إسرائيل " وجوداً وحدوداً ففلسطين لم تكن يوماً إلا عربية، وستبقى في اعتبارنا كذلك إلى أن نعيد لها صبحها وصحتها وانتماءها، وذاك أمر دونه خرط القتاد. فهل هناك من الاستعداد ما يؤهل النفوس لحمل الهم الكبير ؟! إنني لا أشك بذلك مطلقاً.‏

                          الأسبوع الأدبي/ع396//13/ك2/1994‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #58
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            اتفاقا القاهرة.. والغد المنتظر
                            لا أعرف سبباً وجيهاً واحداً يجعل الحرص على اتفاق القاهرة، الذي وقِّع في التاسع من شباط الجاري بين عرفات وبيريس، مبرراً أو مقبولاً، بعد كل الجهد والوقت والمناورات والضغوط والممارسات التي تمت، حتى أُنجِز في جو ضبابي كثيف، وانعدام رؤية شبه تام؛ ولا أعرف مسوِّغَ حرص بعض القيادات الفلسطينية على دخول السجن " الإسرائيلي " الشامل من بابه الكبير، ذلك السجن الذي تحدد معالمه وظروف الإقامة فيه نصوص الاتفاقين (الأمني ـ والمعابر) والممارسات الصهيونية ـ العنصرية التي يعرفها شعبنا العربي الفلسطيني جيداً ؟! ولا أدري أين تكمن فعلياً في الاتفاقين حقيقة احترام السلطة الفلسطينية، أو " عدم المساس بها " كما نص عليه الاتفاقان ؟!‏
                            إن أي شرطي فلسطيني أو رئيس فلسطيني أعلى، بمن فيهم رئيس مخفر أريحا المفعم بالوهم، لا يستطيع أن يقوم بأي عمل ناجز من أي نوع قبل موافقة إسرائيلية عليه. وقد بحثت ودققت في النصين فلم أجد ثقباً ينفذ منه الضوء ينير قلباً أو بيتاً أو شارعاً في غزة أو أريحا، بل في الضفة كلها، أو لحظة من عمر الفلسطينيين بملايينهم، التي تعيش خارج فلسطين وتنتظر ثمرة نضال طال من أجل العودة أو السيادة أو احترام جزء من الحقوق احتراماً يدخل الراحة إلى النفوس .‏
                            لقد حُدِّدَت مساحةُ أريحا، بموجب الاتفاق بـ 5, 55 كم2 أخذ الفلسطينيون حق الإشراف على مقام النبي موسى، وحق المرور إلى المغطس ثلاث مرات صريحة، وإلى المنشآت الاقتصادية التي سيقيمونها على البحر الميت بتعاون تام مع " إسرائيل". وبقيت السيطرة الأمنية التامة والشاملة على المعابر والحدود والمستوطنات والتحركات والدخول والإقامة والخروج، بيد " إسرائيل" وبشكل مطلق. وأقدم هنا بعض المقاطع من الاتفاقين تدل على ذلك:‏
                            ـ " تنظم هذه الوثيقة أحكام العبور على الحدود مع احتفاظ " إسرائيل" خلال المرحلة الانتقالية بمسؤولية الأمن الخارجي بما في ذلك الأمن على طول الحدود مع مصر ومع الأردن .." / الفقرة 1/1.‏
                            ـ " تتولى" إسرائيل" مسؤولية الأمن على الممر بما في ذلك المركز الحدودي".‏
                            ـ " يتولى مدير عام " إسرائيلي " إدارة المركز الحدودي وأمنه " / ثانياً 1، 2.‏
                            ـ " يستخدم الفلسطينيون سكان قطاع غزة ومنطقة أريحا الخط الأول، يمر هؤلاء المسافرون عبر مركز مراقبة فلسطيني للتدقيق في هوياتهم ووثائقهم. ويجري ضابط " إسرائيلي "، بصورة غير مباشرة، عملية تدقيق لوثائقهم بصورة غير ظاهرة " / ثالثاً /1/ د.‏
