إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

رواية الفدية - بقلم ( نبيه إسكندر الحسن )

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رواية الفدية - بقلم ( نبيه إسكندر الحسن )

    رواية الفدية -
    بقلم ( نبيه إسكندر الحسن )
    الفصل الأول

    تساءل الأهل:
    - لماذا لم يعد عقل .
    حين انتهت الحرب ، راجعوا سجلات أسماء الشهداء مرات ومرات ...ذهبت عاشقة إلى الموقع .دخلت مكتب قائد الموقع ،وعدها :
    لا بد سنعرف أخباره في الأيّام القادمة .
    أرجوك ...الصدمة أقل وطأة من الإنهيار .
    أنت شجاعة يا عاشقة .
    أريد الصراحة .
    سجل عنوانها ووعدها بالمساعدة ،أغلقت الباب خلفها ، دلفت إلى الشارع ، شيعها قائد الموقع من خلال النافذة وسرّ لنفسه : " يا إلهي !. كأنها الخنساء " !.
    عبرت عاشقة شوارعا تعج بريح صحراوية ،هنا على ضفاف بردى المنساب كخيط حريري ،كانت تتأبط ذراع " عقل " الذي عايشها بعمر الورد .رحلت بعيدا ، سمعت ضجيج الحياة ، تنشر حولها رئحة شجر الصفصاف ،رفرفت أحلامها كعصافير الصباح ،تؤدي ترتيل تسمع أصداءها شجيرات الياسمين والورد الشامي ، خلصها من توتر شديد :
    - أحببتك يا عقل .رباه لماذا الحروب ؟. نحن لسنا من هوات الحرب ، ولا نؤمن بالأعتداء على الغير ، لكن العدو احتل أرصنا ، ونحن ندافع عن الكرامة .
    تذكرت قول عقل :
    - إذا قاومنا العدو نضع حد لكل من يرهب الشعب .
    2
    كانت خيوط حرير البوح تلملم أطرافها وهو يقبض على كفها حين نهضت الشمس لتمشط بأهدابها أغصان شجر اللوز ، ونجمة ترقص على يبادر القرية حتى أفول القمر ،جاشت في خلايا دماغه الذكريات قالت نجمة :
    - عليك أن تكون شجاعا .
    غادر القرية في جو مسكون بالرعب ،سافر إلى المدينة بعد العطلة الأسبوعية :
    - الفحص على الأبواب .
    قرر أن يدخل المدرسة الحربية بعد الأمتحانات ، عبر شارع القوتلي. كان يقف على الرصيف المقابل لكراج بالقيه ثمة معركة أمام سينما " اوبرا " بين أحزاب متناحرة ،سأله أحدهم :
    - أين هويتك ؟.
    بحث في خلايا عقله ليجد المبررات ...كيف يخبرهم أنه نسي هويته عند نجمة لا يستطيع ذلك خوفا من الفضيحة ، شعر بحيرة شلت لسانه ، كانت العيون تتقلق بشفتيه ،ولتسمع آذانهم اعترافه ، برق جواب في رأسه :
    - عند مدير المدرسة .
    -علام ؟.
    - الفحص على الأبواب ، وثمة التباس في النسبة .
    - دلنا عليه .
    - لا أعرف عنوانه .
    تبدلت رؤيته للأشياء ،سرّلذاته:" من المستبعد أن يكون الأمرمصادفة هبت في داخله رياح ،كم تمنى لو لم يغادر القرية وظل مع نجمة لكان تخلص من هذا المأزق ،صفعه الرجل بيد قوية :
    - اعترف .
    - قلت الصدق .
    - حسنا .أنت منهم .
    كان " نمر " يتخذ مكاناً قريباً من جنوده ،يقف كحلم نبثق من ظلمة ليل أرتعش بأغاني القبرات ، حاملاً في يده منظاراً ، ينعش صدره هديل المام ، حلم في موهن من الليل بالعودة إلى القنيطرة ، كان في نشوة آلامه مستغرقا في تأملات مبهمة ، فقال لنفسه :" ستيحقق الحلم خلال في الأيّام قادمة ".
    نظر إلى الدشمة القابعة على تلّ في الخطوط الأمامية ،دشمة رمادية مموّهة بأغصان شجر . نظيفة ومرتبة أيضاً . و ثمة كوّة تطل على الخط النار ، لا تراها إلا العين الخبيرة ، يحس المرء في تخطيطها بفكرة واعية مبتكرة . و هندسة رجل خبير في الأمور العسكرية . تحيط بها غابة من السنديان ، تنتهي إلى ارض جرداء . تتخللها أسلاك شائكة ، و خنادق متعرجة تصل إلى كافة فصائل الكتيبة ، و ثمة رؤوس تظهر لدقائق و تختفي تحسباً .
    اعتراه شعور غريب وما زال يقضي الساعات الطوال مع جنوده ، كان مصراً على أن يجنبهم من خطر داهم . وقف أمام الدشمة تعبا وراح يلاحق طائرة تهيم في سماء الخريف ، توارت في في وسط الغيم ، طرد النوم من عينيه إلى أن ترك النسيم رطوبته على جبينه حين لمعت النجوم في القبة المشربة بالسواد ، ورفرف النعاس على جفنيه ، راودته الغجرية " نجمة " في هدأة الليل وراحت ترقص معه في عزلة الليل ، تهيأ للرقص معها تناهى إليه نداء جرس الهاتف أيقظه من غفوة لم تدم طويلا .
    جلس في صمت الليل إلا من من صوت طلقات تئز من هنا وهناك تجفل منها طيور الحجل مذعورة ،وثمة عيون ثعالب متعبة تبحث عن طعام ، لفت أنتباهه النقنابل المضيئة تتهادى في عمق الجبهة كظم غيظه :
    - اللعنة.
    منذ طفولته كان يصغي إلى حديث جده حيث قال :
    - سقطت " طروادة " بتدبير " أوليس " حيله الحصان الخشبي .
    لم يكن يعرف ما تعني طروادة ولا حيلة الحصان الخشبي. لكنه مابرح يتخيلهما لإلى أن قفزت الفكرة إلى ذهنه , فأخذ يلعب في أزقة القرية الضيقة يمتطي حصان " طروادة ",يقلد الفرسان ،يحمل بيده ترساً صغيراً من الورق كتب عليه (فلسطين) . تسللت إلى نفسه كلمات معلم المدرسة :
    - احتل الصهاينة فلسطين.
    تذكر عودة " أوليس " إلى " ايثاكه " بمساعدة " أثينا "و استطاع أن ينتقم لزوجه " بنلوب " من الخطاب . أعاد مجد أهله .فكر جدياً بهذه القصة,أيقظته كأنفاس الربيع . فانبرى إلى عرض المكان . دلف إلى جوف المرصد ،تذكر وصية والدته ألا يفرط بحبة رمل:
    - لم تبق اللؤلؤ سجين الصدف .
    كان يثق بالمقاتلين ثقة كبيرة, يعرف شجاعتهم حق المعرفة.
    يرونه يجلسً القرفصاء ،يضع المنظار على عينيه ،يراقب تحركات العدو. رغم عويل العاصفة يرقص مع الأشجار مقلدا " نجمة " التي تفجر شعاعا في الظلمات ، يلوذ بالصمت عندما يرى طائرات الاستطلاع تجوب سماء الجبهة ،يصر على أسنانه بغية أن يخفف من توتره النفسي ,شعر بفرح كبير عندما تسقط قذائف الفدائيين على أهداف معادية يصرخ:
    حيّاكم الله...
    يحس في هذه السويعات ,كأنما أزيح عن صدره عبء ثقيل ، يلوذ بصمت عميق,يدخن سيجارة ,يتناول البندقية بيده يتفحصها ملياً يحدث نفسه :" لا شك سيعود عقل و ستضع عاشقة غلاماً" .
    لم يخف في طياته مخه الإحساس بالعودة إلى القنيطرة فقط و إنما يخفي شعوراً آخر ،أكثر قوة وحكمة,ينظر إليهم بعينين سوداويين ،والضيق يعلو وجهه ،لكن ثقته صلدة كصخرة الجولان:
    - نعم أيها الرفاق إن كل ما هو موجود في فلسطين من صنع أجدادنا ،عفواً إلا آلة الحرب المدّمرة فإنها من صنع النازية الجديدة .
    جلس على صخرة يعتريه الفرح داخلي برؤية وجوه لوحتها شمس الحصاد .
    انصرف كل منهم إلى مكانه وعيونهم معلقة في دشم العدو .
    أزفت ساعة النوم صعد إلى سريره بعد أن أوكل المهام إلى معاونه:
    - كن يقظا .
    - لا عليك .
    انسل تحت اللحاف ، ثبت عينيه على سقف الدشمة بدا كمثلث متساوي الضلعين ، كانت الرياح تصفر بشدة ،وكانت النجوم ترسل وميضها فوق قنن الجبال التي بدت كالحراب .أيقظه غناء الحجل قبل الفجر ، نهض " نمر " من حلم جميل . رأى " عقلاً " في القنيطرة يمسك بيد فتاة رائعة القوام ،يترقرق النور في عينيها يفجر أمواج الليل ، يقف ضمن حديقة متشابكة الأشجار ، تحميه من شمس حارقة أشجار.بصحبته رجل معروق اليدين ، تحلق فوق رؤوسهم عصافير تزقزق لنبلاج النور وفي منقيرها أغصان زيتون ،ونساء يلوحون بمناديلهم ويرقصن رقصات تضاهي رقص " نجمة " على إيقاع جديد .
    تطلع " عقل " إلى " نمر " أشار بإصبعه :
    - اسمع يا نمر سنلتقي قريباً .
    - حقا ؟.
    - بلى . هنا يكمن الجمال !..
    أيقظه الحلم من سبات ستة أعوام .جلس متكئاً على حافة السرير ، التفت حوله في شيء من الجذع . نظر من كوّة الخيمة ، أضاء البرق قبة السماء ، خرج إلى عمق الغابة في داخله أماني ضائعة ومن حوله عصافير تبحث عن وكناتها ، انطلق رذاذ الماء يصافح أشجار السنديان الباسقة ، و استمر يزرع المكان ذهاباً و إياباً ، تذكر أعز الناس على قلبه ،أدرك أنه بحاجة إلى أصدقائه . يمم وجهه شطر خيمة " ماجد " متلمساً طريقه بين الحفر ، وقف دون ضجة بجانب الخيمة تنبه إلى غناء شاعر يؤدي خدمة العلم ،عبارات اغتسلت بندى خيوط الفجر ، طفق يصغي إلى التراتيل التي أيقظت بلابل الصبح ،فانعكس على وجهه فيض من المشاعر فتقت في خلاياه ذكريات رائعة ، مع ضحكة أضاءت وجهه الأسمر .قال لنفسه :" يا لتلك الأيّام ما كان أجملها " !.
