انهيار مزاعم العولمة
قراءة في تواصل الحضارات وصراعها
- د.عزَّت السَّيـِّد أَحمد -
دراسة
- من منشورات اتحاد الكتَّاب العربدمشق ـ عام 2000م.
دراسة
- من منشورات اتحاد الكتَّاب العربدمشق ـ عام 2000م.
توطئــة
يجب أن تُعْرَفَ الحقيقةُ بموضوعها لا بالطَّريقة التي تستخدم للحصول عليها (1) .
د. بديع الكسم
ماذا نريد من العولمة ، وماذا تريدُ العولمةُ منَّا ؟
أَليس هذا هو السُّؤالُ الأَهمُّ الَّذي نفرضه على أَنفسنا لدى وقوفنا أَمام أَيِّ موضوعٍ من هذا النَّوع ؟!
حتَّى نجيب عن ذلك ينبغي علينا أَوَّلاً، بالأَسبقيَّة المنطقيَّة، أَن نعرف من نحنُ، وما العولمة Globalization. وثانياً بالأَولويَّة المنهجيَّة، أَن نلج إلى الموضوع ولوجاً سليماً، ونقصدُ بذلك عدم تقديم الموقف على الفهم؛ أَي إنَّنا لن نهاجم العولمة أَو نعاديها، ولن ندافع عنها أَو نناصرها؛ إنَّنا نقدِّمُ مسعًى، مع المساعي، لفهم العولمة، ومن ثمَّ نتَّخذُ ما نشاءُ من مواقف وتدابير.
ولن نستبق الأمور بدءاً من هذه التَوطئة، وسنحاول ألاَّ نصادر على المطلوب فيما سيلي من الفصول، ولن نَّدعي أنَّ ما سنقوله هو القول الحسم أو النهائي في الموضوع، ولكننا نزعم أنَّ ما نقدِّمه إنَّما هو حقائق بالنسِّبة لنا أوَّلاً، وهذه الحقائق مبرهنة عندنا على الأقل، وهذه البراهين على درجة من الاتِّساق المنطقي والمنهجي كافيه لمنحها جواز السفر للدخول إلى ساحة الموضوعيَّة وامتلاك القدرة على الدِّفاع عن نفسها.
هذا الكلام يوحي بأنَّ الكتاب يضطرم بالقضايا الإشكاليَّة والخلافيَّة والطُّروحات الجديدة، وهنا أجدني مضطرًّا للإنطلاق من حقيقة فلسفيَّة راسخة ترى أنَّ كلَّ قضيَّةٍ إشكاليَّةٌ، وكل إشكاليَّة تثير الخلاف. ولكن هل كل ما يثير الخلاف يفرز أطروحات جديدة ؟ هذه القضية خلافيَّة أيضاً، ولكنَّنا نظلم أنفسنا ونكذب عليها إن لم نظنَّ أنَّنا قدَّمنا شيئاً جديداً، وإن علمنا ذلك وتجاهلناه فإنَّنا نكذب على الآخرين ونخدعهم، أي إن نحن ملأنا سطور هذا الكتاب اجتراراً وعلمنا أنَّه اجترارٌ وصمتنا عنه فإنَّنا نمارس عمليَّة تضليليَّة خداعيَّة غير مأمونة النَّتائج والعواقب. هذا بالإضافة إلى أنَّنا لو لم نظنَّ أنَّ ثمة شيئاً جديداً نقوله لما قمنا بهذا العمل أصلاً... أقول بالظَّن لتعذُّر اليقين في هذه المسائل.
وهنا لا بد من التَّنويه بأنَّ الذي دعانا إلى هذا التَّقديم هو الكمُّ الهائل من الكتابات الذي سال على صفحات الصُّحف والمجلات والكتب في هذا الموضوع، ولا عجب في ذلك فهو موضوع السَّاعة لا بوصفه أدروجة فكرية بل لأنَّه همُّ المستقبل. وهمُّ المستقبل عندما يصبح هاجساً فإنَّه يسيطر على الأذهان، وهذا ما فعلته العولمة عندما فرضت ذاتها على الواقع الرَّاهن بوصفها خيمة المستقبل التي سيستظلها كلُّ البشر على الرُّغم من أنوفهم. ولذلك فإنَّ انشغالنا بهذا الموضوع لم يتأخَّر ولم يأت متأخِّراً فهو في الأصل محاضرة ألقيت في "مهرجان قادش" السَّنوي الخامس في أيلول عام 1997م. واستمرار الانشغال بالموضوع نمَّى المشروع شيئاً فشيئاً إلى مساهمات في بعض المجلات والصحف حتَّى تكامل وانتهى إلى ما هو عليه الآن.
