إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    دور المثقف في المقاومة
    علاقة جدلية، حيوية وعميقة، تقوم بين من يكتب سفر خلاصه بدمه، ومن يكتب، من أجل الخلاص، أسفاراً بقلمه. أحدهما يدعو إلى تجسيد رؤية، ويمتطي صهوة الحلم مدخلاً لتغيير الواقع، ويختط طرقاً يدعو إلى السير فيها، والآخر يجعل من اقتحام عالم الرؤية والحلم بعزم روحه وجسمه، ومن سلوك تلك الطريق أمراً ممكناً وبمتناول المجتهد.‏
    وحين يحنِّي الدم تراب الوطن، وتلامس قدسه سلاميات الحروف الممتدة في عروق الأرض والشعب، وتخضلّ، وتضرب جذورها عميقاً في تربة الإبداع، وتذهب بعيداً في التأثير في أرواح وقلوب، ويغدو نشيدُها مسموعاً ومؤثراً، فيوقظ القلبُ عزماً في القلب، وتجد الروحُ طريقها إلى الروح، ويهز القول شجرة العطاء في كل نفس فيسَّاقط جناها ثمر العز طرياً طلياً، ويبعث فيها وهج التاريخ وزهوه، فتجود تضحية وفداء على طرق الحرية والكرامة ولتحرير؛ الأمر الذي يخلق مناخ تفاعل العطاء الإنساني وتبادله، بين كلمة مسؤولة نذرت نفسها للحق والحرية والحياة، وبين إنسان تتلخّص معاني الحياة عنده في وقفة عز على أرض وطن عزيز، ويحركه الوعي المعرفي دافعاً إياه إلى سلوك طريق التنفيذ، وتخلق الكلمة الصادقة فيه مناخ النضال، وتثمر روحه أملاً ونوراً وتجود بدم زكي يغذّي مشكاة النور والأمل على طريق مجد الإنسان ومجد الحرية ومجد الوطن.‏
    والعلاقة الجدلية ذاتها تقريباً تنشأ بين أولئك الذين يخلصون كلياً لتلك المهمة، وبين الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه، ويناضلون من أجل تغييره؛ فالمرء ابن المناخ الذي تهب عليه كلَّ يوم نسائمهُ ورياحهُ، ويتقلب على صفائح حرّه وقرّه.‏
    وإذا كانت الكلمة الحرة صاحبة إسهام في صنع قرار المقاومة وفعلها، وإذكاء نارها المقدسة، فإنها إنما تستنبت شرفها ومقومات حياتها وحيويتها وتأثيرها، في تربة الاستشهاد، وعلى عتبات مجده ومجد المقاومين من أجل الوطن والمواطن وغد انتصار الحق والعدل والإنسان. وعلى طرق المقاومة النوعية الصلبة للاحتلال الصهيوني، الذي يعلن اليوم عن عودة عنصرية نازية جديدة أكثر حقداً وخطراً على الإنسانية من نازية هتلر، على طريقها العربي، تزهو الكلمة الموقف بأن تنتمي إلى المقاومة وتمجِّدها وتسهمَ في إذكاء شعلتها، وبأن تتسامى إلى مقام الشهادة بترانيمها لتُقْبل هناك وشاحاً أو زينة على وشاح.‏
    لقد قدم أدباء من أبناء أمتنا إسهاماً في أدب المقاومة ومن أجل استمرارها، ووشاحاً لمجد الشهادة وأبطالها، وواكبوا ذلك الجهد السامي الذي يقدمه أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية في جنوب لبنان وفي المحتل من فلسطين، ورفعوا أصواتهم من أجل استمرار المقاومة واتساع مداها؛ وقدموا ثمر الكلمة ليكونوا ناراً ونوراً: ناراً تحرق الفساد الذي يصيب الضمائر وينشر العفن في نفوس، ونوراً يهدي إلى طريق الخلاص والشهادة ويضيء صرحها الشامخ في أرضنا العربية. وهو بعض الإسهام في المواجهة الثقافية على الجبهة المفتوحة مع الاحتلال والغزو الهمجي المستمر، الذي تشنه إسرائيل، مدعومة بالصهيونية والإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، ولم يكن ذلك منهم سوى جهد المقلِّ، فالأدب أكثر قدرة على العطاء للمقاومة مما أعطى والمثقف المبدع يستطيع أن يفعل الكثير مؤكداً في عطائه إيمانه المطلق بقدرة شعبنا العربي على تحقيق النصر، واعتزازه بالعمليات النوعية وبالبطولات الفذة التي يقوم بها أبناء أمتنا العربية ضد العدو الصهيوني في جنوب لبنان وفلسطين، من أجل الحرية والكرامة والاستقلال، من أجل انتصار الحق والإنسان في عالم غدا فيه الحق والإنسان غريبين مشردين، وليس لهما ملجأ وسلاح سوى شعلة الدم والكلمة الموقف، في جهادهما من أجل البقاء في أرض البشر، ومن أجل قيم خيرة في عالم أهم ما يحتاج إليه القيم الخيرة.‏
    وما ينبغي أن يؤكد عليه الكتاب خاصة والمثقفون عامة هو حاجتنا إلى استمرار المقاومة النوعية في هذه الظروف التي ينمو فيها سرطان الاستيطان والتآمر الأميركي- الصهيوني على مواقع الصمود والمقاومة في الوطن، وتحقن اتفاقيات الإذعان السابقة بما ينعش مسيرة الاستسلام ويوطد لإسرائيل ومشروعها أركاناً في أوطاننا.‏
    ومن أولى واجبات المثقفين:‏
    1- الدفاع عن شرعية المقاومة ومشروعيتها، لا سيما في ظل ظروف وسياسات وحملات إعلامية صهيونية وأميركية وغربية وحتى عربية أحياناً تريد أن تسبغ عليها صفة الإرهاب، وتسحب عنها المشروعية وتحملها مسؤولية تدمير "السلام" وفرصه، فالمقاومة ضد الاحتلال حق مشروع لمن تقع أرضه تحت الاحتلال، وهذا الحق المشروع ينبغي الدفاع عنه في معارك الشعوب وهو من أوّل الواجبات وأقدس المهمات.‏
    2- استلهام تضحيات المقاومين وبطولاتهم ومعاناة أسرهم، في الإبداع الأدبي والفني، وتقديم المقاومة بأجلى صورها وأرفع قيمها وأنصع تلك القيم إلى المواطنين والرأي العام، ورفع نماذجها قدوة وإعلاء قيمة الفداء التي تقدمها تلك النماذج مثلاً يُحتذى، لا سيما في المدارس والجامعات وأوساط الشعب.‏
    والمثقف مسؤول بحكم الموقف والاختيار والوعي عن إظهار قيمة المقاومة وضرورتها وفضائل القائمين بها فمن يقضي من أجل الوطن، ويضحي بمستقبله ومستقبل أطفاله ليس كمن يتاجر بالوطن وينام على حساب راحة الآخرين وأمنهم؟ ومن يدفع دمه ليعيش الآخرون بكرامة ليس كمن يمتص دم الآخرين ليعيش على هامش القيم والكرامة؛ ومن واجب المثقف أن يبرز ذلك ويدافع عنه.‏
    3- على المثقف وسادن الثقافة المسؤول تاريخياً عن دورها ومكانتها ألا ينهزم من الداخل، فيلحق الهزيمة بالآخرين، وألا يعمل على غرس روح الهزيمة في الأجيال؛ وألا يضع ثقل الوعي الثقافي في خدمة العدو أو في مجرى فعل سلبي من شأنه تفتيت الثقة وإضعاف الإرادة الوطنية أو تدميرها وإغلاق منافذ الأمل أمام الناس، ليقودهم من بعد إلى الاستسلام وهو يتغنى بواقعية انهزامية يكون من نتائجها القضاء على المعطيات الإيجابية التي تمكِّن الفرد والأمة من المبادرة إلى فعل منقذ في كل اتجاه؛ والتنبه إلى أوضاعها واستدراك أحوالها بكل السبل.‏
    فالثقافة التي تصنع الهزيمة أو تكرسها أو توحي بها ثقافة تقوم بدور الطابور الخامس في الداخل، وتعمل على كسر ظهر المقاومة بدلاً من القيام بإسنادها معنوياً، وهي بالتالي تكسر ظهر الشعب بالغفلة أو بالتغفيل والتضليل، وتسلم الوطن والأمة إلى الهزيمة والضياع.‏
    4- على المثقف أن يقدم، على أرضية العلم والإيمان، والعمل بهما خطاباً بنّاءً يصب في مجرى الحق والتحرير والحرية والعدل، ويسعى إلى إقناع أبناء الأمة بأن قضية الفئة المقاومة هي قضية الجميع، ومسؤولية دعم ذلك مسؤولية الجميع لتغدو المقاومة قضية شعبية وفعلاً شعبياً أيضاً وهذا يستدعي منه:‏
    أ- التدقيق في نوع الخطاب المطلوب في الظروف والأوضاع الراهنة. وتقديم هذا الخطاب مهما كانت نتائج تقديمه مكلفة بالنسبة له. /لاسيما في ظل وجود ضخ إعلامي مضاد للأمة وللمقاومة، ووجود أنظمة عربية مستسلمة أو تدعو إلى الاستسلام وبيدها قرار السلم والحرب ومعظم مقومات ذينك الفعلين/ مهما كانت متطلبات تحويل ذلك الخطاب إلى فعل قوة يؤدي إلى حالة إيجابية ونتائج عملية على الأرض، ومهما كانت متطلبات ذلك قاسية. فَنَفَسُ الأمم لا يقاس بنفس الضعفاء من أفرادها، أو بنفس أفراد بل أجيال أحياناً.‏
    ب- تقديم الأنموذج العلمي في سلوكه وممارساته ليعطي لخطابه مصداقية واقعية محسوسة وملموسة، فمن دون تلك المصداقية يتحول الخطاب إلى شعار فارغ، وما أكثر ما عانينا من الشعارات الطنَّانة الفارغة من كل مضمون عملي وقد لا يكون العيب في الشعار، وإنما في الأداء الذي يحكمه أو يتحكم بنتائجه ومصداقيته ومفعوله.‏
    5- على المثقف أن يشكل ثقلاً في الحضور الجماهيري والاقتناع الشعبي والحشد الشعبي أيضاً وراء المقاومة وفعل التحرير، وأن يساهم في صنع إرادة التحرير وتعزيزها، وأن يشكل حضوراً في ساحة القرار السياسي ليدفع باتجاه ما يدعم المقاومة وتصعيدها على أسس من الكفاءة والاقتدار. فاستخدام مصداقية "الثقافي" وتأثيره وأدواته وبعده التاريخي كل ذلك مندوب إليه في ظرف تحتاج الأمة فيه إليه. وحين ينجح المثقف في إعطاء المقاومة صبغة شعبية شاملة يضع الأمة بإرادة حية على طريق النهضة والتحرير والتقدم.‏
    فالمواجهة أتون يصهر معدن الشعب ويطهره ويبرزه والمواجهة امتحان يؤدي دخوله بثقة واقتدار إلى ولادة جديدة يقبل فيها المرء على الحياة ويتصدى لصعابها. والمثقف شعلة هذه المواجهة ونورها، فليكن له فضل ما خلق له أو ما نذر نفسه له.‏
    6- أن يخلق مناخ المقاومة /نفسياً واجتماعياً/ وأن ينميه ويدافع عنه، ويعمل على توفير الرفد له، من خلال استنهاض الروح القومية التركيز على القيم الوطنية والانتماء الوطني والقومي، والمسؤولية الفردية والجماعية تاريخياً عن الوطن والمواطن، عن الحق والذي يدافع عنه، عن الحرية والتي يمهرها بدمه وبكل مقومات مستقبله.‏
    وأن يتواصل معها تواصلاً حياً، بالوسائل المتاحة، فالمقاتل يشعر بتدفق الثقة في روحه والقوة في أعصابه كلما شعر بجدوى الفعل الذي يقوم به وردود ذلك الفعل، ويتم ذلك بفاعلية إذ استشعر وجود الآخرين معه وتقديرهم لأدائه وتضحياته ومعاناته، وحبهم له واحترامهم لدوره.‏
    والمثقف أهل لأن يقدم له ذلك مع كل ما يثبت وجوده ويدعم ذلك الوجود، ويخلّد ذلك النوع من الأداء.‏
    7- تأكيد المثقفين على التضامن والتكامل الاجتماعي مع المقاتلين وأسرهم، مع المقاومة وشهدائها وأهل أولئك الشهداء، عامل من أهم العوامل التي تدفع أداء المقاومة إلى الأمام، ويخلق حالة اجتماعية فيها الاطمئنان النسبي على الأقل والمسوغ الفاعل لمد المقاوم بالزاد المادي والمعنوي، فضلاً عن مدها بتكاليف التجهيزات والمعدات والعدد.‏
    وتلك المسؤولية بوجهيها المادي والمعنوي من أهم ما يمكن أن يوظف المثقف جهده لخلقها وإنعاشها وتوفير قيمها ومقوماتها.‏
    ولا يكون ذلك بالخطاب "البرجعاجي" ولا برفع الشعار، ولا بالكلام من بعيد عبر أجهزة الاتصال ومجالات النشر، على أهمية ذلك، وإنما يكون بالتواصل الحي مع المقاومة في مواقعها من جهة، ومع الأوساط الاجتماعية التي يخرج منها المقاومون من جهة أخرى. ويعزِّز ذلك تبنى الثقافة المشكلات والقضايا الخاصة والنوعية التي لتلك الفئات والعمل على حلها وإيصال صوت أصحابها إلى حيث ينبغي أن يصل.‏
    8- تعزيز موقف المقاوم واختياره بكل ما في الكلمة من طاقة على الأداء بإقناع وإمتاع وإبداع، والعمل على خلق ذلك الفضاء الذي يمتد عبر تاريخ الأمة بين نماذج أبطالها وقادتها ووطنييها الحقيقيين وبناة مجدها وبين هؤلاء الذين يقاومون اليوم؛ والوسائل إلى ذلك كثيرة وما يبدعه التصميم من تلك الوسائل أكثر بكثير.‏
    فاستقرار التاريخ واستذكار مواقعه ومواقف صَنَعَتِهِ سبيل، وإظهار الحق التاريخي في الأرض سبيل، وحماية المقدس والعقيدة سبيل، والدفاع عن قيم الأمة ووجودها سبيل، وحماية الأهل والأطفال والمستقبل سبيل، والوطنية بجلاء معانيها وقيمها المشرقة مجسدة في فعل منقذ سبيل. ومن يؤمن بقضية يبدع في إيجاد سبل خدمتها ونصرتها وتخليدها.‏
    ولا أريد أن أغفل حقيقةً وواجباً على الثقافة حيال الوطن والإنسان من جهة وحيال المقاومة في وضع يعاني منه الوطن والإنسان معاً من جهة أخرى؛ وسبيلاً من سبل تحويل المقاومة إلى إرادة تحرير شعبية شاملة، وقرار سياسي وجماهيري يتحمل عبء ذلك التحرير وينهض به. وأعني بذلك العمل في جبهة الوطن الداخلية لتحرير المواطن من الجهل، وتخفيف معاناته، ومقاومة من يلغي حريته وينتهك حقوقه وحرياته، ويمنعه من ممارسة دوره في المشاركة في صنع القرار بممارسته الحرة والمسؤولية الواعية لمحيطها وظرفها وأدواتها وغاياتها، ممارسته لديمقراطية نظيفة وسليمة أو أقرب ما تكون إلى النظافة والسلامة. فالثقافة التي تصنع مواطناً حراً تهيئ عملياً لوطن حر، وتقيم من كل مواطن حصناً للحرية ومقاوماً في سبيلها، سواء تعرضت الحرية للانتقاص بفعل عدوان خارجي على الوطن، أم بفعل يقع على المواطن جراء ممارسة سلبية داخلية.‏
    فالوطن الحر يقيمه الأحرار ويدافعون عنه، والحرية لا تتجزأ، وتتكامل مع واجبات وحقوق اجتماعية وتكتمل بها وبالوعي التام بالحق والعدل وصلاح الغاية والوسيلة. وللحرية شرطها البشري والاقتصادي والسياسي والحقوقي، وكل ميدان من تلك الميادين هو مجال عمل مثقف يبدع في خدمة المقاومين على الجبهات جميعاً، جبهات البناء الداخلي وجبهات الدفاع والتحرير.‏
    إن محاربة الفساد نوع من تعزيز المواطنة الصالحة ومن ثم المقاومة الناجحة، وبالتالي التحرير والحرية والبناء السليم: تربوياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً يساهم في بناء وضع وطني وقومي سليم هو الآخر يمكن من استشعار الواجب والمسؤولية في الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله، ويدفع باتجاه المقاومة:‏
    - مقاومة الانهزام وعوامله في الأعماق الفردية والآفاق الاجتماعية والوطنية والقومية.‏
    - ومقاومة فعل القوة الغازية: عسكرياً واقتصادياً وثقافياً.‏
    - ومقاومة الاحتلال والاستيطان والمشروع العنصري النقيض لمشروع الأمة النهضوي.‏
    إن المقاومة روح /معنوية ووطنية وعقيدية وخلقية وإنسانية/ تحكم الجسد وتسوقه في طريقها، وبمقدار ما ينتشر الوعي المعرفي ويتجذّر، تنمو هي وتتعمق وتتجذر في الذات والمجتمع بنمو الوعي المعرفي وتعمقه وتجذره واستشرافه. والمثقف هو حامل الوعي أو هكذا يفترض به أن يكون، ولذا تقع عليه مسؤولية خلق مناخ المقاومة وحمايتها والدفاع عنها؛ فالعلاقة بينهما علاقة عضوية بالمعنى الدقيق والشامل والوسع للكلمة.‏
    فهل يبقى، وحالنا ما نرى ونعرف جميعاً، مبرر لتساؤل يقول: ما الذي يصنعه المثقف للمقاومة؛ وهولا يملك أمر نفسه ولا حريته ولا أمر الوطن وقراره؟!‏
    هنا نتوقف عند حالة لابد من التوقف عندها، ومسؤولية، لابد من مواجهتها:‏
    الحالة هي: وطن منتهك ويفتك به المرض والفساد، وتفترع أقطاره عصي سلطة لا تقيم للآخرين وزناً.‏
    والمسؤولية هي: من يخرجنا من هذا الوضع أو يدفع باتجاه الخروج منه، وينير شمعة على طريق ذلك؟!‏
    وهنا تبرز مسؤولية المثقف بحكم الوعي والموقع والاختيار.‏
    فهل يقع عبء الريادة والكشف والقيادة في عصر العلم والمعلوماتية والمعرفة المتنامية على العامل والفلاح والحرفي؟! أم تراه يقع على الشرائح الأكثر وعياً واقتداراً على الصدور بفعلها ومواقفها عن وعي، واستخداماً للطاقات والإمكانات والأدوات بوحي من ذلك الوعي؟!‏
    السُّلَط العربية قد تكون غارقة في تفاصيل الأداء على أرضية الهزيمة أو الإحباط أو بؤس الرؤية المستقبلية فمن يقدم لها روح الشعب عبر رؤية تستمد مقوماتها من واقع الشعب وتطلعه واستقراء تاريخه؟!‏
    إنها الثقافة، وإنه التعلق بحب للأمة والوطن والعدل والحرية والناس معاً، يجعل أداء المثقف أداء شبه نبوي في الاستشراف، وفدائي في تحمل المسؤولية، وعقلاني بمواجهة الأوضاع القائمة، وعملاقاً في التضحية على أرضية التمسك بالحق وإضاءة طريق الناس إلى غدها بتقديم أنموذج الشمعة التي تحترق ليمشي الشعب إلى غد فيه الكرامة والسعادة والحرية.‏
    إنها ضريبة المعرفة وضريبة الانتماء معاً، وهي نوع من صعق البرق لأرض تستنبت فيها روح الخصب وتلقن كلمات الحق بصرخات الرعد، على مطر الوعي أن يسقي عطش الروح ويستنبت في النفس زرعها وثمرها الطيب، وأهل الكلمة، من بين أهل الثقافة، مسؤولون عن الريادة وتحمل مسؤولية الأداء في العتمة بمواجهة سطوة الجهل والسوط، وعليهم أن يدخلوها صفاً، حزمة عيدان لا يسهل الاستفراد بها عوداً عوداً، ولهم من بعد على الناس ألا يقولوا لهم ما قالت اليهود لموسى :"اذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ها هنا قاعدون".‏
    وإذا نجحت المقاومة في تقديم نماذج من القيادة والأداء، ترى نفسها في حالة أبوة مسؤولية عن كل مقاوم، واستثمرت الثقافة هذه الحالة، فإن مناخاً إيجابياً يمكن أن ينتشر ليشكل حالة استقطاب شاملة وراء هذا النوع من الأداء الذي نحتاج إليه في وضعنا الراهن.‏
    وتشير سلسلة أداء المقاومة التي ننادي بتآخي الثقافة معها، بل بتداخلهما وتواصلهما عضوياً، إلى تقدم مؤثر في الأداء النوعي الذي يكلف العدو كثيراً، كما تشير المعطيات والاستنتاجات إلى أن التحامنا بالعدو على هذه الصورة الغريبة المؤثرة في مرحلية نضالية "تكتيك" على الهدف الاستراتيجي البعيد، هو من الأمور المطلوبة لأنها:‏
    - تحد من استخدام أسلحته الفتاكة في ساحة المواجهة التلاحمية.‏
    - وتبقيه في حالة استنزاف وعدم استقرار لا تمكنه من الراحة والبناء على أرضية أمن وأمان يمكنانه من استقدام ملايين المجلوبين لأغراض الاستعمار- الاستيطاني- العنصري وطرد شعبنا وتصفيته بأساليب مغطاة بزركشة قانونية وإعلامية.‏
    - وتبقى قضيتنا في الضمائر والذواكر وأمام الأمم، تلح في استنجاز حسمها لمصلحة الأمة؛ وتدفعنا في طرق عمل مبدع على طريق التضامن أو الاتحاد أو التوحد في إطار من النهضة الشاملة يستدعيها فعل التحرير والتطلع نحو وجود حي حضاري في عالم لا يحترم إلا الأقوياء بالعلم والمعرفة، بالقوة المادية والمعنوية.‏
    إن الثقافة وأهلها مندوبون لفعل مسؤول يكون للمقاومة عماداً وسنداً، ويحيطها بمد شعبي شامل، إلى أن تصبح المقاومة مسؤولية شعبية وأداء عربياً شاملاً حتى التحرير والنصر.‏
    وليس ذلك على أمتنا ومثقفينا ومقاومتنا بعزيز.‏