                            ويطبق على زوَّار غزة وأريحا الإجراء ذاته، ويُفتَّش ويُقبض عليه أو يُطرد خارج الحدود من تشتبه " إسرائيل" بأنه سيقوم بأعمال " إرهابية " أو له سوابق إرهابية. والإرهاب عند " إسرائيل" يعني أيَّ شكل من أشكال النضال ضد الاحتلال، وكلَّ ممارسة أو موقف ينم عن رفض للعدوـ أي لها ـ. وقد وافق عرفات في كل الاتفاقات على وصم الكفاح الفلسطيني بـ " الإرهاب "؟!!‏
                            ـ " يحق لكل طرف ـ أي " الإسرائيلي " والفلسطيني ـ داخل الجناح الفلسطيني أن يمنع دخول أشخاص غير مقيمين في قطاع غزة والضفة الغربية." أي أن مشكلة الفلسطينيين من خارج الأرض المحتلة قد تضاعفت فهناك المنع "الإسرائيلي" والمنع الذي يقع على من لا يرضى عنه عرفات؛ وما أكثر أولئك الآن، وبعضهم كان يستطيع بإجازة ما زيارة أهله والاجتماع بأقاربه، أمّا الآن فمن يدري، وقد فرضت عليه سيطرة سلطتين متعاونتين ؟!‏
                            ـ " يمنحه ـ أي المسافر ـ المسؤول الفلسطيني، بعد ختم إذن الدخول الخاص به، بطاقة بيضاء صادرة عن المسؤول " الإسرائيلي "، ويقوم مسؤول فلسطيني يتخذ مركزاً له عند مخرج الجناح الفلسطيني بالتأكد من أن المسافر يحمل هذه البطاقة البيضاء، ويقوم المسؤول بجمع هذه البطاقات تحت مراقبة إسرائيلية غير مباشرة وغير ظاهرة".‏
                            ـ " يسمح للزوار الوافدين إلى قطاع غزة ومنطقة أريحا بالإقامة في هاتين المنطقتين لمدة أقصاها ثلاثة أشهر بعد الحصول على إذن من السلطة الفلسطينية وبموافقة " إسرائيل"، أمّا تمديد هذه المدة فلا يكون إلا لثلاثة أشهر وبموافقة " إسرائيل" أيضاً ؟! فأين هي بالله ملامح المحافظة على سلطة فلسطينية، أو معالم عدم المسّ بها في أي من هذه النصوص التي تشكل قوام الاتفاقين ؟! لم أستطع أن أجد ثقباً ينفذ منه النور والأمل، كما أسلفت؛ ولذلك طرحت سؤالي: أين هي مبررات الحرص على الاتفاق وما هي أسباب اللهاث وراءه ؟! أن "إسرائيل" تصرح بأنها حققت ما تريد، وهذا واقع، وتقول بصراحة أشد: إنها لا تريد أن تكسر عظم عرفات بل تريد أن تلوي ذراعه، لكن ليس إلى الحد الذي تضيع معه هيبته وقدرته على ضبط الأمور داخل الأرض المحتلة. إذن فهي تصنع رجلاً يحقق لها ما تريد، وترسم له أطر التحرك، وتحدد له المهمات، وتملي عليه أن يرفع عصاه ومسدسه على رؤوس فلسطينية لا تريد هي أن تتحمل وزر إسكاتها أو إبادتها. إنها تفسح المجال واسعاً لسلطة مخفر أريحا ليمارس القمع، وإذا لم يفعل فهو ضعيف غير موثوق وغير أهل لتحمل المسؤولية، وعليه في هذه الحالة وفي كل حالة أن يلهث أكثر ويطيع أكثر ويزحف أكثر ليحقق الرضا عنه، وليثبت أهليته كرئيس مخفر فعلي، وليس كأحد رؤساء مجالس المدن الذين كان يعترض عليهم ويتهمهم في يوم من الأيام الخوالي !؟‏
                            قد يفرح أهل الاتفاق بمظاهر " السلطة "، وقد يسرُّهم جداً ويرضي كبرياءهم أن يجتازوا هم الحدود ببعض التسهيلات، وقد ينعش قلوبهم منظر العلَم الفلسطيني يرفرف على مدخل الجناح العام للدخول في رفح أو جسر " اللنبي "، ولكن ألا يسألون أنفسهم عن الثمن الفادح الذي يدفعه الشعب الفلسطيني في النفي والتشرد لهذا كله ؟! أن "إسرائيل" تركض، عبر مسؤوليها، في أربعة أركان الأرض وتصرخ بأنها أنهت القضية الفلسطينية وأنهت الصراع العربي الصهيوني بتوقيع الفلسطينيين على حل، وتكسب جراء ذلك الكثير، وتعيد النظر بالعلاقات والصلات وأوجه التعامل مع الآخرين، وإذا راجعنا مكاسبها منذ 13 أيلول 1993، وحتى اليوم نجد كثيراً من ذلك تحقق على صورة علاقات ديبلوماسية وصفقات تجارية، ومساعدات مالية