إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    العرب والتهديدات التركية تركيا والمشاعر العدوانية
    ظاهرة لافتة للنظر تستدعي التوقف عندها ومناقشتها بمسؤولية وعمق، برزت معالمها في الأزمة التي افتعلها وما زال يفتعلها التحالف التركي الإسرائيلي الأميركي، بين تركيا وسورية، انطلاقاً من أطرافه المسيطرة في الساحة التركية؛ ليصل إلى أهداف عدة من أبرزها : إضعاف موقف سورية وتشتيت قوتها العسكرية وتركيزها السياسي وإرهابها لزعزعة صمودها وثوابتها وإرباكها قُبَيْل الإعلان عن توقيع المرحلة الثالثة من استحقاقات " أوسلو " في " واي بلانتيشن "، وجعل تلك المرحلة هي المرحلة النهاية عملياً بتسليم الإرهابي " ارئيل شارون "، سفاح صبرا وشاتيلا، حقيبة وزارة الخارجية في الكيان الصهيوني وملف المرحلة النهائية من اتفاق " أوسلو "؛ والانتقال بعد ذلك إلى المسار السوري اللبناني ـ الإسرائيلي، الذي تتطلع إدارة كلنتون إلى تحقيق تحرك محسوب جيداً فيه، لتتمكن من إحراز نجاح سياسي، في المسارات المتبقية، يضاف إلى النجاح الاقتصادي الذي حققته تلك الإدارة/ 70 مليار دولار وفر الموازنة الأميركية لعام 1998 وذلك لأول مرة منذ أكثر من عشرين عاماً/ تغطي بهما الفضائح الخلُقية للرئيس، وتخلق مناخاً عاماً أكثر ملاءمة للحزب الحاكم يدخل من خلاله الانتخابات القادمة مع منافسه، بعد أن اقترب موعد الاستحقاقات في هذا المجال.‏
    والظاهرة التي أشير إليها تستدعي منا التوقف الواعي المسؤول عندها بوصفها ظاهرة متنامية، يفاقم خطرها وضعٌ عربي ضعيف يزيدها شدَّة وحدَّة، ووضعٌ دولي لا يساعد الحق على الوقوف بثبات؛ كما تستحق الدراسة والتمحيص للحد من مخاطرها الراهنة، التي ستكمن مؤقتاً بتقديري، إذا ما نجحت الدبلوماسية في نزع فتيل هذه الأزمة ـ وأظن أنها ستنجح ـ ولكنَّ كمونها لا يعني زوالها أو ضمور فعلها والتغاضي عن ازدياد تورمها، فهي ستبقى الجمر تحت الرماد يزيد من احتمالات اضطرامه تغذية مقوماتها الرئيسة العميقة، وهو ما تعمل عليه قوى صهيونية وأميركية خاصة. وعلينا أن نستعيد شيئاً من التاريخ في هذا الوقت ونتذكر العناصر اليهودية التي دخلت في الجسم العثماني من مدخلين : مدخل اليهود الدونما الذين استلموا زمام الحكم في الإمبراطورية لاحقاً، ومدخل المستشرقين اليهود، بتسميات وجنسيات غربية " ألمانية على الخصوص "، الذين عملوا على التنظير للطورانية وتغذيتها وشحنها بالحقد على العرب والقوميات الأخرى، وبالتعالي العنصري البغيض، ذلك الذي أسفر عن ممارسات مؤسفة ومؤسية، دمَّرت الإمبراطورية بعد أن أضعفتها، وزرعت حقداً وفجَّرت دماً بين شعوبها ما زلنا من أسراهما على نحو ما.‏
    والظاهرة التي أشير إليها تجلت في الأزمة الحالية من خلال :‏
    أولاً ـ لغة التهديد المفرط في عنجهيته وغطرسته وتعاليه، التي استخدمها العسكريون الأتراك ضد سورية : " سندخل دمشق بعد أربع وعشرين ساعة " من إعلان الحرب، وهي عبارة تذكرنا بالصهيوني الإرهابي موشيه دايان الذي استخدمها حرفياً في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973، كما استخدمها الساسة المدنيون الأتراك بصيغ أخرى!؟‏
    ثانياً ـ الإنذارات والتحذيرات المتكررة على ألسنة مسؤولين عسكريين ومدنيين في تركيا، المشفوعة بسلسلة مطالب " مستحقة التنفيذ قبل أي حوار " حسب قولهم؟! وهي التي قدِّمت بوصفها شروطاً تركية تسبق كل حوار تدعو إليه سورية لحل الأزمة، وعددها اثنا عشر مطلباً، ورَدَت في الملف الذي سلمه المسؤولون الأتراك للرئيس حسني مبارك في أنقرة؛ وهي شروط ومطالب تعيد إلى الأذهان إنذار غورو لسورية عام 1920 وهو يزحف لاحتلالها حتى لو نفذت ما يريد؛ مع إغفال المسؤولين الأتراك لفارق كبير هو أن سورية اليوم ليست سورية العشرينات بأي مقياس من المقاييس !؟!.‏
    ثالثاً ـ الفجاجة السياسية والدبلوماسية المنطوية على استهانة بالآخرين، حتى لا نقول " على احتقار لهم "، تلك التي تمثلت في توجيه تهديد شامل لكل دولة عربية تناصر سورية وتقف إلى جانبها في هذه الأزمة؛ وحسب منطوق تهديد المسؤول التركي الكبير : " على من يقف إلى جانب سورية ويؤيدها أن ينتظر عواقب وخيمة " ؟!.‏
    رابعاً ـ استخدام الإعلام التركي استخداماً مفرطاً في عدائه لسورية خاصة وللعرب عامة، وتوظيف طاقته الكبيرة لإعداد الناس للحرب، وتعميق الكره والحقد في نفوسهم، وتحشيد جهودهم وجموعهم على أرضية " عداء تاريخي للعرب "؛ وهو فعل مدروس وراءه جهد صهيوني شرير يهدف إلى غرس عداوة وإيقاظ بغضاء كان قد عمل على تكوينهما وتغذيتهما طويلاً؛ كما يهدف إلى إعداد لتعبئة نفسية شاملة تبدأ الآن ولا تنتهي بانتهاء الأزمة وإنما تكوِّن رصيداً للحقد والكراهية والعداوة توظفه الصهيونية وفق برامجها وأهدافها؟! وقد وظِّفت جهود إعلامية تركية كبيرة ومتنوعة لتحقيق هذا الغرض منها : الإعلام المسموع ـ المرئي/ 18 محطة وطنية و320 محطة محلية/ والمسموع/ 1000 محطة إذاعة/ والمقروء/ 15 صحيفة وطنية و800 صحيفة محلية/ وظِّفت كلها تحت ذرائع وأسباب مختلفة لخلق مناخ ملائم لعمل عدواني ولبث العداء والحقد وترسيخهما. وقد استخدم الإعلام التركي بشكل عام في هذه الأزمة لغة هابطة واستفزازية بشكل ملحوظ، ومعروف الأهداف، وكأنه يعمل في مجال التجارة والدعاوة بعيداً عن مسؤولية الكلمة وتأثيراتها البعيدة المدى. وتقف وراء ذلك من دون شك الصهيونية العنصرية والطورانية المريضة، وعوامل الربح المادي الرخيص التي تشد رجال الإعلام هناك؛ لتحقيق حالة إثارة ترمي إلى جعل المنطقة تنزلق نحو الحرب، من دون أن تسمح بتوقف للتفكير الجاد بما ستقود إليه الحرب أو تسفر عنه من نتائج، أو بعودة صحية إلى المنطق السليم واستقرائه واستنتاجاته؛ حالة وصفتها جريدة " المحرر نيوز " التركية في عدد يوم 12/ 10/ 1998 " ـ وهي من الاستثناءات النادرة في عدم الانزلاق الكلي وراء التهويش ـ وصفتها بقولها : " منذ أسبوع والمرء يسمع من قِبَل بارونات الصحافة بأن الأزمة بلغت نقطة اللاعودة.. وكان الهدف خلق الانطباع بأن تركيا مستعدة لإطلاق السهم.. فقد ولَّدت الصحف الانطباع بأن هناك حرباً وشيكة، وتم نشر الخطط الحربية، وأصبح من في السلطة يركضون بجنون للحاق بالسهم والإمساك به، لأن الأتراك لم يقصدوا فعلاً الدخول في صراع مسلح مع سورية؛ ولكن المشكلة الآن هي كيف يمكن لتركيا التراجع خطوة إلى الوراء من دون أن تؤذي مصداقيتها وهيبتها " ؟!. فمن الذي أطلق هذه الحالة الإعلامية إذا كانت تركية الرسمية لا تريد إطلاقها يا ترى؟! ومن هو صاحب المصلحة من الرسميين، عسكريين ومدنيين، في سَوْق الناس أو انسياقهم في هذا الاتجاه، بفعل الإعلام المنطلق من كل عقال والمتحلل من أي مسؤولية، إذا كان ذلك ليس هو الهدف المختار أو الهدف المطلوب اختياره؟! وإلى أي شيء ترمي تلك التعبئة بالمقت والشر لشعب مسلم، شريك في الجوار والتاريخ والثقافة والمصير، لشعب مسلم آخر !؟. من هو صاحب المصلحة الحقيقية من اقتتال الأتراك والسوريين، الأتراك والعرب، المسلمين والمسلمين؛ أليس هم الصهاينة والأميركيون والمرتبطون من الأتراك معهم بمصالح وتجارة و" كمسيونات " ومراكز سلطة ومناطق نفوذ؛ والذين يريدون حماية أنفسهم من انكشاف أمر ارتباطهم بالمافيا التركية وسواها قبيل الانتخابات التركية، التي يحل موعدها بعد سبعة أشهر تقريباً؟! من صاحب المصلحة في جعل الشعبين الجارين يدفعان ثمن الاستقرار الصهيوني واستمراره في الاحتلال والتوسع والتهويد لكل فلسطين ـ من القرى حتى القدس ـ وثمن الحملات الانتخابية الرامية إلى تزوير الإرادة الحقيقية للجماهير التركية؟! من صاحب المصلحة في أن يدفع الشعبان ثمن ذلك دماً ودموعاً وتخلفاً وقهراً، غير الصهاينة والمرتبطة مصالحهم بالصهاينة والأميركيين من الأتراك، الذين يريدون تصدير مشاكلهم إلى الجوار، ليشغلوا الشعب التركي عن الواقع والوقائع وحقائق الأمور ويشوهوا رؤيته للحاضر والمستقبل معاً، في زمن الاستحقاقات الصعبة والأزمات الخانقة والاقتتال الداخلي الذي امتد سنوات طويلة؟! أليسوا هم أعداء كل من الشعبين التركي والعربي وأعداء المسلمين والمسيحيين المشرقيين، وهم الطامعون بخيرات المنطقة وثرواتها وأسواقها وطاقتها ؟!‏
    خامساً ـ الاستهانة المطلقة بالآخرين، والفوقية الاستعلائية المفرطة في تعبيرها عن ذاتها وفي ثقتها بالنفس، المتنامية على أرضية من التعصب البغيض، وما يتسبب به كل ذلك وما يرشح منه وعنه من استعلاء ووهم، وما ينميه من روح عنصري بغيض، وما يجره من كوارث وويلات على الأبرياء. وهو وضع دخل فيه بعض المسؤولين الأتراك أو أُدخلوا فيه، وهو يعيد إلى الأذهان الوضع الذي كان عليه الكيان الصهيوني ومسؤولوه قُبَيْل حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وضع الجيش الأسطورة الذي لا يُقهر و " الدولة " التي يطول ذراعها كل من تريد أن تطوله، والتي تملك " حقاً إلهياً " لا تجوز مناقشته؟!! .‏
    وهذه الظاهرة، بمعطياتها وتجلياتها واستهدافاتها المستقبلية، التي خلقها التحالف التركي الإسرائيلي ـ الأميركي بخوافيه الأخرى، المعروفة والمكشوفة، هي ما يستدعي منَّا التوقف عنده الآن بجدية مطلقة، والتأمل فيه، والبحث الجاد عن مخارج منه؛ وتلك مسؤولية العناصر الواعية والمسؤولة في الشعبين العربي والتركي؛ بعد أن أخذ منطق الأحداث يميل بشكل ملموس إلى الاختيارات السياسية والدبلوماسية الحكيمة، التي نادت بها سورية منذ بداية هذه الأزمة ولجأت إليها، وحققت بواسطتها كسباً دولياً، وكشفاً فعلياً لحقيقة مواقفها ونواياها واستراتيجياتها، وتعريةً لأطراف المؤامرة التي تستهدف الدور العربي لسورية وصمودها ومبدئيتها في الصراع العربي الصهيوني وكل ما يتعلق به وينتج عنه، وتعريةً أيضاً لمخططات الغير ونواياهم وأهدافهم واستراتيجياتهم!؟.‏
    نحن أمام تحالف شرير بكل ما لهذه الكلمة من معان، تحالف يريد أن يبسط هيمنة شاملة على المنطقة/ سياسياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً وثقافياً/ بقوة السلاح ومنطق القهر، وأن يعيدها إلى عهد الأحلاف والصراعات الفرعية التي وسمت فترة الخمسينيات من هذا القرن، ليقوم بإعادة ترتيبها بما يحقق الهيمنة الشاملة والمصالح الكاملة التي يسعى إلى تحقيقها، وبما يكفل لأطرافه دوراً حيوياً، وبعداً إقليمياً، ومشروعاً حضارياً، بقيادة أميركية ـ صهيونية؛ على حساب ما للعرب والمسلمين من وجود ومصالح وقيم ومقومات وتطلعات في فضاء المكان والزمان ؟!‏
    والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتوجهه الحركة الصهيونية، المتحكمة بالقرار الأميركي على نحو واضح ومستمر منذ عقود، هو البيئة التي تنمو فيها تلك الروح العدوانية الكريهة وتتجدد، روح الكراهية والهيمنة العنصرية، ومن ثمة فهو العدو الأول لسورية وللعرب والمسلمين والإنسانية بمعناها الصحيح، والخطر الأكبر على المنطقة ومصالح أهلها ومستقبلهم ومشاريعهم ودورهم الحيوي وحضارتهم؛ وعلينا أن نجعل مقاومته وتفكيك بناه الهدف المرحلي الأهم الذي نعمل على تحقيقه، في إطار الهدف الاستراتيجي الشامل الذي نذرنا أنفسنا وكرسنا قوانا لتحقيقه : وهو تحرير الأرض وحسم الصراع مع العدو الصهيوني لصالح الأمة العربية وحقها التاريخي في أرضها وخيراتها ومقدساتها .‏
    لقد ظهر الآن بجلاء لمؤتمر القمة العربية وجامعة الدول العربية وأعضائها ومنظمة القمة الإسلامية، ولكل من ينشد الحقيقة ويتعلق بها في العالم، أن ما قالت به سورية وأعلنته وتخوَّفت منه جراء قيام التحالف التركي الإسرائيلي ومخاطره على أمن المنطقة، هو حقيقة أخذت تتجسد تهديداً ووعيداً ومناورات وحشوداً عسكرية لممارسة العدوان وفرض وقائع جديدة على الأرض تجبر الآخرين على الخضوع لقوتها. وأياً كانت الذرائع والمسوِّغات التي تقدمها تركيا العسكرية المتحالفة مع الصهيونية العنصرية فلن تقنع أحداً بأن ما تقوم به بعيد عن أهداف الحلف الشرير، الذي أعلن أطرافُه أنهم يريدون إقامة قوة عسكرية بالدرجة الأولى تكون أساساً لقوة إقليمية تصوغ نظاماً أمنياً للمنطقة وتفرضه؛ وعلينا أن نقرأ جيداً ما يعنيه ذلك وما يمكن أن يتمخَّض عنه.‏
    ومن حقنا، بل من واجبنا أن نتساءل : ما هو هذا النظام الأمني الذي يريد تحالف الكيان الصهيوني وتركيا والولايات المتحدة الأميركية وأتباعهما إقامته في المنطقة وفرض رؤيته وسيطرته على الآخرين؟! ولصالح من سيكون، وضد من سيعمل ؟!‏
    إنه بصريح العبارة تحالف موجه أولاً ضد سورية ودورها العربي والإقليمي، ضد موقفها الرافض لاستسلام مذل للعدو الصهيوني تحت صفة " السلام " ومواصفاته " الإسرائيلية "، استسلام تفرضه اتفاقيةٌ على نمط اتفاقية " أوسلو " والمعاهدة الأردنية ـ"الإسرائيلية "؛ وهو تحالف موجه من ثمة إلى لبنان وتلازم المسارين السوري واللبناني اللذين بقيا بعد فوضى مؤتمر مدريد وما نشأ عنه من مفاوضات ثنائية ومتعددة الأطراف، أسفرت عن استسلام عربي لـ " إسرائيل " وهرولة إلى أعتابها، واستفراد صهيوني ـ أميركي بمن يرفض من العرب السير في تلك الطريق، طريق الاستسلام. وهو تحالف موجه من بعد ضد العراق الذي يراد له أن يُقسَّم وأن يستمر الحصار المفروض عليه لإلحاق مزيد من الضعف والهزال به؛ وهو تحالف ضد إيران الدولة المسلمة التي تتخذ موقفاً مبدئياً شجاعاً من الصراع العربي الصهيوني وتناصره بوصفه صراع وجود وليس نزاعاً على حدود، وتؤيد حق الفلسطينيين في وطنهم، وتدعم المقاومة ضد الاحتلال، وتؤيد سورية في مواقفها الصلبة من الصراع مع الصهاينة، وفي نظرتها الداعية إلى التفريق بين الإرهاب والمقاومة ليستمر رفض الإرهاب ودعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني بكل الصور والقوى حتى التحرير، من دون خلط للأوراق وتقديم المقاومة المشروعة على أنها إرهاب مرفوض؛ إنه ضد إيران التي تحاول أن تمتلك قوة حقيقية تدافع بها عن نفسها، وضد كل من يحاول أن يمتلك قوة على أرضية الإيمان والعلم والتَّقَانَة، من العرب والمسلمين، وضد كل من يقول لا للظلم والظلام الأميركيين الصهيونيين.‏
    وهو تحالف موجه ضد الصحوة القومية والإسلامية الواعية معاً، تلك التي أخذت تعي مخاطر وأهداف المخططات الرامية إلى وضع العروبة في مقابل الإسلام، والإسلام في مقابل العروبة، وضرب العرب بالمسلمين، والمسلمين بالمسلمين؛ وصولاً إلى استنزاف كل تلك القوى وتشويه صورتها وحضورها وعقيدتها السامية السمحة، وتقديمها للعالم قوى متخلفة وعاجزة عجزاً شاملاً، ومن ثم الانقضاض عليها للقضاء على كل من العروبة والإسلام معاً وما يمثلانه حضارياً، وإقامة حوض صهيوني ومتصهين، على حساب الحضور التاريخي لحضارة العرب والمسلمين !؟!.‏
    إن التحالف البغيض، الذي قدَّم لنا ظاهرة الحقد البائس والكراهية والعداوة العمياء، وأراد وما زال يريد لنا : عرباً وأتراكاً، أتراكاً وأكراداً، عرباً ومسلمين ... مسلمين ومسلمين.. سنة وشيعة.. طوائف ومذاهب.. إلخ أن ندخل حمامات الدم ولا نخرج منها إلا جثثاً وأشباح أمم وحضارات وعقائد؛ إنه هو الذي ينبغي أن نقاومه بكل ما أوتينا من علم ووعي وقوة وشجاعة وإيمان. ولن يكون لمنطقتنا مستقبل ما لم تقض على مستقبله فيها، لكي تتخلص من الأحلاف والهيمنة الاستعمارية والحقد العنصري ومن المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني، الذي يرى أن أمنه واستمراره واستقراره في وطن الغير لا يمكن أن يكون إلا على حساب أوطانهم وكرامتهم وأمنهم واستقرارهم، ولا يمكن أن يدوم إلا في تهديد أمن أولئك الغير وتفاهمهم وتعاونهم ووحدة صفهم وموقفهم ورؤيتهم للأمور.‏
    فهل ترانا ندرك أمورنا قبل فوات الأوان، ونتعاون على درء الشر والعدوان وغائلة الدم والبؤس عن أوطاننا وأجيالنا قبل أن تقع الواقعة؟!‏
    إن ذلك ممكن، وذلك مطلوب؛ وهو واجب الساسة والعلماء والمثقفين والمفكرين والأدباء والمسؤولين، المخلصين لانتمائهم للجذر الحضاري والعقيدي والثقافي الذي يربط شعوب هذه المنطقة وبلدانها بأربطة أقوى من الحقد والشر والمؤامرة !!‏
    ألا فلنكشف العدو الحقيقي لأخوَّتنا وجوارنا وثقافتنا ومصالحنا، ولنوجه حرابنا إلى صدره !! ألا فلنقم، نحن المدركين لمخاطره علينا وعلى علاقاتنا التاريخية ومصالحنا الحيوية وجذورنا الثقافية، من سوريين وأتراك أولاً، وعرب وأتراك ثانياً ومسلمين من كل القوميات ثالثاً، وأبناء ديانات سماوية يعرفون حق الله وحق الناس ثالثاً؛ ألا فلنقم ببذل جهد علمي ومعرفي وكفاحي مخلص لكي ينتصر العقل والحق والعدل، ولكي تسود علاقاتنا وبلدننا حالةٌ من الأمن والاستقرار تطمئن فيها قلوبنا، ونستعيد في ظلالها حدود الرؤية الواعية لما أصابنا ويصيبنا يومياً على أيدي أولئك الذين حولوا الرب والقيم والروح والإنسان إلى سلع وتجارة ومنافع مادية ونزوع سلطوي وعنصري تسلطي، أزرى بالإنسان ووجوده، وشوه قيمه وصورته وحقوقه وحرياته، وجعل سماسرة لحمه ودمه وروحه يتقدمون مدافعين " بزهو " عن تلك الحقوق والحريات ليسلبوه كل شيء من دون أن يحفظوا له فعلياً أي شيء؟! فهل ترانا فاعلين؟!‏
    إنني أدعو بكل الوضوح إلى تواصل مباشر، وحوار معمَّق صريح وجريء بين معنيين بهذه الأزمة وبسواها من الأزمات التي تذكي نارها الصهيونيةُ والإمبريالية الأميركية، يقودنا إلى تشخيص موضوعي دقيق للواقع وتحليل أدق لمعطياته ومشكلاته وأزمات الناس فيه، وإلى تحمل مسؤوليات تاريخية حياله، وتكوين دائرة من التفاهم والتعاون يوسِّعها الحوار شيئاً فشيئاً ليسود تعاون وتفاهم أعمق وأوثق فيما بيننا من جهة، ونبذ للعدو الذي ينفث سموم العداوة فينا من بين صفوفنا من جهة أخرى. وإنَّا على ذلك قادرون، إذا ما سرنا على هدي العقل وأعلينا شأن المنطق وَسَمت منا الرؤية وسلمت العقيدة وصح العزم وصدقت النيات وأسرجنا مصباح العقل والقلب، وأعملنا فينا الحق والإيمان الحق، اللذين يقودان إلى رؤية كفَلَق الصبح أو أشد وضوحاً، ليسود ويتقدم ما هو في صالح كل فرد وكل شعب وكل بلد في العالم الذي يعنينا جميعاً، ويشكل مسؤوليتنا جميعاً؛ بوصفنا شركاء في الشرط الإنساني والمصير الإنساني .‏
    وقل : (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))‏
    صدق الله العظيم.‏
    الأسبوع الأدبي/ع630//10/10/1998‏
    الأسبوع الأدبي/ع631//17/10/1998‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      اتفاق " أوسلو " بعد خمـس سنوات
      يصعب مجاوزة الذكرى المشؤومة، ذكرى مرور خمس سنوات على توقيع اتفاق أوسلو/ 13 أيلول 1993 /، من دون وقفة عندها، فقد انقضت تلك المدة على المصافحة بين عرفات ورابين في حديقة البيت الأبيض بإشراف الرئيس الأميركي بيل كلنتون، وأصبح عمر الاستسلام الجديد الذي نبت على جذع كامب ديفيد خمس سنوات، فرَّخ خلالها :‏
      * المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية .‏
      * التحالف التركي الإسرائيلي برعاية أميركية ذاك الذي يضع الأردن في احتياطه الاستراتيجي .‏
      * اتفاقيات مؤتمر قمة شرم الشيخ، وتوابعها الأمنية.‏
      * مشاريع ثنائية، مكشوفة وسريَّة؛ صناعية وتجارية وسياحية وزراعية، بين أنظمة عربية وتجار وأصحاب رؤوس أموال عرب من جهة، وبين الكيان الصهيوني وأصحاب رؤوس أموال يهود من جهة أخرى.‏
      خمس سنوات عجاف حبالى بالوهم والمرض، قدن إلى أسوأ أنواع التمزُّق والتهافت والهرولة نحو العدو في الحياة السياسية العربية على الخصوص، ولم تنج من مصابها وأوصابها مجالات الحياة العربية الأخرى؛ وأدت إلى :‏
      ** قيام علاقات مباشرة، دبلوماسية وغير دبلوماسية، بين الكيان الصهيوني وبعض البلدان العربية، من مستوى سفارة/ الأردن/ إلى مستوى قنصلية وملحقية تجارية ومكتب علاقات/ المغرب، تونس، قطر، عُمان/ .‏
      ** عقد أربعة مؤتمرات اقتصادية في الدار البيضاء وعمَّان والقاهرة والدوحة، كلها كانت خدمة للاستعمار الصهيوني في فلسطين ولمصالح حليفه الأول في المنطقة : الولايات المتحدة الأميركية .‏
      ** عقد لقاءات ثقافية نظَّمها العدو، أو شارك في تنظيمها، أو كان وراء ذلك التنظيم، تحت غطاء اليونيسكو والاتحاد الأوربي على الخصوص؛ وهدفت إلى تحقيق اختراق في الثقافة العربية لمصلحة الصهيونية والإمبريالية الأميركية، وإلى تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وإعداد الذهن والوجدان العربيين للقبول به في النسيج العام والشامل للمنطقة .‏
      ** تجميد المقاطعة العربية لإسرائيل، عملياً، إن من الدرجة الثالثة أو أكثر، وجعل نظام المقاطعة عملياً حبراً على ورق، والتجرؤ على إصدار أحكام قاسية عليه وعلى من طبقه، من قبل الولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، وسكوت العرب على ذلك النعت والتوصيف.‏
      ** انتشار الدعوة لنظام " شرق أوسطي "، ينظر لإحيائه شمعون بيريس ويدعو تحت مظلته إلى حل جامعة الدول العربية، التي أسماها بوقاحة " جامعة الكراهية "، وإقامة جامعة شرق أوسطية على أنقاضها تكون أولى ضحاياها أو استهدافاتها الهوية الثقافية العربية وما تبقى من روابط لأبناء الأمة.‏
      وخلال هذه السنوات الخمس كشف العدو العربَ كما لم يكشفهم من قبل، واستخدمهم لأغراضه كما لم يستخدمهم من قبل، وجرَّهم إلى مواقعه كما لم يحدث أبداً من قبل : ممثلو دول عربية ثمان حضروا تشييع جنازة الإرهابي إسحق رابين في القدس المحتلة، وذرف بعضُهم عليه الدموع وعلى رأسهم الملك حسين؛ وممثلو ثلاث عشرة دولة عربية حضروا مؤتمراً لم يسبق له مثيل : من حيث سرعة الإعداد والانعقاد والأغراض ونوعية التوجه وتنوّع الحاضرين ومستواهم، هو مؤتمر قمة شرم الشيخ، الذي عُقد لمناصرة الكيان الصهيوني المحتل ورئيس وزرائه السابق شمعون بيريس بوجه المقاومة العربية للاحتلال، بعد عمليات الجهاد الإسلامي وحماس ضد قوى الاحتلال في فلسطين المحتلة، ولا سيما عملية بيت ليد؛ وقد أثمر ذلك المؤتمر فيما بعد مذابح منها "قانا"، التي مهدت بدورها لمجيء بنيامين نتنياهو وحزب الليكود إلى الحكم في دولة الإرهاب والاستعمار " إسرائيل "، التي تحكمها وتتحكَّم بقرارها عملياً المؤسسة العسكرية والأصولية اليهودية ـ الصهيونية صاحبة المشروع الاستعماري ـ الاستيطاني ـ العنصري، الذي ما زلنا ندفع غالياً جداً ثمن استهدافه لنا واحتلاله لأرضنا منذ نهاية القرن الماضي وطوال هذا القرن.‏
