إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يفيض كالشلال ويقص حكاياته مع البدايات الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يفيض كالشلال ويقص حكاياته مع البدايات الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

    يعيش في حراسة «الأمهات»
    الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى ))
    جمعها: محمد القدوسي

    - منقول -
    الابنودى يتكلم ( 2 )


    الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات
    في مراعي الأطفال كان الخبز قنبلة يدوية
    والإدام تافه الطعم لا يبقى منه إلّا الإحباط
    جمعها : محمد القدوسي
    هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول «الأبنودي» المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.
    في البداية لم يبد «الأبنودي» متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.
    وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في «أبنود» قبل أن يكون هناك سد عالٍ . وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».
    مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.
    يا ما نفسي أعيش العمر
    معاكم تحت الشمس
    نشرب من ريق النيل راحتين
    أتعشى معاكم تحت النجم
    ببتاوتين
    واسمع موال يهمس من جرحي همس
    تسحبني يا ليل
    وتجيبني يا عين
    ياما نفسي أعيش
    قَطْع ف توب أزرق
    على فلاح
    يا فلاحين
    هكذا عبر الأبنودي الشاب عن أمنياته، لنكتشف أنها -تقريبا- الأمنيات نفسها التي حملها «الأبنودي» الطفل، إذ تمنى أن يظل مع رفاق الطفولة في براح حقولهم وعذوبة نيلهم. إنها أبنود التي غادرها الأبنودي، وأصدر ديوانه الأول «الأرض والعيال» ـ والمقطع من إحدى قصائده وللديوان نفسه حكاية من «حكايات البدايات» ـ وأصبحت القاهرة بالنسبة إليه «النموذج» الذي يمكن أن يزيحه ـ أو يزحزحه ـ نموذج غيره، لكن أبنود انفردت بمكانة «المثال» الذي لا ينازعه في مكانته شيء!
    لعل جمهور الأبنودي يذكر معي ما يقدم به الشاعر قصيدة «الخواجة لامبو العجوز مات في أسبانيا»، إذ يقول ـ بين التوضيح والتحذير ـ إنه سيلقي قصيدته بـ«اللهجة الأجنبية» وهو بالطبع لا يعني أنه سيلقي قصيدته بالأسبانية! لكن باللهجة القاهرية التي يسميها أجنبية ـ مع أنه قاهري الإقامة منذ الستينات ـ لأنه كان وما زال مواطنا أبنوديا مائة في المائة.
    أبنود هي الطفولة، طفولة العالم والقلب، العين واليد، هي اللعب الذي يصقل المهارة ويصوغ الحكمة والبراح الذي يفرد ملاءة التأمل وقبل هذا وذاك هي «الناس» والأبنودي هو «شاعر الناس» الذي يتحدث باستمرار عن «ناس أبنود»، هكذا يسميهم. لا يقول «أهل أبنود» ولا «سكان أبنود». مع «ناس أبنود» الأطفال عاش الطفل عبد الرحمن ابن الشيخ محمود أحمد عبد الوهاب المشهور بالأبنودي ومازال يحلم بأن يعيش معهم!
    كانت أبنود تعامل أطفالها باعتبارهم «كبارا صغار السن» بمعنى أن ليس لهم ـ كالأطفال ـ أن يعتمدوا في كل شؤونهم على الكبار، بل عليهم أن يعيلوا أنفسهم بدرجة أو بأخرى. وبالنسبة إلى الأبنودي كان عليه أن يتحمل مسؤولية نفسه وأمه وجدته منذ سن باكرة جدا، حتى عرف «العمل» وحمل تبعاته قبل أن يقطع خطوة واحدة على طريق التعليم.
    عمل الأبنودي مع رفاق صباه في جني القطن وجلب السماد من «جبل الوطواط» المجاور لأبنود والبعيد عن كتلتها السكنية. كما عمل في رعي الغنم وكان عليه - كأقرانه - أن يتدبر أمر نفسه. وأول ما يجب على الراعي ـ البعيد عن بيته ـ أن يؤمنه هو الطعام الذي سيقيم أوده مذ يخرج في الصباح حتى يعود في المساء. ولنستمع إلى الأبنودي وهو يصف «وليمة» الرعاة الصغار. يصف «الشلولو»!