    كان الشاعر يغني كم يحلق في الفضاء :
    ( إلى متى يا شعب ..
    نرعى الهموم ..
    و الأرض تغتصب ؟!..
    إلى متى أشجارنا ..
    للنار تحتطب ؟!.. )
    كانت العصافير تبسط أجنحتها تردد تنهدات الشاعر ،كان يوماً من أيّام اخريف القارس ،أزدحم المكان بالجنود فانسربت إلى قلوبهم فرحة راعشة ،تطلع " نمر " بذهول إلى المقاتلين وهاجمه الحنين لرؤية عقل ،كان كل شيء هادئا إلا من غناء الشاعر ، سار بحذر حتى أصبح على مقربة من خيمة " ماجد " .وقع بصره على الشاعر حدق فيه بعينين صافيتين ،كان الشاعر شديد الطيبة ذا عقلية رفيعة :
    - يا إلهي !. ما أروعك !.
    تنفس " نمر " الهواء بقوة كأنه تخلص من عبء هائل لا يستطيع أن يعبر عن مدى سعادته .
    وقف " ماجد " مرحباً:
    - بحق السماء ما رأيك بالشاعر !.
    - لقد أطربنا.
    انتعش صدره بالأمل ، تبدلت رؤيته للأشياء ، لم يستطع أن يعبر عن شعوره المفاجئ بأية كلمات وجد نفسه يشد على يد " نمر " بحزم ، ثم نظر إلى " دياب " وقال :
    - أليس الأفضل أن نرجئ الصيانة إلى غدٍ ؟!..
    هزّ " دياب " رأسه قائلاً :
    - لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد .
    ارتسمت علامات الفرح على وجه الشاعر ، و هبطت عليه فكرة عظيمة ، فاقترب من " نمر" و قال :
    - ما رأيك بالغناء سيدي ؟.
    بحث " نمر " في خلايا عقله و رد :
    - أجمل من جميل .
    كان " نمر " يعرف كل هذه الطقوس ، هيئته تضفي عليه مسحة من النضج ،احس باختناق و نوبة سعال سأله ماجد :
    - أتكون مصاب بأذى البرد ؟.
    أحس بألم يعقب ألما حتى أصبح لا يستطيع الوقوف على قدميه ، يحس رغبة جامحة أن يثني على غناء الشاعر فاكتسى صوته لهجة رقيقة . يتبصر في ذات الشاعر قبل أن يفوت الأوان و قال :
    - غناؤك مدهش ؟..
    - قد تكون على حق .
    هبّ " دياب " يسعى في كل الجهات ، حتى وجد عبوة فارغة و عاد ليقدمها إلى "نمر " :
    - تفضل .
    طال سعال " نمر " لدقائق . أطبق الصمت برهة . اخترق الشاعر جدار الصمت:
    - ما كان علينا أن نصبر حتى الآن !..
    أجاب " نمر " :
    - ما عنيت م ؟..
    - ما زالت أرضنا سليبة .
    - جئت لأسألكم عن ذلك .
    وقع الكلام على مسمع " ماجد " كشرار على هشيم إبّان يوم قائظ بحث في خلايا عقله ليجد الأفكار ، بدا له أن الأمر ينطوي على أمر ما .
    تناهى إلى سمعه صدى طفولته بين حقول القمح ،التمعت عيناه و بدت له الخطوط الأمامية كأنها عالم جديد أخذ مقعده :
    تطلع إلى خيمته بشوق كبير، مرت ست سنوات ، كأنها حلم عابر ، تضج بالذكريات ، لاحت نظرة خوف على محياه.حين تذكر يوم الخامس من حزيران .
    هزّ رأسه .
    بدت له الحقول كأنها في مجرة آخرى حين كانت " عاشقة " تميل بالمنجل على سوق القمح احمر من كثرة ما حصدت . لاحت من بعيد كأنها حلم رائع ،نهض وتقدم بتمهل في صمت رابعة الهار ،ليستقبل " عاشقة " العائدة من الحقل ، كانت بنيتها المتينة تُضفي عليها مسحة من النضج رقص قلبه طربا حين سألته :
    - حقاً ستتطوع في الجيش ؟.
    - أجل ..
    - لنحتفل بهذه المناسبة .
    - بكل سرور .
    - إن هذا لشرف عظيم لنا .
    بعد هنيهة من الصمت ، بحث " ماجد " في خلايا عقله ليجد الأفكار و برقت عيناه بحب التحدث ، و من خلال نظراتها ، اكتشف أنها فرحت بالخبر ، رفرف الأمل على وجهه فبدت تحمل وجها فلاحاً تسدل شعرها الأشقر الطويل فوق كتفيها تمازج احمرار وجهها الذي جعل عينيها تبدوان مثل بحر في يوم هادئ . نظر إليها بإعجاب عميق . دغدغته الذكريات تحدث مع ذاته : ( لا بد أن أحدثهم ) . أشعل " ماجد " سيجارة و قال :
    - من سيسمع قصة غرام .
    أجاب نمر :
    - تفضل .
    - نلت الثانوية العامة في ذلك الزمن الصعب و كان لديّ رغبة جامحة في أن ادخل الكلية الحربية . مثل أي شاب يعشق الأرض و الينابيع ، و كان " عقل " في بزته العسكرية من الضباط البارزين ، أتيه إعجاباً به ، فتأثرت به كثيراً و أعتبره أعظم ضابط سألته :
    - هل أستطيع التطوع .
    - نم يمكنك ذلك .
    - أثق بنصيحتك .
    - هل لديك فكرة عن ذلك .
    - لا .
    - اترك الامر حتى تنال الشهادة .
    قرر ماجد منذ ذلك اليوم أن يبحر في عالم السياسة وأدرك أن كل شيء يجب أن يسير على ما يرام ، رغم أن الريح قد تحمل الثلج إلى عالم الورد وربما كان ذات الشعور الذي كنت يحمله في طفولتي . قبل أن يغادر القرية ربت والده على كتفه و قال :
    - أذهب في راعية الله ،ولتكن كفؤاً يا ماجد .
    أجبته :
    - سأكون حسب ظنك .
    أحس " ماجد " أن شيئاً ينفذ إلى أحشائه ، فكرّ جدياً في قريته ، حمله التفكير إلى " نجمة " الغجرية ، رأى القرية ترقص و كل ما فيها يرقص احتفاء بـ " نجمة "تسللت إلى نفسه قصة أهل القرية ، يتدفقون إلى بيدر المختار تحت ضوء القمر . حيث تقام الرقصات، تؤديها الغجرية " نجمة" و أية نجمة !؟.. إنها اسم على مسمى .( بدت القرية في ذلك المساء المقمر ، أشبه ببحر بلا حدود يستحم بضوء القمر ، و بدت الراقصة كنجمة السماء مقارنة مع صبايا القرية ، وأمامها رجل في عقده الرابع يتأبط طبلاً و يقرعه بحنون غريب و " نجمة " ترقص و تهز أردافها بعنف حتى بدا كل ما فيها يرقص حتى أجزائها السبعة . و قبل أن تصل ذروة الرقص . راح " المختار" يلاحقها بنظراته ، سربله الفرح ، و فجأة ، قفز شيء إلى عقله ، و تابع رقصه دون توقف واضعاً يده على كتف " نجمة " و ثانية طوق خصرها الأهيف ومن تعبير الفرح المرتسم على وجهه ، ذلك التعبير الذي ينم عن أمر مبيت راح يرقص على رؤوس أصابعه السبعة ، و يدور حولها بحرص شديد ، بغية أن يبعد شباب القرية عن مرسح الرقص ، ظهر على وجه " نجمة " قلقاً ، و شعرت بأنه يريد أبعادها عن عيون شبان القرية ، يتعمد الحصول على شيء ما من " نجمة " . و أخذت "نجمة " ترقص بعنف كأنما لم ترقص طيلة حياتها . فاستدرت إلى " نجمة " تورد وجهي واختلج شيء في صدري ، و شعرت بجفاف في حلقي ، و رحت اختلس النظرات من عينيها رغبة مني أن أبيّن لها بأن " المختار " لم يجد فن الرقص والطبال لم يجد قرع الطبل أيضاً لكن " المختار " اخذ يهزّ كتفيه ليوهمها بأنه يجيد الرقص ، مما جعلني أصارخ :
    - محال .
    سمعت " نجمة " صوتي ، هرعت لتقف أمامي و بحركة لاشعورية وجدت أصابعي تلامس شعرها المبلول بندى الفجر البكر ليضفي عليها مظهر راقصة غجرية ، شعرت بالدفء ، رغم ريح الليل البارد ، استقرت عيناها على وجهي و قالت :
    - ألم ترقص ؟
    - لم أفهم قصدك ؟
    - أتحسب الرقص لعباً ؟!.
    - ما أعجب هذه المصادفة ؟!..
    - هل تفهم حقيقة مشاعري ؟.
    - ما أجملك !..
    شرد " ماجد " فاكتشف " نمر " أنه رحل بأفكاره بعيداً فالتفت نحوه :
    - إيه .. أين شردت يا صديقي ؟
    - لا شيء .. هل لديك أية فكرة عن الغجر ؟.
    - ماذا تعني ؟..
    - أليست الغجرية عروس الطبيعة ؟
    - بكل تأكيد .
    هزّ " نمر " رأسه ، عض شفته ، فانفرجت أساريره ،حوّل بصره إلى الشاعر .. ليرد على سؤاله قبل أن يفوت الأوان .
    ابتسم " ماجد " حين دغدغته ذكرى الغجرية " نجمة " ،انسابت تطوف في خلايا الدماغ ،لم تستطع الرياح أن تمحو رقصات الغجرية من ذاكرته ، و ما زالت تعيش في كيانه أحلام يقظة . لكنه سرعان ما اتجه إلى الشاعر و سأله :
    - ما العمل ؟
    - علينا أن نتحد .
