اسكندر

زياد غصن-صاحبة الجلالة (خاص)

اثنان وثلاثون عاماً مرت على وفاته، تعاقب خلالها على وزارة الإعلام السورية تسعة وزراء إلى يومنا هذا، إلا أن أياً منهم لم يصل إلى ما وصل إليه الوزير أحمد اسكندر من شهرة وتأثير في مسيرة الإعلام السوري، على الأقل خلال العقود التي أعقبت وصول حزب البعث إلى السلطة في العام 1963.

وإلى ما قبل اندلاع الأزمة، كانت الفترة التي قاد فيها الشاب وزارة الإعلام، والتي امتدت لنحو عشر سنوات، قبل وفاته بمرض السرطان عن عمر لم يتجاوز الأربعين عاماً، لا تزال محل إعجاب واحترام في الوسط الإعلامي والثقافي. وحتى مع دخول البلاد في مرحلة الإصطفافات السياسية الحادة، فإن الاعتراف باستثنائية تلك الفترة في مسيرة الإعلام السوري، وبقدرات الوزير الراحل وإمكانياته لم يتغير، وإن كان هناك من يتهمه بأنه سخر تلك القدرات والإمكانيات لخدمة “النظام”، وصناعة “بروغندا” إعلامية ضخمة لدعمه.

سمات عدة أثرت في تكوين الصورة الذهنية الايجابية عن الوزير اسكندر، منها أنه تدرج في العمل الصحفي من محرر إلى رئيس دائرة فرئيس تحرير، وصولاً إلى تعيينه وزير للإعلام، الأمر الذي ترك أثره الإيجابي على طريقة تعاطي اسكندر مع العمل الإعلامي، ولعل نجاحه بتأسيس صحيفة تشرين في العام 1975، وما حققته آنذاك من اختراقات عميقة، لجهة توسيع هامش الحرية الإعلامية في تناول قضايا سياسية وداخلية كان يُنظر لها بتوجس من قبل البعض، فتح الباب أمام مرحلة جديدة في تاريخ الإعلام الرسمي السوري. مرحلة يصفها مدير تحرير صحيفة البعث الأسبق محمد منصور بأنها “فترة ذهبية للإعلام السوري، فما حققه اسكندر في هذا المجال يصعب تحقيقه من بعده، فقد استطاع أن يغير الكثير في شتى مجالات الإعلام المحلي من المطبوع إلى المرئي والمسموع”.

لم تقل الفترة التي قاد فيها أحمد اسكندر الإعلام السوري خطورة عن الفترة الحالية، وهذا ما يذكر به غازي سلامة، وهو من الصحفيين السياسيين المهمين خلال العقدين الأخيرين، “فتلك الفترة الممتدة من العام (1974 إلى العام 1984 كانت أيضاً صعبة، فقد شهدت البلاد بدءاً من العام 1976 مواجهات عنيفة مع تنظيم الإخوان المسلمين”. وفي حديثه لـ “صاحبة الجلالة” يستذكر سلامة بعضاً من الحوادث الشخصية للوزير الراحل، والتي تظهر جانباً من شخصية الوزير الشاب المتواضع والقريب من زملائه الصحفيين، فيشير في إحداها إلى توجهه مع بعض مسؤولي الشأن السياسي في الصحف إلى منزل اسكندر، والذي هو عبارة عن شقة سكنية عادية، مجهزة بأثاث يناسب الوضع المادي لموظفي الدولة، وذلك لكتابة الخبر المتعلق بتنفيذ أول حكم إعدام بحق مجموعة من مسلحي “الإخوان المسلمين”، كان من بينهم ماهر علواني الذي استباح مدينة حماة بالاغتيالات وأعمال العنف. يقول سلامة: وفيما كنا ننتظر ورود قرار تنفيذ حكم الإعدام لكتابة الخبر والتعليق، طلب منا الوزير تجهيز عشاء لأنفسنا مما هو متاح في المطبخ، فعائلته كانت بزيارة في محافظة حمص. فتح أحدهم براد المطبخ العادي، وهو من صناعة شركة بردى الحكومية، فلم يجد فيه سوى بعض “الحواضر” كالبيض واللبنة والزيتون، وعندما استيقظ الوزير مع ورود قرار المحكمة، قال مازحاً لنا: إن شاء الله عجبكم العشاء؟.