    الأسبوع الأدبي/ع581//11/ت1/1997‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      أفكار في ليل صيني هادئ
      بعض الليل يكون لي مريحاً، في هدأته أرى واسمع كما لم أر وأسمع من قبل، فيه يرتد إلي شيء مني يكون مبعثراً هنا وهناك.‏
      كنت أنظر من نافذتي العالية عبر قلبه المشرع القباب، وفي إحداها بدا لي قمر الصين بهياً وحزيناً؛ إنه منقوص كامِد راكد في صفحة سماء بدت في مرآته مغبرّة.‏
      كنت أنظر إلى المدينة التي يفترسها الليل بهدوء تهيؤه ساعاته المتأخرة "بيجينغ" مسترخية في شبه العتمة أو شبه الظل بعد نهار منهك، وعلى قممها الاسمنتية تلمع الإعلانات الضوئية الملونة مقدمة صورة الانفتاح والتنافس والوضع الجديد؟ إن أحد عشر مليوناً من البشر على الأقل يختفون في هذه العتمة المخترقة بسهام النور، أحد عشر مليوناً من البشر يأكلون ويعملون وينامون ويحلمون ويتطلعون إلى الحياة باثنتين وعشرين مليوناً من العيون، ومثلهم ومثلها كثير جداً في هذا البلد العملاق الذي يتجاوز عدد سكانه ملياراً ومئتي مليون نسمة، وله رصيد بشري آخر في بلدان تحيط به أو تنأى عنه قليلاً بعد بالملايين؛ أما رصيده في التاريخ فيمتد عريقاً على ضفاف النهر الأصفر ليسجل أقدمية في كشوف من الطباعة والبوصلة، ويتواصل مع جديد في عالم التقانة العصرية منه الصاروخ والذرة والحواسيب ومحطات الفضاء والاقتصاد المتنامي والرصيد المالي الذي يسجل احتياطاً من العملة الصعبة يبلغ 130 مليار دولار قبل عودة هونغ كونغ و/220/ ملياراً بعد عودتها مسجلاً بذلك منافسة لليابان في هذا المجال.‏
      في هذه العاصمة الثقافية والسياسية والتاريخية للصين تجد رصيداً آخر تجدر الإشارة إليه بعد أن تم الاطمئنان نسبياً إلى حيازته وهو تطلع الشباب، فقد كان حلم الشباب الصيني هو الهجرة إلى اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، أما الآن فقد عادت تلك الأحلام لتنمو في أرض الوطن في ظل ما حققته سياسة الانفتاح وإعادة التكوين بغية دفع التحديث الاشتراكي، تلك السياسة التي بدأ التنظير لها " ينغ هشياو بينغ" عام 1979.‏
      لقد أعاد الصينيون تسميد حقول الأمل وفتحوا البوابة الاجتماعية وهم يتهيؤون بعد المؤتمر الخامس عشر للاهتمام بالتربية الروحية، ولا تستبعد التعاليم الكونفوشيوسية مطلقاً من أن تأخذ موقعاً في تلك التربية.‏
      نتذكر جميعاً حالة الاحتقان الخطرة التي وصلت إليها أوضاع المجتمع، لاسيما في أوساط الشباب، تلك التي عبرت عنها حوادث ميدان "تيان آن مينTiAN An MEN بوابة السلام السماوي" في حزيران 1989 ونتذكر كيف حاولت الذراع الأمريكية أن تمتد إلى هناك وتستثمر الأوضاع، ولكن الدبابة كانت أسرع من تلك الذراع إلى احتلال الميدان.‏
      كان الدرس قاسياً ومؤلماً ولكنه كان نذيراً ودافعاً في الوقت ذاته لتوجه كان بطيئاً فأخذ يتسارع لإحداث نقلة نوعية في الأداء والانفتاح والتطوير والتفكير.‏
      في عام 1984 كتب "دينغ شياو بينغ" مقالاً تحت عنوان" دولة واحدة بنظامين أو أسلوبين" وكان يتوجه فيه إلى الغرب وسكان هونغ كونغ معاً ليبين إمكانية تعايش أو بالأحرى قيام النظامين الرأسمالي والاشتراكي في دولة الصين الواحدة، وهو الاختيار الذي يرضي سكان هونغ كونغ التي كانت على مائدة المفاوضات لتعود إلى حضن الوطن.‏
      فهل كان" بينغ" يفكر لهونغ كونغ فقط؟! وهل يمكن حصر نظام مقبول في دولة في إحدى مقاطعاتها؟! إن الإجابة على هذا السؤال تستدعي النظر فيما يحدث حالياً في كانتون وشنغهاي وبيجين وغيرها من المدن، وما نراه من سياسة اقتصاد السوق، والاستعداد لمنافسات العولمة، وانتشار البورصة" والهاتف النقال والسلع من كل بلد وكل لون والاستثمارات الأجنبية والشركات المساهمة وسواها من مظاهر التوسع في انتشار " النظامين" في الدولة، مع التركيز على " الاشتراكية الصينية"‍؟‍.‏
      لقد شكا القادة الصينيون المتأخرون من أخطاء أوقعت البلاد والتجربة الاشتراكية الصينية فيها" رغبة تجاوزت الواقع مما أوقع البلاد في سلسلة من الأخطاء الناتجة عن الأوهام غير القابلة للتطبيق" ولنا أن نفكر عميقاً وبانفتاح بلا ضفاف في كل ما يمكن أن يؤدي إليه هذا في ضوء المراجعة التي يُراد لها أن تكون شاملة: الإقبال على" الخصخصة" حسب معيار، " وتحريك قوى الإنتاج واستخدام كل الوسائل والسبل وأشكال التنظيم بجرأة " لخدمة الاقتصاد والتربية الجديدة ولمجاوزة أشكال التخلف والفقر لتحقيق" صين نامية" بسرعة غير عادية في السنوات القادمة.‏
      ويجوز لمن يريد أن يذهب في التفكير بعيداً أن يتساءل: هل الصين تهجر الاشتراكية بهدوء وتخرج منها بأيديولوجية كما دخلتها بأيديولوجيا؟! إنني لا أقول بوجود مثل تلك السياسة، ولكنني أقول بأن المصلحة العليا للصين هي اليوم فوق الأيديولوجيا وهي الموجِّه الحقيقي للسياسة.‏
      في عام 1911 بدأ الدكتور" صُون يات صِن" ثورة في الصين الحديثة توجهت نحو تحقيق الاستقلال والحرية والديمقراطية، وقطعت بالبلاد أشواطاً جيدة ...وبعد وفاته بسنتين جاءت سنوات من حكم مهدت لثورة "ماو زيدونغ" الشيوعية/1949/، وكانت ثورة ثالثة في الصين على يدي" دينغ شياو بينغ" يتابع تنفيذ نظريتها وتوجهاتها وبرامجها " جيانغ زمين"؛ فهل تلتقي روح التوجه العام في "صين " بداية القرن مع" صين" نهايته وتتضح طريق بدأها "صون يات صِن" ويتابعها" جيانغ زمين"؟!‏
      إنني أطرح هذا التساؤل مع معرفتي التامة بأن الروح العام لتوجه المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني هو التمسك خاصة بـ " اشتراكية صينية" مع تثبيت "شرقيتنا وصورتنا"، وأطرحه وفي ذهني سؤال أساس: هل هناك أنموذج للاشتراكية ونسخ عنه؟! أم أن هناك طريقاً للاشتراكية وفروعاً له؟! أم أن هناك أهدافاً للاشتراكية وأساليب متنوعة للوصول إليها؟! أم أن الاشتراكية تنطوي على مطالب اجتماعية وخُلُقية كانت ومازالت هدفاً للإنسان يعمل على تحقيقها بأساليب مختلفة؟! وهذا قد يقودنا إلى إطلاق عنان سؤال في الفضاء: ما هي الاشتراكية اليوم؟! وكيف تكون؟! وهل تكون؟!‏
      من قمة ثالثة ناطحة سحاب علواً في العالم بعد شيكاغو ونيويورك، وثالث أعلى برج تلفزيوني في العالم بعد تورنتو وموسكو، يمكن أن ننظر من شنغهاي إلى الصين في اتجاهين تحت عنوان" دولة واحدة بنظامين" وهو العنوان الذي حدده" شياو بينغ"، ولكن من دون قيد داخلي من أي نوع؛ لنرى في زحمة تداخل مشاهد البورصة و" الديسكوتيك" والميني أو الميكرو" جيب من فوق الدراجة الهوائية أو النارية، وصراخ "الكولا" و" كرستيان ديور" والمرسيدس والغارقين في حقول الأرز وشواطئ الأنهار العظيمة يبحثون عن الرزق وعن وفرة يمكِّنون بواسطتها أطفالهم من اقتناء الجديد واقتطاف متع السوق الاستهلاكية، التي تجمِّلها وتضخمها إعلانات التلفزيون.. أقول فلننظر ولنر بعض معالم طريق يربط بين عمق الأرض وسطحها والفضاء، الماضي والحاضر والمستقبل، التقدم المذهل والتخلف المضمَّخ بآلام الفقر، الصين والعولمة؟!‏
      ولنبدأ مع التوجه الاشتراكية الذي لم تتخلّ عنه الصين وتبدو خصوصيته الصينية في تفكير تظهر فيه بعض التقليدية العصموية أو العصموية التقليدية للنظرية التي قالت باحتكار الحلول العلمية لمشكلات البشرية، ذلك التفكير الذي يقول : إن الاشتراكية تبدأ، أو إن عصرها، أي عصر الاشتراكية الصينية يطل برأسه الآن.‏
      إن مؤسسات الإنتاج الاشتراكي جميعاً / مصانع معامل مزارع مؤسسات.. الخ مما يشكل القطاع العام / يطبق عليها نظام صارم فيه الربح والخسارة أساس البقاء والاستمرار "ما يخسر يباع" وما يربح يبقى، والقطاع العام ينبغي أن يكون منتجاً جيداً ومزاحماً في السوق ومحققاً للربح أو أنه لا يصل إلى الخسارة.. وإلا... فإنه يتحول إلى قطاع خاص بالخصخصة، أو إلى مشترك بالمساهمة أو إلى تعاون استثماري أو استثمار جماعي. وقد تمت تصفية الكثير من المؤسسات الإنتاجية أو الخدمية التي لا تحقق ربحاً، وهذا عندي جيد واقتصادي وعقلاني وعادل لأنه يكِشُّ المتاجرين بالقطاع العام والذين ابتلعهم الكسل والفساد "وكرَّشوا" على جثة الشعب. ولكن أي قطاع عام يبقى صامداً في وجه الفساد والإفساد، وأي إنتاج متفوق يتحقق مع بقاء الشروط المعيشية والاجتماعية على ما هي عليه بالنسبة للبشر، في حين تطلق أحصنة الطبيعة البشرية من أعنتها لتحقق في مجالات مجاورة دخلاً متميزاً وذواتاً تريد أن تحقق وجودها وخصوصياتها وقدراتها الفردية الخاصة وأحلامها!؟ وهذا شيء إنساني عادل وصحيح وطبيعي ولا بد من أن نحترمه ونرعاه في ظل دعوة لاحترام الحياة وتحقيق السعادة والحرية للإنسان فيها؟!‏
      لقد قال قادة الصين المعاصرة، وأكد " المؤتمر الأخير لحزبها" حقيقة لا يمكن مجاوزتها ومشكلة لا يمكن حلها مع إلغاء الخصوصية الفردية ومكانة الفرد في المجتمع والأداء الخاص لأفراد خاصين، ومن ثم الأخذ بأصول تربية تنمي طاقات فردية عملاقة وتؤكد قدرتها على الإبداع، قال أولئك القادة: " مشكلتنا الحالية هي أننا غير قادرين على اكتشاف العقول الكبيرة والانتفاع بنتائج قدراتها عندما نكتشفها". وربما كان موضوع التعامل مع الفرد وتكوين العبقرية واستثمارها ومراعاة الخصوصية الفردية والقومية، هو من أهم ما أهملته التربية الاشتراكية المحكومة بنظرة سياسية وبأيديولوجيا أثرت على السياسة أو سياسة أثرت على الأيديولوجيا وأثمرت حالة طغيانيّة وسلطة لا ترحم المخالفين.‏
      وربما كان مدخل " دينغ شياو بينغ" إلى عصر مغاير يحمل فكراً مغايراً ولا تحققه سوى تربية مغايرة لا تأتي به أصلاً إلا مراجعة شجاعة للذات والأفكار والتطبيقات وللتجربة والشعارات والممارسات؛ وهو المدخل الذي لخَّصه بقوله في آب 1991: " فلنستخلص الدرس من تجربتنا، ونعرف كيف نستعمل الرجال العباقرة. هاهما سؤالاي الرسميان".‏
      فكيف السبيل إلى ذلك؟ وهل حلَّت نظريته المشكلة، أم أنه يريد أن يبدأ الطريق ويترك للتجربة الجديدة أن تحدد مسارات وتنتج قيماً وتبدع تغييراً؟!‏
      إن هناك رؤؤس أموال خارجية بدأت بالاستثمار في الصين، وأقيمت مؤسسات مشتركة وفتحت آفاق أمام قطاعات اجتماعية هائلة وطاقات شابة مغامرة جعلتها تلك الفرص والأفاق تبقى في أرضها وتبحث عن عمل وتستثمر مناخ الأمل؛ هذا إلى جانب الخصخصة والتطلعات المشروعة للأفراد العاديين بتحسين دخلهم وتغيير نمط حياتهم وارتشاف جرعات من السعادة على طريقتهم. فهل سيكون ذلك في حيِّز الضبط والربط، أم أن أحد" النظامين أو المنهجين" سوف يبتلع الآخر؟! أم تراها تكثر في أرض الصين القطط السمان وتنمو وتقوى وتستقوي بغيرها، وتترك الناس أكثر هزالاً مع مرور الزمن وأكثر احتياجاً إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بأسلوب ما، قد يكون ثورياً ؟!.‏
      إن الأسئلة ملقاة في أجواف الأفواه وينداح بعضها على الشفاه، وهناك تطرف من كل نوع، ظاهر أو باطن؛ ولكن صخب التيار الاجتماعي العام هو باتجاه الإقبال على تجربة استخلاص دروس التجربة وخوض بحور الأمل، واختراق آفاق الحلم، والذهاب مع الجديد إلى مداه.‏
      الصين عالم والصين في العالم، معادلة صعبة الضبط صعبة الحل، والتفكير بفهمها واستيعابها ممتع، وهي ما زالت توحي بالتوازن. لا يوجد في الصين اليوم خراب اجتماعي بدرجة ما هو موجود في المجتمع الروسي- أو الاشتراكي- الذي خلفه الاتحاد السوفييتي المنهار وبلدان المنظومة الاشتراكية المفككة المتداعية، ويبدو لي أن الصين لم تصل إلى ذلك لأسباب منها:‏
      1- أنها اختارت طريق الاشتراكية في نهايات زمن الستار الحديدي السوفييتي أو بعد سقوطه، وظلت لفترة من الزمن بعيدة عن عصر الطغمة العصمويّة ودمويتها. صحيح أنها لم تنجُ من ذلك وأن ما دفعته من ثمن في ظل ذلك كان باهظاً وقاسياً على صعد شتى، بشرية وغير بشرية؛ ولكنها بدأت بعد أكثر من ثلاثين سنة على تجربة " الأخوة الألداء" في الاتحاد السوفييتي السابق.‏
      2- أنها اختارت طريقها الخاصة إلى الاشتراكية، وحققت ثورتها ونظامها بالفلاحين الذين لم يكونوا أداة ثورية بنظر الأيديولوجية السوفييتية والماركسية اللينينية المعتمدة على العمال؛ وهي ما زالت تصر على انتهاج طريقها الخاصة وعلى إثبات خصوصيتها بعد عهد "ماو زيدونغ" الذي قال بذلك، وبعد خلافاتها مع السوفييت.‏
      في الصين بنى" ماو" نظاماً اشتراكياً بسواعد الفلاحين ومكّن معظم شعبه من الشبع، وأشهر في وجه قطاعات وأفراد منه مياسم النار، وأذاق الموت من أذاق، وكشَّر للمثقفين عن أنياب حادة، في فترة من الزمن، وألقى بعضهم في محابس " الثورة الثقافية" أو مصحَّتها، ليتعلموا معنى الكتابة الواقعية وهدفها ومعنى الواقعية ونظريتها. ولكنه بقي مخلصاً لمبدئية مغايرة نسبياً ولطريق صينية خاصة إلى الاشتراكية، ولتجربة شعبية وثورية ما لبثت أن استنفدت نفسها في عهود لاحقة ثقافياً واقتصادياً، واستنقذت الصين من مواقع تخلف ومهاوي خراب.‏
      فتوجُّه "دينغ شياو بينغ" يتمتع برؤية متقدمة لمتطلبات العصر والتقدم العلمي والتقني، تستدرك بعض ما وقع فيه السابقون من رفاق درب الاشتراكية الصينية والرفاق الألداء ـ السوفييت ـ الذين مضوا قبل أن يمضي هو .‏
      3- أنها لم تقع ضحية وجود العصابة الصهيونية ونفوذها في التجربة السوفييتية، وتمركزها في مواقع القيادة والتأثير، وفي بؤر التكوين الاجتماعي والفكري والسياسي المباشر.‏
      ولم تكن تتلقى- على مدى زمني بعيد - توجيهاً من قيادات يحكمها المشروع العنصري الصهيوني وأمراضه وعقده ونظرته للآخرين؛ بسبب عوامل جغرافية وثقافية وتاريخية.‏
      وفي تقديري أن غياب التأثير والتوظيف الصهيونيين المباشرين / عن وفي/ القرار الصيني، الاقتصادي والسياسي والثقافي نسبياً، في معظم المراحل؛ كان منقذاً للتجربة الصينية نسبياً ومميزاً لها في بعض الحالات والمواقع.‏
      إن "الشيوعيين المنصفين" في أنحاء مختلفة من العالم يعترفون اليوم بالدور المدمر الذي قامت به الحركة الصهيونية في الجسم الشيوعي- الاشتراكي بشكل عام وفي الجسد السوفييتي من ذلك الجسم بشكل خاص، كما يدركون بشكل أفضل ويرون بصورة أوضح وأدق، ما قامت بعه الصهيونية من توظيف للشيوعية في خدمة مصالحها ومشروعها ودورها التخريبي في المجموعة الاشتراكية والاتحاد السوفييتي، ومساهمتها في تدمير النظرية والإمبراطورية، بعد أن استنفدت أغراضها منهما، واقتضت مصالح حلفائها أن يتم ذلك التدمير في توقيته وأسلوبه الملائمين.‏
      ويعرفون بشكل أفضل كيف ساهمت بذلك التدمير، وكيف تابعت وتتابع اليوم تخريب البُنى الاجتماعية والخلقية للشباب في تلك المجتمعات، بعد أن فتكت فتكاً ذريعاً بتلك البُنى طوال عقود من الزمن.‏
      4- والتجربة الصينية، من قبل ومن بعد، ترتكز على نمط اقتصاد آسيوي احتقره ماركس في الأصل وحكم عليه من دون تدقيق كاف ودراسة " علمية" تؤهل للحكم له أو عليه ـ وربما كان ذلك من صلب النظرية " العلمية " التي تحظى باحترام تقديسي عند أتباعها ـ وقد أثبت هذا النمط الاقتصادي في الصين، وهو اقتصاد أسيوي، أنه قابل للصمود والتطوير والنمو؛ وأنه قادر على التلاؤم وإنتاج تجربة" آسيوية خاصة" هي تجربة الصين الاشتراكية.‏
      5- إن القيادة السياسية في الصين، لا سيما في عهد" دينغ شياو بينغ"، قد استفادت من قراءة التجربة في ضوء تراث ثقافي خاص، وعقل بشري منفتح لم تجهز عليه العصموية العلمية وادعاءاتها؛ وتمكنت من تمييز مصلحة الصين ومن وضع الأيديولوجيا في خدمة تلك المصلحة، ووضع برنامج طويل الأمد يتمتع بالمرونة؛ برنامج مستخلص من تاريخ الشعب وخصوصيته ومن تاريخ التجربة واستخلاص نتائجها، للخروج بالصين من الشرنقة التي دخلتها وأخذت تنسج خيوطها حولها في مرحلة من المراحل.‏
      وتدرَّج فكره وتدرَّجت رؤيته نحو الانفتاح وإعادة التكوين وتحديث التجربة، ليس لأن الانفتاح لغة أميركية ولكن لأن الانفتاح على الآخرين تاريخياً لغة بشرية إنسانية تستغلها الآن الولايات المتحدة تحقيقاً لمصالحها. ونحا منحى الرغبة في الاستفادة من طاقة الفرد الذي يستغل الأرض وكأنه مالك لها. وقديماً قلنا نحن العرب وقال إسلامنا: الملك لله والإنسان يستثمر الأرض ولا يملك، وينمي أدواته في إطار الحرص على مردود مادي ومعنوي، يفعّل أحدهما الآخر وينميه، ويعود عليه وعلى أسرته وعلى حياته وأحلامه وعقله وجسده وروحه بمردود إيجابي، عملي ونظري؛ وبنى في ظل ذلك وتأسيساً عليه - بعد قراءة نقدية ومراجعة هادئة بعيدة عن الصراخ والشعارات والانقلابات - نظرية شاملة أثارت عليه حنق الحانقين في مرحلة من حياته وبنى في ظل ذلك مخططه للعودة إلى نمط الحياة الطبيعي، إلى نمط يحترم الطبيعة البشرية ولا يفكر بقسرها وكسرها وإعادة تركيبها في إطار مادي لا يرى السماء ولا تنبت له أجنحة ولا يسمح بأن يرى أحدٌ السماء ولا أن تنبت في الروح أجنحة؛ نمط يحاول أن يلبي احتياجات الطبيعة البشرية ويؤثر فيها من خلال مسايرتها ومعرفتها والاقتراب من حصونها والتأثير فيها بهدوء إن أمكن، إلى أن يتسنى تحقيق تطوير تدريجي مقبول عضوياً ومعنوياً ومادياً، بكل ما تعنيه أبعاد التداخل العضوي؛ معنوياً ومادياً، فردياً واجتماعياً، سياسياً وثقافياً واقتصادياً، من معانٍ وما تقود إليه من معطيات. من دون قسر وحصر وادعاء بعصموية علمية، تريد أن تدخل الإنسان مفرخة الصيصان وتقدم في النهاية نمطاً بشرياً مصنَّعاً بعجالة، على نمط النعجة "دوللي"؛ يحقق طوباوية منخورة بالوهم مثلما هي مستلقية على بساط الحلم؛ ولكنه لم يفكر أبداً بمدى الخراب الذي يصيب البشر والعالم جراء فقدان الطبيعة وقوانينها والإنسانية وقيمها ومقومات الحياة في ظلها.‏
      وإذا كانت الصين اليوم تريد أن ترى في البشر القادة أشخاصاً من ذرية الخطَّائين، وهم قد يخطئون، فإن لهذا معنى ومدلول بعيد وعميق، وله تأثير الخطَّاط الضوئي في سماء معركة؛ وقد يشير إلى أن المراجعة ممكنة في كل وقت وفي كل ظرف وفي كل اتجاه، وليس هناك ما يمنع من أن تتم باتجاه الماضي كما في اتجاه الحاضر من أجل استشراف مستقبل أفضل.‏
      هل هذا مخيف أو" ثوري" مرعب يدعو إلى قرع طبول الإنذار وأجراسه؟! من منظور شخصي خاص لا أرى ذلك، بل أراه مشجعاً- إن كان حدسي وظني صحيحين- على اختيار الطريق الأسلم والأقرب للتقدم والسعادة على أرضية "علم" لا يحتكر العصمة والمستقبل ولا ينثر الحتميات يميناً وشمالاً .‏
      الصين تنشد عظمتها، التي يمكن أن تتم بعد عقدين أو أكثر، ما لم يحدث تخريب في الجسد الشاب، وهو أمر توجد له نُذُر في الشارع اليوم، وما لم تنحرف التربية الروحية المنشودة وتأخذ بأهداف وأساليب لا تحترم الطبيعة البشرية والفردية والقيم والحرية وبناء الروح الوطنية ببناء الإنسان المتوازن بانتماء والمنتمي بتوازن. والصين في نشدانها لعظمتها تصنع عصرها على أرضية غير محدودة لشعب لا نظير لعدده في العالم.‏
      فهل نحن على أعتاب القرن الصيني في مطلع الألف الثالثة للميلاد؟! إنه سؤال يدوّم في فضاء واسع ولا يخلو من جدارة في الطرح وأحقية في تلقي إجابات جادة وجريئة واهتمام واقعي مسؤول؛ فالصين اليوم لا يستهان بما تقوم به، ولا بالسرعة التي تنجز بها ذلك تخطط له.‏
      أتعبني القلم قليلاً فوضعته لأريح أصابعي وعندما نظرت إلى المدينة- العاصمة بيجينغ كان الليل قد بدأ بالانهزام أمام فجر تتكاتف أشعته وتتكاثف، وكان خط الشفق يلوح من بعيد جداً، فأدركت أن هدأة منحني إيَّاها ليل صيني هادئ قد انتهت وحل نهار فيه الكثير من التعب وحقائق الوجود .‏

      15/10/1997‏
      الأسبوع الأدبي/ع582//18/ت1/1997‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        نحن والمهام الصعبة

        الشباب مستقبل الأمة ورصيدها والأساس المتين الذي يقوم عليه كل بناء تبنيه ويتحقق به التطلع الذي تبغيه، به يتعيَّن نوع حضورها بين الأمم ونوع أدائها على طريق التقدم، وعلى قدراته وطاقاته المادية والروحية يتوقف الأداء بإبداع في كل مجال من مجالات الحياة والعمل والعلم.‏
        وإذا كانت أمتنا تعاني في وضعها الراهن من مشكلات صعبة وأزمات حادة، وتعيش أوضاعاً متردية، فإن انعكاس ذلك يكون شديداً على الشباب، ووطأته تزداد شدة على مستقبلهم وسبل خروجهم بها من أزماتها، فكيف يكون وضع أمة، إذا كانت مشكلاتها في شبابها، وكيف تتحدد معالم المستقبل، بالنسبة لها ولهم، إذا كان الضياع أو الإحباط يسيطران على السياسات والرؤى والممارسات والتطلعات والآمال التي لها ولهم؟!‏
        إن نظرة متأنية نلقيها على التربية الاجتماعية والرسمية، في البيت والشارع والمدرسة، وعلى نوع المعرفة التي يهتم بها الشباب ومناهج التعليم المتاحة ومدى الاستفادة منها من جهة؛ وعلى قيم الشباب واهتماماتهم وتطلعاتهم التي يصنعها أو يساهم في صنعها على الأرجح: إعلام وافد وآخر راكد، أو راقد في التبعية والتخلف من جهة أخرى، تجعلنا في حالة من القلق والأرق، تضاعف همومنا الناشئة عن تردي الحاضر ملقية ظلالاً قاتمة على المستقبل ورؤانا له.‏
        فالشباب يضع الهوية، والأصالة والتراث موضع تساؤل من حيث الجدية والجدوى، ولا يخوض معترك هذا التساؤل على أرضية المعرفة الواعية بما لديه والقدرة على إصدار حكم واختيار قائمين على روية ودراية ومعيار، وإنما ينطلق في أكثر الحالات من اتهام جاهز يُروَّج له بأشكال مختلفة على أرضية مقولة تزعم أن الحداثة الضرورية لدخول العصر ولتحقيق التقدم تتنافى مع الأصالة والتراث ومقومات هوية منها اللغة والعقيدة ومعطى التقاليد والأعراف والعادات .‏
        وكأن التحديث وامتلاك العلم والعمل به يتنافيان مع العربية بما حملت، والإيمان وما يوجبه ويوحي به، ومع الأخلاق والأعراف الاجتماعية والسلوك والعادات تلك المحكومة بقيم العروبة والإسلام!!‏
        وشبابنا اليوم ينصرف عن جهاد النفس والعلم المحض والعمل المجهد إلى جهد المتعة السهلة والاستغراق في نِعَمِ مجتمع استهلاكي وقيمه ومواصفاته وما يرفعه ذلك المجتمع من قيم وشعارات ومعايير، وهو في ذلك يعيش التباساً يزيد درجة الإحباط وضعف الرؤية.‏
        ذلك أنه إذا كانت الحياة لا تعاش إلا مرة واحدة فقط وأن من حقه ألا يضيع فرص عمره وحظوظه من السعادة في الحياة، فإن ذلك بالذات يقتضي التدقيق في نوع الفرص ومعاني السعادة التي ينبغي أن يقتنصها الأسوياء ويسعوا إليها، وأنها ينبغي ألا تتنافى مع المكانة المرموقة بين الناس، والكرامة الشخصية التي لا تنفصل عن كرامة الأمة والوطن، والحرية المسؤولة التي تجعل الحر الحق هو الذي يحرره الوعي وامتلاك القوة بشمول معناها، وهو ذاك الذي يتخلّص من عبودية الجسد والشهوة وعبادة الخلق والالتحاق بهم، ليكون حراً بالمعرفة وبالعبودية لله وحده وليس لعبيده.‏
        وأناس أمة لا يملكون أن يحرروا عقولهم واقتصادهم وقرارهم وسيادتهم، لا يحققون الحرية في استهلاك إنتاج الأقوياء المستغلّين وتقليدهم في أشكال الملبس والمأكل والسلوك، لأنهم إذا هم فعلوا فإنما يسيرون في طريق الانتحار المعنوي والمادي على المدى البعيد بالعيش في وهم امتلاك منتج القوة بالقوة الشرائية، واتباع مسلك الانحلال في إطار وهم ممارسة الحرية من كل قيد والتحرر من كل مسؤولية والتزام.‏
        وشبابنا الذي ورث خيباتنا وإحباطنا وحصد الزؤان الذي بذره جيل أو أجيال سابقة يَغْرَقُ ويُغْرِقُ ما تبقى له ولنا من أمل إذا اعتقد أن خلاصه يكمن في الخروج على ما تبقى من التزامات يرتبها الانتماء لواقع أمة تعيش الإحباط أو الضعف، والتحلل من كل تبعات الماضي والتزامات الحاضر، والانطلاق من رؤية محدودة منقوصة تصور له أن كل ما دعا إليه الذين لم يحققوا انتصاراً عربياً ووحدة وتقدماً علمياً ويقظة معرفية منقذة، يجب التخلص منه وهجره ليكون من بعد تقدم وتكون حياة بلا أزمات خانقة ومنغصات عيش ودخول عصر المتقدمين الأقوياء. فالمعارك التي لم تحسم والصراعات المستمرة، ومعترك التحرير والتحرر والتقدم العلمي والاجتماعي، التي خاضتها أجيال سابقة ولم تصل فيها إلى نصر ونجاح تامين، وخلفت كل هذا الرصيد من الألم المر والأمل المهيض الجناح؛ خاضتها تلك الأجيال في ظل ظروف صعبة جداً من التخلف والأمية وفقدان القدرة واختلال التوازن الذي يعود لأسباب ومعطيات بعيدة الغور في الواقع والتاريخ. ويستطيع النظر المنصف أن يرى كم حققت تلك الأجيال من تقدم عن طريق بذل الجهد ومتابعة الجهاد إذا وقف على حجم التواطؤ الاستعماري - الدولي وقدراته وعلى حجم الإنجازات ومداها، في ظل معطى علم حقق القوة وقوة تمكنت بالعلم، فهيأ لأصحابها تقدماً حسب متوالية هندسية في حين نتقدم -إن تقدمنا - حسب متوالية عددية، والفرق يبقى شاسعاً ويزداد اتساعاً.‏
        وشبابنا الذي يقع في كل دقيقة من يومه تحت تأثير الضخ الإعلامي الذي يُشْهِر في وجهنا اليوم أعتى سلاح يوجه ضد الثقة بالنفس وبالمستقبل، بالماضي والحاضر والآتي، لا سيما المسموع - المرئي منه- يحتاج، في معركة استعادة الثقة والانتماء، إلى إعلام يوازن الكفة ويرد على مقولات الترويج والتخريب والتشريب، ويدخل معترك المنافسة باقتدار تام من حيث شكل الأداء ومضمونه، فنيته وتشويقه وموضوعاته، ونوع المعرفة التي يقدمها والقيم التي يرفعها والذوق الذي يشكله.‏
        إن مستقبل الأمة رهن بما يحققه شبابها من وعي ورؤية وثقة، وما يكتسبه على أرضية ذلك كله من علم ومعرفة، بالذات والآخر، ليكون راغباً في خوض صراع وقادر على الفوز فيه، أو مالكاً لمعطى الأمل من أجل الفوز فيه. فكيف يتسنى له ذلك من دون اقتناع تام بتحويل جهده من المتعة والاستمتاع بما يقدمه مجتمع الاستهلاك ومغريات الشهوة واللذة المادية العابرة إلى جهاد النفس وإجهادها في ميدان اكتساب العلم والمعرفة وتحويل العلم إلى تقانة عالية في الإنجاز والإنتاج،وامتلاك القوة على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما؛ ليضمن حضوراً فاعلاً في ميادين التقدم جميعاً، يكفل له الخروج من وضع التخلف والتردي إلى وضع منقذ تزداد فيه خصوبة الروح وتتعزز قدراتها على تذوق المتعة فيما يجعل الإنسان حراً وكريماً وعزيزاً في تربة وطنه وتربة ثقافته، قادراً على تحقيق حضور متألق بين الأمم، وعلى تقديم البديل الذي من شأنه أن يجعله فذاً في الاستمتاع بموقع متميز وهوية متمايزة، في مجتمع تتوازن فيه حاجاته المادية والمعنوية فيتوازن روحاً وجسداً، وينعكس ذلك متعة فذة هي الأخرى لدى الفرد الذي يأكل مما ينتج ويحمي ما يبني، ويصون ما يعتقد، ويجد للذة الجسد وقعاً في الروح وللذة الروح استجابة من الجسد؟!؟.‏
        إن شبابنا مدعو للتأمل فيما يلقى عليه من أسئلة وتبعات، مثلما نحن مدعوون إلى التفكير بما ينقذه مما يعاني منه ليكون هو لنا، وليكون لنا مستقبل، وذلك لا يكون من دون تحمل مسؤولية مشتركة يقوم فيها هذا الجيل الذي يمارس المسؤولية اليوم بتذليل صعوبات تغلق أبواب الأمل على الشباب أو تضيق تلك الأبواب، ويحقق له ما يمكنه من بناء خلية اجتماعية بأمان واطمئنان، وما يجعله يغرس حاضره في مستنبَت ماضيه بثقة، ويقوم الجيل الذي يتطلّع إلى تحمّل تلك المسؤولية باطلاع عميق وتحمل تام لتبعات المسؤولية والاختيار اللذين يتوقف عليهما الكثير مما هو راهن ومستقبلي، ومما يتوقف عليه الخروج بالجيل والأمة من الطرق المسدودة، وحالة الضياع والاستهلاك والغربة أو الاغتراب. وذلك كله لا ينال إلا على جسر من التعب، ينذر الشباب نفسه له ليحقق له ولأمته ما يريد وما تريد، تلك مهام صعبة، وشبابنا لها، ورحم الله من قال :‏
        وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام‏