    - كيف ؟.
    - تبدأ الوحدة من القاعدة .
    - لم أفهم .
    - إذا أخذ الشعب الحرية .
    - ماذا عن صراعنا مع إسرائيل .
    - ليس هذا الصراع بالسهل .
    - ما قصدك .
    - صراع مصيري على الوجود ، و ليس نزاعاً على الحدود ؟
    هزّ نمر رأسه :
    - أصبت .
    - استطاعت " إسرائيل " إنجاز هدفها المرحلي وأقامت كيانها الاستيطاني في "فلسطين" .الصراع على المسار العسكري والثقافي ، والاقتصادي ، صراعات محوره الإنسان و التراث .
    وجد " ماجد " نفسه مصغياً إلى حديث الشاعر يستمع إليه بشغف و تبرعمت الظلمات على شفتي الشاعر حين سأله " ماجد " :
    - كيف وقع اختيار اليهود على فلسطين ؟
    - أدرك " بونابرت " مقدار الاعتماد على اليهود . حيث وقفوا إلى جانب الفرس ضد البابليين ، بغية التآمر على إسقاط الدولة البابلية .لما وجدوا القوة لصالح الأغريق وقفوا ضد الفرس وحين آلت القوة للرومان وقفوا ضد الأغريق على مبدأ أنهم مع الأقوى .
    نظر الشاعر إلى " ماجد " الذي انتحى زاوية من الخيمة و قبع فيها و ضربات قلبه أصبحت كضربات الطبل و الغجرية ترقص و ترقص ،انبثقت الكلمات من أغواره و قال :
    يجب أن لا ننسى الإعلان عن قيام الكيان الصهيوني ، و تحضير مخطط منظم ؟. أي شعار المشروع التوازني ، الذي استمر زهاء خمسين عاماً . افصح جهاراً عن صك ارثي خرافي ..كان الليل يخفي في طياته عدوان 1967 ، و مرارة فاجعة حرب 1948 فهجر اليمام في موهن من الليل ، وليس عبثاً حرب بور سعيد عام 1956 كان العدوان مذهلاً. فتحول ميزان القوى لحساب إسرائيل ، انطفئ آخر شعاع بسبب إعطاء صك ميلادها من واشنطن .
    كانت السماء خطيبة بشفق الغروب ،كان " نمر " يصغي إلى حديث الشاعر ،أحسّ بالخجل ،سرّ لنفسه:" النحلة تأخذ الشهد من الأزهار ".
    فقرر أن يرقص مع "نجمة" رغم شدة العاصفة . كان قلقه يزداد لحظة تلو الأخرى . فهم فحوى الحديث وقف إجلالاً أمام النجوم الصامتة رغبة أن يقص عليهم قصته . و أي صنف من الرجال يكون ، لكنه لم يجرؤ على ذلك خوفاً من أن يقطع عليهم الانسياب في الحوار . جذبت جسده رعشة ، و رقص قلبه طرباً ، و راح يثني في داخله على غناء " الشاعر " و حين ومضت النجوم ، و تعالت أغاريد الغروب حوّل بصره يساراً ، رأى الأشجار ترقص طرباً . كأنها تخشى أن تتوقف عن الرقص يوماً،و أن تضيع الألحان ، قبل أن يتوقف الشاعر عن الحديث . نظر " نمر" إليه، كان لديه إحساس أن الفضاء حوله مستغرق في الصمت فقال :
    - لا أحب أن تصمت .
    - علام ؟
    - أنسيت أن ماجداً يشاطرنا الآراء .
    تقدم بتمهل في صمت المساء المهيب و قال:
    - إذا كان غنائي يطرب ماجداً ..
    أجابه ماجد :
    - ماجد فقط !؟
    - لأجلكم سأغنى حتى طلوع الفجر .
    أحس " نمر " بعويل العاصفة ، فترنحت ياسمينة تتسلق جدار الخيمة ، رقص قلبه كجداول متدفقة و شعر بإحساس غريب كأن ذكريات قريبة ، تنهّد :
    - غناؤك ذكرّني بنجمة .
    حرك الشاعر رأسه:
    - من تكون نجمة ؟
    - نجمة الغجرية !. ألم تعرفها ؟
    - أجل .. أعرف الغجر عن قرب .
    انسربت إلى قلب " ماجد " فرحة راعشة:
    - ينادونها نجمة من لا يعرفها ، هبطت من الجبل أو لعلها من بنات الأساطير ، حورية ترتدي زاهية خلالخيلها من نحاس موشاة بالفضة ، تخطر فتسرق الالباب لها وشم يقسم الشفة السفلى إلى نصفين ، تفرد ذراعها فتحضن النسيم ، جاءت لترقص بعرس " نادر " انتشر حديث عرسه على كل لسان خاطب الأفئدة ،تجملت النساء والشباب ، وشتمت " أمين " فألب ضد العريس ، يحذرهم من حضور العرس :
    - لا تفرحوا في عرسه أنه حليف الشيطان .
    كانت أغمار القمح على البيادر ، لم يكن الموسم مثل المواسم السابق ، ولكنه موسم مع انتهائه تقوم الأعراس ، الزواج سنة من سنن الحياة ،تطيب فيه الأفراح ، وتنحر الضحايا ، ويرقص الشباب مع الصبايا ، فيدغدغ الأمل مشاعرهم وأحلامهم ، فمن لم يتزوج في هذا العام يأخذ الصدارة في العام القادم توافد الناس منذ الصباح من القرى المجاورة لحضور العرس ومشاهدة نجمة الغجرية . ما إن أسدل المساء وشاحه وخف وطأة القيظ حتى تحلق الناس حول عمود كان عبارة عن جذع شجرة سنديان علقت عليه الفوانيس ، كانت الأضواء تصل إلى إلى أطراف القرية ، تزداد سطوعا كل ما مدلهم الليل في مثل هذه السويعات تبدأ حلقات الدبكة على أنغام المجوز وتلعلع الزغاريد مع وقع الأقدام فينادي الشباب :
    - أين تجمة .
    أحس من نظرات " نمر " أن في كنهه عشرات الأسئلة ، و ارتقى بفكره بعيداً . الليل يخفي في طياته انبثاق النور ، و لابدّ أنه سيكون حزمة نور ،ظواهره تدل على أنه قاس كثيراً ، يعيش بأقل مصروف ممكن ، يقتصد الأفكار و الحركات و الكلمات . و رغم ذلك ما زال يقف صامداً في وجه الريح النكباء ، رغم السنوات العجاف ، قال :
    - أرى نمراً على غير عادته !. لم يقل لنا شيئاً .
    - ما قصدك ؟..
    - عن الغجرية نجمة !
    انبثقت الكلمات من أغوار ذات " نمر " ، و ارتقى بفكره بعيدا عن السفاسف :
    - إن هناك أرضاً محتلة ، و غجرية يلاحقها المختار .
    - أعرف .
    تناهى إلى سمعه صدى طفولته و هو يغز السير في الحقول الناضجة بالسنابل ، تناول لفافة ، أشعلها عبّ نفساً عميقاً مجّ الدخان من فيه ، ارتفعت حلقات دائرية كالقباب التي رحل عنها عنوة من قبل رجال المختار في حرب النكسة الحزيراني ، لأن الغجرية كانت جزلة وهي ترقص أمامه . قوة صمّاء تنبعث منها ، بدت له فاتنة و أحس بخيبة شديدة حين دغدغته أفكار ملاحقة المختار للغجرية ، فحدّث نفسه ( هي التي أحبها قلبي ) . إلى الآن لم اعرف ما ينبغي أن أفعل . صوّب نظره إلى الشاعر وسأله :
    - ما رأيك بمجلس الأمن ، كمنظمة دولية ،هل تنفذ القرارات ؟.
    - أي قرار تقصد ؟
    - القرارات التي تؤكد حقنا .
    - نعم ثمة قرارات قد نفذت لكن على الدول الضعيفة .
    مرّ أمام ناظر " نمر " شريط من صور ملعب طفولته حين كان يغز السير في دروب القرية الوادعة .حيث كان الأفندي يلاحق الغجرية و رجاله يقفون على مفترق الطرق ،فغروا أفواههم ينظرون إلى " نجمة " ، تلك الفتاة التي بدت كأنها عريشة يجاذبها نسيم الصيف ،يوم ذاك خرجت وحيدة إلى حقول القرية ،ثمة من يتبعها في الظلمة ،انتحت زاوية من الحقل ،ثمة أشباح تتوارى في الظل أحست بضربات قاسية ،تناهى إليها صراخ رجال الأفندي،همست :
    - اللعنة عليكم .
    عادت ذاكرتها تلك الصور لـ "نجمة " و هي ترقص في عناد . قرع الطبل يخرق الأشياء المبهمة . أحب " نمر " الرقصات و قرع الطبل يتعالى مع مساء حزين .ثم اتجه إلى الشاعر :
    - الطرف العربي مجزّأ ؟
    - يا لها من فلسفة .
    - فلسفة قد تكون لازمة ؟!.
    - أتقصد فلسفة السلام ؟
    - ربما .
    - ماذا تعني ؟
    - بصراحة ، لا سلام بين قوي و ضعيف .
    نظر الشاعر نحو " ماجد " استردّ طمأنينته :
    - لا بد سيطلع الفجر .
    ضحك " ماجد " :
    - أنت لطيف جداً ، فلنشرب نخب الفجر !.
    - أتقصد نخب نجمة ؟.
    - أجل ..
    ضجيج الحياة الصاخبة أعادت نمر إلى نجمة . من عادتها إلا تخرج من بيت المضيف حتى تدرك أن الناس يطالبون بحضورها مرحبين ومهلليين لوجودها ،كأنها ملكة لا تخرج بدون موكب ووصيفتين ، بعد أن يسبقها عازف المجوز من خلفه الصناج لينظمان حلاقات الدبكة على الإيقاع حتى يستقيم النغم يصرخ عازف الصنج :
    - هيا أجعلوا الأقدام تخبط الأرض لتخرج جنية سرحان .
    تنبثق نجمة في وسط الناس كآلهة تصنع المعاجز ، تشير إلى القيمة ،قبل أن تبدأ الرقص :
    - أين البطل ...أين من يشرب نخب نجمة ؟؟.
