إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    تعالوا إلـى موقف يجمعنا
    تعصف بي حالات وأوضاع وأسئلة مما تتلبد به سماء الأمة ويكاثفه الوقت، وأجدني محاصراً ببعضها، أو أحاصر نفسي بها إلى درجة تدفع نحو الصراخ بوجه الناس والزمن وأهل المسؤولية والوعي والهمة، لتنار بالأجوبة طرق الحياة والعمل، ولتخفف وطأة ضغط المقت، وتزول وطأة موت الوقت.‏
    ومن تلك الأسئلة ما هو قديم قدم الفرقة والتآكل فينا، ومنها ما هو جديد جدة اجتهاد المجتهدين من أبناء أمتنا السائرين في دروب تسويق العدو الصهيوني وتزيين احتلاله وتأبيد قوته وتفوقه من جهة وضعفنا وانهزامنا من جهة أخرى.‏
    وأجد نفسي في لحظات من وقت أقف على أبواب الأسئلة وأقف بالأسئلة على الأبواب أقرع الدرجتين، أو البعدين، لأصل إلى نوع من راحة، ولكن... ينقص المرء دائماً شيء يقصي عنه الإحساس بالراحة.‏
    في فلسطين المحتلة يعلن الصهاينة مشاريعهم لتوسيع القدس استكمالاً لتهويدها وإغراق البقية الباقية من أبنائها العرب الأصليين بسيل يهودي دَبِق يجمدهم ويقتلع وجودهم من أرضهم التاريخية!‏
    وهنا بناء في "جبل أبو غنيم" و "باب العمود" وفي كل الأماكن التي يختار العدو أن يبني فيها.‏
    ويقول "نتنياهو" أي الأكثرية المطلقة في الشارع الاستعماري؛ وهي أكثرية تاريخية في ذلك المجتمع مهما تعددت الأحزاب وتنوعت الحكومات.‏
    يقول إن "إسرائيل" تحتاج إلى الأرض التي كان اتفاق أوسلو قد نص على إعطائها للفسطينيين، وهو اتفاق مفروض علينا بحكم قبول حكومات سابقة له، ولأن تلك الأرض تمثل بعداً استراتيجياً وحيوياً للدولة وللمستقبل فإننا لن ننسحب منها؛ ويكفي تنفيذاً للاتفاق أنَّ عرفات يسيطر على أكثر من 95% من السكان وفي هذا تنفيذ للاتفاق.‏
    هذا المنطق مشفوع ببعد آخر يكمل المنطق الصهيوني ويوضحه، هو بعد الحاجة الصهيونية للجولان محافظة على حيوية مشروعها وعلى مواقع استراتيجية للدفاع والأمن المستقبلي:‏
    الأمن المائي، حيث تأخذ " إسرائيل" أكثر من ميلون وثمنمئة ألف متر مكعب من مياه الجولان.‏
    ولتعزيز هذا المنطق يتم تكديس السلاح وتوسيع التحالفات وتعميقها، واختراق الحياة السياسية والثقافية العربية تحت ادعاءات "السلام" ومقولاته الفارغة من أي معنى.‏
    كما يتم قصف شبه يومي لجنوب لبنان، ومتابعة سياسية ودبلوماسية واستخباراتية محمومة للمقاومة بكل أشكالها وللصمود بكل أشكاله فضلاً عن المتابعة الأمنية والعسكرية.‏
    ولا تتوقف جهود العدو ومن يناصرونه، ويحمون مشروعه من الغربيين عن تفتيت كل ظاهرة تجمع أو تضامن أو تعاون عربي من شأنها أن ترفع صوتاً، أو تصنع موقفاً، أو تطرح موضوعاً بجدية في مجال التصدي والمواجهة.‏
    وحيال هذا النشاط الاستعماري- الاستيطاني المتواصل والمتكامل، يخنقنا فضاء عربي يكتفي بطرح أسئلة حول سبل إقامة "سلام" مع "إسرائيل"، ويخنقنا إعلام عربي أو ناطق بالعربية يحاصرنا بمنطق الهزيمة ومنطق الأعداء وحلفائهم معاً، ويخنقنا صمت عربي يدوّي في مدى الصحراء وفضائها ممتداً من الربع الخالي إلى الصحراء الموريتانية والمغربية، إلى الساقية الحمراء ووادي الذهب.‏
    ويدفعنا كل ذلك لإلقاء أسئلة في فضاء النفس قبل فضاء الوقت الذي يمتد غيوماً بلا مطر ورمالاً صحراوية تمتص رطوبة الفم، وتطفئ ضوء العينين:‏
    هل هذه الأمة، ذات التاريخ الثقافي والنضالي والحضاري العريق، الممتد من سهل نطوف قرب أريحا- عشرة آلاف سنة قبل الميلاد- إلى يوم الناس هذا انتهت؟ أو ينبغي أن تنتهي إلى الاستسلام وتسليم شأن حاضرهم والمستقبل، أمام قوة ملكت السلاح وتحصنت بالأرض وأشاعت أنها الأزل والأبد، فتراجع الناس أمام ما أشاعته وتركوا الخرافات والأساطير تعيد تشكيل عقولهم وتاريخهم ومنطقهم، في الوقت الذي يملكون فيه بعد الحضارة والعقيدة والتاريخ، وقوة البشر وإمكانات وطاقات غير محدودة كفيلة بتغيير وجه الحوادث إذا ما استثمرت بمسؤولية ووظفت بحكمة وعلم؟!‏
    وهل يكفي أن يضلع بعض أبناء الأمة العربية في طريق البؤس الروحي والتواطؤ مع العدو، ويعملون معاً على إلحاق اليأس بالأمة وفرض الهزيمة الروحية على بنيها، هل يكفي أن يقوم شيء من ذلك لتنتهي مقاومة الأمة وتستسلم لما يراد لها أن تستسلم له ويصبح صوت إعلامي بائس يزين الاستسلام باسم السلام، ويحاصر المستقبل ببؤس الحاضر، ليحقق هزيمة شاملة في الأعماق الروحية والشعبية للأمة، ويجعل طاقتها الفكرية غائبة أو مغيّبة عن ساحة المواجهة والتصدي ليسوّغ كل ما يؤدي إلى اعتراف بالعدو الصهيوني وتطبيع للعلاقات معه، وتسليم بحق تاريخي له في فلسطين يكون على حساب انتزاع ذلك الحق من الفلسطيني صاحب الأرض والتاريخ، ليبقى خارج أرضه وخارج التاريخ؟!‏
    وهل يكفي أن تمر بنا محنة ونقاسي من ثقل امتحان هدد علاقاتنا حتى نقول:‏
    "إننا خسرنا كلَّ شيء ولا يمكن أن تقوم لنا قائمة، وأن العروبة شعار فارغ وكل، وكل تضامن أو تعاون أو اتحاد أو وحدة هو من الأمور المستحيلة وما علينا إلا أن نلتمس القوة والحماية والبقاء للفسيفساء القطرية بالتحالف مع القوى" الأجنبية والاحتماء بالعدو الصهيوني، لأن في ذلك الخلاص؟!‏
    إن هذا التوجه توجه قاصر ومحكوم عليه، ولن يحكم بإيجابيات له، ذلك أنه مناقض لكل استقراء موضوعي- علمي للتاريخ، ومتعامٍ عن كل إمكانية توفرها طاقة الإيمان بالله والأمة والوطن والمستقبل ويدفع بها إلى ساحة الفعل أداءً يقومك على أرضية العلم والإيمان.‏
    وهو يقوم على مبدأ المصادرة باسم رؤية قاصرة أو يُراد لها أن تكون كذلك، ليشمل الكيان الصهيوني مرحلة من أهم المراحل في مشروعه، وهي انتزاع الاعتراف بحق تاريخي له في الوجود والبقاء، يبني عليها المرحلة المقبلة أو ينطلق إليها من أرضية ذلك الاعتراف الذي يجعل كل تحرير للأرض العربية بعده نوع من احتلال لأرض "إسرائيلية " يوجب القانون الدولي والعرف الانسحاب منها، ويبيح استخدام القوة من أجل تحريرها بوصفها أرضاً محتلة.‏
    إن الذين يروِّجون "لسلام" مع الكيان الصهيوني، ولتحالف وتعاون من أي نوع معه إنما يروجون لمشروعين متلازمين: استسلام العرب وإنهاء مشروعهم لحساب استمرار مشروع العدو الصهيوني وتأثيله وتطويره وإكسابه مداً نفسياً وروحياً ومادياً لا حدود له.‏
    وحين تستخدم الثقافة لهذا النوع من المهام ولهذا النوع من الأداء فلأن أي مشروع من هذا القبيل، لا يمكن أن يستقر، ويستمر، وتتشكل له أرضية في النفوس، تربوية ووجدانية ومعرفية شاملة، من دون الجهد الثقافي بمفهومه الشامل الذي يركز سياسات ويجذِّرها في التكوين، ويروج لها، ويدخلها إلى الساحات البشرية الشعبية الواسعة؛ ولهذا السبب يتم استخدام "ثقافة" لتروج لسياسة لا تربط السلام بالحق والعدل، وتفرض الأمر الواقع على أنه الأفضل والأعدل والأكمل لأنه لا يوجد ما يغير منطق القوة هذا في الوقت الراهن.‏
    وكأن الوقت الراهن هو الأبد الأبيد، وكأن الأمة لا مستقبل لها في ضوء الحاضر الذي يصورونه بائساً ومستقراً ومستمراً على هذا اللون، وكأن كل ما فيها قد انتهى، ولا يمكن أن ينشأ لا في داخلها ولا في العالم من حولها ما يغير الظروف والمعطيات العربية والدولية الحالية.‏
    إننا حيال وضع صعب، وظروف قاسية نعمل في ظلها، وحيال مراهنات يخوضها عالم قوي إلى جانب من يوظفهم من أبناء أمتنا لخدمة منطقه، ونحن في أوضاع عربية داخلية، حتى على الجبهة الثقافية، لا تمكننا من التحرك المتكافئ عملياً للرد على التحديات والبرامج والمخططات التي تنفذ في هذا الإطار.‏
    إن المواجهة الناجحة تحتاج إلى جانب الإيمان بها والإعلان عنها إلى عمل في كل ساحة ومن كل نفس يحول شعاراتها إلى وقائع على الأرض، وتحتاج إلى مبادرات فردية خلاقة تجعل القضية المدافع عنها هي قضية كل فرد وشاغله اليومي، وتحتاج إلى إمكانيات مادية تواكب الطاقة المعنوية والروحية، وإلى معلومات ومعطيات معرفية تمكن من ردود علمية وعملية ومنطقية تدحض حجة الخصم، وتقضي على منطقه وانتشاره.‏
    وهذا يحتاج من المسؤولين المؤمنين بأهمية الدفاع عن ثوابت الأمة المبدئية وحقوقها التاريخية تقديم المساعدة والتسهيلات لجبهة تعمل في هذا المجال إذا كانوا هم محكومين بمعطيات ومتغيرات لا تمكنهم من أن يكونوا مع المبدئي والحقاني والتاريخي العادل ليفرضوه وينجزوه وأن عليهم ألا يكونوا بسلبيتهم أو بتخوفهم وتخرُّصهم عبئاً على ذلك التيار أو معوِّقاً له.‏
    كما يحتاج هذا من المثقفين المؤمنين بحق أمتهم وعدالة قضيتها، والمنطلقين من اقتناع راسخ باختبارهم ورؤيتهم وعدالة تحركهم، أن يتكاتفوا ويتعاونوا فيما اتفقوا عليه، وألا يكون ما يختلفون فيه معوقاً شاملاً لهم عن التعاون في ذلك المشترك الذي يشكل هدفاً عادلاً للجميع وحماية ودرعاً وواحة انطلاق نحو مستقبل أفضل، إن أرض الثقافة هي أرض المستقبل الواعد، وهي التي يستنبت فيها الحق والعدل والحرية، كما تستنبت فيها المقاومة والقدرات العلمية والتقنية التي تجيب عن تحديات العصر والمستقبل والأمم والقوى التي تريد أن تكتسح الآخرين بروح التعالي والعدوان والعنصرية والاستعمار.‏
    فيا أهل الثقافة تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، تجمعنا على المشترك العادل بصدق وقوة، وتلغي من صفوفنا الشك وانعدام الثقافة، وتضع الصغار باهتماماتهم وأساليبهم في دائرة لعب تليق بهم وبشواغلهم وتجعلنا ننطلق خارج حدود اهتماماتهم وتكوينهم وعداواتهم وأساليبهم المتهافتة، إلى حيث المواجهات الحضارية الضرورية، وإلى حيث استنهاض الهمم والقدرات وتكوين الطاقات البشرية وتوفير الإمكانات التي تجعلنا ننجح في الدفاع عن وجودنا وحقوقنا وهويتنا وثقافتنا ومصالحنا في عالم يأكل فيه السريع البطيء ويستمر فيه أكل القوي للضعيف .‏
    تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، أرضها الخصبة وجودنا التاريخي المتمايز في هذه الأرض ورصيدنا الثقافي وعدالة قضيتنا وتطلعنا نحو المستقبل بثقة وعقل مفتوح وثبات على الحق والمبدأ وتمسك بمقومات الوجود والتمايز والمساواة، لنا ولغيرنا، على أسس من العدل والحرية تفرزها ثقافة شاملة في أفقها الإنساني ومحددة في هويتها وانتمائها، تغني بتنوعها الحضارة الإنسانية ولا تلغي أمة لمصلحة أمة أو تحقيقاً لنزوع عنصري استعماري تجسده في عصرنا هذا: الصهيونية وسياسة الولايات المتحدة الأميركية، ومن يسير في ركابهما من المتصهينين والمتعاونين والمتحالفين.‏

    الأسبوع الأدبي/ع604//28/3/1998‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      السُّلْطة الفلسطينية والاستحقاقات الجديدة
      هل أصبحت الحرب الأهلية الفلسطينية داخل منطقة حكم السلطة الفلسطينية على الأبواب؟!‏
      وهل قرر عرفات تنفيذ الاتفاق / التكليف / الذي يعرضه عليه نتنياهو : إعادة الانتشار في 9 % مما تبقى من أرض الضفة الغربية، في مقابل تصفية البنية التحتية لحماس والجهاد الإسلامي والقضاء على كل من يرفض أوسلو ويفكر باتباع الطرق العملية لمقاومة الأطماع والممارسات الصهيونية؟!‏
      وهل كان تنفيذ عملية اغتيال الشهيد محيي الدين الشريف ـ المهندس الثاني بعد الشهيد المهندس يحيى عياش ـ هو المقدمة المنطقية اللازمة للبدء بذلك؟!‏
      إن الفرح والإشادة الإسرائيليين اللذين تعج بهما تصريحاتٌ ووسائل إعلام في فلسطين المحتلة والأوساط الصهيونية الأميركية هما من المؤشرات الأولية على قبول السلطة الفلسطينية للتكليف وبداية قيامها بتنفيذ ما يتوجب عليها تنفيذه بجدية وهمة تامتين و" القيام بجهد بنسبة 100 % لمقاومة " الإرهاب الفلسطيني "؛ هذا ما هو مطلوب منها منذ زمن حسبما تكرر طلبه وتأكيده من قبل رموز السلطتين الصهيونيتين في فلسطين المحتلة والولايات المتحدة الأميركية. وإذا كان " الضغط " الأميركي على نتنياهو لقبول " مبادرة كلنتون " لتحريك المسار الفلسطيني قد أخفق، بل وانعكس سلبياً على كلنتون نفسه فابتلع الإعلان عن مبادرته حتى الآن، فإن الضغط على عرفات ـ وهو ما قد يمهد لإعلان مبادرة كلنتون ـ قد أصاب نجاحاً كبيراً، وفُسر على أنه علامة حب ورضا لا بد من أن تقابل بالامتنان؛ وهاهي آيات الشكر تنهال رصاصاً وسياطاً واعتقالاً من السلطة الفلسطينية على أبناء الشعب العربي الفلسطيني الرافضين لنهج عرفات، وترتفع في الأفق تهديداً معلناً للذين يقاومون مشروع تصفية القضية الفلسطينية بأيد فلسطينية !!‏


      لقد تم القبض على قيادات حماس في الداخل وإلقائها في سجون السلطة، وأُلحقت بها القيادات الطلابية المنتخبة في الجامعة الإسلامية، تلك التي نظمت مظاهرات في الجامعة بعد اغتيال الشريف مباشرة؛ وتزداد الآن حملات الاعتقال والملاحقات اتساعاً وشدة، ويقوم تنسيق عال بين أجهزة السلطة وأجهزة الاحتلال الصهيوني في هذا المجال؛ ويتصاعد الثناء على أفعال عرفات هذه ويزداد رجاله شراسة وعناداً في قمع شعبهم إرضاء لعدوهم؟! فما الذي يُرتجى فعلياً من ذلك كله، ولماذا يتم الذي يتم بهذه القوة والقسوة في هذه الظروف والأوقات بالذات ؟!‏
      هل من أجل أن يرفع نتنياهو نسبة المناطق التي يقرر إعادة الانتشار فيها من 9 % إلى13.1 %، وهو الفخ الذي نُصب أصلاً لعرفات وسقط أو اسَّاقط فيه، حيث أصبح يتمنى الآن تحقيق هذه النسبة ـ السقف ـ في هذه المرحلة بعد أن كان يقول بالانسحاب من 30 % من المساحة المتبقية في وقت سابق ؟! ربما .. ولكن هذا الحَشَف لن يتم كيله له إلا إذا نفَّذ الشروط " الإسرائيلية " السابقة، التي لم تتغير أبداً ومنها : أن يَلغَ عرفات في الدم الفلسطيني وأن يريق المزيد من ذلك الدم الطاهر، وأن يضع قدميه بقوة وبثبات على طريق الحرب الأهلية الفلسطينية ويندفع فيها بعزم وثقة لتصفية أعداء " إسرائيل " الذين ينبغي أن يكونوا أعداءه؛ وهو ما كان يُدفع باتجاهه ويتردد في البدء به، منذ بدأت فصائل المقاومة الإسلامية / حماس والجهاد / جهادها ضد الاحتلال الصهيوني، ومنذ وقع الاتفاق البائس ـ اتفاق أوسلو ـ وبدأ النضال لإسقاطه، ومنذ أعلن أن الانتفاضة لم يعد لها ضرورة وأنها ستقمع إن لم تتوقف.‏
      ويبدو هذه المرة أن عرفات عازم على انتزاع رضا الرئيس كلنتون والسيدة أولبرايت والسيد نتنياهو دفعة واحدة، بعمل كبير يقضي نهائياً على أولئك الذين " يعكرون " صفو الأمور مع " أبناء العم " ـ الشركاء الخلَّص ـ ويعوِّقون المفاوضات و يهددون " مسيرة السلام " بالانهيار !؟‏
      والسؤال الذي يقوم هنا والآن هو : لماذا اتخذ هذا القرار الآن، إن صحت الدلائل والمؤشرات التي تجتاح فضاء المعطيات الراهنة !؟ ولماذا تُبدى كل هذه الهمة في تنفيذه من قبل معظم رموز السلطة إن لم نقل من مسؤوليها جميعاً، ولم هذا التهديد بمنع أي من الفصائل بمحاكمة أي من أعضائها على " أرض السلطة " بعد أن كان هذا مباحاً ومتاحاً في كل الأرض التي حلت بها الفصائل وامتد إليها نفوذ من هم في " السلطة " الآن في كل الأوقات والأزمان الماضية؟!‏
      هل لم يعد لحماس والجهاد ومن ينتهج سياسة التمسك بالمبادئ وبكل فلسطين من أبنائها المخلصين حق في أرض فلسطين وفي النضال من أجلها؟! وهل " أرض السلطة " هي حصة السلطة وعلى الآخرين أن يتدبروا أمورهم خارجها !؟ أم أن معنى هذا شيوع قاعدة ترتب خلاصتها : أن على من يريد أن يعيش في " مربَّعات الألعاب " التي حصلنا عليها " بدهائنا السياسي " وبتفردنا في القرار " وباتصالنا من تحت الطاولة مع المسؤولين " الإسرائيليين " خفية عن العرب وعن الشعب الفلسطيني، ورضينا بها بديلاً عن فلسطين التاريخية؛ أن يلعب لعبتنا بشروطنا وكما نحب، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور ؟!‏
      وهل لذلك صلة بالأمر الذي يخشاه عرفات : وهو أن ينصرف الاهتمام "الإسرائيلي" ـ الأميركي إلى ترتيبات الانسحاب من جنوب لبنان / تنفيذ القرار 425 /، وإلى الاهتمام بمسارات أخرى على حساب إرجاء مساره وضعه في الشمس حتى يصبح أكثر نضجاً أو حتى تسقط ثمرته على الأرض أو فيها؟! أم أن الأمر يتصل بقرار قلق داخلي خالص يجعل السلطة التي يقيمها موضع تساؤل مستقبلي في تمثيلها لذاتها ـ ومن تحصيل الحاصل لفلسطين والفلسطينيين ـ حيث مشروع " ألون " المعدل يوضع على نار حامية لتكون المملكة الأردنية الهاشمية هي البديل العملي، وتقوم المملكة العربية المتحدة بسحب البساط من تحت قدميه وتخطف منه كل شيء، بعد أن عبد الطريق لمصالحة " تاريخية " كان ينتظرها الملك حسين ويهيئ لها في الخفاء ويدفع باتجاهها بلطف ودهاء؛ إلى أن تم اندفاع عرفات في الوقت الملائم إلى أحضان " إسرائيل " تاركاً الباب مفتوحاً على مصراعيه لمشروع الملك، الذي يعلق الصهاينةُ والمتصهينون عليه وحده الآمال الكبار في تحقيق الشراكة الاستراتيجية، التي تعيد ترتيب منطقة " الشرق الأوسط " ترتيباً تاماً حسب المنظور والمشروع الأميركي ـ الصهيوني، وتضع حلاً للقدس يسوق عربياً وإسلامياً، يكون فيه الملك حامياً للمقدسات الإسلامية، كما وعد في واشنطن يوم الإعلان عن اتفاق وادي عربة ؟؟!‏
      إن الأسئلة كلها مشروعة، والاحتمالات كلها مفتوحة، ونحن نقف بالفعل على أعتاب كارثة جديدة ـ أبعدها الله ـ تنتظر الشعب الفلسطيني وقضية العرب المركزية قضية فلسطين، بل والوطن العربي المنهك بالخلافات، إذا ما قرر عرفات الاندفاع في الطريق التي يشترط الصهاينة السير فيها وتمليها الإدارة الأميركية منذ زمن طويل : طريق تصفية الفلسطينيين بأيدي الفلسطينيين، والمقاومة العربية للاحتلال بأيد عربية؛ وإقامة حراسات عربية على حدود " الدولة العبرية " تتكفل بحماية أمن الاحتلال ليتفرغ لإنجاز المهام الكبار التي تقضي مستقبلاً على الحراسات وما يأتي منها؟!‏
      إن الأبعاد التي تثيرها عملية اغتيال محيي الدين الشريف وطريقة ترتيب العملية وإخراجها للرأي العام، وتوسيع دائرة الحدث، والتركيز على وجود خلافات داخلية في صفوف المقاومة الإسلامية أخذت طريق التصفيات الجسدية، والدخول من هذا الباب إلى ممارسة أساليب التصفية الشاملة / المادية والمعنوية / ضد البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية / لا سيما لحماس والجهاد الإسلامي؛ في الوقت الذي يُعد فيه شيء مماثل في لبنان عن طريق خلق فتنة في الجنوب بين المقاومة الوطنية اللبنانية / حزب الله / والحكومة اللبنانية وأطراف شعبية أخرى في تلك الساحة على أرضية ما نعرفه جيداً من خلافات ماضية؛ ومن ثم فتح النار على سورية ـ الحصن القومي الوحيد المتبقي صامداً، والموقف العربي الرافض لاتفاقيات الإذعان ولأساليب تصفية القضية الفلسطينية وحقوق الشعب العربي الفلسطيني ـ من مواقع عديدة وبأساليب جديدة.‏
      إن كل ذلك يشير إلى المخطط الواحد والأهداف المعلنة منذ زمن بعيد من قبل " إسرائيل " والإدارة الأميركية، التي تشاركها مخططاتها وتحمي احتلالها وممارساتها العنصرية، وتنظر إلى " إسرائيل " على أنها مصلحتها العليا الأولى، وتدعم المشروع الصهيوني الشامل في المنطقة، الذي تشكل " إسرائيل"، في وضعها الحالي، مرحلة من مراحله.‏
      وتبقى المسألة الأهم هي : هل يستطيع الفلسطينيون أولاً والعرب ثانياً سحب فتيل هذه الأزمة، وإغلاق مداخل العدو الصهيوني إلى الدم الفلسطيني، ووضع حد لمخاطر الاستحقاقات الجديدة المطلوبة من السلطة الفلسطينية ؟؟ وهل ننجح، نحن المعنيين بفلسطين ومصير الصراع العربي الصهيوني، في أن نبقي حق الفلسطيني بالتحرير قائماً في ذاكرة الفلسطيني ووجدانه وشارعه و"تشريعاته " وحياته، من دون أية مصادرات من أي نوع تتم تحت ذرائع ومسوغات شتى؟! وهل نضع حداً لمحاولات تشويه المقاومة التي تتصدى للاحتلال الصهيوني وللاتهامات التي توجه ضدها وأساليب نخرها من الداخل لإجهاضها وإجهاض آمال الأمة المعقودة عليها، وأن نبقي لها تماسكها ونقاءها وشرفها وبهاءها وجاذبيتها وشرعيتها، أم أننا لن ننجح في حماية حتى قلوبنا التي بين الضلوع من شرور التلوث وأنواع القتل وغزو الرعب؟!‏
      إنها أسئلة ملقاة على ضمير كل المعنيين بحقوق الأمة ومستقبلها وعدالة قضاياها.‏

      دمشق في 15/4/1998‏

      الأسبوع الأدبي/ع606//18/4/1998‏






      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        لماذا خسرنا كل تلك المعارك وما الذي تغير في الصهيونية؟!