        الأسبوع الأدبي/ع583//25/ت1/1997‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          المؤتمر القومي- الإسلامي
          في بيروت وللمرة الثانية ينعقد المؤتمر القومي- الإسلامي، ويأتي اللقاء الثاني/ 27- 29/ تشرين الأول 1997/ ليعزز المسار الذي شقه اللقاء الأول بعد ندوة تمهيدية عقدت في القاهرة. ومن خلال الحوار المسؤول والمراجعة الشجاعة للذات والممارسات اكتشف التياران كم كان الثمن الذي دفعته الأمة فادحاً جراء خصوماتهما وخلافاتهما التي أخذت تتصاعد حدتها منذ بداية الخمسينات من هذا القرن بشكل واضح.‏
          كان لابد من مرور عقود، وسقوط ضحايا، وتراكم معاناة، وتفاقم فرقة وتمزق وضعف، ثم المرور بمحن وامتحانات قاسية، ليكتشف الفريقان أن وضع العروبة في مقابل الإسلام، والإسلام في مقابل العروبة قد أضعف كلاً من العروبة والإسلام وكلف الأمة غالياً؛ وأنه كان فخاً مهلكاً وجحيماً ساهمت تيارات أخرى في تغذية ناره وتأجيج أواره لتضرب قوى الأمة الرئيسة بعضها ببعض وترتاح منها وعلى ظهرها، ولتجني ثمار ذلك وهماً آناً ودماراً واستعماراً ونصرة للصهيونية والاستعمار في كل آن!؟ وسواء أوعى الموقدون ناراً أهدافهم ووظائفهم أم لم يعوها فإن النتيجة كانت وبالاً على الأمة بكاملها وعلى الوطن كله. في نهاية الثمانينيات من هذا القرن وبداية التسعينيات منه بدأت حركة الوعي والمراجعة والمصارحة تتصاعد، وبدأ الصوت يرتفع وقد كان لمرارة حرب الخليج الأولى وحصادها، ولزحف الموت والدمار والاستعمار في حرب الخليج الثانية، ولما تبع ذلك ونتج عنه دور في التنبه والصحوة، كما كان لانتصار الولايات المتحدة الأميركية ومن ثمة حليفها الصهيوني في حرب الخليج الثانية والحرب الباردة دور في كشف المستور وتوجيه الصواريخ والإعلان عن المخطط القادم في القرن القادم، حيث علا صوت صهيوني /حاييم هرتزوغ/ في الغرب وردّد معه وقبله وبعده أميركيون وغربيون من مواقع سياسية وإعلامية وثقافية "لازمة عدوانية" تقول: "إنه كما شهد القرن الحالي انهيار الماركسية والشيوعية سوف يشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام".‏
          وحين ردد أميركي مسؤول من الجزائر- إذا لم تخني الذاكرة- قوله: "وداعاً للقومية العربية، وداعاً للأمة العربية"، كان صوت صهيوني يردد من موقع آخر: " يجب أن تحتشد القوى ضد الأصولية الإسلامية والقومية".‏
          في الولايات المتحدة قيل إنهم يعيدون توجيه الصواريخ نحو خطر قادم، وأشارت المؤشرات إلى عالم الإسلام"، وبدأ البحث عن "شيطان" بعد أن سقط "الشيطان الشيوعي"، وأصبح من الواضح لكل ذي بصر وبصيرة أن الصهيونية تركز جهد الغرب العدواني وترسانته وحقده باتجاه مركز الثقل القومي- الإسلامي لتنهي مرحلة من مشروعها وتبدأ مرحلة؛ لتنهي مرحلة إنشاء "الدولة" واستقرارها وامتلاك القوة الرادعة، وتبدأ مرحلة أخرى تقوم على فرض اعتراف بها على العرب وانتزاعه من المسلمين، وهي المرحلة التي بدأت في مؤتمر مدريد وانطلقت منه بعد انحسار لمد "كامب ديفيد"، وما زالت مستمرة تحصد إرادات ومكاسب وانفتاحاً لمصلحة الكيان الصهيوني. وحده "صموئيل هنتنغتون" المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأميركي "بشر" بإمكانية ولادة صراع يكون فيه طرف شريك للعرب والمسلمين هو الصين، وطرفه الآخر هو الغرب؛ وبعد أن "زف فوكو ياما" إلى العالم نبأ "نهاية التاريخ"؛ ولكن ذلك كله لم يوقظ معظم الأنظمة العربية من سباتها ولكنه نبه أنظمة وتيارات فكرية وسياسية سمعت أصوات مثقفين عرب مخلصين يدعون إلى الحوار واللقاء ومراجعة الذات والتجارب والخلافات بغية اكتشاف المشترك وتعزيزه ووضع حد للخصومة ووأد الفرقة المهلكة بين أبناء الأمة الواحدة بتياراتها الفكرية وتنظيماتها الحزبية وسياساتها القطرية؛ والعودة في ضوء المسؤولية والانتماء، إلى شيء من وحدة الموقف ووضوح الرؤية وتبيُّن الاستهداف المعادي الذي يشمل الأمة ويركز على قواها الحية التي تمثل الهوية والعقيدة وصدق الانتماء وعزيمة المواجهة. ويوم بدأ مسار الهرولة نحو أعتاب العدو ومسار المقاومة للاستسلام لذلك العدو ومنع الهرولة إلى أعتابه، واتضح للناس ترامي أنظمة وأشخاص على "سلام الاستسلام" في صيغ اتفاقيات الإذعان، يوم بدأ المساران يتصاعدان، بدأ التنبه إلى حقائق ووقائع تتشبث بالأرض وتخط عليها خطوطاً حمراء.‏
          الدم الطهور المنبثق من شهداء المقاومة في فلسطين وجنوب لبنان، والمواقف التي تحدد مسار الجهد والجهاد وغاياتهما، رفع في فضاء الوطن مؤشرات استدعت التوقف عندها.‏

          - المقاومة الإسلامية: حماس- الجهاد- حزب الله.. الخ تتمسك بالتحرير الكامل للأرض وبالدفاع عن المقدسات، وتعمل على رفض الاستسلام ومشروع الاستيطان الصهيوني والهيمنة الأميركية- الصهيونية على المنطقة، وتنادي بالحرية والتحرير ولقاء الكلمة الحق في موقع القتال حيث المطهر والمصهر الفعليان والعمليان.‏
          - والمقاومة القومية: سياسية جسدت صموداً وغير سياسية، وعناصر قوتها ومواجهتها وما تستطيع أن تقدمه من دعم لشقيقتها على الأرض، تقول بما تقول به الأولى، وتتطلع من مواقع مختلفة إلى إعمال قدرات وقوى في سبل ووسائل، وتفعيل مرحليَّات سياسية ودبلوماسية وصولاً إلى الهدف ذاته: هدف التحرير، أو إلى تأخير الموت المذل بانتظار الفرج في متغيرات عربية ودولية؛ قبل أن يفرض عليها خيار الحرب الذي لا تطيقه أو خيار الاعتراف والتطبيع الذي تكرهه.‏
          وفي ظل تنامي ذلك المناخ، وفي ظل استهداف العدو الصهيوني- الأميركي للطرفين، وللأمة كلها من خلالهما بدأ يضمر الخلاف وينمو أمل بالوفاق، وينحسر الضيم عن البصائر وبدأت الأبصار التي في القلوب تتفتح لتجعل الرؤية القادمة عبر مسارب العصب والبصر أكثر دقة وسلامة، ولتمكّن من وعي أصوب لما تحمل وعلم أشمل بما تعني، وتدبر أفضل بما يجب.‏
          المقاومة البطولة التي قدمت شهداء نوعيين رأوا في الموت حياة روح وكرامة وحق وأمة وعقيدة ومقدسات، حملت القوميين على تفكير مغاير، وحملت أنظمة قومية على إعادة النظر بأمور إذ المحك الفعلي الذي كان المعيار لكل جدية وإخلاص وتوجه بنظرها كان هو الموقف من العدو الصهيوني والموقف من القضية المركزية قضية فلسطين، وها هم يرون مقاومة شرسة للعدو الصهيوني وإخلاصاً مطلقاً للقضية يحمل رؤية التحرير ويرفض معطيات التسوية.‏
          كانت "كامب ديفيد" قد نكتت "هميانها" وتبيّن للعرب ما فيه من "ازدهار ورخاء وسعادة وأمن من جوع وخوف، وحضارية تجعل الناس غير الناس؟!" وكانت "أوسلو" بجلالها قد أتت على الانتفاضة المباركة وأخذت تأكل المقاومة "بتكليف شريف" لسلطة الحكم الذاتي يسند إليها مهمة "تصفية أو تدمير البنية التحتية للمقاومة الإسلامية" وشفاء الشعب الفلسطيني من أدواء: المقاومة، التحرير، الحرية، الكرامة... ومن كل أمراض: "فلسطين والقومية العربية الإسلام المنقذ".‏
          وكانت "وادي عربة" قد حققت ركوع الملوك يذرفون الدمع، عند شواهد قبور قاتلي أبناء شعبهم ومغتصبي أرض ذلك الشعب.‏
          كل شيء في الأفق قد اتضح بعد زوال الغيم المصطنع؛ وكل ما كان يدفع التيار القومي إلى نيل شهادة "حسن سلوك تقدمي" من التيار الذي يرى أن الدين أفيون الشعوب وأن القومية شوفينية والإسلام تخلف بورجوازي، كل ذلك قد أصابه الهزال، وزال أو كاد يمسحه الزوال.‏
          لقد خف تأثير سم الأفعى في جسم الأمة الذي كان يحقن في جسدها ذات اليمين وذات الشمال، وبدأت العيون ترسل إلى مراكز التمييز في الجماجم إشارات يمكن فهمها.‏
          في ذلك التوقيت بدأ اللقاء تحت ضغط الضرورات، تداركاً لحسرات قادمة، ولمشاهد بؤس تنذر باجتياح الناس، يقف من ورائها الصهيوني والمتصهين، والمنتفع منهما، وعناصر الطابور الخامس بفيلقيه.‏
          واليوم.. يدرك الذين التقوا والذين يرون في اللقاء جدوى، يدرك أولئك جميعاً كم تأخر بهم الوقت إلى أن تحقق اللقاء، وكم خسروا وخسرت الأمة بين الكبوة والصحوة، وكم يلزمهم من وقت وجهد وجهاد لكي يردموا الهوة فيما بينهم، وكم هي ثقيلة وطأة العدو وأعوانه وما كوِّن من أرضيات في الواقع وفي النفوس لبنائه، وكم هي ضرورية جسور الثقة ليسير العزم آمناً في الاتجاهين، ولتتوجه الإرادات من بعد إلى ساحة الفعل المنقذ آمنة من كل شك وخوف.‏
          في افتتاح الدورة الثانية من دورات المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت تكلم شخصان في حفل الافتتاح كان لاختيارهما وموقعيهما وشخصيهما وكلاميهما وقع خاص ومعنى ومدلول عندي. إنهما لبنانيان مثلاً التيارين القومي والإسلامي في اللقاء، أو هكذا خيل إلي، وهما: د. سليم الحص والسيد حسن نصر الله.‏
          سليم الحص: رجل دولة- سياسي- مثقف- سني- قومي الاتجاه، تحمل مسؤولية صعبة في أثناء محنة لبنان وحربه، وسعى خطا بالبلد نحو الأمن والسلام والعمران. وبذل جهداً مضنياً من أجل الخلاص، واكتشف الكثير وتحمل الكثير، وما زال متفائلاً يعمل لوحدة الصف المنقذة.‏
          والسيد حسن نصر الله: رمز مقاومة إسلامية- مثقف- شيعي- إسلامي الاتجاه، يقود حزب الله في مقاومة العدو الصهيوني في الجنوب والبقاع الغربي- تحمل مسؤولية صعبة في المواجهة- وقدم شهداء هم أبناؤه جميعاً منهم ابنه هادي، ويسعى خطى نحو التحرير والأمن والتضامن ووحدة الصف عربياً وإسلامياً.‏
          والرجلان في الموقعين اللذين أشرت إليهما عبرا باسم التيارين والتجربتين ومن الموقعين والمواصفات المتمايزة عن: عزم على اللقاء وثقة بنجاحه- عزم على التخلص من الإحباط وتعزيز الأمل بالنجاح - تصميم على إنجاح اللقاء القومي الإسلامي وإظهار ضرورته وأهميته- انفتاح على الآخر: القومي- الإسلامي أولاً، والمسلم والمسيحي ثانياً، والإنسان في العالم ثالثاً انطلاقاً من سماحة الإسلام وحضارية القومية العربية.‏
          وعبر الأول عن ثقة مطلقة بنهضة الأمة من خلال بناء مشروعها النهضوي الإسلامي، وعبر الثاني عن ثقة مطلقة أيضاً بانتصار المقاومة، التي تفتح أبوابها لكل أبناء الأمة "الأديان والطوائف والأعمار والانتماءات"، وبأهمية أن تتحول إلى ظاهرة شعبية عربية- إسلامية لتدفع الخطر وتحرر الإرادة والأرض.‏
          إنهما- من وجهة نظري- يلخصان التجربة والواقع والتطلع، ليس بشخصيهما وإنما في المواقع التي يمثلان الآمال والأعمال التي نتطلع إليها.‏
          لا أزعم أن المؤتمر الذي تحاور أعضاؤه على مدى أيام ثلاثة، وأصدر بياناً وتوصيات عبرت عن القاسم المشترك من الآراء والتوجهات والثوابت المبدئية والقيمية للأمة قد جعل القومي نسخة من الإسلامي والإسلامي نسخة من القومي، أو أنه قد أزال كل شك وخلاف وتوجس بين الأطراف، ولكنني أزعم أن كل عضو من أعضائه خرج أكثر عزماً وتفاؤلاً وثقة بالآخر ورغبة في التعرف إليه أكثر والتعاون معه بشكل أوثق.‏
          لقد اكتشف القوميون انفتاحاً عند الإسلاميين ما كانوا يتوقعونه ومتابعة ونضجاً وتمسكاً بالحق والهوية والانتماء، واكتشف الإسلاميون إيماناً عند القوميين ما كانوا يتوقعونه ووعياً وحنكة وتمسكاً بالأرض والمقدسات ومعاداة مرة للصهيونية وحماتها وحلفائها، ورغبة في التعاون مع العالم الإسلامي كله لبلورة رؤية وإرادة ومكانة ومصالح مشتركة.‏
          ويكفي أن يتجدد الأفق وينمو الأمل وتتبدى ولو في المدى البعيد إمكانيات أكبر وأوسع للقاء والعمل حتى يصبح اللقاء مجدياً ومشجعاً على تجديده.‏
          اليوم تولد مسيره أصيلة متكاملة واعية لذاتها ولما حولها، أخشى عليها من الأعداء، وأخشى عليها من رسيس الماضي، وأخشى عليها من فتنة السلطة وشهوتها، وخشيتي مبعثها الحب والرغبة في النمو والتطلع إلى ما يمكن أن تحققه من تغيير وما تنجزه من أعمال.‏
          وأكاد أعلن أنها تفتح صدرها للجميع ممن يستطيعون مراجعة الذات والمعطيات، مراجعة الماضي والتخلص من عقده وأمراضه وتراكماته، من أفراد هذين التيارين أو من غيرهما، لتكون حضن الأمة وبوتقتها ومنطلق نهوضها وبداية مسيرتها الظافرة، بعون الله، نحو التحرير والحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية.‏
          والله ولي التوفيق‏
          دمشق 30/10/1997‏

          الأسبوع الأدبي/ع584//1/ت2/1997‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            خطابنا الثقافي وخطاب العصر
            أعني أولاً بالخطاب الثقافي ما يتصل بذلك الخطاب ويكوِّنه في إطار المفهوم الشامل للثقافة، وليس ما يقتصر منها على الأدبي والفني بآفاقهما وتنوعهما بل بما يتصل بامتدادهما التربوي والفكري وبأداء الوعي البشري عامة عبر قنوات متعددة وبصور أداء متنوعة.‏
            وأعني بخطاب العصر لغة المتقدمين من أهله واهتماماتهم ووسائلهم وأدواتهم وما يستندون إليه من قيم ومصالح ورؤى؛ وما وصل إليه أولئك المتقدمون منهم في ميادين المعرفة والعلم. لاسيما ما تحقق من تقانة عالية أدت إلى تفوق في امتلاك القوة واستخدامها. وهو ما فرض هيمنة قوى على قرارات العالم وعلى بعض صيغ مستقبله من بعض الوجوه، وكذلك ما يصيب أناس العصر من معارف ومكاسب، ومن معاناة وكوارث إحباط أيضاً جراء استخدام أدوات العصر المتقدمة من جهة أو جرَّاء الحرمان منها ومما توفره للإنسان من آفاق، واستخدامها ضدهم لتحقيق أغراض المتقدمين ومصالحهم.‏
            وسوف أحاول التوقف عند بعض أبعاد ذلك الخطاب بشيء من الإيجاز لأصل من بعد إلى تقديم خلاصة ما أتطلع إلى تقديمه مما يتصل به، وأبدأ أولاً بالتوقف عند البعدين القومي والإسلامي في الخطاب :‏
            1- البعد القومي في الخطاب الثقافي العربي:‏
            وهو بعد عريق يؤكد الثوابت القومية والمبدئية والقيمية للأمة العربية، ويعمل على تحقيق الأهداف التي يرى في تحقيقها خروجاً من المآزق التي آل إليها وضع الأمة بعد سني الحكم العثماني وعهود الاستعمار الغربي واستنزاف الصراع المستمر مع العدو الصهيوني.‏
            وهو -فيما آل إليه أمر النضال العربي والتضامن العربي معاً- خلال العقود الماضية من هذا القرن، وعلى أرضية الواقع والطموح، الحق والمتحقق فعلياً على الأرض، يلقي علينا ظلال الأسئلة الآتية وأعباءها:‏
            -هل هو خارج العصر، الذي يدلف إلى العَوْلَمة، وتطغى فيه هيمنة القطب الواحد واقتصاد السوق وصيغة العالم القرية، وينذر بزوال الهويات القومية، كما يقول البعض، عالم الحداثوية التي تفتح آفاقاً عدة لنهج واحد ولغة واحدة وتقانة تتنامى في الشرق والغرب فتتواصل وتتفاعل وتدمر حدوداً وقيوداً وهويَّات وتقيم عالماً يهيمن فيه من يملكها ويهيمن عليها؟!‏
            -هل ما في خطابنا القومي -العربي من: قيم قومية وأحلام وحدوية وتطلعات تحريرية وتحررية، وما يركز عليه من انتماء وأصالة وتواصل حديث بقديم وعربي بآخر، ومصالح مشتركة، هو خارج حدود العصر ومعطياته وخطابه؟!‏
            -هل القومية العربية ماتت؟ أو يمكن أن تموت، وكل ما بني عليها أصبح باطلاً وقبض الريح؟!‏
            -هل زال عصر القوميات -بالنسبة لنا- وهو يتفتح ويزهر ويزدهر عند غيرنا، روسيا الاتحادية مثلاً!! لقد قال بعض الغربيين /من مفكرين وسياسيين/ في مطلع التسعينيات من هذا القرن بعد حرب الخليج الثانية:‏
            "وداعاً للقومية العربية"- "وداعاً للأمة العربية" والهدف هو الإعلان عن رغبة في موت الحلم القومي واستقرار عصر القطريات والدويلات الضيقة الأفق والمدى، التي لا تقوم بينها جسور ثقة من أي نوع وتتهاوى عند مصالح حكامها وأنظمتها المصالح القومية كلها.‏
            وهي قطرية تعلن، وعلى استعداد لأن تعلن في كل حين، تحالفها مع الشيطان ضد الأمة العربية كلها إذا ما هُددت مصالحها أو تم النيل من سيادتها، أو تعرضت لضغط من أي نوع!!‏
            وأنموذجها الأوضح اليوم هو: قطر التي تدعو إلى مؤتمر اقتصادي يحضره الكيان الصهيوني على الرغم من أن ذلك يمس وجدان الشعب العربي كله، ولا يحظى بتأييد الأنظمة العربية ويمس المصالح القومية، وأمثلتها الأخرى كثيرة، وتزداد نشوزاً منذ حرب الخليج الثانية ومؤتمر مدريد ومنها:‏
            -الدول العربية التي تقيم تمثيلاً دبلوماسياً مع الكيان الصهيوني، على أرضية الاعتراف به.‏
            -والدول العربية التي تقوم بالتطبيع الاقتصادي والثقافي من تحت الطاولة سواء تلك التي تربطها بالكيان الصهيوني اتفاقيات مثل: /مصر والأردن وسلطة الحكم الذاتي/ أو تلك التي هرولت على إثر تلك الاتفاقيات وأقامت علاقات تجارية وسياحية وعقدت صفقات لبيع الغاز ولإقامة صناعات واستثمارات مختلفة.‏
            -والدول العربية التي أعطت ظهرها بشكل صريح ونهائي لـ:‏
            -العمل العربي المشترك، والدفاع العربي المشترك.‏
            -التضامن العربي.‏
            -المصلحة التي تتعارض مع مصلحتها الضيقة ولو كان فيها مصلحة الأمة.‏
            -القضية القومية بكل ما يتصل بتاريخها وبالصراع من أجلها.‏
            فهل بعد هذا يبقى لدى أهل الخطاب الثقافي العربي بعدُ الهوية والقومية -والأصالة- والوحدة- والتحرر - والتحرير- والمستقبل الواحد، وهي مقولات يحاربها الغرب والصهيونية منذ عقود وأخذ العرب يتنكرون لها بعد تراجع التيار القومي وما أصاب الأمة من إحباط ؟!‏
            وهل التمسك بخطاب فيه مثل هذه القضايا أو يركز عليها، سواء أكان تركيزه ذاك في الإبداع الأدبي والفني أو في التنظير الفكري، مما يعد منسجماً مع العصر الذي يتوجه في مناح أخرى تجعل سوق الهيمنة أو العولمة، لا فرق، تمتد من نيويورك إلى طوكيو، ومن إمبريالية الولايات المتحدة الأميركية إلى اشتراكية الصين، مروراً بتحولات ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي ومجموعة الدول الاشتراكية في أوربا الشرقية من الشيوعية والأممية إلى الرأسمالية والقومية المتطرفة؟!‏
            -وسؤال آخر يتعلق بمطلبي: التحرير- والمقاومة اللذين يقول بهما الخطاب الثقافي القومي قديماً وحديثاً للخلاص من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ولتحرير الأرض والإنسان من أشكال السيطرة والاستلاب، هل هما مطلبان واقعيان - كما يوحي التشكيك -وأسلوبان ينسجمان مع توجه العصر وخطابه الذي يقدم نفسه على أنه عصر الانفتاح وانعدام الحروب والسلام، عصر الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان؟!‏
            وهل هناك مستند واقعي -عملي، أو نظري- منطقي لخطاب يقول بالمقاومة والتحرير في ظل الوقائع الآتية:‏
            -غياب القدرة المادية /علمياً وتقنياً واقتصادياً/ التي تمكن من مواجهة عسكرية ناجحة مع العدو الصهيوني.‏
            -غياب السند الدولي أو الحليف الدولي أو مصدر السلاح المتفوق.‏
            -غياب البعد التضامني، بَلْه الوحدوي، العربي الذي يؤيد مثل هذا التطلع أو الحلم أو معطى الخطاب ويكسبه أملاً؟!‏
            وهل البعد القومي في الخطاب الثقافي الذي يقول بالمقاومة ويتغنى بالشهادة ويسجل نتوءات الفكر والفعل القوميين في وقائع وساحات ومواجهات معينة، منذ مطلع القرن، ما يزال يملك القدرة على الحلم أو على ابتلاع "الوهم" وتسويغه وتسويقه؟! وعلى أية معطيات يعتمد في ذلك!؟ هل هو في العصر أم خارجه؟ هل يدرك خطاب العصر وتوجه ذلك الخطاب وقدراته أم هو خارج الموضوع تماماً يعيش حلماً في التيه ويتوه في الحلم ؟!‏
            -وهل يمكن بعد انتهاء الحرب الباردة ،وسيادة قطب وحيد الطرف، والانتصارات العلمية والتقنية الباهرة للغرب وحلفائه، وبعد امتلاك الكيان الصهيوني لأنواع الأسلحة المتطورة ذات القوة التدميرية الشاملة وتحالفه وتعاونه اللذين يمتدان عسكرياً أو اقتصادياً أو سياسياً من تركيا إلى الصين، مروراً بالغرب وبعض دول آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، أن تقوم حرب يرجو فيها العرب نصراً وتحريراً؟! أو هل يمكن أن تقوم حرب أصلاً في ظل توجه معلن من قبل القوى الكبرى في العالم نحو "السلام" وفرض اتفاقيات باسم السلام؟!‏
            هل الخطاب الثقافي العربي في بعده القومي، الذي واكب ثورة الجزائر، ما زال لديه القدرة على التغني بأمجاد الشعب الجزائري اليوم بعد الذي يُرى ويُسمع، في الجزائر وعنها ؟!.‏
            وهل هناك أمل في استعادة تأثير المد القومي الذي حملته الفترة الناصرية، أو فترة صعود البعث وانتشاره عربياً، ليستعيد الخطاب الثقافي في بعده القومي تأثيراً في الشارع وفي الوجدان العربيين وليتمكن من تحريكهما باتجاه الصمود والمقاومة والحلم الوحدوي والمشروع النهضوي كما كان يفعل في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من هذا القرن مثلاً؟!.‏
            أسئلة وتساؤلات تخترق العظم وتركز فيه برودتها... ولكن : هل هي أسئلة تستقر معطيات واقعية في مقولاتها تصل في استقرارها إلى تقديم أجوبة تنطوي على سلبية مستقرة هي الأخرى ؟!.وهل تلك السلبية " المحتملة" مستقرة في النفس العربية وتملك معطى واقعياً يجعلها تعزز استقرار أدائها السلبي المفضي إلى إحباط إن لم نقل إلى يأس من احتمالات التغيير في المستقبل ؟!.‏
            -هل خطاب العصر، الذي يسعى تحت قناع العولمة والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان، قد ألغى، أو يمكنه أن يلغي الهوية والقومية، وحضور الغنى الحضاري في التنوع الثقافي!!.‏
            -هل هو خطاب مصالح أم خطاب مبادئ وقيم "إنسانية" خالصة، خطاب قوة أم خطاب ينطوي على معطى خلقي وإنساني وحقاني يمنحه القوة ؟!.‏
            -هل هو خطاب فكري قومي بنزوع أممي- خلقي أم بنزوع استعلائي فوقي يزري بأمم وقوميات ومصالح لا تملك القوة لحساب أمم وقوميات ومصالح تملك القوة؟!.‏
            إنه بتقديري خطاب قوة تكتسح الساحة الدولية بإمكاناتها العلمية والتقنية والاقتصادية والعسكرية، وتمنح ثقلها في ذلك الموقع لخطابها الثقافي المتنكر في زي إنساني وما هو في واقع الأمر إلا خطاب استلابي- استعلائي- عنصري على نحو ما، خطاب كاذب ومنافق يريد أن يحقق بفعل القوة محو الخطاب الآخر وابتلاعه أو فرض التبعية عليه، ووضعه وأهله معاً، في حالة سخرة واستلاب دائمين!!.‏
            خطاب العصر الذي يمثله الغرب المتصهين وتطفو على سطح منطقه الصهيونية بأساطيرها وتشويهها للحقائق وفعلها التخريبي للثقافات خطاب قوة لا تملك الحق ولا الأخلاق، وخطابنا خطاب أخلاق يملك الحق ولا يملك القوة. وهذا يطرح علينا السؤال المر، ويفتح نافذة الأمل في آنٍ معاً:‏
            - ألا نملك المقومات والإمكانات والمعطيات التي تجعل من نهضتنا ومن أمر امتلاكنا للقوة على أرضية العلم والإيمان أمراً ممكناً؟! في ظل حقائق: أن الحياة حركة لا تعرف السكون على حال، وأن الحركة تحمل التغيير، والتغيير يحمل كل الإمكانات والاحتمالات، سواء أكان بفعل إيجابي من الضعيف المتواكل ينهي ضعفه وتواكله، أو بفعل سلبي تدميري من القوي المتآكل في الأعماق ينهي قوته ويعري حقيقته ويفسح في المجال أمام تجدد الحياة والشعوب والحضارات الأخرى على حساب زواله بفساده ؟!.‏
            - دروس التاريخ تفيد ذلك.‏
            - وقراءة تجارب الأمم تؤكده.‏
            - واستقراء الواقع يبشر به.‏
            فليست قوى اليوم هي قوى خالدة وباقية إلى الأبد: في القديم كان الفراعنة والآشوريون والفرس واليونان قوى عالم ما قبل الميلاد، وتغير الوضع من بعد فأصبح الروم والفرس والبيزنطيون ثم العرب المسلمون، ثم المسلمون ومنهم العرب، قوى العالم الحية؛ وجاء عهد سادت فيه فرنسا وإسبانيا وبريطانيا واليابان، ثم تراجع أولئك ليصعد الألمان ليكون على ترديهم صعود السوفييت والأميركيين..، وها نحن في عالم شهد انهيار الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو ويترقب صعود نجم الصين ليضاهي النجم الأميركي أو لينذر بأفوله..‏
            فهل هناك ثبات على حال؟ أليس تداول الدول سنة الحياة وقانونها وديدنها؟ وهل هناك مراكز حضارية ومراكز قوة دائمة في العالم وهناك أطراف لها لن تتمتع إلا بحق أن تكون أطرافاً، أم أن موضوع الصعود والهبوط، والتحول والانتقال، والنهوض والإخفاق هو شأن الحضارة والقوى البشرية على مر الزمن؟! وهل هناك ما يمنع- انطلاقاً من ذلك واعتماداً عليه - من صعود نجم أمة العرب ونجم المسلمين مرة أخرى ؟!.‏
            يحذِّر صموئيل هنتنغتون الكاتب الأميركي صاحب: صراع الحضارات من مستقبل يتعاون فيه المسلمون والصين ضد الولايات المتحدة الأميركية والغرب؟! ويحاول أن يسترعي الانتباه لتتوجه الصواريخ العابرة للقارات والنزوع المتصهين في الغرب المتعاون مع الصهيونية إلى ما يقرره من خطر قادم.‏
            ولنا أن نرد على ذلك بأن الثقافة الحقَّة تقيم جسوراً بين الأمم وتصنع التعارف وتمتن الصداقة وتعزز السلام إذا كانت في خدمة الإنسان والقيم والمبادئ والأخلاق، أما إذا كانت موظفة لخدمة المصالح والأطماع الاستعمارية والشهوات التسلطية المريضة ورأس المال الجشع والربى الصهيوني والعنصرية العريقين لدى من يمثلهم " شايلوك التاريخي" فلا يمكن أن تنتج إلا "شراً وتدفع باتجاه الشر، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم"‏
            إن البعد القومي في الخطاب الثقافي العربي يأخذ بالتحرير ويعزز المقاومة ويناصرها، والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال ،المقرة حسب القوانين والأعراف الدولية تغدو خارجة على العرف في السائد من خطاب العصر /ذي الصبغة الإعلامية- الأميركية -الصهيونية، الصبغة المصلحية التي تتسلح بالقوة وتعمل على قهر الآخرين/ وتغدو المقاومة حسب المعايير الأميركية- الصهيونية وخطاب القوة الذي يعلى شأن تلك المعايير على سواها وعلى الحق ذاته، تغدو إرهاباً، ويغدو الخطاب القومي مناصراً للإرهاب ومعادياً للسلام، أقصد السلام الذي يروجه خطاب العصر الصهيوني- الأميركي اليوم، وهو" سلام" لا صلة له بالعدل والحق ولا بالسلام بمفهومه الحقاني - الإنساني التاريخي.‏
            وتنتقل صفة الإرهاب لتغدو قاسماً مشتركاً يصيب البعد القومي والبعد الإسلامي في الخطاب الثقافي العربي.‏
            فتصبح الأصولية القومية والأصولية الإسلامية تهمتين تقتضيان الاقتصاص ممن يتهم بهما.‏
            -فالقومي الأصولي- حسب خطاب أقوياء العصر- يمارس "الإرهاب" أو يدعم من يمارسه.‏
            -والإسلامي الأصولي يمارس "الإرهاب" في فلسطين وجنوب لبنان، أو يدعم من يمارسه، وينسحب إلى اتهام للإسلام من خلال "الإسلامي" واتهام للقومية من خلال القومي.‏
            فلنتوقف قليلاً عند البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي إذن، بعد أن توقفنا قليلاً عند البعد القومي من ذلك الخطاب.‏
            وتوقفنا هذا سيكون استفزازاً في صوغ الأسئلة التي تطرح علينا نحن العرب المسلمين أو على المسلمين إجمالاً، لأنها توجه مباشرة نحو الإسلام ممن يكنّون له ولأهله ضغينة، حتى من مسلمين ما عاد يربطهم بالعقيدة إلا الاسم وبعض الشكليات، ومن مسلمين مسجلين "في قيود السجلات المدنية"، بينما يختارون موقفاً من الإسلام أو موقفاً من الدين.‏
            وعلى هذا نبدأ بطرح أسئلة البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي مركزين على الشق الإسلامي في ذلك البعد: البعد الديني في الخطاب الثقافي العربي وهو بعد متأصل في خطابنا الثقافي العربي:‏
            هل هو خطاب متخلف أم يقود أصلاً إلى التخلف من حيث مرجعيَّاته وغيبيَّاته وأدواته ووسائله؟!.‏
            إنه سؤال يثير الانزعاج والاحتجاج، بل والغضب المفضي إلى العنف، وربما العنف المشروع؛ لأنه من غير المقبول ومن غير المحتمل توجيه نقد ضمني لخطاب يشكل رصيده أعظم ما في الوجدان الشعبي من رصيد، وما في الإرث الثقافي المتداول من دون تحقيق تلك الإثارة أو الجرح لمشاعر الناس؟! وخطاب يجرح مشاعر الناس يخرج بهم عن المألوف ،ربما كان ذلك ليس من حقه على الرغم من مشروعية أن يسعى الخطاب إلى الخروج عن المألوف بعد الولوج فيه.‏
            وهل هو خطاب عصري ذو مستقبل أو يفيد الناس في المستقبل، أم أنه خطاب عفى عليه الزمن وتجاوزته البشرية، ونقض بنيته العلم، ودمرت هياكله الحداثة وما بعدها فيما دمرتا؟! وأثار العقل من حوله الشك فزعزع بعض ما يترسخ فيه وما يقوم عليه من يقين؟!.‏
            ليس من المفيد التهرب من سؤال ومن دوائر تنداح على صفحته مهما كان فجاً واستفزازياً، فالتهرب لا يلغي الشك ولا ينهي المشكلة ولا ينقض السؤال حتى لو احتجب وراء غلالات من ضباب وغبار.‏
            في خطابنا الثقافي بعد ديني /إسلامي ومسيحي/ ويتجلى هذا البعد في قيم ومحرمات ونواهٍ ودعاوة. ويواجَه خطابنا الديني بتهم وينسب إليه بعض التطرف أو قل التعصب.‏
            ويرمى من قبل قوى معادية ذات تأثير عالمي ومن قوى عربية ذات حضور رسمي أو ثقافي بأنه الإرهاب أو يؤسس لنوع من الممارسة تصب في الإرهاب!!.‏
            فهل نقر ذلك جملة أو نرفضه جملة، أم أن هناك هوامش على كل صفحة تتصل بذلك القول وبالرد عليه وتفسح في المجال للتأمل والتروي ؟!.‏
            بداية أوضح موقفاً ورأياً بإيجاز:‏
            -الخطاب الديني موجود ومؤثر وهو في حالة نمو، ورصيده على الأرض كما في الوجدان يتعزز في معظم الوقت، وشعبنا ذو اعتقاد ديني ثابت واضح، وليس من السهل مجاوزة هذه الحقيقة أو القفز فوقها.‏
            -وهو جزء من الهوية والتكوين الفكري والنفسي والاجتماعية، ولا مصلحة لنا في إضعاف تأثيره أو في تهميشه، ولن يكون عامل ضعف أو تخلف إلا من خلال فهمنا له واستخدامنا إياه ونوع تواصلنا معه ومع العصر من خلاله.‏
            -وليس هو سبب التخلف ولا يمكن أن يكون، وإنما بناؤه وتوظيفه وأداؤنا له وتوظيفنا لذلك الأداء قد يكون متخلفاً فيقود إلى التخلف وضيق الأفق والتحجر والتعصب.‏
            المصدر الأساسي لذلك الخطاب /القرآن ثم الحديث ثم السنة الثابتة قولاً وعملاً/ والمراجع كثيرة، ولمن ملك القدرة عقلياً وشرعياً وعلمياً وتمكن من المعرفة وأدواتها، حق الاجتهاد.‏
            ولكن هل يمكن أن يغلق علينا أبواب الفهم والتبصر والتأمل والاجتهاد إلا جهل أو قصور أو تجاهل أو تجهيل؟! وهو مما يُرفض الاحتباس في أقفاصه والركون إلى معطياته وأحكامه؟! ومن يمنع من التأمل والتفكر والتبصر وهو كله مما يحث عليه الدين ويحتِّمه العقل ويقود إليه الوعي.‏
            يفترض في الخطاب الديني أن يعزز الإيمان والإيمان كلٌ لا يتجزأ، ومن حَسُن دينه حسن إيمانه وحسن سلوكه وحسن أداؤه."إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"، والمؤمن حر لا تحكمه عبودية لغير الله، ولا طاعة عليه لأحد في معصية الخالق، ومعصية الخالق تكون، بالنسبة للمؤمن في كل ما يؤثر فى صفاء الرؤية والقلب والعقيدة، وما ينطوي على ظلم أو غش أو فساد من أي نوع، والمؤمن إن أحسن الفهم والتمثّل والسلوك."يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ويعمل لآخرته كأنه يموت غداً" وفي ظل هذا التوازن المعيار والمعيار المتوازن ينشأ إقبال غير محدد على الحياة وعلى ما أحل الله لنا فيها، وهو بلا ضفاف بوصفها ممراً إلى مستقر؛ كما تنشأ مراعاة غير منقوصة لما يوفر اطمئناناً روحياً إلى فعل شامل ينفع ويشفع في الآخرة، دار القرار.‏
            وخطابنا الديني القائم على الإيمان والداعي إليه لا ينقض العلم، ولا يضعفه بل يعززه؛ ولا يجوز، بأي حال من الأحوال، أن يعوق الاندفاع في طرقه كافة أو يقصر في دفع الناس إلى السير في تلك الطرق كافة.‏
            فليس هناك وعي من دون معرفة واستخلاص عبر وتكريس خبرة، ولا يكون ذلك خارج حدود العلم والعمل به أو على هامشه وهامش الإيمان بقدرته على الإنقاذ وتعزيز الإيمان ذاته، ولا يتحقق تقدم من دون تحويل معطى العلم النظري إلى تطبيق عملي على أسس تقنية عالية تمكّن من توفير المنتجات المتقدمة في الميادين كلها، حيث تتوافر مقومات البقاء والحماية والأمان والصحة والحرية والسعادة والازدهار في ظل التقدم والأمن.‏
            فإذا شكّل الفكر الديني عائقاً في وجه تقدم الإنسان ونمو قدراته توجب طرح السؤال على الفكر والمفكرين، وتقصي أسس الفهم والتفسير والتأويل والتدبَّر والتدبير. وقد فتح القرآن أمامنا أفق التجاوز بالعلم والإيمان من دون حدود، حيث جاء النص في قوله تعالى: "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا لا تنفذون إلا بسلطان" صدق الله العظيم. والسلطان هنا علم وحجة وبرهان ومنطق وعقل وقدرة على الأداء بإبداع وابتكار بتفوق، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام /اطلبوا العلم ولو في الصين/ ولم يكن في الصين علم من علوم القرآن أو الحديث يوم ورد الحديث، ولكنه جاء للحث على بذل أقصى الجهد لتحصيل المعرفة بكل أشكالها حيثما أمكن ذلك وامتلاك القوة بالمعرفة كيفما تم ذلك. ورباط الخيل الذي نرهب به عدو الله وعدونا، أصبح اليوم بالتطور والتقدم العالميين رباط صواريخ وطائرات ودبابات وقنابل متعددة القدرات، وذلك أمر مندوب إليه ديناً وعلماً وعقلاً وبقاء قومية وحماية للناس والعقيدة والأرض‏
            -ولا يجوز أن يكون الخطاب الديني مصدر اعتراض على النزوع القومي، والتمايز القومي، لا عند العرب ولا عند سواهم من الأقوام، ولا سيما في ديار الإسلام؛ لأن الإسلام لم يمنع التمايز القومي بل منع التعصب القومي والغلو والغطرسة والتعالي على الأفراد والأمم. ولكن الحالة الاعتراضية مستمرة على التعصب والغلو والتمييز العنصري، فقد فضل الناس بالتقوى وليس بالعرق والدم واللون.‏
            "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكركم عند الله أتقاكم." كما جعل الانتماء إلى العروبة انتماء ثقافياً في صورته الأسمى حيث جاء في الحديث الصحيح : " أيها الناس إن الرب واحد والأب واحد ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم، العربية لسان، فمن تكلم العربية فهو عربي." وهنا انتماء يتعالى على العصبية العصابيَّة العنصرية باستمرار.‏
            وعلى هذا فإنه من غير المقبول أن يتعارض الشق الديني من خطابنا الثقافي مع الشق القومي لذلك الخطاب، فالأساس هو التكامل وليس التضاد أو التنافي أو التخاصم.‏
            وهذا يفضي بنا إلى طرح موضوع التفاعل الحيوي والتداخل العضوي بين البعد- الشق -الديني والبعد- الشق- القومي من خطابنا الثقافي اللذين ما انفكا في نزاع وفراق وصدام منذ نهاية القرن الماضي ومطلع هذا القرن على نحو ما، لدرجة خيل معها للبعض أنه لا يستقيم حال الأمة إلا بنفي أحدهما للآخر، وكأنهما ضدَّان لا يلتقيان، مع أن الواقع والمعطيات القومية والدينية تشير إلى غير ذلك.‏
            وسبل الخروج مما تلاقيه الأمة من مآزق وأزمات وضعف وتهافت واستهانة بمصالحها وإرادتها ناتج في معظمه من تفرق في العمق صُنِّع وغذي بمهارة واستمرار، جعل العروبة في مقابل الإسلام والإسلام في مقابل العروبة فأضعف الطرفين ونال منهما، وجعل أعداء الأمة يستبشرون بتحقيق انهيارهما في القرن القادم كما أعلن بعض الغربيين في مطلع التسعينيات من هذا القرن:" كما شهد القرن الحالي انهيار الماركسية والشيوعية سوف يشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام." فهل يكون ذلك من غير أن نكون نحن شركاء فيه؟!.‏

