مأدبة الانتصار على ابن آوى
١_ القرية
((عين الديسة)) قرية صغيرة لفظها الفقر بعيدا ، فتناثرت بيوتها الطينية على حواف غابة من أشجار السنديان المعمرة ، التي تطفلت على جذوعها نباتات شتى تكاد تغلق الممرات الترابية في متاهة الغابة . وقد سميناها قرية على الرغم من أن عدد بيوتها لا يزيد عن دزينة واحدة من البيوت التي يسكنها الشقاء و الرضا معاً. ( لا تسألني كيف يعيشان معا. إني رأيتهما بعين رأسي ).
٢_ وجوه القرية
على صغرها ، كان لعين الديسة مختار شهم اسمه كامل الطماع ، و شيخ طريقة اسمه سحبان البلهموطي. و كان يزور القرية بين الحين و الآخر دركي من مخفر قريب للضيعة اسمه عزيز المدفع للتأكد من استتباب الأمن فيها. و كان الثلاثة على انسجام جد مريب و تزاور دائم ، و كانوا يتمتعون بمراقبة مواطنيهم تطحنهم رحى أيامهم لتأمين كفاف حياة قاسية توشيها أحيانا ضحكات القناعة و الرضى .
٣_ الغابة
غابة القرية مجتمع لكائنات كثيرة من حيوانات برية و طيور و قوارض و حشرات و أفاعي و نباتات و أرواح أخرى لا يعلم بعديدها و أنواعها إلا خالقها . إلا أن أخطر كائنات هذه الغابة على أهل القرية كان ماكراً ، ذلك الجقل الذكي الذي لا ينام دون أن يخطف إحدى دجاجات الضيعة ليتقوت بها في هدوء ليل الغابة الطويل.
٤_ عمشة الغميض
تزوجت عمشة الغميض من حسن المعتر، فبنى فيها و بنى لها بيتاً طينياً جميلاً في آخر تخم من تخوم الضيعة، فأنجبت له ثلاثة أولاد و ثم ودعته عندما ارتحل إلى رفيقه الأعلى إثر إصابته بطلق ناري طائش بقي مطلقه مجهولاً.
حزنت عمشة الغميض على رحيل زوجها. بكته بكاء مراً وحاراً، و لبثت في بيتها لقضاء عدتها الشرعية ، ثم انقضت على الحياة لتواجهها بشجاعة من يود أن يطعم أطفاله و يسترهم . فوسعت قن الدجاج الملاصق لبيتها و اسكنت فيه دجاجات أُخر.
٥_ ديك عمشة
في قن دجاجات عمشة ، رقدت دجاجة حنونة على بيضها و بعد ثلاثة أسابيع ونيف ، فرحتا معاً بخروج صيصان جميلة إلى الحياة ، إلا أن أحد الصيصان كان مميزاً فارقاً في جمال ريشه و نهوض عرفه سمته الأسرة فصيحاً و بعد نضوجه صار فرجةً لعشاق الجمال.
يختال و ينشر أجنحة قزحية الألوان، رافعاً رأسه عالياً و عيناه تقدحان شرراً كالنار ، بينما تطأ قدماه الثرى بترفق و تيه كأنه مخلوق سماوي.
إلا أن كل صفات ديك عمشة السابقة لم تكن لتعادل غيرته على دجاجات و استتباب أمن قنه. و كان يطلق صياحاً قوياً منغماً كلّما مرَّ عابرٌ أو معتدٍ باتجاه القن. و كانت تحلو له مراقبة الطريق من نافذة قنه عندما تهجع دجاجاته للنوم.
٦_ المعركة
تسلل ماكر كعادته باتجاه قن عمشة الغميض تتقدمه عينان حمراوان و يتبعه ذيل تيَّاه و تحدوه رغبةٌ عارمة لالتقام دجاجة ما لعشائه.
كشفه فصيح على الفور ، فصاح صيحته المدوية التي أيقظت على الفور كلب الدار الذي بدأ بدوره نباح استغاثة عالي الوتيرة. نهضت عمشة و ابنها الكبير و صاحت : ” يا سامعين الصوت أغيثوني” ، فتقاطر بعض من سمع الصوت يحملون عصياً أو رفوشاً أو فؤساً أو ما تيسر من أدوات المواجهة . ولقد وصلوا في الوقت المناسب و قبل أن يتمكن ماكرٌ من القبض على عنق فصيح و إسكاته إلى الأبد.
قدر ماكر أن معركته خاسرة أمام هذا الجيش اللجب من الغيورين فطوى ذيله ولاذ بالفرار خالي الوفاض مدحوراً لا يلوي على شيء…
٧_ فرح الانتصار
انتهت إلى أسماع المختار قصة تلك المعركة المجيدة المظفرة، فأرسل في طلب سحبان البلهموطي شيخ القرية و أسّر له أن هذا الانتصار المؤزر هو توفيق من الله و علينا أن نحتفل به أيّما احتفال بأضحية لائقة ، فوافقه على الفور و أرسلا على جناح السرعة رسولاً إلى عزيز المدفع ليبارك هذا الاحتفال.
و في عصر اليوم الثاني على الانتصار المشرف تقاطر الثلاثة تحف بهم مرافقتهم إلى بيت عمشة الغميض. فقدموا لها التهاني على سلامة قطيع دجاجاتها وعلى غيرة جيرانها وشهامتهم وامتدحوا يقظة ديكها الغيور.
٨_ المأدبة
أبت شهامة عمشة الغميض و كرمها إلا أن تولم لهذا الجمع المقدر من وجوه القرية ، فأحضرت للشيخ سحبان البلهموطي دجاجتين ليذبحهما كمادة للوليمة فأبى قائلاً: ” النذر لا يكون إلا على ذكرٍ سليم ” .
صاحت عمشة : ” لا ذكر بين دجاجاتي سوى هذا الديك و هو بغلاوة أولادي علي” .
عبس البلهموطي في وجه عمشة قائلاً: ” أوَتغضبين الله يا امرأة ؟! “.
أُسقط في يد عمشة ، فقبضت على الديك، و سلمت رقبته لسكين الشيخ فسمى باسم الله و حزَّ عنقه من الوريد إلى الوريد فتراقص مذبوحاً لهنيهات ثم استقرت جثته منتوفة و ملقاة في حلة كبيرة للطعام.
٩_ البلعمة
نضج الطعام، و فرشت على مائدة عمشة الغميض صينيتان من البرغل بحمص تتوجهما أشلاء الديك المسلوقة ، و دارت رحى التهام الطعام، بينما كان أولاد عمشة ينظرون من خلل النوافذ و الأبواب متمنين أن يبقى لهم ما يتقوتون به.
١٠- المتربص
فوق شجرة التوت القريبة من بيت عمشة يتلطى الجقل ماكر متخفياً عن أنظار الجميع يراقب المشهد بسعادة غامرة و لسان حاله يقول :
” غداً يوم آخر ، لقد فطس الديك “.
………………………………………
هامش ١ : شكراً دكتور مدين محمد . حقوق هذه النكتة الموجعة له. لم اتصرف فيها إلا قليلاً.
هامش٢ : شكرا لطيفة شاهين. تجشمت عناء كتابة هذا المنشور.