      منذ " أوسلو " حتى اليوم مرت أحداث وسالت دماء وضاعت آمال وتغيرت أشياء كثيرة، وقيل عن ذلك الاتفاق البائس الكثير، وأنفق في سبيل دعمه وبقائه الكثير وتضررت من وجوده دول وتنظيمات وشخصيات، وأعلن عن موته مرات ومرات ولكنه لم يشيَّع بعد، وما زال معْقِد رجاء ساسة وسياسة، " ثقافة ومثقفين" : عربياً وغربياً. وها هو الرئيس الأميركي كلنتون يحاول بعث الروح فيه من جديد، وبعث الروح في رئاسته بذلك من جديد أيضاً، بتنفيذ المبادرة الأميركية الرامية إلى انسحاب ثان من 13.1% من أرض الضفة الغربية، بعد إفلاسه الأخلاقي وفضائحه المعلنة، وتفنُّنه في الكذب، وممارسته لإرهاب الدولة ضد منشآت مدنية في السودان ومعسكرات تدريب في أفغانستان، وكل منهما دولة ذات سيادة وعضو كامل العضوية في الأمم المتحدة، التي تتحكم الولايات المتحدة بمجلس الأمن فيها وترفض أن تدفع استحقاقاتها المالية البالغة مليار وربع المليار دولاراً أميركياً ؟!.‏
      فما الذي جره علينا ذلك الاتفاق المشؤوم، اتفاق أوسلو، منذ يوم الاحتفال بتوقيعه في البيت الأبيض؟! وما الذي يجره علينا باستمرار كل احتفال في البيت الأبيض يتصل بمنطقتنا، من مآس وويلات وكوارث ؟!‏
      إنه ليس فقط :‏
      - الانقسام في صفوفنا، والانهزام، وبؤس الإرادة وتهافتها، ذاك الذي نرى أوضح أنموذج له في الساحة الفلسطينية داخل الأرض المحتلة وخارجها، حيث يستسلم للعدو من دَخل " أوسلو " ويكابر في المضي عبر جحورها إما لتحقيق التزام وارتباط قديمين مستحقي الوفاء، وإما لكي لا يقرَّ بأنه أخطأ وأثِمَ حين ساوم وتواطأ وفرَّط وحتى خان في مجال أقدس القضايا وأشرف النضال، قضية فلسطين والعمل على تحريرها؛ وحيث يتآكل جهد من هم خارج " أوسلو " من الفلسطينيين بمرور الزمن لأنهم يرون ما فيها من كوارث تحل بالشعب الفلسطيني وقضيته، ولا يستطيعون أن ينهوا أمرها ليبدأ مشروعهم المنقذ المحرِّر بقوة الشعب الفلسطيني والأمة العربية كلها !؟‏
      - وليس فقط الإعلان الصريح عن سياسة عربية قطرية منفردة، تعلي شأن نظامها وحكامها ومصالحها على الشأن القومي كله وعلى ما يتصل به من ثوابت وقضايا، وتبدي استعدادها للاستعانة بالشيطان وبكل قوة قهر وبطش في العالم عند الاقتضاء، ضد أمتها، وتتنازل عن مواقفها المبدئية وحقوق الأمة التاريخية المتعلقة بتلك القضية، إذا ما طُلب إليها أن تفعل ذلك، كما تبدي الاستعداد لأن تفتك بأمتها إذا ما كان ذلك شرطاً من شروط بقائها ودخولها تحت سقف الحماية؟!‏
      - وليس الضعف المتنامي، الذي يؤدي إلى أن تقبل معظمُ السياسات العربية بما تيسَّر من فتات حقها وحق الأمة، قبل أن " تخسر وجودها " منفردة ـ وكأنما لا تكون موجودة إلا بالتبعية لسواها، وأن كل تنازل جزئي للقريب أعظم وأصعب عندها من تنازلها عن استقلالها ومصالحها للغريب؟! ـ وتخسر حقاً لا تحميه قوة. متجاهلة حقيقة أن تخليها عن الحق يجرده ويجرد الأمة من القوة؛ فالقوة التي تنبع من جوهر الحق لا تكفي كما نعلم لحماية الحق، وإن كانت تشكِّل دافعاً قوياً للعمل من أجل بلوغه واستنقاذه، ولابد لذلك الاستنقاذ من إقبال المؤمنين بحقهم على تكوين قوة وإعمال إرادة لحماية ذلك الحق !؟‏
      ـ وليس الموقف المتراجع في المحافل الدولية عن كثير جداً مما حققناه بالنضال المر على طريق القضية الفلسطينية، ومنه نقض القرار 3379 الذي كرس الصهيونية حركة عنصرية؛ وعدم تجديد قرارات تتعلق بحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. والتفريط بما توصلت إليه المجموعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية من اعتراف دولي بالمنظمة بلغ أكثر من ثمانين دولة، كان معظمها يقطع علاقاته بالكيان الصهيوني أو يحد من تلك العلاقات استجابة للحق الفلسطيني والمطالب العربية العادلة !!‏
      لقد خسرنا ذلك كله بسبب " أوسلو " بالدرجة الأولى لأنها أعلنت : " سلام الفلسطينيين مع إسرائيل واعترافها بحقها في الوجود وأعطت للاحتلال شرعية قبل أن تحصل على شرعية وجودها وسيادتها؛ وخسرنا أيضاً ما هو أكبر وأعظم من هذا كله، جراء اتفاق " أوسلو " والمعاهدة الأردنية ـ الصهيونية، وجراء كامب ديفيد من قبلهما، وهو الانهيار العام الذي ما زال مستمراً في أعماقنا وفي مجتمعاتنا وأجيالنا وقيمنا وعلاقاتنا المبدئية بقضايانا القومية، وانكشفنا أمام أطماع الآخرين بنا، وهي أطماع تتعاظم ويتفاقم شرها يوماً بعد يوم.‏
      لقد أعلنا أن خيار " السلام " هو خيار استراتيجي عربي شامل، كان ذلك قديماً منذ قمة فاس التي أسست لهذا التوجه وأدت إلى هذه النتيجة في السياسة العربية. وأثبتت الدول العربية وما زالت تثبت، بالوسائل كلها وفي المناسبات جميعاً، أنها تلتزم بهذا الاختيار وأنها لم تنفض يدها منه؛ وتصر على الدخول في كل الامتحانات المفروضة عليها في هذا المجال، ويتجدد امتحانها و تتجدد محنُها بعد كل امتحان. وقد توقفت فعلاً عن كل حشد مادي ومعنوي للقوة المحرِّرة، وعن شحذ إرادة التحرير وعن رفعه شعاراً، بل أعطت ظهرها فعلياً لكل ذلك في معظم الأقطار؛ لأنها قررت ألا تحل صراعها مع الاستعمار الصهيوني بالقوة، بل أعلنت أنه لا يُحَلُّ أصلاً بالقوة!؟! وقد حولت ذلك الصراع إلى نزاع، وهذا يعني الكثير قولاً وعملاً وتوجهاً فكرياً وتربوياً وثقافياً وسياسياً واستراتيجياً، وأقل ما ينطوي عليه اختلاف المعنى وما يُبنى عليه من تغير الهدف : فالنزاع بين طرفين لا بد من أن يسفر عن اتفاق يحفظ " حق الطرفين "، لأنه يؤول إلى المصالحة على أرضية الاعتراف المتبادل وحق البقاء والاحترام المتبادلين، وتتم تسوية موضوع الخلاف ـ النزاع بينهما بالطرق السلمية ولو بعد عراك؛ بينما لفظ الصراع في العربية ومدلولاته في الوجدان والتفكير والتدبير، واستخدامه انطلاقاً من معطيات القضية ووقائعها، يعطي معنى خوض معارك مع العدو تؤدي في النهاية إلى حسم الصراع معه بالقوة، وقهره وإلحاق الهزيمة النهائية به أو الانهزام النهائي أمامه؛ فهو صراع يرتبط بالوجود أو بالحق الذي يمس الكرامة والوجود، وليس مجرد نزاع عادي مما ينشأ بين كاملي الحق والشرعية والوجود المتعايشين أزلياً في نطاق علاقة مشتركة مستقرة في جوار تاريخي ثابت ومستمر. فمثل هذا الوضع ليس هو القائم فعلاً بيننا وبين العدو الصهيوني؛ فهو قوة طارئة على المنطقة، ومغتصبة بالقوة للأرض، ومتسببة بطرد شعبنا الفلسطيني من وطنه وبحرمانه من إقامة دولته وممارسة سيادته في وطنه بسلام وأمان واستقرار؟! إنها قوة العدوان والإرهاب التي يكرسها الخضوع لها ولا تزيلها إلا القوة المدافعة عن حق وحرية وعدل، بوعي تام لمعاني ذلك ومتطلباته. ما بيننا والعدو الصهيوني صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود. وقد انزلقت بنا قمة فاس إلى هذا سواء باختيار استراتيجي واع لأهداف أو بمناورات تكتيكية أدت عملياً إلى انحرافات ندفع ثمنها اليوم غالياً جداً !؟.‏
      وقد تحول العرب عملياً منذ قمة فاس إلى معنى النزاع، مؤكدين بذلك حقاً "لإسرائيل " في البقاء بوصفها دولة في فلسطين، على حساب الحق العربي في فلسطين وحق شعبها في إقامة دولته المستقلة فوق أرضه المحررة؛ مكتفين بالحصول على بعض الأرض/ ما احتل منها في حرب 1967 /، وعلى بعض الحق/ شيء من القدس وشيء من فلسطين /، وبالمطالبة بعودة لبعض أو تعويض على بعض " اللاجئين الفلسطينيين "، وبتحقُّق بعض مظاهر السيادة الفلسطينية التي تقررها المفاوضات بين العدو والإرادة الإدارية الرسمية الفلسطينية المتهافتة، التي حُصرت " دولياً " بالسلطة الوطنية بعد اتفاق أوسلو. وهذا يعني عملياً وتشريعياً القبول بما يوافق عليه بعض الفلسطينيين وليس الفلسطينيون، وما يقبل به المجلس التشريعي " لسلطة الحكم الذاتي كما يسميها العدو " وليس المجلس الوطني الفلسطيني الذي يمثل الشعب الفلسطيني وميثاقه الوطني، كما يعني الالتزام بما تمارسه وترضى به وتوقع عليه سلطةُ عرفات وليس سلطة منظمة التحرير الفلسطينية، تلك التي غُيِّبت عملياً من الوجود الفاعل وغدت في جيب أهل " أوسلو "؟!‏
      وهذا الخيار العربي، المتمثل بحل الصراع بالوسائل السلمية، أدى إلى اختلال توازن القوى بشكل مطلق لمصلحة العدو، وإلى شطب كل تفكير "عربياً" بتحقيق ذلك التوازن، الذي من دونه تصبح كل المفاوضات والاتفاقيات نوعاً من الاستسلام والإذعان؛ كما أدى إلى إشاعة تراخٍ شامل في كل المجالات المتصلة ببناء القوة وإرادة القتال، وبالوعي التاريخي للقضية المركزية لنضال العرب الحديث، وإلى إضعاف الذاكرة وتجاهل دورها في تجديد الوعي بأبعاد القضية وأسبابها، تلك التي تربَّت عليها الأجيال العربية.‏
      وأصبح هناك خوف عربي حتى من أن يستشف العدو شيئاً من التوجه نحو حلول بديلة أو التفكير بها، وكأن العدو يقتنص الضمائر ويراقب السرائر ويجوس في القلوب ليثبت للعرب أنهم ليسو مع خيار السلام، إذا ما وجد لديهم تعلقاً ما بالحق أو بالكرامة أو بالعدل، والعرب يريدون أن يثبتوا له العكس بكل ما لديهم من تاريخ مشرف للشهامة؟! وهم يفعلون ذلك بتفكير استراتيجي جذري، كأنهم يرون في الصهيوني شريكاً حقيقياً في عملية " سلام "، أو يلمسون تعلقه " بسلام " يعمل له، نابذاً من أجله خيار القوة، وسياسة الاحتلال، والمشروع التوسعي ـ الاستيطاني، وممارسة العنصرية والقهر وسياسة الإبادة ضد أبنائهم وثقافتهم وممتلكاتهم وحقوقهم ومقدساتهم؟!‏
      وهم يصرون على التغاضي عما يفعل، وعلى ألا يروا أنه يثبت عكس ما يثبتون في كل دقيقة من دقائق الليل والنهار، وأنه لم يتوقف لحظة واحدة عن تعزيز قوته الشاملة بكل الوسائل، مستفيداً من الظروف والإمكانيات المتاحة كلها، داخلية وإقليمية ودولية : إنه يمتلك اليوم ويطوِّر أسلحة الدمار الشامل بكل أنواعها : النووية والكيمياوية والبيولوجية ويعزز ترسانته منها، إلى جانب امتلاك وإنتاج أنواع الأسلحة التقليدية المتطورة والمتفوقة؛ وهو يسابق الزمن في موضوع إنتاج الأسلحة النووية والمواد اللازمة لإنتاجها، ويقوم بإنتاج البلوتونيوم واليورانيوم المخصَّب وبتعشيره في منشآت قرب ديمونا، وينتج مواد أخرى ضرورية لإنتاج الأسلحة النووية بسرعة كبيرة، بعد أن أضطر ـ من باب الشكليات حسب تصريح مسؤوليه ومسؤولي حلفائه وحماته الأميركيين ـ إلى " عدم الاعتراض على حضور مناقشة موضوع ميثاق وقف إنتاج المادتين الانشطاريتين، وهو الميثاق المفضي عملياً إلى الانضمام لهذا النوع من الاتفاقيات الدولية، التي ستجبره مستقبلاً ـ حين ينضم إليها ـ على فتح مفاعل " ديمونا " أمام فرق التفتيش الدولية. وإلى أن يحين ذلك اليوم، الذي لا يبدو أنه قريب، يكون الكيان الصهيوني قد ضاعف من إنتاجه للأسلحة النووية، ومن قدرته على إنتاج المواد اللازمة لهذا النوع من الإنتاج مستقبلاً، وضاعف مخزونه منها، الذي لن يخضع للرقابة والتفتيش لأنه تم قبل التوقيع على الاتفاق، والعدو الذي يسابق الزمن في هذا المجال كما أسلفنا يؤكد توجهاً مفاده: " أن سياسة إسرائيل النووية تهدف إلى الحصول على أكبر قوة ممكنة من الردع من دون التعرض لضغوط دولية لنزعه "، ويقوم بما يحقق خططه الضامنة لاستمرار تفوّقه على العرب والمسلمين مجتمعين وعلى من قد يناصرهم في هذا المجال.‏
      أما نحن العرب الملتزمين بنوايا السلام، والمجبرين على تقديم صكوك البراءة من كل عزم على امتلاك أي سلاح من أي نوع يمكن أن ندافع به عن أنفسنا ضد أي عدو محتمل ـ وليس بالضرورة الكيان الصهيوني ـ والملاحقين بالتهم والحصار حتى لا نفكر تفكيراً عملياً أو نحوِّل التفكير العلمي النظري إلى تطبيقات عملية تمكننا من امتلاك العلم والتَّقَانَة؛ فلم نملك شيئاً من القوة في هذه المجالات، ولم نفكر بامتلاكها كهدف استراتيجي بعيد المدى، بل مازلنا نسعى بكل الوسائل لنثبت لعدونا المحتل لأرضنا أن تشريح نوايانا وسرائرنا وصفحات قلوبنا وتفكيرنا العلمي والعسكري والسياسي سيثبت أنها خالية تماماً من كل شيء يمت إلى ذلك بصلة، وفي ذلك برهان على وإثبات لحقيقة نوايانا المتجهة نحو " السلام " مع المحتل بوصفه اختياراً استراتيجياً نهائياً لا رجعة عنه، مع التغاضي التام عن توجهه المستمر نحو التوسع والعدوان وامتلاك الأسلحة التي تمكنه من الهيمنة على المنطقة، وإقامته للتحالفات التي تضمن له إعادة تشكيلها جيو ـ سياسياً والتحكم بمستقبلها إن استطاع ذلك ؟!؟.‏
      وفي المجال السياسي المتصل بموضوع الصراع، لم يعد يجمع العرب جامع ذو ثقل عملي مؤثر على تضامن فعال وتنسيق للمواقف، بَلْه اتخاذ القرارات وإعمال الإرادة السياسية في موضوع مواجهة حامية حاسمة، تضع حداً لخطط العدو في الاستيطان وتهويد القدس والتخطيط لتدمير المسجد الأقصى وبناء "الهيكل الثالث" على أنقاضه، والاستمرار بممارسة " إرهاب الدولة " ضد المواطنين العرب في الأراضي المحتلة، لاجتثاثهم نهائياً من أراضيهم أو إبادة إرادتهم وهويتهم العربيتين، وتكثيف الاستيطان -الاستعماري في أراضيهم برعاية ودعم أميركيين لا حدود لهما.‏
      لقد أهلك الأنظمةَ العربية عاملُ انعدام الثقة فيما بينها، لا سيما بعد حرب الخليج الثانية واتفاقي " أوسلو " ووادي عربة، وأصبح عقد قمة عربية من أي نوع شبه مستحيل، إلا إذا كانت لإنقاذ اتفاق " أوسلو " البائس، وإعادة تسليح من يستسلمون لنتنياهو بموافقة من الأنظمة العربية على خطواتهم التراجعية واتفاقياتهم الاستسلامية؟!!‏
      لقد حصلت السلطة الفلسطينية، بموجب اتفاق " أوسلو "، على 60% من أراضي غزة؛ ونحن نعرف أن غزة غارقة في الصحراء والبحر على نحو ما، فأراضيها ليست زراعية ولا تملك أساطيل للصيد البحري، وقد حرمت حتى الآن من المرفأ والمطار والطريق الآمنة التي تربطها بالضفة الغربية، وهي من وعود أو استحقاقات " أوسلو " وأخواتها؛ وحين تحصل على ذلك حسب التفسير المعروض " إسرائيلياً " لاتفاق " أوسلو "، فإن كلاً من المرفأ والمطار والطريق الآمنة سوف تبقى تحت السيطرة الأمنية التامة " لإسرائيل "؟! لقد أضفنا إذن مرفأً ومطاراً وطرقاً آمنة للكيان الصهيوني فوق ما لديه من ذلك، ووضعنا كل حركتنا تحت رقابته الشاملة؟! وبهذا المعنى ألا تتحول " أوسلو " إلى قفص توضع فيه قوة التحرير الفلسطينية تحت الرقابة الصهيونية، بعد أن كانت بعيدة عن تلك الرقابة نسبياً قبل الاتفاق المشؤوم ؟!.‏
      وحصلت السلطة أيضاً على 24% فقط من أراضي الضفة الغربية، تديرها إدارة مدنية وقد تحصل على 1 % بعد تنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب، وليس لها على تلك الأرض سيادة أو سلطة تامة من أي نوع؛ وتستطيع القوات الصهيونية الدخول إلى أي مكان تشاء في أي وقت تشاء، وأن تستخدم الشرطة الفلسطينية دليلاً وأدوات لحماية أمن الاحتلال، ولتنفيذ عمليات أمنية ضد الفلسطينيين الرافضين " لأوسلو " جزئياً أو كلياً.‏
      وما حصلت عليه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية عملياً بموجب " أوسلو " هو : مدن وقرى معزولة عن بعضها بعضاً، تشرف على بعضها مستعمرات يهودية وتقطعها عن بعضها بعضاً معسكرات وطرق ومستعمرات لقوة الاحتلال؛ فهي محميات أو " غيتوات ـ معازل " عربية عملياً، وتقع تحت رحمة العدو في أي وقت.‏
      أما موضوع الأمن والسيادة والحدود فهو شأن صهيوني تماماً حسب الاتفاق المشؤوم، حيث يعلن العدو دائماً أن حدوده هي نهر الأردن من الشرق والحدود الدولية التي تفصل بين مصر وقطاع غزة عملياً من الجنوب.‏
      والكيان الصهيوني لا يكتفي بحصر السلطة الفلسطينية في حيِّزين : جغرافي وإداري بائسين، بل يطالبها باحترام، ويشهر بها لعدم احترام، المطلب الأول والأهم الذي اشترطه عليها وألزمها به بموجب اتفاق " أوسلو " وسلح شرطتها من أجل تحقيقه، وهو تصفية ما أسماه " بالإرهاب الفلسطيني " وتدمير البنية التحتية لكل من الجهاد الإسلامي وحماس وبقية الفصائل التي تسلك طريق المقاومة وتنادي بسلوكه؛ أي أن الكيان الصهيوني صمم " أوسلو " والسلطة المنبثقة عنها لتقوم بإشعال حرب أهلية فلسطينية، وإلا فهي تخل بالتزاماتها ولا تنفذ ما تم الاتفاق عليه؟! وهو يدعو عرفات إلى الاستمرار في ممارسة ملاحقة ساخنة، دائمة ومكشوفة، ضد الشعب الفلسطيني الذي يرفض " إسرائيل "، ليسلمه قطعة من أرض أو وثيقة حسن سلوك صهيونية وليوصي بإعطائه حفنة من الدولارات؟! ومن المدهش حقاً أن سلطة الحكم الذاتي وافقت على تسمية المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال إرهاباً، وتقوم بالتنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني لإبطال عمليات المقاومة وملاحقة عناصرها، كما تعمل على إضعاف بنية المقاومة وتقوم بقصقصة أجنحتها من آن لآخر، حسب برنامج دوري مدروس، وتلهث خلف الرضى الصهيوني في كل مجال؟!!‏
      والكيان الصهيوني يجدد الحصار على السلطة والمقاومة وعلى المدن والقرى من آن لآخر، ويتحكم بطاقة العمل العربية وبرغيف أبناء الضفة والقطاع وبمستقبلهم وأحلامهم، أولئك الذين يحققون مهزلة العصر المبكية رغم أنوفهم، إذ يدعمون إنتاج العدو ودخله القومي بعملهم، ويستهلكون سلعه، ويبنون له المستوطنات على أرضهم وبأيديهم، وينفذون مخطط التوسع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني الذي " يناضلون كما ناضل آباؤهم وأبناء أمتهم للتخلص منه والقضاء عليه "، فهل بعد هذا عبثٌ ولا معقول، وهل يعيش سيزيف التاريخي أو هل عاش أصلاً خارج هذا الإطار الذي يرتسم أمامنا بأساه وبؤسه القبيحين؟!! إن " أوسلو " لم تحررهم، ولم تحرر لقمتهم، ولم تهيئ لهم جسراً يربطهم بأمتهم أو حتى ببعضهم بعضاً في جو من الحرية والأمان والاطمئنان، بل عزلتهم نهائياً عن التواصل مع الأمة كما عزلت نفسها عن كل صلة وتنسيق جاد مع الأطراف المعنية " بعملية السلام "، ودخلت مع السكان في قفص يقفله الاحتلال ويحرسه جيداً ويستنزف من هم فيه دائماً ويعرضه ومن فيه على العالم موحياً بتحقق سلام يستحق عليه المكافأة. والوضع الفلسطيني، أو بالأحرى وضع العمال الفلسطينيين في هذا السياق يذكرني بصورة رسمها شكسبير في إحدى مسرحياته لحصان أصيل طُعِن في بطنه والتفَّت أمعاؤه على حوافره فكلما حرك أطرافه أكثر مزق أمعاءه أكثر، فازداد ألماً واقتراباً من نهايته؟!‏
      في اتفاق فرعي لأوسلو - وما أكثر اتفاقياتها الفرعية التي لا أظن أنها يمكن أن تنتهي - سُمِّيَ اتفاق الخليل، يتحكم أربعمئة صهيوني عملياً بحياة مئة وعشرين ألف عربي فلسطيني وبمستقبلهم؛ ويضعون الشرطة الفلسطينية، التي لم توضع أصلاً للدفاع عن نفسها ولا عن أهل الخليل، إذ سلح كل شرطيين ببندقية "؟!! "، يضعونها في خدمة أمن المستعمرين "المستوطنين "؛ وهم يسيطرون عملياً، مع قوات صهيونية تحميهم، على الحرم الإبراهيمي، ويجعلون هذه المدينة التاريخية العريقة تنهض من حصار لتدخل في حصار يُفرض على أبنائها حتى لا يبقى لهم أمل أو عمل أو حل أو إرادة أو انتماء، فأي شيء يعني اتفاق الخليل بعد هذا، وماذا سيكون بعد التوسع الاستعماري الذي تقرر في تل الرميدة ـ وفي قول : الرميضة ـ وما يأتي من توسع استعماري صهيوني؟! وهل هو اتفاق منسجم مع نصوص اتفاق " أوسلو " البائس أصلاً، وهل الخليل بهذا الوضع مدينة فلسطينية محررة ؟!‏
      لقد خلق اتفاق " أوسلو " مشكلة على الصعيد الداخلي في المدن كلها، وأكبر مشاكله وضحاياه ستكون مدينة القدس، التي أرجئ شأنها ـ وهو الأعظم ـ إلى المرحلة النهائية من مراحل الاتفاق؛ وحين يتم الوصول إلى المرحلة النهائية يكون موضوع القدس قد انتهى عملياً لمصلحة الكيان الصهيوني بخلق واقع جديد يملي حضوره ووقائعه على الجميع ويفاقم المشكلات، لا سيما في ظل الإعلان المتجدد من قبل العدو الصهيوني وحليفه الأميركي بأن القدس " عاصمة موحدة لإسرائيل وستبقى كذلك إلى الأبد " !؟ وفي ظل الدفع السياسي والدبلوماسي اللذين تقدمهما الأوساط السياسية في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما في مجلسي الكونغرس ـ تقرباً وتزلفاً لإسرائيل وللحركة الصهيونية، وبضغط مستمر من اللوبي الصهيوني الأميركي وقلبه " إيباك " ـ بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وممارسة الضغط على الدول الأخرى لنقل سفاراتها إليها.‏
      لقد تقرر عملياً وضع الأماكن المقدسة في القدس منذ توقيع إعلان واشنطن بين الملك حسين وإسحق رابين وتوقيع اتفاقية وادي عربة، التي أنتجت المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية، ومن يَعُدْ إلى الخطابات والرسائل المتبادلة والإشادات بالنسب الهاشمي للملك وبالدور التاريخي الذي له وللملك عبد الله من قبله، يدرك أن مساحة بحجم الفاتيكان أو أكبر قليلاً في القدس، تضم الأماكن المقدسة، ستكون تحت تصرفه، مراعاة لكل التاريخ السابق من التعاون والتعامل، والعلاقات الحميمة، والدور المميَّز، واللاَّفتات " الطيبة " : التي منها زيارة الملك لغولدا مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني يوم 26 أيلول 1973 ـ أي قبل حرب تشرين، أكتوبر بعشرة أيام فقط ـ ليخبرها بنية المصريين والسوريين شن هجوم على " العزيزة إسرائيل " ؟!‏