            الأسبوع الأدبي/ع585//8/ت2/1997‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              إشارتان عربيتان لافتتان
              إشارتان واضحتان أرسلهما الوطن العرب /رسمياً وشعبياً/ في الأسبوع الأخير، هذا الشهر، إلى الولايات المتحدة الأميركية والعالم، تعبران عن الوجدان الشعبي، وتفتحان نافذة أمل على مرحلة عربية جديدة، نرجو أن تعززا التضامن وتغيرا العلاقات العربية العربية، وتدفعا باتجاه عمل عربي مغاير للذي شهدناه منذ بداية التسعينيات، والإشارتان هما:‏
              - رفض المشاركة في مؤتمر الدوحة.‏
              - ورفض الموافقة على توجيه ضربة عسكرية إلى العراق. والإشارتان على ما فيهما من تردد وضعف جراء عدم تماسك الجبهة التي أصدرتهما ووجود خروق واضحة فيها، وشعورها بفقدان عنصر القوة الذي يعزز استقلالها ووحدة قرارها، إلا أنهما تحملان مدلولاً قوياً، وتبعثان رسالة مفهومة، وتقدمان مؤشراً مستقبلياً.‏
              فمؤتمر الدوحة الذي عقد بمشاركة خمس دول عربية هي: تونس والأردن واليمن وعمان والكويت، وبحضور عشرات الأشخاص من رجال الأعمال العرب الذين وطنهم هو قرشهم في نهاية المطاف وقضيتهم هي ربحهم، مؤتمر الدوحة هذا شكل لطمة سياسية قوية للإدارة الأميركية ولسياستها الخارجية.‏
              فبعد تعالي أولبرايت لمدة طويلة منذ تعيينها وزيرة للخارجية ورفضها أن تزور المنطقة لتجعل العرب يخضعون أكثر ويركضون نحوها أكثر، زارتها حرصاً على أمن إسرائيل وقالت إنها لن تكرر الزيارة إلا إذا كانت هناك تغيرات ومعطيات إيجابية- من وجهة نظر الصهيونية العالمية- تجعلها تعود إليها؛ وكان يسعى إليها الرؤساء ولا تسعى إليهم، ولكن حين جاءت في مؤتمر الدوحة الذي فرضته على منظميه والمشاركين فيه لم تجد سوى وزير خارجية قطر بانتظارها، وغاب وزراء الخارجية العرب وكل المستوى الذي كان يتطلع إلى زيارتها ولقائها، ووجدت نفسها محاصرة بتناقض المنطق الأميركي الذي كان قبل انعقاد المؤتمر يضغط باتجاه فصل الاقتصاد عن السياسة، ويدعو الدول العربية إلى المشاركة في مؤتمر الدوحة بصرف النظر عما يتحقق في مسار المفاوضات السلمية وعلى المسار الفلسطيني من تلك المسارات.‏
              وفي المؤتمر وبعده تبين لها أن منطق المستثمرين يرتكز على مقولات الأمن والاستقرار والسلام، تلك التي لم تحقق خطوات جادة على طريقها، والتي لا يمكنهم غيابها من المغامرة. كما تبين أن عدم حضور فلسطينيي عرفات الشريك في أوسلو وديفيد ليفي وزير خارجية الكيان الصهيوني هو إعلان مباشر عن عجز الإدارة الأميركية عن إحراز تقدم في المسار السياسي، وإخفاق واضح في شد الذين يخوضون في أوحال أوسلو إلى مائدة اقتصادية، وهم جياع إلى الثقة والاطمئنان، وعاجزون عن استعادة طريقهم وهدفهم، وعندما أكد المؤتمر على موضوع التقدم في مسار السلام ليتم تقدم في مسار الاقتصاد وجدت الإدارة الأميركية نفسها بمواجهة الحقيقة التي عملت أشهراً على إخفائها أو قلبها وهي أن تلازم التقدم في مساري السياسة والاقتصاد معاً في "عملية سلام الشرق الأوسط" وأنه من دون ذلك التلازم لا يتحقق للراغبين في الاستثمار على حساب السياسة والسلام أي أمن أو اطمئنان إلا بوجود سلام حقيقي ومناخ يساعد على الاستقرار والاستثمار.‏
              وارتفع صوت يقول بضرورة إحراز تقدم في مسار السلام الذي نقضته وعطلته سياسة الكيان الصهيوني وأطماع الحركة الصهيونية.‏
              لقد عقد مؤتمر الدوحة، وحضره حوالي ألفي شخصية من 64 بلداً بينهم /850/ رجال أعمال و/500/ مسؤول في درجات ما من المسؤولية، وبين رجال الأعمال عرب من أقطار عربية قاطعت المؤتمر؛ وانعقاد المؤتمر على هذا النحو يطلق إشارتين:‏
              - إن النفوذ الأميركي في المنطقة موجود ومؤثر وقادر على فرض عقد مؤتمر ولكنه لا يستطيع إنجاحه، ولم يعد ذلك النفوذ كاسحاً في المنطقة ولهذا ما له من دلالات.‏
              - إن المنطق الأميركي المزدوج الذي يزدري المصلحة والمنطق العربيين، بدأ يجرّؤ العرب على كشفه ومواجهته، وهذه بداية تهافت تأثيره على الأنظمة بعد أن تهافت ذلك التأثير في الشارع العربي إلى حد كبير.‏
              أمَّا رفض الدول العربية الظاهر المعلن:‏
              ابتداء من سورية ومصر وانتهاء بالسعودية والكويت، توجيه ضربة عسكرية أميركية إلى العراق، الذي يختلف مع لجنة التفتيش الأميركية التي تعمل تحت غطاء مجلس الأمن الدولي، فهو موقف ذو تأثير وانعكاسات، عربياً ودولياً؛ وعلى الرغم من اقترانه بتأكيد الدول العربية على ضرورة التزام العراق بقرارات مجلس الأمن التي يقول إنه التزم بها، فإنه موقف يعبر عما وصل إليه الوجدان الشعبي العربي من درجة احتمال فاقت قدرته على الصمت فالعراق الذي لا يجد أطفاله الدواء أو الغذاء أو الأمان، ولا يجد كتابه الورق والحبر والمطبعة وسوق الكتاب، ولا يجد شعبه السلعة وحرية التواصل مع العالم والقوة الشرائية؛ العراق المحاصر منذ سنوات، والمقطعة أوصاله بوجود القوى الأجنبية على أرضيه، المخترق بحزام من الشمال وبقوة أميركية ترابط في الجنوب، والذي نفتش عقول أبنائه ومكتبات جامعاته للبحث فيها عن إرادة وعلم وعزم وتصميم على الوجود والتقدم والتحرر؛ يريدون له أن يتخلف أكثر وأن يعاني أكثر وأن يركع أكثر، من دون أن يلمَح في نهاية النفق المظلم شعاعاً من أمل. إنها عملية التيئيس والتفتيت وقتل الروح التي أدركتها الأمة العربية اليوم، وأدركت معها حالة الابتزاز والاستنزاف التي يريد الصهاينة والأميركيون أن يبقوا الوطن العربي فيها، لا سيما أهل الثروة والقوة المحتملة من أبنائه. وحين يقول الوطن العربي "لا" لموت العراق ولا لضربة أخرى لشعبه وبقية منجزاته، لا تقولها كل أنظمته بالحماسة والرغبة ذاتهما ولا باليقين والحرص ذاتهما أيضاً، فهناك بعض ممن يقول لسانه لا ويقول "قلبه" نعم، وهناك العكس أيضاً. وقد عبر وزير الدفاع الأميركي ووزيرة الخارجية الأميركية عن تَيْنِك الحالتين في بعض العبارات؛ ولكن الصيغة الشعبية العربية المطلقة ترفض إلحاق المزيد من المعاناة بشعب العراق، والصيغة الرسمية العربية العامة تقول كفى.. وهناك من يضع هوامش هنا وهناك لكل من لا ونعم.‏
              لكن أن تصبح "لا" الرسمية اليوم هي البديل "لنعم" شبه رسمية قبل سنوات، فإن لهذا دلالاته ولهذه الدلالات ما بعدها؛ وأن يقولها الرسميون العرب للإدارة الأميركية في الوقت ذاته تقريباً الذي قالوا لها فيه لا "للدوحة" التي تخدم مصالح الكيان الصهيوني وتلغي مصالح العرب فإن هذا يشير إلى:‏
              1- استقرار واع من قبل الأنظمة العربية للسنوات العجاف التي مرت من هذا العقد بصحبة "الراعي" الأميركي البشع.‏
              2- تبصر موضوعي بأهداف المشروع الصهيوني وتطلعاته وممارساته ولاسيما في ضوء رفضه تنفيذ ما أقره، ووقعه من اتفاقيات وما توصل إليه مع أطراف عربية من محادثات، وإصراره إلى الاستيطان والتوسع والتهويد وامتلاك أشكال القوة المدمرة؛ وإقامته سلسلة من التحالفات التي ترمي إلى تنفيذ المخطط الأميركي- الصهيوني بإعادة رسم الخريطة الجيو- سياسية للمنطقة، وإسناد مهام الأمن والهيمنة والسيطرة والنفوذ فيها، وقلب الطاولة على أهلها وهويتهم القومية، بل وعلى بعدهم الإسلامي في مفهومه الصحيح وتوجهاته التحريرية والنهضوية.‏
              3- إعادة إدراك واستدراك لحقيقة أن الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن أن تحسب لهم حساباً وهم فرادى، ولا تريدهم هي والكيان الصهيوني إلا فرادى؛ وأنها لا تشعر بهم ولا يمكن أن تشعر بأي احترام لهم ومراعاة لمصالحهم إلا إذا رفعوا صوتاً وحركوا يداً وهددوا مصالحها ونفوذها، ولو من بعد.‏
              4- استخلاص دروس من قراءة جديدة للشارع العربي، ولرغباته وتوجهاته، واستخلاص دروس أيضاً من المقاومة في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان وما يمكن أن تؤديا إليه من تغيير على الأرض إذا ما تم تجسيد إرادة المقاومة وإرادة التحرير، أو على الأقل إرادة المحافظة على صوت وحرية قرار ونغمة سيادة "عذبة" تقع وقع موسيقا الجاز و"الروك أند رول" على مسامع راعي البقر الثمل بما أنجزته الغطرسة.‏
              إن الإشارتين اللتين توقفت عندهما قليلاً: إشارة لا للدوحة ولا لضرب العراق، يمكن تثميرهما وتنميتها والبناء انطلاقاً منهما ليصبح هناك أساس جديد متين لموقف عربي جديد متين بعد التردي المزري والتهافت الكريه الذي وصل إليه الوضع العربي اليوم.‏
              لقد تجرأت مادلين أولبرايت على القول في افتتاح مؤتمر الدوحة "المؤسف أن الوقت لا يعمل لصالحنا" وكانت تعني ما يتعلق بالمفاوضات بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني خصوصاً وبين ذلك الكيان وبقية العرب عموماً، ولكن الوقت في الموضوع الثاني "موضوع توجيه ضربة للعراق" يعمل في صالح الأميركيين الذين يخططون- بتقديري- لتوجيه ضربة إلى العراق تحقق لهم مخططهم فيه ومن حوله، وهم الآن يستثمرون الوقت بدهاء:‏
              - فمن جهة يعملون سياسياً على ما يسمونه حل دبلوماسي- سياسي.‏
              - ومن جهة أخرى يحشدون القوات في الخليج ويمارسون الضغط على الساحات المعنية بالمهمة القتالية، ويهيئون مناخاً ملائماً بينهم وبين الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والقوى الأخرى التي تعنيهم عندما يتخذون قرارهم في التنفيذ.‏
              وأكاد ألمح شرر القصف وأشم رائحة الحرائق والجثث المحترقة تتصاعد مرة أخرى من قلبنا وجسدنا في العراق من "عامرية جديدة" وخنادق تغمر رجالها الرمال!!‏
              وحيال هذا التساؤل المر أتساءل:‏
              - هل من سبيل إلى تحويل "لا" العربية التي ارتفعت في القضاءين الرسمي والشعبي إلى قوة مؤثرة تمنع "الأميركي- الصهيوني" من تنفيذ مخططه وتوجيه ضربته؟!‏
              - وهل من سبيل إلى منع العراق من الانجرار إلى الفخ تحت تأثير نزيف جراحه وكبريائه المجرحة، وآماله المهددة في كل آن؟!‏
              - وهل، إذا تحقق ذلك، من سبيل إلى إيجاد مناخ دولي أكثر تفهماً وأكثر قدرة على إحقاق الحق وإشاعة العدل؛ مناخ يأخذ بالاعتبار:‏
              - حق العرب ومصالحهم في موضوع فلسطين والجولان وجنوب لبنان، وما ينشأ على ذلك الجذع من فروع.‏
              - وحق الشعوب العربية المحاصرة والمظلومة والملاحقة بقدرة القهر والابتزاز الأميركي- الصهيوني في أن تعيش بأمن وأمل وراحة، وأن تتمتع "بحقوق الإنسان" مع حرية اختيار تامة في مجالات الاعتقاد والهوية الثقافية والقرار السياسي والنظام الاقتصادي التي تريد، ونوع الاستهلاك الذي تستهلكه والبرامج التي تتابعها؟!‏
              - هل من سبيل إلى احترام حقها في أن تختار بين ملكية الدولة لقطاع عام والخصخصة المهرولة في ركاب مؤتمرات "إسرائيل" الاقتصادية؟!‏
              إن الموقف العربي القوي الموحد مفتاح ذلك، والتضامن العربي القوي مفتاح الموقف العربي القوي، والوعي بالوضع الذي نحن فيه وبما يراد لنا أن نكون عليه مفتاح التضامن والموقف معاً؟!‏
              فهل يكون لنا، انطلاقاً من هاتين الإشارتين، أمل في رؤية مغايرة متفائلة نضعها على طريق التنفيذ والتجسيد، لنتمكن من وضع أقدامنا على طريق أكثر أماناً وأملاً واستقلالاً؟!.‏