    تنظر إلى الرجال لتشعل نار الوجد بأغانيها ورقصاتها .
    كان عازف المجوز عجوزا أشيبا يرتدي شروالا رماديا ، يطوق خصره بمنديل طويل ينتهي بشراشيب ملونة ،بجانبه فتى متوسط القامة ،يتبختر كالطاووس ،له عينان ماكرتان يحمل طبقين من نحاس يضربهما في بعض بطريقة فنية وهو يدور في مكانه ، ويبدأن العزف على أنغام الدلعونة :
    ( على دلعونة... على دلعونة
    قطنك يا ضيعة... نجوم بهل الكون ).
    انبعثت الأغنية خجولة ،صرخ الزمار :
    - لا ...لا لم نتفق على ذلك - لتكن أصواتنا واحدة .
    - ( على دلعونا ...على دلعونا
    أكل مواسمنا ابن الملعون ) .
    - على الدبيكة رص الصفوف ...لنلتحم ...شدوا العزم .
    - شبوش للعريس ...شبوش للعروس .
    سأله ماجد :
    - أيه أين رحلت ؟.
    ابتسم كمن يريد أن يشاركوه المشهد :
    - لا شيء ...لا شيء .
    وتابع :
    - من يدري ما سيكون في الغد !..
    أجاب " دياب " :
    - أنا مع رأي نمر .
    رفرفت أحلامهم كعصافير الصباح و هي تغني مع دقات طبول الغجر في الأغوار المظلمة . وفجأة قال " ماجد " :
    - أرى أننا نحتاج إلى الراحة .
    غادر كل منهما الخيمة ساعياً إلى ضالته بعد أن استأذنا من الشاعر و صديقه . استلقى "دياب " على فراشه و اجف القلب و الفضاء حوله مستغرق في الصمت ، ليل حزين مظلم ، أحس بتعب شديد ، حدق بالجدران القماشية ، استرجع كل ما تفوّه به " ماجد " ، و بقيت صورة " نمر " ماثلة أمام ناظره ،تناهى إليه غناء الشاعر شنّف أذنيه ، تقلّب فوق السرير ، أحس بداخله ناراً متأججة و ضربات قاسية ، هذه الاقانيم ايقظت في قلبه حنيناً ،فاستعاد قلعة حمص الذي يطل عليها صرح شاعر" بني حمدان " فبدت كغجرية تستحم بماء العاصي تحت شعاع القمر ، انسربت إلى قلبه فرحة راعشة ، كان الهواء العاديّ يجاذب شعر " رقية " ، وهي ترتعش خجلاً وزهواً ، كياسمينة تتسلق جدراناً من الحجر الأسود ، كانت رقية جالسة في نشوة أحلامها تحت أشجار الصفصاف الباسقة ، كان صوتها متعباً منهمكة بتقليم شجيرات الورد ، لاحت له من بعيد كأنها حلم رائع . همس في أذنها و سألها :
    - ماذا تصنعين يا رقية ؟
    - اسقي الورد .
    رقص قلبه طرباً :
    - حقاً ؟..
    - طبعاً !.. أحب الورد ؟.
    غاصت في ألوان الورد آملة أن تحظى بزهرة بيضاء فريدة و عادت لتقف إجلالاً أمامه بعد أن تفحّصت الورد كله .قدمت له هدّية:
    - يشهد عليهما الجليل .
    كان النهر الجليل ينساب كأفعوان .مشط خضيب الشمس سنابل القمح ،و مازالت الجدران ترجع صدى همسات جنية النهر ،كانت نجمة المساء تلون بالوميض وشاح الأفق الفيروزي ، تأمل " سرحان " اللوحة ،تذكر جنيته ،صمت مليا سأل نفسه : " إلى أين أذهب في مثل هذه السويعات الخريفية " ؟.
    تبادر لذهنه جنية الطائي ،أشعل لفافة التبغ ،قذف العبوة من الكوّة ،مج الدخان ،شعر بضيق في صدره ،سعل بشدة ،أدرك أنه بحاجة للهواء ، دلف إلى الشارع دونما تردد ، حث خطاه صوب منعطف يفضي إلى البساتين ، وطئت قدماه ضفة النهر .جلس تحت شجرة ،أرسل بصره جنوبا لعله يحدد نبع هذا الجليل المنحدر من جبال الهرمل ،بدا أمام ناظره كأفعوان يتلوى تحت حبال الغروب ،يحمل ما بداخله إلى مسافات طويلة ،و يلقي التحية على أبناء القرى والمدن ،يستقبلونه بالترحاب ،يتعمدون من مائه عرفانا بالجميل للوفاء ، مما جعل العصافير و الفراشات تحذ حذوهم ،لم يدر سرحان كم من الحقب انصرمت ومازال هذا الجليل يترنم بين السهول والفجاج حتى إذ ما وصل إلى الجروف الرملية ، يلقي برأسه التعب بين زبد البحر فيحتضنه الموج كأمّ حنون. و قبل أن يخلد الطائي للنوم ،يقص على الأمواج الحكايات ،و لم ينس أن يقدم عشرات الهدايا للأعماق .
    وقف سرحان يتأمله ،ويصغي إلى سمفونية صامتة ، فأدرك أن كل من حوله يمثل دورا ف الحياة ،حدث نفسه : " هذا من إخراج محرك الكون ".
    لم يدر كيف انبثقت جنية اللجة ،لتؤدي دورها ،كانت تتهادى كملاك ،وطرف ثوبها الفيروزي يلامس سطح الماء ،أندهش حينما وضعته في الحقيقة :
    - إن البحر الذي أعان " زيوس " على اختطاف " أوربا " تشكل من الأنهر .
    أدرك عجزه .تصنع المعرفة :
    - لم تأت بجديد...
    - حسنا... يا صاح ...الذي لا تعرفه أن " أدونيس " جاب البحار بحثا عن شقيقته آلهة الجمال .
    - أعرف ذلك أيضا .
    هزّت رأسها حزنا ،وأدركت مدى جهله بالخفايا ، تركته يغوص في لجج التساؤلات لعله يتعلم كيف يكون مع جنية الطائي الذي جاد بكرمه على أبناء اليابسة ، لوحت بيدها :
    - وداعا يا مدعي المعرفة .
    أرسلت النجوم وميضا.اجتاحت الحيرة كيان سرحان ،لم يتوقع ما حصل ،صمت مليا ،أحس أن شيئا في رأسه يدفعه أن يحيك مخططا لاكتشاف ماهية الجنية التي لقبت باسمه ،أنب ذاته كيف ضاعت الفرصة ربما لن تتكرر فقال لذاته :" هاهي أفرديت .عيناها كوّتان في معبد " عشتار " فيهما يمامتان تهدلان في الهجير" .
    رحل بأفكاره بعيدا ،تبادر لذهنه " بجماليون " ،لكن ما الفائدة لقد تجاهلته ورحلت دونما كلمة وداع .
    حاول النوم ،لكن دون جدوى ، أدمن صداقة هذا الطائي المنحدر من رؤوس الجبال ،منذ طفولته يذرع ضفته ذهابا وإيابا كسمكة تجوب عباب الماء بحثا عن ضالتها .قفل أدراجه ، تعج في تجاعيد دماغه أسئلة ومقاييس جديدة ،ربما خسر معرفة المقاييس بسبب ادعائه المعرفة ، ولج الغرفة ،اندس تحت الشرشف ،دون أن ينزع ثيابه ،حدق في سقف الغرفة ،بدت الأعواد كالأنهر ،تخيل الآلهة تتهادى فوق الأمواج ،استرجع أسماء الآلهة البابلية ،و الفرعونية والإغريقية والرومانية فقال لذاته : " الآلهة ذاتها...أما الأسماء والأزمان مختلفة ".
    قالت :
    - الأحمر ، و الأبيض .
    - لاذت بجذع شجرة هرمة ، مثل سنونو أرادت أن تبني عشاً ، تسلل النعاس إلى جفنيه ، و راح يحلم و ينداح الحلم في ليل متشح بالسواد ، و ثمة نجمة مضيئة مغسولة بالمطر ، راودته " رقية " في صمت الليل ، تنادي ذاتها في مدى الدرب ، إلا أنها لم تطل المكوث في خيمته . فرفت كسنونو حائرة فوق رأسه :
    - اللون الأبيض يحتوي كل الألوان .
    - لكن نجمة ترقص لأجل الورد بغية أن تنجيه من غوائل الشتاء .
    استيقظ " دياب " قبل أن يتعالى صراخها حباً بـ " نجمة " كدوي رعد يتجاوب في مدى الدرب ،الخيام تضطرب بالريح .بدت السماء كالحة تنذر بهطول المطر ،المكان يئن أمام هبوب الريح ، ثمة أمواج من الضباب تلفع ذروة جبل الشيخ ،غابت خلفها لحيته البيضاء :
    - السلام عليك أيها الشيخ الجليل .
    أحس بقشعريرة تسري في جسده .بحث عن ضالته فلم يعثر عليها لم يعد يطيق المكوث في الخيمة ،تراءت إليه الأشياء في صمت الضباب المهيب . ضرب كفاً بكف:
    - سلام إليك يا رقية تبثك إياه نفسي الوالهة و قلبي الخافق و صدري الممتلئ بحبك . أبعثها على سبحات الخواطر إلى حماك الرفيع .
    تذكر " دياب " ذاك الصباح الخريفي ، عندما كانت " نجمة " هائمة بين النجوم . و كان على أمل اللقاء بـ " رقية " تحت شجرة صفصاف تشرش بالأرض والربيع من حوله مخضل بندى الفجر ، كان يبحث عن مكان ليبني لها معبداً .
    رأت " رقية " عينيه الشففتين اضطربت قليلاً :
    - ما من داع إلى معبد .
    - لا بد ! .
    - لنبني مصنعاً يحوي عشرات العمال .ونزرع حقولاً يجنيها عشرات الفلاحين .
    - لك ذلك .
    كان الضباب كثيفاً ،والحياة الصاخبة ،وقف على قدميه ،تنفس ملء صدره .والخريف يحتضر تحت وقع الريح الغضوب .هرع " دياب " إلى خيمة " ماجد "،أحس بلسعة برد قارس ،ولج الخيمة وقف أمام المدفأة ،نظر صامتاً ، عوت بنات أوى في أطراف المكان .