        لماذا خسرنا كل هذه المعارك مع العدو الصهيوني، وكادت الهزيمة تستقر في نفوسنا وتصبح المعطى الوحيد لكل ما مضى من صراع معه؟! ولماذا يُراد لنا، بعد كلِّ تلك العقود من الصراع وكل ذلك الكم من التضحيات والمعاناة، أن نسلِّم بالهزيمة وبعدم قدرة الأمة على تحقيق نصر، وباستحالة حسم هذا الصراع لمصلحتها، وبأنه ليس أمامها إلا أن تقبل بما يُعرض عليها من قبَل أعدائها، مهما كان ذاك الذي يُعرض قليلاً، " بذريعة : حتى لا نضيع كل شيء " !! وكأن ما هو سائد اليوم من معطيات وأوضاع وظروف ومتغيرات وقوى سيبقى مستقراً على هذا الوضع إلى الأبد، على غير ما هو معروف ومألوف في قوانين الحياة، التي هي حالة مستمرة من التجدد والحركة التي لا تعرف السكون ولا الجمود؟!‏
        إن مقاربة الجواب تغرينا بطرح بعض الأسئلة عند مداخله منها :‏
        هل خضنا، نحن العرب، معاركنا مع العدو الصهيوني انطلاقاً من استراتيجية عربية شاملة تقوم على وحدة الهدف والموقف والصف، واستخدام القوة بإرادة الأمة كلها وقرارها وطاقتها وتصميمها التام لحسم الصراع لمصلحتها مع العدو مهما غلى الثمن وبلغت التضحيات واستمر القتال واتسع مداه !؟ هل فعلنا ذلك في أي يوم من الأيام، أم أن تلك المعارك كانت تُخاض من قِبَلِ قطر أو قطرين في أحسن الأحوال، وتبقى الدول العربية الأخرى متضامنة أو متفرجة أو متآمرة؛ وأن الأمة لم تخض معركة واحدة بالمعنى الدقيق والعميق للكلمة، والتالي أنها انهزمت لأنها لم تحارب أولم تحارب فانهزمت؟! وهل كان هناك قرار عربي، وحتى فلسطيني حاسم وشامل، يستند إلى إرادة وسيادة عربيتين حرتين وقوة عسكرية متكاملة معدَّة إعداداً جيداً لهذا الغرض في يوم من الأيام؟! أم أن المعارك التي كانت تخوضها أقطار، أو تُفرض على أقطار، كانت تتم في ظل تحييد وتفرُّق وتمزيق : ظاهر وباطن، للدول والقوى في وطن الأمة العربية، ينجم عنه كَرْسَحَةٌ للوعي، وطعنٌ للوجدان، وقنوطٌ في ساحات بشرية ومجالات عمل عربي كثيرة !؟‏
        إن حرب 1948 التي " خاضتها " سبعة جيوش عربية بقيادة " موحَّدة " نظرياً مشتتة عملياً ومحكومة بالفوضى وبأشياء أخرى أكثر خطورة، ولم تكن استراتيجيتها العسكرية والسياسية هي التحرير الشامل، كما لم يكن قرارها واستمرارها عربيين حرين يجسِّدان السيادة والإرادة بشكل واع وكامل، ولم تكن تلك الجيوش، التي " دخلت الحرب "، معدَّة ومستعدة لخوض معركة واضحة الأهداف والخطط بالمعنى الفعلي والعملي لذلك، ولا هي مساوية من حيث العدد والعدة للعدو الصهيوني المدعَّم بقوى خارجية، ولا هي مجهزة بما تحتاج إليه في مجال المواجهة؛ وقد لفَّت الفوضى أداء من دخلها دخولاً جاداً لأنه اكتشف ما لم يكن يتوقع. وقد كانت لقيادتها العسكرية " الموحدة " مواقف وأهداف لا تنسجم وتطلعات الشعب العربي عامة والفلسطيني خاصة، ولا تعبر عن حقيقة مواقف أبناء الأمة؛ وكان لأطرافها أكثر من قرار وهدف وغرض على الصعيد السياسي، كما كان لمن يحكم قرار تلك الأطراف عملياً أو يتحكَّم بسقف ذلك القرار، من قوى الاستعمار المناصِرة للمشروع الصهيوني والمتبنية له والمسؤولة عن تنفيذه حسب قرارات عصبة الأمم؛ كان له نفوذ ودور لا يستهان بهما في أكثر من قطر وموقع عربي.‏
        ويمكن القول عن تلك الحرب بمعنى من المعاني : إنها حرب الاستعمار الشكلية بأدوات عربية لإقامة الدولة الصهيونية وتحطيم الإرادة والروح والمعنويات العربية وكل ما يتصل بالثقة بالنفس وبالمستقبل في ظل هزيمة منكرة. أما عن الإعداد والاستعداد لخوض القتال فحدث عن التقصير في ذلك ولا حرج، وتخيَّل من النتائج السلبية والمأساوية ما شئت أيضاً، وتذكَّر شريط الأحداث والمعطيات : من " غلوب " باشا و" ما كو " أوامر إلى السلاح الفاسد في الجبهة المصرية ولقاءات السيدة غولدا مائيير على ضفاف الأردن / في الشونة أو قربها / مع قيادات عليا، كانت قد حددت مستقبلها وطموحاتها الشخصية وبرامجها ورتبت أمورها وحدود ما تريد أن تصل إليه مع العدو وحلفائه مسبقاً، وكانت تتقاضى مخصصاتها منه بانتظام، في إطار اتفاق لم يعد يخفه التاريخ المكتوب .‏
        لم تخض الأمة العربية معركتها موحَّدة مع العدو في يوم من الأيام، ولم تستخدم طاقاتها بجدية وعلمية لتحرير فلسطين؛ ولذا فإنني أرى أنه من الظلم التام القول بأن الأمة العربية انهزمت في معاركها مع العدو الصهيوني وحلفائه، الذين كانوا معه دوماً وضدنا دوماً؛ وأنه لم يبق أمامها إلا التسليم بعجزها والاستسلام لما يصوَّر لأبنائها من أوضاع اليوم على أنه قدر أبيد ونهاية التاريخ.‏
        وإذا أردنا أن نستطلع القدرة والطاقة العربيتين على المواجهة فعلياً فإنه يمكن قراءة النتائج التي يسفر عنها عمل عربي حازم ضد العدو الصهيوني، ولو في نطاق محدَّد ومحدود، في حالتين هما :‏
        أ ـ حرب تشرين / أكتوبر 1973 / على الرغم من وجود خلل كبير في الأهداف النهائية المضمرة لقطبيها أدى إلى نتائج مأساوية وإلى ضياع الكثير من نتائجها، وهو ذلك الذي يلخَّص بخوض السادات لها بوصفها حرب تحريك، وخوض الأسد لها بوصفها حرب تحرير؛ وهو الفرق بين المضمَر والمعلَن في معظم الأعمال والنيَّات والأقوال والاتفاقات والتوافقات‏
        العربية ـ العربية .‏
        ب ـ وأداء المقاومة ضد العدو في فلسطين المحتلة ومن الأردن وجنوب لبنان، وما أسفر عنه ذلك الأداء، لا سيما في مراحله الإيجابية، من نتائج مرهقة للعدو ومؤثرة على مشروعه وبرامجه واستقراره. والاستعداد لتنفيذ القرار 425 بعد عشرين سنة من اتخاذه خير شاهد ومثال، كما أن الانتفاضة خير دليل على فعل عربي جماهيري مؤثر، أوصل الصوت والقضية بجلاء إلى أنحاء العالم.‏
        أما نضال الفلسطينيين من خلال المنظمة والتنظيمات والفصائل، فقد تحوَّل بعد الزهو الأول والانطلاقة المبدئية الجبارة المعتمدة على الشعب، والمخلصة كلياً لقضية التحرير الشامل، تحوَّل بكل أسى وأسف إلى : صراع قيادات ومنظمات وفصائل وأيديولوجيات من أجل التسلط والمغنم والقيادة والسيادة، وإلى نضال في الإعلام أو في فنادق الدرجة الممتازة، وأدى في نهاية المطاف إلى :‏
        1ـ توزُّع قوى المقاومة على الأنظمة العربية، بعد هجر قاعدة الاستناد الشعبية التي كانت لها، وتبنيها لخلافات الأنظمة والحكام، وخوضها لمعارك بالوكالة عنها وعنهم، وابتلاعها أحياناً لطعم العدو : الوطن البديل؛ الأمر الذي جعلها تتحوَّل من قوى مقاومة للعدو الصهيوني تحظى باحترام وتأييد عربيين شاملين ومن حركة تحرير تنذُر بنادقها للقضية وتستند إلى الوجدان الشعبي وتعمِّق البعد القومي للصراع العربي الصهيوني، وتجسِّد إرادة عربية تفرض نفسها على البلدان والحكومات العربية؛ إلى حركة تؤجِّر بنادقها لتلك البلدان والحكومات، أو تستخدم تلك البنادق لتصفية حسابات داخل كيان الأمة العربية وداخل كيان الشعب الفلسطيني ذاته، أو تقدم " لفتات " مجاملة لقوى عالمية / تقدمية وغير تقدمية؛ وهو ما أفقدها في كثير من المواقع والمواقف والحالات والساحات : سلامة الرؤية، وصحة الهدف، ونظافة السلاح، والمصداقية، وقوة الشارعين العربي والفلسطيني، واحترام الرأي العام العربي والدولي، وجعلها تنفق من رصيدها بدلاً من زيادة ذلك الرصيد؛ وفتَح الباب واسعاً أمام الاقتتال الفلسطيني ـ الفلسطيني، والعربي ـ الفلسطيني؛ وأقام في الشارع الفلسطيني سوق الدكاكين السياسية، وجعلها في حالة من الحيوية والاستهلاك المهلكين؛ مما كلف الشعب والقضية مزيداً من الانقسام والمواجهات الدامية والانصراف عن الأهداف الرئيسة؛ وفتَح عليها باب النقد والانتقاد وأدخلها، بشكل أو بآخر، سوق المساومة على أهدافها النهائية ومبادئها الجوهرية : مراعاة للارتباطات والمصالح والعلاقات والمواقع والقوى، الأمر الذي جعل القضية والشعب يخسران والمسؤولين يربحون ويكبرون مؤقتاً، ولكن دائماً على حساب الشعب والقضية والأمة. وما زال الشعب الفلسطيني والقضية والأمة العربية يدفع ثمن ذلك كله ويحصد نتائجه المرة حتى اليوم.‏
        2 ـ توزُّع الولاء على جهات وجبهات عالمية، سواء أكان ذلك في ظل المعسكرات السياسية والأيديولوجية المتنافسة إبَّان الحرب الباردة، أو خارج دوائر تأثير تلك الجبهات وحضورها بعد انتهاء تلك الحرب وسيطرة قطب وحيد الطرف على سياسة العالم.‏
        3ـ وجود شرخ رئيس، منذ البدايات، في الجسم الفلسطيني، ظهر وعبر عن نفسه سراً وعلناً، في الموقف والنضال الفلسطينيين، لم يعالَج بجدية وبقي جرحاً ينزف ويستنزف وثغرة في الصف والرأي والرؤية، وهو الموقف من الوجود الصهيوني كله في فلسطين / الكيان ـ الدولة / وكيفية التعامل / استراتيجياً / معه : هل يقوَّض تماماً وتُبنى فلسطين ـ الدولة على أنقاضه، ويكون ليهودٍ حضورٌ في تلك الدولة تحت السيادة الفلسطينية المطلقة على فلسطين، أم يتم التصالح معه على أرضية الاعتراف المسبق بحق له / مضمرٍ أو معلَن / على أرضية الاستراحة للأمر الواقع المفروض والاستسلام لما يرسمه، أو القبول بالقرار / 181 / المرفوض من البعض، المقبول من البعض، في السياق التاريخي للقضية ومراحل الصراع؟! والتعاون مع " الدولة اليهودية " في ظل تلك البلبلة، أو مع ما يتراءى أنه فريق معارض في داخلها، ولو من قِبَل فريق من الفلسطينيين وفريق من العرب، الذين يأخذون بالأفكار والمبادئ ذاتها التي لذاك الفريق ويشاطرون أفراده رؤيتهم للصراع والحل ومستقبل المنطقة؛ تدعمهم في ذلك قوة دولية وسياسة قوية وحالة أيديولوجية استمر تأثيرها عقوداً من الزمن، استقر خلالها الكيان الصهيوني وتقوَّى بشكل ظاهر في ظل ما خلقته من ظروف وأوضاع وحالات اجتماعية وفكرية ونضالية داخل الصف الفلسطيني والوطن العربي .‏
        إن الساحة السياسية والفكرية الفلسطينية، التي لم تكن موحَّدة الأهداف والبرامج، وكانت موزعة الولاء، مخترقة الصف، مشوشة الرؤية، ومختلطة الرأي : خلقت حالة عربية مشابهة لها على الصُّعُد جميعاً في كلِّ ما يتصل بموضوع الصراع العربي الصهيوني والقضية الفلسطينية، التي يقوم من أجلها ذلك الصراع. ولو أنها توحَّدت في كلِّ شيء رئيس أو في معظم ما هو مبدئي وجوهري ورئيس، لوحَّدت أكثر بكثير مما فرَّقت، ولتقدَّمت أكثر بكثير مما تراجعت في مشروعها وعنه؛ ذاك الذي يجسِّد الحق التاريخي للفلسطيني في وطنه الأصلي، وطن الأمة العربية من منظور البعد القومي للقضية، نظرياً وعملياً، الحق الذي لا يجوز ولا يمكن أن نتخطاه .‏
        المشروع الفلسطيني : من التحرير الشامل / فلسطين من البحر إلى النهر / إلى التدمير الشامل / " أوسلو " وما تبقى من بؤسها على الأرض وفي النفوس / هل هذا هو فعلاً حصاد المرحلة الماضية على أرض الواقع العربي والفلسطيني؛ وهو يوازي ويذكِّر في آن معاً بالموقف العربي وتراجعه من : لاءات مؤتمر القمة العربية في الخرطوم إلى الهرولة بألف نعم إلى أعتاب العدو الصهيوني تلك التي ظهرت بجلاء في قمة شرم الشيخ ؟!؟‏
        إنني لا أقبل ذلك من دون ظلاله وهوامشه الهامة، وحتى أنه لا يصح أن يكون ذاك هو المتن النهائي لهذا الموضوع والباقي مجرد هوامش، لا على الصعيد العربي ولا على الصعيد الفلسطيني. فعلى أرض واقع القضية الفلسطينية، ببعديها الفلسطيني والعربي، وفي مجالات الصراع الدائر من أجلها؛ توجد ثوابت وركائز ومعطيات وحقائق ومرتسمات لكل ما كان لها منذ البدء، ولكن التجليات والمفارقات أصبحت اليوم أكثر وضوحاً بانعكاس بعضها وانقلابه إلى النقيض؛ وما كان في فترة من الفترات هامشاً أو برنامجاً خفياً لشريحة اجتماعية ولرغبات مضمَرة لديها أصبح اليوم أكثر حضوراً وظهوراً وتعبيراً عن نفسه، وقد عززت المتغيرات العربية والدولية ذينك : الحضور والظهور.‏
        على أرض الواقع / عربياً وفلسطينياً / يوجد من يقول اليوم بالمشروع الفلسطيني التام : فلسطين من النهر إلى البحر، ويقدم دماً من أجل ذلك؛ ويوجد أيضاً من يقول بأوسلو حسب النصوص الموقعة في واشنطن ولا يستحي من المناداة بذلك، ويوجد من يقبَل، من أهل أوسلو، بما " يتكرَّم به نتنياهو " لأنه تعِب ويريد أن ينشر ذلك التعب في أوصال الأجيال القادمة ولذلك فهو يبشر به ويتحالف مع العدو من أجل تحقيقه؛ ويوجد من يقول بما رفضه فلسطينيون سابقاً : مشروع ألون، ويوجد من يعمل لمشروع المملكة المتحدة والكونفدرالية النهائية بين فلسطين والأردن في ظل المملكة من جهة، و" إسرائيل " من جهة أخرى؛ ويوجد أيضاً من يقول بالقومية المطلقة للقضية والقرار وبتحمل ما يترتب على ذلك من تبعات ومسؤوليات، ويرى أن الداء توطَّن منذ قرار قمة الرباط ونعق به شعار أو أكذوبة : " يا وحدنا "؛ وهناك من يقول بالبعد الإسلامي للقضية لأن القدس خاصة وفلسطين عامة، بعد سقوط السلطنة العثمانية وحلول الاستعمار الغربي، بقيت نوعاً من الوقف المطلق للأمة الإسلامية إلى أن تعاد لأصحابها الأصليين ويعودون إليها أسياداً عليها .‏
        وإذا ما نظرنا إلى هذا الأمر، وتفحصنا بعض تفاصيله بتدقيق، من خلال نظرة للمشروع الصهيوني من بعض وجوهه، لوجدنا الأبعاد والتحولات والمعطيات الآتية بشيء من الموازاة والمغايرة لما حصل في الوقع الفلسطيني :‏
        أ ـ فمن قائل اليوم بـ " إسرائيل التوراتية : إسرائيل رباني أو ربَّاتي " على أرضية الاعتقاد الديني / التوراتي ـ التلمودي /، وهو يستعيد جغرافية المنظمات الإرهابية الصهيونية مثل " ليحي " وشعاراتها وممارساتها وتطلعاتها وبرامجها المرحلية وأهدافها النهائية ووسائلها : " جندي يحمل البندقية، إحدى قدميه على خريطة فلسطين الانتدابية والأخرى على امتداد شرق نهر الأردن، ونظره يمضي إلى أبعد من الفرات والنيل. "‏
        ب ـ إلى قائل بتطبيق اتفاق أوسلو بتصرف مع تهويد القدس بكاملها، بوصفه مفتاحاً " لسلام صهيوني مفروض " يؤدي إلى انتزاع الاعتراف العربي بالدولة اليهودية وبحقٍ تاريخي لليهود في فلسطين، تستمر في ضوئهما الهجرة والتوسع الاستيطاني عملاً بتنفيذ مقولة المدى الحيوي وتفعيلها، والبناء الاستعماري في ظل من الأمن والسلام والاعتراف؛ الأمر الذي سيؤدي، في هذه المرحلة من مراحل المشروع الصهيوني المستمر، إلى إقامة " إسرائيل " الكبرى، ليس في مجال الجغرافية بالضرورة بل في مجال القوة الشاملة / عسكرياً واقتصادياً على الخصوص / وفرض الهيمنة المطلقة على المنطقة، وبسط النفوذ غير المحدود على دولها، وتأمين المصالح للذات وللحلفاء، وتعزيز الإمكانيات والأوضاع والتحالفات ـ في ظل سلام أوسلو ووادي عربة، الكائنين السياسيين المشوهين الخارجين من رحم كامب ديفيد : مستنبَت التشويه لهذه القضية وما يتصل بها من صراع وأمور في حياتنا العربية المعاصرة ـ التي تقرِّب موعد إعادة ترتيب كل شيء في الوطن العربي، ونقض بنيته الجيو ـ سياسية الحالية، وإعادة تشكيل المنطقة وصوغها في " شرق أوسط جديد " مسيطرٍ على كل شيء فيه تماماً؛ وإقامة جامعة شرق أوسطية على أنقاض الجامعة العربية ـ أو ما يسميه شمعون بيريس " جامعة الكراهية "، تساهم " إسرائيل " في تأسيسها وتسيطر عليها مع حلفائها ومن خلالهم؛ لتصبح المنطقة كلها مهيأة ومؤهلة لتنفيذ مرحلة جديدة على الأرض في المشروع الصهيوني المستمر. ويعتمد ذلك ويتوقف ـ من وجهة النظر الصهيونية والعملية الاستعمارية الاستيطانية وعرَّابيها ـ على تشويه الهوية والبنية الاجتماعية العربيتين وتدمير مقومات الشخصية الثقافية ومنظوماتها القيمية والقومية الرئيسة، ليتحقق ذلك الهدف الذي يتوقف على إنجازه نجاح المشروع الصهيوني واستمراره .‏
        ج ـ إلى قلة لا شأن لها ولا تأثير في القرار : تقول بتنفيذ اتفاق أوسلو كما وقِّع في واشنطن، وتذهب إلى حدود المناداة بدولة فلسطينية شكلية؛ وهي تشكل طعماً مناسباً لتيار عربي يقول بالتعاون مع من يسميهم المعتدلين اليهود. وتُحسن " إسرائيل توظيف أولئك والاستفادة من آرائهم ومواقفهم في هذه المرحلة من مراحل مشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني العنصري. ولهؤلاء اليهود، على اختلا ف مذاهبهم ومشاربهم ومواقفهم،نظرات أخرى لموضوع الصراع العربي الصهيوني ببعده القومي، ولفلسطين الدولة العربية ذات السيادة والاستقلال والتطلع المشروع للسيطرة على أرضها التاريخية.‏
        د ـ وعلينا ألا ننتقص من قدرة القائلين بالبعد " المسْيَاوي " الديني للمشروع الصهيوني والعاملين عليه من المتصهينين أتباع المسيحية ـ اليهودية، وهم أصحاب حضور وتأثير ونفوذ وقوة لا يستهان بها في الغرب وفي الكيان الصهيوني وسياساته الحالية والمستقبلية؛ ويأتي على رأسهم خمسون مليوناً على الأقل من أصحاب المال والتأثير والنفوذ في الولايات المتحدة الأميركية وحدها؛ ومن يتوافقون مع أولئك ويقولون على نحو ما باستمرار الغزو الصليبي والمشروع الصليبي، ممن يعملون له بأشكال وصيغ مختلفة في أوربا كلِّ أوربا.‏
        إن البذور جميعها في الحقل الخصب وهي تحاول أن تعبر عن وجودها وتمارس قدرتها على النمو .‏
        ولكن يبقى السؤال : بعد مئة سنة من قيام الحركة الصهيونية هل تغيَّر المشروع الصهيوني ؟!! إنني بعد الذي أسلفت أرى تقدماً في إنجاز المشروع ولا أرى تراجعاً عنه، وألمس قدرة أكثر على ممارسة التكتيك تقابلها قدرة عربية في مواقع محددة على كشف ذلك التكتيك والتصدي له .‏
        يقولون : " إن مشروع إسرائيل الكبرى قد سقط بعد أوسلو ووادي عربة "، ولا أشارك أصحاب هذا الرأي رأيهم لأنني أقول باستمرار الهدف مع تغير الوسائل والأدوات والتكتيك، للوصول إلى " إسرائيل الكبرى " في مجالات تجعل الجغرافية المكلِفة الآن من تحصيل الحاصل في المستقبل؛ وإلا ما معنى التحالفات وتكديس الأسلحة وتطيرها في الكيان الصهيوني من جهة ومحاصرة العرب حتى لا يملكوا منها شيئاً، إن لم يكن تحقيق التفوق الصهيوني المطلق في المجال العسكري أولاً، الذي يضمن وقوع المسارات الأخرى تحت رحمته وسقوطها في يده بالمعنى الاستراتيجي ـ العسكري للكلمة ؟!؟‏
        ومن ثم ما الذي يمكن أن يتغير في المشروع الصهيوني إذا لم يتغير موقف الحركة الصهيونية و" إسرائيل " من القدس والجولان والهجرة والاستيطان والدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة، ومن الحدود الفعلية ـ حدود الأمن ـ مع الأردن التي تبقى حتى بعد " اتفاقية وادي عربة " هي نهر الأردن؟!‏
        هل يعنون بالتغير تلك الآراء والأفكار والاتجاهات التي يتم تداولها في مجتمع الاحتلال وفي بعض الأوساط الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية؟! من مثل : ما بعد الصهيونية، وما بعد الحداثة الأميركية؟! إنني لا أرى في ذلك سوى مسارات تاريخية وتحديد لمراحل ولاختيارات على خريطة المشروع الصهيوني ذاته الذي تعمل على تحقيقه السياسة الصهيونية الرسمية والمؤسسات الفاعلة في ذلك المجتمع العنصري؛ وإذا كان يطيب للبعض أن يتخذ من اختلافات بعض اليهود الصهاينة ذريعة للقول بالتغير والتحوُّل، فهذا لا يعني عندي شيئاً ذا بال؛ ففي عهد هرتزل والصهيونية العلمانية ـ إن صح وجود فعلي لمثل ذلك التعبير ـ وجدت أفكار ومقولات الصهيونية الروحية وتوجهات " أحاد ها عام "؛ وقام الخلاف والنزاع حول المشروع وحول الوسائل والأدوات طوال العقود السابقة على إقامة الكيان الصهيوني وطوال السنين الخمسين التي انقضت على ممارساته الإرهابية في ظل " الدولة ". فخلافات حزبي : العمل والليكود الصهيونيين لم تنته ولا أقدِّر أنها سوف تنتهي، ولكنهما يتفقان تماماً حول القدس والدولة الفلسطينية والاستيطان والمدى الحيوي المفتوح والهجرة، فما الذي يغيب من المشروع الصهيوني إذا حضرت هذه كلها وتكلمنا عن مرحلة : ما بعد الصهيونية؟ وماذا يعني هذا بالضبط؟! إنه يعني أن الصهيونية أنجزت مراحل من المشروع وأهمها انتزاع الأرض وإقامة الدولة وتحقيق توسع وانتزاع الاعتراف بها، ويأتي الآن وقت استكمال المشروع في ظل يهود يعيشون على " أرض وطن معترف بحقهم فيه " وأن عليهم استكمال الخطوات المؤدية إلى إقامة وطن لكل اليهود وجلبهم إليه وتحقيق أساطير التوراة والتلمود من خلال ابتزاز أسطورة الوعد الإلهي والمحرَقة ... إلخ‏
        إن المشروع الصهيوني مشروع مستمَد من اعتقاد ديني وقائم عليه، والصهيونية العلمانية وغير العلمانية استندت إلى هذا البعد العقائدي ولم تنحرف عنه واستمدت منه المسوِّغات؛ حتى اليهودي الشيوعي والصهيوني الشيوعي عملا من أجل ذلك ونجحا ربما أكثر من سواهم في خدمته، ولا أظن أن أياً منهما يجرؤ على الاعتراف بحق الفلسطينيين في كل وطنهم وحق المشردين عن ذلك الوطن بالعودة إليه .‏
        المشروع الصهيوني لم يتغير وتغيره مرتبط بتغير العقيدة الصهيونية المستمدة من التلمود، ويوم تتغير مقولات التلمود يمكن الحديث عن تغير في الطبيعة العنصرية لليهودي وفي المشروع الصهيوني على حد سواء .ربما نجح اليسار الصهيوني أكثر من سواه من الاتجاهات الصهيونية في كسب تأييد اليسار العربي لمراحل المشروع التي قادها وأنجزها وهو يحاول اليوم أن يكسب ذلك اليسار إلى جانبه في استمرار مراحل جديدة من المشروع، ويحاول أن يعتمد عليه لدعمه داخلياً في العودة إلى السلطة بعد أن تغير في المعسكر الاشتراكي ما تغير .‏
        وإذا كانت مناصرة الاتحاد السوفييتي السابق ودول المعسكر الاشتراكي للحركة الصهيونية ولدولة " إسرائيل " ومدها بالعتاد والرجال في مرحلة التأسيس ترمي إلى تعزيز وجود قوة تساعد على نشر الشيوعية في المنطقة، وتجعلها موالية لها أو قريبة منها، قبل أن يسرق الغرب ـ لا سيما الولايات المتحدة الأميركية ـ هذه القوة من الاتحاد السوفييتي ويحركها بوحي من مصالحه، أو على الأصح قبل أن تنتقل هي إلى حيث تخدم مصالحها وتكمل مخطط اليهود الخَزَر ضد الروس والكنيسة الأرثوذكسية؛ فإن تحرك اليسار الصهيوني بتشعباته يرمي إلى كسب عرب يساهمون في توطيد المرحلة الحالية المهمة : مرحلة انتزاع الاعتراف بـ " إسرائيل" واستمرار مشروعها على أرضية السلام وباسمه؛ تحت مقولات ومسوغات جديدة منها محاربة الأصولية/القومية والدينية / والإسلام السياسي، لأنهم يلمسون تمسك القوميين بالحق والأرض ودفاع المسلمين والمسيحيين عن المقدسات من دون هوادة. ولا أدري هل نبتلع الطعم الصهيوني مرة أخرى بعد المرات السابقة، وندخل تيهاً جديداً وصراعاً مديداً، بعد أن تكشف لكل ذي بصر وبصير الدور الحقيقي للصهيونية ـ في الشرق والغرب ـ وبعد أن لمسنا من خلا ل الممارسات الكريهة والإرهاب المستمر عنصريتها وامتداد مشروعها ؟!!‏
        لقد أخرجت اتفاقية كامب ديفيد مصر العربية من ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني وحولتها من قوة مؤيدة للتحرير إلى قوة محايدة، وإلى وسيط في بعض الحالات بين العرب و" إسرائيل "؛ وقد لمسنا في السنوات العشرين الماضية من عمر كامب ديفيد كم أصبح موقف العرب ضعيفاً في المواجهة العسكرية والسياسية مع الكيان الصهيوني، الذي شن عدة حروب على بعض الأقطار العربية وعلى ومنظمة التحرير الفلسطينية، منها حرب اختبار لمصر كانت قاسية على العرب وقاتلة لموقف منظمة التحرير هي تلك التي شنها على لبنان عام 1982 واحتل فيها بيروت وأجبر منظمة التحرير على المغادرة إلى تونس، وألحق خسارة عسكرية قوية بسورية / 500 دبابة ومئة طائرة وبطاريات الصواريخ المضادة للطائرات عدا الخسائر البشرية / وقد تم ذلك من دون أن تتحرك مصر تحركاً فعالاً لمشاركة أمتها بشيء يذكر في تلك المحنة. لقد حيدت اتفاقية كامب ديفيد مصر ولكنها لم تفرض السلام " الإسرائيلي " وإن بقي ذلك الهدف جنيناً مستكناً في أعماقها حركت نموه حرب الخليج الثانية التي أدت إلى مؤتمر مدريد.‏
        وكانت اتفاقية " أوسلو " بخطورة كامب ديفيد أو أشد، لأنها جعلت " الفلسطيني " يعترف بحق " إسرائيل " في وطنه على حساب حقه التاريخي ووجود قسم كبير من شعبه فوق أرضه، ومهدت الباب أمام العرب والعالم ليعترفوا بالكيان الصهيوني ويقيموا علاقات طبيعية معه على أساس ما أُشيع من سلام وتسوية للقضية موضوع الصراع. لقد سجل الفلسطينيون بدمهم ومعاناتهم ومعهم العرب حضوراً قوياً لهم ولعدالة قضيتهم في كل أنحاء العالم لا سيما بعد حرب تشرين ـ أكتوبر، وبطولة شباب الانتفاضة والجهد المضني الذي أسفر عن اعتراف أكثر من ثمانين دولة بمنظمة التحرير الفلسطينية قبل " أوسلو " وقبول الأمم المتحدة لها بصفة مراقب، وأخذت تحشر " إسرائيل " في الزاوية الضيقة في كل المؤتمرات واللقاءات والمنظمات الدولية؛ إلى أن استيقظنا على نفي بارد سفيه محزن لكل ذلك الذي أنجزته وكرسته حرارة الدم العربي الزكي: دم الشهداء على دروب قضية العرب المركزية في هذا القرن : قضية فلسطين.‏
        لقد فتحت " أوسلو " باباً " لن يسد إلا بإغلاقها، ذاك الذي لا يكون إلا بالإعلان عن تشييع جثمانها البغيض الذي ما زال مسجى في غزة ورام الله والقدس وواشنطن على الرغم من الإعلان المتكرر عن الوفاة !!؟ من قال إن القطط بسبعة أرواح؟! إن أوسلو بسبعين ألف روح ويزيد، ويتأتى لها ذلك من تشبث القائمين عليها بالمكابرة .‏
        لقد قسمت أوسلو الشارع الفلسطيني كما لم يقسم من قبل، وقسمت الشارع العربي، وعطلت قرار التحرير الفلسطيني، وسوَّغت للعرب أن يتنصلوا من القضية وتبعاتها، وفتحت الباب أمام الدول العربية وبقية دول العالم لتعترف " بإسرائيل " وتطبِّع العلاقات معها، بذريعة أن صاحب البيت صالَحَ فما شأن الآخرين؟! وعلى الرغم مما في هذا من مغالطات ونفي لوقائع ومعطيات فلسطينية وعربية، إلا أنه يسوَّغ ويسوَّق ويروَّج في مجالات ومحافل كثيرة وكبيرة.‏
        لقد عطلت أوسلو مفهوم الصراع العربي الصهيوني، وهي ترمي إلى إلغائه، كما أنها عطلت مفهوم المقاومة الوطنية المشروعة وغيرت مفاهيمها، وتصر على أن تقدمها للعالم على أنها إرهاب وتخريب وأفعال منافية للعدل ومدمرة للسلام؛ وكل هذا ـ حتى لو أنه أفلح في تحقيق أهدافه ـ فإنه يعطل مسارات المقاومة ويلغي الصراع عملياً، ويعطي شرعية للاحتلال ويدين من يقاومه ويلغي فلسطين من الجغرافية. وقد أضافت أوسلو إلى " فضائلها " فضيلة مدهشة في وطنيتها حين جعلت السلطة الوطنية الفلسطينية في حالة تكليف رسمي بتدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية التي تعرِض للاحتلال وتدافع عن الحق والوطن والمواطن؛ أي أنها مكلفة عملياً بإثارة حرب أهلية في الساحة الفلسطينية، لا سيما ضد أولئك الذين حرمتهم أوسلو من حق العودة ومن التفكير بالقدس عاصمة عربية وبفلسطين حلماً فلسطينياً. فهل يبقى هناك مجال للتفكير في صراع عربي صهيوني ـ من منظور أوسلو وأخواتها ـ في الوقت الذي تمنع فيه نصوص تلك الاتفاقيات العرب الموقعين عليها من التعاون مع العرب الذين ينشب بينهم وبين " إسرائيل " قتال من أي نوع وحول أية قضية حتى لو كانت قضية القدس ذاتها؟!‏
        إن أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد من قبلهما، تشكل جميعاً تصفية غير عادلة للقضية الفلسطينية، ولحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه التاريخي، ونضاله المشروع من أجل الأرض والحق والوجود الحر والحياة الكريمة. وهي بهذا المعنى صيغ من صكوك الاستسلام، وقيود استعمارية تكبل الإرادة والأجيال، ونوع من عقود الإذعان التي تهلك موقعيها وهم يتهالكون على إقناع الذين يرفضونها لكي يقبلوا بها .‏
        إن قضية فلسطين قضية قومية بكل المقاييس، ومن مصلحة الفلسطيني، بل من واجبه قبل سواه، أن يتشبث ببعدها القومي ويدعو العربي لتحمل مسؤولياته في هذا المجال؛ لأن الفلسطيني وحده، وأي متمسك بكيان قطري من أي نوع مهما كبر ذلك الكيان، لا يستطيع أن يواجه العدو الصهيوني وحلفاءه ويحقق نجاحاً ونصراً في قضية بحجم القضية الفلسطينية وحده.‏
        ولذا فإن الوطني يتماهى مع القومي في هذه القضية، التي يتوقف على حسمها لمصلحة الأمة العربية كل معنى لاستقلال ناجز، وتقدم منتظَر، ومواجهة ناجحة لتحديات العصر ومتطلباته وتكتلاته، وكل نهضة من أي نوع .‏
        وحين يدرك القطري / نظاماً كان أم حاكماً أم حزباً أم شخصاً / أنه قوي بأمته ومستضعَف من دونها ويوافق على أن يقدم التنازل لها ليحفظ بذلك وجوده وكرامته ومستقبله؛ عندها نبدأ الخطوات العملية البناءة على طريق الوطنية الحقَّة والقوة العادلة التي تحمي أرضها ومصالحها وثرواتها‏
        وكرامة مواطنيها وحرياتهم، وتوفر لهم الأمن والرفاهية وفرص‏
        العيش الكريم في وطن حر ذي سيادة حقيقة وإرادة حرة .‏
        إنني أتطلع إلى دور رئيس للمثقفين في إقامة جبهة قومية قادرة على الحضور في ساحة القرار السياسي، وقادرة على امتلاك الوعي والعلم، وعلى مواجهة المشروع الصهيوني بمشروع عربي يعي أهدافه واحتياجاته ويحدد برنامجه ويعمل على تنفيذ ذلك البرنامج. وأرى الانطلاق من أرضية ميثاق المثقفين العرب الذي أقره الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وطرحه على الجبهة القومية للاتحادات والمنظمات والنقابات المهنية العربية، التي يشكل قيامها وعملها الجاد بداية خطو على طريق صحيحة طويلة.‏
        وأرى أن يقوم حوار مسؤول في مناخ ملائم، وعلى أرضية متينة من المواطنة والانتماء القومي والإيمان الراسخ بالله والوطن والشعب، بين الأحزاب والتيارات الفكرية الرئيسة في الوطن العربي : التيار القومي والإسلامي واليساري والليبرالي بتشعباتها جميعاً، على أرضية من الالتزام بإنقاذ الوطن والأمة ومواجهة التحدي والتهديد، ليكتشفوا المشترك وينمّوه، وليؤسسوا لقوة عربية ونهضة عربية في المجالات كلها لا سيما الاقتصادي منها، ولكوِّنوا الجسور التي تقيم الثقة بين الناس والسياسات ويحكِّموا في ذلك كله الوعي المعرفي والمصلحة العليا للوطن والشعب وحقيقة تقدم الجزء من خلال الكل بأمن وثقة وكرامة، وتقدم الوطن بجهود أبنائه جميعاً؛ وليضعوا حداً بالديموقراطية المسؤولة لتهاوي الأنظمة والحكام واستماتتهم على الاحتماء بالآخر الغريب خوفاً من الأخ والشعب والتقدم.‏
        إن مقاومة المشروع الصهيوني لا تكون إلا بمشروع قومي متكامل، يضع طاقات الأمة في خدمة أبنائها وقضاياها وصراعاتها الحيوية العادلة، وبتحقيق التقدم على أسس متينة من امتلاك العلم والتقانة والعمل بهما على أرضية أكثر متانة من الخلق والإيمان. وإذا كانت الثقافة في هذا الميدان تشكل المدخل ورأس الحربة والبصيرة وقرون الاستشعار، والقوة الحامية للشخصية والمفعِّلة لها، فإن هذا لا يجعل منها بديلاً عن العمل الحثيث في المجالين السياسي والاقتصادي، وإنما يحملها مسؤولية دفع القوى العاملة في هذين المجالين الحيويين للقيام بفعل منقذ من أجل الوطن والإنسان والمستقبل.‏