              الأسبوع الأدبي/ع513//23/آيار/1996.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                بين يدي قمة طهران
                ـ1ـ‏
                في شهر كانون أول / ديسمبر / القادم 1997 تنعقد قمة الدول الإسلامية في طهران، ويأتي انعقادها في مكان وزمان يستثيران التوقعات ويحرضان على التخيل، حيث تحتشد فيهما تحديات وأسئلة وأزمات ومعطيات كثيرة وخطيرة، وكل ذلك يطرح نفسه وثقله وظلاله على القمة العتيدة، التي تتوجه إليها أنظار وأسماع وأفئدة من داخل العالم الإسلامي ومن خارجه، بانتظار ردود وحلول ومواقف، تحدد كلمة العالم الإسلامي ورؤيته وتوجهاته، إن أمكن، للتعامل مع ما هو مطروح من قضايا ومشكلات.‏
                ولا أتصور أن "جوب" طهران سوف يتسع لماء الروافد التي سيحملها كل وفد إلى القمة في جعبته، وهناك من سيحمل المعاناة وخطاب الدم الذي يراق في بلاده، وهناك من سيحمل خطاب التحدي والتصدي لصيغ الظلم والاستلاب، وهناك من سيحمل ظلال الأغلال والقيود والقهر والحصار بأنواعه، وهناك من سيحمل عقاربه وأفاعيه في جراب مزيَّن بالكلام والشعارات والجمل المنمقة، وهناك من سيحمل حكمته وصبره وإيمانه وثقته بالله وبالأمة وبالمستقبل؛ ولكن قمة طهران لن تكون بعيدة عن تأثير ما يجري من حولها، ولن تكون بمنأى عن التوتر الذي يثيره احتشاد القوة الأميركية في الخليج العربي وتعزيز تلك القوة المستمر، ولا عن صلصلة زَرَد الحديد وما ينفثه الطيارون الأتراك وحلفاؤهم الصهاينة والأميركيون من حقد وتوتر في سماء العراق وعلى تخوم سورية وإيران، لما ينطوي عليه ذلك التحالف من تهديد للإسلام والمسلمين معاً ولمصالح الشعوب الأصيلة في المنطقة، لاسيما إذا ما أحسنا قراءة توجهات ومخططات، أولئك "الجنرالات الدونما " الذين يحكمون تركيا منذ أواخر عهد السلطان عبد الحميد، وأدركنا حقيقة أنهم الأكثر وفاء لجذورهم وأصولهم ولنهج "تركيا العلمانية" الذي وضعه ابن يهودية من سالونيك ويحتشد الصهاينة اليوم على نهجه ليعيدوا ترتيب الجغرافية السياسية للمنطقة وليسيطروا على منابع الطاقة من الخليج العربي إلى بحر قزوين، الذي يسيل نفطه وغازه لعابهم هذه الأيام، وليفرضوا هيمنة شاملة على الأمن والاقتصاد والمياه بما يملكون من قوة.‏
                ولا أظن أن قمة إسلامية تنعقد اليوم لا يزدحم على أبوابها أنين المسلمين الجياع في إفريقيا السوداء وفي مناطق شاسعة من آسيا، ودم الأبرياء المذبوحين بسكاكين تُنمى إلى الإسلام والمسلمين؛ ومعاناة الشعب الأفغاني من صراع "المسلمين " على أرض الإسلام والمسلمين ؟!‏
                ولا أعتقد أن أهل القمة الإسلامية سوف يتحصنون في مواقعهم العزيزة بعيداً عن تحديات العلم والتقدم والقوة التي تطرق أبواب العالم الإسلامي كلها وتنوشه من أطرافه وتدفع في وجهه الصوت والسلاح معاً، وتخضعه لاستنزاف متعدد الوجوه ليبقى خارج حدود العصر وموضوعاته الرئيسة ومعطياته الهامة:‏
                - العولمة بكل أبعادها وتهديداتها ومقولاتها وتحدياتها سوف تزحف إلى أعتاب القمة، وتلقي عليها أسئلة سوق إسلامية مشتركة، ومصير القطاع العام، ونوع الخصخصة المطلوبة، والحمايات الجمركية، وإمكانية إقامة صناعات وسلع مزاحمة لما تطرحه الأسواق المنافسة.‏
                - وعالم المعلوماتية، ووسائل الاتصال الحديثة، والفضائيات وشبكة الأنترنيت، والمعطى الثقافي المعاصر كله، المحمول على تلك الأجنحة التقنية العالية الأداء النافذة التأثير الذي يطرح أسئلة الهويَّات القومية ومصيرها، وحدود الوطنية وحمايتها، واختراقات الغزو الثقافي والتطبيع وأساليب الاستلاب الثقافي كله، وكيفية مواجهتها؛ كما يطرح التحديات التي تصب نيرانها على القيم الخلقية والاجتماعية والعقائدية ذاتها، وعلى بنية الأسرة وتكوين الفرد وتنال من الشباب تخريباً وتخييباً في آن معاً، كيف الرد عليها والتعامل معها وتكوين أجيال على أسس ومبادئ لتحقيق أهداف بعيدة؟!‏
                هل يكون ذلك بالتقوقع وإغلاق الأبواب، أم بالتحصين الفعال بمعطى الأصالة والوعي والمعرفة والعلم وبامتلاك القدرة على المزاحمة في كل ميدان أدبي وفكري وإعلامي وفني وتربوي وعلمي خالص على أرضية الإيمان والتفاؤل والاعتداد الواقعي بالنفس؟!‏
                - تحديات التبشير الاستعماري والتخريب الصهيوني، وجهود وبرامج مجلس الكنائس العالمي، وما يُبث هنا وهناك في أقطار وطننا العربي من سموم لإشاعة فرقة دينية ومذهبية؟ وتركيز الصهاينة والغرب وفئات مرتبطة تاريخياً بالاستعمار وناذرة نفسها لصيغ الأداء العدواني المتجددة، تعمل على إثارة النعرات الطائفية والعرقية والصراعات والفتن، وهي نوع من السوس في جسم العالم الإسلامي وعلاقات أقطاره وحكامه ومجتمعاته هل ستبقى من دون ردود؟.‏
                وسوف تقف على مقربة من هذه الفئة من التحديات معطيات تخدمها بشكل أو بآخر تأتي من رسيس صراع المذاهب الإسلامية، فهل تستطيع القمة الإسلامية أن تولي عناية واهتماماً للموضوع الثقافي العام بمفهومه الشامل ومساحات آرائه وتواصله مع الآخرين، وتقدمه درجة أو درجات على سواه، لأنه من أهم جبهات المواجهة المستقبلية، سواء في ميدان المثاقفة أو إطفاء الفتن أو صوغ توجه التقريب بين أبناء العالم الإسلامي ودوله وطوائفه ومذاهبه وأقلياته!؟!‏
                هل تستطيع أنظمة مسؤولة عن طاقة بشرية تزيد على مليار ومئتي مليون مسلم / أي خمس العالم تقريباً / أن تخصص للمشترك العقائدي والثقافي بين أبناء العالم الإسلامي ما تخصصه الولايات المتحدة الأميركية لما يسمى " فيلق السلام " مثلاً وهو الذي يدعم سياسة أوسلو ويقوم بالترويج للاعتراف " بإسرائيل " وتطبيع العلاقات معها، وإحداث اختراقات في الجسم الثقافي العربي على أرضية توجهات مثقفي لقاء " غرناطة " وتحالف " كوبنهاغن "؟! وقد بلغ ما خصصته لذلك الفيلق في موازنة عام 1998 / 222/ مليون دولار أميركي، تصرف على مراكز أبحاث وتجمعات ذات أهداف سياسية وثقافية واجتماعية منها : جماعة القاهرة من أجل السلام وجمعية أبناء إبراهيم في الأردن المتعاونة مع جماعة السلام الآن في فلسطين المحتلة بإشراف الموساد والــ c.i.a .‏
                وعلى صعيد آخر من المشكلات والأزمات وبؤر التوتر والمواجهات ستجد قمة طهران بين مقاعد وفودها وبين ملفاتهم وعبر ابتساماتهم مشكلات مثل : جزر " أبو موسى وطنب الكبرى والصغرى - جزر حنيش - قبرص - كشمير - البوسنة والهرسك - أفغانستان- الصومال - والمعلق بين العراق والكويت والعراق وإيران، وبين تركيا وجيرانها العرب والإيرانيين، ومشكلات المسلمين في الغرب كله ومشكلات الحصار والتهديد بالحصار والدمار، وأوضاع داخلية فيها عنف وعنف مضاد واتهامات واتهامات مضادة كما في الجزائر ومصر؟! فهل يمكن أن نتطلع إلى حلول جذرية ودائمة تقوم على أسس العقيدة الواحدة والمشترك التاريخي، حيث تنشأ محكمة عدل إسلامية عليا يتم احتكام الدول الإسلامية إليها فيما يشجر بينها من خلاف، وهيئة حكماء عليا تحاول أن تطفئ لهيب الخلافات الإسلامية - الإسلامية وتعمل على تقوية الصف والموقف والثوابت القيمية المبدئية بين دول وشعوب مستهدفة من قبل أهل القوة المتغطرسة في عالم اليوم هي ومصالحها وإرادتها وقراراتها السياسية وثقافتها وحتى عقيدتها ؟!‏
                - ولن يكون مؤتمر قمة طهران - في تقديري - بعيداً عن سؤال المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني وموضوع الإرهاب، والتهم بالإرهاب، وسيواجه مسؤولية التفريق بينهما على معيار خلقي وقانوني وشرعي ليتخذ موقفاً في ضوء الحكم حسب معيار وسيتوقف عند الموقف الأميركي - الصهيوني الذي يحاول أن يفرض معياره الفاسد وتفسيره المشوه ومواقفه العنصرية من الآخرين، وسوف يتوقف طويلاً عند قضية فلسطين والاتفاقيات التي تهشم جسم الحق والعدل فيها، والكل ينتظر رأياً وقراراً وموقفاً، لاسيما بعد الذي بتنا نرى ونسمع من تهويد للقدس وتهديد لكل فلسطين ولدول إسلامية أخرى، ومن تهديد ينطلق من فلسطين المحتلة ويشمل المنطقة كلها لاسيما سورية ولبنان والعراق وإيران.‏
                قد تكون أحلامنا كبيرة، وتطلعاتنا تصل إلى حدود تجرّع الوهم وتزيينه، ولكن يبقى الحلم أحد المداخل المشروعة لتغيير الواقع : فهل ترانا نحلم على أرض الواقع بتسهيلات إنسانية للمواطنين في العالم الإسلامي تمكنهم من التنقل والتعامل والتواصل بحرية واحترام نسبيين حتى لا نقول تامين؟! هل نرى مشروع قطار يربط دول هذه القمة أو بعضها ببعض ويسهل انتقال بضائعها وأناسها بين المدن والأقطار ليؤسس لصلات أفضل ومشاريع أكبر؟ ولنا في أوربا، التي لم يمض على آخر حروبها، التي كلفتها ما يقرب من خمسين مليون قتيل، أكثر من نصف قرن، وها هي تقيم وحدة بين بلدانها، ولم تنقطع المواصلات والاتصالات فيما بينها، ولم يعد مواطنوها يعانون من القيود التي تكبلنا اليوم !! وهل نشهد ولادة فكرة منطقة حرة إسلامية تؤسس لموقع مناهض أو منافس للمنطقة الحرة التي تنشئها حركة الأمركة في " إربد- الأردن" بشراكة أميركية "إسرائيلية" أردنية استعداداً لغزو أسواق هذه المنطقة من الوطن العربي والتمدد منها نحو بلدان إسلامية ونحو مستقبل الأمة ذاته؟! سوق تدفع باتجاه التقارب والتواصل وتطوير الخبرة العلمية والتقنية، العملية والنظرية، وتطوير الإمكانية والقدرة على المنافسة؟!.‏
                إن الشراكة الأوربية - العربية المطروحة بين أقطار عربية والاتحاد الأوربي سوف تعزز حضور الغرب غير الأميركي في أسواقنا وثقافتنا وهي تقوم على أساس الاعتراف بشراكة " إسرائيل " في تلك السوق، فهي بهذا المعنى حاضنة لاندماج الكيان الصهيوني في المنطقة، بل ولهيمنته عليها؛ والأمرَكَة تعزز الحضور الصهيوني - الغربي كله في تلك الأسواق والمجالات من خلال نفوذ الولايات المتحدة الأميركية وقدراتها وتحالفاتها، وهذا يستدعي رداً وموقفاً وتحركاً سريعاً، فهل تواجه القمة ذلك باقتدار بعد أن تفكر فيه بتبصّر؟!.‏
                إنني أتمنى النجاح التام لمؤتمر القمة الإسلامية في طهران ولكل لقاء غايته الخير للإنسانية. جمعاء، وأتمنى أن ترفرف أحلامنا وتطلعاتنا في فضاء يقربها من التحقق .‏
                والله من وراء القصد .‏
                دمشق في :‏
                19 / 11 / 1997 / ع‏
                26 / 11 / 1997 / أ‏

                الأسبوع الأدبي/ع588//29/ت2/1997‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  مخاطر الصهيونية على أمن المنطقة
                  ـ 1 ـ‏
                  الصهيونية خطر كلي مستمر ومتعاظم، يتركز منذ بداية القرن في الوطن العربي، وفي فلسطين من بين أقطاره؛ وهي حركة عنصرية بمنطوق التلمود الذي يشكل العمود الفقري لثقافة اليهود اليوم والذي يجمع أشتاتهم ويوحد أحلامهم وتطلعاتهم؛ والتلمود هو في النهاية مفسروه وشرَّاحه وحملته من "الربيين"ومن الحاخامات الذين يشرفون على تقديمه للناس وفرضه من خلالهم على السياسة والساسة، ومتابعة حسن تطبيق ما يفرضون؛ ولا مستقبل ولا تأثير ولا قرار لمن يخرج على ما يرسمه رجال الدين اليهودي في الأصل انطلاقاً من رؤيتهم التلمودية أو رؤيتهم المعاصرة للتلمود، وهي دائماً رؤية مصلحيَّة تصب في إطار العنصرية التاريخية التي يحيط بها اليهودي نفسه بناء على ما يُغذّى به من تعاليم وعقائد وأفكار يصوغها الربيون ويقدمونها بصيغ متعددة وضمن برامج أداء متنوعة تخدم أغراضهم في النهاية.‏
                  وإذا كان القرار 3379 الذي أصدرته الأمم المتحدة في السبعينيات وألغته الولايات المتحدة الأميركية بتأثيرها على الأمم المتحدة في التسعينيات قد وضع العالم، لما يقرب من عقدين من الزمن في صورة هي أقرب ما تكون للحقيقة بالنسبة لهذه الحركة الهدامة المعادية للإنسانية والتي تقوم على تخريب الغير وصولاً إلى تحقيق أهدافها، فإن إلغاءه لم يستطع أن يبعد الصهيونية ولو خطوة واحدة عن طبيعتها العنصرية وممارستها التي تجسد تلك الطبيعة. ويكفي أن نحصي عدد المذابح التي ارتكبتها الصهيونية في فلسطين المحتلة منذ إلغاء ذلك القرار حتى اليوم من مذبحة الحرم الإبراهيمي إلى "قانا" مروراً بالعدوان اليومي المستمر على جنوب لبنان، وما قامت به من مصادرة للأرض وقهر للسكان العرب واغتيالات وإفساد للبنية السياسية والثقافة في أقطار عربية على أرضية /أوسلو ووادي عربة/ حتى نقف على صورة بشعة ومقززة لتلك الحركة التي يجسدها اليوم أحد أشد ممثليها هوساً بها وهو بنيامين نتنياهو الذي لا يمثل حالة فردية وإنما يعبر /ديمقراطياً/ عن الأكثرية اليهودية التي تحتل فلسطين العربية، فقد انتخب بأكثرية 65% من بين اليهود، ويمثل اليمين الصهيوني الذي يضع قراراته ويسيطر عليه عملياً المتدينون اليهود وقياداتهم الروحية، وهي الأكثر عنفاً وتشدداً في موضوع الاستيطان والسيطرة على الأرض والقضاء على العرب والوصول إلى أهداف صهيونية بنيت على "وعد الرب" وأحلام التوراة وأساطير اليهود وخرافاتهم التي يفرضون قداستها على أوساط سياسية واجتماعية واسعة في الغرب "الواعي جداً" و"المتحضر جداً" والملك للقوة التدميريَّة الشاملة /عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، تلك التي يطبقها بسادية فظيعة على أقطار عربية وبلدان إسلامية بإيحاء صهيوني، وتلبية لرغبات واجتثاثاً لمخاوف مستقبلية يقول بها العنصريون الصهاينة.‏
                  والصهيونية اليوم خطر أهم، ماثل في مواقع كثيرة، ومتقدم حسب برنامج أساسه ومنطلقه المشروع الصهيوني، الذي هو المشروع المضاد للمشروع العربي بكل أبعاده وتوجهاته.‏
                  - إنها قوة عسكرية تستند أولاً على القوة الأميركية، وتوظفها وتستفيد منها وتتبادل معها المصالح؛ وترمي إلى فرض هيمنتها وإعادة ترتيب المنطقة جيو- سياسياً، من منظور يريحها ويحميها ويحقق سيطرتها على الأرض والناس والمصالح في المستقبل وقوة اقتصادية تركز رأس المال اليهودي في خدمة برامجها ومصالحها حتى لو لم يستقر في فلسطين المحتلة وينطلق منها، فهو في صلب قوة العولمة ونظريتها، وهو يعمل جاهداً على وضع الآخرين/ حكومات وأفراداً في خدمة مشروعه أو يحدهم على الأقل لكي يبقوا أفراداً لا يخدمون مشروعهم ولا يقاومون مشروعه الصهيوني المتجسد في الكيان الصهيوني وبرامجه البعيدة الأمد.‏
                  - وقوة تقنية وإعلامية مؤثرة، ليس انطلاقاً من مركز الثقل القائم في فلسطين المحتلة وإنما من مواقع الثقل الأخرى الموزعة في مناطق مختلفة في العالم، ولاسيما تلك المتجمعة في الغرب والمهيمنة بأشكال مختلفة على الإعلام والرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية.‏
                  لقد أخذت مخاطر الصهيونية /سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً/ على أمن هذه المنطقة تتعاظم وتتفاقم، فمن الأحلاف والمناورات والاستفزازات والتهديدات العسكرية إلى تطوير الأسلحة النووية وغير النووية، وكذلك الأسلحة العادية ومركزتها في مواقع تهديد مباشر لدول عربية وإسلامية؛ إلى المؤتمرات الاقتصادية والشركات والاستثمارات /الصهيونية- العربية- الغربية/ إلى الاختراقات السياسية إلى عزل أقطار عربية وإيقاعها نهائياً في الشرك الصهيوني برغبة حكامها أو بغفلتهم، إلى تخريب مستمر للقيم والمقومات الثقافية والفنية في مواقع وتركيز على التغيير التربوي والتعليمي في مواقع أخرى، وإلى تركيز آخر في مراكز الأبحاث والدراسات لجمع المعلومات، وفي دور نشر ومنابر إعلامية دارت قوة تأثير كبيرة، ويضاف ذلك إلى تركيز الصهيونية على عاملين رئيسين تنصب عليهما جهودهما ويستند إليهما مشروعها في الأساس وهما:‏
                  السيطرة على الأرض والسيطرة على المياه وكل هذا الخطر الداهم الذي يتنامى بالصمت عنه أو عدم الوعي الكافي به، أو بالتهوين من شأنه، يستدعي الالتفات إليه بهدف وقف زحفه من جهة والسعي إلى إيجاد قوة توازنه وتواجهه من جهة أخرى.‏
                  وإذا جاز لي أن أقتطع صورة أو صوراً من مشهد الخطر العام المتنامي، والاختراق المتكاثر، أركز عليها لأنبه إلى نوع الأداء الذي يقوم به الأعداء/ صهاينة ومتصهينون ومتحالفون معهم/ ولأنبّه إلى نوع المواجهة التي تتم له من قبلنا حيث يعملون هم على الأرض وبإمكانات كبيرة وتغطية سياسية وإعلامية واسعة، ونعمل نحن في مساحات الصوت والهواء، وفي مواقع ومساحات محدودة تحاط بالتعتيم ويتجلى فيها التنافر أحياناً وتشتت الرأي والرؤية في كثير من الأحيان؛ والهدف الذي أرمي إليه من وراء ذلك هو أن أسترعي الانتباه إلى ضرورة الإسراع في الوصول إلى رؤية مشتركة متكاملة نبني عليها ولا نعيد بناءها كلما التقينا، يسفر عنها برنامج عمل ولا تتطوح في الفراغ كلما بدأ "برنامج خاص" آخذ طريقه إلى التنفيذ بالعمل..، رؤية تلتقي حولها الإيرادات والأفكار والسياسات إن أمكن وتوظف في خدمتها الطاقات والإمكانات والأموال، حتى لا نبقى نشيداً وشعاراً ومختبراً لحالات الإحباط.‏
                  وما أركز عليه من صور في المشهد العام ينحصر في المشهد الثقافي، على أرضية التخطيط والتوظيف السياسيين له، ذلك التوظيف الذي ينبع أصلاً من البرنامج الصهيوني- الغربي ويصب في خدمة أهدافه المرحلية والنهائية؛ وأبدأً مما حدث بعد مؤتمر مدريد وفي عملية مواكبة له وللمفاوضات التي انبثقت عنه.‏
                  لقد تم تأسيس ما يسمى اليوم /فيلق السلام/ وهو في المحصلة عدة مؤسسات وهيئات وتجمعات وجمعيات تعمل على تحقيق اختراقات في الجسد العربي كله لمصلحة سلام الاستسلام وما يحققه لا سيما بعد أن تجسد أنموذجه الأمثل في اتفاقيتي: (أوسلو ونسلها...ووادي عربة).‏
                  في ذلك الإطار تعمل:‏
                  مؤسسة "المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" وهي تهدف إلى تقديم مبادرات ومشاريع لدفع عملية السلام، بمفهومها الصهيوني، الأميركي، وتعزيز ما يتم التوصل إليه من اتفاقيات، وفي هذه المؤسسة عرب ويهود/ أميركيون وغير أميركيين/ وفيها أوربيون أيضاً وممن فيها/ خليل جهشان/ فلسطيني- أميركي على صلة مباشرة بالبيت الأبيض، /وجيمس زغبي/عربي أميركي رئيس تجمع عربي/ ولطفي الخولي وسواهم وقد اعتمدت أسلوب تكوين "ورشات العمل" على نمط منظمة "بْني بْرِيتْ" أو أبناء العهد الصهيونية، التي تعد من أقوى المنظمات الصهيونية وأشرسها، عقدت ورشة المبادرة من أجل السلام تلك اجتماعات سرية قبل أوسلو، وسلسة من المشاورات والاتصالات وقامت بعد مدريد، وتحولت إلى تبني مشروع أوسلو والعمل في إطاره بعد أن بارك الأميركيون أوسلو واحتضنوها وتم توقيع اتفاقها في حديقة البيت الأبيض، ورصد الأموال اللازمة لدفع مساراتها، والمسارات التي يراد لها أن تكون على أنموذجها.‏
                  واجتماعها في مراكش هو السادس، وتم بشيء من العلانية، أو سرب عنه ما سُرِّب من أمره لأنه أتى ليدعم مساراً معلناً "أوسلو" وذلك ابتداء من المغرب وموقعها والمستشار اليهودي أزولاي/ مستشار الملك الحسن الثاني الذي ساهم في ذلك الاجتماع.‏
                  تمت أعمال الورشة في مراكش بين 18- 22/3/1994 أي بعد ملتقى غرناطة بـ95 يوماً، وكان ذلك الملتقى قد عقد بدوره بعد توقيع أوسلو بتسعين يوماً.‏
                  وقد أكدت على ما جاء تقريباً في برنامج غرناطة وشعارها "الانتقال من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام" بالمفهوم الأميركي الصهيوني للسلام، وهو برنامج كانت هي أصلاً وراءه ووراء توظيف اليونيسكو كمظلة لغرناطة، وذلك بخلق المناخ وتقديم الوسائل ودعم الأداء وزيادة عدد من يسمون "المعتدلين" ومجاوزة الرافضين وتحييدهم أو تحطيمهم.‏
                  واعتمدت تكثيف الأنشطة في المجالات الثقافية، وإقامة ما يسمى ورشات عمل في مجالات /تثاقفية متعددة/ أدبية- فكرية- تربوية- فنية- تاريخية- إعلامية- حقوقية..الخ.‏
                  وبدأت بتكوين المدربين والقادة والأطر البشرية الأخرى تمهيداً للانتشار، وأقامت نشاطات عديدة في مصر وفلسطين المحتلة والولايات المتحدة وأوربا الغربية وتركيا..الخ.‏
                  - وحظي البرنامج الموجه للتربية والتعليم باهتمام خاص في غرناطة وسواها أو في مجالات ملتقيات الورش وهيئة الإشراف القيادي العليا، لاسيما:‏
                  - مناهج التعليم. وتكوين أطر المستقبل "بذور السلام". وحواضن تربوية واجتماعية "المرأة من أجل السلام" في اليونان وتركيا..الخ. وقد تم التركيز منذ اللحظات الأولى على مواجهة كل من لا يدعم هذا الاتجاه بوصفه قوة ظلامية/ كما قال أدونيس بلسان فيديركو مايور/ مدير عام اليونيسكو في تصريحه الموجه ضد اتحاد الكتاب العرب/ ومعادياً للسلام، ومؤيداً للإرهاب الذي هو المقاومة مشوهة من منظور صهيوني- أميركي.‏
                  وأخذت حملات التشويه والتشويش تترى من منابر ثقافية وإعلامية ومؤسسات وتنظيمات فاعلة في التأثير على الرأي العام، لمقاومة من يقاوم أوسلو ونسلها، ولتشويه صورته والتعتيم عليه، وتسفيه فكره وأدائه، ونشطت ميلشيات دغمائية في أداء ذي امتداد تاريخي في هذا المجال.ووظفت أقلام ومنابر في الصحافة العربية خارج الوطن العربي وداخله للعمل في اتجاهين:‏
                  - طرح التوجه العام /لسلام أوسلو/ على أرضية ما يسمى بالواقعية- واقعية انهزامية- ومنطقها الآخذ بمعطى نهائي للتاريخ على ما وصل إليه تاريخ، يستمد زخماً من "نهاية التاريخ" الفوكويامية- الأميركية، وحشر العرب في زاوية اليأس بعد نشر الإحباط في أوساطهم وجعلهم يقولون: ليس بالإمكان أبدع مما كان". ويعلنون هزيمتهم لمصلحة العدو الصهيوني، ثقافياً أولاً وسياسياً ثانياً، أو بتزامن تام إن أمكن ذلك، نظراً لما للثقافة من دور مؤثر في توطين ما يسمونه "السلام" وجعل الناس يقبلونه ويقبلون عليه، أي غرسه على حساب الذاكرة والوجدان العربيين وعلى حساب معطيات الصراع العربي الصهيوني ووقائعه وتاريخه وحقائقه وأهدافه النهائية.‏
                  - وتشويه صورة كل ما يعمل في الاتجاه المضاد، أي رفض أوسلو ودعم المقاومة والتشبت بالحق والثوابت والأخذ بواقعية تفاؤلية، غير تلك المنهزمة أو الانهزامية: واقعية ترى نوراً في نهاية النفق، وترفض مقولة نهاية التاريخ، والعصر الإسرائيلي النهائي الكلي القدرة النهائي الحضور، كما ترفض مقولة بقاء الولايات المتحدة الأميركية، أبدياً، قطباً وحيداً مسيطراً، وكأنها قدر منزل .كما بدأ فعل التعتيم على أفراد ذلك الفريق، وافتعال ما يشوه مواقفهم وصورهم ويعوق أداءهم ويحبطهم أو يعزز توجه الإحباط مما يطرحون، مع تلميع صورة من ناصر أوسلو ونسلها ووقف مع مناصريها.‏