      أما القدس العاصمة لسلطة الحكم الذاتي ـ أو الدولة الفلسطينية المقبلة ـ فقد تقرر مصيرها هي الأخرى في اتفاقيات تمهيدية ثنائية شبه سرية تمت بين مسؤولين " إسرائيليين " وآخرين من رموز اتفاق أوسلو فلسطينياً " أبو مازن "، وفي منشآت " أمر واقع وحقائق على الأرض " تم إنجازها أو البدء بذلك الإنجاز؛ ويجري خلق الأمر الواقع الذي يملي ذلك الاتفاق بوصفه حقيقة على الأرض ويكرسه جغرافياً وسياسياً. وهو ببساطة ينطوي على كذبة كبرى يقوم بابتلاعها المفاوض الفلسطيني ويسوقها : فلسطينياً وعربياً وإسلامياً ودولياً؛ الغرض منها ستر العورة وحفظ " ماء الوجه " بالنسبة لأهل اتفاق " أوسلو " في الجانب الفلسطيني.‏
      وقد بدأ تنفيذ ذلك فعلاً في خطط متكاملة منها :‏
      ـ إقرار بناء مستعمرتي " جبل أبو غنيم " و " باب العمود " في القدس، واستملاك مواقع أخرى باسم مواقع آثارية، والقيام بتهويدها .‏
      ـ استمرار مسلسل تهويد القدس بطرد سكانها الأصليين العرب، والاستيلاء على بيوتهم، وحرمانهم من أن يكونوا في تعداد سكان المدينة بوسائل مختلفة منها موضوع البطاقة، وشراء الأرض، ومنع تراخيص البناء، وسوى ذلك من أساليب .‏
      ـ إقرار المخطط التنظيمي الجديد للمدينة الذي يضم إليها " مستعمرات يهودية " مقامة أصلاً في أراضي الضفة المحتلة عام 1967 لحماية تلك المستوطنات وجعلها سواراً يهودياً حول القدس، وزيادة عدد سكانها اليهود؛ وفي مرحلة قادمة من مراحل تنفيذ المخطط سيضاف إليها قرى عربية أخرى منها قرية " أبو ديس " التي اتفق على أن تكون هي العاصمة المستقبلية للسلطة الوطنية الفلسطينية، وستصبح جزءاً من القدس الموسعة في إطارها البلدي الجديد، حيث تبقى موحدة!؟ وبذلك يتحقق ادعاء لسلطة اتفاق " أوسلو " بأنها اتخذت من " القدس " عاصمة لها، وهي قدس بلدية الصهيوني " ايهود أولمرت"، ويبقى القرار الصهيوني المعلن بصفاقة متناهية وإصرار بغيض نافذاً: " القدس مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل" !؟.‏
      ما من شك في أن هذا الوضع سيخلق مشاكل مضافة إلى مشاكل اتفاق "أوسلو" وهو أصلاً بؤرة مشكلات،وسيفجر خلافات عربيةـ عربية ذات أرصدة دموية بالغة السوء في الذاكرة والوجدان العربيين؛ولكنه يلبي الأغراض الاستراتيجية للكيان الصهيوني وحليفه الأميركي ومن يتعاونون معهما استراتيجياً في المنطقة: خلافات مستمرة بين العرب، وصراعات دموية متجددة إن أمكن فيما بينهم، تجعلهم إلى مزيد من الضعف والفرقة والتآكل والغياب، وتقيم بينهم وبين مستقبلهم ورصيدهم البشري في العالم الإسلامي سداً منيعاً ؟!‏
      ربما كانت أهم جبهات المواجهة التي فتحها اتفاق " أوسلو " هي الجبهة، وهي جبهة تم التنبه لأهميتها ولضرورة زج قوى مناصرة لمسار الاستسلام وللصهيونية والإمبريالية الأميركية فيها، بعد استقراء تجربة التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد حتى اتفاق " أوسلو "؛ حيث تبيَّن لأولي الشأن أنه ما لم تحتضن الثقافةُ ما يروجون له من " سلام " فلن يستقر في الأفهام والضمائر والأوساط الشعبية، وسيبقى ما يرسمون حبراً على ورق واتفاقيات فوقية رسمية بيروقراطية، تقتلعها رياح ثورات الشعوب؛ وأنه لن يتغير واقع الحال في المنطقة من أمة عربية ترفض " إسرائيل " وترفض تطبيع العلاقات معها إلى أمة تنسى فلسطين وتجد من الطبيعي أن تتعامل مع " إسرائيل "، وأن ترى في الاعتراف بوجودها حلاً منطقياً لما يسمى بأزمة الشرق الأوسط !؟؟.‏
      لقد تم التخطيط لوضع الثقافي والسياسي العربيين في سلة الأميركي ـ الصهيوني، ووضعت خطط لتسويق " أوسلو" ثقافياً، أي تسويق " إسرائيل " وسلام الاستسلام والاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها. وتم توظيف ثقافة ومثقفين لهذه الغاية، ورصدت أموال للتأسيس لما سمي " ثقافة السلام بدلاً من ثقافة الحرب "، وعقدت من أجل ترويج ذلك مؤتمرات وندوات ولقاءات من أبرزها : غرناطة وكوبنهاغن، وأقيمت في إطار ذلك تجمعات وجمعيات وأندية و" صالونات " ثقافية تعمل على ترسيخ هذا التوجه وتفعيل أدائه، مثل : " جماعة القاهرة من أجل السلام ـ جمعية أبناء إبراهيم ـ بذور السلام ـ بناؤون من أجل السلام ـ صحفيون من أجل السلام ـ المرأة في خدمة السلام..إلخ " كما أقيمت محطات فضائية لبث هذا النوع من الفكر، ودور نشر وصحف لترويج كتب وأفكار وآراء وكتَّاب وباحثين يخدمون هذا التوجه، ومراكز أبحاث لتقديم محتويات أحشاء المجتمع العربي للمخططين الصهاينة والغربيين العاملين على خدمة مشروع "إسرائيل" التوسعي وسلامها. وكل هذا الجهد يموَّل من الغرب وتقف خلفه شبكات تغذية صهيونية وغربية متكاملة، وأجهزة استخباراتية ذات خبرة عريقة في هذه المجالات.‏
      ويتم التركيز في المقابل على تشويه صورة من يقاوم هذا الاتجاه، ويتم تقويمه وتقديمه على أنه اتجاه معادٍ للسلام وقوة ظلامية سلفية، وأصولية قومية أو إسلامية إرهابية، وقوى خارج دائرة الرؤية والعصر والتاريخ، إلى آخر ما في جعبة أولئك من تهم لتشويه صورة الأشخاص والتيارات وأفكارها وإضعاف تأثيرها .‏
      وفي هذا المنحى أيضاً يتم التركيز على تشويه أدب المقاومة والنيل من كل الإنتاج الذي يحيي حقائق الصراع العربي الصهيوني ويركز على ثوابته ويحافظ على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين، وعلى توجه ثقافي عام وتربوي خاص : يضع فلسطين والتضحية من أجلها وقضيتها المركزية من نضال العرب الحديث على رأس الخطط التربوية والاهتمامات الثقافية النظيفة الجادة والمسؤولة.‏
      إن اتفاق أوسلو في نهاية المطاف جزء من صيغة سياسية ترمي إلى فرض الاستسلام على العرب، وإنهاء أهم مراحل زرع المشروع الصهيوني في وطنهم، وجعله يتمتع بكل مقومات القوة والبقاء والشرعية والهيمنة؛ كما يرمي إلى أن يكون ذلك الكيان صاحب دور وتأثير وتقرير في مستقبل المنطقة، وفي إعادة تكوين خريطتها الجيو ـ سياسية. ولأن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون تدمير الهوية والإرادة المقابلتين وكل صور المقاومة له من العرب، فإن العمل من أجل تحقيق ذلك لا بد أن يتكامل ويشمل السياسة والثقافة والاقتصاد ومقومات القوة المادية والروحية للعرب والمسلمين على حد سواء، نظراً لالتقاء الجميع حول موضوع القدس، الحلقة المركزية في هذه السلسلة الذهبية من سلاسل الأحداث العالمية.‏
      إن اتفاق أوسلو، بعد وضعه في التداول لمدة خمس سنوات، ليس عمله رديئة ينبغي سحبها من السوق فقط، بل كارثة على القضية الفلسطينية والأمة العربي، ولم تقدم سوى روح الهزيمة والتآمر على الحق والمقاومة والمشروع القومي المنشود، وهي في أحسن حالات تنفيذ نصوصها من المصائب التي تجعل أربعة ملايين فلسطيني على الأقل يفقدون وطنهم إلى الأبد، إذا ما أُخد بهذا النوع من " سلام الاستسلام".‏
      وإن ما قدمه أهل " أوسلو " ووادي عربة من العرب للعدو الصهيوني لا يقدر بثمن، وإن التوجه الصهيوني ـ الأميركي يريد أن يعمم أنموذج " أوسلو " وروحه الاستسلامي الانهزامي الشرير على العرب، الذين لم يتوصلوا بعد إلى اتفاق مع الكيان الصهيوني !؟ فهل يتم ذلك ؟؟ هل ينجح أنموذج أوسلو ويعمم؟؟ هل ينسى العرب قضيتهم ويقبلون " أبو ديس " بديلاً للقدس؟! هل ينتهي المدان القومي والإسلامي المرتبطان نسبياً بالقضية الفلسطينية وما يدور حولها من صراع، ويودَع المؤمنون بهما قفص الاتهام بصفة " إرهابيين، " ثم يلقى بهم خارج العصر والتاريخ؟! هل يبقى العالم على هذه الصيغة من البؤس واليأس في ظل القوة الأميركية المتغطرسة العمياء المفلسة روحياً وخُلُقياً؟! هل ينتهي تاريخ القضية العربية على هذا النحو البائس؟! كل هذه الأسئلة تتفاعل في النفس ويطرحها العقل؛ ولكن المنطق يقول إن التاريخ لا ينتهي، وأنه يصنعه القادرون على صنعه وليس أولئك الذين يكتفون بقراءته، وإن الأمم العريقة والحضارات الراسخة، القائمة على مبدئية علمية وخلقية متينة لا يمكن أن تنتهي وتندثر. والتاريخ يفيدنا أن العروبة والإسلام والحق والحرية والوطن والكرامة ليست من المعطيات العابرة في التاريخ .‏

      الفكر السياسي /ع3//خريف1998‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        ماذا في اتفاق واي بلانتيشن؟!
        في يوم الخميس الثاني والعشرين من تشرين الأول /أكتوبر/ 1998 من المفترض أن يحتفل البيت الأبيض الأمريكي بتوقيع اتفاق "واي بلانتيشن" بين السلطة الفلسطينية وحكومة الكيان الصهيوني اليمينية، وهو الاتفاق الذي بدأ الحديث حول موضوعه منذ ثمانية عشر شهراً؛ وكان من المفترض أن كل ما يتعلق به هو موضوع اتفاق في "أوسلو"، التي يحتاج كل بند فيها إلى اتفاق واحتفال، يأتيان بعد مفاوضات شاقة لتنفيذ ما تم الاتفاق والتوقيع عليه.‏
        هذا الاتفاق يزحزح مساحة 13.1% من الضفة الغربية على مواقع الخريطة حسب اتفاق "أوسلو" ليصبح منها 1% فقط تحت تصرف السلطة الفلسطينية في الفئة آ والباقي بين فئتي (ب،حـ)؛ وكل الأراضي التي تديرها السلطة هي عملياً تحت السيطرة الفعلية /أمنياً/ للكيان الصهيوني، وتدخل في نطاق ما يسميه "السيادة" على الأرض وفي الواقع السياسي، في ظل غياب دولة فلسطينية، وهزال حق تقرير المصير الفلسطيني فوق الأرض الفلسطينية ؟!.‏
        ولا تشكل هذه المساحة حقيقة الاختلاف الذي عطَّل تنفيذ مرحلة الانسحاب الثانية كل تلك المدة، فعرفات الذي كان يطالب بانسحاب من 33% من المساحة في هذه المرحلة من مراحل "أوسلو" قَبِلَ المبادرة الأميركية، التي قالت بانسحاب من 13.1% فقط، ولهث شهوراً ليتحقق له ذلك من دون دفع أتاوات أخرى لنتنياهو؛ ولكنه لم ينجح وخضع في النهاية لمطلب اليمين الصهيوني ودفع وخضع ووضِع في موقع لا يحسد عليه فيما يتعلق بتنفيذ بقية الاتفاق المشؤوم -اتفاق أوسلو- وبالمرحلة النهائية منه على الخصوص؛ ولولا تهديده بإعلان الدولة الفلسطينية في الرابع من أيار 1999 ودعم الدول العربية ودول أخرى لهذا الموقف لما تم تحرك حثيث لتنفيذ اقتراح إدارة كلنتون بانسحاب من 13.1% لا سيما بعد ضعف تلك الإدارة الناتج عن فضائح الرئيس.‏
        لقد كان الاختلاف على أمور أخرى، أكثر أهمية وأشد خطراً على الشعب الفلسطيني من موضوع بقاء تلك المساحة تحت الاحتلال المباشر- وهي في الأحوال جميعاً تحت الاحتلال الصهيوني- وقد تحقق من تلك الأمور ما هو في الجوهر لمصلحة الكيان الصهيوني من مطالب وشروط، فالانسحاب من المساحة المشار إليها /13.1%/ الذي سيتم خلال ثلاثة أشهر سوف يتم متوافقاً مع برنامج لتصعيد أداء السلطة الفلسطينية لمقاومة ما يسميه الطرفان "الإرهاب" بنسبة 100% من جهد السلطة، ويتوقف الانسحاب في كل مرة على تنفيذ السلطة لهذا الالتزام، الذي ستشرف على تنفيذه لجنة ثلاثية: أميركية - "إسرائيلية" - فلسطينية.‏
        وهو المطلب القديم -الجديد- المتجدد الذي اشترطه الكيان الصهيوني على سلطة عرفات في اتفاق "أوسلو" وزودها بالسلاح من أجل تنفيذه : تصفية البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية : حماس والجهاد الإسلامي على الخصوص.‏
        ومعنى هذا الشرط والالتزام به إعلان حرب أهلية بين الفلسطينيين، حرب بالوكالة تقوم بها السلطة ضد الشعب الفلسطيني الذي أقرت السلطة ـ بكل أسف ـ بأن مقاومته للاحتلال غير مشروعة، وأنها "إرهاب" مدان، ينبغي أن يُجتث ويُصفَّى القائمون به على هذا الأساس من التقويم المخزي بكل المقاييس. وقد تضمن الإعلان المشترك الذي أصدره كل من عرفات ونتنياهو هذا الأمر وما انطوى عليه من أحكام والتزامات بشكل واضح بعد عملية "بئر السبع" التي قام بها سالم صرصور وأدت إلى جرح أربعة وستين شخصاً في موقف للحافلات بينهم أكثر من عشرين عسكرياً صهيونياً يوم 19/10/1998 وهذا هو نص الإعلان:‏
        " يثبت الهجوم الإرهابي الذي وقع اليوم في بئر السبع الأهمية الكبرى والحاجة الملحة إلى مكافحة الإرهاب والسعي إلى تحقيق السلام. إننا عاقدون العزم على بذل كل ما هو ممكن لمكافحة الإرهاب. إننا نتعهد بالتعاون ضد تهديد الإرهاب وندرك أن في مكافحته مصلحة أساسية للطرفين، فالتحرر من الإرهاب والعنف هو شرط أساسي لسلام دائم.‏
        ونتفق في الوقت نفسه على عدم الاستسلام لجهود المتطرفين للقضاء على أمل السلام والأمن اللذين يحدوان شعبينا. إننا نتفق معاً اليوم على مضاعفة جهودنا للتوصل إلى اتفاق يفضي إلى سلام آمن ودائم ".‏
        وعلينا أن نتوقع خلال الأشهر القادمة سيلاً من الدم والبؤس والقهر والاعتقال والاضطهاد، لا سيما من السلطة الفلسطينية ضد منظمات فلسطينية رافضة للاحتلال، سيلاً من الدم يفضي إلى "سلام آمن ودائم" بالمفهوم الصهيوني -الأميركي- العرفاتي المفروض بالقوة على الشعب الفلسطيني، وقد بدأ التنفيذ باعتقال ما يقرب من عشرين فلسطينياً من حماس في الخليل بعد تلك العملية.‏
        وقد زعم بعض مسؤولي السلطة الفلسطينية في "واي بلانتيشن" أن ادعاءات نتنياهو المتصلة بموضوع الأمن وتركيزه عليه في المرحلة الماضية، كانت للاستهلاك الداخلي، لأن التنسيق الأمني كان مستمراً؛ ولكن الواضح أن ما يفهمه نتنياهو من موضوع الأمن هو القضاء النهائي على البنية التحتية للشعب الفلسطيني الذي ينتصب مطالباً بأرض ووطن وحق تقرير مصير وسيادة تامة، وهو الكابوس الذي يطلب نتنياهو من سلطة عرفات أن تزيله عن صدره ليتخلص من الجميع فيما عدا بعض المختارين وعلى رأسهم عرفات، الذي رفض بيغن تصفيته في بيروت عندما كان في مرمى نار قواته التي اجتاحت بيروت /1982/ وهو أمر له دلالاته.‏
        أما الأمر الثاني الذي يلي في الأهمية موضوع الأمن، بالمفهوم الصهيوني للأمن كما أشرت إليه، فهو تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني ولا سيما المواد التي تتعلق بتحرير الأرض وإقامة الدولة وبجوهر الصراع مع العدو الصهيوني وطبيعة ذلك الصراع. فقد تعهدت السلطة بتعديل الميثاق وهذا القرار يتخذه المجلس الوطني الفلسطيني وليس المجلس النيابي للسلطة الوطنية الفلسطينية ولا الهيئات الأقل من ذلك المجلس؛ وعلى ذلك لم تكتف حكومة نتنياهو بما سوّغه بيريس وأقره ودعاً إلى الأخذ به، حينما وافق على أن الميثاق عدّل ولا حاجة لإحياء المجلس الوطني الفلسطيني الذي "مات وشبع موتاً" على حد تعبيره.‏
        ومطالبة نتنياهو بذلك وموافقة عرفات عليه يعني انتزاع اعتراف واسع من الشعب الفلسطيني كله ممثلاً بالمجلس الوطني بحق تاريخي "لإسرائيل" في الوجود على حساب حق الشعب الفلسطيني في الوجود والسيادة فوق أرضه التاريخية. وسيفتح هذا المطلب حرباً بين الفلسطينيين المنفيين من دائرة القرار والوجود والحق، حسب أوسلو، وبين من يريد أن يفرض عليهم أو باسمهم مثل هذا القرار، قرار تعديل الميثاق.‏
        ولكن أليست هذه الحرب قائمة على نحو ما، كما قد يقول البعض، وأقول إنها في دائرة أقل بكثير مما ترغب فيه الصهيونية، وفي مستوى لا يبلغ حدود تبادل الموت وهو ما تتطلع إليه وتطالب به عملياً. ومعنى الإقرار بملاحقة "الإرهاب"، حسب أوسلو وبيان عرفات -نتنياهو في "واي بلانتيشن"، ملاحقة كل من يقول بالميثاق الوطني الفلسطيني الأصلي وبتحرير فلسطين وبالقضاء على الوجود الصهيوني فيها. وعندما يتحقق إقرار التعديل تصبح الملاحقة واجب قانوني لا تفرضه اتفاقيات الإذعان فقط وإنما ميثاق منظمة التحرير الذي أقرته أعلى سلطة تشريعية للشعب الفلسطيني؛ ويصبح الخروج على الميثاق المعدل، أي التمسك بالميثاق الحقيقي، نوعاً من الخروج على الشرعية الفلسطينية ودساتيرها وقوانينها وشرعية مؤسساتها !؟ وهذا يقود إلى تأثيل شرعية سلطة الحكم الذاتي على حساب شرعية منظمة التحرير والشعب العربي الفلسطينية معاً، كما يقود إلى نفي البعد القومي للقضية بكل المقاييس بعد نفي كل من يقول بهذا البعد من الفلسطينيين الذين لا "يعترفون بحق إسرائيل في الوجود والسيادة فوق أرضهم، بموجب الميثاق"؟! ومن أجل هذا كله يؤكد الكيان الصهيوني ويؤكد قادته على أن يتم تعديل الميثاق من قِبَل السلطة الأعلى للشعب والمنظمة، فضلاً عن السلطة التي تزحف أصلاً على بطنها نحو عتبة العدو، ولا يكاد يقبلها متشددوه، وقد سمعنا عن الفصل المغرق في هزله وهزاله وإذلاله، ذاك الذي تم في "واي بلانتيشن" بين عرفات والإرهابي المجرم ارئيل شارون سفاح قبية و"صبرا وشاتيلا"؛ فقد أدى عرفات تحية عسكرية بانضباط واحترام للجنرال تمهيداً لمصافحته ولكن الجنرال تجاهل "العسكري" عرفات وصافح أبا مازن، وعلى مائدة المفاوضات لم يوجه له كلاماً واعتبر "أن جلوسه إلى الطاولة في مواجهة عرفات تنازل كبير منه"، فهل يعدل هذا الإذلال من إذلال؟! وهل من تسلَّم ملف الوضع النهائي في اتفاق أوسلو، بتسلمه حقيبة الخارجية في الكيان الصهيوني، على استعداد لأن يعطي سلطة عرفات شيئاً؛ وهو الذي يقف بكل الصلف والحماسة والشراسة وراء الاستيطان والتهويد والتطرف والإرهاب والقتل والتدمير الشامل للشعب الفلسطيني، ابتداء من الفرد وانتهاء بالمجموع، وابتداء من الروح والإرادة وانتهاء بالجسد كله؟!‏
        ومن الأمور الأخرى التي أفضى إليها الاتفاق "العتيد" أمر مطار رفح وميناء غزة و"الطريق الآمنة" التي تصل بين غزة ومدن الضفة الغربية ـ المعازل البشرية عملياً ـ وما يتعلق بالمنطقة الصناعية. وكل ما يتعلق بالقضايا الجوهرية وقضايا الأمن والسيادة في هذه المواقع هو "للإسرائيليين"، وتبقى صلاحية التسيير بمستوى البلديات تقريباً هي من نصيب السلطة الفلسطينية.‏
        أما أخطر القضايا التي ستكون موضع خلافات جديدة ومماطلات ونزاع فهي قضايا الوضع النهائي؛ وهي تبدو لي منتهية على نحو ما باتفاق "واي بلانتيشن" هذا. فالوضع النهائي يتطلب- حسب أوسلو- انسحاباً تاماً من الضفة وغزة و"القدس الشرقية" أو بالأحرى إعادة الانتشار فيها بالمفهوم العسكري الصهيوني. وما دار ويدور من عراك سياسي لتثبيت الانسحاب في المرحلة الثالثة يشير إلى أن الكيان الصهيوني لا يفكر بالانسحاب من مزيد من الأرض، وقد يحول أرضاً أُقر إعادة الانتشار فيها من الفئة الثالثة والثانية إلى الفئة الأولى في أحسن الأحوال؛ وقد يعطي، إذا اضطر للعطاء، شيئاً لا يذكر من الصحراء والبادية والبرية المُحْجِرَة، لأنه سيكون قد فرض أمراً واقعاً بالاستيطان والتهويد في أكثر المساحة الباقية في يديه من أرض الضفة/ 60 %/ تقريباً، وعندما يصل الأمر إلى القدس ووضعها النهائي فإن العدو سينفذ ما يعلنه باستمرار وثبات : " القدس عاصمة موحدة وأبدية له "، وللسلطة عاصمة ضمن التوسع البلدي الجديد للقدس في قرية "أبو ديس"؛ وتبقى السيطرة على الحدود من البحر إلى النهر ومن الحدود المصرية إلى الحدود السورية واللبنانية له وحده، ويبقى من حق الفلسطينيين أن يعيشوا في القفص وأن يقوموا بأداء الخدمات البلدية للسكان وأن يكبحوا جماحهم؛ أما ما يتعلق بالسيادة على الأرض وإقامة الدولة فهو موضع رفض تام!! والأماكن المقدسة "فاتيكان" أردني في أحسن الحالات.‏
        ماذا سيفعل "أهل السلطة" عند ذلك، بعد أن يكونوا قد سلموا بكل شيء واستسلموا لكل شيء!! هل سيعلنون الدولة، وهو أمر متاح منذ قرار الجزائر 1979 وقد عطلوه هم عن عمد عدة مرات آخرها تلك التي أعدَّت لاستقبالها الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورة /أيلول- تشرين أول 1998/؟! أم أنهم سيخوضون حرباً سياسية ضد الإرادتين الصهيونية والأميركية من أجل انتزاع موافقة على دولة يحدد اليمين الصهيوني على لسان نتنياهو بأنها ستكون: "دولة بلا جيش ولا سيادة ولا وزارة خارجية ولا أرض ولا حدود"؟!‏
        إن المرحلة النهائية "لأوسلو" كما تتراءى في كل المراحل والاتفاقيات الفرعية التي مرت وآخرها "واي بلانتيشن" مرحلة أكثر بؤساً من كل ما مضى، وهي مرحلة إماتة الوعي والإرادة والقرار والكرامة، بعد أن شاع الفساد والإفساد في مناحٍ شتى مما كان يعلق عليه الشعب العربي الفلسطيني أهمية كبرى في التحرير والبناء.‏
        لقد أوصلتنا أوسلو إلى حالة متردية عربياً ودولياً، بَلْهَ فلسطينياً؛ وها نحن نحصد النتائج المرة للتحالفات الإسرائيلية -الأميركية التي قامت على أرضية اتفاقيات "كامب ديفيد، وأوسلو -والمعاهدة الأردنية- الإسرائيلية"، وللمخططات التي وضعت للمنطقة انطلاقاً منها؛ حيث العدوان والتهديد به، وإعادة النظر بالخريطة الجيو ـ سياسية للمنطقة، وتهديد هويتها وقواها ومستقبلها، وتفتيت التضامن العربي، والقضاء على مقومات الحرية والتحرير والقومية والأصالة بأساليب شتى.‏
        إن اتفاق "واي بلانتيشن" الذي حشد له كلنتون والملك حسين قدرات وجهوداً، سوف يعود بالنفع أولاً على الكيان الصهيوني، ثم على كلنتون وفضائحه وإدارته ودعايته الانتخابية لحزبه، ومن بعد على المستفيدين من التفريط بالحق الفلسطيني بمفهومه الشامل؛ أما السلام الحق، والشعب الفلسطيني المشرد، والأمة العربية، والقضية الفلسطينية، والمقدسات العربية -الإسلامية، فكل أولئك سيخسرون، وسيعزز الاتفاقُ النزوعَ العنصري- العدواني الصهيوني وتحالفاته، كما سيعزز الاستيطان والتهويد، والقتل والملاحقة؛ وسينشر في ربوع ونفوس فساداً عنوانه اليوم "كازينو" أريحا لبناء "المستقبل" الفلسطيني والدلالة عليه.‏
        فانظروا وانتظروا وتأملوا واستغرقوا في الوهم -الأمل، أيها الراكضون وراء سلام الصهاينة والأميركيين والواقعيين الانهزاميين العرب الذين يسوقون بضاعتهم الرديئة؟!‏
        إن الأرض والكرامة والحرية والدولة والمستقبل كل ذلك لن يصنعه إلا علم وإيمان وإرادة وحرية وأحرار.. وعمل دؤوب بكل ذلك على أرضية الكرامة وحقائق الصراع، عمل بسعة الأمة العربية وصداقاتها وإمكاناتها وقدراتها كافة؛ وإذا كلف ذلك كثيراً، واستمر زمناً فإنه سوف يسفر عن قوة تحمي الإرادة والحق والأرض والقرار، وعن وعي يعرف كيف يضع الأمور في نصابها، ويخطط للمستقبل بمسؤولية واقتدار.‏
        وقل اعملوا....‏

        الأسبوع الأدبي/ع632//24/10/1998‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          ماذا بعد واي بلانتيشن؟!