وعسكرية، آخرها عشرون طائرة أميركية من نوع f.15 وعدد من طائرات F.16. وعدد أكبر من طائرات مروحية مقاتلة ذات تقنية عالية، فضلاً عن إلغاء كل ما يكدِّر مزاج " إسرائيل" من قرارات، وملاحقة العرب ليرفعوا المقاطعة وربط صلات وعلاقات تجارية عربية معها لتزويدها بالغاز والنفط وفتح أسواق أمامها؛ عدا اعتراف الفاتيكان بها، وإقامة مؤتمر ضم 500 رجل دين مسيحي ـ ويهودي في القدس لخدمة مشروعها الذي يقوم على أساس تلمودي عنصري، وإقامة مؤتمر لليهود في المغرب لم يسبق له مثيل، لا يؤدي إلا إلى خدمتها في مجالات الاعتراف والتطبيع والترويج والتسويق. هذا عدا عن " زفَّة " المثقفين الذين يترامون على معابر تؤدي إليها على استحياء أو دون حياء، وأولئك الذين أخذوا يسوّغون طروحاتهم المشبوهة بنوع من السبق على الطريقة الساداتية !؟‏
                            ان ما يفعله أهل اتفاق غزة ـ أريحا، وأهل اتفاقي القاهرة مدمر لهم ولسواهم، وهو أشد فتكاً من " كامب يفيد " وإن كان استمراراً له على نحو ما. وعلى الرغم من كونهم اختاروا بأنفسهم ذلك فإن الأسئلة الآتية تعصف في فضاء النفس وتتزاحم في الحلق وعلى اللسان: ماذا يفعل أولئك إذا ما قررت " إسرائيل" في يوم من الأيام إغلاق السجن عليهم ؟!‏
                            هل سيخرجون من هذا الفخ الذي يدخلونه برضاهم ؟! ومن الذي سيشفع لهم عند ذلك ويخلصهم ؟ هل هو كلينتون أم رابين.. أم بعض العرابين المستترين لاتفاق غزة ـ أريحا ؟!‏
                            وكيف يستطيع أولئك الذين يعملون حسب مخطط عدوهم أن يقاوموا يوماً عدوهم ويتخلصوا من قبضته ؟! وهل يمكن لمن يختار أن يكون تحت حماية عدو أن يقاومه أصلاً أو أن يفكر بعمل ما لا يرضيه ؟! ومن سمع أو قرأ في التاريخ بأن مقاوماً دخل حِمَى عدوه على أرضية اتفاق، ونزع سلاحه، وقبِل أن يَقْمَع له شعبه، وأن يستثمر وإياه أموالاً ويكوّنا شراكات؛ وبقي منه، بعد ذلك ، عزم للمقاومة ومصداقية أمام الشعب، وفرصة عبر التاريخ ليسجل تحريراً أو سيراً على طريق التحرير؟! قد يقولون إن هذه الفكرة من منتجات الحرب الباردة التي انتهت ولم يعد لهذه اللغة القديمة ومصطلحاتها من وجود. وفي هذا بعض الواقعية والبراغماتية، ولكنَّ فيه إيحاءً فضّاحاً بالتواطؤ ضد قضية أمة وقضية أجيال وقضية وطن ما زال الملايين من أهله خارجه يخوضون نضالاً قاسياً من أجل العودة المشرفة إليه . فهل لا يضير التواطؤ أولئك الذين يقطعون أشواطاً على طريق الاعتراف بالعدو وتطبيع العلاقات معه، والتحول إلى عصا في قبضته، تضرب رؤوس أبناء شعبهم، وتعرقل مسيرة أمتهم ؟!‏
                            قد يصدر ألف رأي ورأي يناهض ما ذهبت إليه من توجه، وقد يدخل مثقفون و "عقائديون " مداخل النضال مزورين مواقفهم وآراءهم وتاريخ سواهم، ليقفوا في مقدمة المدافعين عن " نضال " سابق يتجلى بصورة " فهمٍ أفضل " للعدو و" تفهم أكبر لطبيعة المعركة " ؟! ولكنني لحسن الحظ، أو لسوئه، لا دري، أعرف هذه المداخل وأعرف ما يُدفع لها من أثمان، ولذا فهي لا تقنعني ولا تخيفني ولا تهدئ لي روعاً أو تطمئن لي قلباً. فقد رزئنا بكثرة من يلبسون لكل حالة لبوسها، ويبدلون الأقنعة والأقوال والمواقف، ويزيفون الحقائق والتاريخ والمعطيات، ويقفون فوق الجثث البريئة والحقائق القتيلة وهم يتشامخون انطلاقاً من احتكارهم للعلمية والواقعية، ومن "عصمتهم" التي يمنحونها لأنفسهم، ومن عُصابية عصابات يشكلونها للسيطرة على إعلام وساحات رأي، ولإرهاب الآخرين بألسنة وأقلام لم تعرف طريقاً إلى الضمير تستمد منه نوراً وعدلاً وإنصافاً وانتماء للحقيقة والوطن والشعب والتاريخ ودم الشهداء .‏