    يقول: الشلولو لا اجتهاد فيه ولا يختلف «شلولو» عن «شلولو» آخر مهما علا ذوقك ومهما اجتهدت في إعداده.
    لكن ما هو «الشلولو»؟ إنه أوراق الملوخية المجففة بعد أن تمزج بالماء البارد ويضاف إليها الملح والثوم والليمون. هذا كل شيء!
    يقول الأبنودي: «كنا نتفق قبل إعداد وليمة «الشلولو» بيوم. يحضر كل منا شيئا من مستلزماته. هذا يحضر الطبق وذاك يأتي بالملوخية وثالث يجلب «فص ملح»، إذ كان الملح فصوصا علينا أن نحتال على سحقها بوضعها بين طيات ملابسنا وطحنها بأضراسنا حتى تتفتت! وحين ترتفع شمس الظهيرة ويصبح من حقنا أن نرتاح من الرعي واللعب أيضا نضع الملوخية في الطبق ونضيف إليها الماء مع تقليبها بعود من البوص وإضافة عصير الليمون حتى تصبح سائلا متجانسا، ثم نهرس الثوم ونسحق الملح ونضيفه إلى ما في الطبق ونقلب ليصبح «الشلولو» جاهزا. إنه الإدام، أما الخبز فهو «البتاو» المصنوع من الذرة النيلية، نحضره في جيوبنا من بيوتنا وهو خبز يشبه «القنبلة اليدوية» في شكله والطوب في صلابته وهذه هي الوجبة كلها: شلولو وبتاو».
    يقول الأبنودي: «بقدر ما كانت الحماسة تملأنا ونحن نعد وليمة الشلولو، بقدر ما كنا نصاب بالإحباط بعد تناوله فطعمه التافه لا شخصية له ولا يبقى منه - لا في الذاكرة ولا في الفم - ما يستحق الذكر».
    قلاب العصافير
    لكن عطايا أبنود وحقولها لم تكن «الشلولو» وحده ففي هذه القرية التي يقول الأبنودي عنها إنها كانت تنضج أبناءها بسرعة، كان الأطفال يصنعون عالمهم من ألفه إلى يائه - بأيديهم الصغيرة - وكانوا ينسجون أحلامهم ورغباتهم البسيطة، يحققونها فيشعرون بنشوة الظفر والتحقق ويطاردونها فيشعرون بقيمة أن يكون لهم هدف في الحياة. وبين أكثر الرغبات بساطة ومشروعية كانت هناك الرغبة في تناول «مزعة» لحم أو قطعة سمك فالحياة - كما تعلمون - لا يمكن أن تكون «شلولو كلها»!
    يقول الأبنودي: «كانت العصافير المصدر الأساسي الذي نحصل منه على «اللحم» ونحن في مراعينا وحقولنا البعيدة وكنا نحتال على صيدها بالفخ الذي نسميه «القلاب» ربما لأن طرفيه كانا ينقلبان لينطبقا على العصفور ويقبضا عليه. كان فخا بسيطا مصنوعا من السلك، نفتحه ونضع فيه «الطعم» وهو حبة قمح أو ذرة في وسطه فإذا نزل العصفور ليلتقطها أطبق عليه الفخ - المعد للإطباق عند أول اهتزازة - ومرة أخرى نعاود نصب الفخ ليمسك بعصفور وثان، حتى إذا أصبح لدى الواحد منا خمسة عصافير اكتفى وأدرك أنه حصل على ما يشبعه. وبعد اصطياد العصافير كنا نذبحها لا بواسطة السكاكين إذ لم تكن حقولنا ومراعينا مجهزة بأدوات المطبخ، لكن بواسطة قشور عيدان الذرة الصلية ذات الحافة الحادة. يكفي أن تمر حافتها على رقبة العصفور لينبثق منها الدم. وكنا مدربين جيدا على نزع الريش وتنظيف الأحشاء والجوف وغسيل «صيدنا» مرة ومرات في ماء النيل الجاري حتى يصبح نظيفا تماما، ثم ننضجه بنيران نشعلها في فروع الشجر الجافة وما خلفته دواب الحصادين من عيدان النباتات. بعد ذلك نجلس لنستمتع بالوجبة التي صنعناها لأنفسنا بأنفسنا والتي أخذنا كل موادها وأدواتها من أبنود، من طبيعتها التي لم نكن إلا جزءا منها».