          لم يعرض نتنياهو اتفاق واي بلانتيشن على مجلس وزرائه، بانتظار أن يقدم عرفات خطته الأمنية للقضاء على البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية، حماية لأمن الاحتلال، وأعلن أن المواعيد المحددة في الاتفاق غير ذات شأن لأن أساس الاتفاق هو استمرار التفاوض للتوصل إلى الأمن والتقليل ما أمكن من إعادة الأرض إلى الفلسطينيين، والأمن عند نتنياهو هو ألا يبقى عربي يقول "لا" للاحتلال والهيمنة الصهيونيتين، أمَّا الأرض فهي كلها "أرض إسرائيل" وهو يجود منها بالقدر الذي يسمح به التطرف اليميني اليهودي.‏
          وقد فتحت مباشرة ملفات التفسيرات المتناقضة للنصوص، والاختلافات الموجودة في تلك النصوص بين الترجمة الإنكليزية والعبرية والعربية.‏
          كما فتحت المناقشات حول نقاط في الاتفاق تم القبول على أن ينص عليها نص غامض يقبل التأويل ليخرج الطرفان من "واي بلانتيشن" باتفاق يسوّقه كل منهما للمعنيين حسبما يريد، ومن ذلك على سبيل المثال: الجهة التي ستصادق على رسالة عرفات لكلنتون /مطلع عام 1998/ بإلغاء المواد الخاصة "بإسرائيل" من الميثاق الوطني الفلسطيني ومفاوضات الوضع النهائي، والتبادلية.. الخ..‏
          في العمق: الاتفاق مكّن نتنياهو وفريقه من تقليص ما وعد به اتفاق أوسلو في ظل حكومة رابين، ووضع حداً لأوهام أهل سلطة الحكم الذاتي بالتطلع إلى استعادة أكثر من 1 إلى 2% من أرض الضفة في المرحلة النهائية، كما حدد مصير القدس عملياً "وكرس تحكّم الكيان الصهيوني بتحديد مساحة أي إعادة انتشار مستقبلا برسائل ضمانات أميركية، موافق عليها من قبل سلطة الحكم الذاتي.‏
          على الأرض: التهويد للقدس تلقى دفعاً جديداً، والاستيطان بدأ وتيرة من التصاعد، على الرغم من النصوص والتصريحات والكلام المتطاير في فضاء السياسة والإعلام.‏
          وعلى الأرض أيضاً بدأت عمليات ملاحقة عناصر حماس والجهاد الإسلامي وحتى عناصر من فتح تتعلق بحلم التحرير والدولة، وبدأت التصفيات الجسدية، ليس في فلسطين المحتلة فقط وإنما في أماكن تصل إليها أذرع الموساد والـ c.i.a وسلطة الحكم الذاتي التي أصبحت جميعاً قوة تنسيق وعمل واحدة تساعدها على ذلك الأطراف التي كانت قد وقعت على تعاون أمني في المنطقة ضد ما سمي به "الإرهاب" بعد عملية "بيت ليد" في مؤتمر "شرم الشيخ" ولا سيما الأردن وتركيا حيث الحلف التركي -الإٍسرائيلي- الأميركي وخوافيه أو زعانفه يعمل بدأب تحت ستار من عتمة حققها له خطف "واي بلانتيشن لأضواء الإعلام".‏
          وقد كان هناك اجتماع هام جداً لأطرافه في لندن لمتابعة البحث في نظام أمني للمنطقة، وشارك في الاجتماع مسؤولون من "إسرائيل" وتركيا والأردن. على الأرض بدأ اعتقال لمسؤولي التنظيمات الإسلامية في الأرض المحتلة، ولم يتوقف ذلك عند حدود المشتبه بانتمائهم للتنظيم العسكري في حماس والجهاد "وإنما امتد ليشمل الشيخ البيتاوي الذي يدعو لمقاومة الاحتلال" والصحفيين الذين أجروا لقاء مع الشيخ أحمد ياسين حول اتفاق واي بلانتيشن، وقيادات فلسطينية معارضة لأوسلو، وكل من يقال إنه "يمارس التحريض ضد الاحتلال وضد أوسلو "بحجة أنه عدو للسلام"‍!؟!‏
          على الأرض هناك تهم جديدة وذرائع عديدة لتصفية معارضي عرفات ومقاومي الاحتلال والمتمسكين بوطن وحرية وأرض وكرامة، ولن ينال عرفات أرضاً من نسبة 13.1% موضوع اتفاق "واي بلانتيشن" إلا بمساحة ما ينتشر من دم فلسطيني على الأرض ليرويها للمرة المئة بعد الألف منذ بداية الصراع العربي الصهيوني.‏
          وفي مقابل المساحة الموعودة من أرض الضفة 13.1 التي تكمل مع ما أُخِذَ سابقاً وما قد يُؤخَذ لاحقاً: نسبة لا تتجاوز 42% من المساحة الإجمالية للأرض المحتلة عام 1967 /في غزة والضفة/يأخذ الكيان الصهيوني كل شيء من الاعتراف إلى التطبيع إلى الأرض إلى القدس إلى السيطرة الشاملة على أمن المنطقة إلى هيمنة سياسية وأمنية وعسكرية تمكنه من تفتيت البنية السياسية لدول الجوار العربي وإعادة تكوينها بما يضمن قيام أوضاع جديدة شاملة تلغي الدور القومي ومشروعه والصحوة الإسلامية وما تبشر به من جهاد في سبيل الأرض والحق والعدل.‏
          مرجعية مدريد، التي بدأ الحديث عنها بعد انعقاد ذاك المؤتمر مُسِخَت إلى حد الاختفاء وبدأ التنصل منها بنداً بنداً:‏
          - القراران 242 و 338 المتعلقان بإعادة الأرض المحتلة عام 1967 لأصحابها في صفقة: الأرض مقابل السلام، أصبحا سراباً وما علينا إلا أن ننظر بوعي ودقة إلى ما يقول به اليمين الحاكم في الكيان الصهيوني حول القدس والاستيطان وما سيقدم للفلسطينيين في ضوء اتفاق أوسلو بمراحله وهو الاتفاق الذي بدأ إجهاض مرجعية مدريد أصلاً.‏
          - 60% من أرض الضفة وغزة ستبقى تحت التصرف التام لـ "إسرائيل".‏
          - القدس بكاملها.‏
          - السيطرة التامة على الحدود وعلى الأرض الفلسطينية بما في ذلك تلك التي شملها موضوع إعادة الانتشار، حيث عمل سلطة الحكم الذاتي ينحصر في أمرين رئيسين:‏
          الأول: تقديم الخدمات للسكان العرب في حدود صلاحية البلديات وتحمل مسؤولية الأمن، وجعل جيش الاحتلال يتفرغ لمهام أخرى.‏
          الثاني: تصفية الشعب الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية وجعل ما تبقى من قوة أفراد هذا الشعب، ممن تسيطر عليهم سلطة عرفات، بعد ذلك، تتحول إلى:‏
          - متابعة تسويق "إسرائيل" عربياً على الصُّعُد المختلفة /سياسياً واقتصادياً وثقافياً/ هناك عرَّابون ومعتمدون للقيام بهذا العمل يتلهفون للقيام بدورهم.‏
          - إشعال فتن عربية عربية، وهناك تركيز على ترشيح ساحة الأردن للاشتعال ليصبح الأردن الوطن البديل وهو المشروع الذي يقول به صهاينة كثر ممن يتحكمون بسياسة الكيان الصهيوني وأمن المنطقة. وهناك من يتطلعون إلى مثل ذلك المشروع تدفعهم إليه الرغبة في زعامة ورئاسة ولو على خازوق يرتفع فوق جثث ملايين البشر من العرب.‏
          لقد دخلت سلطة عرفات رسمياً، بعد اتفاق واي بلانتيشن، في خدمة وكالة المخابرات الأميركية الـ c.i.a والموساد لتقوم عملياً، وبموجب الاتفاق وخطة تشرف الـ c.i.a على تنفيذها بشكل مباشر، دخلت ميدان التجنيد المباشر في الخدمة الأمنية /تعاقدياً/ لخدمة الأهداف والمخططات الصهيونية -الأميركية، ومن يدخل هذا المدخل لن يستطيع أن يمارس دوراً وطنياً وقومياً بحرية واستقلال واقتدار، ولا يمكن أن يكون ممثلاً لحركة تحرير ولشعب يتعرض للتشرد والإبادة ويطالب بوطن يدفع ثمنه الدماء.‏
          وإذا ما توصل عرفات يوماً إلى "دولة" ميكرونيزية مقطعة الأوصال بالمستوطنات والطرق الالتفافية والمعسكرات "الإسرائيلية" فلن يزداد إلا انتماء لتعاقده الأمني مع الـ c.i.a والموساد، وشراسة تنفيذ ما يطلب إليه تنفيذه، ورغبة في البرهنة على حسن أدائه لتحقيق مزيد من الاعتماد عليه صهيونياً.‏
          ومن تحصيل الحاصل القول بأن اتفاق "واي بلانتيشن" مهد الطريق أمام استئناف الهرولة العربية إلى الأعتاب الصهيونية بطلب أميركي جاء على لسان أولبرايت التي "وبخت العرب" الذين لا يدعمون السلام، وكان أن سارع وزير خارجية موريتانيا لزيارة القدس يوم الثلاثاء 27/10/1998؛ كما مهد الاتفاق الطريق أمام مرحلة ضغط على سورية من قبل التحالف التركي الإسرائيلي لتحقيق مكاسب سياسية وجغرافية على حسابها، لمصلحة الكيان الصهيوني والحكومة التركية حين تستأنف المفاوضات على المسار السوري -الإسرائيلي. وتلوح في الأفق رغبة في استئناف الحديث عن فصل المسارين السوري اللبناني عن بعضهما بعضاً، وفرض انسحاب سوري من لبنان، وحل قسري على لبنان يمهد لتصفية حزب الله والمقاومة الوطنية اللبنانية والوصول إلى أوضاع شبيهة بتلك التي كانت عام 1982، ويبدو أن الذين يقرؤون الأزمة السورية -التركية التي افتعلتها أطراف التحالف التركي -الإسرائيلي وما آلت إليه مما يرونه قبولاً سورياً بشروط تركية -وهي قراءة مغلوطة ولا تستند إلى حقائق ووثائق ولكنها تريد أن تشبع حالة نفسية وسياسية واجتماعية وإعلامية مقصودة -يبدو أن أولئك يقولون بإمكانية قبول سورية بما لم تكن تقبل به من شروط "إسرائيل" بعد أن أضعفت الأزمة موقفها أو أظهرته ضعيفاً.‏
          لا شك في أن اتفاق "واي بلانتيشن" حلقة في المسلسل الشرير الذي بدأ في أوسلو، ولا شك في أنه أضعف سلطة الحكم الذاتي أكثر ونفخها أكثر لتدخل مرحلة الخدمة في الأمن "الإسرائيلي" بواجهة لمّاعة؛ ولا شك في أن الاتفاق حقق لإسرائيل مساعدات مالية /500 مليون دولار/ وابتزازاً في مجالات خدمة جواسيسها وأظهر نتنياهو بمظهر المضحي من أجل السلام" ليجمل صورته عربياً ودولياً، وأثار تشدداً مدروساً في الكيان الصهيوني هدفه دعم مفاوضيه ومستوطنيه ومحتليه للسيطرة على الأرض وإكساب الاحتلال شرعية وتصرفات المحتلين مشروعية.‏
          وهذا كله يطرح علينا سؤالاً محدداً: ما العمل ونحن نعرف الوضع العربي والوضع الدولي جيداً. كما نعرف أن ما يلتزم به أهل سلطة الحكم الذاتي ينفذ وما "يلتزم" به اليهود الحاكمون في فلسطين هو "حكي" و "ليس على الحكي جمرك" كما قال شارون بعد عودته من "واي بلانتيشن" ما العمل والسكين على الرقبة، والثقة بين شركاء الماضي الفلسطيني -ماضي النضال والدم والوطن السليب وحق العودة- قد انهارت أو تلاشت؟! وتحول كثير من "رموز السياسة" إلى تجار مواقف وسماسرة قضايا في جسم سلطة الحكم الذاتي وفَلَكِها؟!‏
          إنني أذهب إلى المناداة بأمور أركّز القول فيها هنا إلى حد التكثيف المخل، تطلعاً إلى التوسع في جلائها لاحقاً، ومن هذه الأمور:‏
          1- العمل على بلورة تيار فلسطيني عام: سياسي وثقافي واجتماعي، يتكون من كل من يؤمن بعروبة فلسطين وحق الشعب الفلسطيني بالعودة إلى وطنه والسيادة فوق أرضه كاملة، خارج التنظيمات والفصائل، وليس على حسابها، تيار يجمعه المشترك النضالي العظيم والوفاء للقضية والشهداء وأهداف الشعب الفلسطيني ليكون نواة صلبة لتيار عربي شامل وإسلامي أشمل، يرفض الاستسلام، وتصفية أبناء الشعب الفلسطيني وثورته، ويحمي المقاومة فكراً وقوة؛ أفراداً وتنظيمات؛ ويكون رأياً عاماً فاعلاً بمواجهة إعلام المستسلمين والرأي العام الذي يحميهم ويقوي شوكة الاحتلال.‏
          2- النظر إلى سلطة الحكم الذاتي وما توقعه من اتفاقيات وما تتخذه من قرارات على أنها سلطة تحت الاحتلال الصهيوني وأداة بيد وكالة المخابرات الأميركية والموساد، لم يعد بمقدورها اتخاذ قرارات مستقلة والتعبير عن إرادة وطنية حرة، ولا يجوز لها أن تتنازل باسم الفلسطينيين عن فلسطين لأنها تفقد الحرية والإرادة والاستقلال فضلاً عن الشرعية الفلسطينية السليمة الشاملة.‏
          وأن وجودها هو وجود تحت الاحتلال، وما تمارسه من دور في القرى والمدن الفلسطينية على الشعب الفلسطيني لا يختلف عن دور مسؤولي القرى والمدن الذين يتحكم الاحتلال بأمورهم وسياساتهم ومصائرهم ممن حاول سابقاً تنصيبهم ورفضتهم منظمة التحرير والشعب الفلسطيني. ولذلك فإن الإعلان عن تيار شعبي فلسطيني يعمل من أجل التحرير والعودة، ويتكون من كل من يتعلق بالأرض والسيادة والكرامة؛ هو مطلب ملح يستأنف الآخذون به مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية حسب الميثاق الوطني الفلسطيني الذي لا يجوز أن يسقط أو يُشوَّه أو يُنخر أو يتم العبث به. لأنه كتب بدم الشهداء لا بحبر الدولارات والشيكات، وبتضحيات المؤمنين بالشعب والوطن وليس بـ "فهلويات" المتاجرين بالشعب والوطن. على أن يتم بذل جهد كبير في هذا الاتجاه خلال الأشهر الثلاثة القادمة، ليتواكب إعلان الرفض الشامل مع إعلان الاستسلام الشامل الذي يمثله اتفاق "واي بلانتيشن".‏
          -العمل الحثيث من أجل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، على أسس من الإيمان بالحق والعمل من أجل تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بعيداً عن التجارة والدكاكين السياسية، والمساومات، وإعداد النفوس والأجيال لمرحلة جديدة من النضال، قد تمتد طويلاً؛ ولكن لا بد من التأسيس لها انطلاقاً من التمسك بالمبادئ والثوابت والحقوق، والاستناد إلى الأمة العربية لإعطاء البعد القومي للقضية بعداً حيوياً، بعد إعادة الحياة له والانطلاق من حقيقة أنه أحد أهم المداخل للعمل العربي في مجال الصراع العربي الصهيوني.‏

          الأسبوع الأدبي/ع633//31/10/1998‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            العرب والتهديدات التركية
            في الذكرى الخامسة والعشرين لحرب تشرين، نعيش أجواء الحرب من جديد، ليس في الذاكرة وما نسترجعه من أيام تشرين المجيدة، ولكن في واقع جديد يفرضه التحالف التركي الإسرائيلي الذي يستنفر قوات ويحشدها على الحدود التركية السورية، ويقوم طرفه التركي -من خلال الجنرالات الدونما بتصعيد الموقف يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة ليصلوا بالمنطقة إلى ذروة فانفجار. الكيان الصهيوني يتعاون مع الضباط القادة في تركيا بإشراف أميركي ومشاركة ضمنية مع أطراف عربية دخلت في اتفاقيات نوعية مع العدو قادتها إلى التحالف الشرير بشكل أو بآخر.‏
            وتركيا الشعب لا يسمع لها صوت، فهي لا تريد الحرب مع سورية، ولا تريد أن تتوتر الأجواء مع الوطن العربي والعالم الإسلامي، وتريد أن تنهي الأزمات الداخلية والمشكلات المستمرة منذ سنوات، والموت الذي يتصيد أبناءها في الجنوب الشرقي من البلاد، وكل أشكال العنف والعنف المضاد اللذين يحرمانها من الإطمئنان والاستقرار ومن رؤية ما تريد في ضوء الموضوعية والانتماء التاريخي الحق لأسيا ومحيطها الإسلامي، ولكن صوت تركيا الشعب غير مسموع، بل هو مصادر من السلطة العسكرية التي ارتبطت بالحلم الغربي والمشروع الصهيوني وبالإرث "الدونمَوي" الذي حملته وتوارثته منذ بداية هذا القرن.‏
            في السادس من تشرين 1998 التقى قائدا سورية ومصر في دمشق لا ليحتفلا بالعيد الفضي للذكرى المجيدة ولكن ليعالجا سياسياً موضوع التهديد التركي لسورية الذي تقف وراءه "إسرائيل"، ويرمي إلى فرض حالة تضعف سورية وتجعلها ترضخ وتستسلم "للسلام إسرائيلي" بشروط نتنياهو، ولابتزاز تركي متستر بذرائع واتهامات، ويريد عملياً إنهاء خلافات حدودية تعود إلى عام 1938 بل إلى ما قبل ذلك مما يتصل بثورة هنانو وثمن إنهائها الذي كان أرضاً سورية مقتطعة.‏
            نحن اليوم، في ذكرى تشرين، أمام تهديد من الصهيونية توسع ليشمل الجوار المسلم لسورية، وهو تهديد يطول المنطقة كلها، وإذا ما انتقل إلى عراك ساخن فإنه سيدخلها في دوامة الدم والنار التي لا نعرف متى تنتهي وكيف. من المؤكد أن سورية لا تريد حرباً مع تركيا، ومن المؤكد أيضاً أن شعب تركيا المسلم لا يريد أن يفتح جبهات قتال مع الوطن العربي الذي أعلنت دوله ومؤسساته ومعظم دوله موقفاً مناصراً لسورية حيال التهديد التركي ولا أن يخسر مصالحه الحيوية المرتبطة بالعمق العربي؛ كما أنه لا يجد فائدة في إثارة مشكلات وأزمات لا تستفيد منها إلا الصهيونية، وتنعكس سلبياً على علاقاتها بالعالم الإسلامي وعلى العالم الإسلامي نفسه الذي يراد له أن يشعل حروباً بين دوله تنفيذاً لمخططات صهيونية وأميركية تريد أن تنهي صحوته وتسيطر نهائياً على مقدَّراته وتمنعه من امتلاك ما يمكن أن يدافع به عن نفسه.‏
            وفي ظني أن كل مثقف ومسؤول ووطني صادق في تركيا يشعر بأن حرب الجنرالات المعلنة على سورية ليست في مصلحة تركيا ولا في مصلحة العلاقات العربية التركية ولا في مصلحة الإسلام والجوار التاريخي الذي يربط تركيا بمحيطها وهو يستشعر في الوقت نفسه بأنه يوضع في دوامة الإعلام البغيض الذي يحركه الحقد الصهيوني على المنطقة وأهلها، ويدفع نحوه ارتباط الجنرالات الدونما بمصالح ومخططات وتحالفات مع الصهيونية والولايات المتحدة تضمن لهم الكثير من "وسخ الدنيا" وتحرمهم من حب الشعب لهم.‏
            إن المطالب التي أعلنتها حكومة يلماظ تحت ضغط السلطة العسكرية التركيا والمحددة بست نقاط منها خمس نقاط تتصل بصراع داخلي بين حزب العمال الكردستاني والسلطة التركية يعود لسنوات عديدة سابقة ونقطة تخفي طمعاً بتسوية الحدود لتضع تسوية في المفاوضات الثنائية بين سورية والكيان الصهيوني على تماس بتسوية مطلوبة بالنسبة لحق تاريخي لسورية في أرضها في الشمال كما تخفي مساومات حول مياه الفرات لقاء مياه في طبرية ونهر بانياس والحمَّة بعد أن غدا التحالف التركي - "الإسرائيلي" العامل برعاية أميركية مطلقة، طرفاً في فرض حلول على المنطقة وإعادة تشكيلها جيو ـ سياسياً، بما يحقق هيمنة تامة عليها.‏
            وهذا الوضع الذي انتقل إلى العلن يستدعي أن نطرح موضوع التضامن العربي وأهميته من جديد، في ضوء ما آلت إليه جهود الرئيس مبارك الذي زار تركيا بوصفه رئيساً لمصر ولمؤتمر القمة العربية، ورجع من زيارته ببعض الاتفاقات الأولية ومنها لقاء بين فاروق الشرع وإسماعيل جيم، نقضه الطرف التركي تحت ضغط السلطة العسكرية بعد ساعات من إبلاغه، مما يعني عملياً أن الوساطة تتعثر، وأن الثقل العربي كله ينظر إليه في ظل غياب التضامن العربي نظرة استخفاف أو شك في أحسن التقديرات.‏
            إن التضامن العربي مطلوب لأنه درع لكل قطر عربي، ونصير في كل مواجهة بين بلد عربي وأية قوة تفكر بالعدوان عليه أو استلاب بعض حقوقه فضلاً عن كونه ضمانة لوضع عربي داخلي مستقر ولعمل عربي ناشط في كل مجال من مجالات الحياة يحتاج إلى كتلة العرب وقوتهم الشاملة في عالم لم يعد يعير اهتماماً للدول القزْمة التي تتعثر بها التكتلات الاقتصادية الضخمة والقوى العظمى المسيطرة.‏
            فهل يستطيع العرب تفعيل تضامنهم واستعادته قوياً معافى؟!.‏
            إن ما يرافق التهديد التركي لسورية من إعلان عربي عن تأييد موقف سورية يبشر بخير، وإن ما يحققه ذلك التضامن الأولي مع سورية أذهل أوساطاً تركية لم تكن تتوقع أن يتحرك العرب ويعلنوا موقفاً إلى جانب سورية بهذا الوضوح، كما أنه حقق بعمق إسلامي أوضحته طهران مناخاً آخر للتفكير والتدبير، ليس بالنسبة للسلطة التركيا فقط وإنما بالنسبة لمن يحركونها: الصهاينة والأمريكيون.‏
            وهذا يدفعنا إلى القول بأن هدف العرب القريب ينبغي أن يكون من خلال تضامنهم المتصاعد- هو إسقاط التحالف التركي- "الإسرائيلي" الذي يهدد الأمن العربي عامة ودولاً عربية بالذات وليس فقط وضع حد لتدهور الأوضاع بين سورية وتركيا، ومناصرة سورية في مواجهتها المحتملة مع العسكرتاريا التركية المتصهينة.‏
            فهل نعمل على قضية كهذه لها انعكاساتها على الصراع العربي الصهيوني بل تعتبر امتداداً له حتى ننجزها بحزم وعزم؟!.‏
            إن هذا ما نحتاج إليه عربياً وما ينبغي أن يهتم به المثقفون والسياسيون العرب على الخصوص، من خلال جهد بناء مع مثقفين ومسؤولين أتراك لا يريدون لبلدهم أن يغرق في العدوان ويتآكل جراء الأزمات المفتعلة مع الجوار التركي كله.‏

            ومن خلال إقامة جسور لثقة متينة وعاملة بالاتجاهين، اعتماداً على التاريخ المشترك، وما يجمع العرب والأتراك من ثقافة وعقيدة ومصالح وجوار ينبغي أن يحترم.‏
            والله من وراء القصد‏

            الأسبوع الأدبي/ع635//10/11/1998‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              هل هو العصر الصهيوني
              نتنياهو يقول صباح الأربعاء 4/11/1998: "المعادلة واضحة وبسيطة بالنسبة لتنفيذ الاتفاق في واي بلانتيشن: يقدم الفلسطينيون يأخذون، لا يقدمون لا يأخذون.". وهو ينتظر قائمة وتعهداً مكتوباً بتسليم ثلاثين فلسطينياً مطلوبين من قبل "إسرائيل" لأن "أيديهم ملطخة بدم اليهود"، ومن هؤلاء أكثر من اثني عشر شخصاً يعملون في السلطة الفلسطينية لا سيما في جهات الشرطة. وأعلن أن اجتماع مجلس وزرائه للتصديق على الاتفاق أو "مذكرة التفاهم كما تسمى رسمياً" متوقف فعلياً على تسليم التعهد الخطي المطلوب؛ وقد كان ذلك التعهد قد أُعطي شفهياً واتفِق على أن يُكتفى بصيغة شفهية.‏
              فلماذا ينقض نتنياهو يا ترى ما تمَّ الاتفاق عليه بينه وبين عرفات!!‏
              من الأسباب التي تقدم لتفسير ذلك أنه يخاف من المستوطنين ومن اليمينين المتطرفين، وأنه لم يُقنع بعد أطراف حكومته بالاتفاق، وقد يتعرض هو وحكومته للسقوط، ولهذا استمهل عرفات أمس أياماً يؤجل فيها موعد التنفيذ الفعلي للاتفاق، ووافق عرفات على طلبه.‏
              وإذا كان هذا السبب من الأسباب الواردة، أو من المسوِّغات الظاهرة، فإن القراءة ينبغي أن تشمل أسباباً أخرى لتبيّن أهدافاً أخرى؛ ويساعد على الأخذ بهذا التوجه كلام شارون عند وصوله مع نتنياهو إلى مطار "بن غوريون".‏
              حول الاتفاق الذي لا يعجبه "حكي مكتوب ومثَلُ العرب يقول "ليس على الحكي جمرك." - وهو ما أشرت إليه في نص سابق -وهذا يشير إلى ما أضمره اليهود المفاوضون، على رأسهم نتنياهو، على الرغم من أنهم كسبوا كل شيء في واي بلانتيشن، فما الذي يختفي فعلاً من نوايا؟! وما هي الأغراض التي يريد أن يحققها من وراء هذا الاستمرار في الابتزاز؟!‏