                            فهل ترى يخيفنا هؤلاء، أو يشكلون رأياً مؤثراً ويفرضون رؤية، ويغيرون حقائق الموقف ؟! وهل تتآخى وتتعاون، وتتبادل الخدمات من جديد: " أموال وأقلام وعقائد وسلط ". وتثير غباراً يُزيغ الأبصار والبصائر، ويجعل كل شيء يدخل دائرة الضباب من جديد ؟! إن ما ألمحه في هذا الفضاء كثير، وما تنذر نذره كبير، ولكن بعد كل ذلك السقوط في المواقف والعقائد والمزاعم هل يبقى أهل الثقافة الحق، والرؤى السليمة، والمواقف الوطنية الصحيحة والثابتة، والمبادئ المستندة إلى الحق والأخلاق والعدل ومعطيات التاريخ، هل يبقون متفرجين ويتركون الأدعياء يعبثون بواقعهم ومستقبلهم وبقضاياهم المصيرية، ويعيدون تكوين الواقع من حولهم ؟! لا أظن أن شعبنا ومثقفينا الأصلاء وأهل الرأي والموقف والنضال، والثابتين على المبادئ والعقائد، يفعلون ذلك .‏
                            وإن غداً لناظره لقريب .‏

                            الأسبوع الأدبي/ع401//17/شباط/1994‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #59
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              ونُحشر من حواصل الطيور
                              عندما يتداخل شاطئا الليل والماء، يمتزج اللهاث والبكاء، ويطبقان أهدابهما على خيط النور الممتد بينهما، عندها يغرق قلبٌ في مستنقع الظلام، وتنطفئ عيون كانت تستضيء بالأحلام، ويرفرف جناح أمل طلباً للنجاة من بين فكي مصيدة، ويفر روح تناوشه أظفار الوحشة وأنياب التنين، ويعكف على إضاءة شمعة رغم صهيل الريح، ويصنع بترانيمه فضاء للاطمئنان. فمن يعروه البرد يبحث عن دفء، ومن يطارده الليل يتعلق بحبال الفجر، ومن يُعشي بصره غلثُ الدنيا لا بد أن يبحث في أعماقه عن نور، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور .‏
                              على توقد عصب أشعَله الروحُ الهارب من محرقة الجسد، يظهر وجه ملبد بالحزن، فيه تجاعيد كآبة تجمدت في قمة تموجها واصطخابها لحظة فراق جسد وروح، وفي مسارات سراه إلى مثواه، يقرأ المرء قصة حب وملحمة شعب، فالشهيد لا ينضب له وريد، ويبقى يعطِّر المدى ويسكب على مفازات طريقه ناراً تضيء طريق العابرين وتمنح القلوب دفئاً.‏
                              بين غزة وجنوب لينان وهضاب القدس والخليل والجليل تنتشر مشاعل تضيء لنا الليل، وينسكب دم يعطر المفازات، ويسري الشهداء مع فجر كل يوم براياتهم ليرى من يرى تظاهرة الكرامة ووفد الشراة الذين تجاوزوا مجال تجاذب الأهواء والإغراء، وأزروا بالسياسات وخَوَر النفوس وضحالة التجمعات، وذهبوا بعيداً إلى حيث ينبغي أن يؤدي المسارُ بمن يؤمنون بحق وعدالة وثوابت أمة وعقيدة، ويجسِّدون معنى الكرامة والانتماء للأرض ولتاريخ يضيء مجاهله الاستشهاد .‏
                              في رمضان يتدفق عطاء الخيِّرين: بعضُهم يجود بالمال وبعضُهم يقدم الجهد، وخيارُهم يقدمون أرواحهم ودماءهم على طريق من يستحقون الحياة: من أطفال وأجنة في الأرحام وأبرياء لا يطلبون إلا الأمان والاطمئنان في وطن الآباء والأجداد والرسالات. لمن يتعبد درجة، ولمن يعمل درجة، ولمن يبذل بإخلاص درجة، ولمن يستشهد كل الدرجات، فمن له ذاك الاختيار يبز الأقران ويتفوق على المعطين، ويسحب قميصه المدمَّى فوق الجمر ليرقى صهوة الريح، فيخضر أينما مر المدى وتنداح الحياة متدفقة من هيكل الموت؛ فالشهادة في سبيل الله والوطن أفضل صور الحياة، لأنها ماء يسقي كل البذور المهددة بالموت، ونور يحمل الدفء إلى كل الخلايا التي يحاول أن يفترسها الظلام .‏