    ويتذكر الأبنودي: «حين انتقلت مع أسرتي طفلاً من أبنود للإقامة في قنا، المدينة الكبيرة والمحافظة العريقة، ظللت - كأنني أبحث عن أبنود في قنا - أمارس كل ألعابي الأبنودية وما أستطيع من تفاصيل حياتي هناك ومنها «صيد العصافير» الذي رحت أمارسه - بالجملة - في الحجرة التي خصصتها أمي لتربية الدواجن والتي اكتشفت أن العصافير تدخل من نافذتها بالعشرات فابتكرت طريقة أغلق بها النافذة بعد تجمع عدد معقول من العصافير، ثم أدخل الحجرة لأنهكها من الطيران العبثي بدفعها إلى محاولة الفرار، حتى إذا استبد بها التعب واليأس رحت أمسكها وأكرر الأمر ليصبح معي عشرات العصافير التي تصبح بعد هذا وجبة شهية».
    النيل وأسماكه
    يضيف الأبنودي: «في كثير من الأيام كنا نذهب إلى الحقول بلا زاد إلا «البتاو»، ذلك الخبز الصعيدي الجاف القاسي فهل نأكل البتاوة ونكتفي بها؟ طبعا كلا، لهذا كان علينا إن لم نجد إداما مما تنبته الأرض أن نصطاده من الجو «العصافير»، أو نبحث عنه في الماء «السمك». كنا نصطاد لنشبع جوعنا. لم يكن الأمر هواية ولا مسابقة ومع هذا كان علينا أن نتعلم كل فنون الصيد وحيله لننتصر في المعركة التي تدور بيننا - نحن مخلوقات البر - وبين الأسماك، الكائنات المائية التي كان علينا أن نغريها بما يسد جوعها قبل أن ننجح في القبض عليها ونسد بها جوعنا نحن.
    كنا - طبعا - نصطاد بالسنارة التي كنا نصنعها ككل أدواتنا بأيدينا والمسألة بسيطة: عود من أعواد الذرة، نربط في مقدمته خيطا يتناسب طوله وعمق الماء الذي سنصطاد فيه. وفي طرف الخيط نربط السنارة الحديدية المعقوفة. بعد أن نجمع قدرا من ديدان الأرض بالحفر في أي مكان ظليل رطب كان علينا أن نختار المكان المناسب للصيد فالأماكن ليست كلها سواء من حيث وفرة السمك.
    يضيف: «للصيد فنونه وتقاليده وأخلاقياته، وأول من علمني قواعد الصيد هو محمد مصطفى ابن عمي الذي جسدت شخصيته بعد ذلك في الرواية الشعرية «أحمد سماعين». ومن أخلاقيات الصيد ألا تنظر إلى ما وهبه الله لجارك، أن تعلم أن المسألة كلها هي رزق يقسمه الله. وأيضا ألا تحاول أبدا الإمساك بسمكة أفلتت منك وعادت إلى النهر، إذ قد تدفع الثمن من بلل ملابسك وضياع سنارتك وضياع السمك الذي سبق أن اصطدته وربما كان الثمن حياتك نفسها إذا جرفك النهر ولم يكن إلى جوارك من ينقذك».