        وأود أن أسجل في النهاية بعض ما أراه مقدمات للخروج من المأزق الذي نحن فيه، تضاف إلى ما سبق وقدمت في ثنايا ما سبق من كلام :‏
        تمتين الجبهة الثقافية، على أرضية الحوار وتنمية المشترك الذي ترسخه، وتأكيد ثوابت الصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، وحسم الجدل في هذا الموضوع لصالح العمل انطلاقاً من ثوابت الصراع وتحقيقاً لاحتياجاته.‏
        إعلان وفاة " أوسلو " ودفنها، تلك التي لن تقدم في أحسن أحوال استكمال تطبيقها وكماله سوى كارثة للشعب الفلسطيني والأمة العربية والقضية الفلسطينية؛ وإعلان عودة منظمة التحرير للشعب والميثاق الوطني الفلسطيني والأمة العربية؛ لتضع الجميع أمام مسؤولياتهم القومية وأمام حقيقة قومية القضية؛ الأمر الذي ينبغي أن يؤمن به ويعمل عليه المسؤولون في المنظمة أولاً، وكل مؤمن بالبعد القومي للقضية ثانياً.‏
        عقد قمة عربية نوعية في توجهها والتزاماتها، قمة من تعمل على تنقية الأجواء العربية والوصول إلى المصالحة على أرضية المصارحة؛ وتقوم بتفعيل الجامعة بعد تغيير ميثاقها، وإقامة اتحاد عربي يعطي للشعب حضوراً تمثيلياً على أسس ديمقراطية محترمة ويجمع بين حضور القوى الممثلة للجماهير على أسس تمثيلية عادلة وليس على أساس تمثيل الدول في البرلمان القومي بأعداد متساوية لكل دولة؛ كما تعطي للاتحادات والمنظمات والنقابات القومية دوراً وحضوراً فاعلاً في صنع القرار، بوصفها هيئات قومية متخصصة في مجالاتها، تتصل اتصالاً مباشراً بكل قطاعات الشعب ومنتجي الحياة، وتشكل جسر التواصل والخبرة والنهضة، وتقدم الترجمة العملية بين الإرادة السياسية وقراراتها من جهة وبين الواقع والناس وسبل التطبيق للخطط والبرامج من جهة أخرى .‏
        تفعيل الأداء الثقافي والإعلامي العربي، ودعوة القائمين عليه إلى التركيز على ما يجمع الأمة وأبناءها وسياسييها وأقطارها على وحدة الهدف ومن ثم وحدة الصف، وإلى ما يحقق نهضة علمية ـ عملية في مجالات الحياة والعمل جميعاً، وما يعزز الثقة بالنفس والمستقبل والنصر والتقدم، انطلاقاً من احترام الإنسان واحترام حقوقه وحرياته ودوره في الحياة وصنع القرار والاختيار، ومن توظيف ثروات الوطن العربي وإمكانات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، التي تكفل تحقيق النهضة والتقدم وحمل أعباء الصراع، إذا ما أُحسن استخدامها على أسس علمية ومن منظور التكامل العربي التام؛ توظيفها في الوطن العربي ولخدمته .‏
        إنني أعلق أهمية خاصة على دور المثقفين العرب ـ بالمعنى الشامل للثقافة ـ وأرى أن يتحمل المثقفون مسؤولية الانطلاقة في هذا الاتجاه، مهما كلفهم ذلك من جهد وما حملهم من تبعات وتكاليف. ولن يتأتَّى لهم ذلك إلا إذا كانوا للأمة كلها ولمصلحتها العليا ولقضيتها الرئيسة بصرف النظر عن انتماءاتهم القطرية واهتماماتهم الشخصية؛ عليهم أن يغلقوا سوق الكلام الذي يحاول أن يفسد أقلاماً وعقولاً ومواقف، وعلى كل منهم أن يحمي ظهر الآخر في مواجهة لن تكون سهلة ولا قصيرة، وأن يكون أحد أهم هواجسهم حماية الأجيال وسلامة تكوينها على أسس تضمن حماية الحق والشخصية والوطن والهوية، وتسلحها بالعلم والإيمان معاً، وامتلاكها للتَّقانة والقدرة والخبرة لتخوض معركة التقدم والنهضة الشاملة، وأن تكون عربية القلب والانتماء لا قطرية التوجه واللسان؛ وأن يحافظوا على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين في كل ما يتصل بالماضي والحاضر وما يؤسس للمستقبل بسلامة، وما يقيم المثَاقَفَة مع الآخر على أساس متين من المعرفة والثقة والاقتدار والانفتاح.‏
        إن المهمة ثقيلة في واقع عربي نعرف ما فيه وما يستهدفه وما ينتظره ويحيط به، ولكن من للأمة غير طاقة الوعي ونقاوة الضمير التي يُفترض أن يكون مستودعها الثقافة والمثقفون؟! وقل اعملوا فسيرى اللهُ عملَكم ورسولُه والمؤمنون .‏
        دمشق في 3/4/1998‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          خمسون سنة على اغتصاب فلسطين
          هذه المناسبة ، مناسبة الذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين التي يحاول العدو الصهيوني أن يقدمها للعالم مناسبة احتفالية بمرور خمسين سنة على تأسيس الكيان الصهيوني ، هي بالنسبة لنا، مناسبة للألم المضيء يطهر نفوسنا مما لحق بها من عفن ، ويجلو صدأ أرواحنا ويفجر فينا طاقة الفداء والإبداع في أساليب الأداء جميعها من أجل رد العدوان وخطر الاستيطان وسيف الإرهاب عن شعبنا وأرضنا وثقافتنا؛ تلك الأخطار المستبيحة لحقوقنا ورقابنا ودمائنا على نحو ما منذ خمسين سنة خلت من اغتصاب فلسطين وأكثر من خمسين أخرى قبلها هيأت لذلك الاغتصاب بتواطؤ وتعاون استعماري صهيوني ما زالا مستمرين مع توزع في الأدوار . وما زال أبناء شعبنا الفلسطيني أولاً وأشقاؤهم في بلاد الشام ثانياً وامتداد اخوتهم في أرجاء الوطن العربي ثالثاً يتعرضون للإرهاب المنطلق من بؤرته التاريخية المتمثلة في الصهيونية العنصرية واليهودية التلمودية.‏
          هذه مناسبة للألم المضيء كما قلت وليست للتفجُّع البائس، مناسبة لتكثيف الغضب الساطع في أداء فعّال على أرضية متينة من الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني- الغربي وامتداده المستمر من جهة والوعي بأن مجابهة هذا المشروع -الكارثة لا تتم إلا على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما من جهة أخرى ، انطلاقاً من رؤية ثابتة للصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود مع وجود ، لا تحوله عن حقيقته الاتفاقيات والمعاهدات والمفاوضات؛ لأنه يتصل بالحق والأرض والعدل والحرية والمستقبل والوجود وليس بالمصالح المادية الرئيسة لأمتنا فقط .‏
          هذه مناسبة لتجديد الذاكرة وتعميق معطى الوجدان القومي على الصعيدين الفردي والجمعي بمعطيات قضية العرب المركزية : قضية فلسطين، وبالصراع الذي دار من أجل حسمها لمصلحة العرب، وبأسباب النكسات والهزائم، ونوع المشروع الذي نواجهه والعدو الذي يفرض علينا إرهابه الممتد عبر المذابح البشعة من دير ياسين وكفر قاسم حتى حريق الأقصى ومذبحتي الحرم الإبراهيمي و " قانا" .‏
          هذه مناسبة لنرى فيها البعد القومي للقضية الفلسطينية بانعكاسات غيابه والتزامات حضوره وآفاقه المستقبلية ، وأهمية استعادة ذلك البعد من أجل وضع حد للتفريط بالقضية ولجم المفرطين البائسين ، الذين يعولون في كل المناسبات بطلب بدائل عن الاستسلام لتثبيت معطيات "واقعية انهزامية" منافية لحقائق الحياة والتاريخ والمنطق؛ واقعية استسلامية توحي بأن معطيات الوضع العربي والدولي الراهنة هي معطيات أبدية، وليس من سبيل ، مع استقرارها واستمرارها ، إلا القبول بما يقدمه لنا سدنتها من فتات موائدهم ؛ مما يعني أن يملأ بعض أصحاب الكروش كروشهم ونفقد كلنا الكرامة والأرض والأمل في مستقبل أفضل !؟ هذه مناسبة نحيي فيها ذكرى الشهداء، ونعلي شأن المضحين من أجل القضية والصابرين السائرين على طريق التحرير ، والعاملين لتثبيت عروبة فلسطين في الأداء الفكري والسياسي والنضالي ، وعلى حماية الكرامة واستعادة المبادرة والثقة والإرادة من أجل أمة واحدة قوية عزيزة ترد عنها أنواع الإرهاب والعدوان والاحتلال كما ترد طمع الطامعين بها وبأهلها والمعادين لهويتها وعقيدتها . والتأكيد على أنه لن يقيم تلك الأمة إلا وعي معرفي بالذات والآخر وإيمان برسالتها وانتماء لها وتضحية من أجلها .‏
          إن خريطة " هشلر " الصهيوني ما زالت معلقة في قلب الصهيوني الذي يريد دولة يهودية تمتد من السويس إلى جبال طوروس في الأناضول ، إن ذلك لن يتحقق له ولكنه يحلم به وعلينا أن نواجه حتى هذا النوع من الأحلام ، وعلينا أن نتذكر أيضاً أن جبال طوروس هي الحدود الشمالية لسورية الطبيعية ؛ وخريطة المشروع الصهيوني تنفذ حسب مرحليات المشروع المستمرة ، وقد مرت أربع مراحل منه نفذت بدقة وأُدخلنا في المرحلة الخامسة أو نحن على أعتابها ، والمراحل هي :‏
          - المرحلة الأولى: مرحلة عشاق صهيون أو أحباء صهيون ، التي استمرت خمسين سنة تقريباً من 1868 إلى 1918 وكانت مرحلة حشد فكري ونظري وتنظيمي وعاطفي وإعداد سياسي وتكوين للأسس والأدوات والتنظيمات بما في ذلك مؤتمر بال 1897.‏
          - والمرحلة الثانية: هي مرحلة الصهيونية السياسية التي أسست للمشروع سياسياً واستصدرت وعد بلفور على أرضية " سايكس ـ بيكو " , كثفت الهجرة واستمرت حتى نهاية الثلاثينيات : بداية الحرب الأوروبية " العالمية " الثانية 1939.‏
          - المرحلة الثالثة : هي مرحلة الصهيونية المقاتلة كما دعاها ونادى بها دافيد بن غوريون ، وقد بدأت مع صدور الكتاب الأبيض وامتدت إلى ما بعد تأسيس الكيان الصهيوني رسمياً الذي قام في 15/5/1948 باغتصاب فلسطين بقوة الإرهاب والقهر والتواطؤ الاستعماري .‏
          - والمرحلة الرابعة : المتداخلة نسبياً مع المرحلة السابقة وهي الصهيونية - التوسعية ـ الاستيطانية -التي تنامت فيها العنصرية ـ العدوانية ، وامتدت من حرب السويس 1956 وحتى مؤتمر مدريد .‏
          -ونحن في مرحلة الصهيونية المهيمنة التي تريد أن تفرض سلاماً واعترافاً بها تنمو في ظلهما إسرائيل العظمى ، وتُستكمل على أرضيتهما عملية توطين خمسة عشر مليون يهودي في فلسطين ، باستكمال اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم؛ وهي تعد ببدء مرحلة "إسرائيل التوراتية أو "إسرائيل رباني ـ أي التي وعد بها الرب كما يدعون ـ وتمهد لها ، بعد أن يكون العرب ، من حيث الإرادة والسيادة والقيادة والقوة المتماسكة ، أثراً بعد عين حسب التقدير والتدبير الصهيونيين .‏
          وقد بدأت اختراقات التهيئة لهذه المرحلة على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية ، وعلينا أن نواجه في كل المراحل السابقة واللاحقة إرهاب الصهيونية العنصرية واليهودية التلمودية وراعي الإرهاب الأول في العالم الولايات المتحدة الأمريكية ، الحليف الاستراتيجي والشريك التام الشراكة لـ " إسرائيل " بكل شيء .‏
          والإرهاب الصهيوني مستمر وهو يطال الأشخاص والمقدسات والممتلكات والأفكار والضمائر ، وهو مفتوح على كل من يتعرض للمشروع الصهيوني وللاحتلال ، والصهاينة ينذروننا علناً بالمزيد منه ؛ وها هو نتنياهو تلميذ شامير إلى جانب شارون المعجب بباروخ غولد شتاين وصفوف طويلة من الإرهابيين الملمعة نياشينهم بالدم العربي البريء فتلك القائمة تمتد بين بناي بريت / أبناء العهد / وكاهانا حي عبر منظمات ليحيا والأرغون وشتيرن و " زفاي اليومي " تلك التي كونت فيما بعد جيش الإرهاب الصهيوني، " تساهال " تنذرنا وتتوعدنا بالإرهاب وبمزيد من التدمير والتهويد ، وتحشد لذلك القوة من كل نوع .‏
          ونحن يمزقنا ارتماؤنا على مشاريع التصفية ويضعفنا ويشتت أهدافنا وبرامجنا ، هذا إن وجدت تلك البرامج !؟‏
          لقد فتحت أوسلوا "باباً" لن يسد إلا بإغلاقها، ذاك الذي لا يكون إلا بالإعلان عن تشييع جثمانها البغيض ، الذي مازال مسجى في غزة ورام الله والقدس وواشنطن على الرغم من الإعلان المتكرر عن الوفاة ، والذي يستجيب من آن لآخر لنبضات المنعشين على أساس آلي ‍‍!!!؟ من قال إن القطط بسبعة أرواح؟! إن أوسلو بسبعين ألف روح ويزيد، ويتأتى لها ذلك من تشبث القائمين عليها بالمكابرة واعتمادهم أسلوب التنازل المستمر ومن حرص أصحاب المشروع الأصلي مشروع أوسلو على أن تبقى تلك الجثة من دون دفن حرصاً على سمعة الملك .‏
          لقد قسمت أوسلو الشارع الفلسطيني كما لم يقسم من قبل، وقسمت الشارع العربي، وعطلت قرار التحرير الفلسطيني، وسوغت للعرب أن يتنصلوا من القضية وتبعاتها، وفتحت الباب أمام الدول العربية وبقية دول العالم لتعترف "بإسرائيل" وتطبيع العلاقات معها، بذريعة أن صاحب البيت صالح فما شأن الآخرين؟!! وعلى الرغم مما في هذا من مغالطات ونفي لوقائع ومعطيات فلسطينية وعربية، إلا أنه يسوغ ويسوق ويروج في مجالات ومحافل كثيرة وكبيرة.‏
          لقد عطلت أوسلو مفهوم الصراع العربي الصهيوني، وهي ترمي إلى إلغائه، كما إنها عطلت مفهوم المقاومة الوطنية المشروعية وغيرت مفاهيمها، وتصر على أن تقدمها للعالم على أنها إرهاب وتخريب وأفعال منافية للعدل ومدمرة للسلام؛ وكل هذا -لو أنه أفلح في تحقيق أهدافه- فإنه يعطل مسارات المقاومة ويلغي الصراع عملياً، ويعطي شرعية للاحتلال ويدين من يقاومه، وقد أضافت أوسلو إلى "فضائلها" فضيلة مدهشة في وطنيتها حين جعلت السلطة الوطنية الفلسطينية في حالة تكليف رسمي بتدمير البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية التي تتعرض للاحتلال وتدفع عن الحق والوطن والمواطن، أي أنها مكلفة عملياً بإثارة حرب أهلية في الساحة الفلسطينية، لاسيما ضد أولئك الذين حرمتهم أوسلو من حق العودة ومن التفكير بالقدس عاصمة عربية وبفلسطين حلماً فلسطينياً، فهل يبقى هناك مجال للتفكير في صراع عربي صهيوني- من منظور أوسلو وأخواتها- في الوقت الذي تمنع فيه نصوص تلك الاتفاقيات العرب الموقعين عليها من التعاون مع العرب الذين ينشب بينهم وبين "إسرائيل" قتال من أي نوع وحول أية قضية حتى لو كانت قضية فلسطين ذاتها؟!‏
          إن أوسلو ووادي عربة وكامب ديفيد من قبلهما، تشكل جميعاً رزمة لتصفية غير عادلة للقضية الفلسطينية، ولحق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه التاريخي، ونضاله المشروع من أجل الأرض والحق والوجود الحر والحياة الكريمة، وهي بهذا المعنى صيغ من صكوك الاستسلام، وقيود استعمارية تكبل الإرادة والأجيال، ونوع من عقود الإذعان التي تهلك موقّعيها وهم يتهالكون على إقناع الذين يرفضونها لكي يقبلوا بها.‏
          لقد نسفت اتفاقيات الإذعان تلك البعد العربي والالتزام العربي بالقضية الفلسطينية وأحدثت شروخاً في الوجدان ، وجعلت الجامعة العربية أثراً بعد عين ؛ لقد ورد في تلك الاتفاقيات نصوص تحرم التعاون العربي ـ العربي وتملي تعاوناً بديلاً مع العدو الصهيوني وتعطي لذلك التعاون أولوية على الالتزامات العربية من أي نوع وإليكم ما ورد في المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية في الفقرة الرابعة مادة " الأمن " لكي نرى بعض الأبعاد والمخاطر :‏
          4- بما يتماشى مع حقبة السلام ومع الجهود لبناء أمن إقليمي وما يمنع ويحول دون العدوان والعنف، يتفق الطرفان على الامتناع عما يلي:‏
          أ- الدخول في ائتلاف أو تنظيم أو حلف ذي صيغة عسكرية أو أمنية مع طرف ثالث أومساعدته بأي طريقة من الطرق أو الترويج له أو التعاون معه، إذا كانت أهدافه أو نشاطاته تتضمن أشكالاً من العدوان أو أية أعمال أخرى من العداء العسكري ضد الطرف الآخر بما يتناقض مع مواد هذه المعاهدة.‏
          ب- عدم السماح بدخول أو إقامة أو عمل قوى عسكرية أو عسكريين أو معدات تعود لطرف ثالث على أراضيها أو من خلالها في أحوال يمكن أن تخل بسلامة الطرف الآخر) .‏
          فأين يغدو مع هذه النصوص ميثاق الدفاع العربي المشترك الذي وضع أصلاً لحماية الأقطار العربية والحق العربي في فلسطين من العدوان والاحتلال الصهيوني؟!‏
          إن قضية فلسطين قضية قومية بكل المقاييس، ومن مصلحة الفلسطيني، بل من واجبه قبل سواه، أن يتشبث ببعدها القومي ويدعو العربي لتحمل مسؤولياته في هذا المجال، لأن الفلسطيني وحده ، وأي متمسك بكيان قطري من أي نوع مهما كبر ذلك الكيان ، لا يستطيع أن يواجه العدو الصهيوني وحلفاءه ويحقق نجاحاً ونصراً في قضية بحجم القضية الفلسطينية وحدها.‏
          ولذا فإن الوطني يتماهى مع القومي في هذه القضية، التي يتوقف على حسمها لمصلحة الأمة العربية كل معنى لاستقلال ناجز، وتقدم منتظر ومواجهة ناجحة لتحديات العصر ومتطلباته وتكتلاته، وكل نهضة من أي نوع .‏
          وحين يدرك القطري /نظاماً كان القطري أم حاكماً أم حزباً أم شخصاً/ أنه قوي بأمته ومستضعف من دونها ويوافق على أن يقدم التنازل ليحفظ بذلك وجوده وكرامته ومستقبله ، عندها تبدأ الخطوات العملية البناءة على طريق الوطنية الحقة والقوة العادلة التي تحمي أرضها ومصالحها وثرواتها وكرامة مواطنيها وحرياتهم وتوفر لهم الأمن والرفاهية وفرص العيش الكريم في وطن حر ذي سيادة حقيقة وإرادة حرة.‏
          إني أتطلع إلى دور رئيس للمثقفين في المحافظة على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين ، وتأكيد المعطى النضالي من أجل عروبة فلسطين واستعادة الحق العربي فيها ، وإلى قدرتهم الخلاقة في إقامة جبهة قومية قادرة على الحضور في ساحة القرار السياسي، وقادرة على امتلاك الوعي والعلم، وعلى مواجهة المشروع الصهيوني بمشروع عربي يعي أهدافه واحتياجاته وأدواته ويحدد برنامجه ويعمل على تنفيذ ذلك البرنامج . وأرى الانطلاق من أرضية ميثاق المثقفين العرب الذي أقره الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وطرحه على الجبهة القومية للاتحادات والمنظمات والنقابات المهنية العربية التي يشكل قيامها وعملها الجاد بداية خطوة على طريق صحيحة طويلة.‏
          ولا أملُّ من التأكيد على ضرورة أن يقوم حوار مسؤول في مناخ ملائم على أرضية متينة من المواطنة والانتماء القومي والإيمان الراسخ بالله والوطن والشعب بين الأحزاب والتيارات الفكرية الرئيسة في الوطن العربي التيار القومي والإسلامي واليساري والليبرالي بتشعباتها جميعاً على أرضية من الالتزام بانقاذ الأمة والوطن ومواجهة التحدي والتهديد ليكتشفوا المشترك وينموه وليؤسسوا لقوة عربية ونهضة عربية في المجالات كلها لا سيما الاقتصادي منها وليكونوا الجسور التي تقييم الثقة بين الناس والسياسات ويحكم في ذلك كله الوعي المعرفي والمصلحة العليا للوطن والشعب وحقيقة تقدم الجزء من خلال الكل بأمن وثقة وكرامة، وتقدم الوطن بجهود أبنائه جميعاً وليضعوا حداً للديمقراطية المسؤولة عن تهاوي الأنظمة والحكام واستماتتهم على الاحتماء بالآخر الغريب خوفاً من الأخ والشعب والتقدم.‏
          إن مقاومة المشروع الصهيوني لا تكون إلا بمشروع قومي متكامل يضع طاقات الأمة في خدمة أبنائها وقضاياها وصراعاتها الحيوية العادلة، وبتحقيق التقدم على أسس متينة من امتلاك العلم والتقانة والعمل بهما على أرضية أكثر متانة من الخلق والإيمان.‏
          وإذا كانت الثقافة في هذا الميدان تشكل المدخل ورأس الحربة وقرون الاستشعار والقوة الحامية للشخصية والمفعلة لها، فإن هذا لا يجعل منها بديلاً عن العمل الحثيث في المجالين السياسي والاقتصادي وإنما تحملها مسؤولية دفع القوى العاملة في هذين المجالين الحيويين للقيام بفعل منقذ من أجل الوطن والإنسان والمستقبل.‏
          وأود أن أسجل في النهاية بعض ما أراه مقدمات للخروج من المأزق الذي نحن فيه تضاف إلى ما قدمت في ثنايا ما سبق من كلام:‏
          1- تمتين الجبهة الثقافية على أرضية الحوار، وتنمية المشترك الذي ترسخه وتأكيد ثوابت الصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود وحسم الجدل في هذا الموضوع لصالح العمل انطلاقاً من ثوابت الصراع وتحقيقاً لاحتياجاته.‏
          2- إعلان وفاة أوسلو ودفنها تلك التي لن تقدم في أحسن أحوال استكمال تطبيقها وكماله سوى كارثة للشعب الفلسطيني والأمة العربية والقضية الفلسطينية ودعوة منظمة التحرير للشعب والميثاق الوطني الفلسطيني والأمة العربية ليكون الجميع أمام مسؤولياتهم القومية وأمام حقيقة قومية القضية الأمر الذي ينبغي أن يؤمن به ويعمل عليه المسؤولون في المنظمة أولاً.‏
          3- عقد قمة عربية نوعية في توجهها والتزاماتها، قمة تعمل على تنقية الأجواء العربية والوصول إلى المصالحة على أرضية المصارحة وأن تقوم بتفعيل الجامعة بعد تغيير ميثاقها وإقامة اتحاد عربي يعطي للشعب حضوراً تمثيلاً على أسس ديمقراطية محترمة ويجمع بين حضور القوى الممثلة للجماهير على أسس تمثيلية عادلة وليس على أساس تمثيل الدول في البرلمان القومي بأعداد متساوية بكل دولة كما تعطي للاتحادات والمنظمات والنقابات القومية دوراً وحضوراً فاعلاً في صنع القرار، بوصفها هيئات قومية متخصصة في مجالاتها تتصل اتصالاً مباشراً بكل قطاعات الشعب ومناحي الحياة وتشكل جسر التواصل والخبرة والنهضة، وتقدم الترجمة العملية بين الإرادة السياسية وقراراتها من جهة وبين الواقع والناس وسبل التطبيق للخطط والبرامج من جهة أخرى.‏
          4- تفعيل الأداء الثقافي والإعلامي العربي، ودعوة القائمين عليه إلى التركيز على ما يجمع الأمة وأبناءها وسياسييها وأقطارها على وحدة الهدف ومن ثم وحدة الصف، وإلى ما يحقق نهضة علمية-عملية في مجالات الحياة والعمل جميعا، وما يعزز الثقة بالنفس والمستقبل والنصر والتقدم، انطلاقا من احترام الإنسان، واحترام حقوقه وحرياته ودوره في الحياة وصنع القرار والاختيار، ومن توظيف ثروات الوطن العربي وإمكانات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، التي تكفل تحقيق النهضة والتقدم وحمل أعباء الصراع، إذا ما أحسن استخدامها على أسس علمية ومن منظور التكامل العربي التام.‏
          5- إنني أعلق أهمية خاصة على دور المثقفين العرب-بالمعنى الشامل للثقافة- وأرى أن يتحمل المثقفون مسؤولية الانطلاقة الجادة في هذا الاتجاه، مهما كلفهم ذلك من جهد وما حملهم من تبعات وتكاليف. ولن يتأتى لهم ذلك إلا إذا كانوا للأمة كلها ولمصلحتها الشخصية؛ عليهم أن يغلقوا سوق الكلام الذي يحاول أن يفسد أقلاما وعقولا ومواقف، وعلى كل منهم أن يحمي ظهر الآخر في مواجهة لن تكون سهلة ولا قصيرة، وأن يكون أحد أهم هواجسهم حماية الأجيال وسلامة تكوينها على أسس تضمن حماية الحق والشخصية والوطن والهوية، وتسلحها بالعلم والإيمان معا، وامتلاكها للتقانة والقدرة والخبرة لتخوض معركة التقدم والنهضة الشاملة، وأن تكون عربية القلب والانتماء لا قطرية التوجه واللسان، وأن يحافظوا على سلامة الذاكرة والوجدان العربيين في كل ما يتصل بالماضي والحاضر وما يؤسس للمستقبل بسلامة، وما يقيم المثاقفة مع الآخر على أساس متين من المعرفة والثقة والاقتدار والانفتاح.‏
          إن المهام ثقيلة في واقع عربي نعرف ما فيه وما يستهدفه وما ينتظره ويحيط به، ولكن من للأمة غير طاقة الوعي ونقاوة الضمير اللتين يفترض أن يكون مستودعهما الثقافة والمثقفون؟!‏
          وأختم بإلقاء بعض الأسئلة ، في هذه المناسبة على نفسي وعلى الجميع لتكون موضع تفكير إن أمكن :‏
          1- هل نوافق على بقاء أربعة ملايين فلسطيني خارج فلسطين ؟؟ وهو ما تقوم عليه مشاريع التسوية ، وهو عماد أوسلو أصلاً ؟!؟ .‏
          2- هل نقبل أن تهود المقدسات المسيحية والإسلامية في فلسطين، وأن تصبح تحت سيادة اليهود ، وتحت رحمة برنامجهم الاستيطاني ونزوعهم العنصري وقواهم الفتاكة ؟! .‏
          3- هل نقبل بقيام "دولة إسرائيل" على حساب فلسطين ونعترف بها ونطبع العلاقات معها؟!‏
          4- هل السؤال حول عروبة فلسطين، كل فلسطين ، هو سؤال مطروح للمناقشة بيننا؟!‏
          5- هل الاعتراف بالعدو الذي يعني سحب الاعتراف من الفلسطيني سيداً فوق أرضه هو سؤال مطروح ، ومن ثم سؤال التطبيع الذي هو إحدى نتائج الاعتراف!!‏
          ألم يكن القرار الفلسطيني المستقل أحد أهم أسباب الكارثة التي وصلنا إليها اليوم ؟!!‏
          في قناعتي‏
          تبقى كل الأسئلة مؤلمة ، وتبقى كل منافذ الأمل ونوافذه مفتوحة .‏
          والمجد للشهداء والنصر للمقاومة .‏

          دمشق 18/5/1998.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            فلسطين في طهران
            في الخامس والعشرين من شهر أيار الحالي 11998، وضمن فعاليات المعرض الدولي الحادي عشر للكتاب في طهران خصص يوم للذكرى الخمسين لاغتصاب فلسطين، وكان قد فُتِح جناح خاص في المعرض لهذه الذكرى وللبلد الذي فقدنا معظم أرضه والسيادة عليه، وفقدنا كذلك سيطرتنا على أراض عربية وقرارات عربية منذ فُرض الكيان الصهيوني فيه بقوة القهر وبتدبير من الدول الاستعمارية التي شكلت عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى ثم هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، وسخرت العصبة لتنفيذ وعد بلفور وتطبيق معاهدة سايكس - بيكو وإقامة المؤسسات وتهيئة المناخ الذي مهد لإقامة "دولة" الكيان الصهيوني، وسخرت مجلس الأمن لحماية تلك الدولة وللتغطية على ممارساتها العدوانية والاستيطانية والإرهابية، وتوفير كل سبل الدعم المادي والمعنوي لها لتعزز وجودها، وهي تتابع مراحل مشروعها الموجه ضد الأمة العربية وشعوب المنطقة من دون كلل.‏
            في طهران الشاه، كانت أجهزة السافاك والموساد والـ c.i.a تعمل معاً ضد البعد الفلسطيني والعربي والإسلامي، ومع الصهيونية وتكريس اغتصاب فلسطين واستكمال مراحل المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة؛ وعندما قامت الثورة الإسلامية في إيران انقلب الأمر رأساً على عقب "وحلت سفارة "فلسطين" محل سفارة "إسرائيل" ووضع حد نهائي لممارسات الموساد والسافاك والـ c. A. I ضد الشعب الفلسطيني وعروبة فلسطين.‏
            وعلى الرغم من الانتقام الأمريكي - الصهيوني الكريه الذي فرض سنوات ثمان مؤلمات من الحرب والتدمير بين العراق والجمهورية الإسلامية في إيران، وكاد ينفذ مخططه الذي كان يرمي إلى وضع العرب بمواجهة الفرس وحشد كل العرب في جبهة لمواجهة المسلمين فيما يمكن أن يصبح جبهة ساخنة، يقضي صراعهم فيها على العروبة والإسلام معاً، ويحقق للصهيونية والولايات المتحدة والغرب الاستعماري أحلاماً قديمة وأهدافاً بعيدة قريبة في آن معاً، وهو المخطط الذي أحبطه بالدرجة الأولى وعي سورية لأبعاده ومخاطره، على الرغم من ذلك، فقد استمر وجه إيران الفلسطيني أو وجه فلسطين في إيران نقياً سليماً واضحاً مشرقاً ومتابعاً لكل أشكال التعاطف والدعم والتأييد: ففلسطين عربية، والقدس عاصمة لها، ومقدساتها تهم الفلسطينيين والعرب والإيرانيين كما تهم المسلمين والمسيحيين المشرقيين بكل تأكيد وفي كل آن.‏
            لم يتأثر موقف إيران من فلسطين والقضية الفلسطينية بما اتخذه عرفات من مواقف قبل أن تبدأ مسيرة مدريد، وازداد موقفها تأكيداً على ضرورة تحرير فلسطين ومقاومة المشروع العنصري - الاستيطاني الصهيوني بعد مدريد؛ ولم تر الجمهورية الإسلامية في إيران أي مجال للصلح وإقامة ما يسمى "السلام" على أرضية استمرارية إبعاد الفلسطينيين عن وطنهم، وإقامة "كانتون" لهم ملحق بقوة الاحتلال يشكل بديلاً عن حقهم الشرعي والتاريخي في وطنهم من قِبَل من يصوغون اتفاقيات الإذعان ويتابعون مسيرة يائسة تسمى مسيرة "السلام" مع الصهيونية والإدارة الأمريكية المتصهينة المناصر الأول للمشروع الصهيوني وللإرهاب الذي أسس له واستمر معه ومازال يمارس من أجل تعزيز حضوره وانتشاره.‏
            في طهران كان يوم لفلسطين، وبتعاون مع الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وفصائل الثورة الفلسطينية الرافضة لأوسلو أقيم ذلك اليوم في قاعة من قاعات معرض طهران الدولي الحادي عشر للكتاب، وحضره سفراء عرب ومهتمون بهذا الشأن وممثلون رسميون إيرانيون وحشد متميز من الجمهورية الإيرانية /نساءً ورجالاً/.‏
            وأعادتني اللحظات الأولى لذلك اللقاء، وفي مراحل التقديم له شعراً والتلاوة القرآنية المتميزة، أعادتني إلى يوم من أيام مؤتمر الشعب العربي في الجماهيرية (طرابلس وبنغازي) كنا على المدرجات الخشبية بانتظار بدء الاحتفال التقليدي بالفاتح من سبتمبر/ أيلول، وفجأة ارتفعت أصوات من جانب من جوانب المدرج: "فلسطين.. فلسطين". واستمر النداء صادقاً متعالياً مؤثراً، وسرت عدواه إلى قلوب عربية طهرها طمي الأحداث فما تكاد تضطرب وتطرب لشعاراتها. ولكن الصوت الداوي أخذ ينفض التراب عنها، وبدأت دائرة الصوت تكبر وتنتشر. وخيل إليّ أنني أسمع الوطن العربي والبعد المترامي للشعوب الإسلامية وتلك المؤمنة بعدالة القضية الفلسطينية تهتف معنا في ذلك المدرج باسم فلسطين وعروبتها وقداسة قضية العدل والحق والحرية فيها وكان ذلك كله بتأثير الأخوة من إيران الذين بدؤوا تلك العاصفة من حيوية الإيمان والتذكير والتأكيد على المطلب الأول لعرب اليوم.‏
            في طهران استعدت روح المد العربي الأول، كما استعدت روح المد الأول للثورة الإسلامية التي ناصرت قضية العرب المركزية: قضية فلسطين وتساءلت: ما الذي جرى للعرب في السنين العجاف الماضيات حتى نسوا قضيتهم أو كادوا، وهرول من هرول منهم على أبواب العدو وأعتابه، وتناوم على الجرح من تناوم عليه، وأخذت تتردد في الحمى أصوات تناصر العدو من دون أن يثير ذلك فينا ما ينبغي أن يثيره من ثورة على الاستسلام والانهزام ومروجي مشروع العدو والناعقين باسم واقعية الخوف والهزيمة والموت والتعامل الباشّ مع نتنياهو وغلاة الصهاينة الذين يريدون كل شيء، ويريدون منا أن نبارك مجرد وارهم معنا؟!‏
            في طهران: استعدت بعض حيوية الإيمان بأن القضية الفلسطينية مازالت تحتفظ ببعض أبعادها القومية والإسلامية، ومازالت تستقطب الإرادات على الحق والنضال من أجل توحيد الصف وتحرير الأرض والمحافظة على مكانة القدس؛ وفي طهران؛ أحسست بيد تسند يد بإخلاص وإيمان، وبقلب يتناغم مع نبض قلبي بتزامن وتكامل حول قضية عادلة، وبصف مؤمن بأنه لا يمكن أن يمسخ "السلام" تحت ضغط القوة، ويمسح وجه العرب والمسلمين من وطنهم التاريخي ومدينتهم المقدسة بهذه البساطة، حتى لو وجد من يستخدم رمزاً لذينك المسخ والمسح من الفلسطينيين والعرب.‏
            كان مجرد إقامة هذا الاحتفال أحد المؤشرات لمن يقرؤون خط السير الواضح جيداً، وتأكيد على أن هناك طرقاً أخرى وأبواب أمل مفتوحة، وأن هناك استعداداً لعمل مغاير من أجل القوة والتحرير والكرامة، وأن هناك طرحاً مختلفاً، لذلك الذي يحاول التيار الانهزامي والمنهزم إشاعته بعقده مقارنة بائسة بين : الواقعية والمثالية ‍؟ إنه الاستعداد والطرح اللذان يقولان بأن القضية هي قضية صراع بين حق وباطل، وبين قوة غاشمة وكرامة دائمة، بين مشروع يهودي، عنصري، غربي، ومشروع عربي- إسلامي:‏