                              رُوي عن أبي قُدامة الشامي أنه قال: كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات، فدخلت بعض البلدان فدعوت الناس إلى الغزو ورغَّبتهم في الثواب، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها، ثم تفرَّق الناس، وركبت فرسي وسرت إلى منزلي. فإذا أنا بامرأة من أحسن الناس تنادي: يا أبا قدامة. فقلت: هذه مكيدة الشيطان، فمضيت ولم أجب، فقالت: ما هكذا كان الصالحون، فوقفت، فجاءت ودفعت إليَّ رقعة وحزمة مشدودة وانصرفت باكية، فنظرت في الرقعة فإذا فيها مكتوب: إنك دعوتنا إلى الجهاد ورغَّبتنا في الثواب، ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ، وهما ضفيرتان وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرس، لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي.‏
                              فلما كانت صبيحة القتال فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل فتقدمت إليه وقلت: يا فتى أنت غلام غر راجل ولا آمن أن تجول الخيل فتطأك بأرجلها فارجع عن موضعك هذا، فقال: أتأمرني بالرجوع ؟!‍ وقد قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا فلا تولوهم الأدبار، ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرقاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " ؟!.‏
                              فحملته على هجين كان معي فقال: يا أبا قدامة أقرضني ثلاثة أسهم. فقلت: أهذا وقت قرض ؟ فمازال يلح عليّ حتى قلت بشرط: أن منَّ الله علي بالشهادة أكون في شفاعتك. قال: نعم. فأعطيته ثلاثة أسهم فوضع سهماً في قوسه وقال: السلام عليك يا أبا قدامة، ورمى به فقتل رومياً. ثم رمى بالآخر وقال: السلام عليك سلام مودِّع. فجاءه سهم فوقع بين عينيه فوضع رأسه على قربوس سرجه. فتقدمت إليه وقلت: لا تنسها. فقال: نعم ولكن لي إليك حاجة: إذا دخلت المدينة فأت والدتي وسلم خرجي إليها وأخبرها فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرس، وسلم عليها فإنها العام الأول أصيبت بوالدي، وفي هذا العام بي. ثم مات.‏
                              فحفرت له ودفنته. فلمَّا هممنا بالانصراف عن قبره قذفته الأرض فألقته على ظهرها، فقال أصحابي: إنه غلام غر ولعله خرج بغير إذن أمه. فقلت: إن الأرض لتقبل من هو شر من هذا. فقمت وصليت ركعتين ودعوت الله عز وجل فسمعت صوتاً يقول: يا أبا قدامة اترك وليّ الله .‏
                              فما برحت حتى نزلت عليه طيور بيض فأكلته. فلمَّا أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته، فلمَّا قرعت الباب خرجت أخته إلي فلمَّا رأتني عادت وقالت: يا أماه هذا أبو قدامة ليس معه أخي، فقد أصبنا في العام الأول بأبي، وفي هذا العام بأخي .‏