    يتابع الأبنودي: «بعد سنوات من ممارسة الصيد ـ الذي أحن إليه كلما مررت إلى جوار ترعة أو أحد تفرعات النيل ـ تكونت لديّ خبرة كافية بطبيعة كل سمكة، بطريقتها في الاقتراب من السنارة وسلوكها بعد الوقوع في أسرها وكيفية التعامل معها بعد خروجها من الماء. هناك «اللبس» وهو سمكة يختلط لحمها بشوكها كأنما عجن به وسمكة «الرعاد» التي تمثل مشكلة حين تقع في السنارة لأنها قبيحة الشكل بلا قيمة ولا تؤكل، ثم إنها تصدر شحنة كهربائية تجعل من يلمسها يرتعد، لهذا يجب إخراجها من السنارة بحذر بعد لفها بقطعة قماش وإياك أن تلمسها وإياك أيضا أن تنجح هي في لمسك. هناك أيضا أسماك «الكلاب» و«الصير» ولكل نوع مذاقه الذي يراودك وأنت جائع فتتمنى الحصول عليه. أما أكثر الأسماك غباء فهو «البلطي» الذي يبلع «الطُعم» غير منتبه إلى السنارة التي يشعر بحديدها وقد اخترق فمه فيندفع إلى الأسفل بكامل قوته وحين نرى سنارتنا تغطس بقوة وسرعة، نعرف أن سمكة «بلطي» علقت بها. أما سمكة «القرموط» فهي ماكرة تقترب من السنارة بحذر وتأكل الطعم من ناحية طرفها غير المدبب. تقضم القضمة وتهرب وتعود لتأخذ غيرها. يحتاج صيدها إلى بال طويل وتمرس. ومن الأسماك الماكرة أيضا سمكة «القرقار» التي لا تكتفي بالقضم بعيدا عن «سلاح» السنارة، لكنها ـ بهدوء ـ تمسك الطعم من طرفه وتحاول سحبه خارج السنارة وربما نجحت في الإفلات بغنيمتها مرة ومرات، تاركة للصياد الخيبة والسنارة الفارغة. لذلك نفرح جدا حين تخرج سنارتنا محملة بواحدة من أسماك القرقار التي لا تكتفي بالانتفاض محاولة إفلات السنارة بل تصدر صوتا كأنها تبكي من الألم أو تنوح على مصيرها، أو كأنها تعلن انتصار الصياد عليها مقرّة بمهارته. و«القرقار» هي السمكة الوحيدة التي يمكن أن تسمع صوتها، صوت فريد من نوعه استعان به أجدادنا الشعراء الشعبيون وهم يصوغون ملحمة العرب الخالدة «السيرة الهلالية». استعانوا به ليصفوا حذاء الأميرة جميلة جميلات بني هلال «الجازية» وكان حذاؤها يصدر صوتا موسيقيا وهي تمشي . تقول الهلالية عن الجازية :
    لابسة توب
    شمني وارخيني
    وحلَّق واظبط من قدام
    لابسة جزمة بمزيكة
    عما تصرخ (تصرخ باستمرار)
    شكل القرقار».
    اللعب بـ «العافية»
    لم يكن الأمر عناء كله، إذ كان أطفال أبنود يعرفون اللعب أيضا، بل كانوا يبتكرون ألعابهم، لكن ـ وكما يقول الأبنودي: «كان خروجنا للعمل هو القاعدة التي لا تحتاج إلى اتفاق ولا إلى موعد. ننام ونحن نعرف أننا سنصحو صباحا ونتجه إلى مراعينا أو إلى حقولنا ونعرف من سيكون معنا ومن سيغيب، أما اللعب فهو الذي كان يحتاج إلى اتفاق»!
    يضيف: «حين كنا نلاحظ اكتمال البدر ونحن في طريق العودة من المرعى، كنا نتفق على الخروج الليلة للعب. في الوقت نفسه كنا نعرف كم بلغ بنا الجهد وأن البعض سيفضل النوم والراحة استعدادا لرحلة الغد المجهدة، أو أن الكبار يمكن أن يمنعوا البعض الآخر من الخروج، لذا كنا نتعاهد ونقسم على الوفاء بالموعد المضروب للعب في ليل «الصعيد» المظلم إلا من ضوء القمر الذي تسعى تحت جنحه الهوام من عقارب وثعابين مختلفة الأشكال والأحجام، لذلك كان الكبار يمنعوننا من الخروج وكنا نتسلل لممارسة طفولتنا واثقين من معرفتنا بكيفية التعامل مع هذه الهوام».