    استعاد " ماجد " مظهر الوقار ،شعر أن " دياب " يود مزيداً من الحماسة . أمضى شهوراً بعيدة عن " رقية ":
    - التعب باد عليك .
    - نحن بشر على كل حال .
    - ربما أضايقك ؟.
    - لا .. البرد .. البرد .
    توقف " ماجد " احمرّ أنفه :
    - هل سيهطل المطر ؟
    - ربما الثلج .
    - ماذا !؟.
    - راودتني رقية في الحلم عن نفسها و اخبرتني .. أن عصافير الصباح ترتيل في الأغوار المظلمة .
    جال " ماجد " بصره ، عجباً ، ضحك بصوت مرتفع و بذل جهداً ليفهمه أن الأحلام أحياناً تكون صادقة ،وللأحلام معنى إذا أراد المرء أن يعطيها حقها .
    تغير جو الخيمة منذ دخول " دياب " يكتم اصطكاك أسنانه من وقع البرد . نظر إلى الزوايا وقع بصره على إبريق قابع فوق طباخ غاز يتيم و قال :
    - هل تتلّطف بكأس من الشاي ، كم يلذّ للمرء أن يتناول كوباً في أثناء البرد .
    - حسنا ، لا بأس .
    أرهف أذنيه يتحدث بصوت منخفض ، لم يبذل أي جهد ليظهر أنه يمزح ،يعلم أنه محافظ على قواه ، لم يمض غير قليل من الوقت حتى دخل عليهما " نمر " مقطب الجبين شاحب الوجه . جلس على السرير بتراخ ، عبّ من لفافة التبغ نفسها الأخير . مجّ الدخان من خياشيمه متعرجاً كأودية الجولان . نظر إليهما بعينين ثابتتين دون أن يتفوه بكلمة .
    تأمّله ماجد أحس بأن وراءه أمراً ما . سأله :
    - ما وراءك ؟..
    - لا شيء ..
    - كيف ؟. و وجهك يكب صحن اللبن الرائب ؟
    - لا أعرف . استيقظت من حلم ، و كنت في منزلي في القنيطرة .
    - حقاً ؟..
    - ثمة شيء سيقع .
    - أفكارك غريبة .
    - أنت على حق .
    دخل الشاعر يرتدي بذة عسكرية ، انحسر الضباب قليلاً ، بدا وجهه مشرقاً ، خلع معطفه على عجل ،ابتسم :
    - حتى الطيور لم تغرد اليوم .
    - كيف عرفت ؟!..
    - لدي نفاذ بصيرة .
    - حقاً ؟.
    - وأهتم بطبائع البشر .
    - أتستقرئ الوجوه ؟
    - و لم لا ؟.
    سمع " دياب " وقع أقدام ، دخل عليهم ابن " الدحبيش " يرتدي بذة أنيقة و بين أصابعه ( سيجار ) شاب ذو شارب رفيع ،تنفس من فمه يلهث قليلاً ، نظر إلى وجوه لوحتها شمس الحصاد نظرات غير معبرة ،ثم نظر إلى ساعته كان عقرب الثواني يرقص بجنون ، مع بسمة ثعلبية سأل الشاعر قائلاً :
    - ما من داع ٍ يثير الخوف .
    - أأنت تدري بمّا أتحدث ؟!
    - أجل .. أعرف .
    ضحك ماجد :
    - أعرفكم بالضابط الجديد .
    تلجلج ابن " الدحبيش " قليلاً ثم أضاف بصوت هادئ فيه قليل من السخرية :
    - لنتحاور .
    هيئة الضابط المجند أعادت " بنمر " إلى أيّام القرية ودبكة الرجال ، ما إن تستقيم أغاني الدلعونة مع الإيقاع حتى تنبثق " نجمة " وعلى كتفها منديلا خمريا يتدلى منه شراشيب ثقيلة تلامس تنورة منعددة الألوان ، ويتدلى من طرفي إذنيها قرطان يلمعان ،وعيناها كحيلتين ويحمل صدرها فرخي حمام يرقصان مع الشابوش :
    - لجاني المحصول .
    تتابع " نجمة " مشيتها المغناج ، كان الحداد أبو قاهر يترقب مرورها ، تذكر قول جده :
    - من يقرص غجرية يفلح في شحذ الخناجر .
    اندفع صوبها ، تشابكت العيون دفع أصابعه وقرصها في فخذها .صرخت :
    - اللعنة ي ابن أمك .
    قهقه الشباب فدوت بمسمع الشيوخ ، تذكر معظمهم أيّام الشباب ، فتعالى الهرج ولعلعت الزغاريد ، طلب العريس من الحضور الصمت .
    قالوا :
    - هذه قريتنا وتلك نجمتكم .
    نادت نجمة وهي تشير بيدها :
    - من يشرب نخب القرية ؟.
    زغردت النسوة .
    قالت نجمة :
    - من يرفع القيمة ؟.
    لهو البيعة ...لهو البيعة .
    كان الشاعر يعيش حياة التقشف مثله مثل مئات الملايين من الجائعين لأن أسلحة المحتال مؤذية من جشعين مصاصي دماء الشعوب . يضعون خططاً مجرمة لإهلاك البائسين. تلقف الشاعر عبارات ابن" الدحبيش" و قال محدثاً ذاته ( إنك سرطان! ).
    نهاية الحوار قال ابن " الدحبيش " :
    - هل مددت إلي يدك ؟
    - أنت ثري .
    - و أنت رجل فقير .
    - لا .. أنا لست فقيراً . لكن المهم كيف حصلت على الثروة ؟.
    - ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ).
    - نعم يرزق و لم يحلل سرقة اللقمة من أفواه .
    - يعني أنا سارق ؟
    - اسأل مفيدة كيف قضى والد عقل ؟.
    - و تعرف اسم أمي أيضاً ؟!
    أحدثت المناقشة جواً حاراً ، انتهت بانصراف ابن الدحبيش.
    ضحك نمر :
    - ذلك أمر حسناً .
    اختفت الابتسامات من الوجوه ، فأدرك " نمر " ما يتعين فعله ، دائم التفكير يعيش لهدف ، يدرك ما هي الحرب ، نظر في وجوههم ، التمعت عيناه ،ابتسم ضاحكاً ، أحس بأن الموقع بدا عالماً جديداً . ربت على كتف الشاعر :
    - سأخبركم من يكون الدحبيش .
    هزّ الشاعر رأسه و لاح ارتياح على محياه . فهو شديد الطيبة بدا له أن الأمر ينطوي على مشكلة .
    استأذن من " ماجد " :
    - تفضل .
    ذات يوم من أيّام الشتاء القارس مضيت في شوارع " القنيطرة " أبحث عن منزل "عقل " ، كان الشارع مقفراً و كنت أفكر في متاعبي المالية ،دخلت عليها استقبلتني استقبالاً حاراً اكتسى وجهها مسحة طيبة ، و راحت تسرع لتطيّب خاطري . أمّ " عقل " أرملة في عقدها الخامس . فلاحة شديدة الطيبة ،وجهها متألق الاحمرار كجذوة بسخاء قدمت لي الطعام .
    - الأكل بمقدار المحبة .
    - شكرا .
    كانت النار تئز في جوف مدفأة حطب تقبع في وسط البيت ،كانت البيوت موشحة بالغسق ، مع لذة الحديث:
    - أرجوك يا خالة قصي علي قصة زوجك !.
    جمدت في بداية الأمر كمن اصيب بشلل ،حدقت إلى وجهي طويلاً ، شعرت بعاطفة تنبثق من نفسها ،أنبأني شعوري بأنها لم تتفوه بكلمة شعرت بمزيد من الاكتئاب ( لعلني ازعجتها بالسؤال) .
    خرجت لدقائق وعادت تحمل الشاي ،كان شاياً لذيذاً .تنهدت بعمق:
    - كان أبو عقل على معرفة بحال الفلاحين الفقراء .
    هززت رأسي :
    - نعم .
    - غالب الظن أكثرهم يموتون جوعاً.
    نظرت إلى الجدار :
    - أنظر إلى صورته يا حسرتي .
    - علام .اقحم نفسه في قضايا العمال و الفلاحين ؟.
    - ليقول لصاحب المعمل ( أعط كل عامل حقه ).
    أطرقت مليا ثم رفعت رأسها :
    - ما زلت اذكر حين : - اسمعي يا أمّ عقل : - إن النحل يتقاسم مؤونته بالتساوي كأنها تطبق الانسانية بغريزته .
    - نعم النحل يوازي معملاً كيمائياً ، ويمنح الدواء و الغذاء للإنسان .كانت بنيتها المتينة تضفي عليها مسحة من النضج :
    - هذا يدل على أنه كان ذكياً .
    عقّبت بحماس :
    - كان شعلة متقدة من الذكاء يحث العمال على المطالبة بحقوقهم ، من زيادة أجور ، و ضمان صحي و ضمان اجتماعي . يعمل في معمل الدحبيش كمراقب على العمال ، اشتغل عشرين عاماً .
    - ما الذي حمله على العمل عند الدحبيش .ليبطش به ؟!
    - يعتبر نفسه مكلفاً بفضح أساليبه وتعريته أمام العمال .
    - أستبعد بأن يكون الأمر صدفة .
    حول نمر وجهه إلى كوّة الدشمة ،رحل بعيدا يستعيد حركات نجمة وغنائها ، من كل مقام أغنية ومن كل بحر إيقاع جنية سرحان رافقتني :
    - من البطل من يدافع عن العروسين ؟.
    صبت من الدن خمرا مزجته بالماء ، بدا بلون الثلج رفعت الكأس :
    - لا يشربه إلا السبع .
    هزت العبارات النفوس وبدأ الهمس بين الحضور .
    هبت رياح ثلجية عاصفة تلسع جلد الإنسان ،دخل " مطاوع " إلى مكتب " الدحبيش " مقطباً حاجبيه ،رحل محدقاً في الحائط ،كان مرتعشاً غير واثق من نفسه ،أجهد نفسه ليعود إلى طبيعته :
    - يا أفندي سؤال من فضلك .
    - تكلم .
    - ماذا يعني تأميم المعمل ؟!
    تنفس " الدحبيش " مثل جمل هائج في الصحراء ، سأله :
    - و لك ... من أين اتيت بهذا الكلام .