                              فخرجت أمه إلي فقالت: أمعزّياً أم مهنئاً ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فقلت ما معنى هذا ؟ فقالت: إن كان مات فعزني، وان كان استشهد فهنئني. فقلت: لا بل مات شهيداً. فقالت: له علامة فهل رأيتها .؟ قلت: نعم لم تقبله الأرض ونزلت الطيور فأكلت لحمه وتركت عظامه فدفنتها، فقالت: الحمد لله. فسلمت لها الخرج ففتحته فأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد، وقالت: إن كان إذا جنَّه الليل لبس هذا المسح وغلَّ نفسه بهذا الغل وناجى مولاه، وقال في مناجاته: احشرني من حواصل الطيور. فقد استجاب الله دعاءه. ".‏
                              فمن لنا بآلاف أو مئات أو عشرات من مثل هذا الغلام وأمه يضيئون طرق العزم والإيمان والتضحية، ونستعيد في ضوء أفعالهم ما حبط في نفوسنا من أمل وما أحبط في طرقنا من عمل ؟! ويكون ذلك بالنسبة لنا مدعاة لتجدد الذات ومدخلاً لتغيير السكون الذي يصيب معظم ساحاتنا العربية، حيث يغدو الاستسلام لركود الحياة ومستنقعاتها قدراً محتوماً، ويصبح ما يفرضه العدو وبقوة الحديد والنار والغطرسة والاستكبار مقبولاً من جهة، ومروَّجاً له ممن يلبسون ثوب العدو ويجوسون في خلايا الأجساد من مغرب الوطن العربي إلى مشرقه !؟‏
                              إن الظلام الذي يشتد، والذي تقاومه نجوم تشع بين غزة وجنوب لبنان، يحتاج إلى مزيد من التضحيات، ولكن هل نحمّل أولئك الذين ينهضون منذ سنوات في تلك الديار كل عبء المواجهة لعنصرية صهيونية قذرة، ونكتفي بتعاطف جريح، وغضب كسيح، ونترك من يطعنونهم ويطعنوننا في الصميم، بما يعقدون من اتفاقيات وما يروجون له من تطبيع علاقات وإقامة صلات، وترسيخ حضور للعدو في الأرض والنفس، في الجغرافية والتاريخ ؟! هل نترك أولئك ينتشرون كطبقة الزيت على سطح المجتمع الراكد الذي لا يتحرك ولا نحركه ؟! هل تسير قوافلهم مع مطلع الفجر كل صباح فلا تحرك فينا شيئاً، وتبقى نارهم محجوبة عن قلوبنا التي يعطبها البرد ؟! هل نبقيهم يتامى معزولين لا تقدم لهم فتاة جدائلها " قيداً لفرس "، ولا يشاركهم غلام كغلام قدامه وقفة إيمان وتضحية، تكون للناس برهاناً على العزم والإقدام ؟‍!‏
                              إذا كنا سنبقى على ما نحن عليه بين إطباقي ليل وماء على كل خيوط النور التي تلامس قلوبنا وطرقاتنا، فإن ما نحتاج إليه أكبر بكثير من تحريق أطراف الأصابع، وتحريك مشاعر جامدة؛ إنه يكاد يصل إلى كارثة تضاف إلى ما سبق وحلَّ بنا من كوارث.‏

                              الأسبوع الأدبي/ع402//14/شباط/1994‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #60
                                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                مذبحة في الحرم الإبراهيمي
                                المذبحة المروعة التي ارتكبها الصهاينة فجر يوم الجمعة الخامس عشر من رمضان المبارك 1414 هـ 25 شباط 1994 م في الحرم الإبراهيمي في الخليل، وراح ضحيتها أكثر من ستين شهيداً وثلاثمئة جريح وهم سجّد لله تعالى في صلاة الصبح، تعبر بأوضح صورة وأجلى عبارة وأكثر الدلالات تركيزاً، عن حقيقة الصهيونية ـ العنصرية وممارساتها؛ منذ ولد المشروع الصهيوني الاستيطاني فكرة بتأثير استعماري، وحتى فجر الخليل المروع الدامي.‏