                  ـ2ـ‏
                  في إطار تسويغ اتفاقيات أوسلو وتسويقها بوصفها " أنموذجاً" للاتفاقيات التالية مع الأطراف العربية المتفاوضة مع الكيان الصهيوني، وبدفع سحري من اتفاق " وادي عربة "، أخذت الجماعات العاملة لترويج سلام الاستسلام في المجال الثقافي وتشكيل حاضنة شعبية لذلك " السلام" بتأثير من الثقافة تمّ عقد لقاءات صحفية وتربوية وأدبية وفنية ولقاءات مخصّصة للنساء في بلدان منها : تركيا - اليونان - تونس - مصر - الأردن - إيطاليا، وقام المشاركون في تلك اللقاءات بوضع ما يشبه اللمسات التفصيلية على البرامج الموضوعة لترجمة أهداف استراتيجية إلى أداء في الواقع المعيش وتقديم تصور عن آلية عمل اتضحت بصورة جلية في مجال الأداء الإعلامي على الخصوص، حيث أعلنت المجموعة التي التقت في تركيا / أنقرة أيلول 1994 / عن برنامجها وكيفية الأداء المتناغم والتعاون بين الكيان الصهيوني والأطراف المشاركة بدعم وتنسيق أميركيين، ويمكن العودة إلى نقاط " البيان - البرنامج " الذي أعلن من أنقرة ونشر في أكثر من صحيفة ومجلة عربية وقد شارك في وضعه والالتزام به صحفيون عرب من مؤسسات وصحف ووكالات مؤثرة في الرأي العام العربي بعضها يصدر داخل الوطن العربي وبعضها يصدر خارجه، وكل منهم يصب أداءه في أعماق ذلك الرأي العام خدمة لهذا المنحى.‏
                  وبعد ذلك بدأنا نقرأ مقالات مترجمة وأخرى موضوعة في الصحافة العربية تدعو صراحة إلى تقديم الاعتراف والأرض بما فيها القدس للإسرائيليين، والقبول بالمبدأ الحضاري الذي استنّه السادات والكف عن " الغوغائية القومية" التي تطالب بالأرض المحتلة، وتسفيه التطلعات والأحلام القومية الوحدوية والتحريرية، وفي بعض الحالات شتم العرب والتبرؤ من "قوميتهم " ومن أهدافها ومنطقها ومن يرجع إلى صحف ومجلات تصدر في لندن والقاهرة والكويت. يجد الكثير مما كتب في ذلك المنحى.‏
                  وقد واكب ذلك وتبعه تزايد في الضخ الإعلامي الذي هدف إلى إدخال صورة " العدو - الرمز أو رموز - العدو " إلى البيت والعين العربيين تركيزاً على ما سمي " كسر الحاجز النفسي " وتكوين الاعتيادي على تلك الحالة من الرؤية في الإعلام العربي، في إطار تهيئة الرأي العام لأوضاع تتماشى مع " السلام القادم " على أحصنة أميركية بيضاء.‏
                  ومن منا لم يشهد في تلك الأعوام 94-96 بصورة خاصة، وما بعدها بشكل عام اللقاءات المتكررة التي أجريت مع مسؤولين صهاينة، بل من عتاة العنصرية الصهيونية الملطخة أيديهم بدماء الأطفال العرب في عشرات المذابح التي ارتكبوها، ومنها مؤخراً : / صبرا وشاتيلا والحرم الإبراهيمي في الخليل وقانا - لبنان/،عبر فضائيات بالعربية، وفي نشرات الأخبار على نطاق أوسع في التلفزات المحلية العربية، عدا التتبع الإعلامي الذي يلمّع الصورة أحياناً، أو يقدمها بنوع من " الحياد الإيجابي " منها، تاركاً الزمن يفعل فعله المؤثر في الاتجاه الذي يركز عليه في ذلك الحياد، اتجاه تعزيز الاختراق في الذاكرة والوجدان والعقل من الإنسان العربي.‏
                  من منا لم يشاهد رابين وبيريس ونتنياهو وشارون وحتى إسحق شامير، وكل منهم إرهابي، عريق في الإرهاب، على الشاشات ليس في استعراض الخبر وإنما في لقاءات ومن القدس المحتلة أحياناً. سيرتفع الصوت بأن هذا هو معطى العصر في الإعلام اليوم وليس منطقياً أن نتخلف في الأداء عن العصر، وهذا منطق مقبول ومرغوب فيه وسليم، ولكنه يبقى محكوماً بأهداف كل أمة أو بلد أو وسيلة إعلام، ويظل الهدف الاستراتيجي مسيطراً على التكتيك وموظفاً للوسيلة والمعلومة لخدمة أغراضه ضمن رؤية وبرنامج مرحلي في حالات الأداء السليم، فلا يُقدَّم العدو مثلاً للأمّة التي يحتل أرضها ويقتل بنيها بصفة الشريك أو المغبون أو صاحب المنطق الذي علينا أن نقبله ونتعايش معه؛ وفي إطارٍ يصمّم ويوظّف أصلاً لقبول الناطق والمنطق معاً، ولتقديمه بوصفه صاحب وجهة نظر علينا أن نتفاعل معها وليس ممثل قوة احتلال ونوع من العنصرية البغيضة وحالة العدوان المتنامي مع الزمن، تلك التي تفرض المقاومة وتستدعيها وتستنفر الرفض وتكرسه، حفاظاً على الحق والأرض والمناخ الروحي والاجتماعي الرافض لمنطق القوة وبقاء الاحتلال وتحويله هو ونتائجه البعيدة إلى واقع مقبول معترف بحقوقه وعلينا التلاؤم معه والتعامل الإيجابي‏
                  مع منطقه، وفي سبيل ذلك نحاول خلق مناخ نفسي واجتماعي يهيئ‏
                  الأرضية المناسبة لذلك كله !؟‏
                  وقد وصل أمر التسويغ والتعاون حدود الشراكة في الانتخابات الصهيونية الأخيرة حيث خاضت " أنظمة عربية " الانتخابات في الكيان الصهيوني على نحو ما مناصرة العمل أو الليكود - بيريس أو نتنياهو - ودفع بعض المسؤولين العرب أموالاً لحملة بيريس، وقدم تصريحات ملائمة وجعلت تلك الأنظمة الشعب يتابع هذه المعركة في الإعلام وكأنه يتوقف عليها أمر نصره أو هزيمته، وفي المحصلة فإنه سيكون نفسيا واجتماعياً في حالة موافقة وارتياح إذا نجح الذي يناصره ويرضى به، وفي حالة انزعاج إذا لم ينجح، ولكنه يعلق الآمال على مجيئه ليكون شريكاً معترفاً به وبحقه في الشراكة. وهذه هي أكبر فجوة اختراق تتحقق لمصلحة العدو في مجال الرأي العام بفعل إعلام سياسي وسياسة إعلامية لبعض الأنظمة والمراكز الإعلامية التي تركز على إحداث اختراق في الثقافة والوجدان الشعبيين.‏
                  وفي مجال آخر من مجالات هذا النوع من العمل يستمر توسيع دائرة المنضمين إلى ذلك النوع من الاختيار الأداء أو المقربين منه والمتفهمين له، المتعاطفين معه أو الساكتين عليه، وهناك جهد مستمر لاستقطاب عناصر بشرية مؤهلة وفاعلة يركز على زيادة تأهيلها وفاعليتها من خلال الزيارات والدورات التدريبية التي تنظمها الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، ويواكب ذلك وينمّي فاعليته الترويج للأسماء المستقطبة أو المؤيدة وتمكينها من مواقع تستطيع، انطلاقاً منها، تحسين أدائها وتقوية تأثيرها، وإذا لم تتح في البداية أماكن اللقاء الواسع بالناس والتأثير عليها، فلا بأس في أن يتم ذلك عبر الصالونات التي تنتشر وتتسع، ومن خلال الأندية المشبوهة.‏
                  ويمكن أن نقرأ جيداً الترويج للكتّاب الذين يناصرون ما يسمى خط " الاعتدال " والواقعية - التي أسميها حملة تزيين الهزيمة بمنطق واقعي وتوسيع مداها في النفس والمجتمع - وتلميع صورهم وتوزيع إنتاجهم على نطاق واسع وترشيحهم للجوائز ومتابعة حتى التافه من أخبارهم وتكبيره، وتعزيز كل ما يبرز لهم دوراً ويعظم لهم صورةً ويصنع منهم عصا غليظة، بصرف النظر عن قيمتهم الحقيقية فكرياً وأدبياً، ومكانتهم الثقافية والاجتماعية.‏
                  " لقد بدأ العرس عملياً وسارت الزّفة " وهناك في خضم ذلك الزحام، وعلى قرع الطبول والغناء المختلط مع الضجيج من يُقنع من وبماذا؟! ومن يُنقذ من وكيف؟! لا سيما إذا ما واكب الزّفة وتخللها " رش النقود والحلوى " فوق العرسين؟! إن المحاكمة المنطقية تضعف أو تغيب، والصوت الآخر يضيع أو يغيّب، وهذا هو منطلق الاختراق الاجتماعي والنفسي من المدخل الثقافي والإعلامي. إضافة إلى ما يعزز ذلك الاختراق ويمهد له من وعود بالازدهار الاقتصادي وتحسن الأوضاع واستقرار الأمن وشيوع البحبوحة، ولو كان ذلك على حساب الكرامة لا بأس .. فما معنى الكرامة وما قيمتها، هل تشبع بطناً جائعة كما يقول أهل الواقعية الانهزامية.‏
                  وهكذا تتعمق أسس الاختراق لتذهب بعيداً نحو تغلب المادي على الروحي، والآني على المستقبلي، والمرحلي على الاستراتيجي، مستفيدة من ضغط الحاجة وممارسات الأنظمة. وغياب الوعي أو ضموره، ومن غياب الجماهير أو تغييبها ومحاصرتها بصور الفساد العربي وأشكاله وبصور الضعف العربي وأشكاله أيضاً، لكي تيأس فتقبل، وتتجرع مما تكره؛ تجرعه لأنها لا تجد ما تشرب سواه، أو هكذا يقدم لها الأمر.‏
                  وحين ننظر إلى الحملة من زاوية أخرى نقف على معطى يكمل الصورة نسبياً ويشكل تتاماً للبرنامج المطلوب .وهو معطى يتلخص بما يمكن تسميته " المساهمة بتعزيز مناخ الاختراق المعادي " وينحصر في ممارسة السلبي أو تعزيزه أو التعتيم عليه وجعله، يمرُّ ويكبر في أثناء مروره، حيث يشكل معه تياره المستفيد منه، أي خلق كرة الثلج التي تزداد كبراً واتساخاً كلما تدحرجت أكثر وهذا يتصل بممارسة وثقافية " أدبية وفنية وإعلامية وفكرية " ويسفر أداؤها عن مناخ ثقافي واجتماعي عام يسهم في تهافت الروح والإدارة والمكانة معاً، ويقتل مقومات الثقة وأنواع المبادرة حتى في أعماق الذات، ويؤسس للهزيمة أو يسوغها، ويتجلى ذلك في :‏
                  " تخريب القيم، وجلد الذات، وتشويه الماضي، ونخر الحاضر والتيئيس من المستقبل "؛ وأسترعي الانتباه لقراءة الظواهر التالية في ضوء ما يتم من مخططات :‏
                  أولاً: شيوع توظيف الجنس للجنس في الأدب العربي، والابتعاد عن الموضوعات التي تتناول أبطالاً إيجابيين ووقائع وظواهر إيجابية في المجتمع، وهجر الأداء الإبداعي في موضوع المقاومة الذي يعززها ويستلهم تضحيات أبطالها وشهدائها، ووضع الإبداع _ من منظور البعض لوظيفة الإبداع - وضعه في جانب، وكل أداء الدولة والمجتمع وأهدافهما وصراعاتهما والقضايا الضاغطة عليهما في جانب آخر، وكأن المطلوب أن يتم الطلاق ويستمر بين الإبداع والقضايا التي تطرح نفسها على الدولة من خلال السلطة، وفي هذه الحالة يضعف أداء الأمة، وهذا يكفي.‏
                  2- تعمد الإساءة لمشاعر الناس، وجرح الاعتقاد الديني والحس الخلقي والاجتماعي، تحت مسوغ رواج الأدب، أو التحرر المطلق، ونحر التقاليد البالية، واستخدام الحرية الطبيعية والتنكر للحرية بالمفهوم الوضعي - المدني.‏
                  3- الاستهانة بجماليات اللغة والأسلوب وبمقومات الأداء شعراً ونثراً، والخروج على القواعد والراسخ من القيم الفنية والخلقية والإنسانية بذرائع شتى.‏
                  ثانياً : بقاء الأداء الإعلامي العربي / بأشكاله المختلفة لا سيما الفني منها/ غير قادر على المزاحمة، ومن يقارن البرامج العربية في الفضائيات المحلية أو المحطات الداخلية / إن صح التعبير / يلمس ذلك بوضوح.‏
                  2- ابتلاع الغناء والغنج لقسم كثير من الساعات المخصصة للبث في بعض فضائيات ومحليات عربية، وضياع وقت آخر لا بأس به لأداء برامجي وفني من نوع ما سماه بعض ظرفاء السعودية والخليج : أداء / الساق على الساق وشكوى الهجر والفراق / وهو أداء لا يقيم همّة ولا يبعث "من النوم " جسداً رمّة.‏
                  ثالثاً : ونوع ثالث، سمّه إن شئت / أداء التقايض، لا ماشٍٍ ولا رابض، يأخذك إلى النبع ويعيدك ظمآن، وتقول من بعد وكأننا يا عين لا رحنا ولاجينا... " وسواء أكانت هذه المساهمة في تعزيز السلب تأتي من : قصور الأشخاص أو ضعف الإمكانات أو شيوع علاقات عامة ومناخ عام يشوبه المرض أو من غير ذلك، مما هو كثير، ويضيق بنا المجال عن التفصيل فيه، فإنه - عن عمد أو عن غير عمد -يصبّ في مصلحة من يعملون على تحقيق الاختراق الشامل لمجتمعنا / ثقافياً وسياسيا واجتماعياً واقتصادياً / بكل الأساليب، وعلى فرض الاتفاقيات المذلّة، وإقامة المؤتمرات المشبوهة، والمفاوضات البائسة مما يؤدي إلى تخريب القيم والروح، ومحاربة القومية والدين، وإضعاف الهمة وقتل الثقة.‏
                  إن الصهيونية / العنصرية، وحلفاءها والمتعاونين معها، والراعي الأكبر لمشروعها الاستيطاني/ الاستعماري، وصاحب المصلحة في تفوقها وهيمنتها، الولايات المتحدة الأميركية تبقى خطراً شاملاً على أمن المنطقة، وعلى أمننا الثقافي العربي، وأهداف ثقافتنا المقاومة ومثقفينا الرافضين لكلّ أشكال الاعتراف بالعدو وتطبيع العلاقات معه وصولاً إلى وضع وموقع وحالة يمكّن من النهوض والتحرير، بامتلاك العلم والإيمان والعمل بهما، وتعزيز الأمل ومواقع الصمود القومي، وعلى رأسها سورية التي تعتزّ بحكمة رئيسها وقيادته وريادته، وبدعمه المطلق لدور الثقافة والمثقفين في إطار رؤية سديدة تعطي للمثقفين دوراً مؤثراً في المجتمع ومسيرة الثورة ومستقبل الأمة، ابتداء من التنمية المادية والروحية وانتهاء بالوحدة والنهضة والازدهار .‏


                  الأسبوع الأدبي/ع589//6/ك1/1997‏
                  الأسبوع الأدبي/ع590//13/ك1/1997‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    التحالف العدواني يبدأ الاستفزاز
                    نفَّذ التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي، بمشاركة أردنية مشؤومة مكشوفة الأبعاد والأهداف، المناورة البحرية، التي أرجئ موعدها أكثر من مرة، وبين السابع والتاسع من شهر كانون الثاني / يناير 1998 كانت سواحل فلسطين المحتلة وتلك المقابلة لكل من لبنان وسورية مسرحاً لغواصات ومدمرات وزوارق حربية وحاملة طائرات هليكوبتر، تعود كلها للتحالف الذي يعزز أداءه الاستفزازي ويختبر هذا الأداء في شرق المتوسط لاسيما في مجال الاتصالات والتنسيق العملياتي، تحت ستار التدريب على عمليات الإنقاذ.‏
                    لم يعد هناك ما يستر أهداف هذا التحالف الذي وصفه وزير الحرب العدوانية الصهيوني اسحق مردخاي بأنه استراتيجي، ولم يعد سراً أنه موجه ضد سورية والعراق وإيران بالدرجة الأولى، ونواة قوة تقودها " إسرائيل " لتعزيز احتلالها وتنفيذ مشروعها الاستيطاني وفرض سلامها على الآخرين وحماية مصالحها ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.‏
                    لقد تحول ثقل الدور التركي في حلف الأطلسي، بعد انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفييتي، من حارس يقظ على الحدود التي كانت مع ذلك المعسكر إلى أداة فاعلة لتنفيذ السياسة الأميركية- الصهيونية ضد البلدان العربية والعالم الإسلامي، بعد أن وجهت الصواريخ الغربية إليه، ولمواجهة التحولات الجديدة فيه، وبعد إخفاق سياسة الاحتواء المزدوج، واستحالة وإرغام سورية على القبول بصيغة تسوية على غرار " أوسلو" تجردها من فعاليتها القومية وقدرتها على الصمود.وأصبح من الواضح أن التحالف الذي دخله الأردن علناً -وقد أشرنا مراراً إلى ضلوع النظام الأردني في هذا التحالف- لا يتوقف عند حدود التعاون التركي "الإسرائيلي" في مجالات محدودة وإنما هو لإعادة ترتيب المنطقة كلها سياسياً حسب الرؤية الصهيونية؛ وهي رؤية تنفذ الأيديولوجية التي رفعت رأسها في بداية هذا العقد من الزمن. ويلخصها قولان أطلقهما ساسة ومفكرون سياسيون غربيون وصهاينة هما:‏
                    -" وداعاً للقومية العربية، وداعاً لحلم الوحدة العربية ."‏
                    -" كما شهد القرن الحالي انهيار الشيوعية والماركسية سوف يشهد القرن القادم انهيار العروبة والإسلام."‏
                    والمدخل إلى تنفيذ هذا هو توظيف أبناء المنطقة ودولها توظيفاً مدمراً لطاقاتها مغيباً لإدراكها، وزج الكل في مواجهات تأتي على قدرة الكل، في ظل حرب استنزاف لطاقات الأمة العربية مستمرة منذ مطلع القرن رأسها الصهيونية والاحتلال اليهودي لفلسطين، وحربين أخريين استنزفتا معظم الطاقات العربية والإسلامية وحققتا شرخاً في الوجدان الجمعي هما حربا الخليج الأولى والثانية.‏
                    الحلف العدواني الجديد يعلن لحظة بداية الفعل بصوت يهمس " بالإنسانية" ويتفجر فعلاً عسكرياً واستخباراتياً مراً، وعلينا ألا نحصر اهتمامنا فيما يجري قبالة سواحلنا في شرق المتوسط، بل علينا أن ننظر إلى ما يجري بعيداً ووراء الحدود وفي الدوائر السياسية والدبلوماسية.‏
                    في العراق أقيم حزام أمني تركي، وينفذ عملياً نوع من التقسيم لأرض العراق على أرض الواقع، وعلى الحدود السورية - التركية تقوم منذ أسابيع عمليات رسم حدود منطقة أمنية أخرى تخطط للسيطرة على عمق عشرة كيلو مترات من الأراضي السورية على امتداد الحدود، وتعمل عناصر تركية- إسرائيلية على رسم المخططات استعداداً للتنفيذ؛ وهناك منطقة مماثلة تتم دراستها على الحدود التركية- الإيرانية.‏
                    ما هو الهدف؟! هل هو الحفاظ على الأمن كما يدعي المدعون، أم هي عمليات استفزاز لجعل كل من البلدان المستهدفة توزع قواها وتبدأ عملية التفكير والتدبير من بؤرة الخطر والاستفزاز، تلك التي تقود إلى تعميق الشك من جهة والانصراف عن مخاطر وجبهات أخرى!!‏
                    إن التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي ذهب إلى مدى بعيد في الإعداد والاستعداد، فالقوة الجوية الإسرائيلية تتدرب في الأجواء التركية وتدرس المنطقة التي هي منطقتنا في النهاية دراسة دقيقة، وعناصر الاستخبارات الصهيونية والأمريكية منتشرة على حدود البلدان الثلاثة: سورية والعراق وإيران، وتعمل من هناك وتقيم شبكاتها وتجمع المعلومات وترسم الخطط و" السيناريوهات" الملائمة لتنفيذ أهدافها.‏
                    والتنسيق العسكري بين الأطراف المعنية لم يتوقف لحظة، وليس له حدود كما يدعون، فقد وصل الأمر حدود وضع الأسلحة النووية تحت إدارة مشتركة في لحظات الضرورة على صعيد تحديث القوات والأسلحة بين الجانبين التركي- و"الإسرائيلي"؛ القضية مغرية فهناك مئة مليار دولار يتوقع صرفها خلال السنوات العشر القادمة على تحديث الجيش التركي، وتطمع إسرائيل بمعظم هذا المبلغ، وهي تنافس بقوة مزعجة حتى لبعض حلفائها السابقين، ومن المعروف أنها أصبحت الدولة الخامسة من حيث تصدير السلاح في السنوات الأخيرة.‏
                    وعلى صعيد المشاريع الأخرى تحاول تركيا أن تكسب الأطراف كلها: العرب وأوربا وأميركا و"إسرائيل"؛ صحيح أنها لن تنجح؛ ولكن اللعب مستمر على هذا الحبل الرفيع.‏
                    والجناح الآخر من التحالف يمتد بين "إسرائيل" - والأردن برعاية أميركية، وعلى من يريد أن ينعش ذاكرته أن يعود إلى المناورات التي أجريت بين قوات أردنية وأميركية وحضرها "إسرائيليون" أو شاركوا فيها سراً، وإلى حضور ضباط إسرائيليين لمناورات وتدريبات جوية أردنية في الأردن، وإلى تدريب عسكريين في "إسرائيل"، وقد تلقت عائشة بنت الملك حسين دورة عسكرية في "إسرائيل" الأمر الذي لرمزيته مدلول.‏
                    أما مدى الحلم التحالفي الممتد في هذا الجناح من أجنحة الحلف فهو يرمى إلى السيطرة على العراق أو استعادة الحلم الهاشمي فيه، وإلى المسؤولية عن الأماكن المقدسة في القدس حسب نص ووعد شفيفين في "وادي عربة " بذلك.‏
                    إن التحالف، الذي يضع سلطة عرفات في جيبه أيضاً يزعزع أمن المنطقة وكل ما يمكن الحديث عنه من بناء جسور ثقة واتفاقيات "سلام" ومفاوضات من أجل "السلام"، لأنه يسير بخط مضاد تماماً لكل تلك التوجهات ويؤسس لمحاور قوة وتحالفات عدوانية من شأنها أن تجر الدول الأخرى إلى محاور مماثلة لتحمي نفسها من العدوان، وهذا ما يضع المنطقة في بؤرة التوتر وقد يقودها إلى أتون الحرب ؛ ولن تكون حرباً محدودة.‏
                    لقد أعلن الإسرائيليون مراراً وتكراراً أنهم قادرون على " إبادة سورية" ومسحها من الخريطة، وهددوا هم والأميركيون العراق وإيران، وأعلن الطرفان أن إيران تهدد أمن العالم كما أن ليبيا أو السودان تفعل هذا الشيء، ولديهم ملفات اتهام جاهزة لدول المنطقة يفتحونها عندما يريدون ليقوموا بما يريدون، إن استطاعوا ؛ فهل كل هذا الذي نشهده ونتابعه ونتحسسه سيفضي إلى استقرار أو "سلام" أو أمن من أي نوع، أم أنه الجشع والعدوان والحقد الصهيوني- الأميركي الأسود يندلق علينا ويخيم في سمائنا ويتوعدنا في كل حين؟!‏
                    لم يعد الخطر خافياً، ولم تعد أهداف التحالف "إنسانية " أو بعيدة عن تهديد" أحد" إن الأهداف شريرة عدوانية تماماً، والتهديد يتوجه نحو بلدان محددة لتحقيق أهداف محددة تمس الاستقلال والحق والسيادة والوجود. فهل نتطلع إلى فعل عربي أو إسلامي أو دولي يضع حداً للتهديد وللأحلاف العدوانية في المنطقة، وكيف السبيل إلى ذلك ؟!‏
                    في الوطن العربي يوزع التحالف وعوداً وتطمينات تغري البعض بالتصديق، ولكنها لن تنطلي على أبناء الأمة إلى أمد بعيد وها هم يرون اليوم إلى أين تمضي الأمور وكيف تمضي.‏
                    إن موقفاً عربياً وإسلامياً من تركيا قد يجعلها تفكر جيداً بمصالحها وبنتائج ما تقوم به من ألعاب خطرة، وتنوير الشارع التركي بالرغبة العربية الحقيقية بإقامة علاقات أخوة وشراكة مصيرية تستند إلى التاريخ المشترك والعقيدة الواحدة والثقافة المؤسسة لحسن الجوار والمصالح المتبادلة قد يقود إلى حال شعبية تؤثر في القرار السياسي تأثيراً يخدم تركيا كما يخدم محيطها العربي والإسلامي ولا يجعلها قوة العدو الموجَّهة إلى قلب الأمة، فقد كانت في يوم من الأيام قلب العالم الإسلامي وقوته.‏
                    أما الأردن الذي يختار المشاركة تحت ذرائع غريبة فعليه أن يعود إلى مقولاته الفكرية والسياسية ومنطلقاته الاستراتيجية التي يذكرنا بها ويذكرها لنا.‏
                    فهل هو جزء من كل عربي، أم أن "سيادته التي لها كما لغيرها الحق في حماية مصالحها الحيوية وفق ما تراه مناسباً"- على حد تعبيراً أحد مسؤوليه- تجعله فوق مصلحة الكل وكل جزء فيه؟! وهل تساوت لديه سورية مثلاً مع إسرائيل لأنه يرتبط مع الأخيرة بمعاهدة "سلام" فأصبح " ابن العم" أقرب من الأخ وصار التحالف معه فوق لحمة الإسلام والعروبة وتاريخها المشترك؟!‏
                    وهل دخوله، ولو بصفة مشارك في هذه المناورات، يخدم "السلام الذي يحرص عليه" والاستقرار الذي يريده للمنطقة ويدعم "الاتفاقيات التي وقعها " أم أن ذلك يوطد لحالة من فرض الهيمنة الصهيونية بقوة الأحلاف على الآخرين ليذعنوا ويستسلموا، ويأخذ هو جزءاً من القرص- الغنيمة إن فرض على أمته أو بعض أقطارها الاستسلام؟!‏
                    نحن نعرف أن اتفاقية وادي عربة تمنع الأردن من التحالف مع أي بلد "ولو كان عربياً" ضد إسرائيل المتعاهد معها، ولكن ألا تؤهله " سيادته الوطنية" أن يرفض التحالف مع" إسرائيل" ضد المصلحة العربية والإسلامية، أو ضد مصلحة بعض البلدان العربية والإسلامية !‍!‏
                    لقد أفاد تصرح ناطق أردني بأن الأردن يعزز قواته من خلال المشاركة- وهي حقيقة التحالف- وهذا يكشف الضلوع في الأمر- المؤامرة، وقد قال بالحرف!" ومشاركته أي الأردن - في تلك المناورات بصفة مراقب لا تستهدف أي طرف عربي، بل هدفها تطوير القدرات العسكرية الأردنية في ما يخدم الاستقرار الإقليمي".‏
                    وهذا يؤكد أن الأردن يشارك ليعزز قدراته العسكرية- وهذه هي الطبيعة الحقَّة لهذه المناورات - وهو بذلك "يخدم الاستقرار في المنطقة." وخدمة الاستقرار من وجهة النظر تلك هي في إزالة كل القوى الأخرى أو إذابتها أو السيطرة عليها وفرض الهيمنة واتفاقيات الإذعان على ساستها ومحاصرتها ليبقى لون واحد وقرار واحد ولسان واحد في المنطقة هو اللسان الصهيوني بالقبعة الأميركية، ولن يكون لبقية المنضوين تحته إلا شرف "الخدمة" في الميثاق الاستعماري الاستيطاني- الصهيوني.‏
                    ولن تكون هذه -إن تحققت - نهاية الأمة ولا نهاية التاريخ، فالأمة لن تركع، والتاريخ تجدّدُ كتابته الإرادة والشهادة، ولا أظن أن انهزاماً أو استسلاماً سوف يفرضان أبدياً على شعوب حتى لو قهرت أنظمة أو التحقت أنظمة وتبعت العدو أو خدمت أهدافه أنظمة أخرى.‏
                    إن التحالف التركي - الإسرائيلي- الأميركي- والمشاركين فيه شر على الأمة، وخطر على أمن المنطقة، وفعل استفزازي، وخطوة هيمنة، وتفتيت وإعادة ترتيب استعماري صهيوني لدولها، وعلينا أن نواجهه بكل الوعي والصلابة وأن نستنقذ شعبنا وإرادتنا من كل حبائله، والله المعين.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع594//10/1/1998‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      حياة موت وموت حياة
                      للرماد طعم الموت وللموت طعم الرماد، إنهما يتداخلان ويتواكبان ويفضي كل منهما إلى الآخر، وحين يضمهما زمان ومكان يبدأ عهد جليد السكون والظلام بالانتشار ؛ فمن قال إن الحياة من بعد لها طعم أي من الرماد أو الموت وإنها السكون، تحت تأثير ظرف كائن أو يكون !؟‏
                      الحياة مغايرة في كل شيء للموت والرماد والسكون، مغايرة لواحديَّة اللون وبرودة الموت واستمرارية السكون، الذي يتحول عندما يكون في دائرتها إلى جزء من آليَّتها ؛ الحياة تدفق الألوان والحرارة والحركة والتغيير، ودفق الأمل وبعث الرماد وتجدد الثماد، إنها ميدان نور ترمح فيه الروح كأنها عاصفة مبرمجة.‏
                      من قال أنا أعيش قال حكماً : أنا أقاوم الموت والرمادية في كل لحظة، وأُبعث من رمادي في كل صباح، وأتجدد مع كل دورة دم وحركة تنفس وتفتح برعم وانسكاب قطرة ندى على ورقة خضراء ؛ من قال : أنا أعيش أعلن انتماءه للحياة ولكل ما يكوّنها ويحميها ويقويها ويجددها ويجعلها أكثر لياقة بالإنسان، وتخندق في جبهة تقاوم الرمادية المميتة وأنواع الموت في ثوب الحياة وديمومتها .‏
                      تقسو علينا ظروف الحياة وتضاعف القسوة نهايتُها المحتومة، ويقسو الأحياء بعضهم على بعض قسوة تبلغ حدود القهر والقتل، ولكن في دوَّامة الحركة ـ الحياة يستمر تصارع الحب والبغض، اليأس والأمل، وتستمر الحياة.‏
                      الرمادي تكتسحه الألوان، يتلاشى ولا يكون ظهوره في الأفق إلا حين تُفني الألوان بعضها بعضاً ويصير دمها رماداً يمتد مشكّلاً مشهداً في الحياة، الرمادي لون ناتج عن فناء اللون فهو إحدى نتائج صراع في الحياة وصراع من أجل الحياة ؛ إنه موجود فيها ولكنه ليس لونها الأساس الأصيل أو الدليل الأمثل عليها، بل هو مؤشر من مؤشرات ضمورها وذبولها، وإشارة تُعطى للأحياء أو يعطيها الأحياء تقول : انتبهوا الموت قادم لقد تعطلت الحياة أو تعطل شيء فيها. إن الموت في ظل هذه الظروف أقوى منه في ظل ظروف أخرى .‏
                      في لحظات مقاومة الجسم الحي أو الكائن الحي أو الأمة الحية يغدو الحياد نوعاً من رمادية موقف، ويغدو إخراجاً لطاقة حية من دائرة الفعل، وتعطيلاً مقصوداً أو تحييداً منشوداً لإرادة وقوة فاعلتين تمكِّنان من أداء حي منقذ أو تساعدان عليه ؛ والحياد في حالات يقود أهله إلى المساحة الرمادية مساحة الموت، يوسع بهم دائرتها ويساعد أداء الموت، ويتضافر جهده مع جهد من يحمل للإرادة الخيرة المقاومة الموتَ أو يريده لها ؛ الحياد في حالات نوع من تواطؤ على مقومات الحياة الحقَّة وقيمها وهو نوع من موت في حالات أخرى، وسواء أنتج عن جهل أو خوف أو طمع أو عن سلبية مفرطة حيال الذات والوطن والآخر، فهو نوع من قتال في صفوف من يستهدفون قوة الحياة أو قوة الإرادة الخيرة والرؤية السليمة في جسم حي أو كائن حي أو أمة حية !! إنه فعل رمادي يشير إلى الموت أو يبشر به أو يسانده أو ينتج عنه.‏
                      الحياد ليس موقفاً محموداً إلا إذا كان عوناً للحياة والعدل وإبقاء عليهما في سلامة توجه وحيوية أداء، والحياد الذي يشكل نوعاً من الفرجة على صراع بين الخير والشر، الحق والباطل، العدل والظلم، الحرية والعبودية، الكرامة والذل، هو نوع من قتل في الظلام ونصر للظلم والظلام ؛ إنه في نهاية المطاف موقف حشوه الجبن أو الضعف أو الخداع أو الطمع يؤدي إلى سلب ظاهر لجوهر الحياة وحرارة نارها وحصيلة نورها ومقومات استمرارها، وهو مما لا يليق بالإنسان ولا يخدمه على أية حال.‏
                      نحن العرب في ظروف وأوضاع وحالات صراع مع قوى وعوامل داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، تستهدف فيما تستهدف أهم ما يميزنا ويشكل جوهر شخصيتنا وخلاصة مصالحنا ومعاني وجودنا الحر الكريم ؛ وتستدعي من كل منا حيوية أداء وتعبيراً عن حضور وانتماء وموقف بمنتهى الوضوح والصلابة والشجاعة، كما تتطلب إعمالاً للعقل والوجدان وقيم الإيمان بكل وعي وعلمية وجدية ودقة، حيث يكون لكل منا حصاد القول والعمل في بيدر اليوم وليس حسرات مورِقات يوم تحترق البيادر ويصبح الأسى والأسف نوعاً من الموت !!؟‏
                      إننا نلمس في وطن العرب اليوم وفي حياتهم منطق الأعداء وحججهم وذرائعهم وما يوجهونه لثقافتنا وعقيدتنا وأمتنا وأجيالنا من سموم وسهام وأدوات تخريب، ونجد من لحمنا ودمنا، وكلاء معتمدين، مأجورين ومجانيين، يمهدون لخطط الأعداء ويروجونها ويسوّغون ممارساتهم أو يساعدون على تسويغ تلك الممارسات بكل ما أوتوا من طاقة وحماسة ؛ وقد بلغ بعضهم حدود الاقتناع بكل ادعاء العدو ومقولاته فسار في ركابه يطعن بسيفه ورمحه، ينشر ما يريد ويعتّم على من وما يرد قوله وقول الأعداء ويفند مزاعمهم ويتصدى لخططهم ؛ وقد أصبح أولئك النفر فيلقاً ذا تأثير في مواقع شديدة التأثير على الرأي والناس ومواقع القرار في ساحات عربية ؛ وتزداد خطورة ذلك الفيلق لأنه يعمل من داخل البيت العربي وفي مواقع حساسة من جهة وتحت ستار الإخلاص ومنطق العصر من جهة أخرى، ويرسل منطقاً هيناً مستهيناً بكثير من الحقائق والوقائع والثوابت والقيم، يرسله بين فئات من الناس تعبت أو أُحبطت أو سئمت جراء معطيات وممارسات وتفشي سلبيات تفاقم ضررها وطال أمدها واشتد بؤس نتائجها، فيكون لذلك أثره. ويبقى هذا النوع من الناس ممن لهم لون يتستر بلون ويقود إلى موت كل لون على المدى البعيد ؛ أما أخطر ما يقومون به فهو القدرة على تحييد الكثرة الكاثرة وسحب البساط الرمادي عليها ؛ ومن هنا تأتي خطورة أمرين ينبعان من فئتين أو تجسدهما فئتان وهما :‏
                      ـ نشر الرمادية المميتة أو انتشارها في شكل " فرجة " على ما يجري : خوفاً أو طمعاً أو جهلاً وضعف انتماء وعقيدة وأداء.‏
                      ـ واستثمار تلك الرمادية : الموت لإظهار الكثرة الجماهيرية بصورة الموافق على ما يقوله الأعداء ويروجه أعوانهم ؛ مما يظهر الموقف الآخر والرأي الآخر وكأنه الشاذ والنادر والغير المعبر عن حقائق الأوضاع والتوجهات والأمور. وهذا بحد ذاته يضاعف الرمادية : الموت، ويقوي العدوان: المقت، بصور وأشكال مختلفة.‏
                      وهذا ما يجعلنا نصدع بالتكبير في ذروة الهاجرة وظلمة الدياجير ليستيقظ منا العقل والقلب والضمير، ونقرع ناقوساً ونحمل فانوساً وندور في الطرقات والساحات نبحث عن الموقف الحق والإنسان الإنسان في ثنايا بؤس المكان والزمان، نبحث عن اللون والحياة وقوة التعلق بها والدفاع عنها، نبحث عن الكلمة الطيبة تُستنبت في الأرض الطيبة فتحيي موات النفوس وتستشرف مستقبلها على ضوء العمل في رحاب العلم والأمل ؛ فهل ترانا نصل إلى شيء مما نريد وقد ضعف الطالب وعز المطلوب وازدادت مساحة الرمادي من حولنا!؟‏
                      إن إيماننا بالله وبحقنا وبعدالة قضيتنا وبقدرة أمتنا على تحقيق النصر، عاجلاً أم آجلاً، كل ذلك يجعلنا نندفع بثقة في طريق الحياة، طريق نستشعر فيها طعم الكرامة حتى الموت وطعم الإيمان حين نموت، إذ لا مهرب من موت ؛ ولكن أن تموت عزيزاً فتلك حياة على الرغم من الموت وأن تعيش ذليلاً فذلك موت على الرغم من حياة ؛ وكم من بون شاسع بين حياة موت وموت حياة .‏