    - مجرد سؤال .
    صرخ الدحبيش :
    - قل ما وراءك .
    بادله نظرات مستفسرة ،دبت الحرارة حتى نفذت إلى رأسه ،اخبره " مطاوع " :
    - سمعت الشاعة من العمال .
    سأله :
    - ممن بالذات ؟.
    - من أبي عقل .
    كانت تنتشر في أرجاء المعمل رائحة حلوة منبعثة من شجرات الورد الجوري . رحل "الدحبيش " بفكره بعيداً ، لم يستطع أن يعبر عن شعوره المفاجئ بأية كلمة ، لم يدر كيف ضرب الطاولة بيده ، و راح يذرع المكتب ذهاباً و إياباً ، قفزت فكرة شيطانية إلى ذهنه ، تنهد بغيظ ،غيّر جلسته ،طلب من " مطاوع " :
    - جيء بابي عقل فوراً .
    تهلل وجه " مطاوع " بالفرح حين وقع على سمعه كلام " الدحبيش" هبط درجات السلم،اتجه إلى المعمل ،هبطت عليه فكرة أموال طائلة ستغدق عليه ،وقف أمام أبي " عقل " :
    - يجب حضورك إلى مكتب الدحبيش فورا .
    انصرف إلى الندوة تناول كمية كبيرة من الطعام على حساب " الدحبيش " .
    وقف أبو عقل هنيهة يسأل نفسه:"الأمر غير عادي ،لكن ربما يكون محض مصادفة ".
    بدأت همساته تنطلق دون ضجة ،تاه في تفكيره ،صوب نظراته إلى مكتب الدحبيش ،أشعل لفافة مجّ نفساً عميقاً ، يمم وجهه شطر المكتب ، سرح في صدى كلمات مطاوع ،كم تمنى لو كان مع أمّ " عقل "! ، لتخلص من توتره الشديد ،لم يشعر بالمسافة ولج المكتب أستقبله "الدحبيش " ،بترحيب منقطع النظير :
    - تفضل .
    جلس أبو عقل حدث نفسه : ( يا الهي ما وراء هذا الترحيب ) ؟! .
    رفع بصره :
    - شكراً .
    كان وجه أبي " عقل " نحيلاً ، عيناه تنمّان عن ذكاء حاد ، وسيم جريء ، يفكر بإرهاق ، مخلص للناس ، ثاقب الرأي .ابتسم الدحبيش بسمة تعكس نواياه ،وضع يده على كتف أبي عقل:
    - أنت ساعدي الأيمن ، أعتقد أنك محظوظ ، أتوافقني الرأي ؟!..
    - منذ طلبتني قلت لنفسي هذا .
    - يتوقف الأمر على قرارك الأخير .
    كفت الدقائق عن التراكم حين ( استل الدحبيش رزمة من النقود ) :
    - خذ هذا المبلغ .
    بسخاء أمر بصرف مبلغاً آخر ،التمعت عيناه ،قهقه ضاحكاً حين رفض أبو عقل :
    - مستحيل .
    - خذ يا رجل .
    - أنت مخطئ .. اتق الله .
    - أصغ إليّ مادمت قلتها لا حاجة بنا إلى الإفاضة في الحديث أنت تؤلب العمال ، أسألك لمجرد لفت الانتباه .
    - أنا لا أحرض أحد ، لكن ! أتكره الحق ؟.
    - لا ...لا من يكره الحق .
    - إذن أعطيهم حقوقهم .
    - إنك تثير اشمئزاز يأي حقوق لهم ، يأخذون الكثيير .
    - لا أرى شيئاً مما تدّعيه و هم يأخذون النذر اليسير .
    - يا للعاق ! اغرب عن وجهي ، سأقذف بك إلى الشارع يا ابن الكلبة .
    - بوسعك لكن لا أخشى ذلك .
    رفض أبو " عقل " المتاجرة بقضايا العمال ، مضى إلى عمله كان المعمل يزدحم بالعمال . لم يعرف ما يفعل . أتراه ينتظر العمال و يحدثهم بما جرى ! . اقترب منه أحد العمال رآه مضطرب الأعصاب ، استفسر عن السبب و ضعه في حقيقة الأمر .
    ضحك :
    - لنحتفل بهذه المناسبة .
    كان العمال يحسون بالتقهقر ، متروكين للريح ، لم يستطيعوا أن يعبروا عن ظلم " الدحبيش " ،بدا على وجوههم الأسى وستولي عليهم ذعر حقيقي ، كانوا يولون أبا " عقل " اهتماماً كبيراً .
    وقف أبو " عقل " في وسطهم ، بدت على وجهه علامات تفكير متواصل ، فهو سريع الاستيعاب يجمع بين البصر و البصيرة ، ينحدر من عائلة فلاحية يتمتع بعقلية فلسفية . و راح يروي لأصدقائه ما حدث :
    - عليكم بالصبر .
    انبرى أحد العمال :
    - إن كلام الدحبيش لمثير للسخرية .
    بدت وشوشات بين العمال .
    اعتصم نمر بالصمت تذكر عرس المختار و رقصات الغجر على مسرح القرية ، بدت " نجمة " طالعة كصبح ، وجهها رغيف تنوري يشع في العتمة ، عيناها يمامتان على بيادر القرية أيّام الحصاد رشيقة الخطوات كجدول دافق ، شعرها أسود كقطيع ماعز على جبال البلعاس ، سلبت قلبه بنظرة عينيها و قبل أن يدرك ما يجري وجد نفسه أمامها وجها لوجه بدت له خميلة تفوح عطراً . بدأت تقذف شتائمها على الأفني و رجاله ، رغم أن الأفندي أنفق الأموال الطائلة في سبيل أن يمنع "نجمة " من الرقص ، انتهى الأمر إلى صراع مرير ، منذ ذلك اليوم ، أصبح أبو " نمر " يكره الأفندي لأنه كان أنانياً في حصوله على أي شيء و لم يسمح لغيره بالتنفس ، قالت نجمة :
    - أحبك أكثر من الذهب .
    زمجر " نمر " كزمجرة الأسد ، فاضت من عينيه ينابيع من دموع الفرح ، و بقيت "نجمة " ،موضوع تأمله طول النهار ،شدا لسانه بحبها حين قالت :
    - لنذهب معاً .
    تألقت عيناه و هو يتطلع إليها ، كان جمالها رائعاً حقاً :
    - يسرني هذا .
    - لنذهب و لنحاول اكتشاف ما نستطيع فعله .
    - شرف عظيم لي .
    تربص الأفندي بهما ، وقف مترنحاً كضبع في لجة الماء ، الدحبيش رجل فاقد البصر و البصيرة ، فأصبح بضاعة رديئة . نظر إليه أبي " عقل " نظرة تدل على أنه غير مرغوب فيه . فقالت " نجمة":
    - هل تشكو تعباً ؟
    - لا ...لا في عقلي أشياء كثيرة .
    - تعال معي ؟.
    - اترك كل شيء للغد .
    وقف " الدحبيش " خلف الطاولة ، نظر من كوّة النافذة المطلة على المعمل ، يعج قلبه بالحقد على أبي " عقل " ، حقد مصحوب بالغضب ، قفزت الفكرة الجهنمية إلى ذهنه حدث نفسه:" أجل ...عاطف .. لا غيره سوف يخلصني من الوغد " .
    صرخ :
    - مطاوع .مطاوع
    دخل مطاوع يحمل صينية القهوة ،يتطلع بنظرات لا تخلو من اللباقة تغير جوّ المكتب بعض الشيء ،عندما خرج أبي " عقل " .
    أصغى " مطاوع " إلى "الدحبيش " مثلما تصغي طفلة إلى جدتها ، بانتظار بعض الحلوى .
    يخبئ الحقد على أبي " عقل " كما تختبئ الخفافيش في شقوق الجدران ، يعلم جيدا أن الدحبيش مازال في أوج غضبه مدّ يدّه على مهل :
    - تفضل القهوة .
    - حسنا ، لا بأس .
    تناول الدحبيش فنجان القهوة ، جمدت أصابعه على فنجان القهوة ، تطلع حوله أحس بأن الأرض أخذ بالجفاف ، اختزن في أعماقه كل الصور ، لا يدري أين طرحه الصمت ، مضى في دروب لا تنتهي ، بذل جهداً كبيراً كي يبدو بهيئة طبيعية تنفس مثل جمل ، ثم سأل :
    - أتعرف عاطفاً ؟
    - نعم .
    - أريده فوراً .
    بادله نظرات مستفسرة :
    - أرجو ألا أكون متطفلاً .
    - كن مطمئناً .
    ضحك " مطاوع " في شيء من الخبث ، ارتسمت علامات فرح على وجهه ،هزّ كتفيه بلا مبالاة :
    - سؤال ليس إلا ، و لو كنت أعرف ما تقصد ؟
    باحت عيناه بابتسامة ذات معنى :
    - يا لك من ثعلب ! أصبحت تخيفني .
    صمت مليا :
    - أسرع و نفّذ الطلب .
    ما كادت الكلمات تستقر في ذهن " مطاوع " حتى ابتدر :
    - لا عليك .من يأكل من طعام السلطان ،حق له أن يضرب بسيفه .
    - صدقت .
    هبط " مطاوع " درجات السلم ،ويمم وجهه شطر منزل " عاطف " عبر الشارع على غير مألوف العادة ، كان مستغرقاً في متاعبه المالية ، فبدت الأشجار عارية ، أحس بلسعة برد ، بدا له أن الأمر ينطوي على مشكلة ، ثمة بيوت موشحة بالغسق وقف هنيهة أمام الباب ، بدت على وجهه علامات تفكير ، سأل نفسه : " لم يكن اهتمامي بـ " الدحبيش " سوى حصولي على بعض المال".
    قرع الباب بيده ، فتح " عاطف " لم يستطع أن التعبير عن شعوره المفاجئ ،وجد نفسه يقبض على يد " مطاوع " مرحباً :
    - تفضل .
    - شكرا . ابلغه النبأ .
    انصرف في سبيله .
    وقف " عاطف " في حيرة من أمره . بعد صراع مع الذات ، انتعش صدره بالأمل ، تبدلت رؤيته للأشياء ، كم تمنى لو كان مع " مفيدة " ، ليتخلص من توتره الشديد ، يسألها :"إذا صفح عنه الدحبيش أم أنها مصيدة الانتقام" .