            الأول: عدواني- غاز- مستعمر، موجه ضد تاريخ المنطقة وشخصيتها الحضارية، ضد عقيدتها وثقافتها وصلاتها ومصالحها.‏
            والثاني: يحمي مهبطه الحضاري والجغرافي، ويدفع العدوان والتآمر عن أرضه ووجوده، يستعيد إيمانه وصحوته ووعيه، ويجمع ما يمكن أن يجمع من شتات قوته وصفه وموقفه ليواجه هجوماً استعمارياً عنصرياً غربياً مستمراً، لا توقفه إلا قوة منقذة، تقوم على أساس مكين من العلم والإيمان والعمل بهما، وتحويل جوهرهما وتفاصيلهما إلى سلوك وتعامل وعمل ومنافذ أمل تبقينا في ساحة الوجود قوة تحرك الوجود، وفي ساحات المواجهة الثقافية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية ذوي حضور قادر على الثبات والدفاع، وقادر أيضاً على تبرير الانتماء لتاريخ وحضارة وعقيدة وثقافة والاعتزاز به، حضارة لا يمكن أن يلحقها الموت مادام هناك وعي وكلمة وموقف وإيمان بالله والوطن والعدل والحرية.‏
            في طهران، وفي يوم فلسطين الذي أقامته طهران، استعدت تأكدي من قدرتنا على العمل في عمق إسرائيل بعيد ما تناسيناه، أو فُرض علينا أن نتناساه، واستعدت شعوري بمدى التقصير الذي تم في السنوات الماضية، ذاك الذي أدى إلى تهديم جسور تواصل قائمة أو هجرها وتعطيل السير عليها بين وبين أخوتنا في بلدان العالم الإسلامي، والتوجه نحو مركزية الغرب الاستعماري من موقع الضعيف المهزوم، الذي يقلد القوي الغالب؛ وإعطاء الظهر للماضي بمناراته الهادية وللشرق والعالم الإسلامي اللذين تربطنا بهما صلات أمتن وأقوى وأنظف من كل ما ربطنا بالغرب الاستعماري من صلات.‏
            هناك محطات مكانية وزمانية، وحتى لحظات وومضات روحية، تجعل عالماً روحياً حُجِب عنك ينكشف لك ويمتد أمامك برداً وسلاماً ونوراً يقهر ما يتطاول حولك من ظلام، محطات وومضات تنتشلك من وَهْدَة يتهاوى فيها الروح وتنحدر إلى درك عميق منها النفس، محطات وومضات تعيدك طليقاً من قيود صدئة، تلقي عنك اليأس وتهتك حجب ما يحاك حولك من قنوط؛ ومن تلك المحطات الومضات كان عندي يوم فلسطين في طهران؛ ليس لأنه أقيم لها هناك، وليس لما ضمَّ من حشد من حيث الكم والنوع؛ وليس لأنه أفضى إلى استراتيجية أداء تقضي على ما تراكم من إخفاق وتآكل وتراجع في مسارات الأداء النضالي على طريق تلك القضية الأساس من قضايانا المصيرية؛ ولكن لما حمله من مرامٍ ومعانٍ وما سجله من ثبات على المبدأ، وما ودل عليه من طريق للخلاص، قد تكون مضنية وطويلة ولكنها الطريق التي تفضي إلى امتلاك قوة منقذة على أرضية من التعاون والتواصل وإدراك أبعاد الخطر وسبل المواجهة وأدواتها والإمكانات التي يمكن أن توظف لها؛ ولأنه فتح الباب واسعاً أمام رؤية نوعية للشراكة المصيرية على أرضية المشترك العقائدي والثقافي والتاريخي بين العرب والمسلمين، ابتداء من الإيراني وانتهاء بآخر المسلمين وغير المسلمين ممن تعنيهم قضية الخروج من شرانق اليأس ومخططات التآمر التي يحوكها الغرب الاستعماري والصهيونية العنصرية اللذان يتسللان بتعاون وتنسيق بكل ثقة واقتدار إلى أماكن ومواقع مؤثرة في الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ حاشدين لباطلهم التأييد، محققين مصالحهم التي تقوّي باطلهم وإجرامهم ضد الشعوب، بينما تستمر معاناة الضحايا وأنين المنتهكة حقوقهم وأبسط مقومات وجودهم وعيشهم؛ وهم يزدادون ضعفاً بتفرقهم وانصياعاً بتقاطرهم على أحواض الاستنزاف والاستهلاك الاستعماريين.‏
            إن يوم فلسطين في طهران مناسبة لمراجعة الذات الفردية والجمعية، الوطنية القومية، في موضوع هو الأساس بالنسبة للنهضة والمستقبل والخلاص العربي- الإسلامي، من أشكال الذل والتبعية والإرهاب.‏
            ومن أشكال العدوان واتفاقيات الإذعان، هو مناسبة لاكتشاف رد على من يطرح التنازل والتفريط في ظل الضعف والفرقة طريقاً وحيدة للعمل، متسائلاً عن البدائل خارج ذاك الذي لا يقدم له سوى الذل والخسران والبوار؛ وهو مناسبة لاكتشاف الآخر الشريك في الاستنزاف العدواني على الصُّعد كلها، وطرح موضوع الحوار معه لتعميق المشترك وتبادل المصالح والتجارب والخبرة، ولإيجاد سبل للتعاون تقلل من كلفة الجهل به والتجاهل له.‏
            وهو مناسبة أيضاً للتعرف على كيف يفكر ذلك الآخر، الذي حصرناه لزمن طويل بالغربي والصهيوني فقط، متناسين البعد الحقيقي للآخر الإنساني، وكيف يرى ذلك الآخر الحلول والردود على المشكلات والأزمات والتحديات، وكيف يكون التعاون والتكامل الحضاريين بين الأمم والشعوب لا الصدام والموت والدمار فيما بينها، تلك التي اشتهرت بها "الحضارة" الغربية القائمة على رؤية المادي واغتصابه واحتكاره، وعلى تعامل مع الآخر في إطار القهر وليس في إطار التسامح والاحترام.‏
            إن ذكرى اغتصاب فلسطين التي مرت عليها خمسون من السنين المرّة المشبعة بالهوان لنفوسنا نحن العرب وبالتهديد لأجيالنا وبالظلام أمام أبصارنا وبصائرنا، هي مناسبة لتعميق الإيمان بالحق وتعزيز الثبات على المبدأ ورفض صور الاستسلام والهزيمة، ولا سيما هزيمة الروح والإرادة؛ وهي مناسبة للتفكّر والتدبّر والعمل بأمل، وصولاً إلى تعزيز موقف المقاومة، وسبيل التحرير، والإيمان بالمستقبل؛ هي مناسبة لاستخلاص النتائج والعبر التي تقود إلى نجاح أفضل في طريق المواجهة، وليس إلى تكريس مسارات الهزيمة والاستسلام التي نراها في صور الاعتراف بالعدو الصهيوني، واتفاقيات الإذعان له، والترامي على فتات من حقنا بعد رميه لنا في وحل الذل، كما نراها في أشكال التفاوض التي تقود إلى مزيد من الاستسلام لتراخ قومي مهلك على جبهات المواجهة كلها، وعلى رأسها الجبهة السياسية والثقافية والعسكرية.‏
            فهل يحق لنا، ونحن نقرأ العزم في وجوه أخوتنا، أن نبني أسس العزم من جديد في أعماق قلوبنا وفي أداء سواعدنا، وفي خطط وتوجهاتنا التربوية والعلمية والثقافية، استناداً إلى جوهر حقنا ومنظومات قيمنا وسمو عقيدتنا وتاريخ أمتنا، وعمق صلتنا بالأرض والعدل والحرية والكرامة؟!‏
            إن سؤال قضيتنا ليس هو سؤال الواقع المتهالك المرّقع البائس، والمثال المترامي في الطوباوية على أرضية الضعف البادي لأسباب مختلفة، وإنما هو سؤال الحق في مقابل الباطل، والتاريخ المتماهي مع الجغرافية في بوتقة الإيمان والثقافة، على أرضية من المعطيات الواقعية التي تغير واقعنا إذا ما أحسنا توظيفها توظيفاً سليماً انطلاقاً من العلم والإيمان والعمل بهما بأمل.‏
            والله من وراء القصد.‏


            الأسبوع الأدبي/ع612//30/5/1998‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              نفاق الغرب وتواطؤه ودماء مسلمي البوسنة
              تدفق الدم البريء على أرضية التطهير العرقي البشع على أرضية دينية، وتعاظم الظلم والاضطهاد والبؤس البشري، وتمازج العجز والتواطؤ أو تقنع التواطؤ القذر بالعجز، ذلك أبرز ما أظهرته أحداث البوسنة والهرسك منذ أعلنت تلك الجمهورية استقلالها واعترفت الأمم المتحدة بذلك الاستقلال، بعد تفكك يوغسلافيا السابقة وانهيارها.‏
              وعلى أرض تلك الدولة ذات الأكثرية المسلمة التي يمارس مواطنوها من الصرب والكروات وظائفهم بأمان واطمئنان حتى الآن، على أرضها تتم أبشع الممارسات ضد المسلمين من قبل الصرب بالدرجة الأولى ومن قبل الكروات في بعض الفترات، ويتم ذلك في الملاذات الآمنة التي أعلنتها الأمم المتحدة، من دون أن تتحرك تلك المنظمة الدولية لحماية أحد أو إنقاذه، ودون أن تكلف نفسها حتى بإصدار قرار من رخيصها غالي بوقف هجمات الصرب ذات الطبيعة الصهيونية -النازية ببعض الضربات الجوية الوقائية.‏
              وقد كشفت تلك المأساة الإنسانية الفظيعة عجزاً وتواطؤاً دولياً في المنظمات والمحاور التالية:‏
              1-الأمم المتحدة التي:‏
              -فرضت حصاراً على تصدير السلاح على يوغسلافيا السابقة، لم ينفذ بدقة إلا ضد سكان البوسنة والهرسك الذين يبادون عرقياً من قبل الصرب العنصريين من دون أن يتاح لهم الدفاع عن أنفسهم.‏
              بينما يتزود الصرب بالسلاح من صربيا وروسيا واليونان وإسرائيل وغيرها بوضوح وعلانية ولا يردعهم أحد.‏
              -أقامت مناطقة آمنة في: سراييفو -غوراجدة- سربرنيتسا- بيهاتش، على الخصوص، وكلها أماكن تجمع سكاني للمدنيين العزل من المسلمين في البوسنة والهرسك، ولكن المنظمة الدولية لم تستطع أن توفر لأولئك السكان سوى الهلع والرعب والتصفية الجسدية المنظمة المدروسة حتى لتبدو كأنها شريك كامل الشراكة في برنامج الإبادة العرقية الذي يشنه الصرب المتصهينون /ممارسة ونزوعاً عدوانياً وبرنامجاً عسكرياً/ ضد المسلمين.‏
              وفي الوقت الذي يتعرض فيه أولئك الأبرياء للقتل والتشريد، وتتعرض نساؤهم للاغتصاب والعذاب، وينتقلن من مكان إلى مكان مع أطفالهن ومعاناتهن، لا تقوم المنظمة الدولية بأي فعل من شأنه أن يخفف الألم أو يوقف الموت.‏
              -أخذت جانباً من القرار العسكري إضافة إلى القرار السياسي، فلا تقوم القوى الدولية الموجودة في البوسنة والهرسك بأي عمل عسكري إلا بعد موافقة الأمين العام الذي يبدو على رأس المتواطئين عرقياً مع الصرب إلى درجة تبعث على الاشمئزاز.‏
              ولا يمكن أن نصنف موقف الأمم المتحدة ذاك بشعبه العديدة على أنه موقف العاجز وحسب، فرائحة التواطؤ تنبعث من كل دقيقة صمت، ومن كل موقف متخاذل، ومن كل قرار يعطي مهلة بعد مهلة للصرب، ويوجه إنذاراً مستخذياً بعد إنذار، كأن الهدف تمديد المهلة للصرب لينجزوا عملية الإبادة الشاملة للمسلمين في البوسنة والهرسك، وقد لمسنا شيئاً من ذلك في سلوك تلك المنظمة وصانعي قرارها الفعليين أثناء اجتياح "إسرائيل" للبنان وحصارها لبيروت... المراحل ذاتها والخطا ذاتها والقرارات ذاتها والرائحة الكريهة ذاتها.‏
              2-الدول الأوروبية وحلف الناتو:‏
              لقد دخلت الدول الأوروبية دخولاً قوياً على قضية البوسنة والهرسك حيث اعتبرتها قضية أوروبية، وأنها أولى بحلها من سواها. ولم تسمح لغيرها من الدول بالتدخل، ووضعت قوات لها في الملاذات التي أعلنتها الأمم المتحدة ملاذات آمنة، وتولت تأمين وصول إمدادات الغذاء والدواء للمحاصرين.‏
              وقد نجحت تلك القوة في أن تفرض على مسلمي البوسنة والهرسك:‏
              أ- حصاراً دقيقاً حيث لا يصل إليها أي نوع من السلاح عملاً بقرارات الأمم المتحدة ولم تفرض مثل ذلك الحصار على الصرب والكروات.‏
              ب- شلت كل فعالية لردع الصرب الذين يهاجمون المناطق الآمنة وسواها وشكّلت قوة دفع للعدوان الصربي بأشكال مختلفة. وتمكنت الخلافات الفرنسية - البريطانية على الخصوص، حول القرارات الواجب اتخاذها والسبل الأنفع والأجدى(؟!) من جعل أفضل ما تمارسه الأمم المتحدة هو الانسحاب والتهديد به..‏
              جـ- منعت تلك الدول المؤازَرة من قبل حلف الناتو، منعت أية مساعدات من أي نوع يمكن أن تأتي إلى مسلمي البوسنة والهرسك، وشكلت غطاء دولياً شاملاً للمذابح والاغتصاب والتشريد، الذي كان يتم تحت سمعها وبصرها، وشاركت على نحو مباشر أحياناً في الأحداث السلبية وحوّلت عناصرها العاملة هناك إلى عناصر ناشرة للفساد والانحلال والرعب، فقد ثبت أن جنوداً تابعين للأمم المتحدة كانوا يمارسون التهريب ويتاجرون بالدعارة ويخضعون البوسنيين البائسين لظروف الابتزاز والقهر تلك.‏
              3-الولايات المتحدة الأميركية التي:‏
              تشكل العصب والرأس في حلف الناتو، وتدخل مع حلفائها على خطوة قضية البوسنة والهرسك، وتحاول تلك الدولة الأعظم ممارسة النفاق الأكبر في تلك القضية.‏
              فهي تعلن أنها غير راضية عما يفعله الشركاء الأوروبيون في البوسنة والهرسك وتبدي عدم ارتياحها لما يقومون به من أفعال لا تؤمِّن الناس ولا تؤمِّن حلاً لتلك القضية. ولكنها لا تبدي أي استعداداً من أي نوع للتدخل لإنقاذ المسلمين من المذابح أو لحماية الأماكن المعلنة أماكن آمنة هناك.‏
              -وتقيم جدلاً ونزاعاً بيروقراطيين شكليين بين الجمهوريين والديمقراطيين أو بين البيت الأبيض والكونغرس، أساسه وجوهره حملات الرئاسة الانتخابية في الولايات المتحدة، ويقوم على أساس "خُلُقي أميركي في الإعلام" ومعنى الأساس الخُلُقي في الولايات المتحدة هو بالضبط: "المصلحة المادية الأميركية الخالصة". ويدور ذلك النزاع حول موضوع: السماح بتصدير السلاح للبوسنيين ليدافعوا عن أنفسهم أو إبقاء الحظر والحصار الصادرين بقرار من الأمم المتحدة قائمين.‏
              الرئيس كلينتون يقول إنه لن يرفع الحصار والحظر من جانب واحد، فلا بد أن يكون القرار قرار الحلفاء والشركاء الأوربيين في حلف الناتو، لأن فرنسا وبريطانيا سوف تنسحبان من البوسنة والهرسك إذا ما أعلنت أميركا رفع الحظر عن السلاح من جانب واحد، ومعنى هذا من وجهة النظر الأميركية الدخول في مسؤولية عن الحرب في البوسنة والهرسك، وليس لأميركا مصلحة في ذلك.‏
              بينما يقول بوب دول ممثل الجمهوريين بضرورة رفع الحظر وإرسال السلاح إلى البوسنيين ليدافعوا عن أنفسهم، وتحت مظلة "الأخلاق" وهو يرمي إلى إحراج كلينتون سياسياً وداخلياً لأن هذه المقولة أصلاً هي التي كان يرفعها كلينتون بوجه الرئيس جورج بوش ليحرجه وليكسب انتخابياً قبل أن يصل كلنتون إلى الرئاسة.‏
              وتضيع الدماء المسلمة في هذه الدوامة الانتخابية الأميركية التي لا يعنيها سوى المصالح الأميركية الخالصة ولا يعنيها إطلاقاً أي حس خُلُقي من أي نوع كما لا تعنيها العدالة والديمقراطية والحرية وكل هذا الكلام "فارغ" لأن تلك ذرائع أميركية للحصول على المنافع أو للتدخل في شؤون الغير وصولاً إلى المنافع والمصالح وليست بأي حال من الأحوال ثوابت مبدئية أو أخلاقية، فالأخلاق الأميركية توجز تماماً في الدولار والتسلط فقط.‏
              -تبدي الإدارة الأميركية استعداداً مؤكداً لتقديم القوة الأميركية اللازمة لحلف الناتو وللأمم المتحدة في حال تقرر الأمم المتحدة والدول الأوروبية المشاركة في البوسنة والهرسك (فرنسا -بريطانيا- هولندا) الانسحاب وتلك القوة تكون قوة حماية للقوة الدولية لتأمين الانسحاب وليست قوة حماية للبوسنيين أو المدنيين الذين يبادون في كل دقيقة.‏
              كما تبدي الولايات المتحدة استعداداً لتقديم الدعم المالي اللازم لقوات الأمم المتحدة والشركاء الأوروبيين لتأمين المصاريف وتقديم بعض المساعدات الغذائية للمحاصرين البوسنيين، وقد بلغ ذلك حتى الآن /90/ مليون دولار تقريباً، وتعلن الإدارة الأميركية بوضوح أنه ليس لها مصلحة في إرسال جنودها للقتال ولا في "أمرَكَة الحرب - البوسنية" على الرغم من إعلانها بأن ما يجري في البوسنة والهرسك فظيع وأنه قد قتل /200.000/ قتيل هناك خلال السنوات الأربع الماضية، وأن مسلك الصرب فظيع حتى بالمقاييس البوسنية -وهذا يعني أن المقاييس الأميركية أرفع وأسمى.‏
              إن الولايات المتحدة "خُلُقية" حسب مقاييسها ومصالحها ومنافعها، وهي لا تجد من يدفع تكاليف الحرب في البوسنة والهرسك، ولا تجد نهراً من الدولارات والبترول يتدفق من هناك لتسارع إلى حمايته وإسباغ الثوب الخُلُقي الأميركي عليه. إنها تجد فقط نهراً من الدم المسلم وسيولاً من البؤس البشري الإسلامي، وما لا نهاية له من الرعب يلاحق "قطعاناً" من النساء والأطفال والرجال الذين ينتمون إلى عقيدة ليست عقيدتها وإلى فئات من الناس تتمنى -على طريقة إسحق رابين الصهيوني مع غزة - أن تستيقظ لترى البحر وقد ابتلعهم جميعاً.‏
              وهكذا نجد في مأساة مسلمي البوسنة والهرسك تواطؤ أربعة أطراف، إذا ما قسنا الأمور بنتائجها وهي:‏
              -الصرب العنصريون الذين يريدون "تطهير" البوسنة والهرسك من المسلمين وأخذ الأرض نظيفة، ومنع إقامة دولة مسلمة في أوروبا. وتشاركهم هذه السياسة والرغبة أوروبا بشكل عام وحتى الفاتيكان الذي لا يرغب في رؤية دولة مسلمة في أوربا هو الآخر.‏
              -الأوربيون الذين أرادوا أن يحققوا هذا الهدف المشترك من قبل الصرب ووفروا لهم الحماية والغطاء السياسي والإعلامي والعسكري، وتباكوا عند اللزوم على الإنسانية.‏
              -الأميركيون الذين يسرهم في الأعماق زوال البوسنة والهرسك ولكنهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إعلانه، وهم الدولة الأعظم التي قادت حرباً عالمية من أجل تثبيت دول.‏
              والأميركيون يحافظون بمهارة -من خلال النفاق الكبير- على صورة خُلُقية بمقاييسهم الخُلُقية، ولا يرون اهتزاز هذه الصورة بنظر الآخرين.‏
              -الأمم المتحدة التي تعتبر مطية فعلية للغرب الاستعماري.‏
              -الولايات المتحدة التي أسبغت شرعية على التصفية العرقية من خلال وجودها غطاء وآمراً ومعوّقاً.‏
              -الأوربيون الذين تربطهم صلات عميقة بالصربيين والكروات والذين يريدون زوال كل المسلمين أفراداً من أوروبا فكيف بهم يرون دولة تقوم هناك؟! وهم يشكلون الغطاء الفعلي لعمليات الإبادة والحاجز الذي يحول دون إنقاذ المسلمين من الإبادة، أو خروجهم بعيداً عن حقول الرمي اليومي والإذلال والإبادة الروحية والجسدية ليكون ذلك أمثولة وأنموذجاً للآخرين في كل أنحاء العالم، وقوة ردع لكل المسلمين، يقدمها الغرب لإحداث الخضوع والاستكانة والتسليم.‏
              أما القوة الأخيرة التي كشفتها، أو عرّتها أحداث البوسنة والهرسك فهي الدول الإسلامية جميعاً ودول عدم الانحياز وما يسمى ببلدان العالم الثالث، فهذه الدول جميعاً أثبتت أنها تابعة للغرب ولا تستطيع أن ترفع السكين عن رقابها فكيف بها ترفعها عن رقاب سواها. إنها دول لا تملك حتى أن ترفع صوتها عندما يذبح سواها أو تذبح هي.‏
              فهل يبقى العالم اليوم بهذا البؤس الذي تظهره على حقيقته وفي حجمه الفظيع مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك؟! إنه سؤال مطروح على البشرية جمعاء، وليس موجهاً إلى الدول الغربية وعلى رأسها أميركا.. تلك التي كرّست تخلفها الخُلُقي وبؤسها الروحي وتواطؤها العنصري من خلال أحداث البوسنة والهرسك. ولا يجوز لها بعد الآن أن تتحدث عن الأخلاق والعدل والحق والحرية والديمقراطية والإنسانية، فلقد فجعت البشرية بمفاهيم الغرب عن هذه الأمور وبممارساته القبيحة المتعلقة بها، فهل نرى الغرب بعد ذلك حضارياً ومتقدماً؟! نعم في مجالات الإبادة والقوة الغاشمة، ولا، ثم لا ثم لا في المجالات المبدئية والإنسانية والخُلُقية والروحية.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                نداء مؤتمر القمة
                "القمة العربية" الشاملة، نداء تحمله الريح السياسية وتعيده إلى منطلقه في دورات صحراوية، تشكل خضم الرمال العربية المتحركة؛ ومن قمة القاهرة الأخيرة -حزيران 1996- وحتى اليوم تصاعد ذلك النداء وخبا مرات ومرات؛ وها هو يتعالى اليوم، فهل ينتهي إلى استماع فاجتماع؟!‏
                لقد بقي على الاستمهال الأميركي، الذي تمَّ في عمّان بين بيكرنغ وولي عهد الأردن، ثلاثة أو أربعة أيام، تنجز فيها الإدارة الأميركية وعداً بانتزاع موقف من حكومة نتنياهو بتنفيذ انسحاب بنسبة 13,1 % من الضفة الغربية تطبيقاً لمرحلة من مراحل اتفاق أوسلو، سواء أتمَّ ذلك على مرحلتين (9+ 4%) أو على مرحلة واحدة؛ وهو الاستمهال الذي يلغي مبرر عقد القمة إذا ما تحقق خلاله إنجاز "الوعد"، فهل يلغي ذلك القمة ومسوِّغاتها وهل يؤدي إلى أن يبتلع المنادون بعقدها، لتكون وراء أوسلو ومن أجلها، هل يبتلعون ألسنتهم وينسون نداءهم وكل مبرراته إذا ما تحقق لهم ذلك؟!‏
                علينا ألا نستغرب إذا ما تمَّ ذلك، فنداء القمة ينطلق في هذه الدورة من دورات الريح الصحراوية " لإنقاذ عملية السلام "أي إنقاذ أوسلو عملياً، التي أصبحت تعني عند الكثيرين من الساسة العرب عملية السلام برمتها، وهذا الإنقاذ أخذ يرتبط في أذهانهم بتنفيذ انسحاب بنسبة 13.1 % من أراضي الضفة الغربية، بعد الصدمات "البافلوفية" التي صنعها وقدمها الثلاثي‏
                (الإسرائيلي -الأميركي- العرفاتي) على مدى أشهر والتي هيأتهم لذلك؛ ومن الأفضل إلغاء قمة تعقد لهذه الغاية وتشكل مظلة جديدة لمخططات صهيونية تتشرَّبها السلطة الوطنية الفلسطينية ثم تتمثّلها وتعيد إنتاجها فلسطينياً وعربياً، فتغدو "مطلباً ثورياً إنقاذياً" يحتاج إلى التفاف الأمة كلها حول أوسلو -الكارثة لإنقاذها من الفناء؛ وإنقاذ أوسلو يعني إنقاذ وادي عربة وعدم إحراج التطبيع -التحالف الأردني- الإسرائيلي ؛ وفي تقديري أن هذا المسوّغ من مسوّغات القمة سوف يلغى ممهداً لإلغاء القمة أو تحجيمها، لأن الإدارة الأميركية المتواطئة دوماً مع الكيان الصهيوني المحتل ـ مهما كانت واجهة الحكم فيه - سوف تنفذ وعدها في ظل "تكتيك" متقن يمارسه صنّاع القرار الصهاينة في المواقع النافذة الرأي والإرادة سواء في الولايات المتحدة أو في فلسطين المحتلة؛ وحين يتحقق ذلك تمتد موجة عاتية من الدعاوى الإيجابية ذات الإطناب "بإسرائيل"، التي "أنقذت عملية السلام" باستجابتها بعد تردد كبير مصدره "الخوف على أمنها" وهي تستحق لذلك "دعماً غربياً بل عالمياً مطلقاً" لأنها" غامرت من أجل السلام". ولا بد أن تخفف عنها "مخاطر المغامرة"؟!‏
                وبهذه الصادّات للريح السياسية العربية يعود نداء القمة متخافتاً إلى منطلقه أو مبتدئه؛ ليتردد بعده شعار: إن الظروف الحالية غير ملائمة لعقد قمة عربية ناجحة!!‏
                هذا الموَّال السقيم ألفناه وسئمناه، وإذا كنا نتمسك من قبل ومن بعد بعقد أي قمة: شاملة أو موسعة أو مصغرة ونصرُّ عليها، فلأننا لا نريد لهذه المؤسسة أن تموت كما لا نريد للعمل والتضامن العربيين، في حدودهما الدنيا، أن ينتهيا؛ ولأن ذلك كذلك فلا مناص من طرح بعض الأسئلة والتساؤلات على هامش نداء القمة، وحالة النزع الأخير لاتفاقية أوسلو، ومن الأسئلة:-لماذا يحرص أهل اتفاقيات الإذعان ومن لفّ لفّهم على حصر جدول أعمال القمة بموضوع أوسلو وتطبيق مراحلها، ولا يلتفتون إلى مسارات عربية أخرى؟‍‍ ولمَ لمْ يتنادوا، ولا يتنادون، للاجتماع حين تتعطل مسارات عربية أخرى طويلاً، إذا كان يهمهم فعلاً وضع عربي شامل وسلام عادل وموقف عربي متكامل من هذه القضية المصيرية قضية فلسطين؟!‏
                - ولماذا يُبْعِدون عن أنفسهم، بكل الوسائل، كلَّ صيغة اجتماع أو عمل أو قرار يشتمّون منها رائحة التزام قومي يتعارض مع مصالحهم الضيقة والتزاماتهم تجاه العدو الصهيوني، التي ترتبها اتفاقيات ثنائية تمت خارج حدود الاجتماع والتنسيق والتشاور الرسمي العربي، بل وضد مصلحة أقطار أخرى والمصلحة العربية العليا وخارج حدود القبول الشعبي العربي بشكل عام؟!‏
                - ولماذا يجدون في علاقاتهم مع العدو الصهيوني: "رصيداً للعرب ينبغي ألاّ يُمس"، وفي تطبيع العلاقات معه، الذي غدا في بعض المواقع تحالفاً تاماً ضد الأمة العربية وبعض أقطارها، لماذا يجدون في ذلك أمراً لا يجوز أن يبحث، ولا يجوز أن يطلب منهم التوقف عن تنميته وتطويره، مغطين مواقفهم بعلاقات "والتزامات دولية" يضعونها فوق القومي بمراحل؟!‏
                ولماذا تكون التزاماتهم مع العدو، التي كرستها اتفاقيات الإذعان، أعلى درجة من التزاماتهم بميثاق الجامعة العربية واتفاقيات الدفاع المشترك والسوق العربية المشتركة، ومن كل ما يرتّبه الانتماء القومي والعمل القومي معاً من مسؤوليات وتبعات؟!‏
                - وإذا كنا ندخل القمة العربية ونحن قلوب شتى وصفوف شتى ونيّات متضادة وإرادات تقيدها اتفاقيات والتزامات مع الصهيوني والأميركي والغربي هي " فوق الالتزامات العربية" فما الذي يمكن أن توصلنا إليه القمة، ولماذا نعقدها على هذه الأرضية من الغبن والغش؟! إن قمة عربية تحدد مساراتها وتوجهاتها وصيغ قراراتها تعاقداتٌ مع المحتل والمستعمر والغربي المتآمر على الأمة لن تستطيع تحرير إرادة؛ بَلْه تحرير أرض، ولن تصون كرامة، بَلْه صيانة حق أمة وصيانة مقدساتها في فلسطين المحتلة من العبث الصهيوني المستمر والتآمر الغربي المكشوف.وهذا لا يعني أننا ننفُض أيدينا أو ينبغي أن ننفضها من القمة، بل يعني حرصاً عليها وعلى سلامتها وقوتها ومصداقيتها .‏
                وفي مساحة هامش التساؤلات يتكاثف شوك الحلق في مجرى القول ليجرّح الكلمات التي لا تُحب لتتابع طرح الأسئلة أو التساؤلات:‏
                - أليس من الأمور الجوهرية والمصيرية والضرورية انعقاد قمة عربية شاملة، لتحقق وفاقاً واتفاقاً عربيين في وطن يعاني منذ بداية هذا العقد من انقسام خطير ما زال يشدُّ حبال كثيرٍ من الأقطار والأنظمة إلى مراسي الأعداء وإلى الغرب الاستعماري؛ ويجعل مواقع استراتيجية من الأرض العربية قواعد للأجنبي أو مراتع لاستغلاله وابتزازه؛ ومواقع ثانية منها محاصرة بأشكال القهر والموت، ومواقع ثالثة تَلُوبُ بين الرمضاء والصحراء، وتجعل كل الأمة عملياً في حالة تآكل وتبعية وبؤس وتضاد تؤدي جميعاً إلى ضعف عربي يضاعف من قوة أعداء العرب والطامعين بهم؟‍‏
                - أليس من الأمور الجوهرية والمستقبلية انعقاد قمة عربية يكون على جدول أعمالها أهم ما يواجه الأمة من تحديات العصر والتقدم العلمي والتقني، وزحف العولمة، ومصير الأقطار القزميَّة "الميكرو" في عالم التكتلات الضخمة: بشرياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً؟‍؟‏
                - أليس من الأمور المصيرية والمستقبلية انعقاد قمة عربية تناقش بمسؤولية قومية موضوع: التحالفات التي يقيمها العدو الصهيوني برعاية الغرب الاستعماري ومشاركته ضد أقطار عربية ومصالح عربية؛ وتناقش أيضاً وضع المقاومة ضد الاحتلال، تلك التي تستمر في لبنان وفي فلسطين المحتلة من دون مناصرة تذكر منذ سنوات، على الرغم من تعاون الصهاينة وسلطة الحكم الذاتي وقوى أخرى ضدها، وهي مقاومة مشروعة تدافع عن حق تاريخي وثوابت مبدئية ومقدسات عربية وإسلامية، وعن أرض وشعب ووطن؟ أليس من اللائق والضروري دعمها بدلاً من وصمها بالإرهاب والمساعدة على تشويه صورتها في الإعلام، والصمت عن جهادها ومعاناة أفرادها؟‍ والمؤلم أن يتشمرخ السؤال لماذا قامت قيامة الوطن العربي والعالم مع قضايا مناضلين أقل قيمة وأضعف قضية وموقعاً في عقود سابقة، وتبتلع اليوم أنظمةٌ وأحزابٌ ومؤسسات وشخصيات ألسنتها، حين يتعلق الأمر بمقاومة العدو الصهيوني وممارساته واحتلاله، سواء أكان ذلك في جنوب لبنان أم في فلسطين؟!‏
                - أليس من الأمور الجوهرية أن تعقد قمة عربية تؤسس لمصالحة عربية شاملة، وتعاون وتكامل عربيين يؤديان إلى خطط استراتيجية تتعلق بمستقبل شباب هذه الأمة، وبإيجاد عمل وأمل لهم، وفتح كل أبواب الوطن أمامهم، واستعادة المغترب منهم وماله وثقته بأرضه وأنظمته ومستقبله، لنؤسس لرؤية مستقبلية على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما والانتماء القومي وتجسيده عملياً في أنواع الأداء والحلم والأمل؟!‏
                - أليس من الأمور الملحة عقد قمة عربية، على أدنى أرضية من الثقة المتبادلة، لمناقشة أخطر قضية يُسكت عنها، وهي امتلاك العدو الصهيوني للسلاح النووي واستمراره في تطوير هذا النوع وسواه من الأسلحة ذات القوة التدميريَّة الشاملة، في ظل تواطؤ وتشجيع غربيين وتآكل عربي عام حتى للإحساس بالخطر الذي يتهدد الوجود والقضايا الكبرى والبيئة وكل أمل في حياة وأمن واستقرار في هذه المنطقة من العالم، جراء وجود تلك الأسلحة بأيدي عنصرية صهيونية ذات مشروع توسعي - استيطاني، لا يتوقف إلا إذا تنازلت الأمة عن كل شيء وأسلمت قيادها للمحتل والمستعمر؟!‏
                ولنا أن نتمتم، على هامش هذا التساؤل بتساؤل مُرّ:‏
                "أمن أجل ضمان الالتحاق بصف القوي، حتى لو كان عدواً، تتمُّ الاتفاقيات ويتمُّ التطبيع وتتمُّ التحالفات مع الكيان الصهيوني، لتأمين مستقبل نظام أو شخص، على حساب تدمير الهوية القومية والمستقبل القومي كله؟!‏
                - أليس من الأمور المصيرية أن تناقش قمة من هذا النوع وفي هذا المستوى موضوع التجارب النووية التي تنتشر من حولنا، وتحدد موقفنا من ذلك وما ينبغي أن يكون لنا من تصرف، ونحن في أتون هذا الوضع، شئنا ذلك أم أبيناه؟!‏
                إن الأسئلة مُرّة والتساؤلات أكثر مرارة، ولكن الأنكى والأمرَّ من ذلك كله أن هذه الأمة التي مرت بتجارب قاسية ودروس صعبة في هذا القرن، ومضى على ما كانت تسميه "الصراع العربي الصهيوني" وفقدها لفلسطين خمسون عاماً، لم ترسخ بعد مؤسسة قومية قوية يجري العمل فيها باحترام لقوانينها من جهة ولمصلحة الأمة وسيادتها وحقوقها وحرية أرضها وقرارها والبشر فيها من جهة أخرى.‏
                والمؤسف أنه حتى مؤسسة القمة، الأرفع من بين المستويات والاهتمامات والمسؤوليات، لا يوجد ما يحكمها من معايير تجعل الجزء يستشعر الأمن من جوع وخوف في ظل الكلِّ، ويشعر برهبة أن يخرج عليه ويتغرَّب خارجه، بَلْه أن يتآمر عليه ويتاجر به وينخر بُنيته كالسوس من الداخل غير آبه بالمصير العام، لأنه "يظن" أنه اطمأن على مصيره "الخاص"، ضارباً عرض الحائط بكل المقومات التي تجعلنا جميعاً في مركب واحد.‏
                إن " نداء القمة العربية" جزء من حال استشعار وجود الأمة، ويكاد يكون نداء استغاثة أحياناً؛ فمتى نحوّل هذا النداء الرَّعوي إلى معطى حضاري راسخ له أصالته وأصوله؟! إنه سؤال يرتفع كلما اشتدت وطأة التآمر والنفاق العربي من جهة، وكلما ازدادت صور التملُّص من الانتماء القومي وما يرتبه، وكلما بدت ملامح الخطر في الأفق من جهة أخرى؛ وهو سؤال، في ظروف طرحه وتجليه المرتبطة بما سبق وأشرت إليه، يبقى معبّراً عن عاطفة تحتاج إلى مؤسسة العقل وأحكام المنطق ومعايير الخلق والمصلحة التي يعرفها العرب وعليهم أن يعملوا بها، لنقيم البنيان على أساس، ولنرفع مدماكاً فيه فوق مدماك، جيلاً بعد جيل؛ لكي نكفُّ عن البناء العشوائي والتدمير الأعشى اللذين يحكماننا منذ عقود.‏
                فهل إلى ذلك من سبيل؟!‏

                الأسبوع الأدبي/ع613//6/6/1998‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  الطريق الثالث " العربي " !؟!