                      دمشق في 21 / 1 0/ 1998‏
                      الأسبوع الأدبي/ع596//24/1/1998‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        العرب وحمى العدوان
                        لماذا الإصرار الأميركي- البريطاني- الصهيوني على توجيه ضربة عسكرية مؤلمة إلى العراق في ظل تصاعد معاناة الشعب العراقي من الحصار ونتائجه المدمرة؟! ولم الاستمرار الغربي في حشد الأساطيل والقوة والرأي العام والجهد السياسي والدبلوماسي وراء ذلك التوجه العدواني، حتى في اللحظات التي شهدت انفراجاً نسبياً في الأزمة بين لجنة التفتيش "الأونيسكو" والحكومة العراقية؟!‏
                        هل لأن العراق يملك حقاً بضعة صواريخ "تهدد إسرائيل" وتريد القوى العظمى التخلص من أسلحة الدمار الشامل تلك التي يملكها؟! أم لأنه "لا يلتزم التزاماً تاماً" بقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة بتلك القضية؟! أم أن هناك أسباباً أخرى وخلفيات أبعد وترتيبات أعمق وراء ذلك كله؟!‏
                        من المؤكد أن لجان التفتيش دمرت أسلحة ومعدات ومعامل وقدرات عراقية في مجال التسلح أكثر مما دمرته حرب الخليج الثانية، وهذا ما أعلنه المسؤولون في لجنة التفتيش ذاتها، وإذا كان العراق لا يملك في بدء تلك الحرب أسلحة نووية وقدرات تدميرية شاملة، وكان الخشية من؛ يملكها أن إحدى ذرائع التدمير الذي لحق به، فكيف يمكنه أن يمتلك في ظل الحصار شيئاً من ذلك، أو يخشى من أن يطور في ظروف التدمير الأشد والأشمل التي لحقت به بعد الحرب ذلك النوع من القدرات التي "تهدد تل أبيب أو سكانها بالإبادة" كما صرح ريتشارد بتلر رئيس لجنة التفتيش قبل أيام، ثم عاد عن تصريحه بعد أن قدم ذريعة لتنامي السّعار الأميركي- الصهيوني ضد الشعب العراقي في هذه الحملة المحمومة؟!‏
                        القضية، في تقديري، ليست قضية بضعة صواريخ تريد اللجنة تدميرها، ولا قضية مواقع تريد دخولها، ولا قضية شخص تريد التخلص منه؛ القضية تتصل بإذلال شعب وتخويف أمة، وملاحقة عقلها ووجدانها وذاكرتها، والوصول إلى حدود التدمير التام لكل حلم أو أمل أو تفكير بامتلاك علم وتقانة وقوة في المستقبل تستطيع أن تحمي قراراً أو تحرره، أو أن تملك قوة وتستخدمها في وجه قوى ترمي إلى فرض هيمنتها على المنطقة وإعادة ترتيبها جيو- سياسياً، وضمان مصالحها المادية والحيوية فيها مستقبلاً من غير قلق أو خوف أو تهديد، والعراق الآن هو الدرس والأنموذج والأمثولة.‏
                        وإذا أردنا أن نقرأ ذلك التوجه بشكل أوضح علينا أن نجيل النظر في أنواع الحصار والتهديد والضغط التي تمارس ضد دول عربية وإسلامية أخرى مثل: سورية وإيران والسودان وليبيا وحتى مصر وباكستان يوم فكرت كل منهما بامتلاك سلاح وليس بتصنيع سلاح.‏
                        و"الدرس الأميركي- الصهيوني" اليوم يلقَّن للأمة من خلال العراق، ويبالغ في تركيزه وتوضيحه ليراه الجميع ويتعظ به من يتعظ.‏
                        صحيح أن الجهات الحاكمة في العراق تتحمل مسؤولية كبيرة فيما جرى، لا سيما غزوها للكويت؛ ولكن السنوات السبع العجاف القاسيات اللائي مررن على شعب العراق ولم يؤثرن في قياداته مثلما أثرن في أطفاله، واللائي ألحقن دماراً شاملاً في الأنفس وتكوين الأجيال ستظهر نتائجه على مدى العقود القادمة، أكثر مما ألحقنه بالصناعات والقوة العسكرية والحيوية السياسية للعراق؛ لكن تلك السنوات جعلت الشعب العراقي هو الذي يدفع الفواتير الأضخم، والأمة العربية تدفع نزفاً غزيراً من رصيد ثقتها بنفسها وقدرتها على رفع الحيف عن جزء منها، وتخسر إرادتها وأحلامها ورصيدها في المجال القومي والأخلاقي، وتتهافت مسؤولياتها الإنسانية؛ وإذا كان الدرس المُرّ ما يزال مستمراً فلأن الذين يلقونه علينا يريدون أن ندخل في دوَّامته ولا نخرج منها، ويريدون أن يكون أطول الدروس وأكثرها مرارة وأشدها تأثيراً؛ وأن يذهبوا في استثماره إلى المدى الذي يرضيهم ويطمئنهم، فلا تعود بعده لدى البلدان العربية أو أبناء الأمة رغبة في التفكير بمشاريع كبيرة منقذة ومكلفة.‏
                        القيادة في العراق تتحمل مسؤولية فيما جرى للشعب نعم، ولكن شعب العراق هو الذي يدفع التكاليف كلها من كل الأنواع ولا يمكن أن يستمر في دفع تكاليف الرغبة الأميركية في القضاء على المستقبل والتفكير مستقبلاً بامتلاك علم وقوة من أي نوع.‏
                        إن المخيف في المشروع الأميركي- الصهيوني ليس هو الضربة المؤلمة ضد العراق، ولكن ما يدبر في ظل استمرار ذلك الوضع ضد دول المنطقة، ومنها العراق، من مخططات ترمي إلى إعادة رسم الجغرافية السياسية لها في ضوء مصلحة تحالف تقوده الولايات المتحدة الأميركية ويقف على رأس منفذيه والمستفيدين منه "إسرائيل".‏
                        إنه تحالف يتنامى ويتعاظم خطره ويشتد تأثيره ويريد أن يمنع أي من البلدان التي يستهدفها من التحرك لمواجهته أو لوضع حد لخطره عليها.‏
                        وإذا كان تقسيم العراق إلى دويلات وتهديد سورية بالتقسيم، وإقامة كانتونات طائفية متناحرة على الحدود الحالية للدولة الصهيونية، وضرب إيران أو تحييدها واستقطابها إن أمكن من الأهداف القريبة لذلك التحالف، فإن سقوط المنطقة كلها في القبضة الأميركية- الصهيونية وتدمير الهوية الثقافية لها وإعادة تكوين ثقافتها وعقيدتها وجغرافيتها الاجتماعية والسياسية بالشكل الذي يريده الغرب المتصهين والصهيونية العالمية هو الهدف الأبعد الذي تضمن تلك الجهات بتحققه تجسيد حلم الصهيونية بـ"إسرائيل التوراتية أو "إسرائيل ربّاني، أو ربَّاتي "، وإنهاء حضور العروبة والإسلام في ساحة الفعل بحيوية وتأثير على المدى المنظور.‏
                        وهذا يستنبت سؤالاً على جذع المسألة الأساس: هل نملك قوة الفعل الرادع أو المنقذ ولا نستخدمها بشكل جيد؟! أم أننا لا نملك تلك القوة ولا نفكر باستخدامها؟! أم أننا خارج الموضوع تماماً، أي خارج حدود التفكير به والتوجه نحو مصادمته؟!‏
                        يكاد يكون في حكم المؤكد أن الدول العربية والإسلامية لا تملك قوة تواجه بها قوة العدوان الأميركي- الصهيوني إذا ما قامت تلك القوة بضرب العراق، كما أنها لا تملك الإرادة والقرار بالتصدي للمصالح الأميركية والصهيونية لمنع وقوع ذلك.‏
                        ومن تحصيل الحاصل أن العراق وحده لا يملك قوة يمنع بها إلحاق ضربة به أو الرد على تلك الضربة.‏
                        يبقى أن نسأل ما الذي يحدث إذا ما وقعت تلك الضربة: هل سينحصر أثرها في العراق أم أن نتائجها سوف تمتد لتشمل مناطق أخرى وأوضاعاً إقليمية وأولية أشمل؟!‏
                        إن ضرب العراق بقرار أميركي- بريطاني خارج حدود غطاء مجلس الأمن الدولي سوف يخلق أوضاعاً دولية جديدة، قد لا تصل إلى درجة المواجهة بين القوى الكبيرة ولكنها على الأقل تنهي تفاهمها واستكانة الأضعف منها للأقوى؛ وهذا يمهد لتغيير ذي تأثير وقيمة في ما استقر عليه عالم اليوم بعد سنوات سبع من انتهاء الحرب الباردة وسيطرة قطب وحيد الطرف على السياسية الدولية، قد لا يؤدي ذلك إلى نشوء أقطاب أخرى، ولكنه على الأقل سيعلن عن بداية النهاية لسيادة قطب وحيد على السياسية الدولية.‏
                        وسيفتح ذلك الباب أمام صراع أكثر حدة وشدة حول المصالح والنفوذ مما يسمح باستقطاب دولي وبحث عن مصالح وحمايات؛ وإذا ما برز الحلف التركي- الإسرائيلي- الأميركي بشكل أقوى إثر ذلك- وسوف يبرز بكل تأكيد- فإنه سيقود إلى التفكير بمحاور وتحالفات جديدة في المنطقة، وسوف يزج الدول الكبيرة في مواقف ليست محايدة تماماً مما يجري على أرض السياسية الدولية.‏
                        أما على صعيد المنطقة العربية، والمنظومة الإسلامية فالوقع سيكون أشد والتأثير أعظم؛ وقد يؤدي ذلك إلى حضور شعبي ذي موقف ورؤية ورأي يؤثر على القرار الرسمي أو يهزه هزاً عنيفاً، بصرف النظر عما سيسفر عنه ذلك من نتائج على الأرض؛ إذ ستكون الأرض مهيأة أكثر للتمرد القائم على الشعور المر الناتج عن امتزاج الخوف والذل والثأر والكرامة والإحباط وحتى القنوط بالحصار المتعدد الشُّعب الذي يجعل المحاصرين يخرمشون الجدران بأظفارهم بحثاً عن ذواتهم وعن مخارج لذواتهم مما هم فيه.‏
                        ومن المتوقع أن تخرج من تحت الستائر والسجف مخططات ورغبات وممالك يخفيها الخوف والحذر اليوم لتعلن عن تطلعاتها ولتمارس في ظل رايات قديمة- جديدة ترفعها، فصلاً من فصول خدمة الاستعمار والصهيونية على أرضية من الاقتناع المتعالي بدور تاريخي يفرضه "الوعي والمسؤولية".‏
                        إننا في اللحظة الحرجة، اللحظة التي تشتعل فيها النار في الغابة ولكن لا يدري أحد إلى أي مدى ستمتد تلك النار وما الذي ستأتي عليه من الغابة وما الذي ستبقيه منها.‏
                        يقول المثل العربي القديم: "آخر الطب الكي" ولا ندري هل ستؤثر مياسم النار التي يكوى بها جسد الأمة ا لعربية في شفائها أو استنفار قدرتها على رفع تلك المياسم عن جسدها؟!‏
                        إنه سؤال مطروح على القاصي والداني من أبناء أمة العرب.‏
                        أما شعبنا العربي في العراق، الذي عانى ويعاني، من أشكال الإبادة الجسدية والروحية جراء أشكال الظلم والحصار، فإننا معه ننصره مظلوماً، مثلما نصرناه ظالماً بالوقوف ضد ظلمه يوم اقتيد إلى حرب المقت الأولى والثانية التي ما زالت الأمة تمضغ مرارة زؤانهما بينما يتمتع بقمحها الذهبي الأميركيون والصهاينة.‏
                        إننا مع شعبنا في العراق ضد الطغيان والعدوان الأميركيين، مع رفع الحصار عنه، واستعادة سيادته على أرضه وخيراته وعودته إلى أحضان الأمة والعالم بكل الكرامة والعزة؛ معه ضد مشروع الإبادة الأميركي- الصهيوني المستمر، وضد كل أشكال الحصار والعدوان والظلم والقهر التي يتعرض لها،التي حرمته من حقوق أساسية ومقومات حياة وتعلم وتقدم جوهرية في هذا الزمن، وندين بشدة استمرار الحصار والتهديد بالعدوان، وملاحقة الفكر العلمي والوعي المعرفي حتى في الأجنة والجينات البشرية لأبناء شعبنا من قبل الصهاينة والغرب المتصهين وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، التي تتمتع بأخلاق بائسة، وتدّعي أنها تدافع عن الحقوق والقيم الأخلاقية والإنسانية‏
                        ونهيب بالمثقفين وأهل الرأي والمسؤولية والقرار في الوطن العربي لاتخاذ مواقف حازمة وحاسمة تضع حداً لهذه المعاناة، وتقيم في وجه أشكال الظلم والعدوان والغزو قوة تستطيع أن تحمي الإنسان والحق والعدل والضمير والقيم الإنسانية من تدمير قوى فقدت كل مسؤولية تاريخية وإنسانية وأخلاقية.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع597//7/2/1998‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          لقاء شيخ الأزهر بـ " لاو "
                          أدهشني موقف الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر وصدمني في آن معاً، أدهشني غياب البعد السياسي في موقفه ورؤيته وخطابه حيال موضوع من أعقد المواضيع المعاصرة وأكثرها مساساً بحياة العرب ومقدسات المسلمين ومستقبل الأجيال والأوطان هو موضوع الصراع العربي الصهيوني؛ وصدمتني كما صدمت كثيرين عباراته وما شابها من ألفاظ مثل : الاحتقار لفكر الآخرين والجبن والتأديب و" النيلة- التطبيع" أو التطبيع النيلة " ... إلخ.‏
                          لقد استقبل فضيلة الشيخ، الذي يمثل موقعاً مرموقاً عند المسلمين، استقبل الحاخام الأكبر للكيان الصهيوني رمز العدوان والاعتقاد التلمودي - العنصري، الذي يحتل فلسطين ويهوّد القدس ويذبح المصلين الركع السجود في الحرم الإبراهيمي ويحاول الإساءة للرسول (ص) والعذراء مريم، وينطلق في ذلك كله من عقيدة تلمودية - عنصرية معادية للإنسانية وللإسلام، ومن مشروع استيطاني - استعماري يستهدف وجود العرب وحضارتهم ودينهم.‏
                          ولم تكن المقابلة بين رجل دين يمثل شخصه هو / شيخ الأزهر / ورجل دين آخر لا يمثل احتلالاً ومشروعاً أو كياناً غاصباً أو عدواناً مستمراً، فقد كان شيخ الأزهر ومازال يمثل وجدان الكثيرين من العرب والمسلمين وهو في موقعه لا يمثل شخصه وإنما منصبه أيضاً، وكان الحاخام لاو ومازال يمثل الكيان الصهيوني بكل ما يعنيه احتلاله للأرض وإرهابه المستمر للسكان وجرائمه وعدوانيته واستعماره، وكان اللقاء رسمياً بالمعنى التام للكلمة بحضور " سفير الكيان الصهيوني " في القاهرة له، والذي تم في رحاب الأزهر الشريف وليس خارجه.‏
                          فتبسيط الشيخ سيد طنطاوي للأمور على هذا النحو، وإظهار اللقاء على أنه : رغبة رجل دين في لقاء رجل دين ليبحثا في قضايا دينية، ليس وارداً على الإطلاق، ولا ينسجم مع ما أشار إليه فضيلة الشيخ مما تم في اللقاء من بحث أمور تتعلق بالإرهاب وزيارة القدس - التي يراها الحاخام عاصمة أبدية لإسرائيل - ولا ينسحب عليه فضل لقاء أهل العقائد في جو من التسامي والتسامح بعيداً عن شؤون الدنيا وشجون السياسة ومشكلات العيش الصعب والتعايش المستحيل بين الضحية والجلاد، فقد وصف شيخ الأزهر ذاته اللقاء بينهما بأنه كان " مناقشة ديوك "‏
                          وما يثير الأسئلة المربكة هو فهم شيخ الأزهر للتطبيع مع العدو الصهيوني وأبعاد ذلك وآثاره وما يرتبه اللقاء من نتائج أو استنتاجات سياسية وثقافية واجتماعية؛ فإذا كان شيخ الأزهر يقابل الحاخام ويبيح مقابلة أتباعه فما الذي يضير رجل الشارع المصري أو يمنعه من أن يقابل اليهودي المحتل لفلسطين ويتعامل معه؛ ولنا أن نتساءل : إلى أين يقود ذلك النهج؟! أليس إلى علاقات طبيعية بين العرب والمحتلين الصهاينة بعيداً عن حسم القضية الأساس موضوع الصراع العربي الصهيوني، وبعيداً عن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في أرضه.؟!‏
                          وشيخ الأزهر الذي ينفي علاقته بالسياسة ويصر على أنه رجل دين فقط يخوض في موضوعات سياسية ذات طبيعة شائكة مثل الإرهاب والقدس وما يتصل بمستقبل الصراع، وأنا أسوق ذلك هنا لكي أؤكد التصاق رجل الدين بالسياسة، ولأقلل من أهمية الفصل بينهما في مثل هذه الأمور.‏
                          لقد قال شيخ الأزهر في لقائه كلمة عابرة جداً بعفوية تكشف مدى البعد عن حقيقة الصراع وعن مفهوم أبعاد اللقاء الذي أجراه مع الحاخام الصهيوني لاو ،قال إننا نلتقي " ثم يعود إلى بلده " وهنا العقدة الشائكة : هل فلسطين العربية هي بلد الحاخام الأشكينازي " لاو " وبلد من يمثلهم من اليهود المحتلين لفلسطين؟! إذا كان شيخ الأزهر يصدر فيما يفعل / اللقاء / وفيما يقول /بلده / عن اعتقاد راسخ بأن فلسطين المحتلة هي بلد يهود " لاو "، فإن كل ما يبنى على ذلك من وجهة نظره ليس مستغرباً ولا مستهجناً، ويصبح عدم اللقاء بين العرب واليهود وبين المسلمين واليهود نوعاً من قصور أو غباء أو جبن كما يسميه شيخ الأزهر؛ أما إذا كان " لاو " ويهوده يغتصبون وطننا فلسطين وقدسنا، مسرى نبيينا وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ويشهرون القوة النووية في وجوهنا، ويرغموننا على الاعتراف بهم وبحقهم التاريخي في تلك الأرض التي اغتصبوها بالقوة، ويريدون فرض إقامة علاقات طبيعية معنا على أرضية استقرار حقهم التاريخي في فلسطين على حساب تشردنا ونفينا منها، وانتزاع رضا وتسليماً بذلك، وإقامة صلات معنا بما يوحي بانتهاء الأمر إلى الاستسلام والتسليم؛ وبقاء كل في " بلده " إن شئنا، واللقاء من بعد في بلد الآخر للحوار أو للنفار " ومناقشة الديوك " كلما شاءوا، ليظهروا للعالم - بذلك - أن الأمور استقرت في هذه الأرض على سلام يشوبه بعض الخصام، وأن العرب قبلوا " بحق اليهود التاريخي في أرضهم الموعودة"، وأن عليهم أن يستوعبوا مواطنيهم الفلسطينيين- الذين "أخرجناهم" من "أرضنا التاريخية - أرض إسرائيل " في أرضيهم، وأن " سرقة " فلسطين قد تمت وانتهت، وأن اللقاءات بين مسؤوليهم ومسؤولينا، رجال دينهم ورجال ديننا أصبحت " عادية.. وعادية جداً " - وهذا هو التطبيع" Normalisation " ؛ أقول إذا كان الأمر يصبح كذلك ويفضي إلى ذلك، فإن كل لقاء ومساومة واعتراف وتسوية تصبح هي المرفوض كلياً بكل المعايير والمقاييس.‏
                          ولا يجوز لنا هنا، في مثل حالنا مع محتل أرضنا ومقدساتنا، أن نقيس على وضع مختلف تماماً كان في عهد النبي (ص) وبعض صحابته، ولا أن نطبق أقوالاً وأفعالاً على أساس قياس مختل.‏
                          إن العدو الصهيوني يسعى لفرض تعامل وتواصل معنا في كل مجالات الحياة ليفضي ذلك إلى وضع طبيعي بيننا وبينه، ومثل هذا الوضع الطبيعي الذي تسود فيه علاقات طبيعية وتعامل وتجارة وتواصل يلغي كل صور العداء المرتبط باغتصاب الأرض والحق والمقدسات، ويجعل العدو قادراً على الفتك بنا من الداخل، كما يجعلنا غير قادرين على تبرير استمرار صراعنا معه مادام قد دخل شؤون حياتنا وعلاقاتنا بشكل طبيعي معترف به !!‏
                          إنه يرمي إلى أن يصبح، باعتراف الجميع، جزءاً من النسيج التاريخي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي والأمني للمنطقة، قد تنشأ بينه وبين بعض أقطارها خلافات ولكن تلك الخلافات لا ترقى إلى مستوى الصراع على الوجود والسيادة والأرض، وبهذا يستقر في أرضنا ويستمر في تخريب الذاكرة والوجدان الشعبيين، وتخريب قيم الأجيال ونخر تعاليمنا ومقومات حياتنا لنسير من ضعف إلى ضعف ويسير هو من قوة إلى قوة.‏
                          إن التطبيع الذي يسعى إليه العدو هو إحدى نتائج الاعتراف به، واعترافنا به وبحق له في فلسطين يعني بكل البساطة سحب الاعتراف من شرعية سيادة الفلسطيني، ومن ثم العربي،على وطنه أو على جزء من وطنه، ونقض لكل البناء المنطقي الذي يبنى على ذلك.‏
                          إن شيخ الأزهر، الذي نجله ونحترم تمثله لسماحة الإسلام صدمنا وأدهشنا بأمرين:‏
                          1- استهانته بأصعب الأمور وأعقدها ومحاولته تقديم ذلك لنا على أنه بساطة البطولة وبطولة البساطة.‏
                          2- محاولته الإساءة إلى كل من لا يسير على نهجه ويرضى بمنطقه، ويختار نهجاً مغايراً، فمن لا يرضى بنهج الشيخ جبان ومحتقر الأفكار ويستحق التعنيف وأكثر.؟!‏
                          أما الترويج للعدو الصهيوني وتسويقه وتسويغ الاعتراف به، على حساب الأرض والحق والمقدسات والشخصية الثقافية للأمة، فهو الشجاعة والمنهج الصالح ؟!؟‏
                          إننا نشك بذلك، ونعلن صدمتنا ودهشتنا منه، وإذا لم يكن الشيخ الجليل متعباً أو واقعاً تحت ضغط ما في هذه القضية فإن الأمور تحتاج، إلى تدبير وتفكير وحكمة وتدبر‏
                          وأسأل الله تعالى لنا جميعاً السلامة‏
                          إنه على كل شيء قدير‏