                                وهي إذ تعيد إلى الذاكرة العربية خصوصاً والبشرية عموماً مذابح دير ياسين وقبية وكفر قاسم وبحر البقر، وحريق الأقصى والمذبحة التي تمت فيه، ومذابح الأيام السبعة القريبة في جنوب لبنان، وصوَر المآسي التي تعرض لها الشعب العربي الفلسطيني على أيدي الصهاينة سواء في مخيماته أو مدنه وقراه، والممارسات التي تتم ضد أطفاله ونسائه وشيوخه وشبابه، في مخيمات الاعتقالات النازية الجديدة وفي السجون الإسرائيلية، أو ملاحقة المنتفضين من أجل حق في الحياة وكرامة فيها، وكسر عظامهم، وهدم بيوتهم، لتثبِّت في العقل والوجدان حقيقة استحالة التعايش بين الجلاد الفاشي الصهيوني، والضحية البريئة، تحت سقف أي اتفاق أو معاهدة؛ وتعلن موت كل المشاريع، حتى تلك الاستسلامية منها، على عتبة الوحشية الصهيونية العنصرية، التي لن يزيل طبيعتها العنصرية من الواقع والتاريخ وقوفُ الولايات المتحدة الأميركية والإعلام الغربي كله خلفها، وإسقاط قرارات الأمم المتحدة، لا سيما‏
                                القرار 3379 عنها، ولا مسح سجلات الهيئات الدولية من القرارات التي تعكِّر مزاج "إسرائيل" القلقة، التي تمثل مقدمة غزوها الشامل للمنطقة العربية وحصن ذلك الغزو. إن المذبحة المروعة وما تلاها تكشف لكل ذي بصير وبصيرة أن مخطط إبادة الشعب الفلسطيني مستمر، وأن التواطؤ والتخاذل العربيين يشكلان غطاء ودافعاً لذلك المخطط في آنٍ معاً، وأن المشروع الاستيطاني الصهيوني لم يتغير ولن يتغير، وأنه موجه للعرب كل العرب من دون استثناء، وأن كل الاتفاقات والمعاهدات الثنائية بين أقطار عربية و" إسرائيل "، من اتفاق كامب ديفيد إلى اتفاقي القاهرة الأخيرين، إلى ما لم يعلن بعد من اتفاقيات؛ كل ذلك لم يزد " إسرائيل" إلا عدوانية وغطرسة واستمراراً في الثبات على أهداف مشروعها الصهيوني العدواني، واستهتاراً بالعرب وبالهيئات الدولية، وبمن يرعون الاتفاقيات والمعاهدات التي توقعها؛ لأنهم شركاء لها أصلاً في مسيرة الدم والاستعمار التي تمثلها، ودعاة وحفَظَة لتوجهها القديم المتجدد ذاك، وهو يعبر عن جوهر التكوين الفكري للصهاينة، وعن النزوع العنصري المتمكن في تلك النفوس التي ربيت على الحقد والخسة والجبن.‏
                                إننا ونحن نتابع بأسى ومرارة وغضب لا يحد ما يقوم به جيش العدو ضد الشعب الفلسطيني، الذي يرد عن نفسه بلحمه ودمه الكارثة والحقد العنصري، وندقق في ردود الفعل العربية والدولية على ممارسات " إسرائيل" ومذابحها المتكررة، ونتابع موقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تعوق حتى قرارات الإدانة لـ " إسرائيل " في مجلس الأمن، تلك التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ولا تساوي الحبر الذي تكتب به، بعد طول تجربة معها. لنستشعر مدى الإفلاس الروحي والخُلُقي الذي لحق بالدول العربية والمؤسسات الدولية، ومدى الخلل الذي أصاب الحس القومي العربي والإرادة العربية من جهة والحس الإنساني وقيم المجتمع الدولي من جهة أخرى في عالم اليوم، ونستشعر موت الموقف الخُلُقي للثقافة والسياسة في آنٍ معاً .‏
                                ونعلن، ونحن نعاني المرارة جرَّاء ذلك كله، أننا لن نستسلم للقهر العنصري، ولا للتواطؤ الأمريكي ـ الصهيوني ضدنا وضد الحقوق والحريات الأساسية للإنسان، وفي مقدمتها حق الحياة، مجرد الحياة. ولن نستسلم لليأس من أمتنا، ولا للمفرطين بحقوقها وقضاياها؛ أولئك الذين يرتمون على أعتاب العدو ويروجون مشاريعه، ويعترفون به، ويدعون لتطبيع العلاقات معه، ويتنكرون لأبسط الحقائق التي تسطع بها ممارساته ومشاريعه التوسعية ـ العنصرية، وتطلعاته للهيمنة على المنطقة، وإبادة أكبر قدر من سكانها العرب، والسيطرة على الأرض والثروات والمقدرات .‏