    مرّ طيف الحسناء ذات الوجه النحيل ، عيناها تنمان عن ذكاء حاد ، شفتاها مضغوطتان بقوة ،وسيمة خجول ، مخلصة ، ثاقبة الرأي . تذكّر ذاك المساء ،وقفت الخادمة :
    - أرسلتني إليك مفيدة .
    - ماذا تريد ؟.
    - لا أدري تريد حضورك فورا .
    دخل إلى بيت " مفيدة "كانت تنتشر فيه رائحة حلوة منبعثة من شجيرات الورد الجوري و الياسمين المعرّشة على الجدران . كان البيت دافئاً ، طوّقته بذراعيها ،قبلته بشوق ، دبت رعشة في جسده ، لم يعد يتمالك أعصابه أخذها بين ذراعيه يطوف على صدرها رحلة مجنونة ، دخل " الدحبيش " رآهما بأم عينه ،": من المستبعد أن يكون الأمر صدفة" . لم يتصرف بشيء ، اكتفى بأن قال فوزية:
    - أنت شاهدة .
    ضربت " فوزية " على صدرها:
    - يا ويلي .. يا مصيبتي !..
    صفق " الدحبيش " الباب خلفه ، قصد المعمل ، غير واثق من نفسه ، انتابه خوف شديد :
    - نصف المعمل باسم "مفيدة " بشكل إرث .
    ذرع المكتب ذهاباً و إياباً ،يفكر :
    - سأطرده .
    اصدر أمراً بطرد " عاطف " من العمل .
    قبل أن يهرب عاطف سأل مفيدة :
    - علام سكت الدحبيش ؟.
    - الحفاظ على النصف الثاني من المعمل .
    ارتدى ملابسه ،اتجه إلى المعمل في رأسه ألف سؤال محال ، هاجمه الحنين إلى مفيدة :
    - لأجلك ...
    اشرفت الشمس على المغيب ، كان كل شيء هادئاً ، أستقبل مطاوع داخل المعمل ،أسرع إلى الدحبيش :
    - جاء عاطف بلحمه وشحمه .
    استقبل ضيفه استقبالاً حاراً ، وقلبه ينفطر ألما :
    - تفضل ..
    جلس على الكرسي الوثير ،يصغي إلى حديث "الدحبيش " ،تسلل الخوف إلى قلبه .مسح بناظريه جدران المكتب .وقع بصره على عش من العنكبوت ،ثمة عناكب تتأرجح بواسطة خيط تصطاد الطرائد .
    هزّ رأسه ببطء سأله :
    - كيف حالك ؟
    - مستورة .
    - الحياة ليس سهلة ؟. كم عدد أفراد أسرتك ؟!
    - سبعة،البكر في المرحلة الإعدادية ،وزوجي في الشهر السابع .
    - كفى يا رجل إنجاباً ؟.
    - الرأي لأمّ العيال .
    - كيف تدبر أمرهم ؟ .
    - إن الله يرزق الجميع .
    عرف عاطف طعم الجوع ، وتعلم كيف يشد أحزمته على بطنه ، حدث نفسه : " أعرف أنك عقيم " .
    غير مسار الحديث بسؤال :
    - هل أنجبت ؟.
    - مفيدة حامل و ربما تجهض .
    نظر في وجه "الدحبيش " ليرى مدى الجد في كلامه ، سر لنفسه : " مازلت فظا و إني لعلى استعداد للعودة إلى أحضان مفيدة " .
    كان ينبغي على " الدحبيش " أن يستدرج عاطفاً ،أدرك ما يتعين عليه أن يفعل ، انتهز فرصة شرود " عاطف " ، استل من جيبه رزمة من الأوراق النقدية حشرها في جيب " عاطف " متذرعا بأن المدرسة ستفتح أبوابها لعام دراسي 1962:
    - اسمعني جيداً .
    - تفضل .
    - صحيح طردتك من العمل ..فهمت الأمر خطأ .أخطأت بحقك و حق عيالك ، سأكفر عن سيئاتي ،سأنصفك ، فاعتبر نفسك مراقب عمل منذ اللحظة .
    - غمرني كرمك .
    دخل مطاوع يتظاهر بالإرهاق ،يستطيع التكيف مع الظروف ،ويدرك ماهامه جيدا :
    - اللعنة ..
    سأله الدحبيش :
    _ هل تشكو تعباً ؟
    - لا .. أبداً .
    - تكلم يا رجل ..
    - لا أريد .. أن أعكر صفوك . أبو عقل . يحرض العمال .
    - لا ...لا خسارة ،ظننت أنك تعلمت ،ألم أنبهك ،ألا تذهب إلى هناك وكم حذرتك ألا تنقل الترهات إذا كان بضيافتي أحد غريب ؟!
    - هل عاطف ؟.
    قاطعه :
    - لا...لا أبدا عاطف صاحب بيت .
    غمز مطاوع بعينه ونظر إلى عاطف :
    - تكلم يا رجل .
    أجابه عاطف :
    - أنت على حق .
    - كيف يتجرأ على من يأكل من خبزه ؟.
    نظر إلى ساعة يده ، تنهد من أعماقه ، غير جلسته يسرّ بخلده : " يجب أن يموت أحدهما " .
    بهدوء عميق :
    - دعنا من هذا الحديث.
    كان " عاطف " لا يزال شاباً قوياً ، سريع الحركة ، وافر النشاط ضرب الطاولة بيده :
    - لا عليك .. رقبتي سدادة ، سأقابله الآن ، و سأخلصك من فلسفته .
    - لا ...لا أنت رجل شهم .! لكن أتظنني أوافقك .
    - لنشرب كأس أبي عقل .
    التمعت عيناه،النار تئز في مدفأة المكتب ربت على كتفه :
    - حيّاك الله .
    كان الدحبيش أنانياً . تمالك أعصابه وغمغم مع ذاته :" لن أرتاح قبل أن يذهب الأول إلى السجن والثاني إلى جهنم .
    استأذنه عاطف :
    - سأعود غدا .
    انصرف و الفرحة تغمر قلبه . عرّج إلى السوق ابتاع حاجاته ، و بعض أدوات المدرسة من أقلام و دفاتر و ثياب للأولاد . قفل أدراجه كمن يحلق في الفضاء .
    دخل على زوجه . تتفحصه بدقة لم تستطع أن تعبر عن مشاعرها المفاجئة ، فوجدت نفسها تسأله :
    - من أين لك بهذه الأدوات ؟
    قال بهدوء :
    - فرجها الله . لك بشرى سارة ، عينت مراقباً .
    - أين ؟..
    - في المعمل الدحبيش ؟
    وقفت مذهولة :
    - أيكون بحاجتك ؟.
    - أجل ...ما الغرابة ؟.
    - أتكون مفيدة وراء هذه الترقية ؟
    - حسناً . ألا تذهبي بأفكارك بعيداً .
    - كيف ؟.
    - الترقية من الدحبيش بالذات.
    - أليس من الخطر أن تعمل عنده ؟.المبلغ يعادل أجور ثلاث سنوات.
    - ما شأنك !.
    - خائفة يا عاطف .
    - يبدو أنه نادم ...ويكفر عن خطأ ارتكبه بحقي .
    استلقى فوق السرير ، هاجمه الحنين إلى " مفيدة " اقتنصت عيناه خيبة أمل تعلقت على وجه زوجه ، هز كتفيه بلا مبالاة :
    - خذي المبلغ .
    بدت على وجهها علامات تفكير ، وانتابها خوف شديد على مستقبل الأولاد ، هي سريعة الاستيعاب تجمع بين البصر و البصيرة:
    - لن استلمه . يجب أن تعيد المبلغ إلى صاحبه .
    - ما قصدك ؟
    - سيكون ثمنه باهظاً .
    - دعك من الترهات .
    طار دماغه من رأسه ، حدق في وجهها طويلاً ، صرخ :
    - أرفض متابعة الحوار معك في موضوع العمل .
    انسل إلى فراشه ، تسلل النعاس إلى أهدابه ،حلم بالعشيقة :
    - مستعد للعودة إليك .
    كان الرفاق يتحلقون حوله ،يستمد القوة منهم استولت عليه الذكرى ، نهضت من تحت الرماد " كالفينيق " أعادته إلى ذلك اليوم حين ألقوا القبض عليه أمام سينما " إوبرا " انتحوا به إلى حديقة الدبابير ، وقع بصره على مدير المدرسة يدخل إلى مقهى الروضة ،قبل أن يستنجد به سأله أحد الرجال المتمنطق بمسدس :
    - ما اسمك ؟.
    - نمر ...ابن فلان ...أمي فلانة ...النسبة غجري ...
    - الآن عرفتك .
    عندما أصبح داخل السيارة ،انفتحت عليه أبواب الجحيم ،بسخاء نهالت اللكمات حتى بدا وجهه متألق الاحمرار ،هناك في القبو عصفت رياح هوجاء . صريخ ،أنين آلام ،تطايرت أوراق وتحجرت حروف في الحناجر ،اندفع ليجمع بعضها ،ضاعت تحت لسعات السياط وركلات الأحذية ،طار دماغة من رأسه ،تعلم ما قيمة البطاقة ، غاب عن الوعي ،ظل قلبه مستيقظا ،راح يبحث عن الغجرية " نجمة " على يبادر القرية ،وقف على ضفة العاصي ،كانت تزين ثوبها بأصناف الورد ،يتوسد صدرها رغيف من الذرة المقمر صنعته فلاحة تدمرية ،عبق المكان برائحة الشيح ،صرخت :
    - العاصي ساحر .
    أيقظه ركل من حذاء ،ومازال يختزن في تجاعيد دماغه ألاف من صور العصافير وجماعات النحل ،ينطلق بين بساتين حمص العديّة ، سرّ لذاته :" أسمعي يا نجمة ...للبداية طعم آخر " .
    ادخلاه إلى غرفة المحقق ،رجل يغطي الطاولة بجسده ذو شعر أشعث في إصبعه خاتما يستخدمه للصفع والكم ،خلفه علقت أصلاب ،وأسلاك سألني :
    - أيعقل لم تعرف تجمة ؟.
    - رأيتها على البيادر .
    تنهدت بغيظ :
    - كنت أرقبها من بعيد أثناء الرقص .