              بداية فُتحت شهية نتنياهو على مداها، بعد أن نجح في إلزام عرفات بتصفية روح المقاومة وعناصرها في شعبه الفلسطيني، وبإعلان يحققه اجتماع شرعي فلسطيني يؤدي إلى إلغاء مشهود للميثاق الوطني الفلسطيني في الرابع عشر من شهر كانون الأول 1998 بحضور الرئيس كلينتون.‏
              وتنامى جشع اليهودي التاريخي فيه حين ألزم كلينتون (الذي يغوص في مستنقع فضائحه الجنسية ويشرف مع حزبه على انتخابات نيابية) حين ألزمه بتحقيق أمور منها:‏
              1- مساعدات مالية قد تتجاوز مليار دولار أميركي لتغطية إعادة الانتشار "الإسرائيلي" وشق طرق التفافية في الضفة الغربية تنفيذاً لاستحقاقات هذه المرحلة من مراحل إعادة الانتشار.‏
              2- الوعد بمتابعة الضغط لمنع أي إعلان، مستقبلاً عن دولة فلسطينية، وسيعقد الرئيس الأميركي اجتماعاً مع عرفات ونتنياهو بعد عدة أشهر للقضاء على ما تبقى من هذه الشحنة في نفوس الفلسطينيين والعرب.‏
              3- إعادة النظر بموضوع الجاسوس اليهودي- الأميركي جوناثان بولارد الذي قدم أكثر من عشرة آلاف وثيقة أميركية هامة وفي مجالات استراتيجية "لإسرائيل." وإعادة النظر ستؤول إلى تنفيذ إرادة الصهاينة بحماية رجلهم في ظل سيطرتهم المطلقة على مفاصل الحكم والقرار في الولايات المتحدة الأميركية.‏
              4- التوصل إلى توقيع اتفاق أميركي- "إسرائيلي" جديد، كان يبحث منذ سنوات، لتصنيع صواريخ بعيدة المدى في "إسرائيل" وجعل هذه الصناعة المتطورة تستقر فيها، بجهود وأموال وخبرات أميركية، وقد تم توقيع هذا الاتفاق رسمياً خلال الأسبوع الماضي.‏
              5- دخول الـ c.i.a بشكل علني ومباشر لتنفيذ خطة "إسرائيل" بملاحقة المقاومة وروح الرفض الفلسطينية، والقضاء على أشكال المقاومة للاحتلال وللمشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة من خلال إسباغ صفة الإرهاب على المقاومة واتهامها بمعاداة السلام وبالتحريض على الإرهاب لأنها تقول برفض الاتفاق. وستشمل الملاحقة فلسطينيين داخل فلسطين المحتلة وخارجها وعرباً ومسلمين في مناطق كثيرة وبلدان أكثر.‏


              ودخول هذا الجهاز الأخطبوط على الخط بالتزام معلن، وإعطاء تدخّله شرعية.. سيمكِّن الصهاينة والأميركيين والتحالف الذي كونوه في المنطقة من العمل بكل الصيغ والأساليب الممكنة لتحقيق أهدافهم الشريرة.‏
              وحين وصل نتنياهو إلى فلسطين المحتلة كانت الأداة اليهودية قد تحركت لتقرّع العرب المتوانين عن التطبيع وعن تمجيد الاتفاق العظيم "اتفاق واي بلانتيشن"، الذين يتفرجون على "نتنياهو" وهو "يغامر ويضحي من أجل السلام"!؟! ويعرِّض نفسه وحكومته للمخاطر بسبب الموافقة على تنفيذ إعادة انتشار لا يوافق عليها اليمين في "إسرائيل"!؟ حين وصل نتنياهو إلى فلسطين المحتلة وجد على عتبته وزير خارجية موريتانيا، وتأييداً للاتفاق من عدد كبير نسبياً من الدول العربية، وتصريحات أميركية بضرورة المبادرة السريعة الواسعة إلى التطبيع... ووجد صيحة اليأس في وجه الشعب الفلسطيني، وأن سلطة الحكم الذاتي تتلهف لتنفيذ المهام الأَمنيَّة التي كلفت بها، لا سيما ضد حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة وخارجها.. حينذاك قرر أن يتابع لعبة الابتزاز ليكسب الأرض والأمن والسلام والتطبيع، وليقدم لكل من سورية ولبنان، في هذه الظروف الصعبة، إنذاراً على شكل وقائع ونماذج اتفاقيات مثل اتفاق "واي بلانتيشن" وصوراً من الأداء المرغوب فيه. فدخل في الأمر إلى مداه على أرضية المزيد من الابتزاز والمزيد من إخضاع العرب والفلسطينيين، في ظل فراغ عربي نسبي ودولي شبه تام، إلا ممن يجدهم معه وله وفي خدمته.‏
              أجَّل موافقة مجلس وزرائه عدة أيام ليكسب داخلياً أكثر،' وليصل مع نتائج الانتخابات الأميركية إلى ما يمكن أن يبتزه مع ظهور تلك النتائج.‏
              إن وعد كلينتون بشأن بولارد لم يكفِ نتنياهو، وشعر كأنما طُعن عندما لم يصطحب جاسوسه العريق معه، وهو يريد أن يحصل على كل ما يريد. والالتزام الذي حدده الاتفاق بعدم اتخاذ إجراءات من طرف واحد تهدد الاتفاق فهمه نتنياهو أو أراد لأن يفهمه على أنه متعلق بإعلان الدولة الفلسطينية فقط. وأراد أن يكرس هذا الفهم ويفرضه بإعطائه السماح أو الأمر ببناء حي في رأس العمود في القدس ـ توكيداً منه على يهودية القدس ـ وبتوسيع مستوطنات في الضفة الغربية، وبالإعلان عن أن مستعمرة "جبل أبو غنيم" في القدس لا بد أن تبنى هي الأخرى إمعاناً في تأكيد ذلك.‏
              كان الهدف وما زال "جرجرة" سلْطة الحكم الذاتي والعرب المؤيدين لها والعالم الذي لا يسلم للصهاينة بما يريدون، إلى متاهات وتنازلات وابتزاز ووحل أكثر وأعمق وأكبر.‏
              وقد ظهرت ملامح هذا التكتيك ثم خطوطه العامة في مواقف وإعلانات واضحة: فقبل أيام أُعلن على لسانه أو على لسان شارون ـ مجرم صبرا وشاتيلا، الذي أصبح وزيراً لخارجية دولة الإرهاب والاغتصاب ـ أُعلِنَ أن المرحلة النهائية قد تمتد عشرين سنة، أو فلنجعلها تمتد عشرين سنة. وفي هذا كل الوقت الذي يكفي لتهويد القدس والخليل وكل فلسطين، ولإبادة الإرادتين الفلسطينية والعربية وتصفية من يجب تصفيتهم ممن يرفضون الخضوع للعصر "الإسرائيلي" وخططه ومتطلباته وشروطه. وحين تمت المبادرة إلى تكذيب هذا الإعلان -بالون الاختيار- بدأت الحقائق ترتسم على الأرض: الاستيطان والقتل والمطالبة بتسليم المطلوبين، بدأ كل ذلك وسواه يزحف على العرب، الذين ينبغي أن يحضرهم عرفات إلى عتبة نتنياهو، خدمة للقضية الفلسطينية التي تحقق " نجاحات باهرة "مع شريكه الجديد نتنياهو، وبدأ زحف العرب إلى أعتاب الكيان الصهيوني خاضعين، ويتقدمون برجاء عريض للسيد الجديد بأن يفعل ما يشاء وينهي المماطلة. وسيطلب طلبه الأخير قبل أن يسلم القيادة الصهيونية للأشد غطرسة وجشعاً ورغبة في الدم والقتل والغش، سيطلب أن يحقق ما وعدت "إسرائيل" نفسها به وهو بناء الهيكل الثالث مع نهاية القرن الجديد، بداية القرن الجديد على أنقاض المسجد الأقصى الذي سيتولى تدميره "مجنون يهودي" يعشق "أرض الميعاد" ويؤمن بوعد الرب، وينتظر الهيكل الثالث.؟‍!.‏
              في الوطن العربي نتابع "بهلوانيات نتنياهو التي هي مخططات مدروسة تبدو على شكل شقلبات سياسية" غير متوازنة ولكنها تعطي ثمارها دائماً وتحقق للصهيونية خطوات على طريق مرحليتها المبرمجة في مشروعها الاستعماري- الاستيطاني- العنصري.‏
              وفي الوطن العربي أيضاً يصرخ مسكونون بوجع الأمة، ولكن الصوت لا يُسمع والصراخات تذهب في اتجاهين؛ فضاء المدى الذي لا يرجع الصدى، والأعماق التي لا تتشظَّى جرّاء الفتك بها، وتجريحها بشفرات الإحباط.‏
              وفي العالم الإسلامي يرتفع صوت يشخص بعض الوقائع ويدعو إلى بعض العمل الناجع، فتنهال عليه الاتهامات وتغلق أمام آفاق رؤاه كل الآفاق.‏
              إن الوضع الذي نحن فيه مأساوي ما لم نملك قوة ونستخدمها، وسيزداد مأساوية إذا فقدنا الرؤية والإرادة وسلّمنا بأن هذا العصر هو فعلاً العصر الصهيوني من دون منازع. وستزداد جراحنا إذا تركنا ساسة عرباً يمرِّغون جباهنا بالوحل بتنازلاتهم الغبية وتفريطهم بالقضايا المصيرية والحقوق والثوابت المبدئية للأمة!!‏
              إننا نحتاج إلى عمل منطلقه المقاومة وغايته التحرير والكرامة ووسيلته العلم والوعي والإيمان وامتلاك القوة، ولن نفقد الأمل أبداً، فالمستقبل لنا، مهما طال الزمن وكثرت التضحيات.‏

              الأسبوع الأدبي/ع634//7/11/1998‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                خـــاتمـــة
                هذه نهاية ما في هذا الكتاب من متابعة، وقد توقفت عند واي بلانتيشن وما أدَّت إليه من تعديل لميثاق منظمة التحرير الفلسطينية من قبل سلطة الحكم الذاتي، ورفض صارخ لذلك التعديل من قبل الشعب العربي الفلسطيني وجماهير الأمة العربية ممثلة بتنظيماتها ومنظماتها، القطرية والقومية ؛ التي رأت أن ميثاق المنظمة هو نتيجة ترسُّخ إيمان ووجدان شعبيين عربيين مرتبطين بفلسطين التاريخ والحق والأرض، العروبة والإسلام والمسيحية المشرقيَّة، القدس الشريف وكنيسة المهد وخليل الرحمن وناصرة المسيح، وبكل معاني الأمن والسلام. وأنه لا يمكن تعديل الوجدان والإيمان والتاريخ، حتى لو شاءت الصهيونية وكتب عرفات وشهد كلنتون وقَبِلَ نتنياهو؟! وذلك هو عملياً الميثاق الوطني الفلسطيني بالنسبة للأمَّة .‏
                ولكن هل انتهت المعركة وانتهى الصراع وانتهت المتابعة، التي كانت تكتب بالسكين على جدار القلب وأجنحة الروح وفضاء الزمن؟! لا ثم ألف لا، فالصراع بين الخير والشر، العدل والباطل، الحرية والعبودية، الاستعمار والشعوب، العنصرية والإنسانية، الصهيونية والأمة العربية ؛ ذلك الصراع مستمر ما دام هناك عدوان واحتلال وعنصرية واستيطان واضطهاد للآخرين ونهب لثرواتها واستلاب لحرياتهم؛ وما دام هناك إيمان بالله والحق والوطن، وقيم ومبادئ ورجال وأمم تتمسك بحقوقها التاريخية وثوابتها المبدئية وهويَّاتها الثقافية، وتكتب بدماء أبنائها صفحات التحرير والحرية والبقاء الحي على أرض البشر، بين الأمم والشعوب.‏
                وسوف نسير معاً على هذه الطريق،كلمة وبندقية، وتلتقي أيدينا مع أيدي الشرفاء والمناضلين من أجل الحق والعدل والحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية في كل أنحاء العالم : طريق العمل بأمل من أجل مستقبل أفضل لأمتنا وللإنسانية، التي نلتزم بها التزامنا بقيمنا الحضارية والخلقية.‏
                وما العون إلا من عند الله سبحانه وتعالى .‏
                دمشق في كانون الثاني / ديسمبر 1998‏
                علي عقلة عرسان‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  هذا الملحق مخصص لنشر :
                  1ـ مقالات سقطت من مواقعها التي تحددها تواريخ نشرها، وهي مما أستدركه هنا ليأخذ مكانه حسب التسلسل الزمني الذي اعتمد في ترتيب مواد هذا الكتاب، وأستميح القارىء الكريم عذراً في إدراجها هنا معتمداً على فطنته وكرمه في أن يعيدها إلى موضعها من التسلسل عند ربط الحوادث والنظر في المتابعات.‏
                  وأحب أن أشير بالمناسبة إلى مواد غير منشورة تشكل الفراغ الواضح في التواريخ المبينة في أماكنها من هذا الكتاب، وهي مواد يفرض موضوعها أن تكون في كتاب خاص أفردته لها حول الأوضاع العربية والتضامن والعمل العربي المشترك.‏
                  وليعذرني القارىء الكريم إذا استرعيت انتباهه أخيراً إلى بعض الدراسات والمقالات التي تكمل الموضوع المتناول في إطار المتابعة الزمنية، لا سيما تلك التي تتعلق بموضوع التطبيع والجبهة الثقافية والمتصلة به، ويمكن العودة إليها في كتابي : المثقف العربي والمتغيرات لاستكمال الصورة كما أراها، وأخص بالذكر منها : ثقافة المقاومة وثقافة التطبيع ـ التطبيع دعاة ورافضون .‏
                  2ـ محاضرة في مركز الدراسات السياسية في طهران حول التطبيع تكمل بعض ما كتبت حول ذلك الموضوع.‏
                  3ـ لقاءات سبق وأشرت في الجزء الأول من هذا الكتاب إلى أنني سأدرجها في ملحق خاص بها في نهاية الجزء الأخير من هذا الكتاب، وهي مما يسمح المجال بإدراجه هنا؛ وقد تجاوزت عن كثير جداً مما ينبغي نشره وتركته لمناسبات ومجالات أخرى.‏
                  وأجد أنني أميل إلى أن أشير إلى لقاءين أحدهما مع جريدة الأنباء الكويتية نشر على في عددين منها /في ربيع 1995 / ولم أتمكن من الحصول عليه لأنشره هنا، وهو مما أراه ضرورياً لاستكمال ما يتصل بقضية التطبيع ولواحقها والآراء والردود التي طرحت حولها. ولقاء مع مجلة الحرية التي تصدر بدمشق شوَّه الإخراجُ أكثره، لا سيما قسمه الأخير مما يضيِّع فرصة نشره كاملاً .‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    مدعوون للعمل بأمل
                    فازت شركة: أردان "الإسرائيلية" التي تعمل في مجال التكنولوجيا والاستشارات الاقتصادية، فازت بعطاء دولي في البحرين لإقامة منشأة لتحلية المياه في سلطنة عُمان. وقال مدير الشركة "الإسرائيلية": دان هوفمان إن المؤسسة المسؤولة عن تحلية المياه في عُمان قد أقامتها الولايات المتحدة الأميركية واليابان مع السوق الأوروبية المشتركة وسلطنة عُمان و"إسرائيل" وكوريا، وقد أنشئت ضمن المحادثات متعددة الأطراف التي جرت في حينه وهدفها دفع العلاقات في المنطقة.‏
                    ومن المثير للاهتمام والانتباه معاً، أن تستمر أسباب التعامل والتعاون مع العدو الصهيوني وشركاته، ولو من الباب الأميركي أو الدولي-على الرغم من استمرار قرارات الجامعة العربية بتفعيل مكتب مقاطعة "إسرائيل"، وعلى الرغم من قرار وزراء الخارجية العرب المبني على توجهات القمة العربية الأخيرة في القاهرة، بوقف أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني؛ وعلى الرغم من المد الشعبي العربي الداعي إلى وقف كل أشكال الهرولة على أعتاب العدو وإغلاق السفارات ومكاتب الاتصال التي تعلن اعترافاً وتعاوناً عربياً رسمياً مع "إسرائيل" ترفضه الجماهير العربية ويدينه الوجدان الفردي والجمعي ويشمئز منه معظم السياسيين والمسؤولين العرب، ولكنه مع ذلك، يبقى مفروضاً ومرعي التنفيذ والاحترام!؟.‏
                    وفي الوقت الذي يرتفع فيه صوت "نتنياهو" ممثل الكثرة الكاثرة في الكيان الصهيوني، الذي يعبر عن استمرار التهويد والاحتلال والمشروع الصهيوني العنصري-الاستيطاني بمراحله، يرتفع صوته برفض إعادة الانتشار-وليس الانسحاب - من أراضٍ في الضفة الغربية تنفيذاً لاتفاق أوسلو المشؤوم، ويعلن عن برنامج إضافي لتهويد القدس وتمديد مساحتها غرباً لزيادة الكثافة السكانية اليهودية فيها، ويستأنف البناء في "جبل أبو غنيم" و "باب العمود"؛ ويضاعف الجهود والخطط لاستيطان الجولان وتكثيف الوجود العسكري فيه؛ في هذا الوقت تعطى العطاءات الضخمة لشركات "إسرائيلية" لتقوم بأعمال من شأنها تعميق التطبيع مع العدو، ونشر جيوب بشرية تقوم بالتجسس إلى جانب التأثير على البنى النفسية والاجتماعية والثقافية العربية، وينشر وجودها المتحدي للمشاعر القومية تذمراً وغضباً، بل وبؤساً في النظرة إلى العلاقات العربية- العربية من جهة، وإلى علاقات العرب مع الكيان الصهيوني المحتل تستمر على الرغم من استمرار استفزازه وتحديه واحتلاله وعدوانه من جهة أخرى.‏
                    إن التسلل "الاسرائيلي" إلى اقتصادنا وتجارتنا وعلاقاتنا ومنشآتنا، ولو من الباب الأميركي المزركش "بالصداقة"، أمر مرفوض ويشكل إهانة لنا ولشهدائنا، واستهانة بقضايانا وقراراتنا، ويدفع باتجاه تعميق الهوة بين الشعار والممارسة وبين القول والعمل، وبين الأذن العربية والفم والعقل، إلى درجة تعطِّل المصداقية والفعالية وتؤذي كل صحوة ونهضة وأمل لنا في الصميم.‏
                    ولا يقتصر الأمر على عطاء لشركة "أردان" في عَمان، فهناك مكتب تجاري "إسرائيلي" في قطر، ووجوده الرمزي- ولو كان فيه شخص واحد- يدل على بقاء الباب العربي مفتوحاً مع العدو.‏
                    وهناك المنطقة الحرة في "إربد" شمال الأردن وأشكال التعاون الأمني، ومركز الموساد الإسرائيلي الموجود في الأردن، ذاك الذي يتجسس على الدول العربية في المنطقة، ويمد مساحة عمله لتشمل دولاً إسلامية أخرى؛ فضلاً عن شراء الأراضي وإقامة المؤسسات من قِبَل اليهود تحت لافتات وواجهات عربية أحياناً في ذلك القطر الحبيب، الذي أغرقته "اتفاقية وادي عربة" في المشروع الصهيوني من جديد؛ وهناك مكاتب علاقات في تونس والمغرب فضلاً عن السفارات في الأردن ومصر، وهناك الاتفاقيات التي عصفت بالحق العربي عامة والفلسطيني خاصة وعلى رأسها: "أوسلو" الابن الشرعي لكامب ديفيد... وهناك ما هو أكثر من هذا بكثير مما يثير الأسى وينشر اليأس والبؤس على الأمل والعمل العربيين حيال قضية مصيرية ومشروع نهضوي عربي يُراد له أن يكون المشروع النقيض والمضاد والمناحر للمشروع الاستيطاني - العنصري الصهيوني.‏
                    وإذا أضفنا إلى ذلك ماكرسته اتفاقيات سابقة من تزويد "إسرائيلي" بنسبة 85% من حاجتها للنفط؛ ذاك الذي تأخذه من مصر بموجب اتفاق كامب ديفيد، واتفاقية تسعى على الأرض لتزويدها بالغاز من قطر، وتحالف مع تركيا يمِدها بكل مقومات الأداء البعيد في أقطار عربية وإسلامية، ويمكنها من التجسس المباشر على حدود كل من: العراق وسورية وإيران، وما نشأ وينشأ في ظل التطبيع المستنبَت على "أرض الوفاق" مع فلسطينيي "أوسلو" من مشاريع مشتركة في مجالات النسيج والبناء والكهرباء والصناعات التكنولوجية مع شركات مصرية وأردنية وفلسطينية وبعض رؤوس الأموال لقلة خليجية؛ أدركنا كم هي سريعة ومؤذية وعميقة انتشارات السرطان الصهيوني في الأوساط العربية.‏
                    ولا أتكلم هنا عن الانتشارات الخبيثة في المجالات الثقافية، فتلك علة العلل التي يساهم سياسيون ومثقفون وأجهزة متعددة بتفعيل أدائها وتأثيل وجودها وتحقيق توسعها وتوزعها في أقطار الوطن العربي، وإقامة البنى القانونية والمؤسساتية الداعمة لها والحامية لوجودها، وكذلك تسييجها بسياج سياسي ودبلوماسي في بعض المواقع، وإطالة لسانها في نوع من الإعلام المقتنع بالأنموذج الصهيوني-الأميركي للسلام والعدل.‏
                    إننا على هذه الأرضية نشعر بعِظَم المشكلة وضخامة ما ينبغي أن نواجه باسم الحق التاريخي والعدالة الاجتماعية والشهداء والملايين الأربعة من الفلسطينيين المبعدين عن وطنهم، والمليونين الآخرين المفروضة عليهم حالة الاحتلال والقهر وأنواع الممارسات الإرهابية التي ترعاها وتمارسها "دولة" الكيان الصهيوني العنصرية.‏
                    إننا مدعوون للمواجهة بطاقة الوعي المعرفي المتجدد، والإيمان العميق بالله والحق والوطن والمستقبل، وبحق الأجيال العربية في وطنها التاريخي وبمقدساتها في القدس وفي فلسطين كل فلسطين.‏
                    مدعوون إلى عمل دؤوب على أرضية الثبات على الحق والمبدأ، والدفاع عن الشخصية والهوية والعقيدة الإسلامية التي تشكل جوهر ذلك كله والتي يستهدفها التهديد الصهيوني-الغربي فيما يستهدف من أرض وتاريخ ووجود ومصالح وثروات عربية؛ وعلينا ألا نهمل عامل الزمن، وكيفية الاستفادة من الوقت الذي هو-على حد تعبير قائلنا العربي القديم: "سيف إن لم تقطعه قطعك"؛ إننا مدعوون للعمل بقوة وعلم وأمل.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      جماعة القاهرة للسلام ونســــــل أوســـــــلو
                      بدأ الترويج الإعلامي لجماعة تؤسس الآن في مصر العربية تحت اسم "جماعة القاهرة من أجل السلام" وتسعى للحصول على ترخيص رسمي لجمعية بهذا الاسم، وهي حركة تقوم على أساس بيان "التحالف الدولي من أجل السلام العربي الإسرائيلي" وبرنامج ذلك التحالف الذي أعلن عن نفسه في 30 كانون الثاني/ يناير 1997 من كوبنهاغن وعرف بتحالف كوبنهاغن؛ وقد شارك فيه "مثقفون" غربيون صهاينة وإسرائيليون وفلسطينيون ومصريون وأردنيون، ونظمته الموساد من خلال رجلها ديفيد كمحي ووكالة المخابرات الأميركية الـ c.i.a من خلال اليهودي- الصهيوني مارتن انديك، الذي كان سفيراً للولايات المتحدة الأميركية في الكيان الصهيوني وأصبح الآن معاوناً لوزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت.‏
                      وقد عقد اجتماع كوبنهاغن تحت مظلة وزارة الخارجية الدانمركية، التي أرادت أن تسجل توازناً في الخدمة بعد أن سبقتها النرويج إلى رعاية اتفاق "أوسلو" السيء الذكر والسمعة والأثر.‏
                      والجماعة المصرية المشار إليها تضم، كما أعلن الناطق الإعلامي باسمها صلاح بسيوني، ما يقرب من ثلاثمئة شخصية مصرية تريد العمل في خدمة "السلام" كما قال.‏
                      ويبدو أن إخفاق تحالف كوبنهاغن في اكتساب قبول واحترام - من أي نوع في الشارع العربي - له ولدعوته المتهافتة للتطبيع الذي تلا إخفاق جماعة غرناطة 9-11/12/1993 جعل العاملين على هذا البرنامج الأميركو- صهيوني يغيِّرون الواجهات والتسميات ويبحثون عن صيغ "قانونية" ملغَّمة تمكِّنهم من استثمار رضا السلطات أو سكوتها، وتجعلهم ينشرون سمومهم وروح الانهزام الذي يحملون في المجتمع تحت غطاء فعاليات جمعيات وأندية، كما فعلت وتفعل التنظيمات المنبثقة عن الماسونية والمرتبطة بها، تلك التي عادت إلى بعض الساحات العربية مثل: الليونز والروتاري وسواها من أدوات الصهيونية والغزو الاستعماري الملفَّعة ببراقع خدمات اجتماعية وقيم إنسانية!؟!.‏
                      إن تحالف كوبنهاغن جاء لينقذ مشروع مجموعة غرناطة التي استظلت باليونيسكو لتعمل على خدمة اتفاق أوسلو والسياسة التي تقف وراءه لإشاعة التطبيع وفرضه تحت شعار "لننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام" ولتتابع عمل تلك المجموعة في الترويج لأربعة عشر مشروعاً عاجلاً منها:‏
                      1- إعادة كتابة تاريخ منطقة "الشرق الأوسط" بأيدي أبنائها - أي بشراكة صهيونية - ليكون لذلك التاريخ طعم ملوك بني إسرائيل والمشروع العنصري الصهيوني والأساطير المؤسسة للصهيونية.‏