                                إننا نؤكد الطبيعة العنصرية للصهيونية، وأن القرار 3379 الذي مسحته إدارات أمريكية متصهينة من سجلات الأمم المتحدة، تثبته الممارسات الصهيونية ذاتها وتعيده دائماً إلى الوجود حياً حاراً ودموياً، الأمر الذي يزيدنا اقتناعاً بعنصرية " إسرائيل" ونازيتها، وباستحالة التعايش معها أو الاطمئنان إلى وعودها ومعاهداتها وتحالفاتها .‏
                                ونتوجه إلى أمتنا العربية ومثقفيها ومناضليها بدعوة صريحة للتمسك بالثوابت القومية، وبجوهر النضال العربي على طريق استعادة فلسطين، وبحقيقة أن الصراع العربي الصهيوني صراع وجود، هكذا كان وهكذا سيبقى، ولن يتحول يوماً إلى نزاع على حدود.‏
                                كما ندعو إلى قراءة الأحداث الأخيرة منذ اتفاق " أوسلو " حتى مذبحة الخليل، قراءة واعية مدقِّقَة في ضوء الصراع الممتد تاريخياً، واستخلاص النتائج من ذلك في ضوء الممارسات الصهيونية والواقع الذي ترسخه "إسرائيل" على الأرض، سواء في مجالات القوة وامتلاك السلاح وتطويره، أو في مجال الاستيطان والتوسع فيه، أو في مجالات ممارسة الإذلال والقهر، وتحقيق المكاسب، وتخريب الوطن العربي وسياساته من الداخل، وتحويل كل شيء لخدمة المشروع العنصري ـ الاستيطاني على المدى البعيد.‏
                                إن تلك القراءة تلقي مزيداً من الضوء على المخاطر التي تنتظرنا، وعلى الثوابت التي ينبغي أن نتمسك بها، وتنير الطريق التي علينا أن نسير فيها والوسائل التي علينا أن نتبعها. وند عوا الأنظمة العربية إلى تنقية الأجواء العربية تمهيداً لاستعادة التضامن العربي، ولو في حدوده الدنيا، ليكون هناك حضور وموقف ودفاع من أي نوع وعلى أي مستوى عن الإنسان والحق والأرض والوطن، في أرض الحق والإنسان. وندعو عرفات ومن والاه إلى التخلي عن اتفاق " أوسلو " واتفاقي القاهرة والعودة إلى التنسيق مع العرب المعنيين، وإعادة البعد القومي للقضية الفلسطينية قبل أن يصبح كل شيء فلسطيني بما في ذلك القيادات في قفص " إسرائيلي " حديدي يُحكم إغلاقه ويكتم الصوت من حوله، لتتم المذبحة الشاملة للقضية وأهلها في ظلام " وسلام".‏
                                وندعو الفصائل العشرة إلى وحدة الصف والموقف والهدف، فليس بعد ما رأيناه من مذابح وتآمر وتواطؤ علينا وعلى قضيتنا وعلى شعبنا ما يستحق أن نختلف عليه ويتمزق صفنا من أجله. نحن أمة قدمت الكثير من التضحيات على طريق التحرير والتحرر، وعانت الكثير من الاضطهاد والقمع، وأُلحِق بقضاياها وتاريخها ونضالها تزوير وتزييف، وليس لها إلاَّ من نفسها منقذاً ومنصفاً وذائداً. وإن دور الوعي المعرفي في الوصول إلى ذلك كبير، ودور الإيمان بالله والذات والحق لهو أكبر، لأن كل فعل يحتاج إلى اقتناع وثقة وأرضية خُلُقية وإيمان في النفس لكي يقدم له ما يلزم لإنجازه على وجه أكمل. ومن أجل هذا ووصولاً إلى بداية أكثر سلامة، لا بد من عودة للاهتمام بذلك كله.‏
                                فليكن دم الشهداء في الحرم الإبراهيمي وسواه دافعاً لنا لنقوم بعمل يرضي الله والضمير، ويدفع عن أطفالنا وأوطاننا وحضارتنا ما لا بد من دفعه، إذا أردنا أن نبقى وأن نستعيد حضوراً وحقوقاً .‏

                                الأسبوع الأدبي/ع403//3/آذار/1994‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X