ومما لا بدَّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّ عنوان الكتاب؛ انهيار مزاعم العولمة، ينطوي بحدِّ ذاته، كما يبدو، على مصادرة على المطلوب، ونحن لن ننكر ذلك ولن نتنكَّر له، ولكن الذي ينبغي توضيحه هو أن مفردات العنوان لا تتضمَّن أبداً أي بعد دلالي على انهيار العولمة أو سقوطها أو نهايتها أو عدم حقيقتها؛ إنَّها حقيقة لا شكَّ فيها، ووجودها واقع لا يمكن التَّنكُّر له أو غضَّ النَّظر عنه، وفاعل مثل ذلك لا يفترق أبداً عمَّن يحاول إنكار إشراق الشَّمس لمجرد أنَّه مغمض العينين. وهذه هي الحقيقة الأولى التي انطلقنا منها في تعاملنا مع العولمة؛ حقيقة وجودها وفعلها وفاعليتها وآثارها. ولكن الذي قلنا بانهياره هو المزاعم التي تُدسُّ بين حقائق العولمة وتروَّج على أنَّها حقائق لا مفرَّ منها، وهذا مما هو أخطر من آثار العولمة ونتائجها الخطيرة في جانب منها والإيجابيَّة في الجانب الآخر. وللكشف عن هذه المزاعم وتأكيد حقيقة أنَّها مزاعم، وتبيان أبعادها وأسبابها، والقيام من ثمَّ بدحضها، رأينا أنَّ الأفضل هو التَّمهيد في الفصول الأولى ببسط معنى العولمة والكشف عن أبعادها وصلاتها ونشأتها وأبعاد هذه النَّشأة وحقيقتها. لننتقل من ثمَّ إلى استنباط هذه المزاعم والكشف عن عوارها ودواعي انهيارها.
ولنختم الكتاب بباب عنوانه حكمة عربيَّة شهيرة هي: "الأمور بخواتيمها"، تحدَّثنا فيه عن أمرين في فصلين أولهما يكثف العولمة في سبع مقولات رئيسة تعبِّر عمَّا لها وعمَّا عليها وعمَّا يراد لها ومنها. وثانيهما للعرب والعولمة.
ماذا تريد العولمة من العرب ؟ وماذا يريد العرب من العولمة ؟ وماذا يمكن أن يفعل العرب في تعاملهم مع العولمة ؟
لا نحيد عن الحقُّ أبداً إذا قلنا إنَّ كلَّ ما بذلنا من جهد ووقت إنَّما كان من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة لأنَّها أكثر ما يهمنا من العولمة، بل كلُّ ما يهمنا منها، فلولا انعكاسها علينا بأبعادها وآثارها انعكاساً خطيراً لما افترق اهتمامنا بها عن اهتمامنا بهاملت بطل إحدى مسرحيَّات شكسبير. ولذلك لا هجنة في أنَّ كلَّ كلامنا، في كلِّ الفصول، إنَّما كان يدور على نحو يخدم إجابتنا عن موقع العرب من العولمة وماذا يمكن أن يفعلوا لمواجهة أخطارها ومزاعم أصحابها، وللاستفادة منها أفضل استفادة ممكنة، ونحن أحوج ما نكون إلى اغتنام الفرص؛ كلِّ الفرص: المتاحة وغير المتاحة، من أجل النَّهوض مما نحن فيه من بعد شاسع عن الحضارة العالميَّة التي نعيش في خضمِّها أشباه غرباء؛ نستهلك ولا ننتج، نشاهد ولا نشارك. وعلى هذا الأساس فإنَّ حديثنا في تعريف العولمة، وفي نشأتها، وتاريخيَّتها وصلتها بالمعلوماتيَّة... إنَّما كان يتطلع إلى بسط المعطيات بما يفتح ما أمكن من فرص التَّحرُّك والانطلاق أمام العالم العربي للانعتاق من القيود والحجب التي تسمِّرنا في أماكننا وتزيد من بعدنا عن الرَّكب الحضاري العالمي.