                      2- إعادة النظر بمناهج التربية والتعليم لتصفيتها مما يزعج اليهود ويذكِّر بفلسطين وبمقومات الصراع العربي الصهيوني ووقائعه وأسبابه وأهدافه، وليتم في ضوء ذلك التأسيس لتربية ومن ثمة لثقافة بعيدة كلياً عن تكوين أجيال عربية تحمل وعياً بالقضية الفلسطينية وتعمل على استعادة الحقوق المشروعة للأمة في يوم من الأيام؛ أجيال منخورة الوعي والإرادة والقيم والبنية الروحية والقومية والعقيدية.‏
                      3- إقامة مؤسسات ثقافية ودور نشر ومراكز أبحاث ومنابر إعلامية تعمل على الترويج للتطبيع وسلام الاستسلام، وتسوِّغ الهزيمة تحت اسم "الواقعية الانهزامية" التي تريد أن تُظهر أن الوجود الإسرائيلي والتفوق الأميركي والتمزق العربي، المتجلي على هذا النحو في واقعنا الراهن، قدريّ وأبدي، يشكل "نهاية التاريخ" ولا مناص لنا من التسليم به والاستسلام لفرائضه؟!؟ واقعية مادية مفترسة، لا تنظر إلى السماء ولا تتمتع بأية أجنحة، ولا تسمح لأحد بأن ينظر إلى السماء وأن يستنبت للروح أحلاماً وأجنحة!!.‏
                      4- تسويغ التواصل، وتسويق مشاريع التجارة والسياحة والتصنيع بين العرب والصهاينة، وعقد مؤتمرات التعاون الاقتصادي، التي منها أنموذج مؤتمر الدوحة أو "الدوخة" - حسب اللفظ الحاخامي- خدمة لمصالح الكيان الصهيوني وتنفيذاً للإرادة والقرار والسيادة الأميركية!!‏
                      جاءت "جماعة القاهرة من أجل السلام" لتضع جهد "الثقافة" في خدمة سياسة صهيونية أخفقت حتى في إقناع شركائها والمتعاونين معها وأدواتها بإمكانية أن تحفظ عليهم ستراً، أو تقدم لهم قشَّة يتعلقون بها، أو تطلق عليهم رصاصة الرحمة؛ إنها تريدهم- في عهد نتنياهو، الذي يعبر عن حقيقة توجه الكيان الصهيوني ومشروعه - فهو منتخب من نسبة 56% تقريباً من التجمعات اليهودية في فلسطين المحتلة- تريدهم دمى عالية الصوت، تقبل بعشرين بالمئة مما تبقى من أراضي الضفة الغربية وغزة لتعلن فيه "حكماً ذاتياً"، و"دولة" في أحسن الأحوال لا تتمتع بأية سيادة أو قوة، دولة مكلفة بإدارة حرب ضد من تبقى من أبناء فلسطين في دائرة نفوذها، لتصفية البنية التحتية للإرادة الحرة والذاكرة القومية والمقاومة للاحتلال والسقوط.‏
                      إن جماعة القاهرة للسلام، التي تتعاون وتتواشج مع "حركة السلام الآن" الإسرائيلية وتلتقي معها في معظم الأهداف والوسائل، تعمل على "إجبار نتنياهو" على القبول بوسائل "شمعون بيريس"، أي أنها جزء من تحالف العرب مع حزب العمل "ضد" تحالف بعض العرب مع حزب الليكود، ولكنها في النتيجة تخوض معركة الصهيونية لفرض أنموذج أوسلو "المحسَّن" من قبل نتنياهو على العرب أجمعين، بوصفه الأنموذج المقبول للسلام الإسرائيلي- الأميركي الذي ترضى عنه العناصر الصهيونية الممسِكة بذلك الملف في الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني معاً.‏
                      إن رموز هذا الفريق من العاملين في "خدمة السلام" يمثلون توجهاً قديماً في بعض الأوساط الأيديولوجية والسياسية العربية كان قد اعترف بحق "إسرائيل في الوجود" منذ عام 1948 واختار أن يعمل لذلك بصورة سرية أحياناً ومن معسكرات مناقضة لتلك التي تسود الساحة الدولية اليوم، ولكنه كان صهيوني التوجه في النتيجة لا يختلف مع اليهود على إقامة دولة لهم على حساب الوجود الفلسطيني ولكنه كان يشترط عليهم أن يكون "راكاح" - الحزب الشيوعي الإسرائيلي- هو الحاكم أو الشريك الرئيس في الحكم.‏
                      وقد طوّر هذا الفريق أساليبه و"تكتيكه" بمرونة "مادية" وعوّم نفسه على أساس (مادي- واقعي- براغماتي) في آن معاً، فاختار العمل بإشراف الموساد والـc.i.a بعد تراجع إمكانات الـ k.g.b وتراجع نفوذه، وبعد انتقال ثقل المشروع الصهيوني إلى مواقع أخرى.‏
                      إنه يدافع عن "سلام" حزب العمل، أو "سلام بيريس، وهو "سلام" يقول "بالقدس عاصمة موحَّدة لإسرائيل" ومهوَّده بالكامل، ويقول بدولة لعرفات مع نفي الشعب الفلسطيني من مجالات السيادة والقيادة والوجود الحي والسيطرة على الأرض؛ ويقول بتقويض جامعة الدول العربية التي يسميها "جامعة الكراهية" ليقيم مكانها جامعة شرق أوسطية تؤسسها "إسرائيل" وتسيطر عليها، ويقول بإسرائيل "العظمى" بدلاً من "إسرائيل الكبرى" مرحلياً، لا سيما في مجالات الأمن والاقتصاد والعسكرتاريا، ويقول بتخريب الهوية الثقافية والقومية العربية لتحل محلها هوية "شرق أوسطية" للمنطقة في التحالف الأميركي- الإسرائيلي- التركي الذي هو السيد فيه؛ وفيها ثقافة المجتمع الاستهلاكي المستورد هي العليا، وفيها نفي مطلق لأصالة العروبة والإسلام، ومقاومة لهما باسم ذرائع شتى على رأسها الأصولية والإرهاب..الخ .‏
                      إن: جماعة القاهرة للسلام، والسلام الآن، وجمعية أبناء إبراهيم " في الأردن" وتحالف كوبنهاغن، وتطبيعيو غرناطة، وما نسل من أوسلو أو ينسل منها ويلتحق بها ويُستنبَت في حوضها من: بذور السلام، المرأة من أجل السلام، ومؤتمرات القمم الاقتصادية وكل ما يمارسه العنصريون الصهاينة والمتصهينون الغربيون والمتعاونون معهم ضد أمتنا العربية وعقيدتنا الإسلامية وهويتنا العربية وثقافتنا ومصالحنا وتكوين أبناء شعبنا له هدف واحد: هو إخضاعنا وإذلالنا، وله اسم واحد هو: أعداؤنا. ولا أرى مسوغاً للخضوع لإرادة الأعداء ولا للسكوت عنهم حتى لو ملكوا القوة، فإذا كانوا قد امتلكوا قوة أعلت صوت باطلهم فإننا مطالبون بامتلاك قوة تعلي شأن حقنا وصوتنا؛ ولا يتأتى لنا ذلك إلا من خلال المواجهة وتفعيل معطى الإرادة، ومصادمة هذه الحركات المشبوهة التي تريد أن تفتك بنا من الداخل، والرد بوعي وعلم وإيمان، على خطابها المتهافت، وإحباط أهداف ذلك الخطاب.‏

                      12/11/1997‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        هــل الســــلام مع العدو الصهيوني ممكن؟!
                        الذي يتابع الصخب الإعلامي والتحرك السياسي اللذين يملأان فضاء منطقتنا في هذه الأيام، ويضجان "بحرص" أميركي- غربي على تحريك مسارات "السلام" ودفع المفاوضات المتوقفة منذ زمن بين العرب والكيان الصهيوني، وبعث "أوسلو" من سباتها العميق أو من موتها شبه المعلن، يظن أن صحوة ما قد تحققت وانفراجاً يقود إلى "سلام" واستقرار وأمن واطمئنان سيتحقق للناس في أرض ذاق أهلها الأمرين طوال عقود من الزمن بسبب العدوان والاحتلال وإرهاب الدولة المنظَّم الذي تمارسه "إسرائيل"، وازدواجية المعايير التي غدت عنوان الإدارة الأميركية التي تحكم مجلس الأمن وتوظف مؤسسات الأمم المتحدة لمصلحتها، من دمن أن تدفع لها حتى المستحقات المالية المترتبة تلك التي تبلغ ملياراً وثلاثمئة مليون دولار.‏
                        وقد يذهب به الظن إلى حدود الاعتقاد بأن الغرب يريد أن يقدِّم لفتة للعرب بعد الذي شهده ولمسه من قنوط الشارع العربي من أي تغير إيجابي أو فهم موضوعي لما يجيش في نفوس الناس، لا سيما بعد تحركات رسمية وشعبية عربية في السنة الأخيرة تجلت في أكثر من موقف وأزمة ومناسبة.‏
                        ولكن قراءة دقيقة للمعطيات تشير إلى أن هذا "الركض" السياسي لا ينطوي على أي حرص أو تطلع أو رغبة في إنصاف أمة لا تنصف نفسها من نفسها، ولا يعلو صوتها في وجه جلادها، ولا تتراص صفوف أبنائها في وجه من يغتصب الحق والأرض والمقدسات، ويهدد العقيدة والوجود والشخصية الثقافية والهوية القومية كلها!! بل هو ركض في خدمة الصهيونية و"إسرائيل" أولاً، والحقيقة والعدل والعرب أخيراً.‏
                        إن المأزق الذي وجد الكيان الصهيوني نفسه فيه في جنوب لبنان جرَّاء ضربات المقاومة اللبنانية، والمؤشرات التي تنذر بانفجار شعبي في فلسطين المحتلة يقوم به من يعانون من كابوس الاحتلال وممارساته ومن سياسة التهويد والقتل والتجويع، التي يمارسها المحتل، وما تقوم به السلطة الفلسطينية من أداء يصل إلى 100% ضد البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية /حماس والجهاد الإسلامي/ ولا يؤدي إلى نتائج مُرْضِية لليهود والمسيحية-اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية بنسبة 100% كما أشار اليهودي-الصهيوني مارتن انديك مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى، هو الذي يدفع إلى تحرك منسق لتحريك الماء السياسي الراكد في هذه المنطقة؛ ويستهدف أهل الحق والأرض والمقدسات من أبناء العرب ودولهم وعلاقاتهم، وقدرتهم على الصمود، وحقوقهم التاريخية.‏
                        لقد قررت "إسرائيل" أن تلعب ورقة الانسحاب من جانب واحد تنفيذاً للقرارين 425و 426 اللذين رفضت تنفيذهما مدة عشرين سنة تقريباً، وهي بقرارها الانسحاب من جنوب لبنان نضع حداً لخسائرها البشرية والمعنوية التي تلحقها بها المقاومة اللبنانية، وتخلق وضعاً جديداً يؤدي -حسب خططها- إلى فصل المسارين السوري واللبناني، وزج الجيش اللبناني في مواجهة مع المقاومة في الجنوب وتكليفه بحماية أمنها "وحدودها الشمالية"، وتسعى لفرض شروط منها تجريد المقاومة من سلاحها؛ ومعنى هذا حربٌ بين اللبنانيين وتركيزٌ لجهود العدو في استيطان الجولان واستكمالٌ تهويد القدس وضربٌ الروح المعنوية للمقاومة الفلسطينية، التي عليها أن تتعلم الدرس اللبناني جيداً!! أعني درس المقاومة اللبنانية إذا تمكنت من تجريدها من السلاح وإشعال الفتنة الداخلية في ديارها.‏
                        وحين تفرغ "إسرائيل" من مشكلة جنوب لبنان والمقاومة تستطيع أن تتفرغ لعملية تهويد القدس في ظل رضا عربي ظاهر عن "تحريك" إيجابي أدى إلى الانسحاب من جنوب لبنان.‏
                        وإذا كانت " إسرائيل" قد نجحت في استثمار الأزمة الأخيرة بين لجان التفتيش "أونيسكوم" والعراق لمعاودة البناء في "جبل أبو غنيم" و "باب العمود" وقضم الكثير من أرض الضفة وتوظيف سلطة الحكم الفلسطيني المحدود ضد عناصر المقاومة؛ فإنها ستنجح هذه المرة أكثر في فرض ما تريد على ما تبقى من مطالب عرفات، وتقيم الدنيا ولا تقعدها ابتهاجاً بإحياء "أوسلو" و"بسلام" حققته حرصاً منها على "السلام"!؟؟.‏
                        إن من يعتقد أن "إسرائيل" قد تكفّ عن التوسع والاستيطان والممارسة العنصرية ضد العرب، وعن المشروع الصهيوني-التوراتي "إسرائيل الكبرى- أو إسرائيل رباني أو رباتي"، كما يقولون، إنما يبتلع وهماً ويعيش وهماً؛ ومن يظن أن هذا الكيان العنصري الذي قام على العدوان والإرهاب وتاجر بالأساطير والأكاذيب ليروِّج مشروعه المناقض لكل مشروع نهضوي عربي، يرغب في "سلام"، إنما يدخل عملياً مرحلية "تكتيك" العمل الصهيوني المستمر، الذي يرى في "السلام" ضرورة مرحلية لانتزاع اعتراف كامل شامل من العرب بوجوده وبحق تاريخي له لن ينازعه أحد عليه مستقبلاً لأنه تم بفرض أمر واقع، واعتراف رسمي بذلك الأمر الواقع، على مسمع من العالم كله.‏
                        وهذه المرحلة من "سلام إسرائيل" لن توفر سلاماً من أي نوع للعرب، لأن المشروع الصهيوني الذي يستند إلى "عقيدة توراتية-تلمودية" ومصلحة استعمارية غربية لن يتوقف عن التحقق في مداه الاستراتيجي المرسوم له؛ وإذا كان "حمائم" كيان الاحتلال قد ارتكبوا أعظم المذابح ومارسوا أعتى أنواع الإرهاب لتحقيق ما تحقق حتى الآن، فإن "صقوره" سوف تذرع ما بين الفرات والنيل ـ إن استطاعت ـ بكل أشكال الأداء الدموي والاقتصادي البشع للوصول إلى ما يرضي العنصرية-المادية-الاستعمارية، التي تقف خلف هذا المشروع وتعتبره "مقدساً" وواجباً إنسانياً- غربياً، ويمهد لظهور "أو عودة: المسْيا أي المسيح"، حسب اعتقاد المسيحية اليهودية الثابت، الذي يدين به أكثر من خمسين مليوناً من الأميركيين من غير اليهود؛ وكلهم نافذ الكلمة والقرار، مشبع حتى العظم بهذا الاعتقاد؛ وهم الذين مارسوا عنصرية بغيضة وتمييزاً مقيتاً وذبحوا الهنود الحمر، سكان البلاد الأصليين في أميركا، ليقيموا دولة ما زالت تمارس التمييز وتلفِّق الادعاءات وتهدد الآخرين أو تبتزهم باسم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية... الخ. وهي تعيش إفلاساً روحياً مطلقاً ومادية لم تبق من الإيمان والروح والقيم والحضارة الحقة إلا جوفاً ربوياً ضخماً لا يرتوي أبداً، ولا يميز بين الوسائل عندما يتعلق الأمر بالذبح والسيطرة وإخضاع الآخرين.‏
                        إن نتيناهو ابن شرعي لعنصريتين متكاملتين: دينية- تلمودية- يهودية ومادية أميركية دموية، وحين يفعل ويقول ويتجاوز كل الحدود اليوم فإنما يعبر عن التيار العام الذي يعبر عن المشروع الصهيوني-الاستيطاني التوسعي ويتمسك به، سواء في الكيان الصهيوني أو في الولايات المتحدة الأميركية ودوائر القرار فيها؛ وإذا أبغضه بعض أهل ذلك التوجه واحتجوا عليه وأظهروا معارضة له فإنما يفعلون ذلك لأنهم يرون حماقته وصلفه في التعبير عما يريدون هم تحقيقه بقفازات حريرية ووجوه أنيقة تخفي الرغبة في افتراس الآخرين؛ ولأن هذا الأسلوب يسبب المشاكل وقد يوقظ النيام.‏
                        إن دولة الحاخامات هي التي تحكم، واليمين المتطرف هو اليمين المتدين، وحتى اليسار العلماني الصهيونية لا يتنكر لأهداف اليمين في تحقيق المشروع وتهويد القدس وجعلها "عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل"؛ ونتنياهو ليس فرداً ولا ظاهرة شاذة، وعلينا أن نتذكر أنه أتى بأصوات 56% من اليهود في فلسطين العربية المحتلة.‏
                        يبقى أن نتوقف عند سؤال: هل يمكن أن يقوم سلام عادل شامل دائم بين العرب والكيان الصهيوني مع وجود سيادة يهودية على فلسطين وعاصمة صهيونية تصبحها القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟!‏
                        لا أقول ولا أعتقد ولا أؤمن بإمكانية قيام سلام من أي نوع مع العنصرية الصهيونية واليهودية التلمودية المحتلة لأرض شعب يجب أن يعود إلى أرضه، ومن حقه أن يقاوم ويقاتل من أجل ذلك، هو الشعب الفلسطيني، الذي يشكل جزءاً من أمته ولن يحرر أرضه إلا بقوة أمته كلها.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          أكاذيب وتهديدات صهيونية
                          يحتفل الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي أماكن عدة من أوربا والولايات المتحدة الأميركية اليوم / 23/4/1998 بذكرى ما يسميه " المحرقة "، إذ يزعم أن ستة ملايين يهودي قد أُبيدوا على يد النازيين في الحرب العالمية الثانية، التي كلفت البشرية حوالي خمسين مليوناً من الضحايا.‏
                          وإذا كانت بشاعة ممارسة النازيين في تلك الحرب، ضد من خضع لاحتلالهم وقاومهم أو غدر بهم، ومن أولئك يهود، مما لا يرقى إليه شك ؛ فإن اليقين قائم، على أسس منطقية وعلمية ووثائقية بـ :‏
                          ـ أن الحركة الصهيونية كانت شريكاً للنازية في بعض مراحل المأساة التي حلَّت باليهود لتخدم مشروعها الاستيطاني في فلسطين.‏
                          ـ وأن الأرقام التي تذكرها تلك الحركة عن عدد الضحايا من اليهود في تلك الحرب، وتروِّجها وتتاجر بها " إسرائيل " اليوم بهدف الابتزاز وتبرير العدوان، ليست دقيقة على الإطلاق وهي: إبادة ستة ملايين يهودي إذ الرقم هو في حدود المليون يهودي تقريباً.‏
                          ـ وأن البلدان التي خسرت في الحرب أكثر من سبعة عشر مليوناً من الضحايا، معظمهم من المدنيين، مثل الاتحاد السوفييتي السابق، لم تجعل من هذه القضية تجارة سياسية عالمية وعامل ضغط وابتزاز.‏
                          ـ وأن ما أصاب غير اليهود من المعاناة والموت والجوع والإبادة لم يكن يقل عما أصاب اليهود بل هو أكثر.‏
                          - وأن الإنسان الذي يموت هو إنسان أياً كانت جنسيته وعقيدته ولونه وقوميته، والموت هو الموت أياً كانت طرقه وأدواته وأساليب إلحاقه بالآخرين ؛ فقد تعددت الأسباب والموت واحد .‏
                          وإذا كان لا يخالجنا الشك في بشاعة إجرام النازيين وانعدام الإنسانية في ممارساتهم إبَّان تلك الحرب المجنونة، فإن الحلفاء ارتكبوا الكثير من المجازر البشعة بحق الألمان وسواهم من الشعوب التي طحنتها حرب الغرب " المتحضِّر "؟! على أرض أوربا وآسيا وإفريقيا، وحصد العرب بعضاً من أسوأ نتائجها .‏
                          فحين نتذكر تدمير همبورغ على رؤوس ساكنيها في سلسلة من الهجمات الجوية البريطانية الصاعقة المتلاحقة، أو إبادة دريسدن، أو إحراق برلين ؛ أو استخدام القنابل الذرية لأول مرة في التاريخ لإزالة هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين مع سكانهما من الوجود في دقائق، على الرغم من إعلان إمبراطور اليابان نهاية الحرب ؛ نعرف أن قانون الحرب قد استهلك أخلاق الجميع وأظهر إفلاسهم الروحي ووحشيتهم بشكل فاضح، وأن الخسارة الفادحة قد أصابت البشرية في الصميم. ولكن الذي يكتب تاريخ الحروب هم المنتصرون وهم الذين يحددون التقويم النهائي للأشخاص والأعمال والأفعال والأحكام والنتائج، ويرسمون توجهات المستقبل من وجهة نظرهم، ولو إلى حين.‏
                          نعم تعرَّض اليهود لكارثة على يد النازي، ولكن تعرضت ستالينغراد ووارسو وحتى لندن وباريس لخسائر مادية وبشرية كبيرة في تلك الحرب، وكانت أقل الخسائر هي خسائر الأميركيين / 280 / ألفاً فقط ومرابحهم منها كانت أكبر المرابح ؛ فما لذي يجعل كل تلك الأرواح تتوارى في ظلال النسيان بينما يصبح قتلى اليهود هم قتلى الحرب " الأوربية " الثانية، ومآسيها التي طالت ثلاث قارات في الأرض هي وحدها مآسي اليهود في تلك الحرب؟! وكأن هتلر لم يشن حربه أصلاً إلا على اليهود، ولم يمت من البشر فيها سواهم؟!‏
                          قد يكون هناك عدة تفسيرات لهذه الظاهرة التي يعززها ويكرسها وينميها الإعلام المسيطَر عليه صهيونياً، ولكن يبقى من أبرز تفسيراتها هو العنصرية الصهيونية ـ التلمودية البغيضة، وتوظيف هذه " الأسطورة " في جملة أساطير وخرافات يهودية أخرى لخدمة المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، الذي ساهم الغرب في إقامته ودعمه، ويساهم في حمايته وتشجيع الممارسات العنصرية لأصحابه، تلك المتفوقة : في الأداء والكذب وتزييف الحقائق والوقائع، على كل ما قام به النازيون .‏
                          قال نتنياهو ـ أنموذج العنصري الصهيوني ـ النازي ـ قال من معسكر " أوشفيتز " في بولونيا 23 نيسان، 1998 " إن العبرة التي يركِّزها في هذه المناسبة : " أن القوة هي التي تقيم الهيكل الثالث وتحميه، وأنه انتصر على النازية. " ومن المفيد أن ندقق في معنى هذا الذي " يهلُّ " به علينا هذا العنصري التلمودي البغيض ابن بروكلن موطن الحقد الصهيوني الأقوى على العرب والمسلمين، الذي يحتل هو وأمثاله أرضنا العربية: فلسطين والجولان وجنوب لبنان؛ لنقف على مغزى" ذكر الهيكل الثالث وحمايته " في هذه المناسبة ومن بولندا البابا الحالي للفاتيكان، الذي اعتذر لليهود باسم كنيسته قبل أسابيع عن موقف الكنيسة من : " مأساتهم " في أثناء الحرب العالمية الثانية.‏
                          لنتساءل : أين سيبني اليهود الهيكل الثالث؟! إنهم يقولون ومنذ عقود إنهم سيبنونه في موضع المسجد الأقصى في القدس الشريف، وقد بدأت محاولاتهم لإحراق المسجد الأقصى وتدميره منذ احتلال القدس عام 1967، وهناك مجموعات إرهابية ـ صهيونية مكرَّسة لهذا الغرض وتعلن عن هدفها صراحة، والكيان الصهيوني يحفر الأنفاق تحت المسجد، ويهيئ لما يتطلع الصهاينة إلى تحقيقه ؛ ومن أجل ذلك هم يطورون الأسلحة ويقيمون التحالفات ويستقدمون " المستوطنين " ويستمرون في احتلال الأرض وتشريد السكان العرب وقتل كل حلم وأمل وإرادة لديهم في استرداد أرضهم؛ وهم يلاحقون من يفكر من العرب بالمقاومة والتحرير، يلاحقونه من داخل البيت العربي ليقضوا على كل بادرة أمل ينعشها دم عربي ـ إسلامي يتفجر على طريق القدس، طريق التحرير والحرية والنصر والكرامة.‏
                          وفي الوقت الذي يركز فيه رؤوس الإرهاب الصهيوني المستمر على إنعاش الذاكرة اليهودية والأوربية وحتى العالمية بما يسمونه " المحرقة "، ويضخمون شأنها، ويقاومون كل من يفكر بإلقاء ضوء العقل والعدل والحق على وقائعها، نقوم نحن ويُطلب منا أن نقوم، بتخريب ذاكرتنا ونقض عمارتها المتصلة بحقائق الصراع العربي الصهيوني وبحقوقنا في أرضنا ومقدساتنا ؛ ويقوم الصهاينة بملاحقة العرب الرافضين لهذا المطلب بتُهم " العداء للسامية " ونحن الأولى بسام وإبراهيم من يهود " الخزر " الذين لا يمتُّون إليهما ولا إلى هذه المنطقة بأية صلة !! ونجد الصهاينة يروجون هذه البضاعة الفاسدة في الإعلام، وكأن العرب الذين تتعرض أرضهم للاحتلال وشعبهم للتشريد ومقدساتهم للتهديد والتهويد هم على رأس المتهمين بالنازية وبارتكاب الأفعال العنصرية ضد اليهود؟!‏