                  أنا لا أتحدث هنا عن حزب " الطريق الثالث " في الكيان الصهيوني بل عن " طريق ثالث " يبشر بها بعض المثقفين العرب، يرون في اتباعها حلاً للقضية الفلسطينية أو إمكانية لحل تلك القضية !؟ وإذا صح فهمي وصدق ظني فإن " غيرتهم الإنسانية الكبرى !؟ " هي التي تدفعهم للتحرك؛ فصوتهم يقول : " هناك الآن موجة بغيضة متسللة من مناهضة السامية وادعاء السمو الأخلاقي المرائي المتغلغل في فكرنا وخطابنا السياسي. وأرى بقوة أن هناك شيئاً يجب أن يكون واضحاً : نحن لا نكافح الأعمال الجائرة للصهيونية كي نستبدلها بنزعة (قومية دينية ) مثيرة للبغض تقضي بأن يتمتع العرب في فلسطين بمساواة أكثر من الآخرين. " ؟!هذا المنطق الذي يوحي بحرص محمود على مقاومة كل بادرة تعصب أو تطرف قد تلوح في الأفق؛ يبني مشروعه أو يقدمه على أسس الاعتراف بحق لليهود في فلسطين يجب ألا يغيب حق العرب في أن يكونوا مثلهم أصحاب حق فيها، وأن يعيشوا معهم ولو تحت سيادتهم.‏
                  ولكن العرب المعنيين بهذا الخطاب ليسو كل عرب فلسطين بل العرب الذين بقوا في أرضهم عام 1948 وأولئك الواقعين تحت الاحتلال منذ حزيران 1967 والذين سمحت أو يمكن أن تسمح " إسرائيل " بعودتهم ممن شردوا بعد حرب حزيران 1967.‏
                  ومن معالم هذه الطريق، أو هذا التيار، الذي يتظاهر بأنه في طور التشكُّل النظري، والأمر على غير ذلك تماماَ، من معالمه التوجهات الآتية التي يقول بها :‏
                  1 ـ رفض أوسلو لأنها لا تؤدي إلى حل، وقد ولدت ميتة، وأماتها أكثر أطرافُها المعنيون بها.‏
                  2 ـ رفض مقولات التحرير التي يقول بها قوميون وإسلاميون،‏
                  واتهام القائلين بها بتهم التخلف والتعصب والعنصرية‏
                  واللاسامية والجهل..إلخ!؟!‏
                  3 ـ التعاطف مع اليهود والصهيونية التي أنجزت مشروعها " المقبول من طرف أهل ذلك التيار "، والإقرار بما تعرَّض له اليهود من اضطهاد في زمن " معاداة السامية "؛ وكذلك بما لحقهم من كوارث بسبب " المحرقة "، والثناء على استثمارهم لها استثماراً سياسياً واجتماعياً مشروعاً؛ واتهام كل من يفكر بالتقليل من حجم ضحايا اليهود الأسطورية في العهد النازي، أو يحاول إعادة قراءة التاريخ في ضوء وقائع وحقائق جديدة لمعرفة الواقع، احتراماً منه للعلم وتلبية لنزوع الإنسان لمعرفة الحقيقة؛ اتهامه بالخضوع لنزعة متسللة من معاداة السامية !!. واعتبار غارودي شخصاً " مبتذلاً وغير مسؤول "، ولا يمكن الدفاع عنه والتعاطف معه !؟ والدعوة إلى الاستفادة من أسلوب الصهيونية باستثمار المحرقة لدى الإسرائيليين ليقبلوا العرب الفلسطينيين بصفة بشر يتعرضون لنوع من الاضطهاد، قد يكون مشابهاً، ولا بد من إنصافهم على أرضية المساواة في حقوق المواطنة بالنسبة لمن يعيشون تحت السيادة الإسرائيلية. أمَّا العرب الذين أُخرجوا من فلسطين عام 1948 و عام 1967 فلا حديث عنهم ولا ذكر لهم لدى أهل تلك الطريق؛ لقد ابتلعهم الزمن كما ابتلعهم الصمت، وغابوا من دائرة الواقعية السياسية والفكرية، ومن دائرة التعاطف الإنساني مع مأساتهم ؟!.‏
                  وأغلب الظن أن تغييب جماعة الطريق الثالث "العربية " ـ التي تتشكل على النمط "الإسرائيلي"، مثل جماعة السلام الآن الأميركية والأخرى " الإسرائيلية " والطريق الثالث في " إسرائيل " ـ لموضوع الفلسطينيين الذين هم أساس القضية، والسكوت حتى عن حق العودة ومن يطالبون به ومن يشملهم نصه، من الأمور المقصودة؛ لأنهم يرون ألا حل لمشكلة هؤلاء، وأن طرح موضوعهم يعقد كل حل ويعرِّض من يثيره لغضب الصهيونية، فـ " إسرائيل " ترفض والولايات المتحدة الأميركية لا توحي " لمفكِّريها في هذا المجال " بذكر ذلك أو الإشارة إليه؛ ولذا فإن تغييبه في الصمت والتجاهل من الأمور المستحسنة لديهم !!؟.‏
                  4 ـ اتهام القومية العربية والتوجه القومي والإسلام والتوجه الإسلامي، وكل ما يناديان به من أفكار وحلول وتصورات، باتهامات استفزازية موجعة؛ تمطرهم بها " فوقيةٌ " ثقافية أكثر من متغطرسة وأكثر من متعصبة لرؤيتها وعقيدتها وولائها، الذي تراه أكثر من مشروع ومن مقدس .‏
                  5 ـ عُقم مقولة الحل العسكري : فالحل العسكري عند " الطريق الثالث " غير قائم وغير مقبول وغير ممكن وغير قابل للتحقق مستقبلاً وينبغي أن يلغيه العرب من قائمة الاحتمالات. وهو عملياً غير وارد لا بالنسبة للعرب ولا بالنسبة للإسرائيليين. إنه حل يرفضه المناخ الدولي العام فضلاً عن أنه لن يحقق حسماً حتى بالنسبة لإسرائيل المتفوقة عسكرياً. ولذلك ينبغي صرف النظر عن فكرة امتلاك القوة من قبل العرب لأنهم لن يجاروا " إسرائيل " التي تتفوق بامتلاكها لها ولن يلحقوا بها؛ ولن يحققوا بالقوة حلاً، فلِمَ السعي إذن وراء امتلاك القوة؟!‏
                  وتوجههم يستند إلى منطق يقول : إن " إسرائيل "، التي نجحت في امتلاك قوة متفوقة، ستبقى من دون رادع لغياب إمكانية السماح بقيامه؛ وسيردعها عملياً غيابُ الخصم من أمامها وغياب الوهم الناشئ من تفكير بمشروع ـ أي المشروع النهضوي العربي ـ يقيمه خصم مقتدر. وحده : تقرُّب الخصم منها وطلبه الحماية، واستجلابه العطف والسلام على أساس الضعف الدائم والاستسلام التام، وما يمليه الخضوع للأمر الواقع ولسطوة من يشكلون معطياته ويفرضونها، ذاك الذي يشير فيما يشير إليه أهل الطريق الثالث : إن السعي لامتلاك القوة من قِبَلِ العرب يفسَّر على أنه سعي لممارسة الإرهاب وشن العدوان على " شعب " عانى من " اللاسامية وأهوال المحرقة "، ومن " التهديد لوجود دولته وشرعيتها " على مدى عقود من الزمن؛ فـ " سواء شئنا أم أبينا إن اليهود ليسوا مستعمرين عاديين.. " ـ على حد تعبير أحد رواد " الطريق الثالث " العربي. ولذلك فإن التفكير بامتلاك أي قوة هو تفكير " قومي ـ إسلامي " متطرف ينطوي على " عنصرية بغيضة "، ويقع خارج حدود الزمن وخارج العصر ومعطيات الواقع !؟!.‏
                  6 ـ إن " مقاومة التطبيع والدعوة إلى استمرار المقاطعة العربية لإسرائيل، وحتى التفكير بذلك " سخف ما بعده سخف "؟! ؛ ونوع من تمييز عنصري، أو عنصرية مدانة يمارسها العرب أو يدعون إلى ممارستها!؟! ويدعوا أهل الطريق الثالث بدلاً من ذلك إلى الحوار مع " إسرائيليين "، ويتساءلون بحنق وتعال وقلق " معرفي " : " هل ينبغي لفنانين ومثقفين أحرار وكتاب وطلبة وأكاديميين ومواطنين عاديين أن يقاطَعوا لأنهم إسرائيليون؟! واضح أن القيام بذلك سيعني التظاهر بأن الانتصار على نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يحدث. ". فليتأمل العرب جيدا في هذا وليسألوا من بعد، إذا أُستثني أولئك " الأبرياء " جميعاً من المقاطعة والتطبيع والغضب العربي، من الذي ينبغي أن يفوز بذلك كله ممن يسرقون وطننا ويحتلون أرضنا ويصادرون مستقبلنا : أهم : نتنياهو وشارون وشمعون بيريس وايهود باراك فقط، وليسو اليهود الذين ينتخبونهم ويشكلون قوتهم والرأي العام الذي يسيرهم ؟!. وكل الإسرائيليين " العاديين "، أي الذين يقيمون مجتمع الكيان الصهيوني وبناه التحتية ومستوطناته ومؤسساته العسكرية والمدنية التي تكون قوة الاحتلال والمشروع الصهيوني بتطلعاته وينتخبون نتنياهو وباراك وشارون لتحقيق أهداف أتوا إلى فلسطين من أجل تحقيقها؛ هؤلاء كلهم أبرياء نتجنى نحن العرب، المسروقة أرضنا والمهدد مستقبلنا بسببهم، نتجنى عليهم ونقاطعهم من دون سبب ؟!، وعلينا أن نعود عن تلك المقاطعة ونستسلم للعنصرية الصهيونية البغيضة وتمييزها العنصري ومسلسل إبادتها البطيء ـ المستمر لنا : مادياً وروحياً، وإلاَّ فإننا نحمل نزوعاً عنصرياً وتتسلل إلينا نزعة العداء للسامية ؟؟! أهكذا تقول الحضارية المتأطِّرة برهافة " حداثية "، ونزعة إنسانية عالية المستوى أو متعالية، تتحدر إلينا من جامعة هارفارد، ومن الحرص الأميركي الهائل على الحرية وحقوق الإنسان، ومن الأحلام الفردية المتورِّمة " المتسامية " بالحصول على رضا الصهيونية للوصول إلى " ضواحي نوبل " والاستمرار في طعن الحق العربي وقيم العدل والإنسانية كلها من هناك ؟!.‏
                  7 ـ يقول أهل الطريق الثالث " العربي ؟!" إنه : " يتجنب إفلاس أوسلو والارتداد إلى سياسات المقاطعة الشاملة على السواء "، وهم يقولون بوضوح ما بعده وضوح : " ليس كل الإسرائيليين على الشاكلة ذاتها، ومهما يحدث يجب أن نتعلم العيش معهم بشكل ما، والأفضل أن يكون ذلك بشكل عادل، بدل أن يكون بشكل جائر. "؟! يا لفضل الله علينا بهذه الطريق التي يلخص أهلها قضيتنا التاريخية كلها بأنها اليوم : " معركتنا من أجل الديموقراطية والحقوق المتكافئة، من أجل رابطة أو دولة علمانية يكون فيها كل الأفراد مواطنين متساوين ... " وهم لا يعنون خوض هذه المعركة عربياً، بل داخل الكيان الصهيوني وفي ظل سيادته وتملقه ليقبل بنا مواطنين بدرجة ما وبصيغة ما في أرضنا التي سلبها؟!‏
                  8 ـ الطريق الثالث " العربي "، يقول بالاعتراف التام والمطلق بحق لليهود الصهاينة في فلسطين وبحقهم في إقامة الدولة العبرية وبعدم مشروعية النزوع العربي إلى مجاراتهم لإقامة دولة " قومية " أو " إسلامية ". ويضع استراتيجية التقرب منهم على أرضية الولاء لهم ـ مدخلاً مبدئياً للحل ـ لكي يطمئنوا ويمنحوا عرب إسرائيل " عرب الأرض المحتلة عام 1948 " حق المواطنة التامة؛ وأن يوافق عرب ما بعد ذلك التاريخ، الذين يعيشون في الضفة والقدس.. إلخ على أن يكونوا تحت السيادة و الحماية الإسرائيليتين ؛ بعد إقناع " إسرائيل " واستعطافها واستدرار شفقتها عن طريق تذكيرها بالمحرقة، لتقبل النظر إلى الوضع الفلسطيني بعين المعاناة اليهودية التي تقطر إنسانية ونبلاً !؟!‏
                  إن الكفر بالثقافة وبالمثقفين، الذين لا يقفون إلى جانب الحق إلا إذا ساندته القوة وشفع له الدولار وتقدمت بشائر نصره ودلائل ذلك النصر أمامهم؛ ولا يكونون قوة نصره؛ هو من أوجب الواجبات في هذا العصر وفي كل عصر. ونبذ الثقافة التي تسوِّغ حق القوة وتقدمه حقاً، وتتغافل عن حق مفلول الحد لغياب القوة التي تقيمه على قدم وساق، هو من أوجب واجبات المؤمنين بأن الثقافة موقف وعدل ودفاع عن الحق والعدل؛ وأن الوعي والكلمة الموقف هما اللذان يقيمان متاريس الحرية ويدافعان عن الحقوق والحريات، ويهزمان الغطرسة والنفاق والقوة الغاشمة؛ ويكشفان أساليب ليّ أعناق المواقف والحقائق ليقوم بالنفاق درع حقائق القوة المسلَّحة بالغش والفساد، المحمية بالضمائر الفاسدة.‏
                  إن العرب الذين يسيرون في طريق " ثالث " من هذا النوع عليهم أن يقروا أولاً بأنهم ليسو أصحاب حق من أي نوع في فلسطين ومقدساتها، وبأن الأوطان والحقائق والمبادئ يمكن أن تغيَّر وتلوَّن وتباع وتشترى في السوق.‏
                  وعليهم أن يقروا نهائياً بنهاية تاريخهم انصياعاً لـ " فوكوياما " الأميركي الذي أعلن " كذبة : نهاية التاريخ "، وأن يقبلوا بأن قوميتهم وعقيدتهم وشخصيتهم الثقافية وهويتهم هي : " لا شيء "، ومدانة أو ذاوية ومضمحلة إلى الدرجة التي يصبح التخلص منها والتنكر لها من فضائل العصر والحكمة والعقل !!.‏
                  وعليهم أن يستسلموا لليأس، وأن يفتحوا أبواب وطنهم أمام كل قوة محتملة تطمع بأرضهم وبخيرات وطنهم، وأن يجعلوا مصلحتهم العليا وأهدافهم الأسمى هي الدخول في خدمة الآخرين وتلبية مصالحهم .‏
                  إن لسان الطريق الثالث " العربي " لسان أعجمي، صهيوني الهوى، أميركي الانتماء والانتساب والموطن، ولا يمكن أن يحمل همومَنا ورسالة شهدائنا أولئك الذين رموا هوية الوطن عند أعتاب مصالحهم الشخصية وأنانيتهم الفردية، وبحثوا عن خلاص شخصي حتى لو كان ذلك الخلاص على حساب الشعب والحق والوطن؛ وهم يتباهون بأنهم ينتسبون لغير الشعب العربي وعقيدته وترابه الجاهلي المتخلف !؟ لا يمكن أن يحمل همنا وجرحنا وقضيتنا إلا الذين يرتبط مصيرهم ومستقبلهم بمصير أهل هذه الأرض وبمستقبل أهلها والذين اختاروا بشجاعة ووعي أن يربطوا مصيرهم وخلاصهم بمصير أولئك وخلاصهم.‏
                  لن تهديني إلى طريقي نجمة من شمع، وكلمة عجماء مجففة في عيون لا ترى معاناتي ومعاناة الناس من حولي !! ومن لا يحمل هوية الوطن ولا يعيش معاناته لا يهمه مصيره، لا يجوز له أن يقدم لنا الدروس والنظريات بتعال تعصبي مقيت، وانحياز ظاهر ضد القومية العربية والإسلام والشهداء ونبل الهدف وما يقدَّم على طريقه من تضحيات منذ نيف وخمسين عاماً، أي ضد الهوية والحضارة والتاريخ والمستقبل.‏
                  إن المثقفين العرب الذين تعنيهم القضية والأرض والهوية والانتماء، وتعنيهم تضحيات شعبهم ومعاناته، مدعوون لموقف ورأي ورؤية، حتى لا يشكِّلنا ويشكل مواقفنا الصهاينة والمتصهينون والأميركيون المتحالفون معهم وأصحاب الحلم الصهيوني الممتد من إرهاب يشوع بن نون إلى إرهاب من يأتون من أصحابه وأتباعه محمولين على سيف القوة الغاشمة والتعالي الكريه والصليبية المقنعة بقشرة حضارية لا تخفي من حقائقها شيئاً، ولا تغرّ إلا من جهل حقائق الحياة وحقائق تلمود اليهود ومن سار على معطيات خرافاته وأساطيره .‏
                  أيها المثقفون العرب انهضوا قبل أن يشكِّلنا ويشكِّل أجيالَنا وأحلامَنا المشككون بقدرة أمتنا على الصمود والبقاء والنهوض، والذين يرون أن العدو صاحب حق في الوطن : فلسطين، وصاحب الوطن والحق الأصلي عنصري ومتخلف ومناهض للسامية إذا تشبث بحقه ودافع عن وطنه وعقيدته وهويته القومية وانتمائه ؟!‏

                  الأسبوع الأدبي/ع618//11/7/1998‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    سورية وفرنسا والمنعطف التاريخي
                    بدأ تطور ملموس في العلاقات السورية- الفرنسية منذ سنوات، وقد تحقق دخول فرنسي مباشر وحضور فرنسي مباشر أيضاً في الصراع العربي -الصهيوني حين فرضت سورية مشاركة فرنسا في اللجنة التي تشرف على تفاهم نيسان 1996 وتتلقى شكاوى حزب الله والكيان الصهيوني فيما يتعلق باختراقات ذلك التفاهم، وهي اللجنة التي تمارس عملها دورياً في اجتماعات الناقورة.‏
                    وهناك تفاهم بين فرنسا وسورية على كثير مما يتعلق بالأوضاع في لبنان وبدور الجماعة التي تتخذ من فرنسا مركزاً ومنطلقاً للهجوم على دور سورية في لبنان من أمثال ميشيل عون، وتسلّم فرنسا بشكل واضح بتلازم المسارين السوري واللبناني في المفاوضات مع الكيان الصهيوني، كما تسلم بوجهة النظر العربية فيما يتعلق بتنفيذ القرار 425 القاضي بانسحاب "إسرائيل" من جنوب لبنان من دون قيد أو شرط. وينحو التعاون الاقتصادي بين فرنسا وسورية منحى إيجابياً منذ تم التفاهم على موضوع الديون المترتبة لفرنسا على سورية، وقد أخذت أرقام التبادل التجاري تزداد بشكل ملحوظ.‏
                    وعلى هذه الأرضية يقوم حوار من أجل الشراكة السورية- الأوربية في المجال الاقتصادي والفني -التقني، ما يزال في مراحله الأولى ولكنه يتجه نحو التقدم، لتكون سورية مستقبلاً في إطار هذه الشراكة، بعد أن أصبح العالم مراكز استقطاب اقتصادي واضح بعد سيطرة اقتصاد السوق.‏
                    ولفرنسا دور إيجابي ملموس فيما يتعلق ببعض القضايا العربية منها : الموقف من الحصار المفروض على العراق، والموقف من الاحتلال والاستيطان وتهويد القدس- فلنتذكر زيارة شيراك للقدس وموقفه من حكومة نتنياهو إبّان تلك الزيارة- وهي إجمالاً مواقف أقل تحيزاً من الموقف الأميركي في هذا المجال.‏
                    وتهيئ فرنسا نفسها للدخول وسيطاً في الصراع العربي -الصهيوني، لمتابعة موضوع تنفيذ اتفاق أوسلو -والقرار 425- واستئناف المفاوضات السورية - الإسرائيلية، إذا أوقفت الولايات المتحدة الأميركية مساعيها في هذا المجال، وسمحت لفرنسا- أو أوعزت لها- بدخول الحلبة.‏
                    في هذا المناخ، وعلى أرضية هذه المعطيات الإيجابية وسواها، تتم زيارة الرئيس حافظ الأسد لفرنسا، وهي زيارة ذات أهمية نوعية في مدلولها وتوقيتها والآفاق التي تتطلع إليها.‏
                    فما الذي يمكن أن يتحقق من هذا، وما الذي يتطلع إليه كل من البلدين، مما هو مشترك مستقبلاً؟‏
                    مما لا شك فيه أن فرنسا شيراك تسير، أو تريد أن تسير، على خطا ديغول؛ فشيراك الديغولي يتطلع إلى دور فرنسي مستقل عن الدور الأميركي في المجالات كلها، وإلى دور أوربي تقوده فرنسا إن أمكن، يستعيد مكانة أوربا في قيادة السياسة الدولية.‏
                    وفرنسا الديغولية تريد استعادة مكانتها في الشرق وتأمين مصالحها، وعلى رأسها الطاقة: البترول والغاز، وكسب أسواق تجارية، وتأمين مبيعات سلاح ومواد أولية، وإيجاد منافذ استراتيجية لقوة دولية.‏
                    ولتطلعات فرنسا الديغولية أبعاد ثقافية تتصل بالفرانكوفونية وصلاتها ودفع تلك الصلات باتجاه التطور لاستعادة مواقع تأثير ثقافي من خلال اللغة والثقافة الفرنسيتين، مع أوساط كانت لها بها علاقات حميمة سابقاً وما زالت تتطلع إلى استعادة مثل ذلك التأثير وتلك العلاقات، لا سيما في ظل تنافس مع عالم "الأنغلوفون" الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية بعد بريطانيا العظمى، وهو تنافس مائل بشكل صارخ لمصلحة "الأنغلوفون". وفي هذا المجال الثقافي، الذي تقف وراءه سياسة ويوظّف أيضاً لتحقيق سياسة؛ هناك جوانب مجافية للمصلحة العربية، لا سيما في أوساط لبنانية ضيقة تعيش حالة تبعية مطلقة للثقافة الفرنسية وعداء شبه مطلق للهوية العربية، وفي أوساط قبطية ضيقة لا تمثل الأقباط تاريخياً تعمل على مشروع طائفي باصطناع روابط ثقافية غير عربية، وكذلك في أوساط مغاربيَّة يتمركز زخمها السلبي اليوم في الجزائر، حيث تخوض أوساط جزائرية معركة الفرانكوفونية ضد العربية والعروبة وحتى ضد الإسلام، المتهم هو واللغة العربية بأنهما مصادر الإرهاب، تخوض تلك الأوساط معركة من أجل الفرنسية بتحريض وتشجيع فرنسيين مستورين.‏
                    فرنسا الديغولية لها أحلام، والأحلام قد يكون لها ضفاف عند البعض وقد تكون بلا ضفاف عند فرنسيين من أمثال هنري لوبين غير الديغولي، ولكن هل نقول اليوم إنها فرنسا الاستعمار الماضي؟! لا نستطيع أن نقول ذلك بتأكيد، ولا نستطيع أن نلغي كل شُبَه الماضي الاستعماري عن فرنسا؛ ولكنها اليوم بكل تأكيد أخف علينا من وطأة الأميركي المتصهين والصهيوني المحتل؛ ونحتاج إلى علاقة متميزة معها بعد الخلل الذي أصاب عالم اليوم بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما جرى في حرب الخليج الثانية، وما آل إليه وضع العرب بعد مؤتمر مدريد واتفاقيات الإذعان والهرولة نحو العدو المحتل على جثة التضامن العربي والعمل العربي المشترك.‏
                    فما الذي نريده نحن من فرنسا؟! وهل نحن على استعداد لقبول كل ما تريد لتعطينا ما توافق على إعطائنا إيّاه مما نريد ؟!‏
                    فرنسا وأروبا والعالم كله يعرف اليوم موقف سورية ومكانتها وموقعها مما يسمى "عملية السلام أو مسيرة السلام في الشرق الأوسط"، وفرنسا من القائلين بأنه لا يقوم سلام من دون سورية، ولا تدخل سورية المفاوضات من دون استعادة الجولان؛ ولا تأثير/ سلبياً/ على موقع سورية في لبنان حفاظاً على مصلحة لبنان ولا فصل بين مساريه مع "إسرائيل" ولا تدخل "فرنسا" من وراء ظهر سورية في قضايا ذات حساسية في لبنان، لأن ذلك من دون جدوى. فقد جرّبت القوى المتعددة الجنسية حظوظها في لبنان يوم دخلته دعماً لمشروع غربي -صهيوني يرمي إلى إقامة دولة لبنانية موالية لذلك المشروع، وشهدنا وشهد العالم كيف سقط اتفاق /17/ أيار وبشير الجميل، وكيف انسحبت الولايات المتحدة الأميركية خائبة مجرّحة وانسحب حلفاؤها في المتعددة الجنسيات من لبنان، بعد العملية الفدائية النوعية ضد قواتها في بيروت والضاحية الجنوبية.‏
                    فرنسا تتطلع -إذن- من زاوية تجربة قريبة طويلة وعميقة، ومن خلال ماضٍ وعلاقات مستمرة مع ذلك الماضي، ومن خلال مصلحة وحرص على علاقات وأشخاص وتيارات ومصالح مستقبلية؛ وتأخذ بالاعتبار مكانة سورية عربياً، ومكانة الرجل الذي تحاوره وتاريخه ومواقفه؛ وتبدو في كل ذلك، ومن خلال استقرائه، حريصة على دور وحضور وتمايز خاص بها وبأوربا من خلفها، في هذه المنطقة من العالم. أما سورية فتقف أمام وقائع ومعطيات: محلية وعربية ودولية، وأمام حقائق التاريخ والجغرافية، وأمام مستلزمات الصراع والتحرير والنهضة ومواجهة متطلبات عصر العلم والتكنولوجيا والعولمة والقوى العملاقة: عسكرياً واقتصادياً.‏
                    سورية تقف أمام اتفاقية التجارة الدولية واستحقاقاتها عام 2005، وأمام القوة النووية الإسرائيلية ورفض "إسرائيل" التوقيع على اتفاقية عدم انتشار الأسلحة النووية وعدم إجراء التجارب النووية، وكذلك أمام تحالفات إسرائيلية -أميركية- تركية وحتى عربية "أردنية مثلاً" في المنطقة، تهدف إلى فرض هيمنة وإلى إعادة رسم "الجغرافية- السياسية" للمنطقة بالقوة، إن اقتضى الأمر؛ كما تقف أمام استحقاقات واقع عربي أصبحت فيه الشراكة "العربية -الإسرائيلية" بالنسبة لبعض الأقطار والقوى العربية واقعاً قائماً يهدد الكتلة العربية وآمالَها وتطلعاتها القومية- المستقبلية وتضامنها ومشاريعها المشتركة.‏
                    وتقف أمام واقع وطموح داخليين لا بد لهما من: تطوير القدرة الإنتاجية وتحسين نوعيتها، وامتلاك طاقة إنتاجية جديدة في مجالات صناعية، وكذلك التدريب والتعليم في المراحل العلمية العالية لامتلاك علم وتقانة لا يمكن البقاء خارج حدودهما والتغاضي عن ضروراتهما.‏
                    وتتطلع إلى اختراق أشكال الحصار غير المباشر المفروض عليها /أميركيا بتأثير صهيوني، وأوربياً بتأثير أميركي/ لا سيما فيما يتعلق باحتياجات الدفاع عن النفس، والحصول على تجهيزات وتقنيات متطورة تحتاج إليها في ميادين كثيرة.‏
                    سورية تحتاج إلى كسر الطوق المفروض عليها "تقنياً" والطوق المفروض عليها "علمياً واقتصادياً"، وهي بحاجة إلى استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وقد حاولت سابقاً الحصول على مفاعل نووي للأغراض السلمية ولم تفلح.‏
                    ولا يمكن الحكم على مقدرة روسيا في الخروج من الدائرتين الأميركية- الإسرائيلية، أو الدائرة الصهيونية الموسَّعة، تلك المفروضة على قراراتها والتزاماتها، لا سيما فيما يتعلق بسورية؛ فهل تستطيع فرنسا كسر ذلك الطوق عن سورية، وهل تنجح هذه الزيارة الهامة في إقناع الفرنسيين بذلك؟! إن الآمال كبيرة في هذا المجال، لا سيما فيما يتعلق بالتدريب والتحصيل العلميين على الأقل.‏
                    وسورية تحتاج، في هذه الظروف، إلى تنويع مصادر أسلحتها وإلى تنويع الأسواق والجهات التي تتعامل معها. والسوق الأوربية هامة جداً في المجالات المؤهلة لشراكة اقتصادية ناجحة ومفيدة لسورية، ولتأهيل علمي وعملي ملائمين للتعامل مع تقنيات عصر العولمة ومواجهة زحفها في الحدود الدنيا المطلوبة للتماسك والتفاعل مع الحفاظ على الهوية والمصلحة والذات والأهداف الرئيسة.‏
                    وتبدو سورية في هذا الموقع قادرة على التأثير والإقناع من خلال موقعها في المنطقة، ودورها في الصراع العربي الصهيوني، ومكانتها العربية، وتماسك جبهتها الداخلية، ووضوح أهدافها وسياساتها. وكذلك من خلال امتلاكها لمواد أولية استراتيجية واعدة على رأسها البترول والغاز؛ وهي تحقق اكتفاء ذاتياً في محاصيل زراعية استراتيجية، وتبشر مشاريعها المستقبلية بعطاء أفضل. من هذا يتبين لنا أن مصالح مشتركة تدفع الطرفين إلى الحوار والتواصل والتعامل، ووقائع على الأرض -لا سيما في المجالين السياسي والاقتصادي ـ تشير إلى إمكانية نشوء تعاون وطيد، وربما تفكير بما هو أبعد من التعاون، بين سورية وفرنسا.‏
                    فهل يتحقق هذا أو شيء هام منه في هذه الزيارة التاريخية الهامة؟! وهل نحن أمام وضع غير متوازن يؤدي إلى حوار غير متوازن ومن ثمة إلى اتفاقيات غير متوازنة؟! لا أقول بذلك انطلاقاً من أمور تحكم الوضع ومعطياته، أذكر منها :‏
                    -مكانة سورية، ومكانة الرئيس الأسد، عربياً ودولياً، والمعرفة المؤكدة عن تلك المكانة، التي تحصلت من تجربة عميقة.‏
                    -حاجة فرنسا إلى استعادة مواقع ومصالح ومنافذ في الشرق، وفي هذه المنطقة من الشرق. ولن يقوم ذلك إلا على أساس من الثقة والاحترام المتبادلين على كل مستوى وصعيد.‏
                    -وضع المتغيرات والتحديات والعلاقات المتحركة في عالم اليوم، التي تفرض قيام تواصل على أساس المصالح بين فرقاء يريدون المحافظة على مصالحهم، في الوقت الذي تهدد فيه الشركات المتعدية الجنسية، والدول المالكة لسيطرة عليها ونفوذٍ فيها ولقوةٍ متغطرسة تخدم مصالح جشعة، في الوقت الذي تتهدد فيه تلك القوى شعوباً ودولاً ومصالح كثيرة للآخرين في العالم ويحتاج أمر مواجهتها إلى قوى موازية قادرة على العمل بثقة واقتدار.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع619//18/7/1998.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      تأملوا واتعظوا يا.. .