    يمضي الأبنودي متذكراً: «يذهب من نجح في التسلل منا إلى المكان المتفق عليه وبعد أن يلتئم عقدنا نشرع في «ابتزاز» من فشل في التسلل مثلنا أو تكاسل مفضلا النوم والراحة. هكذا «نسرح» في دروب «أبنود» مرددين أغنيتنا المستفزة المخيفة:
    إلـ (الذي) ما طالع يلعب يلعب
    دقته (لدغته) حية وعقرب
    عقربين.. بلاصي
    واحدة تقول يا راسي
    ذنب الفار
    حدا (عند) العطار
    خضرا طرية
    يا ملوخية
    و«بلاصي» أي من «جبل البلاص»، ذلك الجبل ذو العقارب الرهيبة التي تعيش في أرضه المالحة والذي يأتون منه بالطين الذي تصنع منه «البلاليص» أي الجرار الفخارية. ولا تسل عن علاقة الملوخية الخضراء الطرية بالموضوع فهي سريالية الأطفال!. كنا نستدرج الطفولة في نفوس بعضنا البعض ونحثها على الخروج. كنا نفرض على رفاقنا - الذين بذهبون طوعا إلى العمل -أن يخرجوا للعب ونهددهم، هم الآمنون في دورهم وتحت أغطيتهم، بما يهددنا نحن في الواقع: الحية والعقرب!
    وهناك بدايات أخرى، لها حكايات، فإلى الحلقة المقبلة.

    أبنود كلها تحت الجامع
    وابتدت الأسياخ تنزل من ع الدكاكين
    رجَّال عرقانة..
    وغرقانة سراويلها ورقابيها طين
    عَمَّال تتكلم بحماس وتظاظي
    والعياييل لسه ما نامت
    وولاد لسه راجعين من فوق
    اللي بفاس
    واللي بزنبيل
    الأبنودي ـ أحمد سماعين
    يا حضرات المستمعين..
    من قبل ما اقص عليكم قصة هذا الأحمد سماعين
    أحب أنبهكوا لبعض التفاصيل
    فده راجل مش مشهور
    أحمد سماعين فلاح مصري أبا عن جد
    بسيط.. وأمير
    غني.. وفقير
    قلبه ف لحظة حجر..
    وف نفس اللحظة حرير
    قضى نص حياته وسط القنايات والطين
    والنص التاني..
    بيلعب «سيجة» أو يتفرج والا يغني في الافراح
    أو ينعس تحت كافورة في الضُهر
    الأبنودي ـ أحمد سماعين
    أنا طبعا مش باوعظ..
    أنا باتكلم عن عصفور إنسان..
    يعرف ان الجرن عرق..
    فيغني للأجران..
    اللي حصدها الإنسان..
    تنبسط الناس.. تبتسم.. تضحك ويقول الواحد:
    نفسي ازرع مليون فدان
    ينزل في الميه الساقعة لحد الركبة تحت شادوف..
    ويغني معايا واتعلم منه أغانيه
    عن زارع معروف بتخونه ظروف
    وعن الطير اللي بعد ما بيلوف.. بيلوف..
    وعن الجمل الحمَّال والجمَّال العلة
    أتعلم منه وأغني معاه..
    الأرض تفيض حب وغلة
    أسلِّيه
    واتسلى
    الأبنودي ـ من عصفور الريف
    /بعد التحية والسلام
    الأبنودي - أحمد سماعين

    مع محمود درويش

    مع محمد حسنين هيكل

    الابنودي يغن
    وبأذن الله
    ونلتقى مع جزء آخر
    من مسيرة شاعرنا الكبير
    عبد الرحمن الابنودى
يعمل...
X