                          وفي الوقت الذي يوجهون فيه الاتهامات القاسية للمجاهد الحاج أمين الحسيني لأنه أيد الألمان في الحرب مناصرة لقضية شعبه، يقدمون لنا المجرم الإرهابي الذي تعاون مع النازيين " إسحاق شامير " متحدثاً عن إجرام النازي، وعن حق اليهود، وكأنه قيمة إنسانية؟!‏
                          فهل هناك ما هو أكثر افتراء وكذباً وتزييفاً للتاريخ والحقائق من هؤلاء النازيين الجدد؟! وهل يمكن أن نأمن على أنفسنا ومقدساتنا وأجيالنا ومستقبلنا منهم، وهم الأفعى في جيوبنا؟! وهل يقيم لنا وجوداً وحقاً وحضوراً وحجة معهم سوى القوة المستندة إلى حق ساطع وإيمان عميق بالله والوطن، وعلم نطبقه في كل مجالات حياتنا ونملك القوة على أرضية تحويله من النظرية إلى التطبيق ؟!؟‏
                          إنني لا أرى غير ذلك سبيلاً، والله سبحانه وسع كل شيء علما، وهو الأقدر والأقوى، وبيده كل شيء .‏

                          دمشق 23/04/1998‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            نـــــداء القنيطرة
                            في الثاني والعشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر 1973 صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم / 338 / الذي ارتبط عضوياً بالقرار /242/ لعام 1967 وكان يقضي بوقف القتال ويشير إلى انسحاب كامل من الأراضي المحتلة وضمان للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني .‏
                            ولكن " إسرائيل " التي دُعِمَت بجسر جوي أميركي لم يسبق له مثيل في التاريخ، بعد برقية غولدا مائير اليائسة إلى الرئيس نيكسون " إسرائيل تحترق " لم تلتزم بنص القرار وحسنت مواقعها القتالية بعد أن غيرت مجرى العمليات .‏
                            ولكن الحرب التي دخلها الرئيس الأسد بهدف التحرير ودخلها السادات بهدف التحريك، انتهت تلك الحرب بتداخل مثير للحزن والأسف بعد ثغرة الدفرسوار ومحاصرة الجيش الثالث على ضفة القناة والوصول إلى الكيلو (101)، وبضغط للقوة شديد وصل العدو أيضاً، في ذروة من ذرا الحرب، إلى مشارف " سعسع " .‏
                            وعقد مؤتمر جنيف في 21/12/1973 ولم تحضره سورية لأنها كانت تتطلع إلى أن ينعقد المؤتمر لينفذ القرار /338/ المرتبط عضوياً بالقرار /242/ والقاضي بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وبالعودة أولاً بالقوات إلى الوضع الذي كانت عليه يوم 22 تشرين أول، ولكن المنحى اتجه نحو فصل للقوات على الجبهة المصرية بقرار جزئي - ثنائي تم في 18/1/1973 وشكّل خطوة منفردة ظل كيسنجر ينميها على طريق سياسة الخطوة - خطوة إلى أن وصلت الأمور إلى كامب ديفيد في نهاية المطاف بعد " الخيمة 101"، تلك التي فرَّخت حلولاً منفردة أوصلتنا إلى أوسلو ووادي عربة و " فرادة " قَطَر في مؤتمر القمة الاقتصادي الرابع على طريق التطبيع وخدمة "إسرائيل" .‏
                            وحين بدا أن التضامن العربي أخذ بالتهافت بعد ذروة متميزة بلغها في حرب تشرين 1973 باستخدام النفط - ولو جزئياً - كسلاح، وبعد أن طلب رسمياً في قمة الجزائر المصغرة 13-14 /2/1974 استئناف ضخ النفط إلى الولايات المتحدة الأميركية، وجدت سورية نفسها أمام وضع جديد، يتطلب على الأقل حماية الوجدان الجمعي العربي والبقاء صموداً ولو على كثيب من جمر تنفخ فيه الريح.‏
                            وفي الحادي عشر من شهر آذار 1974 اتخذت القيادة السورية قرارها الذي صدر بتوجيه من القائد العام للجيش والقوات المسلحة بشن حرب استنزاف ضد العدو الصهيوني وتحسين المواقع القتالية السورية:‏
                            "الاشتباكات يجب أن تكون يومية ومستمرة ويجب ألا نترك للعدو فرصة يرتاح فيها من ضربات قواتنا المسلحة.".‏
                            وهكذا بدأت حرب الاستنزاف على جبهة عربية وحيدة هي الجبهة السورية، واستمرت أكثر من سبعين يوماً كانت القوات المسلحة في الجمهورية العربية السورية خلالها تخوض حرباً في مختلف قطاعات الجبهة؛ وحظيت قمم جبل الشيخ بأشرس المواجهات القتالية وأعنفها، في طقس لم يكن يلائم المقاتل العربي السوري، لأنه لم يعتد على حرب الجبال في الثلوج.‏
                            وفي كل يوم من تلك الأيام المشهودة كان المواطن العربي في سورية يتلهف لمتابعة ما يجري، قلبه مشدود إلى الجبهة ويده مستغرقة في عمله اليومي يحقق مزيداً من الإنتاج ليدعم المقاتلين في مواقعهم.‏
                            وكان المواطن العربي في ربوع الوطن الكبير مشدوداً هو الآخر إلى معركته القومية في الجبهة السورية مع العدو الصهيوني. وسورية التي ولدت من جديد في صبيحة يوم تشريني ملفَّع بالدم والفخر والتطلع إلى النصر، أخذت تستعيد حماستها وأغنياتها وتضمد جراحَها وتستأنف الصراع. ومع المدفع والصاروخ وصرخة المقاتل كانت تنثال الأحزان والآمال في النفوس، ومع الألحان والبيانات ونتائج العمليات كان الدمع والفرح ينسكبان من عيون القلوب وفي بنات الشفاه: النصر أو الشهادة.‏
                            كان الوطن كله بيتاً واحداً وقلباً واحداً وإرادة واحدة، و"سورية يا حبيبتي" التي رددها الأطفال والشباب في صباح تشريني مزهر بالأمل، تنعش في النفوس كل ما كان فيها من توق للنصر في الأيام الأولى من تشرين، وينتشي الوطن معنى وقيمة ومبنى شاملاً التوجهه القومي، في كل قلب وكل عقل.‏
                            "إن حرب تشرين لم تنته"، و"سنواصل تدمير آلة الحرب الإسرائيلية" و" إن حرب تشرين لم تتوقف والقتال مستمر".‏
                            هكذا كان صوت القيادات والقواعد، القادة والمقاتلين في القوات المسلحة، كما في الشارع المدني في سورية؛ وعلى مدار الساعة كانت تتم المواجهات والاشتباكات والاستعدادات، لقد ولدنا في الوطن من جديد، وولد الوطن فينا ومعنا من جديد، وصهرت نارُ الحرب أدران النفوس. وفي المواقع السورية المحتلة وغير المحتلة كانت تزرع من جديد روح ومعانٍ وقيم، وأخذ المواطن يتآلف بعد تعارف صميم مع:‏
                            "تل المال- تل شمس- تل الفرس- تل الجوخدار- تل الشعّار- تلول الشِّعاف- تل مرعي- تل عكاشة- تلول فاطمة. إلخ...."‏
                            ومع مواقع وقرى مثل:‏
                            "ماعص- أيوبة- خسفين- الخشنية- أم الدنانير- كوم الويسية- الشعبانية- اجْمِرّين- الفحَّامة... وخان أرنبة.. إلخ...".‏
                            أمام الجبل الكبير، جبل النقاء والحكمة والماء، قلب سورية الراسخ، وعينها التي تطوف على جناحين من حسرة وأمل، لتراقب من موقعها: دمشق الساحرة الصامدة وسهول حوران وطبريا والجليل و يافا الأسيرة وجنوب لبنان وسهل البقاع؛ أما ذلك الجبل فقد كان الذروة في حرب تشرين يوم اقتحمنا المرصد الذي حصَّنه العدو الصهيوني ورفعنا علَمَنا عليه، ويوم شهد قتالاً عنيفاً من أجل استعادة ذراه وسفوحه ومواقع فيه. ومن يتبادل الرؤية مع إحدى قممه/ قمة شعيب، يعرف كم اختلط الدم بالثلج، وكم بذل الشهداء من تضحيات رفعت رأس الوطن ولم ينسها ولن ينساها الوطن أبداً.‏
                            كان الليل أحد المقاتلين الأشاوس في الجبل، وكان يقاتل في الموقعين؛ والليل ليس لنا وحدنا، إنه الجناح الذي يلف العدو أيضاً؛ ولليل في حرب الاستنزاف، لا سيما في جبل الشيخ، شأن ينبغي ألا يفوتنا الاهتمام به والتعرف إليه.‏
                            فتحتَ مسوحه كان يعاد تزويد المواقع بالمقاتلين والمؤن والذخيرة، وعندما يبهت وجهه وينكشف تُستأنف الرمايات، وعلى سفوحه كانت تُشق الطرقات إلى القمم؛ وكم استفاد العدو من سفوحه الغربية ليلتف بطيرانه من أرض لبنان ليفاجئ قواتنا التي كانت تتصدى له بصواريخها فيرتفع إلى أعلى القمم ويلقي الطيارون حمولتهم في الفراغ خوفاً من "سام" الذي كان يحسِن اصطيادهم في تشرين وحرب الاستنزاف بأيدي مقاتلين سوريين اكتسبوا الخبرة وأحسنوا التعامل مع السلاح المتطور والطبيعة وظروف الشتاء الثلجي القارس. وفي كل المواقع كان المقاتل السوري يخوض حرباً عادلة يؤمن بضرورتها لتحرير الأرض، ويعرف أنها تأتي دفاعاً عن النفس والحق والوجود؛ ربما فرضت عليه، والحرب عادة لا تُعشق وإنما تحتِّمها ظروف وتحديات مصيرية، ولكنها هي وحدها التي تضع حداً للطمع به وبوطنه، وللاستهانة بمصيره ومقدراته؛ إنها ليست حرب شخص وإنما هي حرب أمة، وليست دفاعاً عن مطامع وإنما دفعاً لعدوان وإجلاء لاحتلال وتحريراً لأرض؛ وليست نزوة غير محسوبة ممن يصدرون الأوامر وإنما تقدير مدروس لأوضاع واستحقاقات تؤدي إلى نتائج أو يُراد لها أن تؤدي إلى نتائج إيجابية.‏
                            لقد أدت حرب الاستنزاف التي خاضتها سورية وحيدة مدة تزيد على سبعين يوماً إلى اتفاقية فصل القوات التي أقرها المؤتمر القطري الخامس الاستثنائي الذي انعقد في دمشق 30/أيار 1974 إلى 13/حزيران 1974 وأقر "الموافقة على فصل القوات على الجبهة السورية" ووجه تحية للجيش والقوات المسلحة والقائد العام على ما بُذل من تضحيات وما تجلى من بطولات، وما أسفرت عنه تلك الحرب من نتائج كان على رأسها عودة القنيطرة محررة.‏
                            وفي السادس والعشرين من شهر حزيران 1974 زحف أكثر من سبعين ألف مواطن عربي سوري إلى القنيطرة، تتقدمهم اللهفةُ وتغمرهم البهجة ويحدوهم الأمل، فهي الأرض المستعادة بقوة الشهادة وعزم الإرادة وتصميم الشعب، وهي أول أرض ينسحب منها العدو تحت تأثير القوة منذ بدأ زحفه العدواني على أرضنا، وهي عاصمة الجولان التي يبشر رجوعُها برجوعه، ويشير إلى فلسطين التي تنتظر التحرير بدورها.‏
                            في الطريق إلى القنيطرة تستنشق -منذ سعسع- رائحة الحرب والحرائق والدمار والموت، وتبرز لك من بين الصخور والتلال والمواقع الوعرة وانحناءات الطريق شواهد، لا تمحى ولا تنسى، على عنصرية الصهيونية ونازيتها؛ ولكن كل خطوة من الطريق إلى شهيدة المدن -القنيطرة- تزيد رئتيك امتلاء بنسيم ذي طعم مغاير لكل ما ألِفْت، نسيم يمتزج فيه نكهة العشب والأزهار البرية بلذع أرواح تجرح أجنحتُها، الخفَّاقة في الفضاء من حولك، كل خلية تلامسها فيك وتثير فيك شعوراً حزيناً بمن ضحى بنفسه وراحة أولاده وبكل ما ينتظر أسرة كأسرتك من مستقبل، لكي تسلك أنت طريق العودة إلى القنيطرة أو طريق زيارتها.‏
                            إنهم الشهداء يخفقون بأجنحة من نور ويقولون لك في كل خطوة على تلك الطريق:‏
                            "لا تنس أهدافنا.. لا تنس الوطن المحتل.. لا تنس ما فعله العدو بنا، تلك وصيتنا إليك وأمانتنا لديك.".‏
                            والشهداء الذين يرفرفون زرافات ووحداناً، ويمتد ركبهم منذ عام 1948 إلى يوم الناس هذا على تلك الطريق، طريق القضية الفلسطينية، ليسو أغبياء، ولم يستشهدوا عبثاً؛ ليسوا من المغرَّر بهم، ولم يموتوا على مذبح غير طاهر ومن أجل قضية ظالمة، شأن العدو المغتصب القادم على جناح الحقد والأسطورة والاستعمار، يقتل ويحتل وينهب ويغتصب.‏
                            شهداؤنا قضوا تحت مظلة الحق والوطن من أجل الحق والعدل والمستقبل والحرية للوطن.‏
                            ويستمر الفضاء يحدثك بذلك وأنت تقطع الطريق مع الزحف البشري الصاعد إلى هضبة الجولان.‏
                            بعد "خان أرنبة أو أرينبة" بدأت الدهشة تتحول إلى هلع في العيون والقلوب في يوم السادس والعشرين من حزيران قبل ثلاث وعشرين سنة من الآن، فبيوت القنيطرة التي كانت حتى الأمس القريب، في مراصدنا، ظاهرة تلوّح للقادمين من بعيد، ليست على تشامخها الذي استمر على الرغم من الاحتلال، وهناك أجنحة بيوت مهيضة تظهر أكثر فأكثر كلما تقدم الركب منها أكثر فأكثر.‏
                            وشيئاً فشيئاً تبدت للألوف من السوريين الزاحفين إليها على أجنحة الفرح والأمل، مأساة المدينة التي دمرها الحقد الصهيوني الأسود قبل انسحابه منها تحت تأثير حرب الاستنزاف وما أنتجته من سياسات ومفاوضات قام بها كيسنجر.‏
                            ودخل أهل البيوت إلى البيوت، وأهل المسجد والكنيسة إلى المسجد والكنيسة، وأهل المشفى والمستوصف إلى مشفاهم ومستوصفهم, وكانت جثث كل ذلك تتكوم أمام عيونهم وتقدم لهم الشهادة التي لا تُنْقَض على وحشية العدو الصهيوني العنصري، كما تقدم لهم الدرس الذي ينبغي أن يحفظوه جيداً وهو أن هذا العدو لا يمكن التعايش معه والقبول به، على أرضية أي سلام، جاراً؛ فهو المحتل والمغتصب والحاقد على البشر والحجر في هذه الأرض، ولن يكف أذاه عن الأمة والوطن والعقيدة سوى القوة وتضحيات الشهداء، سوى قتال كقتال تشرين وتصميم كتصميم حرب الاستنزاف.‏
                            جال المواطنون العرب السوريون، من أبناء القنيطرة وسواها، في شوارع المدينة، ورأوا كيف ثقب الرصاص كل نقطة في المشفى، وكيف دمرت الكنيسة وسُرق جرسُها وكيف دُمرت مئذنة الجامع وعُبث به، وكيف أصبحت المدينة كلها‍؟‍.‏
                            ومن بعيد كان جبل الشيخ يتأمل الجموع بشيء من الحزن والفرح، الحزن على ما بهم وما آل إليه أمر مدينة وضعها في بؤبؤ العين، والفرح بعودتهم ليبنوا البيوت ويعيدوا الحياة إلى المدينة ويمسحوا الحزن عن وجه الأرض، وليبعثوا في أوصاله النشوة.‏
                            وعلى مقربة من المدينة، في ظل الجبل الشيخ، تجمَّد أبناءٌ له من الهلع والغضب: تل "أبو الندى" يحمل في جمجمته كل عيون العدو التي تراقب ما يجري هنا وعلى امتداد مسافة مئات الكيلومترات، وأخواه عن يمين وشمال يشدّهما أسر الاحتلال ويمنعهما من مشاركة القنيطرة فرحتها بعودة أهلها. كل ما حول القنيطرة من أرض يشكل سواراً ضاغطاً عليها عدا انفتاحها إلى الشرق في ممر سلكه أهلها إليها، العدو يخنق المدينة، ولم يتزحزح عن عنقها؛ وعلى الرغم من ذلك واصلت الأمل والفرح والابتهاج بعودتها إلى أرض الوطن.‏
                            وفي ساحة من ساحاتها الشرقية وقفت جموع الناس، بين لاثم لتربة الأرض المضمخة بدم الشهادة، وناظر من خلال غمامات الدمع المبتهج في المُقَل إلى علم البلاد وهو يرتفع من جديد على سارية شامخة، بيدي القائد العام للجيش والقوات المسلحة رئيس الجمهورية بين التصفيق والهتاف والتكبير والتهليل، وهو يلثمه ويحييه ويقول على مسمع من الدنيا:‏
                            "ما من قوة في الدنيا تمنعنا من استعادة أرضنا.. وما من إنسان في الدنيا يقبل بالاحتلال لأرضه؛ إن التاريخ قد سجل انعطافاً جديداً للعرب، ها هو قد بدأ باستعادة القنيطرة، وسيشهد هذا التاريخ الانعطاف الآخر، عندما تضرب إرادة العرب أولئك الغزاة لتطردهم من كل الأرض، ولتخلص ملايين العرب الفلسطينيين وغيرهم، من هذا الاضطهاد الذي طال أمده.".‏
                            بقيت القنيطرة حزينة، وعادت الجموع الزاحفة من ربوع سورية إلى أماكن انطلاقها، في قلبها فرحة مجروحة، وفي نفوسها أمل يترعرع.‏
                            لم نبادر في ذلك التاريخ إلى الاستقرار في القنيطرة المدمرة لشيء لم تفصح عنه اللحظة التي تدفقت فيها الجموع ورُفع فيها العلم، بعد مدة قررنا أن تصبح متحفاً حياً وشهادة خالدة على وحشية الصهيونية وعنصريتها، وشرعنا ببناء مدينة البعث /القنيطرة الجديدة/ إلى الشرق منها؛ ولكن شريحة من الناس ليست قليلة، من أهل الجولان والقنيطرة الذين نزحوا منها تحت وطأة الاحتلال والحرب والاضطهاد، مازالت تتطلع إلى ذلك اليوم الذي تعود فيه إلى عاصمة الجولان وربوعه بكل ثقل الأمل والعمل لتبني على أرض القوة المنقذة وجوداً حراً وقوة محررة ننطلق منها إلى تحرير الأرض المحتلة.‏
                            لقد مهَّدت حرب الاستنزاف لاستعادة القنيطرة وما استعيد من أرض دنّسها الغزاة الصهاينة، ومكنت تضحيات المواطنين ودماء الشهداء، التي جُبِلت مع تربة الجولان وسفوح جبل الشيخ وعَندَمَت ثلجه الناصع النقي، من أن نرفع العلم ونقول كلمات الحق؛ ولنا أن نقرأ في الذكرى الثالثة والعشرين لعودة القنيطرة محررة إلى أرض الوطن، بعد سبع سنوات وستة عشر يوماً من الاحتلال الصهيوني لها! لنا أن نقرأ دروس تلك الأيام جيداً ونستنتج منها حقائق تتصل بثوابت مبدئية وحقوق تاريخية وتجارب أمم وشعوب، في مقدمتها:‏
                            1- أن حقوق الشعوب لا تموت، والتعبير عن تلك الحقوق وعن الثوابت المبدئية التي لها لا يعرف التقادم، وتسقيه التضحيات ويجدده الدم المراق ليجعله حقائق بلا ضفاف.‏
                            2- أن القوة على أرضية العلم والإيمان حاجة مستمرة لكل أمة تريد أن تعيش بأمان وسلام وتحافظ على وجودها وحقوقها وشخصيتها ومصالحها.‏
                            3- أن التضامن العربي هو مدخل العرب إلى تغيير شامل لما هم فيه من تهافت وتخاذل وضعف، وأنه الطريق المؤدية إلى عمل عربي مغاير لكل ما عهدناه وما شهدناه؛ وأنه المعْبَر الذي لا بد لنا من سلوكه إلى حضور حيوي-حضاري نشارك فيه الأمم حياةً وحضارة في مستوى مشرِّف من الأداء والحضور والاحترام والكرامة.‏
                            4- أن الشهداء الذين يقدمون بثمار دمهم ودموع ذويهم، لحظة عز للوطن، ويمكِّنون أبناءه من رفع شارة الكرامة واستعادة الأرض ولحظة التفاؤل؛ ليسوا بضاعة في سوق السياسة، ولا أغبياء غرَّر بهم القادة، ولم يضحوا من دون معنى ويذهبوا من دون قيمة.‏
                            إن درس القنيطرة- درس حرب الاستنزاف- درس حرب تشرين- درس حروب صلاح الدين- دروس معارك العرب، بل والأمم تشير إلى أن الثبات على أهداف الشهداء هو إنقاذ للأمة قبل أن يكون استنفاداً لذكراهم.‏
                            5- أن التآكل والتهافت والتواكل الذي يُراد له أن يطال أعماق التكوين البشري لدينا، وعمق الأرواح فينا، ليشكِّل حالة من انعدام الثقة بين القيادات والقواعد، بين السياسة والناس، بين الثقافة والبنى الأخرى للشعب والأمة، بين شرائح المواطنين ومقومات الوطن، أن ذلك -إذا ما تحقق في نفس أو مجتمع أو وطن، لا سمح الله- هو نصر العدو الأكبر في المعركة القادمة، لأنه يلغي حالة الثقة والأمل والانتماء التي تقوم عليها التضحية وتسير على هديهما الأمة في طريق البناء والقتال، طريق التضحية والبذل، طريق الشهادة والنصر.‏
                            لا يوجد قائد يرغب في أن ينهزم، ولا يوجد شعب يحب الذل ويتعلق به ويخضع له، ولا يوجد شهيد لا يحب وطنه أكثر من حبه لأهله وللحياة، وعلينا ألا ننقص من شأن ذلك وأن نوظف الثقافة والإبداع والوعي في سبيل خلق مناخ يستفيد من دروس غنية نمر بها هذه الأيام، أيام عودة القنيطرة إلى الوطن على أرضية من الدم والتضحيات والتصميم والإيمان بالمستقبل؛ أيام المقاومة الوطنية المستمرة والشهادة النوعية في جنوب لبنان وفلسطين المحتلة، التي لا بد وأن تعود إلى حضن الأمة العربية ويعود أهلها إليها على أرضية الرصيد الكبير الذي خدمناه ولن ننساه: رصيد التضحية والشهادة والإيمان بحق العرب في استعادة أرضهم التاريخية ومقدساتهم وكرامتهم .‏
                            تحية لشهداء تشرين وحرب الاستنزاف، ولدم القنيطرة النازف، الذي يزرع على مفارق التاريخ العربي رايات وذكريات وموثِّبات ومحرِّضات على الكرامة وفعل التحرير.‏
                            تحية للقنيطرة التي تضمِّخ الدم بالدفلى وترسل فيه نكهة ربيع الجولان وصفاء الشمس على قمة الجبل المكلل بالثلج، الذي يلّوح لنا وينادينا كل صباح وكل مساء: أن تعالوا إنني بانتظار الكرامة التي تهبونها لي، أنتم أهلي وأبنائي مذ وجدت ووجد التاريخ.‏

                            دمشق 28/6/1997.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              حصار أهلنا في الأرض المحتلة
                              ـ1 ـ‏
                              مئة وعشرون ألفاً من عرب الخليل يعانون من الحصار الصهيوني الذي يُفرض عليهم من آن لآخر، وقد كانوا تحت الحصار في الأسبوع الماضي ؛ وهم يعيشون في تلك الظروف الصعبة لكي يرتاح أربعمئة " مستوطن " مستعمر صهيوني تركتهم اتفاقية أوسلو ـ وفرع الخليل منها، وما أكثر فروع أوسلو ـ في المدينة بحماية الجنود الصهاينة وشرطة الحكم الذاتي ؛ وحين أُفرج عنهم لساعات قليلة يوم الخميس ليتسوَّقوا حاجاتهم الضرورية، واجههم المستعمرون، تدعمهم قوة الاحتلال المدججة بالسلاح وتتفرج عليهم شرطة الحكم الذاتي، واجهوهم باعتداءات وتهديدات وإهانات واستفزازات وشتائم.‏
                              هذا النوع من الحوادث غدا شيئاً عادياً ويومياً في فلسطين المحتلة، والغطرسة الصهيونية صارت هي الأخرى شيئاً عادياً مما يمارس يومياً، ليس على العرب الواقعين تحت الاحتلال فقط وإنما على العرب الذين يقولون لا لـ "إسرائيل" وأميركا في أي شأن وفي أي مكان وزمان، حتى لو كان ذلك الشأن يمس مقدساتهم ومصالحهم الحيوية وحقوقهم التاريخية!؟‏
                              ويتخذ الكيان الصهيوني من حالات غضب الشعب الفلسطيني، وتفجر مقاومته هنا وهناك، مناسبات وذرائع للتوسع الاستيطاني ولاقتلاع العرب من بيوتهم وأراضيهم، أو سجنهم وتصفيتهم، ومن ثمة تنفيذ المشاريع التي تكون قيد الإعداد والتنفيذ، أو تلك التي توقف تنفيذها نتيجة الاعتراض العربي العام أو نتيجة لتنبه الرأي العام العالمي آنياً لصراخ العرب الطويل .‏