                      لندن، وقد انقشع الضباب وأشرقت الشمس وصحّت الرؤية، تبدو مدينة عريقة مثقلة بذاكرة التاريخ.. تاريخ أهلها وتاريخ الأمم. إذا نظرت إلى عمرانها وآثارها وحدائقها وظاهر النظام فيها وحركتها التجارية قلت : تلك عاصمة مدهشة فيما تملك؛ وإذا حدثوك عن فقدان أنواع من الأمن فيها، وعن فساد علاقات الناس الأسرية والاجتماعية، وعن حضور القانون المتمثل في الشرطي وغياب الشرطي الداخلي المتمثل في الضمير، قلت : هذه مدينة مدهشة فيما تفتقر إليه مع ما هي عليه من غنى وما كانت عليه من قبل.‏
                      في الذاكرة، التي لشرقي -عربي مثلي، يستقر من لندن الاستعمار والحروب ونهب العالم وسايكس ـ بيكو، ووعد بلفور، وتمزيق سورية ومحاولات تفتيت الشخصية العربية ابتداء من مقاومة العربية خلال احتلالها لمصر، والسيطرة على منابر في الأزهر الشريف ثقافياً 1882، كما يتنامى أثر سرقة النفط واحتلال منابعه في العراق ودول الخليج؛ وفي الذاكرة تاتشر وحقدها اللامع كسيف نووي، وتأثيرها على جورج بوش لبدء حرب تدمير العراق، والمثابرة الخفية على استمرار الحصار ضد أقطار عربية؛ وفي الذاكرة الأبعد قليلاً يمتد تواصل النزوعين العنصري والصليبي من: ريتشارد قلب الأسد إلى الجنرال (اللينبي )، الذي قال هو وغورو الفرنسي بتوقيت متقارب : "ها قد عدنا يا صلاح الدين" يقصد عودة الحملة الصليبية المنتشية بانتصارها" إلى القدس في ثوب استعماريي القرن العشرين، وحروبهم العالمية التي " أقامت صرح المدنية في العالم " !؟ واستعمارهم لسورية الطبيعية بعد تمزقها، والإشراف على إقامة الكيان الصهيوني في الجزء الجنوبي الغربي منها، وتعزيز ذلك الكيان باستمرار بعد رعايته وتقديم الدعم الموصول له، ذلك الدعم الذي لا يعرف حدوداً ولا ضفافاً.‏
                      هل في لندن نفوذ يهودي؟! يقول التاريخ : إن روتشيلد ليس رئيساً للدولة ولا ملكاً متوجاً، ولا هو رئيس وزراء بريطانيا، إن روتشيلد رئيس دولة المال والأعمال فقط !! وهل في بريطانيا وجود لغير دولة المال والأعمال بعد أن غابت الشمس عن اتساع إمبراطوريتها وبدأت تظهر معالم مدنها في الضوء بعد انحسار الضباب؟! وهل روتشيلد أكثر من جلد جديد لشايلوك التاريخي؟!‏
                      الصهيونية لا تحتاج إلى نفوذ في بريطانيا فهي الحكومة الفعلية المغلَّفة بورق "السوليفان" حسب الأسلوب الإنكليزي؛ فأولئك الذين يرسمون الحركة من وراء جدران سميكة مبصرة، يصنعون ساسة وسياسة ويرفعون رموزاً بأشكال مختلفة لتقول بعد أن تعمل ما يريدون من: تشرشل إلى تاتشر، ولكن حضورهم في الحكومة لا يقل عن أربعة وزراء نافذي الكلمة؛ وعن الرئيس الذي يصنع قرارات السوق، لا سيما سوق الذهب، حيث يضع سعره يومياً ويقود حركة مشتقاته من العملة في كل ساعات اليوم.. روتشيلد اليهودي ونسله الممتد بعيداً من بروكلين الأميركية إلى تل أبيب وبعض ضواحي الاقتصاد العالمي في آسيا.‏
                      في لندن لا يظهر لك الشرطي إلا عندما يشاء، ينبعث من بين الشجر والحجر، وهو لا يراقبك بعينيه الزرقاوين، ولكنك دائماً تحت النظر من خلال عيون التقنيات الحديثة العالية الأداء : من رادارات الشوارع إلى رادرات المراتع والمرابع، التي يكثر فيها عرب لا سيما في موسم الصيف.‏
                      وإذا ما ذكر العرب في هذا المجال فعليك أن تتذكر سيول دراهمهم التي تذهب للتبرعات "العالية الوهج" لحدائق الحيوان أو لمستشفيات الأعيان في عاصمة الزمان، وعليك أن تتذكر موائد القمار في "فندق ريتز" وما يسيل عليها من نقود بين الزنود والنهود، وعليك أن تتذكر شوارع ومواقع أخرى ليس أهمها شارع أوكسفورد بالضرورة.‏
                      إن المال العربي يصب هناك بهدوء، وهو مثل التايمز ينساب ناعماً أحياناً ولا تشعر بصخب تدفقه، ولكن عندما يلازمك سوء حظ ما وتزلّ قدمك أو تسقط في منحدر أو منحى من منحدراته ومنحنياته، فإنك تذوق الأمرّين وتعاني الأهوال من أمواجٍ ما للمحيطات عهد بها.‏
                      "بيغ بن" تقرع ناقوسها كل ساعة من ساعات اليوم، على مدى الأيام، عند ضفة ذلك العريق في القدم، الذي شهد ولادة حضارة تلك البلاد، وسعى على ضفافه عظماء إلى الشهرة، ليس أعظمهم شكسبير بمسرحه الذي كان متواضعاً هناك في القرون الماضية، مسرح البجعة؛ "بيغ بن" تقرع ناقوسها بعد أن تعطَّل عملياً ناقوس الكنيسة، وهي المشرفة على مجلس العموم تعلن موت "ويست منستر أبي"، التي غدت للحفلات والمراسم الرسمية؛ فعالم الكنيسة يستسلم لعالم آخر، ولا تجد الثورة العميقة للبروتستانتية إلا عندما تستثار بتحديات. إنها الشاهد الذي يشرف على مملكة روحية تنهار أو تموت فيها الروح لتستشري حاجة الجسد؛ وتراها في : فقدان الأمان، والاعتداء على القصّر، في الشذوذ الذي يحكم طبقات عليا ويتحكم بها، وفي تحلل الأسرة وفقدان الروابط الاجتماعية الحميمة، وفي الشيوخ: نساء ورجالاً، الذين قد يجدون الطعام ولا يجدون الاحترام، فتراهم من عري إلى عري يسيرون، في رغبة جامحة للحديث مع إنسان واللقاء بإنسان يستشعرون معه المودة وما يجمعهم من جديد ببعض مظاهر الحياة والتحنان .‏
                      إن أسرة الإنسان مفقودة وأسرة الحيتان موجودة بقوة وقسوة، وعليك أن ترى في ظل ركام "التحرر" حرية المرأة الحقيقية والاحترام الذي لها والحقوق التي تتمتع بها؟! لا سيما عندما تصبح مجرد "عبدة" بالمعنى الأقرب للدقة "لرجل حياة" لا يقدم لها أية واجبات ولا يكاد يلتزم إلا بقيد صك الزواج عندما يضع يديه فيه بعد تردد طويل، ويتحول الزواج من بعد إلى عمليات "تجارية" في سوق الحقوق القانونية.‏
                      لندن تلبس القصير أولا تلبس.. هذا شأن الذين يعرضون جسدهم بضاعة/ أو اللائي يعرضن/ وبضاعتهم جسداً مفرغاً من معنى الروح وامتدادها المتسامي ودفئها الإنساني، ولكن لندن ليست جسداً.. وليست مجرد سوق بضائع لأوربا والشرق، وليست أولئك الذين يسرقون الكحل من عينيك بأساليب مشروعة تقر السرقة بطرق قانونية وتتباهى بأنها " لطشتك " !! لندن مدينة تطحنك على مهل، فهي مطحنة الماء القديمة التي لا تكف عن الدوران واستهلاك موادها. وهي عامرة بالمتاحف التي تشكل المسروقات معظم موجوداتها : من الفرعوني إلى الآشوري إلى الكنعاني.. إلى.. ما شاء الله للسارقين أن يسرقوا..‏
                      وهي مدينة علم وأدب وفن.. ومدينة تكثر فيها الجامعات والكليات ومراكز البحث، ويكثر فيها أيضاً نوع من العرب الذين يحبون بلادهم ويحبون بعضهم بعضاً أيضاً لدرجة الإبادة؛ وأرجو أن تقرأ جيداً "الحب لدرجة الإبادة"!!‏
                      لندن مدينة تستيقظ فيها على خوف من الغد وعلى هرب من الأمس وتبقى لاحقاً وملاحقاً في حالتي نصَب وظمأ؛ وتخشى أن يستيقظ في زاوية من زواياها فجأة نلسون أو كرومويل أو حتى الملك المؤسس ليقتلك أو لينهب بلادك، وليمنّ عليك من بعد بشعر مرسل من "رديارد كبلنغ" بأنه يقدم لك خدمة "الاستعمار" النبيل، الذي ينقلك إلى عصر المدنية والحضارية الأنغلو-سكسونية، تلك التي تنطلق وتنطلق معها أوربا كلها والولايات المتحدة الأميركية نحو المعالم بمقولة عنصرية، قديمة حديثة تقول : "إن كل أرض خارج أوربا ليست ملك أحد no man,s land لأن الذين يسكنونها نوع منحط من البشر، أرقى من الحيوان قليلاً لكنه أدنى من الإنسان الأوربي"، وهو ما يبرر الاستعمار والاستغلال والإبادة وسرقة الأوطان ونهب العالم الآخر.. الثالث الرابع ..إلخ؟! أليست هذه هي نظرة الصهيونية إلى الغوييم؟! والصهيونية يهودية عصرية أكثر عنصرية؟! تأملوا واتعظوا يا أولي الأموال والألباب.‏

                      الأسبوع الأدبي/ع620//25/7/1998.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        الكرَم اليهودي بعد خمس سنوات
                        "عملية السلام وصلت إلى طريق مسدودة، وهناك جهود حثيثة تبذل لاستنقاذها من المأزق الذي وصلت إليه ." هذه هي خلاصة ما يقوله المعنيون بعملية السلام ومساراتها بشكل عام، سواء منهم أولئك الذين غرقوا في تيار الاستسلام ولا ينقذهم إلا المزيد منه، إذا كان ذلك بنظرهم إنقاذاً، أم أولئك الذين قالوا بخيار السلام ورفضوا شروطه ومواصفاته " الإسرائيلو- أميركية " وما زالوا في مواقع الصمود والنضال من أجل الحق والأرض؛ هذا على الضفة العربية، أما على الضفة الأخرى فهناك منطق من شقين متتامين :‏
                        - كلام مستمر عن السلام، وتحميل مسؤولية توقفه لمن لا يخضعون لشروط الأقوياء التي تُملى عليهم.‏
                        - وعمل مستمر لخلْق واقع على الأرض يقلل من فرص حصول "المسالمين" أو "المسَلمين" أو " المستسلمين "، على شيء جدير بالاهتمام، ويتجلى هذا الواقع في الاستيطان والتهويد وتطوير القوة العسكرية " الإسرائيلية"، وتمتين تحالفات الصهيونية وتوسيعها في المنطقة لفرض الهيمنة عليها.‏
                        أمَّا عالم : " رعاة السلام " والتابعين له، فهو عالم يستهلك الكلام عن السلام ويصدر الكلام عن السلام أيضاً، ويشوه صورة السلام وشروطه ومناخه عند اللزوم؛ وأهلُه مشغولون عن الفعل الجاد من أجل السلام أو متشاغلون عنه لأنهم يأخذون بالاعتبار مصالحهم والمخطط الصهيوني ومتطلبات تنفيذه وترسيخه والأمر الواقع الذي يخلقه على الأرض أولاً وآخراً؛ كما يضعون في حسابهم أن الكثيرين من الرسميين العرب لا يتفقون على موقف ولا يركزون عليه، وأنهم لم يطالبوهم في يوم من الأيام، بشكل جدي وشامل، بتنفيذ شيء محدد باتفاق وصرامة وثبات.‏

                        منطق نتنياهو القائم على الغطرسة والكذب معروف، وصوته في الولايات المتحدة الأمريكية مسموع ويردده "ايباك" ويضخه إلى الغرب وبقية أنحاء العالم مضخماً بخلاصة تقول : " لقد حصل الفلسطينيون على الحكم الذاتي وهذا آخر ما يحق لهم من مطالب حسب " أوسلو "، وهم لا يلتزمون بما تعهدوا به من "محاربة الإرهاب"، وعليهم أن يفوا بالتزاماتهم أولاً ـ كما تحددها "إسرائيل" طبعاً ـ لكي تتم عملية إعادة انتشار جديدة ونهائية مقدارها 13.1% تقسم إلى قسمين 10% تقدم الآن و 3,1 % تبقى تحت السيطرة الصهيونية بوصفها محمية طبيعية وتقدم لاحقاً عند التوقيع على المعاهدة النهائية !؟ وهذا هو منتهى الكرم " اليهودي "، ولكن هذا الكرم مشروط بشروط كثيرة يقدمها نتنياهو مع ما يسميه مبادرته التي تتضمن الموافقة على المبادرة الأميركية ؟!؟.‏
                        أما على المسارين : السوري واللبناني، فهناك وضع مختلف تماماً : تقديم صيغة انسحاب " إسرائيلي " مشروط تنفيذاً للقرار 425 الذي لا ينص أصلاً على أية شروط، واستئناف للمفاوضات على المسار السوري من نقطة الصفر وليس من النقطة التي وصلت إليها في " واي بلانتيشن" أيام حكومة حزب العمل، مع تغيير " ليكودي " يقول ـ حسب إسحق مردخاي وزير الحرب المتوافق مع رأي نتنياهو ـ : " أن يكون حجم الانسحاب من الجولان مرهون بحجم الضمانات الأمنية التي يمنحها السوريون لإسرائيل "؛ وليس هذا مجرد تغيير لمقولة رابين/ حزب العمل/ السابقة : عمق الانسحاب بعمق السلام، كما أنه ليس موقفاً أو قراراً " إسرائيلياً " للتنفيذ بل هو نوع من المناورة، التي ترمي إلى إيهام الرأي العام بجدية " إسرائيل " في متابعة عملية " السلام "؛ والواقع أنها لا تستهدف إلا التضليل ومحاولات ابتزاز مزيد من الأسلحة والمساعدات أيضاً، لأن تصحيحاً أو تأكيداً تم لتصريح إسحق مردخاي بيَّن أن عبارته التي قالها في لقائه مع مجلة " فوكس " الألمانية هي كما يلي : " إن إسرائيل سيكون بوسعها التنازل عن مزيد من الأراضي بعد تعزيز أمنها ". وهذا يفتح موضوع تعزيز الأمن على احتمالات ومتطلبات وطلبات عديدة.‏
                        وإذا كان منطق نتنياهو -الليكود- يجمع بين الكذب والخداع من جهة وقوة الوقائع الجديدة التي يخلقها على الأرض -الاستيطان والتهويد والتسلح- من جهة أخرى، فإن منطق الراعي الأميركي يلتقي معه في عدة أمور منها :‏
                        - الكذب والخداع اللذان وصلا حداً يجعل الموقف العام لذلك الراعي يترجح بين :" التقصير والعجز أو التسليم لإسرائيل و"ايباك" ومجلس المنظمات اليهودية بكل ما يريده من رأي وقرار ".‏
                        - التلويح بالانسحاب من العملية للإبقاء على صورة غير مشوهة نسبياً للأميركي بنظر بعض العرب، وعلى المد "الإسرائيلي" في قوته واندفاعه الاستيطانيين العدوانيين؛ وعلى حالة اللهاث عند جماعة أوسلو ووادي عربة خلف سراب العدل الأميركي والقناعة "الإسرائيلية "؟!‏
                        وهذا الوضع المستمر في التردي يطرح على العرب من جهة، وعلى المعنيين بعملية السلام من غير العرب، من جهة أخرى، موضوع البحث عن بدائل ملائمة أو وسائل ناجعة لوضع الأمور في نصاب مقبول يفتح باباً من أبواب الأمل؛ ومن هذه البدائل :‏
                        1- البديل الأوربي.‏
                        وحتى لا نغرق في الوهم من جديد نحب أن نؤكد أن أوربا حسب تصور "ديغول" التي يمكن أن تمارس دوراً مستقلاً عن الولايات المتحدة الأميركية، ولا نقول "معارضاً لها "، غير موجودة؛ وأن أي دور لأوربا في عملية السلام هو دور مكمل للدور الأميركي، يتم بالتنسيق مع الإدارة الأميركية أو يمارَس بتكليف منها عندما تعجز عن الحركة أو عندما تريد إخفاء اتفاق سري مع " إسرائيل " أو أن تدخل مدخل مناورات جديدة للوصول إلى أهداف صهيونية معينة. وعلى هذا فإن الدعوة إلى مؤتمر دولي جديد يأخذ بالاعتبار مرجعية مدريد، هي احتمال مشوب بكثير من الغصص والمخاوف والشبهات؛ لأنه ما الذي يضمن أن تتم المحافظة على مرجعية مدريد فعلاً؟! ومن الذي يضمن أن المؤتمر البديل سيعطي دفعاً أو يحافظ على دفع جديد من أي نوع لعملية السلام، في ظل مشروع استعماري- استيطاني صهيوني مستمر يعمل حسب مرحلية يُختار لها التكتيك الملائم تنفيذاً لاستراتيجية ثابتة؛ بعد الذي شهدناه وعرفناه وتابعناه منذ مؤتمر مدريد حتى اليوم؟‍!‏
                        ومن الذي يرى في المؤتمر البديل، أو المؤتمر السند لمؤتمر مدريد، قوة، بعد أن تأخذ الولايات المتحدة حريتها التامة في الوقوف بعيداً عنه أو في حالة تنصل تام منه، وهو ما يسعى إليه "ايباك" وحزب الليكود والمتصهينون الأميركيون الذين اكتشفوا جميعاً بعض جوانب عري الصف العربي عامة والفلسطيني خاصة، لا سيما خلال السنوات الماضية من هذا العقد!؟!‏
                        2- التضامن العربي لتحقيق دفع إيجابي في منحيين :‏
                        أ - منحى تشكيل موقف عربي موحد وقوي نسبياً لدخول معترك " السلام "؛ ويبدو هذا حلماً ملائماً وليس واقعاً منتظراً، بعد أن وقَّع من وقَّع على اتفاقيات ومعاهدات تجعله ملتزماً بالتنسيق مع العدو الصهيوني أكثر من استعداده للالتزام بأي تنسيق مع قطر عربي أو أمة عربية " أفلح " في التملص من الانتماء إلى معركتها والالتزام بقضاياها ؟!.‏
                        ب- وإذا كانت مصر "كامب ديفيد" وأردنّ "وادي عربة والمعاهدة التي تلتها " وفلسطين " أوسلو " قد تم تحييدها كلها على الأقل، بالنسبة لجوهر الصراع العربي الصهيوني بوصفه صراع وجود مع وجود، كما تم إلزامها باختيارات لا تفضي إلى تأكيد الحق العربي في فلسطين أو تأييده بَلْه الدفاع عنه والقتال من أجل استرداده؛ فما معنى تضامن عربي مفرَّغ من مضمونه عملياً، وما جدوى اجتماعات تزرع الشك ولا تقيم جسور الثقة بين الأخوة، بعد الذي آل إليه وضع التضامن العربي من ضعف وتهرؤ منذ بداية عقد الثمانينات حتى اليوم؟!‏
                        جـ - منحى تشكيل قوة، بالمعنى الشامل للقوة، قادرة على خلق واقع جديد على الأرض. وهذا النوع من الاختيارات محكوم بالوضع العربي العام، وبالحالة القطرية المتورِّمة، وبالوضع الدولي ومعطياته ومتغيراته.‏
                        وحين ندقق في الوضع الآن ونتأمل في معطياته بشيء من الابتعاد الافتراضي عن لججه وتفاصيله، ونمارس ما يشبه الاستشراف المستقبلي، نجد أمامنا الوقائع والمعطيات والإمكانيات الاحتمالية الآتية :‏
                        1- تكثيف الاستيطان في الجولان ـ بناء 2300 وحدة سكنية و 2500 وحدة سياحية جديدة ـ وفي الضفة الغربية والقدس وبعض مستوطنات غزة، ويتواكب ذلك مع ازدياد الغطرسة الصهيونية وتعزيز ميزانية الأمن والقوة العسكرية والاقتصادية للعدو. ويبدو أن مواجهة الوقائع الجديدة، التي يخلقها العدو ليضع الجميع تحت الأمر الواقع، مواجهتها بوقائع جديدة عربية هو من الأمور المطلوبة والمستبعدة في آنٍ معاً؛ لأن تصعيد المقاومة وإقامة قرى الثغور المطلوبة وتركيز الحضور المضاد في كل مجال من مجالات المواجهة، كل ذلك يحتاج إلى قرار سياسي وإرادة سياسية وقوة، بشمول معنى القوة، وسند دولي يعتد به.‏
                        2- قيام محور عربي رسمي يضغط باتجاه تعديل جذري في موقف العرب الذين وقعوا معاهدات مع العدو، لتحقيق تحوّل في موقفهم لجهة تعزيز التزامات قومية تعلو على التزاماتهم حيال " إسرائيل "، ومن أجل رؤية مستقبلية تجعلهم يرون إمكانية أن تقوم في العالم قوة محتمَلة غير القوة الأميركية، التي تُدْرِجهم في حساباتها وأرصدتها وتستدرجهم إلى مواقف مؤيدة في المحصلة النهائية للباطل الصهيوني- الأميركي الذي يجسده الاحتلال والمشروع التوسعي ـ الاستيطاني المستمر.‏
                        وهذا أمر له ماله وعليه ما عليه، ويُخشى أن يؤدي ـ إذا ما فرضته قوة ـ إلى مواجهات عربية جديدة وإلى تعميق الشرخ القائم بين أقطار عربية وأخرى !! ولكن يبقى السؤال قائماً ومشروعاً : هل يمكن أن ينشأ وضع عربي جديد يأخذ استراتيجية التحرير بالاعتبار من دون تحقق ذلك التحوّل ؟!؟‏
                        3- اعتماد بعض الأقطار العربية المعنية بالقضية الفلسطينية سياسة خاصة للمواجهة تنطلق من قواها الذاتية، على أرضية ما أراه حقيقة قائمة ومستمرة وهي أن المشروع الصهيوني مشروع مستمر في عدوانيته ولا يوقفه أي " سلام " عند أي حد، ولن تردعه إلا قوة، وأنه في وجوده أصلاً واستمراره مناقض ومضاد بشكل تام لأي مشروع نهضوي عربي ومهدد له؛ ولذلك فلا بد من الاستمرار في التأسيس والاستعداد لحسم الصراع العربي الصهيوني بالقوة، طال الزمن أم قصر. وهذا يستدعي العمل بثقة وإبداع وجهد خلاق، وصبر طويل، وأمل مفتوح، وباعتماد تام على العلم والإيمان والعمل بهما؛ والانطلاق من ثوابت مبدئية شاملة يتم العمل من أجل تأكيدها واستقطاب الناس من حولها بكل الوسائل والأساليب، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً، ومواجهة حقيقة الاختيار المضني القائم على اعتماد مبدأ : احترام الحق وتحمل تبعات تحصيله، أياً كانت الصعوبات والتكاليف والتضحيات.‏
                        ولا أخفي ميلي التام لهذا النوع من الاختيارات المبدئية، على أن ينال القدر الكافي من العمل والتخطيط والإعداد والاستعداد، في ظل رؤية مستقبلية شاملة، ومرونة سياسية في تحديد المرحليَّات ومتابعتها، لا تغفل الثوابت الاستراتيجية ولا تحيد عنها؛ رؤية توظِّف كل شيء وكل جهد وطاقة من أجل تحقيق مشروعها، تبدأ من التربية والتعليم وتتوسع في أدائها لتشمل كل مناحي التكوين والتثقيف العمل والإنتاج والعيش والسلوك والمواجهة.‏
                        إن هذا النوع من الاختيارات صعب وقد يبدو، من جهة نظر بعض الذين جرفتهم الرؤية الأميركو- صهيونية لمستقبل المنطقة، قد يبدو نوعاً من العيش خارج التاريخ وخارج العصر وخارج الممكن !؟ ولكن من قال إن كل ما أنجز في التاريخ أنجز على أساس من المنطق؟! ومن قال إن المشاعر الوطنية والقوى الروحية والكرامة القومية ينبغي أن تُغفَل ويُغفَل تأثيرها في الحياة وفي تغيير مجرى الأحداث والتاريخ ذاته !؟ ومن قال إن حب الوطن والدفاع عن النفس والحق والمبدأ لا يقدمان دفعاً روحياً للإنسان لا حدود لتأثيره في مجرى التاريخ ؟!‏
                        إن التاريخ والممكن تصنعهما دائماً إرادة مصممة على أن تفرض وجودها وتدافع عن مشروعها وتؤسس لحماية ذينك الوجود والمشروع بعمل دؤوب لا يُغْفِل معطى الواقع والمنطق من جهة ومعطى الروح والأمل والتضحية والطموح من جهة أخرى.‏
                        إن " إسرائيل " في ظل أي "سلام" محتمل ومقبول من بعض العرب أو من العرب رسمياً، ستبقى عامل عدم استقرار في المنطقة، ومصدر احتمالات لا نهاية لها لحالات من العدوان والابتزاز والإرهاق؛ وهي قبل ذلك كله وبعد ذلك كله -في وجودها واستمرارها ونموها- تجسيد للعدوان والقهر ولعوامل الإذلال التي تلحق بالأمة العربية، واستمرار لعوامل إضعافها وتمزيقها وتخلفها والاستهانة بحقوق أبنائها وبمقدساتها وتاريخها؛ فهل يمكن أن نقبل وجود التهويد والتهديد والتحدي البغيض صباح مساء، أم أن هناك مدى للاحتمال وحداً للصبر وفجراً وانفجاراً معاً لقوة، مادية وروحية، تؤكد الحق والكرامة وتستنقذهما؟!‏
                        إنني مع الحياة الكريمة بتكاليف ضخمة ولست مع الذل الممزوج بسعادة زائفة.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع624//29/8/1998‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          الإرهاب الأميركي
                          ماذا تريد الولايات المتحدة الأميركية من عدوانها على مصنع الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري، الذي يزوِّد السودان بـ 50 % من حاجته للأدوية، في ظل اجتياح الجوع والمرض والأوبئة للسودان، جراء فرض الحرب الأهلية والتدخل الخارجي والحصار الأميركي الظالم عليه؟! هل تريد تأديب " أسامة بن لادن " ومنعه من الحركة بتدمير البنية التحتية لممتلكاته التي تسند ما تسميه " إرهابه " حسب تصريحات مسؤوليها، فأخطأت الهدف والتقدير؟! أم أنها تستهدف السودان وسيادته ونظام الحكم فيه واختياراته القومية والإسلامية وقوته الذاتية ، التي تعمل على حماية وحدته أرضاً وشعباً وتتصدى للحركات الانفصالية والتبشيرية المعادية لهوية السودان وانتمائه القومي ونظامه الإسلامي ؛ وهي تكذب في ادعائها استهداف بن لادن في السودان، وهو لا يملك مصنع الشفاء للأدوية وليس شريكاً فيه؟! أم أنها تدافع عن نفسها وعن أمنها القومي " ؟!؟ " ضد السودان الذي ينتج ـ كما تدعي ـ عنصراً من العناصر التي تستخدم في إنتاج غاز الأعصاب v.x ـ وهو ادعاء ثبت كذبه ـ وهي التي تملك أكبر ترسانة في العالم من أسلحة الدمار الشامل بأنواعها، مما يكفي لتدمير الكرة الأرضية عدة مرات، وتحمي " إسرائيل التي تملك هذا النوع من الأسلحة وتهدد بها العرب والمسلمين؟! أم أنها تستهدف السودان وابن لادن ، والدعوة القومية، والصحوة الإسلامية في العالم ؛ وتستهدف السلاح الذي رفعه البشير ـ وهو لا يملك سلاحاً يرفعه بوجه الولايات المتحدة الأميركية بعد الغارة على مواطنيه وعقيدته وبلاده، فرفع سلاح : لا إله إلا الله، سارت به الجماهير السودانية بقلوب عامرة بالإيمان، فاستحق هو والأفغان وكل من يقول أمة عربية ولا إله إلا الله، في طول الأرض وعرضها، عقاباً ذا مفعول مستقبلي وملاحقة أميركية ـ صهيونية دائمة، وإبادة بلا رحمة ؟!؟‏
                          إن أسامة بن لادن، والقائمة التي تضم مجموعة كبيرة من الشخصيات والتنظيمات والمؤسسات، تلك التي تعلنها وتجدد إعلانها وزارة الخارجية الأميركية، وكذلك السودان وسورية وليبيا والعراق وإيران وكوبا وكوريا الشمالية، كل أولئك تضمهم " القائمة المقدسة " قائمة اللوبي الصهيوني، فهم على لائحة الإرهاب الأميركية، لائحة : مادلين أولبرايت ووليم كوهين وساندي برغر ومارتن إندك ودنيس روس ... إلخ، أو لائحة نتنياهو وشارون وأفيغدور كهلاني وشامير ... إلخ ـ ليس هنالك فرق، فالكل يهود ـ صهاينة، يعملون على أرضية العنصرية التلمودية لخدمة يهود عنصرية ومشاريع ـ توسعية ومصالح مشتركة ؛ فالذي يملك قرار الإدارة الأميركية ومجلسي الكونغرس فعلياً هم يهود صهاينة : من " ايباك " إلى مونيكا لوينسكي، التي تلهم للرئيس الأميركي كلنتون المتعة والكذب والأوامر العدوانية وممارسة إرهاب الدولة، برقصها عارية في مكتبه في البيت الأبيض، على ذمة شهود من أهله، شهود التحقيق الذي يشرف عليه ستارت !! ومن يصنع القرارَ أو من يُصنَع لمصلحته القرارُ : هم يهود صهاينة أيضاً يقيمون مشروعاً استعمارياً بقوة الإرهاب في فلسطين المحتلة، ويستمد ذلك المشروع دعمه الشامل والمطلق من قوة الولايات المتحدة الأميركية بالدرجة الأولى، التي غدت، بسبب التسخير اليهودي البشع لشعبها ووضعه في خدمة قضية ظالمة، غدت : قرصاناً شريراً ينشر الرعب والظلم عبر العالم، والراعي الأول للإرهاب فيه، والمكروه الأكبر من قبل شعوبه .‏
                          هل تريد الولايات المتحدة الأميركية بشنها عدواناً سافراً على السودان وأفغانستان البلدين العضوين في الأمم المتحدة إعلان حرب على الإرهاب فعلاً؟! أم أنها تريد إعلان حرب حقيقية على الإرهاب فأعلنت حرباً على العرب والمسلمين؟! أم أن العرب والمسلمين تماهوا عندها مع العدو " الإرهاب"، فلم تعد ترى بينهما فرقاً وأضافت إليهم : العروبة والإسلام، القومية والدين ؛ ورأت في كل يقظة أو نهضة من أي نوع في هذا الكيان خطراً على " إسرائيل" وتهديداً لها ؛ ولما كان هدفها الأول في هذه المنطقة من العالم هو حماية " إسرائيل " فقد أعلنت عن حملتها الحربية الطويلة الأمد، لتضع حداً لذلك النوع من التهديد ـ التحرير ـ اليقظة، أي نهضة العروبة والإسلام ؟!‏
                          قد يكون الهدف من العدوان على السودان وأفغانستان هو تعديل الميزان النفسي للشعب الأميركي الذي تأذى من الاعتداء على سفارتيه في نيروبي ودار السلام، ومن جرح كرامته بالكذب عليه من قبل رئيسه في فضيحة لوينسكي؟! ومن حق الشعب الأميركي أن يتأذى وأن يستعيد توازنه النفسي المختل من جراء ذينك الحدثين الفظيعين ؛ ومن حق الولايات المتحدة الأميركية أن تدافع عن رعاياها وسفاراتها وسيادتها وعن مزاج مواطنيها ؛ ولكن كيف يكون ذلك الدفاع من جهة، ولماذا يكون ذلك العدوان من جهة أخرى؟! ولماذا يتوجب على العرب أن يدفعوا دائماً ثمناً باهظاً في كل مناسبة يتعرض فيها المزاج الأميركي والصهيوني للخلل بانحراف رئيس أو اكتشاف فضيحة أو قرب انتخابات برلمانية أو رئاسية؟!!‏