                          جريدة المستقلة /ع196//9/2/1998‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            مسؤوليتنا جميعاً
                            قد تنجح الجهود السياسية والدبلوماسية في تلافي الضربة المحدقة بالعراق إذا ما عزز العراق مرونته التي أبداها حين وافق على فتح القصور الرئاسية لفرق تفتيش معدلة الصيغة ولمدة ستين يوماً تنهي خلالها مهمتها وتوقد شمعة في نهاية النفق المظلم تنير طريقاً إلى إنهاء الحصار الفظيع المضروب على الشعب العراقي منذ سبع سنوات ونيف؛ ولكن الحصار الذي بدأ جداره يتشقق على نحو ما، وبدأت الولايات المتحدة تدرك أنه لن يصمد ليدوم طويلاً، ذلك الحصار لن ينتهي قبل توجيه ضربة محتمة تخطط لها الصهيونية والإدارة الأميركية، وهي ضربة تهدف إلى القضاء على كل إمكانية مادية وروحية بامتلاك القوة على أرضية العلم، ومتابعة السعي لامتلاكها تحريراً للإرادة وحفاظاً على حرية القرار والسيادة، والحشود العسكرية المتصاعدة وكذلك الجهود السياسية الأميركية المستمرة لخلق مناخ وشروط وقوة ملائمة لتوجيه الضربة وتحقيق أهدافها كل ذلك يشير إلى تصميم أميركي- بريطاني- إسرائيلي ثابت ومعلن للقيام بذلك.‏
                            وإذا نجح العراق بتلافي الضربة في هذه المرحلة فلن ينجح بتلافيها قبل رفع الحصار، لأن قرارها قد اتُخذ، وأسبابها ما زالت قائمة أما الذرائع فلا يصعب إيجادها أو الإيحاء والاستفزاز لإيجادها على هذه الأرضية أريد أن أنظر إلى الموقف العربي في هوامشه وتغيراته الآنية المرتبطة بهذا الحدث أو الناشئة عنه.‏
                            إن مبعوثي العراق إلى الأقطار العربي الصحاف والمالكي وغيرهما، وتصريحات مسؤوليه ونتائج اللقاءات والزيارات وردود الفعل عليها تشير إلى معطيات جديدة نسبياً أهمها انفتاح قنوات اللقاء والحوار في الاتجاهين: بين العراق والعرب وبين العرب والعراق على المستوى الرسمي، وتحقق استجابة متبادلة لما يحمله الخطاب المتبادل عبر تلك القنوات، وهذا بحد ذاته يشكل معطى هاماً يؤسس لحالة عربية جديدة لا بد منها تسبق إعادة العلاقات والصلات والُلحمة القومية على أرضية من المنطق والثقة والاحترام والمسؤولية المتبادلة عما يهم الأمة وينعكس عليها سلباً وإيجاباً.‏
                            وإذا كان صوت العراق، أو الصوت من العراق يصل اليوم بصورة أفضل مما كان عليه الأمر قبل وفي أثناء وبعد حرب الخليج الثانية فإن الصوت العربي يصل إلى العراق اليوم ويلقي استجابة أفضل ويؤثر في القرار، وهذا أمر ينبغي ألا يستهان به بعد الذي جرى والذي كان؛ وعلى المعنيين بالوضع العربي مستقبلاً أن يستثمروا هذه المعطيات والظروف وينمّو ما فيها من إيجابيات لخلق المناخ الذي تبدأ فيه مراجعة شجاعة وصريحة ودقيقة لكل ما كان وصولاً إلى وضع عربي يعيد جسور الثقة وحركة المرور عليها في الاتجاهين بين أطراف الأزمة التي أسفرت عن كارثة لكل أطرافها وللأمة العربية وقضاياها. لقد أصدر وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي بياناً عبّر عن وحدة موقف حيال الأزمة الجديدة والتهديد الأميركي للعراق، وعلى رغم من كل ما تضمنه من تحميل العراق لمسؤولية ما ينتج عن عدم التعاون مع لجنة التفتيش وقرارات مجلس الأمن، فإنه خلا من الإشارة إلى تأييد للضربة الأميركية التي يُعدَّ لها، كما أشار إلى تعزيز المساعي الدبلوماسية والسياسية لحل هذه الأزمة وتأكيد أهمية نجاح هذا المسار والرغبة في إنجاحه؛ وحين يصدر هذا بإجماع عن اجتماع في الكويت فينبغي ألاَّ نستهين بما اشتمل عليه من تحول في الموقف ولو كان هذا التحول جزئياً أو نسبياً.‏
                            إن جهد المخلصين من العرب لا بد أن ينصبَّ على إزالة فتيل الأزمة وكل فتيل قد يؤدي إلى أزمة، لا سيما بين الأقطار العربية والآن، لتتفرغ للصراع الأساسي مع العدو الصهيوني وما ينشأ عنه، فالظروف الدقيقة والتهديدات المتتالية، والجهد الصهيوني المتصاعد لاستغلال الظروف الحالية الناشئة عن الأزمة أو عن افتعال أزمة مع العراق، وتركيز الأضواء عليها للقيام بتمرير بناء مستعمرتي: "جبل أبو غنيم" و"باب العمود" في القدس واستكمال تهويد المدينة المقدسة، وقضم ما تبقى من الضفة الغربية، وإقامة مستوطنات جديدة في الجولان، والسطو على أراضي أهلنا هناك وتملكها لتحقيق تلك الأغراض، كل ذلك الذي غاب أو غُيب أو يُراد له أن يغيّب في غبار هذه الأزمة ومن ثم في نارها ودخانها يجب ألا يغيب عنا وألا نسمح باستمراره في العتمة، فهو من الأهمية بمكان.‏
                            وكذلك تعزيز جهود التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي وما تحت خوافيه من عرب، لا ينبغي أن يغيب عن مساحة الاهتمام والرؤية في هذه الظروف.‏
                            وهذا كله إضافة إلى ظروف الحصار المُرّ على العراق وليبيا والسودان، والحصار الجزئي والضغط المفروضين على سورية، ولبنان، والتهديد المتتالي لإيران كل ذلك ينبغي أن نتنبه له ولما يحاك في الظلام لتعزيزه.‏
                            إن مهمة المثقف اليوم ومسؤوليته القومية والخلقية والإنسانية أكبر حجماً وأكثر عمقاً منها في أي وقت مضى، ولم يعد من المقبول على أي مستوى وصعيد أن يستمر ارتهان موقف الثقافة ودورها القومي والخلقي مرتهنين لتجار سوق الكلام وافتراءات من أصبحوا خارج التاريخ ويلعبون على الحبال ليستعيدوا حضوراً في التاريخ، فالافتراء والكذب وتأجير المواقف للصهيونية وأجهزة الاستخبارات الأجنبية وخلافات الأنظمة والحكام في وطن العرب المأزوم المهزوم لن تصنع تاريخاً ولن تؤثر في التاريخ، قد تشوه مرحلة وتؤخر المسيرة ولكنها سوف تسقط حين ينكشف عنها القناع وتتعرى افتراء وكذباً وتأجير مواقف وتجاره في سوق الكلام لا ينمون إلا الظلم والظلام رغم الادعاءات العريضة المريضة في آنٍ معاً.‏
                            إن المعاناة قائمة ولكن القادرين على إخراج الناس منها أكبر من تلك المعاناة وأقدر من تلك الظروف وأشد عزماً وأكثر تأهلاً لدور منقذ ممن ينعق في الظلام ويتلظى في زوايا حرفة الكلام ليقضم وعياً أو يشوش ذاكرة أو يجرح ضميراً حياً، ويفوز بما يفوز به اللص أو قاطع الطريق.‏
                            إن الأمة الآن بأمس الحاجة إلى المخلصين القادرين من أبنائها الذين يعنيهم أن يخرجوا بها من الأزمة والغمة والفرقة إلى ساحة التفاهم والألفة ووحدة الموقف وسلامة الرؤية وتعزيز الموقع والمكانة والكرامة.‏
                            ومن لا يخدم الأمة بتجرد في هذه الظروف لن يستطيع أن يخدمها في أية ظروف أخرى، قد ينجح في التهويش والتشويش وفتح منابع الدم والظلم والظلام لفترة ولكنه سيجني العار عندما تسقط الأقنعة وتشرق شمس الحقيقة وينكشف دور خفافيش الظلام.‏
                            إن ما ينتظر شعب العراق ينتظرنا جميعاً وسنحصد زؤانه كلنا من غير استثناء وإذا لم نفلح في مواجهة الغطرسة الأميركية- الصهيونية- الاستعمارية بقوه منطق وخلق وموقف ورؤية، فلن ننجح في إخراج أنفسنا من أية ورطة فعلية، كما أننا لن ننجح بإخراج عربة الأمة من وحول الطرقات ومزالقها إلى مسارات جيده وسليمة ونظيفة تقودها إلى شواطئ السلامة بسرعة وأمان. إننا مدعوون إلى الفعل، فهل ننجح في تحدي الضعف والضغينة في داخلنا، وفي تحدي أولئك الذين ينصبون شراكهم حتى في حبرنا ومجاري أقلامنا، ويدخلون سموم العدو إلى الوجدان ويزينون لنا السوء وتدمير القيم القومية والاجتماعية والخلقية والدينية تحت ذرائع شتى ويسوقون العدو وأقواله وبرامجه وخططه واستراتيجياته تحت اسم السلام ودعاة التطبيع، ويسوِّغون له منطقه ومنطق الانهزاميين الذين ينصرونه، أولئك الذين يتبرقعون بألف جلد حرباء وقناع ادعاء وافتراء؟! إن الأمر مطروح علينا بحدة مبضع جراح يهمه أن يستأصل الداء لتعود السلامة والصحة للجسم فيعيش ويتألق في حياة يصنع فيها الكل سعادة الجزء وأمنه، ويصنع فيها الجزء قوة الكلّ ومناخ تقدمه الصحيح؛ إن ذلك مسؤولية تاريخية، وهي مسؤوليتنا جميعاً.‏
                            والله من وراء القصد.‏
                            دمشق في 12/2/1998‏

                            الأسبوع الأدبي/ع598//14/2/1998‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              يا أطفال العرب
                              أخال أن كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، الموجود الآن في بغداد، سينجح في مهمته التي كلفه بها مجلس الأمن الدولي، بعد موافقة الدول الخمس الدائمة العضوية فيه على خطوطها الرئيسة الحمراء وغير الحمراء.‏
                              ونجاح عنان، إذا تحقق، يعني تجنيب العراق ضربة أميركية -صهيونية- بريطانية في الوقت الراهن، وانتزاع فتيل الأزمة الحالية التي قدم العراق جهداً لحلها؛ وهو نجاح يأتي محصلة أو تتويجاً لجهود دولية وعربية من جهة واستجابة لمواقف شعبية رائعة وعادلة شهدها الوطن العربي وبعض مناطق العالم.‏
                              ولا يعني هذا النجاح المرتقب أن رأس العراق لم يعد مطلوباً، ولا أن الفكر العلمي العربي، والإرادة المتطلعة إلى امتلاك ذاك العلم وتجسيده قوة منقذة محررة، باتا بعيدين عن الرصد والضربة القادمة.‏
                              كما أنه لا يعني على الإطلاق أن التهديد الذي يلف المنطقة كلها قد زال، وأن القوات السوداء والأيدي القذرة والأسلحة الفتاكة قد رحلت عن أجزاء من وطننا؛ ولكنه يعني فيما يعني أشياء ظاهرة منها:‏
                              1-أن العالم لم يعد في جيب الرئيس الأميركي، وأن مجلس الأمن أخذ يصحو من دوامة 1991 بعد سبع سنوات، ليجد راعي البقر قد علق أنشوطته في عنق دول بحر قزوين بعد أن ثبّت قامته فوق بحر النفط في الخليج العربي كله دون منازع؛ وأن الحلف الذي يقيمه في هذه المنطقة هو الذي ينبغي التفكير بأهدافه البعيدة وتأثيره عليها، وقدراته على التحكم بمصالح أطراف كثيرة يعنيها شأن الطاقة والتجارة والسياسة في هذا الجزء من العالم، كما يعنيها استقراره الجيو ـ سياسي.‏
                              2-أن العرب، شعوباً وحكاماً، قد سئموا من رمي أنفسهم وأبنائهم في المحرقة الأميركية -الصهيونية التي تشرف عليها وجوه الحقد العنصري الأعمى والكره التاريخي البغيض وتدير جوفها عقائد الموت والمال والجنس. وأدركوا، بعد خراب البصرة، أن تلك المحرقة لن تتوقف عند حد، وأن نارها ووقودها ونتائج حرائقها لا تكون إلا على حسابهم، ولا تهدف إلا لإذلالهم إن لم يكن لإبادتهم؛ فقرروا أن يقولوا: لا، وأن يجربوا النتيجة؛ ولكنهم ليسوا على يقين لأن أقداماً كثيرة ما زالت ترقص على حبلين وتعيق الجسم عن الخطو بكامل القوة والقدرة.‏
                              3-أن العراق أخذ درساً في المرونة من مواقف عام 1991 وهو يدرس الوقع الحقيقي لانعكاس أي قرار أو موقف؛ وأنه أيضاً أخذ بمعايير مغايرة لتلك التي حكمته لفترة، وأخذ يحكمها بأمور لا يرجح كفتها الصراخ والحق والشعار والمنطق من غير أن يكون هناك أشياء أخرى تعطي لكل شيء قيمة ومعنى وحضوراً مؤثراً في أرض الواقع؛ كما أنه، وسواه من العرب، أدركوا أوهم في طريقهم إلى أن يدركوا بعمق أشد، أن الأمة تحمي ويُحتمى بها، والخارج عليها لا يستظل من جحيم العداوة بشيء.‏
                              4-إن استخدام القوة العمياء سيحقق أهدافاً عمياء ولن ينهي مشكلات بمقدار ما يخلق مشكلات؛ وأن من يعمل مرتزقاً في جيش تنشئه الصهيونية بأموالها سوف يدفع الثمن للصهيونية مرَّتين مرة من أمواله ومرة من دمه؛ وعليه في ضوء ذلك أن يزن الأمور بالقسطاس المستقيم ليستقيم له منها ما يستقيم.‏
                              قد تنجح جهود العالم المتمسك بحل سلمي للأزمة الحالية بين العراق والإدارة الأميركية، ولكن على العالم أن يدرك جيداً أن الحشد الأميركي الموجود في الخليج لم يُحشد لمجرد التظاهر وأنه سيحقق ما يريد ولو بعد حين، وقد يمد رأسه ويده ليضرب في مكان آخر؛ ونحن ندرك أنه يريد كل من لا يخضع للإرادة الأميركية، وكل من يعارض المشروع العنصري- الصهيوني في المنطقة. والحشد العسكري المتكاثف ليس هو الموجود فقط في مياه الخليج وفي القواعد الأميركية القريبة من أماكن تمركز حاملات الطائرات الأميركية والبريطانية، إنه امتداد ذلك الحشد في تحالفاته ومعاهداته وقدراته العسكرية في المنطقة كالتحالف التركي - "الإسرائيلي" وما هيأه من قوى وخطط وبرامج ومراكز تجسس وقواعد انطلاق ونقاط انقضاض على دول رئيسة في المنطقة هي: إيران والعراق وسورية تنفيذاً للهدف الأميركي الأول والمصلحة الأميركية العليا: "إسرائيل" التي تشكل هي والنفط الروح والجسد بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية.‏


                              قد يتم نزع فتيل هذه الأزمة الآن، وقد يبدو ضوء في نهاية النفق المظلم الذي دخله الشعب العربي في العراق منذ بداية حرب الخليج الثانية وما تلاها من حصار، ولكن الضربة المبيتة للعراق لا بد أن تنفذ قبل رفع الحصار الذي لا بد أن يرفع، والضربة ليست للتخلص من أسلحة بمقدار ما هي اختراق في العمق لكل تفكير بامتلاك أسلحة تمكن العرب من الدفاع عن النفس والتفكير بالتحرير الشامل لفلسطين وعندما يحين موعد تلك الضربة، التي قد لا تقتصر على العراق، فإنها لن تكون بلا ذرائع ولن تكون بلا فواجع قد تصل إلى حدود الكارثة ولكن.. مهما كان من أمر ذلك، ومهما نتج عن ذلك الذي نرى ما يِخَطط له يزداد وضوحاً يوماً بعد يوم؛ فإنه سيبقى في الوطن العربي أحياء بعزائم الأنبياء وأقوياء بعقول العلماء، وأطفال لهم حقوق إنسانية واجبة، وأحلام وتطلعات؛ وسوف نكتب لهم ونعلمهم ونقول لهم فيما نقول:‏
                              يا أبناءنا.. يا بضعة أطفال ولو من كل قطر عربي طفل يحمل الشعلة.. قولوا لأميركي والصهيوني، قولوا للعنصريين والمحتلين وتجَّار الدم والحرب والجوع والسلاح: "من حقنا أن نعيش وأن ندافع عن حقنا في العيش، وهذا يستدعي أن نملك سلاحاً كما تملكون أنتم سلاحاً، ومن حقنا أن نستعمل عقولنا كما تستعملون عقولكم، وإذا أجزتم لأطفالكم أن يملكوا أسلحة يدافعوا بها عن أنفسهم، فلماذا تصير هذه الأسلحة أدوات تهددوننا بها وتحاصروننا بها في أوطاننا فما الذي يمنعنا من أن نفكر بامتلاك الأسلحة ذاتها التي ندافع بها عن أنفسنا، حين لا تفهمون إلا معاني القهر والسلب والعدوان والإبادة والتعالي العنصري؟‍‏
                              لن تنقصنا العقول ولن تنقصنا الإرادات ولا تنقصنا الإمكانات. إنكم تختارون لأطفال العالم المصير المرعب، وتضعوننا في مقدمة ذلك المصير، فلم لا يكون لنا جميعاً المصير ذاته؟‍!‏
                              ألا يملك أولادكم لعباً؟! إنهم يملكون فلم لا نملك لعباً مثلها؟! تقولون لنا: نحن صنعنا لهم لعباً.. ونقول لكم حسناً!.‏
                              وتحتجون بأنها لعب مهلكة ونحن نقر بذلك ونسألكم لماذا تكون لأطفالكم لعب يهلكوننا بها ولا تكون لنا لعب نمنعهم بها من أن يهلكونا ويهلكوا أنفسهم؟! إننا لا نريد أن يهلك أحد فهل أنتم على استعداد لتدمير رصيد اللعب المهلكة كله لنلعب تحت شمس مشرقة ألعاباً جميلة تنطوي على الحب والأمان وحق المتعة للجميع؟! إنكم لا تريدون وإذا أردتم فقوموا بتدمير لعب أطفالكم وأزيلوا الكابوس عن هذا العالم؟!‏
                              يا أطفال العرب قولوا لكل الأطفال: نريد مصيراً مشتركاً وشروط عيش مشترك وحرية وأمناً لكل الناس، لكي نأمن ولكي نعيش معاً بكرامة.‏


                              الأسبوع الأدبي/ع599//21/2/1998‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                لهاثٌ على مسارات التسوية
                                لقد أعلن أكثر من طرف من أطراف ما يسمى بـ " عملية السلام" ومن يرعونها أنها ماتت في أكثر من موقع منها:" جبل أبو غنيم" و" حي باب العمود" في القدس، وعدم الانسحاب من الأراضي الفلسطينية تنفيذاً لاتفاق "أسلو"؛ وفي أكثر من صدام دموي ومذبحة قام بها الصهاينة ضد الفلسطينيين. ولكن النافخين في ذلك "الكير" مازالوا ينفخون ويقدمون "تعزيماتهم" ويضغطون بأكفهم على صدر المسجى بانتظار الدفن؛ وهم فيما يبدو يصرون على "سلام" إسرائيلي- أميركي يُفرض على العرب قبل غياب شمس هذا القرن، وهو " سلام" لمصلحة الكيان الصهيوني مئة بالمئة وضد المصلحة العربية ألف بالمئة.‏
                                لأنه من بديهيات الأمور وأوليات الاستنتاجات المنطقية لمعطيات التاريخ والواقع معاً، أن استمرار الاحتلال اليهودي لفلسطين العربية، كل فلسطين العربية، وبقاء السيادة الصهيونية والمشروع الصهيوني واندفاع السيطرة والتهويد في القدس لن يقدم أي سلام للمنطقة بأي معنى من معاني السلام، فالتضاد والتناقض والتناحر المطلق وكل ذلك قائم وتام مع بقاء الكيان الصهيوني في الأرض العربية؛ وكذلك الاستنزاف والتهديد والهيمنة ومحاولات محو الوجود بأبعاده المادية والمعنوية إن الأحاديث التي تذهب إلى فرض "تسوية" بمنطق القوة الشاملة المهيمن، والقبول بتعليق الأمور بانتظار حسم قادم في زمن قادم، من الأمور التي يمكن فهمها والتعامل مع معطياتها في ظل الأوضاع العربية المتردية واختلال موازين القوى لمصلحة العدو الصهيوني، وما نشهده من زحف القوة على الحق والعدل والحرية والشعوب في ظل المتغيرات الدولية التي تفرض سيطرة أميركية بدأ العالم يتململ منها؛ ولكن الدخول في سلام دائم عادل وشامل تستقر على أرضيته النفوس والأوضاع والأرواح التي أزهقت على طريق هذا الصراع المر، ضرب من الأوهام والأورام النفسية المميتة، ونوع من التعمية وإقصاء العقل والعدل معاً عن ساحة الفعل البشري في الوطن العربي على الأقل.‏
                                إن الكيان الصهيوني المستند إلى عقيدة تلمودية وتجربة تاريخية في القتل والاحتلال والإبادة العنصرية هي تجربة الولايات المتحدة الأميركية التي تقدم له مساندتها المطلقة على أرضية مصلحة واعتقادية وتعاقدية، إن هذا الكيان مستمر في مشروعه ذي الحدود المفتوحة إلى أن يصطدم بالبحر الآخر، مائياً كان ذلك البحر أو بشرياً يرده من حيث جاء.‏
                                وهو لا ينكر إلا بتنفيذ مرحليَّات سياسية في ضوء استراتيجية ثابتة مبنية على معطيات دينية واستعمارية وعسكرية واقتصادية.‏
                                وعلينا أن ندرك جيداً أن الولايات المتحدة الأميركية والغرب الذي ينتمي إلى معسكرها، والشرق الذي كان يشكل معسكراً مضاداً في يوم من الأيام، كل أولئك متفقون على بقاءٍ "لإسرائيل" وسلام لها، وهيمنة سياسية واقتصادية وعسكرية تفرضها بدعم منه على وطن العروبة والإسلام لاستنزاف كل من العروبة والإسلام وإجهاض حيويتها ومشروعهما النهضوي ووجودهما إن أمكن؛ وتلك سياسة ثابتة يتناوب على خدمتها كل طرف من أولئك حسب الظروف والإمكانيات والمواقع والمواقف والمستجدات.‏
                                إن الهجمة الغربية على "مسارات السلام" في هذه الأيام، وإفساح دور حي للأمم المتحدة وأمينها العام ليزور المنطقة تحت عنوان قريب من تحريك تلك المسارات. ما هو إلا جهد ضمن مرحلية الصهيونية التي تشرف على تنفيذها الإدارة الأمريكية و"ايباك" بالتعاون والتنسيق مع الرموز "الإسرائيلية"، وهي تهدف إلى:‏
                                -امتصاص ما في الشارع العربي من صحوة حتى لا نسميها نقمة.‏
                                -وتخليص قوة الاحتلال من المستنقع الذي أغرقتها فيه قوات حزب الله في جنوب لبنان تلك التي تدعم شرعية مقاومتها سورية وإيران وبعض الدول العربية.‏
                                - وفك الارتباط بين المسارين السوري واللبناني في المفاوضات مع العدو.‏
                                - وإجبار سورية -من بعد- على دخول المفاوضات بالشروط "الإسرائيلية" وإحراجها في لبنان لإخراجها من لبنان.‏
                                - وتأليب قوى لبنانية على أخرى لبنانية وعلى سورية لإثارة خلافات ونزاعات وحروب إن أمكن.‏
                                - وإبقاء الجولان قيد الاحتلال الصهيوني إلى أن تقبل سورية "بعضاً من الجولان" وتتنازل "لإسرائيل" عن معظم كمية المليار وثمنمئة مليون متر مكعب من المياه التي تأخذها سنوياً من مياه الجولان، وترسيخ الوجود الاستيطاني اليهودي فيه، بعد أن رسخت القوة وجودها بحفر وبناء أنفاق تحت الأرض تصل إلى مئة وخمسين كيلو متر طولاً لتقيم فيها صناعات عسكرية وقوات متنوعة القدرات القتالية لتهدد سورية باستمرار وتفرض عليها تسويات لا تقبل بها.‏
                                لقد قرر العدو الانسحاب من جنوب لبنان من طرف واحد، وذلك تحت ضربات المقاومة وصمود الشعب العربي في لبنان ودعمه لتلك المقاومة.‏
                                وقرار الانسحاب المتخذ -على الرغم من اختلاف أطراف صهيونية حوله- سينفذ ولو من طرف واحد وبانتظار تحقق ذلك لابد من ممارسة الابتزاز وفرض الشروط ووضع القيود، واستدراج اللبنانيين والسوريين إن أمكن ليكونوا حراس حدود الأرض التي يحتلها الكيان الصهيوني؛ وإذا كانت تسوية أوضاع الجيش العميل جيش لحد، في الشريط المحتل تحتاج إلى تذليل بعض الصعوبات والعقبات، وعقد اتفاقيات وتقديم ضمانات، فإن المشكلة الأكبر في هذه القضية، هي نزع سلاح حزب الله وإنهاء كل شكل من أشكال المقاومة ضد الاحتلال، بما في ذلك المقاومة الفلسطينية مقاومة حماس والجهاد الإسلامي داخل فلسطين على الخصوص -تلك التي لم يستطع عرفات أن يحسمها رغم الإلحاح والدعم "الإسرائيلي -الأمريكي- الغربي" بشكل عام.‏
                                فهل تستطيع الوساطات والجهود المبذولة أن تضع حداً لهذه "العقبات"؟!‏
                                وما هو دور الأمم المتحدة وأمينها العام، ولماذا يسمح له بالتدخل -ولو على شكل زيارة المنطقة- الآن؟؟‏
                                وهل تستطيع الوساطة أيضاً أن تقنع سورية بأن مسارها التفاوضي مع الكيان الصهيوني لن يتأثر إذا ما تم اتفاق مع لبنان على انسحاب "إسرائيلي" من جنوبه، مشروطاً كان ذلك الانسحاب أو غير مشروط؟!‏
                                وهل التحرك على هذا المسار سيكون معزولاً عما يتم على المسار الفلسطيني - "الإسرائيلي" الذي يعتمد التحرك فيه على إحياء "أوسلو" وتنفيذ اتفاقياتها، وهو مالا يمكن التكهن بإمكانية التقدم في مجالاته، بل يكاد المرء يقترب من الجزم بأن أي تقدم مرضٍ على ذلك المسار غير ممكن بعد استئناف البناء في "أبو غنيم" و"باب العمود" والتسارع الحاصل في تهويد القدس وتفريغ سلطة عرفات من كل مضمون والاستغناء عن واجهته بطرح كونفدرالية مع الملك حسين تبقيه مختاراً محدود القدرة حتى شكلياً؟!‏
                                في تقديري أن الأسئلة الأربعة متداخلة وشديدة التعقيد، ومقاربة الإجابة عليها ستكون أشد تعقيداً وتداخلاً.‏
                                إن الأمين العام للأمم المتحدة الذي سيزور لبنان، سيحمل معه تصريح "إسرائيلي" بأنها ستلتزم تنفيذ القرارين (425 )و (426) مع تأكيد تمسكها بتفسير خاص لهما ومحاولة ربطهما بالقرار/520/ وإذا ما تلقى "كوفي عنان" وثيقة رسمية من "إسرائيل" بتنفيذ القرارين (425) و (426) بوصفه مسؤول المنظمة التي أصدرتهما، فإنه سيتكلم بشكل رسمي عن انسحاب وترتيبات أمنية وربما عن اتفاق؛ وعلى الرغم عما في هذا الموضوع /الموقف من إعطاء فرصة ودور للأمم المتحدة فكانت "إسرائيل" والإدارة الأمريكية ترفضهما إلا أن حاجة "إسرائيل" لوقف نزيف دم جنودها في جنوب لبنان ونصب الفخ لكل من سورية ولبنان، وإشارة لبنان الصريحة إلى مخاطبة الأمم المتحدة في هذا الشأن ليسمع كلاماً مسؤولاً يناقش ويرد عليه بمسؤولية فإن المحتلين وأنصارهم، أصحاب المشروع الاستراتيجي الذي ينفذ مرحلياً، سيوافقون بتحفظ، على أن تبقى الأمم المتحدة مجرد بيت عنكبوت وعنان ناسجاً ضعيفاً موجّهاً مُحِرَّكاً من بعد في ذلك البيت.‏
                                وإذا كان عرفات يمكن إسكاته بـ 13% على الأكثر مما تبقى من أرض الضفة الغربية، بعد أن يَلِغ في الدم الفلسطيني ويباشر تصفية البنية التحتية لحماس والجهاد الإسلامي فإن العقبة الأكبر التي تواجه هذا التسلل الاستعماري إلى ما تبقى من صمود عربي هي سورية التي تدرك أبعاد اللعبة، وتدرك جيداً مرامي العدو الصهيوني والأبعاد الاستراتيجية لمشروعه الاستيطاني ومعنى تحالفاته العسكرية، وحشده لأنواع القوة في ترسانة لا مثيل لها في مساحة كمساحة فلسطين المحتلة.‏
                                سورية تريد الجولان كلَّه، ولا تريده قبل جنوب لبنان وأمن لبنان وعروبة لبنان؛ وسورية تريد القدس عاصمة عربية حتى لو وعد صاحب وادي عربة بجعلها عاصمة يهودية إذا ما أعطي وصاية شكلية على المقدسات الإسلامية في القدس.‏
                                وسورية لا تفرط بدورها القومي، ومشروعها القومي، ومسؤوليتها عن وصول الشعب العربي الفلسطيني إلى حقوقه المشروعة في وطنه.‏
                                نعم إنها ليست كل العرب ولا هي البديل عنهم أو لهم، ولكنها تبقى قلبهم النابض وقلعة صمودهم والموقع الثابت على المبادئ، المتمسك بالحقوق التاريخية للأمة العربية.‏
                                وهي القطر العربي الذي نذر نفسه لقضايا الأمة وتحمل من أجل ذلك الكثير ومازال يتحمل من أجل ذلك، ولن يستسلم للعدو ولتسوية يفرضها العدو وحماته مهما بلغت التضحيات، كما أنه لن يدير ظهره لسورية وتاريخها وأرضها وشعبها ولا لأمته العربية وتطلعاتها مهما قدم له من إغراءات، وكيفما زُيِّنت له طرق النجاة بنفسه والانكفاء على ذاته وجني ثمار ذلك بهدوء واطمئنان وثقة.‏
                                بقي أن نلامس من بعيد معاني ومرامي ردود الفعل "الإسرائيلية" التي تتم على زيارات الموفدين لتنفيذ هذا الذي نقول: إن لها مصلحة فيه، مثل روبن كوك، فهل من المعقول أن تريد شيئاً وتخطط له ثم تسيء لمن يكلف بتنفيذه؟!‏
                                إن قاعدة الصهيونية المتبعة منذ عقود هي الهجوم والاتهام المستمران حتى لا يرفع أحد صوته ويسير في الطريق المرسومة تحت ضغط الخوف من الاتهام بمعاداة الصهيونية ولا تتوقف الغطرسة الصهيونية عند حدود اتهام الأشخاص وإنما تذهب إلى اتهام الآخرين بالجهل والتآمر والتواطؤ كما فعل نتنياهو مؤخراً مع الأوربيين على سبيل المثال، وكما يوجه الصهاينة اتهاماتهم حتى للأمم المتحدة بصورة عامة.‏
                                أما موضوع روبن كوك مثل موضوع شيراك من قبل يتصل بالقدس التي تعلن "إسرائيل" إنها ليست موضوع مساومة، وأنها "عاصمتها" الموحدة إلى الأبد" وكل ما يتصل بالقدس تواجهه بردة فعل عنيفة لتنفيذ أمرين:‏
                                1- عدم مفاتحتها بأي أمر يتصل بالبناء والتهجير والتهويد في هذه المدينة على الخصوص، وفي المدن والبلدات والقرى التي تعتبر أن لها حقاً طبيعياً في تحقيق ما يحتاجه نموها وتطورها من توسع.‏
                                2- التمهيد -منذ الآن- لتشكيل حاجز كثيف مصمت من الرفض المطلق في وجه أي حديث عن تسوية تشمل القدس في المرحلة الأخيرة من "معاهدات السلام" بينها وبين الأطراف العربية.‏
                                وهي تفعل ذلك على أرضية من الدعم المطلق لها من قبل الإدارة الأمريكية والقوى الصهيونية وبعض دول الغرب في هذا المجال.‏

                                فهل تنجح "إسرائيل" في تنفيذ مراحل مشروعها الصهيوني الكبير في ظل لعب "الثلاث ورقات هذا"؟‍!‏
                                وهل ينجح العرب في تخطي مراحل الضعف والتردي وأوضاع الهرولة والتطبيع والتبعية، ليواجهوا ما يدركون مراميه وأبعاده وأخطاره بقوة تضامنهم ولا أقول وحدتهم على هدف ومبدأ وموقف، وفي صف متراص صامد؟!‏
                                وهل تنجو أطراف المسارات التفاوضية المحاصرة بأنواع من التهديدات والاستفزازات والتحالفات وبكثير من الاحتمالات مما ينصب لها من أحابيل ويدار لها من مكائد؟!‏
                                وهل يفلح الوعي العربي ولو في مجال ضيق من الأرض ووجود الشعب في التصدي لهذه المؤامرات الصهيونية الغربية المشتركة؟! وهل يدرك العرب جميعاً أنه لا يوجد مطلقاً أي نوع من السلام الحق مع بقاء الكيان الصهيوني والاحتلال والسيادة اليهودية-الأمريكية والمشروع الصهيوني التوسعي في المنطقة؟!‏
                                إن معطيات الواقع تشير إلى تفاؤل نسبي لا يمكن أن نقفز فوق مقوماته، وهي معطيات تدفعنا أو ينبغي أن تدفعنا، إلى مزيد من العمل والأمل والوعي لنستعيد مواقع ومواقف وقوى فقدناها فأفقدتنا الكثير مما نحتاج إليه لمواجهة تحديات العصر ومتطلبات مجتمعاتنا وأمتنا.‏

                                الأسبوع الأدبي/ع603//21/3/1998‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X