                              بعد مقتل المستعمر الحاخام " رعنان " في الخليل قررت حكومة العدو حصار المدينة ومنع التجول فيها والإعلان عن بناء أكثر من سبعين عمارة في تل الرميدة الذي كانت تشغله مؤقتاً بيوت متنقلة تنصب عادة من قبل المستعمرين الصهاينة تمهيداً للاستيلاء على موقع وبناء مستعمرة فيه ؛ وقد تحولت منطقة تل الرميدة إلى توسع استعماري يُجْلَب إليه " مستوطنون " جدد ؛ في حين أن الخليل، حسب اتفاق أوسلو البائس، هي مدينة معادة إلى سلطة الحكم الذاتي ينطبق عليها القرار 242 الذي يشكل أحد أعمدة مرجعية مدريد، كما ينطبق عليها النص العام لاتفاق أوسلو الذي احتاج تنفيذ كل بند فيه إلى اتفاق يقضم منه شيئاً لمصلح سلطة الاحتلال. والخليل حسب اتفاق "أوسلو" الأول، ينبغي ألا يكون فيها يهودي واحد ولا سلطة صهيونية!؟ ولكن اتفاق الخليل الذي فرَّخ بقدرة عرفات من اتفاق "أوسلو" جعل المستعمرين الأربعمئة يتحكَّمون عملياً بالخليل ومصيرها وبحياة مئة وعشرين ألفاً هم سكانها الأصليون، كما جعلهم يأخذون مداهم في التوسع والاستيطان فيها وفي السيطرة على أماكنها المقدسة، ويستخدمون شرطة السلطة الفلسطينية لحماية قوة الاحتلال والمستعمرين اليهود، الذين فرضوا سيطرتهم على الحرم الإبراهيمي أيضاً بشكل شامل وسافر وكافر !!؟‏
                              وبعد تفجير قنبلة صغيرة في تل أبيب يوم الخميس 27 آب 1998 جرحت 21 مستعمراً، جروح معظمهم طفيفة ؛ أعلن الإرهابي نتنياهو عن البدء ببناء مستعمرة يهودية في باب العمود في القدس المحتلة عام 1967 ؛ وهو المشروع الذي كان هو ومشروع بناء مستعمرة صهيونية في " جبل أبو غنيم " في القدس أيضاً، السبب في توقف المفاوضات بين سلطة الحكم الذاتي والكيان الصهيوني منذ اتفاق الخليل. وقد أخذ مشروع مستعمرة " جبل أبو غنيم " طريقه إلى التنفيذ بذريعة سابقة، وهاهو مشروع مستعمرة باب العمود يأخذ طريقه إلى التنفيذ أيضاً ؛ على الرغم من كل ما اتخذ من قرارات وتوصيات دولية وإسلامية وعربية، وعلى الرغم من نداءات لجنة القدس وصرخاتها.‏
                              وقبل ذلك كان العدو قد اتخذ قراراً ببناء 2300 بيتاً لمستعمرين في الجولان و2500 بيتاً آخر لمشروع اصطياف صهيوني في الجولان أيضاً، لأن سورية لم تخضع لشروط نتنياهو في التفاوض وفرض الاستسلام عليها !؟!‏
                              أسوق كل هذا لألقي سؤالاً مؤرقاً : إلى متى يبقى المشروع الاستعماري الصهيوني، المغطى أميركياً بالكامل، مستمراً من دون قيود أو روادع أو حدود، وإلى متى نبقى إرادة مفلولة الحد، وجسداً مفتوحاً لمن يريد أن يجرب فينا سلاحاً، ومرتعاً خصباً لمن يريد إلغاء عقولنا ومصالحنا وسيادتنا في أوطاننا وفرض التبعية علينا، ومساحة اتهام لمن يرى فينا إرهابيين ومخربين و " همجاً "، مباحٌ دمهم ومستباحة أرضهم وأعراضهم وأموالهم، ولمن يريد أن يعبر عن ولائه لـ "إسرائيل"، أو من يريد التعتيم على فضائحه الخُلُقيَّة ومشكلاته الداخلية، لا سيما من الأميركيين؟! وإلى متى نبقى الفريسة التي ترتجف بين يدي الوحش، وتقدس حقه في افتراسها وأنيابه التي تمزقها؟!‏
                              قد يقول قائل : لماذا نقدم للعدو الذرائع؟! ولماذا لا نسد أبوابها أمامه؟! ولنا، في معرض الرد على مثل ذلك القول المفترض أن نسأل : ما ذا نفعل بأنفسنا وحقوقنا وكرامتنا؟! هل نترك كل صور التعبير عن الظلم الذي ينحرنا والمعاناة التي تفرى أكبادنا ونستسلم لما يُراد أن يقدَّم لنا على أنه قدرنا؟! وهل نهجر كل أشكال الدفاع المشروع عن النفس والحق والبيت والولد والأرض والوجود، حتى لا نقدم ذريعة لمن يريد أن يمضي إلى أبعد من ذلك ؛ ونوطن النفس على الاستكانة لكل ما يطلبه العدو وما يمليه مشروعُه وطمعُه وحقدُه العنصري، ذاك الذي لا يتوقف عند حدود؟! ومن نكون، وماذا يبقى منا عندما نقبل ذلك ونقدم له كل شيء في إطار من الذل والخضوع؟! هل نحافظ بذلك على حق أو شخصية أو كرامة أو مكانة أو حرية؟! وإذا سلمنا بالقبول بما يقبل به عيرُ الحي والوتدُ ما ذا نكون عندها ومن نكون؟! وهل يتوقف العدو ومن يناصره يا ترى عند حد!؟ أليست ذاكرتنا مفعمة بصور الإرهاب الصهيوني ـ الغربي وبالمعاناة والمرارة والقهر والمذابح وبممارسات الاستعمار البشعة؟! هل نسينا، وهل يمكن أن ننسى حتى لو أُريد لنا أن ننسى؟!‏
                              واهمٌ كل من يثق بيهودي وبمستعمر مستغل يرفع المال معبداً ويرى في بني الشر عبيداً له، وواهمٌ بصورة أشد من يعتقد أن ذلك النوع من العنصريين يملك ما يمكن أن يردعه في يوم من الأيام!؟‏
                              فما العمل إذن والحالة هذه؟!‏
                              إن حزمة العيدان تستعصي نسبياً على الكسر، أو تجعل من يريد أن يكسرها يعاني كثيراً وقد يصاب بالجراح، وعلينا أن نكون حزمة تستعصي على الكسر، وأن نختار ما فيه حياة المؤمن الكريم وبقاؤه وسلامة روحه، وما يحفظ دينه ودنياه ؛ وإلا فإن كل عود حي منا سيأتيه وقت يُكسر فيه ويُحرق، نعم يُكسر ويُحرق .‏
                              إن القدس والخليل من مشاعرنا المقدسة، وإن السودان و أفغانستان و جنوب لبنان و الجولان أرض من أرض العرب والمسلمين ؛ وإن العدو يقتحم علينا أبواب بيوتنا واحداً واحداً بأسلحته وذرائعه ؛ ولن يبعده عنا ويستخلص حقنا منه إلا قوة شاملة وتضامن يصنع بعض القوة، فهل إلى ذلك من سبيل في دنيا العرب والمسلمين ؟!؟‏
                              دمشق في الخميس، 05 جمادى الأولى، 1419‏
                              الموافق 27 آب، 1998 ـ عكاظ‏

                              ـ2 ـ‏

                              اليوم الجمعة الحادي عشر من شهر جمادى الثانية، 1419 الموافق 2/10/1998م أدخل أهلُنا في الأرض المحتلة من فلسطين حالة حصار يستمر أربعة أيام، في إعلان أولي لقوة الاحتلال، وهذه المدة تُزاد عادة بالتدريج تجنباً للفت نظر الرأي العام؛ وهو حصارٌ يأتي بعد الحصار الذي فُرض عليهم بمناسبة عيد رأس السنة العبرية قبل أيام قليلة. ومعنى هذا الحصار أن أكثر من مليوني فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة سوف تُقطع عنهم معظم مواردهم المالية، التي رُبِطت بالعدو الصهيوني ربطاً محكماً، سواء أكانت تلك الموارد من العمل لدى " المستوطنين اليهود والكيان العدو؟! "، أو من تصريف المحاصيل والمنتجات التي لا يسمح لهم بتصديرها مباشرة؛ وسوف يحرمون أيضاً من تأمين الاحتياجات الضرورية. كما يعني الحصار أن حركة أولئك سوف تقيَّد على نحو واسع، وأن عمليات مداهمة واعتقال وملاحقة ستقوم بها قوات الاحتلال بمساعدة مباشرة أو غير مباشرة من قوات السلطة الفلسطينية ؛ وستتركز هذه العمليات ضد عناصر حماس والجهاد الإسلامي، الذين يتعرَّضون لملاحقة ساخنة هذه الأيام، لا سيما بعد مقتل الأخوين عوض الله في قرية " ترقوميا " قرب الخليل، وتفجير سيارة مفخخة بزهران زهران في رام الله من قبل عميل للموساد .‏
                              سبب الحصار، كما أعلنه العدو هو التخوف من قيام عناصر حماس بعمليات انتقام ضد قوات الاحتلال، أمَّا مرامي الحصار فأبعد من ذلك بكثير، إنها خطوة في مسلسل التصفية المستمر، تصفية في ظل سيطرة " إسرائيلية " تامة على المنافذ والحدود والمعابر التي تؤدي إلى تواصل من أي نوع مع المحيط العربي أو داخل "المحميات الفلسطينية" المنتشرة بين غزة والضفة الغربية، وسيطرة على الدخل اليومي والقرار السياسي !؟. وهي تصفية تأتي بعد الاتفاق الأولي الذي تم في واشنطن بين عرفات ونتنياهو على قبول الشروط والمواصفات الإسرائيلية لتنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب / 13,1% / منها 3 % محمية طبيعية في النَّقَب خاضعة كلياً للسيطرة الصهيونية ؛ ولا يعود من مجمل ذلك الانسحاب عملياً سوى 1 % فقط إلى السيطرة الفلسطينية، بمفهوم السيطرة حسب اتفاق أوسلو، أي سيطرة على بعض شؤون الناس وليس على الأرض والأمن!؟‏
                              ولا يستبعد أن تكون تلك خطوة تصفية أولية تأتي في سياق اختبار حسن نوايا السلطة الفلسطينية تجاه الاتفاق واكتشاف مدى التزامها بالشروط " الإسرائيلية " لتنفيذ الانسحاب المشار إليه، و" تظاهرة أمنية " مع قدوم اليهوديين الصهيونيين الأميركيين مادلين أولبرايت ودنيس روس إلى المنطقة بتوجيه من كلنتون تمهيداً لتنفيذ الاتفاق ؛ ومن ثمة فهي جزء من ذلك الاتفاق الذي تركز أيضاً على الأمن "الإسرائيلي"، والأمن " الإسرائيلي " حسب " أوسلو " يقتضي فيما يقتضي : تصفية البنية التحتية لما يسمى بـ " الإرهاب " أي تصفية البنية التحتية للمقاومة الوطنية الفلسطينية للاحتلال الممثلة بـ / حماس والجهاد الإسلامي /!؟ وترجمة هذا عملياً إشعال حرب أهلية مستمرة بين الفلسطينيين تضمن للمحتل استكمال مسلسل الإبادة ضد وجود هذا الشعب وحيويته وقدرته على المطالبة بحقوقه التاريخية في وطنه وحماية مقدساته.‏
                              في الخليل وبيت لحم يمارس العدو اليوم، من خلال قواته ومستوطنيه والشرطة الفلسطينية التي يسخرها أو يُحَيِّدها حسب اتفاق الخليل، يمارس اعتداءات يومية على السكان العرب هناك، الذين أصبحوا أسرى ما يسمى " أمن " أربعمئة من اليهود المتطرفين الذين يقومون باعتداءات يومية على أهل الخليل، وفي أم الفحم ـ شمال فلسطين المحتلة عام 1948 ـ قامت الشرطة "الإسرائيلية" بجرح مئات السكان العرب هناك لأنهم دافعوا عن أرضهم في موقع " الروحة "، لأن جيش الاحتلال يريد أن يستولي على ما تبقى لهم من أرض ؛ وفي القرى البدوية في النَّقَب يتعرض السكان العرب لأنواع من القهر اليومي ؛ ومثل هذا يتم في بيت لحم والقدس وفي معظم القرى في الضفة الغربية!؟ والسلطة الفلسطينية فقد أطلقت سراح أربعة من المستوطنين الذين كانت لهم مشاركات في العدوان على الأطفال العرب ...إلخ أمَّا سلطات الكيان الصهيوني فلا توقف اليهودي الذي يقتل عربياً أكثر من يوم أو أسبوع، فهو يمارس حقه الطبيعي وتكليفه الإلهي ضد " الغوييم " حين يبيدهم؟!‏
                              في ظل هذا المناخ يتم الحصار اليوم، وفي ظل هذه المواقف لسلطة عرفات التي أخذت دعماً عربياً لإعلان إقامة الدولة الفلسطينية في مؤتمر وزراء الخارجية العرب مؤخراً فذهبت لتبيع ذلك لكلنتون ونتنياهو في واشنطن، من دون تأكيد على حق إعلان الدولة أمام الدورة الثالثة والخمسين للأمم المتحدة، لأنها خضعت لـ " ضغوط " كثيرة؛ في ظل هذا يستمر الحصار؟!‏
                              فما الذي يقود إليه ذلك كله، وما الذي نستطيع أن نفعله حيال ذلك كله، من أجل أهلنا الذين يتعرضون لرصاص الاحتلال ومؤامرات السلطة الفلسطينية وعملائها وشرطتها في الوقت ذاته، والذين يتسرب في خلاياهم عجز الأمة العربية عن فعل شيء منقذ؟!‏
                              إن الكلام لن يجديهم نفعاً، والبيانات والشجب والاستنكار، على أهميتها، هي أدوات عاجزة لا تستنقذ ذباباً في هذا المجال ؛ ومناداة الدول العربية ومناشدتها من خلال الجامعة للقيام بعمل ما حيال ذلك، هو نوع من الصراخ في واد لا يعيد الصدى؛ فهي في حالات العدوان الصريح والتهديد بالعدوان الذي تشهده دول عربية من تركيا و "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية ـ على السودان ـ وفي حالات الحصار المنهِك ؛ لا تقدم جماعياً سوى الكلام، بينما يخرق أعضاؤها عملياً حرمات الجامعة واتفاقياتها ومواثيقها، ويغمزون للمعتدي بعين الرضا والتشجيع من تحت طاولة الاجتماعات ومن وراء كلام البيانات، حتى لا يتهمهم بنكث العهود؟!‏
                              ما العمل إذن والسكين على العنق، والعدو لا يرحم، والأهل في فلسطين يتعرضون يوماً بعد يوم لمزيد من القتل والقهر والإبادة، والعلاقات العربية ـ العربية إلى ضعف وهزال؟! إنه سؤال يحيل الفم حوض ماء لا يُلاك فيه الكلام، بَلْهَ التعبير بناصع البيان عن مواقف وإرادات وقرارات يقترن القول فيها بالعمل؟! إنه وضع ينقع الروح في مناقع الإحباط، حتى لا نقول اليأس !! ولكن هل نستسلم لما في كواليس السياسة من بؤس، ونسلم أهلنا ومستقبل قضايانا ومقدساتنا للوحش الصهيوني، الذي يقضم أطرافها يوماً بعد يوم، ونحن نرقب ونحتج ونتحسر ولا نقيم حداً على مفصل ؟!؟‏
                              إنه أمر يحتاج إلى تفكير جاد إن لم يكن إلى حوار جاد .‏

                              دمشق في : الجمعة، 11 جمادى الثانية، 1419 ـ‏
                              الوافق 2/10 //1998 -جريدة عكاظ‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                الإنســـــانية القــــناع ودماء مسلمي البوسنة
                                من غرائب الغرب وعجائبه أن الإنسانية ذاتها فيه: قناعٌ وسلاح ووسيلة وذريعة، حسب الحالة والموقف والمصلحة والهدف، ولم نكن بحاجة لأحداث البوسنة والهرسك لنكتشف ذلك، بل لنتذكره جيداً، لأن ذاكرتنا المثقلة به تذكره على الرغم من كونها مثقبة بالمآسي والإحباطات والتناقضات، تتخبط كثيراً عند عتبة الحقائق. ويصيبنا ذلك بالتردد الذي يصيب فئران التجارب المخبرية، ولكنه يزايلها بعد حين ويلازمنا في كل حين.‏
                                إن الغرب يضربنا بسياطه دائماً باسم حقوق الإنسان، والديمقراطية والحريات، والإرهاب، والتخلف، ويضربنا من أجل "تحقيق" إيجابيات على طريق التقدم (؟؟!) وفي الوقت الذي يخفي غاياته البعيدة عنا، نجد أننا مسوقين إلى خدمة تلك الغايات بعد أن نكشف له أننا نعرفها وتعترض عليها، ولكننا نخدمها(؟!) وها هو النفاق قد بلغ حدوده القصوى في قضية البوسنة والهرسك، حيث التواطؤ ضد المسلمين تفوح رائحته الكريهة من الدبلوماسية الحاذقة المغلفة"بإنسانية غريبة" مزدوجة المعايير كثيرة الأقنعة، تحسب مرابحها جيداً قبل أن تلفظ كلمة"إنسانية" أو تعلن دفاعها عن"حقوق إنسان" أو تبادر إلى الدعوة من أجل حماية"قوميات وأقليات"!!. وكل هذه القضايا تستَخدم سلاحاً أحياناً ضد الآخرين، وستاراً في حالات عديدة، وذرائع عند اللزوم للانقضاض، "بإنسانية" ذات أنياب ومخالب، صاروخية ونووية إن اقتضى الأمر، على بلدان وشعوب وأقليات وأفراد؛ فمخطط الإبادة لتحقيق "النقاء العرقي" الذي ينفذه الصرب العنصريون ضد مسلمي البوسنة والهرسك، يستمر بتصميم وسرعة في إطار تغافل مدروس، ويلقى ذلك سكوتاً عالمياً مخجلاً ومهيناً للإنسانية كلها، ولكنه يتدرج عند دعاته وحماته وممارسية إلى"قضية عادلة" فيها حضور"للحق وللدفاع عن النفس، ولتحقيق أغراض أمنية وحيوية"، ولوقف"الإرهاب الإسلامي الذي ينمو على أيدي متعصبين أصوليين"!؟! تماماً كما هو منطق العنصريين الصهاينة، وفي جنوب أفريقيا، والعنصريين المنتشرين في مساحات وشرائح بشرية واسعة في أميركا( ضد السود)، وفي فرنسا( ضد المغاربة والأفارقة والآسيويين( ، في أنحاء أخرى في أوروبا.‏
                                لقد أصبح أهل البوسنة والهرسك الآن هدفاً أولياً مهماً لطلائع العنصرية الضاربة في أوروبا، وفي الوقت الذي يقتل فيه الأطفال الرضَّع هناك كما الدجاج، ويُذبح الشباب والكهول، وتُغتصب النساء، وتُحرق البيوت بمن فيها، ويُباد الناس في معسكرات الموت النازية المتجددة؛ في ذاك الوقت ذاته يدور العالم الغربي بقطبه الأوحد الذي أعلن قبل أشهر فقط"أن عصر العدوان على الدول والشعوب قد ولى إلى غير رجعة"، يدور في حلقة مفرغة، من أجل التوصل إلى"قرار" بإيصال المؤن والأدوية إلى المحاصرين الذين يموتون جوعاً أو قصفاً أو قنصاً في سراييفو وغيرها من المدن والقرى البوسنية التي يسكنها المسلمون!؟ وليس الهدف البعيد من وراء تلك الحركة السلحفائية الغبية إلا منح الوقت للصرب الذين أنجزوا الآن- وبفضل التواطؤ الغربي المكشوف معهم- مشروعهم بتحقيق "النقاء العراقي" في صربيا والجبل السود، بإبادة المسلمين أو طردهم خارج أرضهم؛ وهو مشروع تم ويستمر على خطى المشروع الصهيوني في فلسطين وبتعاون صربي- "إسرائيلي" معلن، عبر اتفاقات ووثائق وتخطيط وتدريب وتنفيذ ودعم استراتيجي مرتب منذ سنوات، حيث أعلن مسؤولون عنصريون من"القوميتين؟!؟. " العرقيتين المتعاليتين: أنهم يتعرضون"لاضطهاد" شعوب تحيط بهم وأنهم يتقاربون ويتعاطفون ويتعاونون على تلك الأرضية التي تصل إلى"حد التماثل"؟!.‏
                                وإذا جاز لنا أن نسأل: لماذا لم يتحرك العالم المتقدم، الذي يدعي المرجعية عن العدل وحقوق الإنسان وحماية الأقليات، من أجل إنقاذ مسلمي البوسنة والهرسك وهو يعلم بمأساتهم منذ أشهر، ويعرف بوجود معسكرات الموت، وأنواع الإرهاب الصربي، والتعذيب والإبادة؟! وما هو السبب الذي جعل قوة تحرُّكِه وتدخّله صفراً أو أقرب ما تكون إلى الصفر؟ ولماذا ظهرت الأمم المتحدة، ومجلس الأمن بهذا العجز حيال هذه القضية، بعد أن تفاءلنا باسترداد المنظمة لعافيتها ومبادراتها؟! فإننا لا نلقى إجابة مقنعة وشافية، إلا إذا استندنا في تفسير ذلك التواطؤ البغيض ضد المسلمين في البوسنة وعلى أساس عرقي- عنصري- ديني، يقول الأوروبيون أنفسهم عنه إنه: "تنظيف لتحقيق النقاء العرقي؟! ".‏
                                ويزعمون أن التداخل السكاني وظروف المنطقة سوف تجعل التدخل صعباً ومكلفاً بشرياً؟! ولكن السؤال ينبت في اللسان وفي العينين: ألا توجد طائرات قادرة على تهديد المدن الصربية النقية بالقصف إن استمر الصرب بقصف الآخرين؟! وأين ذهبت قدرة التقنيات العالمية التي تظهر تفاصيل أهداف مختلفة، حيوية وغير حيوية، في مساحة ضيقة تقدر بأمتار مربعة قليلة؟! أين هيبة القوة"العادلة" وأين هيبة العدل الدولي و"النظام الدولي الجديد" وحقوق الإنسان!؟.‏
                                أم أن تفسيرات من يرى أن أميركا لا تريد أن تتدخل، وهي تثبط همة من يدعو إلى التدخل لأنها تريد أن تعوق وحدة أوروبا المقبلة، وتظهر المشكلات الدفينة، وتقيم الحجة على وجود مشكلات كبيرة وخطيرة أمام تحقيق تلك الوحدة، مما يجعل شعوب القارة وحكوماتها تفكر جيداً أو جدياً بمغزى ودلالة عجز أوروبا عن حل مشكلة مثل مشكلة البوسنة والهرسك، وعجز ممثليها عن فرض احترامهم على مجموعة محدودة العدد مثل الصرب، الذين احتقروا اللورد كارينغتون رئيس المجموعة الأوروبية بشأن يوغسلافيا برفض رئيسهم دعوته للاجتماع به، وجعلوا جاك ديلور رئيس اللجنة الأوروبية يصرخ ويتهم ويقول: "لا شيء يمكن أن يوقف الاستراتيجية الخبيثة والمدمرة التي يتبعها المسؤولون الصربيون في غياب التهديد بإمكان التدخل عسكرياً(....) علينا أن نتصدى لأيديولوجية نظام بلغراد المدمرة المعادية للإنسانية، ومكافحة جنون المشاعر القومية المتطرفة والسعي المعيب إلى تحقيق النقاء العرقي". فكيف بأوروبا، وهذه حالها، تتوجه إلى الوحدة؟! وكيف تستطيع أن تفرض احترام ذلك الكيان الضخم على كيانات أكثر قوة وقدرة من الصرب في ظل الوحدة؟!هل هي التفسيرات التي يجب أن نأخذ بها؟! أم ترانا نفلح أكثر ونصدق مع أنفسنا ومع الواقع والناس أكثر حين نأخذ بتفسير بسيط يتلاءم والمنطق البراغماتي الأميركي أولاً والغربي ثانياً، ويعبر عن"أخلاق السوق" السياسي الانتخابي وغير الانتخابي في إطار الديمقراطيات المالية، وينسجم مع دلالات ومؤشرات الاستراتيجيات الحديثة المعدلة والمطورة، في ضوء المعطيات الجديدة والمتغيرات الدولية!؟.‏
                                لقد ذهبت دماء كثيرة غزيرة في ربوع البوسنة والهرسك، دماء مسلمين مسالمين فقراء أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم يريدون البقاء في ديارهم وأن يقولوا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.‏
                                وسوف يستمر مسلسل سفك الدماء بتواطؤ مكشوف، وباستخفاف تام بكل المعايير الخُلُقية والإنسانية والقانونية، وإذا جاز لنا أن نلوم الغرب لأنه يتنطَّع لقضية خُلُقية إنسانية- تاريخية كبرى، ولا يقوم بعبئها، ويكشف عن سياسة الوجه والقناع التي يمارسها في ظل ضعف دولي أو انسحاق على أعتابه؟! أفلا يجوز لنا أن نلوم أنفسنا على تقصيرنا بحق أخوتنا المسلمين، وبحق أمتنا العربية، وبحق أخوتنا في الإنسانية وفي المصير؟! ولماذا لا نسلّم بالحقيقة الساطعة التي تجبهنا كل يوم وتحرقنا نارُها كلما برزت مشكلة، وهي حقيقة أن الغرب ليس أخلاقياً بحال من الأحوال، كما نفهم نحن الأخلاق، وليس حريصاً على نقائنا الروحي وبقائنا الجسدي والثقافي والحيوي.‏
                                لماذا نصر، في علاقتنا مع الاستعمار القديم - الجديد- المتجدد، على أن نسبغ على المستغل الظالم القوي، هالة من القداسة، ونرى فيه الأنموذج الأمثل في الصدق والسلامة والرؤية، ونطالبه بصيغ خُلُقية وقيم وسلوك مبني على معطيات إنسانية، ونحن نعرف أن فاقد الشيء لا يعطيه؟!.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع444//29/ك1/1994‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X