                          لا يمكن أن يكون " الدفاع " بالعدوان، واختلاق الذرائع لسد فجوة في الاحتمالات، لا سيما في حالة عدم التكافؤ وغياب الدليل القاطع وعدم وجود حالة حرب وقيام الاعتراف بالسيادة ؛ ولا يمكن أن يكون العدوان الإرهابي المكشوف من دون خلفيات بعيدة الأثر تتصل برسيس صليبي ـ عنصري ـ صهيوني مقيت، وبنزوع استعماري وتعال بغيض .‏
                          إن الجرأة الأدبية التي تحتاج إليها سياسة الولايات المتحدة الأميركية، لكي تطرح على نفسها أسئلة جدية وجذرية وتلتمس لها أجوبة موضوعية مقنعة، لا يمكن أن تتحقق ـ بتقديري ـ مع استمرار قيام ذلك الخلل الخطير في مجالين رئيسين من مجالات الحياة والعمل هناك :‏
                          ـ الإفلاس الروحي والخلقي الذي غدا سمة الحياة والممارسات الأميركية، وهو يتجلى في : ازدواجية المكاييل المفضوحة، والكذب المخزي على مستوى الرآسة والمستويات الأخرى، واستخدام الديموقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عن الحرية سلعاً سياسية وذرائع للوصول إلى مصالح اقتصادية ومالية، ولتحقيق غايات استعمارية، ونشر هيمنة، والوصول إلى ابتزاز ونهب وترهيب.‏
                          ـ ازدواجية الولاء من قبل معظم العناصر النافذة الرأي والقرار في السياسة الأميركية، وأعني ازدواجية ولاء اليهود الأميركيين لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية ـ والأولى مقدمة عندهم على الثانية ـ ذلك الازدواج الذي يسفر عن وضع قوة الدولة الكبرى وثقلها السياسي والعسكري العالميين في خدمة مشروع الكيان السرطاني الصهيوني في فلسطين ؛ ويحوِّل الولايات المتحدة الأميركية، التي تربطها بالوطن العربي والعالم الإسلامي مصالح ضخمة وكثيرة، من دولة يُتوَخَّى منها الصدق والإخلاص والنزاهة خدمة لمصالحها ولمن يبادلونها تلك المصالح وإشاعة للعدل والسلام اللذين لا يستتبان إلا على أساس متين منه، إلى دولة منحازة كلياً مخادعة بقذارة، كاذبة حتى النخاع، متحالفة مع أعداء العرب والمسلمين، تدفعها شرورها وشعورها بظلمها لهم إلى الخوف من يقظتهم وقوتهم، ومن ثم الخوف من كل ما قد يساهم في ولادة تلك اليقظة وتكوين تلك القوة التي لهم على أساس مكين من الوعي والعلم والإيمان ؛ وهذا يجعلها تتآمر عليهم وتشك فيهم وتعتدي عليهم وتؤيد من يعتدي عليهم، وتعمل على تشويه صورتهم وثقافتهم، وتذهب إلى البحث عمن يساعدها في حماية مصالحها عند اللزوم !!‏
                          ولكن عندما تصبح تلك المصالح بحجم الاحتلال وسرقة الوطن والتهديد المستمر للوجود والمقدسات والهوية والعقيدة الدينية، فهل يمكن أن يتوقع الأميركي من العربي والمسلم أن يبقى مستسلماً خائفاً خانعاً وذليلاً؟!‏
                          الصهيونية تقول للأميركي ـ للشعب المبعد عن الحقيقة وعن شؤونه السياسية، الذي تصور له العربي عدواً وغولاً همجياً ـ إن العرب والمسلمين لا يمكن أن يفهموا إلا بلغة القوة، وهي المدخل الوحيد لجعلهم يقبلون ما يملى عليهم ويسكتون !؟ وأنه يجب أن يحرموا من امتلاك أية قوة لأن امتلاكهم لها يجعلهم يسيؤون استخدامها ؟!؟‏
                          ولكن من وما الذي يمكن أن يقنع الأميركي خاصة والغربي عامة بأن ما يقدِّمه له الصهيوني كذب وخداع وتضليل، ومن الذي يدخل هذه المراهنة حين يعززها تصرف بعض الحكام العرب، وتورط بعض الأنظمة العربية، التي تبيع نفسها للشيطان في سبيل البقاء على كرسي من ذل وعار؟!‏
                          لا يوجد حالة إنقاذ لمن يرفض أن يتجرع الذل وأن يتنازل عن الأرض والدين والحرية والكرامة إلا أن يقاوم دفاعاً عن نفسه وعن حقه في الحياة، عن وطنه ودينه وثقافته ونوع الاختيار الذي يختاره في الحياة؟! ولكن ذلك الدفاع عن النفس والحق يصبح إرهاباً بعرف من يملكون القوة وينصِّبون أنفسَهم مشرعين ومفسرين للتشريع وقضاة وهم أشد الخصوم !! هنا تنشأ المشكلة ويبدأ التعقيد، ومن هنا يبدأ الاكتشاف الحق لمن يريدون عدلاً واطمئناناً وأماناً لهم وللآخرين ؛ ويكون ذلك بمواجهة الحقائق والأسئلة الصعبة بشجاعة وموضوعية ونزاهة وقدرة على التخلص من داء الانحياز وعمى العلاقات الحميمية، ومن عمى الحب : والحب أعمى كما يقول المثل العربي؟!‏
                          فهل يستطيع العقل الأميركي أن يرى حقيقة المعضلة في : أن العدوان وممارسة إرهاب الدولة، والاعتداد بالقوة، واستخدامها بغطرسة وعمه لن يولد عند المظلومين، عند العرب والمسلمين، حالة الاستكانة والذل والاستسلام، ولن يجعلهم يلقون سلاحهم ويقتلون الأمل في قلوبهم وطاقة الإيمان في أرواحهم ويتخلون عن كل ما يكون وجودهم !؟ بل إن ذلك سيدفعهم إلى المواجهة، وإلى تمجيد من يرفع راية المقاومة ؛ وأنه عند ذلك لن يصبح الحاكم الموالي لأميركا والمتحالف مع " إسرائيل " هو الأقوى وهو سيد الساحة وهو المحمي بشكل مطلق، حتى لو أمدته الولايات المتحدة الأميركية والغرب و" إسرائيل " بالدعم والسلاح ؛ إنه ستحول إلى عدو أو إلى أداة بيد العدو ينبغي تحييدها بكل الوسائل لكي تنطلق المقاومة وتستمر وتنتصر ؛ وهذا يقدح شرارة في كل نفس وفي كل مكان، ليس ضد أميركا وإسرائيل والغرب فقط وإنما ضد كل من يناصرهم ويكرس الظلم والطغيان والقهر. هذا لا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية وأعوانها، أو الذين يستخدمون الولايات المتحدة وأعوانها، لن يجدوا عملاء ولن ينتصروا في معارك، ولكنه يعني أيضاً فتح باب الصراع على مصراعيه بين الشعب العربي وشعوب العالم الإسلامي من جهة وبين العدوان والإرهاب الأميركيين ومن يمثلهما ويتعاون معهما ؛ ويعني انتقال هذه المواجهة إلى آفاق أعمق من المصالح والمنافع والسيطرة الآنية.‏
                          وإذا ما بلغت الأمور هذا الحد فمن الذي يستطيع أن يقدر ما يمكن أن تصل إليه؟! ربما ترتفع في فضاء الذهن الصهيوني ـ الأميركي مقولة مادلين أولبرايت عندما سألت زميلها وزير الدفاع : ما فائدة أكبر جيش في العالم إذا لم يُستخدم؟! ومعنى استخدام أكبر جيش في العالم هو تحقيق أهدافه؟! ولكن لكل شيء ثمن، ولكل قوة حدود، ولكل ظلم نهاية ؛ ولا أظن أن النهار الأميركي بلا ظلام يلاحقه، هذا إذا تراءت القوة الإرهابية بعين صاحبها وصانعها نهاراً !؟‏
                          إن العدوان الأميركي على السودان وأفغانستان إرهاب بشع بكل معاني إرهاب الدولة وبشاعته، وهو ما تمارسه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني يومياً، ولا يمكن أن يؤدي ذلك بنا إلى أن نكفر بالمقاومة أو أن نتوهم أنها إرهاباً نأخذ به، ونحن الذين نكتوي يومياً بنار الإرهاب وندينه ونشجبه ونعلن عن معاداتنا لمن يمارسه ؛ كما لا يمكن أن يولد العدوان وإرهاب الدولة ذاك لدينا خنوعاً واستسلاماً، ولن يهيئ لإسرائيل الفرصة الذهبية لتأخذ من العرب : القدس والأرض والسلام، وتنجح في تشويه صورة العروبة والإسلام!؟!‏
                          وعلى أصحاب الحسابات الدقيقة أن يراجعوا حساباتهم قبل فوات الأوان، قبل أن يلغوا في الدم أكثر، ويدفعوا المنطقة في أتون حريق مهول لن يتوقف عند حدودها .‏
                          الأسبوع الأدبي/ع625//5/9/1998‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            النار بين إيران وطالبان
                            هل يجرُّنا الصهاينةُ الحكام في واشنطن والمتحكِّمون في قرارها اليوم إلى دوامة الدم والنار من جديد؟! وهل يفلحون هذه المرة في إشعال نار الفتنة بين إيران وطالبان " أفغانستان "، وهي إذا ما اشتعلت هناك لن تتوقف عند حدود يظن البعض أنها يمكن أن تنحصر فيها أو تتوقف عندها؟! وهل يتم تنفيذ البرنامج الذي بدأ العمل عليه بجدية تامة منذ بداية هذا العقد ـ بعد أن وضِع الإسلام في موقع الشيوعية على لائحة أعداء الغرب والصهيونية ـ للقضاء على الإسلام بتسخير أيدي المسلمين أولاً لتأدية ما يأمر به الغرب والصهاينة وما يتمنونه ويعملون من أجله : من تشويه لصورة الإسلام، وجعل " مسلمين " يصنعون ذلك ويتسببون به، ثم الانقضاض على ساحات العالم الإسلامي، ساحة بعد ساحة، في دوامة انشغال المسلمين بحروبهم الداخلية وصخبهم الخارجي وضائقاتهم الاقتصادية وتنافرهم المميت !؟‏
                            في بداية الثمانينيات اشتعلت حرب بين : " عرب ومسلمين " بتحريض واستدراج أميركي ـ صهيوني، وفتك كل من البلدين المسلمين الجارين، العراق وإيران، بالآخر فتكاً ذريعاً؛ وكادت الحرب تتحول إلى حرب العرب والفرس، لولا بعض المواقف المعتدلة والبعيدة النظر؛ وغطى الغرب عجز ميزانياته وشغَّل مصانع الأسلحة بأموال العرب والإيرانيين، وتحكم بقرار المنطقة وبرقاب الناس فيها؛ وأضعفت الولايات المتحدة، ومعها الغرب والكيان الصهيوني، أضعفت : إيران والعراق والعرب ولكنها لم تقض نهائياً على أحد الأطراف، وحققت انتقاماً بشعاً من الإيرانيين بسبب احتجاز الرهائن الأميركيين وتحويل إيران إلى الصف العربي ـ الإسلامي المستقل وإسقاط نظام الشاه، بعد أن كان جيشه في خدمة المصالح الأميركية، وكانت السفارة الإسرائيلية في طهران.‏
                            وفي التسعينيات تم وضع المنطقة في أتون حرب عربية ـ عربية غبية، فرضها حمقٌ وطمعٌ، وانزلاقٌ غير واعٍ من حاكم العراق على تلميحات " إبريل غلاسبي "، تطلعاً إلى تلبية طموحات شخصية خرقاء بأسلوب دموي؛ وقد انعكست تلك الحرب : استنزافاً لأموال العراق والخليج العربي، وتدميراً للوضع العربي وللعراق، الذي ما زال شعبه في معاناة مستمرة جراء ذلك؛ كما أسفرت عن وجودٍ مباشر للقوة العسكرية الأميركية في المنطقة يستنزفها استنزافاً بشعاً في مجالات كثيرة ويهدد قرارها إن لم نقل يسلبها القرار. وشقت تلك الحرب الصف العربي والشارع العربي في العمق كما لم يحدث من قبل؛ وقادت من بعد إلى مؤتمر مدريد وما فرضه من توجهات ومفاوضات واتفاقيات إذعان، ما زلنا نحصد نتائجها حتى اليوم ولا نعرف متى يتوقف النزيف وحصاد الزؤان ذاك !!؟.‏
                            في ظل مثل هذه الظروف والمعطيات والأوضاع تغيم الرؤية عادة، ويقود الألم إلى مزيد من الخسائر والألم، ويرسم الانفعال وجرحُ الكرامة تفاصيل المشهد السياسي والاجتماعي، ويمليان التحرك؛ وتكرُج كرة الثلج في المنحدر الوسخ، وتزداد ضخامة واتساخاً كلما ازدادت حركة واندفاعاً، ويغرق المشرفون على الأمور في تفاصيلها، فتغيب عنهم الصورة العامة للوضع العام: عربياً وإسلامياً على الخصوص، كما في هذه الحالة؛ وفي هذه العتمة يتدخل محتطبو الليل ببلطاتهم التي لا ترحم.‏
                            وهكذا وجدنا أنفسنا في دوامة العنف والدم، تتناوش عالمنا القوى وتنهشه من أطرافه، وتمعن في قتل روحه المعنوية وثقته بنفسه وعلاقاته بعضه ببعض؛ وتتمادى في تشويه صورته ومراكمة المسوِّغات التي تؤدي إلى الحكم عليه من خلال تصرفات تُضَخَّم وحوادث تُوظَّف للوصول إلى أهداف محددة مسبقاً !؟ هل هي الخطة المدروسة المدبرة بإحكام !؟ أم هي عقلية المؤامرة التي تصور لنا أن هناك خطة تآمرية مدبرة؟! أياً كان الأمر فقد وصلنا إلى النتيجة ذاتها، وليس هنا مجال تفنيد هذا الرأي أو ذاك؛ ولكن الوقائع والمعطيات تشير بوضوح تام إلى أمرين في غاية الوضوح :‏
                            الأول : اشتعال النار في أطراف العالم الإسلامي، وتدبير المذابح ضد المسلمين والسكوت عليها؛ وإضرام نار الفتنة والتحكم بتوهجها وامتدادها بشكل يبدو مدروساً. ويمكن أن نستحضر وندرس جيداً بعض الأحداث لنتابع رسم المشهد ودراسة مكوناته وتأثيره وتطوره وما قد يسفر عنه استمراره على هذا النحو من نتائج؛ ونحن نستحضر على سبيل المثال لا الحصر : مذابح العدو الصهيوني ضد الفلسطينيين، " من مذبحة الحرم الإبراهيمي إلى مذبحة " قانا " وتهديد القدس بالتهويد والمسجد الأقصى بالهدم، وزحف الاستعمار الاستيطاني على فلسطين والجولان، واستمرار القصف الصهيوني يومياً لجنوب لبنان ـ مذابح الصرب ضد المسلمين في البوسنة والهرسك وما لحق بهم من دمار ـ القتل والتدمير اللذين تعرض لهما الشيشان ـ أحداث كشمير وحرق المسجد الأثري فيها وعدوان الهندوس المستمر على المسلمين، والتوتر الذي أخذ يتنامى هناك بشدة على تلك الأرضية " القديمة الجديدة " وسواها من المعطيات بين الهند وباكستان ـ حرب الصومال ـ حرب السودان في الجنوب من أجل وحدة أرضه وشعبه ضد قوى انفصالية مدعومة من الغرب على الخصوص، وضد تبشير ديني غربي يستهدف العقيدة والثقافة، ومقاومة اللغة العربية والثقافة العربية بشكل معلن ومكشوف من دول تحرضها الولايات المتحدة الأميركية " وإسرائيل " وتقدمان لها الدعم ـ الحرب المنهكة في أفغانستان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وهي المنذِرَة اليوم بويلات أكبر وأشمل ـ أحداث الجزائر وما حملته وتحمله من فظاعة وبشاعة وإساءة لصورة المسلم، وما تخفيه من حرب ضد العروبة والعربية والإسلام، تُشنُّ من قبل قوميات وثقافات وقوى استعمارية أو مرتبطة بالاستعمار، وما ينذر به هذا التيار، الذي يحمل أكبر الأخطار على هوية دول المغرب العربي وعلى وحدتها الوطنية وانتمائها العربي، ما ينذر به من مخاطر كبيرة على المغارب العربية كلها ـ ويمكن أن نضيف إلى القائمة الكثير مما نراه في تركيا وشمال العراق وفي كوسوفا الحزينة.. إلخ.‏
                            وبعد أن وصلنا اليوم إلى ذروة التصعيد الحالية، التي تكمِّل المشهد السياسي القاتم المضمَّخ بالبؤس والدم وفساد الخلُق وسوء الرؤية، والمتحرك على أرضية قلقة من الخوف وانعدام الثقة؛ وبعد أن بدأ تهديد إيران بالانتقام لدبلوماسييها المقتولين ولحلفائها المهزومين من طالبان، واستعداد طالبان " أفغانستان " للرد على ذلك التهديد؛ ووضع باكستان في حالة انشداد قسْرية للحدث، وتلطّي الهند خصوصاً في الظل لاقتناص الفرصة السانحة ضد الباكستان؛ ودخول تركيا ـ حليف إسرائيل وأميركا ضد كل من سورية ولبنان والعراق وإيران من جهة وبوابة المصالح الأميركية والقوة الأميركية "الإسرائيلية" على إيران ودول آسيا الوسطى ونفط بحر قزوين من جهة أخرى ـ دخولها على خط الحدث للقيام بدور يرضي حلفاءها ويحقق لها بعض المصالح؛ بعد ذلك كله كيف يبدو لنا الأفق السياسي للمنطقة وللعالم الإسلامي، مع وجود مجنون عنصري دموي في الكيان الصهيوني هو" نتنياهو "، ووجود فاسد خلقياً يقود دولة مفلسة روحياً هو كلنتون يريد أن يستر عريه ولو بدم الآخرين من عرب ومسلمين، ووجود مجموعة يهودية ـ صهيونية تصنع قرار أكبر دولة في العالم، وتؤثر على سياسة دول كبيرة أخرى على رأسها روسيا الاتحادية التي يرأس وزراءها اليهودي بريماكوف؟!‏
                            إن الذي سيدفع غالياً ثمن الفعل غير المدروس جيداً هم العرب والمسلمون، والذي سيتلقى الضربة بعد الضربة هو الإسلام، ممثلاً بالمسلمين الذين يشكون هزالاً وهواناً وتتناوشهم أنياب الذئاب من كل جانب!!؟‏
                            فهل لنا أن نتطلع إلى تحرك عربي ـ إسلامي منقذ يضع حداً للتهديد المتبادل وللتوتر الذي يكاد أن يشعل الهشيم بين إيران وطالبان، أو بالأحرى بين ما لا يمكن تحديده من قوى يمكن أن تدخل على الخطوط الساخنة في هذه المواجهة المحتملة، التي لن تكون في مصلحة أحد من العرب والمسلمين على الأقل؟! ينبغي أن يبادر الواعون القادرون إلى فعل شيء منقذ، وينبغي ألا يَرْكن أحد لِبُعْد الضربة عن رأسه، فما يبدو اليوم بعيداً هو في طرف من أطراف الجسم الواحد، والمستهدف فعلياً هو الجسم الذي نحن منه : جسم العالمين العربي والإسلامي. فلنطفئ النار بين إيران وطالبان، قبل فوات الأوان، وقبل أن نحترق بأوارها على نحو ما.‏
                            " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون "‏
                            صدق الله العظيم.‏

                            دمشق في : الاثنين، 23 جمادى الأولى، 1419 الموافق الاثنين، 14 أيلول، 1998‏

                            الأسبوع الأدبي/ع627//19/9/1998‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              التحالف الشرير إلـى أين ؟!
                              لقد وصل التحالف التركي الإسرائيلي، الذي وقِّعت اتفاقياته الأولى في 23 شباط 1996، إلى مراحل متقدمة جداً من حيث التنسيق والتخطيط والتدريب، وهو تحالف استراتيجي شامل بالمعنى السياسي والعسكري والاقتصادي للكلمة، ترعاه الولايات المتحدة الأميركية وتدعمه وتساهم فيه وتطوّره، وتعمل على انضمام بلدان عربية إليه، لا سيما المملكة الأردنية الهاشمية، التي أصبحت بصورة عملية عضواً فيه، على الرغم من محاولات التكتُّم على ذلك ونفيه وإظهار الاعتراض على فكرة إقامة أحلاف في المنطقة، كما أشار بعض المسؤولين في المملكة.‏
                              نحن حقيقة أمام تحالف وصفه " دافيد بار إيلان " المستشار السياسي للعنصري نتنياهو بقوله : " إنه تحالف استراتيجي، وأحد أكثر نقاط التحوُّل أهمية في التاريخ الحديث للشرق الأوسط ."، وهو تحالف يرمي إلى تكوين " نظام أمني في المنطقة " حسب تعبير نتنياهو، نظام يرسِّخ " السلام والأمن " بالمفهوم الإسرائيلي ـ الأميركي للسلام والأمن، نظام " لبناء الاستقرار الإقليمي فيها "/ مسعود يلماظ /؛ وهو ما أكده على نحو ما ولي العهد في الأردن الأمير حسن، نظام لبناء استقرار بالمفهوم " الإسرائيلي " الذي يرى استقراراً في بقاء شعب خارج أرضه ويريد من ذلك الشعب التسليم بأنه لا يرقى إلى حدود المطالبة بحق ووطن وتقرير مصير؛ نظام يعيد ترتيب الخريطة الجيو ـ سياسية في المنطقة، ويفرض هيمنة التحالف عليها، ويعيد تكوين هويتها الثقافية، إن استطاع. إنه تحالف ينفّذ للمخطط الذي يرمي إلى جعل الكيان الصهيوني/ عملياً وواقعياً/ ليس جزءاً من النسيج العضوي العام للمنطقة وحسب، وإنما صاحب الرأي والقرار والدور الأساس فيها والهيمنة التامة عليها، كما يرمي إلى تقويض البنُى السياسية والثقافية القائمة الآن، ابتداء من مؤسسة الجامعة العربية؛ للوصول إلى إنشاء الجامعة الشرق أوسطية، التي نادى بها شمعون بيريس في مشروعه الشرق أوسطي، ذلك الذي يجعل العرب في قارتين منفصلتين ضمن تنظيمات إقليمية منفصلة؛ ويقيم في آسيا مجموعة دول ذات هويَّات ثقافية متنوِّعة في إطار إقليمي مشترك يضم " إسرائيل "، في محاولة لتأكيد شرعيتها وحضورها شريكاً كامل الشراكة في كل ما يتعلق بالشؤون الإقليمية للمنطقة؛ ليتم بذلك تدمير آخر مقومات التواصل والتضامن العربيين، وقطع جسور الثقة والعمل الثقافي والقومي والسياسي بين العرب، وقتل حلمهم ومشروعهم الوحدوي والتحريري، ذلك الذي لا تأمن " إسرائيل " ولا تطمئن مع بقائه ولو في الذاكرة والوجدان.‏
                              نحن الآن أمام مخاطر جدية يُنذِر بها ذلك التحالف الشرير، وأمام حقائق على الأرض يقيمها، حيث يظهر منها على السطح : تعاون عسكري في مجالات التدريب والمناورات المشتركة " بحرية وجوية "، وإقامة قواعد عسكرية بحرية ومطارات، ونشر شبكات تجسس، لا سيما على الحدود السورية والعراقية والإيرانية، وإقامة محطات إنذار مبكر وأجهزة تشويش على حركة الطيران الحربي، وتنسيق عسكري متقدم يصل إلى مجالات استخدام الأسلحة النووية عند الضرورة، وتخزين للأسلحة والذخيرة .‏
                              ونحن أمام عمل حثيث لتكوين قوة واحدة متفاهمة تماماً، وصف سفير تركيا في عمَّان سها عمر تعاونها بأنه " وصل إلى مرحلة يمكنني أن أقول فيها: إن الجيشين الأردني والتركي أصبحا جيشاً واحداً "؛ أمَّا ما بين الجيشين التركي و"الإسرائيلي" فهو أقوى من ذلك عملياً، حيث يستمر العمل على أرضية التحالف ومتطلباته منذ عام 1996 من دون انقطاع. وينبغي ألا نستهين بالمراحل التي قطعها التدريب المشترك بين قوات "إسرائيلية" وأردنية، فقد تم ذلك في البلدين، وضمن المناورات الأميركية الأردنية التي أقيمت في الأردن وشكلت غطاء لذلك في كثير من الحالات، تمويهاً أمام ضباط أردنيين من رتب متدنية يرفضون مشاركة " إسرائيليين" لهم في تدريبات وأعمال عسكرية ؛ كما تم حضورٌ معلن لضباط " إسرائيليين " في مناورات للقوات الجوية الأردنية، وتدريب قوات أردنية في فلسطين المحتلة مع جيش الاحتلال، ومشاركة رموز ملكية في اتباع دورات عسكرية في فلسطين المحتلَّة : الأميرة عائشة والأمير حمزة !؟ أما قائد التحالف ومهندسه وراعيه : الولايات المتحدة الأميركية فهو حاضر في كل مفصل من مفاصل العمل والتنسيق والتخطيط والتدريب والتسليح والتطوير والتحريك والتوجيه.‏
                              إن للولايات المتحدة مصالح في المنطقة العربية وفي آسيا الوسطى، التي تستيقظ من سبات طويل، وهي تعلق أهمية على التحالف في تحقيقها وحمايتها، وأول تلك المصالح : النفط والغاز ـ نفط الخليج وبحر قزوين وغازهما ـ وثانيها :" إسرائيل " وتفوقها المطلق على العرب والمسلمين في المنطقة ـ عرضت الولايات المتحدة الأميركية يوم 22 /9/ 1998 على إسرائيل أن " تبيع لها " ستين طائرة هجومية متطورة جداً بقيمة تزيد على مليارين ونصف المليار دولار لتعزيز تفوّقها المطلق، ولأغراض أخرى تتعلق بما سيُقْدِم عليه التحالف من عدوان قريب سنأتي على ذكر الإعداد له ـ وثالث تلك المصالح: الأسواق المفتوحة للمواد الأولية والطاقة واستهلاك المنتجات في إطار الأمرَكَة الزاحفة. وتتماهى " إسرائيل " مع النفط كما تتماهى المصلحة الأميركية مع المصلحة الإسرائيلية " من حيث الأهمية.‏
                              وبناء على ذلك فإن التحالف الجديد يقوم ضد كل من يقدِّم مصلحته الحيوية، من أبناء المنطقة من عرب ومسلمين/ قومياً ووطنياً /، على المصلحتين الإسرائيلية والأميركية بالدرجة الأولى؛ أما أطراف التحالف الأخرى فسيكون لها فتات الموائد وموقع الذيل ودوره، ومصير النواة والأذلَّين: عيرُ الحيِّ والوتدُ !!.‏
                              وللولايات المتحدة و"إسرائيل" وتركيا أعداء في المنطقة حسب التصنيف الصهيوني ـ الأميركي للعداوة والإرهاب، هم كل من يحاول أن يقول لهم لا، وكل من يرفض الاحتلال ويقاومه، وكل من يدعو إلى تحرير القرار والإرادة والاقتصاد والمنطقة من النهب والعنصرية الصهيونية وامتداداتها التاريخية في الدونما الطورونية، لا سيما : سورية وإيران. وكل طرف من أطراف التحالف يريد تصفية حسابات والاطمئنان إلى مكتسبات وتحقيق أهداف وغايات عاجلة وبعيدة المدى : فضرب سورية وإيران هدف مشترك، وإسقاط العراق نهائياً في فخ التقسيم والإلحاق، أو في فلك الحلف؛ مطلب لبعض الأطراف المتحالفة.‏
                              لقد دخل التحالف الآن مرحلة التخطيط فالتنفيذ لعدوان واسع على سورية، يبدأ من الشمال/ تركيا/ يسنده من الجنوب/ إسرائيل/ أو من الجنوب/ إسرائيل/ يسنده من الشمال/ تركيا /، أو من كليهما في آن معاً، وينبغي ألا نستبعد الغرب المفتوح على الأساطيل البحرية التي ستجدد مناوراتها المعلنة في شهر تشرين الثاني القادم في شرق المتوسط؛ ويُعَدُّ للعدوان : تحت اسم أو ذريعة تصفية الإرهاب ـ وهي تهمة " إسرائيلية، أميركية، تركية، موجهة لسورية وإيران ـ لتحقيق ثلاثة أغراض رئيسة لأطراف متحالفة، ولأطراف أخرى هي الخوافي الآن تحت إبط القوادم من المتحالفين المعلنين وهي :‏
                              1 ـ غرض صهيوني يستهدف سورية وهو : فرض سلام " إسرائيلي " عليها بشروط نتنياهو، لا سيما فيما يتعلق بمواقع جغرافية استراتيجية في الجولان، وبالمياه / طبريا والحمَّة ومنابع نهر بانياس /، والأمن، والتطبيع، ونسيان القضية الفلسطينية : أصلاً وفرعاً، أرضاً وشعباً؛ وفصل المسار السوري عن المسار اللبناني، ووضع لبنان تحت السيطرة الصهيونية، وإعادة ساسة " لبنانيين " متعاونين مع الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية، إعادتهم إلى سدة الحكم فيه. ويكفي أن نتذكر المشروع القديم الجديد، الذي ما زال يراود "الإسرائيليين" والغرب الاستعماري، مشروع لبنان بشير الجميِّل المحمي بجيش الاحتلال الصهيوني والقوى المتعددة الجنسية، مشروع " لبنان : اتفاق 17 أيار "، الذي أسقطته إرادة اللبنانيين وسورية معاً؛ يكفي أن نتذكر ذلك ونتذكر جيش العميل أنطوان لحد وغاياته وحربه المعلنة مع الكيان الصهيوني منذ عقود لندرك بعض أبعاد المخطط.‏
                              2 ـ وضع حد لدور سورية السياسي عربياً وإقليمياً والقضاء على ذلك الدور ـ أي ضرب مشروعها القومي وتطلّعها التحريري ـ وذلك بضرب قوتها العسكرية، تلك هي نصيحة الملك حسين لأطراف التحالف ومطالبه في الكواليس السياسية من تلك الأطراف !؟ وهو ما يلتقي فيه مع أطراف أخرى لا سيما "إسرائيل" وتركيا؛ فهو مطلب يحقق " أمناً " من نوع خاص لكل من :‏
                              ? الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة وفي ما يبقيه من أراض عربية أخرى تحت الاحتلال، وما يخطط له من توسُّع استيطاني وهيمنة سياسية وأمنية واقتصادية، ضمن مشروعه التوسعي الاستيطاني، الذي لن يوقفه عند حد إلا مشروع مضاد، مشروع نقيض؛ تتطلع إليه سوريه وتعمل من أجله .‏
                              ? تركيا فيما يتعلق باطمئنانها على مستقبل اللواء السليب، لواء إسكندريون، الذي انتزع من سورية عام 1938 - 1939 بتواطؤ الاستعمار الفرنسي معها؛ وفيما يترتب على الخلافات القائمة حول مياه الفرات، لا سيما بعد الانتهاء من بناء سلسلة سدود مشروع " الغاب "، ومن ثمة الانتقال إلى تنفيذ تخطيطها لاستثمار مياه الفرات كاملة بعد ربع قرن من الآن حسب تصريح الرئيس التركي سليمان ديميريل، الذي قال لمجلة الشؤون الدبلوماسية التركية : " إننا لن نستطيع استغلال جميع مياه النهر ـ أي نهر الفرات ـ قبل خمسة وعشرين عاماً على الأقل " وهذا يعني ضمنياً التخطيط للسيطرة على مياه الفرات كاملة من قبل تركيا وحرمان الشركاء الطبيعيين من موارد المياه، وأن القضية هي قضية وقت فقط؛ وكذلك تيسير عملية بيع مياه للعرب كما يبيع العرب للأتراك وسواهم نفطاً، وهو موضوع تصريحات متكررة لمسؤولين أتراك؟! وقد بدأت الدراسات الأولية لفكرة مد أنبوب بحري ضخم بين إزمير وحيفا لتزويد الكيان الصهيوني بالمياه، وتزويد الأردن بالماء عبر فلسطين المحتلة، لتبقى العنق الأردنية في القبضة الصهيونية؛ وكذلك دراسة فكرة تسيير حاملات بلاستيكية ضخمة تنقل الماء بين المينائين، لتنفيذ أيهما أفضل .‏