*الصحفي والوزير

تمرد اسكندر على الواقع، محاولاً صناعة سلطة حقيقية للإعلام في بلد لم يكن مسموحاً فيه للقطاع الخاص الاقتراب من الاستثمار بهذا القطاع، وقد ساعده في ذلك أمران، الأول هو الدعم المباشر الذي كان يحظى به من الرئيس الراحل حافظ الأسد، والثاني شخصيته القوية الساعية إلى التميز. إذ بحسب ما يؤكد صبري عيسى، وهو مخرج فني عمل في صحيفة الثورة وكان من الفريق المؤسس لصحيفة تشرين، فإن صحيفة الثورة “تحولت وخلال فترة قصيرة من تسلم اسكندر لرئاسة تحريرها الى ورشة عمل نشطة، محققة حضوراً هاماً في الشارع السوري، رغم أنها كانت تصدر بثمانية صفحات وبطباعة أيام زمان. لا بل ودخلت في مواجهات مع معظم مؤسسات الدولة”. ويضيف عيسى في حديثه لـ”صاحبة الجلالة ” أن ما كان يميز اسكندر أيضاً “دفاعه المستميت عن الصحفيين، فذات مرة وجه الكاتب والشاعر علي كنعان انتقاداً ساخراً لاجتماع عام ضم القيادات الحكومية والحزبية، الأمر الذي أغضب القيادة القطرية لحزب البعث، والتي طلبت بتسريح كنعان ومعاقبته، فما كان من المرحوم إسكندر إلا أن ربط بقاءه في الصحيفة ببقاء كنعان”. إلا أن عيسى يأخذ عليه أنه “عندما كان رئيساً للتحرير كان يشكو من وصاية وزير الإعلام على الصحيفة، لكن عندما أصبح هو وزيراً للإعلام عزز صلاحيات الوزير على حساب صلاحيات رؤساء التحرير”.

يحدد منصور ثلاثة أسباب رئيسية لنجاح اسكندر وبصمته التاريخية على مسيرة الإعلام السوري، فهو “أولا شخص أخلاقي متمسك بقيمه ومبادئه، ووطني لا يستطيع أحد أن “يزاود” عليه من هذه النقطة. ثانيا، هو رجل إعلام حقيقي، عمل في كل مجالات الإعلام من أصغر تفاصيله إلى أكبرها، فقد عمل في التصحيح، وعمل في الصحافة الفنية والثقافية، وغيرها وصولا إلى تسلمه وزارة الإعلام، فهو ابن المهنة، ويعرف تفاصيلها من الألف إلى الياء. ثالثا، تواضعه، وعلاقته المتينة بالصحفيين والإعلاميين، فأي صحفي يقصد مكتبه كان يراه على الفور، وينفذ طلبه إذا كان ممكنا، حتى أنه كان يرفض أن نقول له سيادة الوزير أو استاذ، ويطلب أن نقول له أبو اسكندر فقط.”

يعود الصحفي سلامة من جديد إلى ذاكرته الشخصية، ليستعيد قصصاً حقيقية عن تلك الفترة، فيذكر أنه ” لم يكن في عهد الوزير الراحل أي شيء ممنوع من النشر، فكما هو معروف كانت تأتينا من الوكالات نشرات إخبارية للاطلاع فقط وليس للنشر، لكنه كان يتصل بي أحيانا، ويطلب نشر أخبار الإطلاع، فالناس حسب رأيه يجب أن يعرفوا ويقرؤوا كل شيء”. ويطرح سلامة سؤالاً ثم يجيب عليه : “لماذا تستدعي الذاكرة الصحفية اسم الراحل أحمد اسكندر في هذه الأيام؟”.

يجيب: ” إننا نتذكره على مبدأ “والحسن يظهر حسنه الضد”، فقياساً إلى وزير الاعلام الأسبق الراحل، نقف اليوم أمام الوزارة التي لا تقول شيئاً في مرحلة تحتاج الى قول الحقيقة كلها، بدلاً من التعتيم والصمت المريب!!”.

*سلطة الإعلام

في دردشة خاصة مع المحرر، يختزل مسؤول سوري بارز الحديث عن الوزير الراحل بقصة كان شاهداً عليها، ففي أحد الأيام طلبه الوزير اسكندر لمكتبه لمناقشة أمر ما. دخل المسؤول، الذي كان لايزال في بداية مسيرته المهنية، إلى مكتب الوزير، وما أن بدأ الحديث بينهما حتى رن جرس الهاتف. امسك اسكندر بسماعة الهاتف وقال بعد عبارات السلام المعتادة: أخي علي، بدي منك تبعت عناصرك على الأسواق ليجمعوا جميع نسخ عدد مجلة الفرسان، لأن فيه ما “يسيء” للدولة والقائد. عندما انتهت المكالمة عرف الضيف أن من كان يحدثه الوزير لم يكن سوى العميد علي دوبا رئيس الاستخبارات العسكرية، مع العلم أن المجلة المراد مصادرة أعدادها تعود ملكيتها لصاحب النفوذ الكبير آنذاك رفعت الأسد. والإساءة التي أشار إليها لم تكن سوى مبالغة أحدهم في مدح الرئيس.

من almooftah

اترك تعليقاً