دمشق 1999م.
(1) ـ د. بديع الكسم: البرهان في الفلسفة ترجمة؛ جورج صدقني ـ وزارة الثقافة دمشق 1994م ـ ص67.
د. بديع الكسم
ماذا نريد من العولمة ، وماذا تريدُ العولمةُ منَّا ؟
أَليس هذا هو السُّؤالُ الأَهمُّ الَّذي نفرضه على أَنفسنا لدى وقوفنا أَمام أَيِّ موضوعٍ من هذا النَّوع ؟!
حتَّى نجيب عن ذلك ينبغي علينا أَوَّلاً، بالأَسبقيَّة المنطقيَّة، أَن نعرف من نحنُ، وما العولمة Globalization. وثانياً بالأَولويَّة المنهجيَّة، أَن نلج إلى الموضوع ولوجاً سليماً، ونقصدُ بذلك عدم تقديم الموقف على الفهم؛ أَي إنَّنا لن نهاجم العولمة أَو نعاديها، ولن ندافع عنها أَو نناصرها؛ إنَّنا نقدِّمُ مسعًى، مع المساعي، لفهم العولمة، ومن ثمَّ نتَّخذُ ما نشاءُ من مواقف وتدابير.
ولن نستبق الأمور بدءاً من هذه التَوطئة، وسنحاول ألاَّ نصادر على المطلوب فيما سيلي من الفصول، ولن نَّدعي أنَّ ما سنقوله هو القول الحسم أو النهائي في الموضوع، ولكننا نزعم أنَّ ما نقدِّمه إنَّما هو حقائق بالنسِّبة لنا أوَّلاً، وهذه الحقائق مبرهنة عندنا على الأقل، وهذه البراهين على درجة من الاتِّساق المنطقي والمنهجي كافيه لمنحها جواز السفر للدخول إلى ساحة الموضوعيَّة وامتلاك القدرة على الدِّفاع عن نفسها.
هذا الكلام يوحي بأنَّ الكتاب يضطرم بالقضايا الإشكاليَّة والخلافيَّة والطُّروحات الجديدة، وهنا أجدني مضطرًّا للإنطلاق من حقيقة فلسفيَّة راسخة ترى أنَّ كلَّ قضيَّةٍ إشكاليَّةٌ، وكل إشكاليَّة تثير الخلاف. ولكن هل كل ما يثير الخلاف يفرز أطروحات جديدة ؟ هذه القضية خلافيَّة أيضاً، ولكنَّنا نظلم أنفسنا ونكذب عليها إن لم نظنَّ أنَّنا قدَّمنا شيئاً جديداً، وإن علمنا ذلك وتجاهلناه فإنَّنا نكذب على الآخرين ونخدعهم، أي إن نحن ملأنا سطور هذا الكتاب اجتراراً وعلمنا أنَّه اجترارٌ وصمتنا عنه فإنَّنا نمارس عمليَّة تضليليَّة خداعيَّة غير مأمونة النَّتائج والعواقب. هذا بالإضافة إلى أنَّنا لو لم نظنَّ أنَّ ثمة شيئاً جديداً نقوله لما قمنا بهذا العمل أصلاً... أقول بالظَّن لتعذُّر اليقين في هذه المسائل.
وهنا لا بد من التَّنويه بأنَّ الذي دعانا إلى هذا التَّقديم هو الكمُّ الهائل من الكتابات الذي سال على صفحات الصُّحف والمجلات والكتب في هذا الموضوع، ولا عجب في ذلك فهو موضوع السَّاعة لا بوصفه أدروجة فكرية بل لأنَّه همُّ المستقبل. وهمُّ المستقبل عندما يصبح هاجساً فإنَّه يسيطر على الأذهان، وهذا ما فعلته العولمة عندما فرضت ذاتها على الواقع الرَّاهن بوصفها خيمة المستقبل التي سيستظلها كلُّ البشر على الرُّغم من أنوفهم. ولذلك فإنَّ انشغالنا بهذا الموضوع لم يتأخَّر ولم يأت متأخِّراً فهو في الأصل محاضرة ألقيت في "مهرجان قادش" السَّنوي الخامس في أيلول عام 1997م. واستمرار الانشغال بالموضوع نمَّى المشروع شيئاً فشيئاً إلى مساهمات في بعض المجلات والصحف حتَّى تكامل وانتهى إلى ما هو عليه الآن.