                              ? المملكة الأردنية الهاشمية : فيما يتعلق بالمعاهدة الأردنية "الإسرائيلية"، وجعل الأردن ممراً لـ إسرائيل" على الوطن العربي وجسر عبور للبضائع والنفوذ والتطبيع ..إلخ، والتحالف مع الكيان الصهيوني ضد الأمة العربية، وتحقيق تقسيم العراق وإقامة مملكة لفرع هاشمي فيه، بغية استعادة القديم ـ من عهد الملك فيصل ـ لتخفف المملكة من تنافس أفراد الأسرة المالكة في عمَّان على عرش واحد. ويتم ذلك، إن أمكن، في ظل ضعف العراق وحصاره والضغط العربي والدولي الواقع عليه؛ وفي ظل التمزق العربي القائم .‏
                              ? الولايات المتحدة الأميركية : فيما يتعلق باطمئنانها على مصلحتها الثانية بامتياز : " إسرائيل " حيث يتم اعتراف شامل بها حسب شروطها، ويُطْوَى الحلم القومي العربي مع مشروعه وما ينطوي عليه ذلك المشروع من آمال؛ ويتم " استقرار المنطقة " على أساس المخطط الأميركي ـ الصهيوني المشترك. وتقوم الولايات المتحدة و"إسرائيل" بتنفيذ ما تبقى من حلقات المخطط من دون إزعاج؟! ومن الطبيعي أن يتم التفكير بعد ذلك بإيران والتقدم نحو ما ينتظرها على يد التحالف من استحقاقات، هي والعراق إن بقي، بعد دولة كردية في الشمال ورغبة ملكية قادمة من عمَّان تشتهي بقية الأرض !؟‏
                              لكن هذا الذي يفكر فيه ويخطط له حلفاء اليوم، الذين يريدون إعادة المنطقة إلى مرحلة الخمسينيات من هذا القرن، مرحلة حلف بغداد؛ هل يمكن تنفيذه هكذا ببساطة، وقهر شعوب ذات تاريخ، ودول ذات تجارب وحضور واستقلال وإرادة؟! وهل يمكن أن يتم ذلك في ظل صمت وقبول من قبل الأنظمة العربية، ولا أقول الشعب العربي، لأنه لن يسكت على ذلك ولن يقبل به؛ وقد عبر وزراء الخارجية العرب عن موقف واضح للدول العربية من ذلك التحالف وتهديداته العدوانية في البيان الصادر عن دورة اجتماعاتهم العاشرة بعد المئة في 17/ 10/ 1998 !؟؟ وهل يستطيع الكيان الصهيوني تنفيذ ذلك ـ وهو المستفيد الأول أو الأوحد منه ـ في ظل ضعف عربي ظاهر، وانحياز أميركي مطلق، من دون أن يدفع ثمناً باهظاً لعدوانه أو لتحريضه على العدوان؟! وهل يقف العالم متفرجاً على ما يجري من دون أن يكون له دور أو تأثير؟! وهل الدولة المستهدفة : سورية، ستكون مجردة من الأنياب والأظفار، وتصبح لقمة سائغة لمن يريد أن يلوكها؟! وهل ستقف هكذا منفردة مستسلمة " لقدرها "، وحدها في العراء من دون أشقاء أو حلفاء أو أصدقاء أو حراك؟! وهل الشعب التركي المسلم، الذي تجمعه بسورية أولاً وبالشعب العربي ثانياً وبالمسلمين ثالثاً علاقات تاريخية وجوار وعقيدة ومصالح ومؤسسات رسمية، وانتماء لثقافة عريقة؛ سوف يسمح للصهيونية بأن تعبث به، وللجنرالات الدونما الذين يحكمونه بأن يضعوه في متاهة من الافتراءات تعميه عن الحقيقة فينجرف وراء الأهداف الصهيونية ـ الأميركية، ويخوض حرباً مدمرة له ولسواه؟! وهل تركيا على قلب واحد فيما يتعلق بالموقف من التحالف مع الكيان الصهيوني والتسليم للأميركي الشرير بما يفرضه ويتمناه ويحلم به، بَلْهَ فيما يتعلَّق بأوضاعها في الداخل لتقوم بما يدفعها الجنرالات الصهاينة إلى القيام به؟! هل سترضى كلُّ ألوان الطيف السياسي والاجتماعي والقومي والديني التركية ـ الأتراك والأكراد والأرمن والعرب والشركس والفرس ـ هل ترضى بأن تخوض حرباً ضد العرب، وتتعرى من ثوب المسلمين وتقطع عراها معهم، لتقف مع العنصرية التلمودية ومن يحتلون القدس ويهوِّدونها، ومع فئات متطرفة من اليهودية ـ المسيحية في أميركا، وهي فئات متصهينة : دينياً وسياسياً تتحكم بقرارات الولايات المتحدة الأميركية؟! وهل جوار تركيا الدولي : اليونان وإيران وأرمينيا وبلغاريا والعراق وروسيا سوف يقف متفرجاً على ما يجري، وكأنه في فيلم من أفلام رعاة البقر؛ أم أن لدى كل من دول الجوار تلك ما يحركه ضد تركيا، وأن في جوف التاريخ ما فيه من حوادث وأيام وتواريخ وأرقام، وكل ذلك قد ينفجر لا ليمزِّق جوف التاريخ فقط بل دولة الجنرالات الدونما في تركيا أيضاً؟!‏
                              الحقيقة المرة التي نقف أمامها، ونحن نواجه نمو التحالف الشرير في المنطقة، ونستمع إلى التصريحات التركية الصادرة من هنا وهناك والمعبرة عن قصر نظر خطير، وهي تنشر روح العداوة والبغضاء في المنطقة وتتهم الآخرين بنشرها، وإلى التصريحات "الإسرائيلية" المتأصلة في الشر والعنصرية والخبث والحقد على العرب والمسلمين معاً، وإلى الإيحاءات الأميركية التي تصنعها " استير الجديدة في البلاط الأميركي "، وهي إيحاءات مجرَّدة من كل خلق وقيمة ومبدأ، وتجسِّد سياسة استعمارية فاسدة في العمق، صادرة عن نفوس مفلسة روحياً هي أكثر فساداً وأشد خطراً على الحياة والقيم والسلام والعدل من أسوأ المخلوقات وأكثرها شراً وفساداً؛ تنشر نتنها في أرجاء الأرض مغلفاً بـ " سوليفان " حقوق الإنسان والحرية، وتزيِّنه وتصدره مبادئ ومناهج للآخرين !؟‏
                              الحقيقة المرة هي أننا أمام مخطط قذر يرمي إلى ضرب العرب بالمسلمين والمسلمين بالمسلمين، لكي يصفي بعضنا بعضاً وننهار، ونحقق للصهاينة في أرضنا وطناً واستقراراً واستسلاماً، ونقدم للأميركيين الجشعين فرصاً كافية وآمنة لينهبوا ثرواتنا ويشوهوا صورتنا وعقيدتنا ونضالنا، ويسمموا حياتنا وحياة أجيالنا فنزداد بؤساً وتخلُّفاً وجوعاً وجهلاً وفقراً، ويزدادون هم غنى وتخمة وفساداً وفجوراً وعدواناً؟!‏
                              المؤامرة تستهدف ديننا وثقافتنا وعلاقاتنا التاريخية وثرواتنا ومصالحنا ومستقبلنا كله : عرباً وأتراكاً، إيرانيين وأفغانيين، باكستانيين وإيرانيين، ألبانيين وبشناقاً وشيشانيين، طاجيكيين وأوزبكيين ... سنة وشيعة، زهاداً وماديين ... إلخ، فهل نستيقظ ونبصر وندَّكر؟! هل نعي ما يدبر لنا ولمنطقتنا قبل فوات الأوان؟! هل نرى معنى أن نقسم صفنا أحلافاً وأتباعاً لمن قتلنا واستعمرنا ونهبنا وقهرنا وما زال يمعن في حقده علينا، ويعلن عداءه السافر لثقافتنا وديننا وتقاليدنا وعاداتنا وتطلعاتنا وأحلامنا؟! هل نتعظ مما كان، ونتوقف عن السير نياماً إلى حتوفنا؟!‏
                              أيها الجار الأخ في تركيا، التي يجمعنا بها التاريخ والإسلام والجوار والجذر الثقافي المشترك والدم الذي أريق على مفارق الأزمنة والتواريخ والبلدان والقارات لكي نكون كما نريد أن نكون ولنحمي حضارتنا المشتركة وعقيدتنا الواحدة !! أيها الجار الأخ هل تقبل أن تضع سيفك في قلبي وأن أضع سيفي في قلبك ليرتاح الصهيوني، الذي يحتل القدس، على جثتينا الهامدتين؛ ويبني على أنقاض حضارتنا ووجودنا و" أقصانا " وجوداً وحضارة وهيكلاً ثالثاً، يزعم أن له حقاً في بنائه على أنقاض المسجد الأقصى؟! هل نسيت من نحن، وكيف عبث بنا الآخرون ودمروا ما بنينا يوم تجافينا؟! وهل تقبل أن يتجدد ألمنا المهلك وليلنا الطويل لكي يمتد فرح عدونا في فضائنا ونضيء شموعه من نزف أجسادنا؟!‏
                              آن لنا أن نفكر بعمق، وأن نعود إلى ما يعصمنا من الزلل، وما نعتصم به جميعاً ولا نضل إذا اتبعناه : كتاب الله وسنة رسوله، والحق والصدق والعقل الذي ينير دروب الحياة والعدل؛ فتعال نسلك طريق الحوار لا طريق الدم، وعندها نرى بقلوبنا، ونبصر كيد أعدانا، ونستأنف مسيرة نافعة للجميع.‏
                              وقل : (( فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ))‏
                              صدق الله العظيم‏

                              الأسبوع الأدبي/ع628//26/9/1998‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                قراءة في خطاب الرئيس كلنتون حـــول الإرهـــاب
                                في يوم الاثنين 21/ أيلول 1998، وبينما كان العالم يتابع استجواب المحقق المستقل كينيث ستار ولجنة المحلفين الكبرى للرئيس الأميركي بيل كلنتون على شاشات التلفاز، كان الرئيس يلقي خطاباً أمام الدورة الثالثة والخمسين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك؛ وركََّّز معظم حديثه على موضوع الإرهاب والمسؤولية الجماعية عنه وسبل مواجهته؛ انطلاقاً من حقيقة أن الإرهاب " أصبح مشكلة العالم كله " كما قال.‏
                                ونحن إذ نعلن إدانتنا المطلقة للإرهاب، ونذكِّر بأننا ضحاياه الأبرياء، وأننا منذ بداية هذا القرن نعاني من الإرهاب الصهيوني المستمر علينا وممن يشملونه برعايتهم التامة، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية؛ نود أن نتوقف عند خطاب الرئيس الأميركي لأهميته وتوقيته ولما جاء فيه من آراء وأفكار وتوجهات.‏
                                لقد أثار الرئيس الأميركي في خطابه عدة قضايا هامة وحدد آراء منها، وهي تستحق التوقف عندها، بوصفها تمثِّل الرأي الرسمي لقمَّة هرم السلطة في الدولة الأعظم، التي تتحكم بمقدرات العالم اليوم؛ وليس بوصفها الرأي الشخصي لصاحب الفضيحة الخُلُقية، التي تكشف إفلاساً خلقياً وروحياً واجتماعياً كبيراً في الولايات المتحدة الأميركية، وتنطوي على أبعاد أكبر من الجنس والكذب والتوظيف السياسي للموضوع من قبل الجمهوريين. وسوف يتحتم علينا أن ننتظر بعض الوقت لنتعرف على الأبعاد الأخرى لتلك الفضيحة وعلى الخدمات الحقيقية التي قدمتها " استير الجديدة " لنتنياهو وللكيان الصهيوني في هذا السياق؛ من دون أن نستبعد أول الغيث في هذا المجال وهو ما أعلنت عنه الإدارة الأميركية في عرضها يوم 22/ أيلول الجاري من استعداد لبيع ستين طائرة هجومية متطورة لـ " إسرائيل "، بغية تعزيز قدرتها الهجومية ـ أي العدوانية ـ؟!! ويأتي هذا في إطار تهديد الحلف التركي ـ الإسرائيلي لسورية بشن هجوم عليها، تحت " ذريعة " مقاومة الإرهاب، وتهيؤ الحلف لتنفيذ ذلك العدوان؛ وهو إعلان لافت للنظر، رافقه عملياً استعداد الجمهوريين للاكتفاء بتوجيه توبيخ أو لوم علني لكلنتون مع تغريمه بأربعة ملايين وثمنمئة ألف دولار قيمة نفقات التحقيق، من دون أن تنزَع منه الرئاسة؟!‏
                                إن الثمن الأكبر هو لـ " إسرائيل " دائماً، التي تعرف كيف تشعل الحرائق وكيف تطفئها، كيف تحرِّك الألسنة وكيف تسكتها؛ من خلال " إيباك " وامتداداته، الذي يحرِّك الكونغرس الأميركي عملياً.‏
                                لقد انطلق الرئيس كلنتون في كلمته من الفقرة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي تقول : " لكل شخص الحق بالحياة والحرية والأمن الشخصي " وهو ما لا يعترض أحد عليه، وما يستحق عليه الشكر للتذكير به والاستناد إليه. وتابع ليصل إلى القول : " إننا نرى أن الانسحاب من المواقع المضطربة في العالم، وإدارة ظهورنا إلى من يخاطرون في سبيل السلم، وتخفيف معارضتنا للإرهاب، سيحقق لأعداء السلام نصراً لا يستحقونه أبداً " وأضاف : " من خبرتي الشخصية أن الإرهاب يسعى جاهداً في الأمكنة التي يحقق فيها السلام تقدماً إلى الوقوف عكس تيار التاريخ. فتفجير (أوما) وقع فيما كان السلام ينتصر في ايرلندا الشمالية، وفي الشرق الأوسط، في كل مرة نتقدم خطوة باتجاه السلام يرد أعداؤه بالإرهاب. ".‏
                                لقد ربط الرئيس في هذه الفقرة :‏
                                أولاً ـ بين الوجود الأميركي في منطقة ما وإشاعة الاستقرار فيها، وهذا غير صحيح على الإطلاق. فمن يتتبع التاريخ القريب يجد أن الحضور الأميركي في منطقة ما يرافقه الاضطراب والتوتر، وينتج عنه القهر والخوف والموت والاستغلال، وينمو في ظله الاستعمار بصيغه الجديدة والقديمة أحياناً. وبعيداً عن الحرب الكورية وحرب فيتنام اللتين قدمتا أكبر أرقام الضحايا البشرية، لا سيما من الأبرياء، فإن الحضور الأميركي في الشرق الأوسط، لا سيما في التحالف الاستراتيجي مع " إسرائيل "، يقف وراء العدوان الصهيوني المستمر واحتلال أرض العرب والاستيطان والتهويد وقتل آلاف الفلسطينيين واللبنانيين على الأقل؛ والحضور الأميركي في الحلف التركي الإسرائيلي هو الذي يشكل حالة من التهديد لدول مستقرة ولشعوب تنشد التقدم والأمن من جوع وخوف !؟ أما الحضور الأميركي في الخليج بعد تحرير الكويت وفي شمال العراق، فهو الذي يتسبب في موت آلاف الأطفال العراقيين وفي موت أبرياء آخرين جراء الاقتتال الكردي هناك، الذي يتم على أرضية الوعد بإنشاء دولة وتقسيم العراق. وينبغي ألا يغرَّنا الدور الأميركي في المصالحة الأخيرة بين زعيمي الحزبين الرئيسين هناك، فهي مقدمة لمخطط تآمري جديد. وإذا تذكرنا الوجود الأميركي في الصومال فسنجد بقايا ما علِق بأرواحنا من الموت والبؤس، أما ذلك الوجود في جنوب السودان فهو استمرار لحرب التقسيم والتبشير والتدمير، وممارسة مكشوفة الأهداف ضد اختيار الدول المستقلة الأعضاء في الأمم المتحدة لتوجهاتها السياسية والفكرية والدينية. في البوسنة والهرسك تدخلت الولايات المتحدة الأميركية بعد أن بَشِمَ الصرب العنصريون من الدم البوسني المسلم، وبعد أن نفّذوا سلاسل من المذابح والجرائم يندى لها جبين الإنسانية خجلاً.‏
                                ولا نتحدث هنا عن المعاناة المرة للشعوب من النهب الأميركي، الذي يجسده الحضورُ الاستعماري الأميركي غير المباشر في كل بلد وموقع ومجال استثمار، من بحر قزوين وروسيا الاتحادية إلى إندونيسيا وماليزيا ودول الخليج العربي، التي يُنهَب نفطها نهباً بشعاً منذ سنوات، ويخفَّض سعره، ويتم التحكم بضخه وتسويقه، وتفرض على أهله صفقات السلاح تحت التخويف، حتى اضطرت السعودية وهي أكبر مواقع النفط في العالم إلى استدانة رواتب موظفيها خلال الشهر الماضي لكثرة ما فُرض عليها من ابتزاز وصفقات، ولكثرة ما أُلحق بها وبغيرها من خسائر جراء التحكم الغربي بسوق النفط.‏
                                لقد قال الرئيس الأميركي : " إننا بلد قوي عسكرياً وله وجود في شتى أنحاء المعمورة، يعمل على نشر السلام والأمن. ". وكل ما قاله في هذه الجملة صحيح ما عدا نشر السلام والأمن، فقواته العسكرية منتشرة في أرجاء المعمورة فعلاً ولكن لحماية المصالح الأميركية، وهي بذلك لا تنشر إلا الخوف والشر والموت في أرجاء تلك المعمورة .‏
                                ثانياً ـ ربط الرئيس بين قيام السلام واستمراره وبين عدم إدارة ظهر بلاده لمن " يخاطرون في سبيل السلام " !؟ وهو يخص بهذه العبارة " الشرق الأوسط " تحديداً، ويخص " إسرائيل " بصفة " من يخاطرون في سبيل السلام ". وهذه القضية فيها الكثير الكثير من البناء على ضلال وخطأ، وفيها خلط كبير بين : السلام العادل وفرض استسلام على الآخرين يسميه الأميركيون سلاماً، وبين حق الشعب المحتلة أرضه في استعادة تلك الأرض بكل الأساليب الممكنة ومنها المقاومة والتوصل إلى سلام مشرّف على أرضية العدل من جهة وبين جعل العدوان واحتلال أرض الغير بالقوة واستخدام التفوّق العسكري المطلق وسيلة ومبدأً استراتيجياً لقهر إرادة شعب وإجباره على القبول بشرعية الاحتلال وعلى التنازل عن حقه التاريخي في وطنه، والاكتفاء بما يجود عليه به المحتل من أرضه، من جهة أخرى؛ وإلا فهو معاد للسلام، ومقاومته للاحتلال الذي يفرض " سلامه " هي إرهاب خطر، وذاكرته الوطنية خطر على العالم المتحضر لأنها شيء من الماضي " الكريه " الذي يجب أن تتم معه قطيعة !؟ شيء يذكِّر بالحق والوطن والحرية والكرامة، ويدفع إلى المقاومة !؟؟ ومقاومة الاحتلال " الإسرائيلي " هي بالمفهوم الأميركي إرهاب وكسرٌ لصيغ السلام ينبغي تحشيد العالم كله لمحاربة من يقوم بها أو يدعمها !؟.‏
                                ثالثاً ـ ربط الرئيس بين خطر " تخفيف معارضتنا للإرهاب " و " تحقيق نصر لأعداء السلام لا يستحقونه أبداً ". والملاحظ هنا أن مفهوم الرئيس للإرهاب انحصر في أنه " المقاومة الفلسطينية واللبنانية للاحتلال الصهيوني "، وأن "رعاية الإرهاب " تنسحب، نتيجة لذلك المفهوم، على من لا يرى في هذه المقاومة إرهاباً !؟ أي أن الرئيس عطَّل المنطق وعطَّل ـ بحكم اقتناع ثقافي وتوجه سياسي تاريخي، وربما بتأثير اعتقاد ديني، وانحياز طويل الأمد للصهيونية، أو خوف من عدم تأكيد ذلك الانحياز وتجليه في القول والعمل ـ عطَّل الشرعية الدولية التي تؤكد حق المحتلة أرضه بمقاومة الاحتلال حتى التحرير؛ كما عطَّل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، تلك التي منها على الأقل القرارات 242، 338، 425، 426؛ حتى لا نذهب إلى القرار 194 والقرار 181 لعام 1947 أي قرار تقسيم فلسطين ؟!؟.‏
                                ومحاولة تقديم الإرهاب على أنه المقاومة لاحتلال " إسرائيل "، التي " تخاطر " في سبيل السلام !؟ هو عملياً تجسيد للانحياز الأميركي، وعمى المحبين سواء لـ " لوينسكي " أو لقبيلتها الصهيونية أو للمشروع الصهيوني الاستيطاني البغيض الذي يسبب كل هذا الموت والدمار وعدم الاستقرار، ويجهز على السلام في المنطقة .‏
                                وأرى أنه من الطبيعي ألا يتوقف الرئيس الأميركي عند حق الشعب الفلسطيني في وطنه التاريخي، فلسطين، الذي اغتصبته " إسرائيل " بالقوة وتجاوزته لاحتلال أرض عرب آخرين، بالمساندة الغربية غير المحدودة لاحتلالها وعدوانها ومشروعها الاستعماري ـ الاستيطاني؛ من الطبيعي أن يفعل ذلك لأنه يمثل دولة هي الراعي الأكبر لهذا المشروع الاستيطاني، الذي يمثِّل صيغة صارخة من صيغ الإرهاب الحديث، تلك التي تقتلع شعباً من أرضه، وتعمل على إبادته روحياً وجسدياً إن أمكن، واستمرار تشرُّده في أربعة أركان الأرض، لتُحِلَّ محله مستعمِرين مستورَدين من أركان الأرض في إطار كيان عنصري يقوم على أساطير الماضي، التي يرى كلنتون شرعية لها ولا يرى فيها خطراً على السلام والأمن؛ في حين يرى ماضي الآخرين معطِّلاً للتقدم ومقوماً من مقومات الإرهاب وخطراً على السلام وصانعيه، وينبغي أن ينبَذ بوصفه إرهاباً أو حالة تؤدي إلى الإرهاب !! ويرى أن من يمارسون تلك " النقيصة " نقيصة التعلق بالماضي العربي أو الإسلامي " هم إرهابيون؛ " ولأنهم يخشون المستقبل يسعى الإرهابيون من خلال أعمالهم إلى إرجاع صانعي السلم إلى الماضي "!؟! والماضي هنا بالنسبة للفلسطيني خاصة والعربي عامة، أو حتى بالنسبة للمسلم، هو أرضه التي أغتصبت منذ خمسين سنة، والمقدسات ـ القدس والخليل وبيت لحم والناصرة.. الأقصى والحرم الإبراهيمي وكنيسة القيامة وكنيسة المهد ... إلخ ـ التي احتُلّت وانتهِكت حرمتها منذ واحد وثلاثين عاماً على يد الوحش الصهيوني؟! أما أسطورة التوراة والتلمود اليهوديتين ـ الصهيونيتين اللتين تعودان لأكثر من ألفي سنة فتلك من الماضي المقدس، الماضي الذي يشكل حضوره واستحضاره حالة من التقدم الحضاري، " والسلام السماوي "، ويصنع السلام على الأرض !! إنه ماض " تخاطر إسرائيل في سبيله " ومن أجل ذلك تستحق الدعم الذي لا حدود له، حتى لا يتحقق " للإرهابيين نصر لا يستحقونه أبداً " !؟‏
                                إن الذاكرة العربية الإسلامية، أي الماضي الذي يخصنا ،يؤدي إلى إيقاف عملية فرض استسلام على من اشترتهم الولايات المتحدة الأميركية أو أرهبتهم وأجبرتهم على التسوية ونسيان الحق ومفاهيم العدل، وغسلت ذاكرتهم العربية الإسلامية مما " يشوهها "، ولذلك فهو مدان وينبغي القضاء عليه بوصفه مدخلاً إلى الإرهاب وتعطيلاً لعملية السلام؟!!‏
                                عجيب رأي الرئيس الأميركي : أ هو محكوم بمنطق، أو معطلة عنده " بفعل الحب " قوى التفكير المنطقي والاستقراء التاريخي !؟ أليس ذلك التناقض الصارخ من عجائب الغرب وعجائب الحب على مشارف القرن الحادي والعشرين !!؟‏
                                واستمراراً في حديثه عن الماضي وتأثيره ونظرته إليه قال الرئيس كلنتون: " أود أن أحث الجميع على التفكير بمفاهيم جديدة في ما يخص الإرهاب، وعلى أن ننظر إليه لا كتضارب بين الثقافات أو كعمل سياسي من خلال وسائل أخرى، أو دعوة إلهية، بل كتضارب بين قوى الماضي وقوى المستقبل، بين أولئك الذين يهدمون والذين يشيدون، بين الرجاء والخوف، وبين الفوضى والانسجام. " وأضاف قائلاً : " إن الإرهاب ليس السبيل إلى الغد بل إنه فقط الانكفاء إلى البارحة (...) وما ردم هوة الأحقاد القديمة إلا قفزة في الإيمان وانفصال عن الماضي وبالتالي تهديد مخيف لهؤلاء الذين لا يستطيعون التخلي عن أحقادهم. ولأنهم يخشون المستقبل يسعى الإرهابيون من خلال أعمالهم إلى إرجاع صانعي السلم إلى الماضي. "‏
                                في هذا القول وضع الرئيس كلنتون الإرهاب في مجال جديد من الرؤية حين ركز على أنه " تضارب بين قوى الماضي وقوى المستقبل.. " وهذا يفتح أفق الأسئلة : فهل الإرهاب بهذا المعنى هو فعل ينتج عن المتعلقين بماض ما، أو عن المحافظين على معطيات دينية وقومية واجتماعية ومنظومات قيم تنحدر إليهم من الماضي؟! أم تراه يرتبط بنوع من التخلف ينتج عن سيطرة الماضي على العقل، أو يمنع العقل المعني بالارتباط بماض ما من التقدم والرؤية والتمييز، ومن ثم يحجب أمامه حق الآخر في العيش والوجود والحرية فيبح دمه ويسوِّغ تصفيته على نحو ما؟!‏
                                والماضي الذي أشار إليه الرئيس لم يحدَّد على نحو واضح، وهو ما يجعل الباب مفتوحاً على الاحتمالات المختلفة. وقبل أن نحكم على هذه الرؤية أو لها، علينا أن نتابع فحص الاحتمالات التي تقود إليها .‏
                                قد يكون الماضي حالة سياسية وقد تكون فكرة وقد يكون حقاً أو حقداً دفيناً، وكل ذلك يمكن أن يعبر عن نفسه بأشكال عديدة.‏
                                في حالة مثل " إرهاب " الذي عبر عنه في " أوما " نلمس الصراع الديني ـ القومي، من جانب والتعبير عن نزوع استلابي من جهة أخرى، وإذا كان التعصب مرفوضاً ويقود دائماً إلى العنف والدم والظلم، فإن الرغبة في المساواة والعمل من أجل الاستقلال مباحان. ومن الطبيعي ألا يتم اللجوء إلى القوة للحصول على ذلك في حال وجود تفهم ومناخ ديمقراطي يؤديان إلى التفاهم؛ ولكن إذا أغلقت الأبواب دون المطالب المشروعة، وأعطى المسيطر ظهره لنداءات صاحب المطالب العادلة، وتصاعدت درجة الظلم ووتيرة المطالبة بالحق، فإن النتيجة هي تكوُّن مناخ ملائم لولادة العنف الذي، يتنامى بصورة عشوائية ويعبر عن نفسه بطريقة همجية أحياناً فيصل إلى إيذاء أبرياء لا ذنب لهم !؟ فالمسؤولية في مثل هذه الحالة تقع على الأطراف المعنية بالتساوي أو بما يقترب منه، لأن تلك الأطراف ساهمت بخلق المناخ الذي فرخ فيه الإرهاب.‏
                                قال الرئيس كلنتون : " لا يوجد أي مبرر لقتل الأبرياء. فلا الأيديولوجيا ولا الدين ولا السياسة ولا حتى الحرمان أو الشكوى المحقة تبرر القتل. يجب أن نسعى لفهم المياه العكرة التي ينشأ فيها الإرهاب. " ونحن معه تماماً في بعض ما حدده مما يؤدي إلى القتل، نحن لسنا مع القتل ولكننا لسنا مع الرئيس على الإطلاق في أن يترك الحرمان والشكوى المحقة من دون معالجة حتى يضج الظلم في الأعماق لأنه عندئذ تنمو في مناخ القهر والظلم والتواطؤ دوافع العنف الذي يقود إلى القتل. وكما أن القتل مرفوض فإن السكوت على الحرمان والشكوى والقهر من الأمور المرفوضة. ويبقى هنا هامش دقيق وكثير الأهمية على كلام الرئيس الذي يحول أن يقدم سرقة وطن وطرد شعب من أرضه وتعرضه المستمر للقتل والنفي والقهر مدة عقود من الزمن على أنها حالة من " مجرد الحرمان والشكوى " !؟ متناسياً أو متجاهلاً عن عمد أن سرقة الأوطان واحتلالها والتنكر لحقوق الشعوب ومحاولات إخضاعها بالقوة تقود وينبغي أن تقود إلى المقاومة المشروعة التي قد ينتج عنها القتل؛ والمقاومة المشروعة هي ما يحاول الرئيس أن يضفي عليه صفة الإرهاب !؟ وهذا من أعاجيب الرئيس العجيب؟! وهو ما يدفعنا أو ينبغي أن يدفعنا إلى إطلاق التساؤل المر : كيف تواجه الولايات المتحدة الأميركية هذا الموضوع؟! وهل تسأل نفسها عن دور كبير لها في صنع المياه العكرة التي ينشأ فيها الإرهاب، ومنها مياه الشرق الأوسط؟! .‏
                                قال الرئيس كلنتون أيضاً في خطابه الهام : " هناك الكثير ممن يعتقدون بأن تصادماً حتمياً بين الحضارة الغربية والقيم الغربية وبين الحضارة والقيم الإسلامية. أنا أعتقد أن هذا الرأي مخطئ تماماً. " وهذا منه نبذٌ طيب لفكرة صاموئيل هنتنغتون حول صدام الحضارات أو صراعها ومن يقولون بهذا الرأي من الأميركيين؛ وأجد نفسي متفقاً مع ما ذهب إليه الرئيس، فالثقافة تبني جسور التفاهم والثقة بين الشعوب، وتؤسس للمعرفة التي تزيل بدورها بعض أشكال العداوة الناتجة عن جهل بالآخر، والإنسان عدو ما يجهل كما يقول مثلنا العربي العريق؛ والثقافة بمعناها السامي تقود إلى ازدهار الحضارة البشرية، لما يحققه التنوع من تقدم وغنى في ظل الاحترام والحرية والمثاقفة الصحية السليمة؛ لا سيما إذا وضعت الثقافة في خدمة المبادئ والقيم الرفيعة، وليس في خدمة المصالح المادية والإفلاس الروحي والتعصب والفساد ومنظومات قيم المجتمعات الاستهلاكية الملفقة، والقيم التي يقول بها أشخاص ما زال بعدهم الحضاري مربوطاً إلى أنشوطات رعاة البقر، ولا يرون في البشر الآخرين إلاّ مجرد حقول استثمار لجشعهم وتفكيرهم البشع في معاني العيش المشترك لبني الإنسان؛ ذلك الذي يقوم لدى كثيرين منهم على أساس من تمييز عنصري وتعال مريض وجهل يتزيَّا ويتزيَّن بمعطيات تقدم تقني لا تحكمه قيم حضارية وخلقية ؟!؟‏
                                لقد بقي في خطاب الرئيس ما هو جدير بالوقوف عنده، وما هو جدير بالتفكير فيه، نظراً لأهميته؛ لا سيما الموقف من الإسلام والنظرة " الرسمية " إليه : " والأميركيون يحترمون ويجلون الدين الإسلامي. "، ولكن السؤال ينصرف هنا إلى الممارسة والموقف العملي من الإسلام وليس إلى الكلمات المجامِلة أو المراوغة الموظفة لذر الرماد في العيون وكسب البسطاء والتعتيم على رؤيتهم؛ إن من المؤسف أن الكثير من الممارسات الأميركية تكذب الادعاء الكلامي الرسمي.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع629//3/10/1998‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X