ومما لا بدَّ من الإشارة إليه هنا هو أنَّ عنوان الكتاب؛ انهيار مزاعم العولمة، ينطوي بحدِّ ذاته، كما يبدو، على مصادرة على المطلوب، ونحن لن ننكر ذلك ولن نتنكَّر له، ولكن الذي ينبغي توضيحه هو أن مفردات العنوان لا تتضمَّن أبداً أي بعد دلالي على انهيار العولمة أو سقوطها أو نهايتها أو عدم حقيقتها؛ إنَّها حقيقة لا شكَّ فيها، ووجودها واقع لا يمكن التَّنكُّر له أو غضَّ النَّظر عنه، وفاعل مثل ذلك لا يفترق أبداً عمَّن يحاول إنكار إشراق الشَّمس لمجرد أنَّه مغمض العينين. وهذه هي الحقيقة الأولى التي انطلقنا منها في تعاملنا مع العولمة؛ حقيقة وجودها وفعلها وفاعليتها وآثارها. ولكن الذي قلنا بانهياره هو المزاعم التي تُدسُّ بين حقائق العولمة وتروَّج على أنَّها حقائق لا مفرَّ منها، وهذا مما هو أخطر من آثار العولمة ونتائجها الخطيرة في جانب منها والإيجابيَّة في الجانب الآخر. وللكشف عن هذه المزاعم وتأكيد حقيقة أنَّها مزاعم، وتبيان أبعادها وأسبابها، والقيام من ثمَّ بدحضها، رأينا أنَّ الأفضل هو التَّمهيد في الفصول الأولى ببسط معنى العولمة والكشف عن أبعادها وصلاتها ونشأتها وأبعاد هذه النَّشأة وحقيقتها. لننتقل من ثمَّ إلى استنباط هذه المزاعم والكشف عن عوارها ودواعي انهيارها.
ولنختم الكتاب بباب عنوانه حكمة عربيَّة شهيرة هي: "الأمور بخواتيمها"، تحدَّثنا فيه عن أمرين في فصلين أولهما يكثف العولمة في سبع مقولات رئيسة تعبِّر عمَّا لها وعمَّا عليها وعمَّا يراد لها ومنها. وثانيهما للعرب والعولمة.
ماذا تريد العولمة من العرب ؟ وماذا يريد العرب من العولمة ؟ وماذا يمكن أن يفعل العرب في تعاملهم مع العولمة ؟
لا نحيد عن الحقُّ أبداً إذا قلنا إنَّ كلَّ ما بذلنا من جهد ووقت إنَّما كان من أجل الإجابة عن هذه الأسئلة لأنَّها أكثر ما يهمنا من العولمة، بل كلُّ ما يهمنا منها، فلولا انعكاسها علينا بأبعادها وآثارها انعكاساً خطيراً لما افترق اهتمامنا بها عن اهتمامنا بهاملت بطل إحدى مسرحيَّات شكسبير. ولذلك لا هجنة في أنَّ كلَّ كلامنا، في كلِّ الفصول، إنَّما كان يدور على نحو يخدم إجابتنا عن موقع العرب من العولمة وماذا يمكن أن يفعلوا لمواجهة أخطارها ومزاعم أصحابها، وللاستفادة منها أفضل استفادة ممكنة، ونحن أحوج ما نكون إلى اغتنام الفرص؛ كلِّ الفرص: المتاحة وغير المتاحة، من أجل النَّهوض مما نحن فيه من بعد شاسع عن الحضارة العالميَّة التي نعيش في خضمِّها أشباه غرباء؛ نستهلك ولا ننتج، نشاهد ولا نشارك. وعلى هذا الأساس فإنَّ حديثنا في تعريف العولمة، وفي نشأتها، وتاريخيَّتها وصلتها بالمعلوماتيَّة... إنَّما كان يتطلع إلى بسط المعطيات بما يفتح ما أمكن من فرص التَّحرُّك والانطلاق أمام العالم العربي للانعتاق من القيود والحجب التي تسمِّرنا في أماكننا وتزيد من بعدنا عن الرَّكب الحضاري العالمي.
دمشق 1999م.
(1) ـ د. بديع الكسم: البرهان في الفلسفة ترجمة؛ جورج صدقني ـ وزارة الثقافة دمشق 1994م ـ ص67.
تعليق