    - كل الأدلة تأكد أنك تعشقها .
    حشدت كل شجاعتي :
    - هل في الرقص أجرام ؟.
    - أين كنت البارحة ؟.
    - أحضر دروسي ، الأمتحان على الأبواب .
    نقر ماجد على الطاولة نقرات متساوية موزونة كأنه يوقع لحنا :
    - أين شردت ...أكمل قصة أبا عقل ؟.
    زدحمت مخيلته خلية من النحل تطرق حواف الذاكرة :
    - استيقظت زوج عاطف من حلم .ثمة ثعلب كبير ،يتسلل إلى الخم ،انقضّ على الديك ،قبض على عنقه و قفل هارباً . صرخت ، لكن! دون جدوى ، بلغت أسوأ ما يمكن أن يصل إليه المرء من سوء ، أحست بأن دماغها طار من رأسها ،دعكت عينيها ،بحثت عن " عاطف " لم تعثر عليه ،تطلعت بذهول إلى الخم ،صاح الديك :
    - كو كو كو .
    انتابها خوف شديد على مستقبل الأولاد ،بدت على وجهها علامات تفكير متواصل ،أنبأتها رؤياها بأمر مرعب . بسملت وحوقلت :
    - خير .. إن شاء الله .
    استيقظ عاطف على غير عادته ،بذل جهدا كبيراً ،تراقصت في مخيلته الأفكار ،أرهف سمعه لأدنى صوت ،نظر إلى وجه زوجه لم تكن طبيعية ،راودته أحاسيس عجيبة ،راح يحلم و ينداح الحلم ، انسل خفية ،سار في وسط الشارع ،رغبة أن يكحل عيناه برؤية " مفيدة " استنشق من رأسها نفحة عطر محبب ،حدث نفسه:" الآن مسؤولا عن المعمل.
    حبه لـ " مفيدة " بحار يتعذر سبر أغوارها:
    - الشوق يعود من جديد .
    توهجت نار متقدة :
    - عشق مفيدة يجسد أحلامي .
    خرج " الدحبيش " بمفرده إلى المعمل ،انسلت إلى قلبه فرحة راعشة ،أخذ يذرع أرض المعمل ذهاباً و إياباً ،غز السير في خطة رسمها بدقة ،ارتقى أقصى درجات المكر .تناهى إلى سمعه صدى وقع خطوات ،التفت في صمت الصباح المهيب ،و قع بصره على " عاطف "لم يستطع ، إخفاء فرحهه قبض على يده :
    - مرحباً ...
    هبت العاصفة نحبت السماء كثكل يائسة:
    - الجوّ بارد .
    - نعم .
    - لنصعد إلى المكتب .
    اتخذ مجلسه ، أبحر في خطته:
    - ما رأيك بفنجان قهوة ؟
    - حسنا ...لا بأس .
    - نتكلم بصراحة .
    - تفضل .
    - لنكن صدقين .
    - كرم منك .
    تجدد المستقبل أمام عاطف استرسل في الحديث ،ينعكس على وجهه فيض من مشاعر مبهمة .
    جلس يضع رجلاً على رجل . أيقظه رنين ساعة الجدار تعلن عن بداية الدوام.استأذن من الدحبيش توجه إلى المعمل .وطئت قدماه مكان العمل.اقترب من أبي " عقل " :
    - أعطني أسماء العمال .
    ضحك أبو عقل ضحكة أضاءت وجهه الجميل :
    - عفواً ،ما شأنك ؟
    - بصفتي مراقباً .
    - حسنا. يسرني.
    تطلع بنظرات تخلو من اللباقة :
    - يبدو أنك تجهل من أكون .
    - يا أخ عاطف لا تفهمني خطأ .
    جحظت عيناه :
    - كلمة واحدة لا أكثر .
    - قل ما وراءك .
    - إنك مغرور .
    أحس أبو عقل بأن هناك أمرا ما ،كان شديد الطيبة ذو عقلية رفيعة ، سارع ليطيب خاطره :
    - حسنا.
    قبل أنصراف أبو عقل ،أمسك " عاطف " بتلابيبه . نشبت مهاترات كادت تؤدي إلى الضرب ، تجمع العمال .انهالوا على عاطف بأيديهم بلهجة رقيقة :
    - اتركوه ...يبقى عاملاً مثلنا وعلينا استعابه حتى يثوب إلى رشده .
    قال أحدهم :
    - كيف يثوب إلى رشده مجنون " مفيدة " ؟!
    كان " الدحبيش " يرقب المشجارة من نافذة المكتب ،انتابه فرح شديد ،هزّ رأسه دلالة على استحسان خطته ،لم يشعر بمرور الدقائق ،دق الأرض بقدميه كحيوان ثائر .
    كان مطاوع يتابع حركاته بمكر .
    ربت على كتف مطاوع :
    - المال يحقق المستحيل ؟
    سرّ بخلده :" هذا دور مفيدة ".
    اتجه إليه :
    - نعم ، إنك بارع في خلق الفتن .
    - لا تنس دورك المتقن .
    - عشرون عاماً في خدمتك كافية لأدرك كيف تفكر ؟.
    - أصبحت تخيفني .
    غير مطاوع مسار الحديث :
    - شرب عاطف المكيدة جرعة واحدة .
    - ثمة جرعة ثانية .
    - ما قصدك ؟
    - غداً سترى بأم عينك ؟.
    دخل عاطف يترنح من شدة التعب ،أجهد نفسه ليعود إلى طبيعته ،يفكر في الانتقام من أبي عقل غير واثق من نفسه ،تحدث مباشرة مع الدحبيش .متجاهلا وجود مطاوع .
    حدق في وجه عاطف . قدم له قدح الشاي.سأله:
    - لماذا ثيابك معفرة ؟
    هزّ كتفيه بلا مبالاة ،ثم أجاب :
    - لا شيء ،لا شيء .
    رحل " عاطف " بعيداً ،كم تمنى لو كان مع "مفيدة " لتخلص من توتر شديد .صوب عينيه إلى مطاوع ،بادله بابتسامة ثعلبية :
    - الحمد الله على سلامة مراقبنا الجديد .
    مع ضحكة مدوية سأل الدحبيش:
    - خبيث تأتي بالنكتة في الوقت المناسب .
    - أي نكتة ؟. قلت الحقيقة ، رأيتهم بأم عيني يضربونه .
    - كفاك هراء .
    ردّ عاطف :
    - سترى غدا.
    لكز الدحبيش مطاوعاً :
    - اتصل بالدرك .
    - علام ؟.
    - يجب أن يحاسب ، كيف يضرب عاطفاً ؟.
    صوّب مطاوع عينيه إلى عاطف .
    لم يكن أحد يجرؤ على التنبؤ بمصير أبي عقل، ما كادت آخر الكلمات تستقر في ذهن عاطف حتى نهض :
    - سأجعله عبرة لمن يعتبر .
    استوقفه الدحبيش منتهزا الفرصة قدم له مسدساً ،حاول عاطف صرف النظر عن استلام المسدس :
    - لا ...لا حاجة .
    - خذه سيحميك من شرهم .
    تناول المسدس بيد مرتجفة . أحس بقشعريرة تسري بأوصاله . حاول إعادة المسدس .تذرع الدحبيش الحرص عليه:
    - احتفظ بالمسدس .
    - لم أطلق رصاصة طيلة عمري .
    ضحك مطاوع :
    - بل تجيد إطلاق سهام عينيك إلى قلوب الغانيات.
    تجاهل الدحبيش علاقة عاطف بـ مفيدة :
    - دعك منه الآن .
    أدرك " الدحبيش " ما يفعل . دعا "عاطف " لوجبة:
    - العشاء على مائدة مفيدة .
    طرب للدعوة .أصبح بوسعه اللقاء بـ " مفيدة " وجها لوجه . تيقظت أحاسيسه من جديد ،غير جلسته . تهلل وجه الدحبيش بالفرح . نظر إلى ساعة يده التقط السماعة أدار القرص عدة مرات :
    - مفاجأة يا مفيدة .
    - مفاجأتك كثيرة هذه الأيّام .
    - احذري من يكون الضيف ؟.
    - من ؟.
    - عاطف .
    - أتكون كذبة أول نيسان ، و نحن في بداية الشتاء . إلا أنك لا تكذب في مثل هذه الأمور .
    اضطربت بعض الشيء خفق قلبها بشدة .انتعش صدرها بالأمل تبدلت رؤيتها للأشياء ،نظرت إلى فوزية . مع بسمة خالطتها الحيرة و التردد:
    - تعالي يا فوزية .
    ترزح تحت وطأة الاضطرابات ، بدت صفرة على وجهها .
    وقفت فوزية أمامها :
    - حاضر ست مفيدة .
    - نظفي البيت .
    - نظفته البارحة .
    - دون تضييع للوقت سيزورنا ضيف عزيز .
    دخلت مفيدة غرفة النوم ،وقفت أمام المرآة ،تأملت وجهها الأصفر.طلته بمساحيق فرنسية لم تنس أن تمرعلى شفتيها بأحمر الشفاه . نادت على فوزية :
    - كيف أبدو الآن ؟.
    - بنلوبي .
    - بلا مبالغة .
    - لا...لا لم أبالغ بنلوب تنتظر أوليس .
    استحوذت اللحظات عليها بذكريات رائعة .انعكس على وجهها فيض من مشاعر الفضول .
    دخلت فوزية المطبخ ،وقع بصرها على فخرية منطوية على نفسها تصغي إلى أنغام موسيقا تأتى من نافذة ابن الجيران ،اشتاقت إلى أهلها ، منذ زمن لم تحصل على إجازة ،ركزت عينيها المغرورقتين في البعيد :
    - دورك اليوم يا فوزية ، سأطلب من الست مفيدة إجازة .
    - دورك يا بهيمة .
    - بارك الله فيك .
    تذكرت فوزية ذلك اليوم حين دخل الدحبيش إلى البيت ،كان عاطف في غرفة نوم مفيدة :
    - الأشياء غامضة .
    رصدت حركات مفيدة ، لاحظت اضطرابها .
    ضحكت ضحكة عريضة ، ضربت صدرها:
    - عاطف لا غيره.
    فخرية :
    - من يكون يا بلهاء .
    احمر وجه فوزية :
    - أنا لست بلهاء .
    - من يكون يا فيلسوفة ؟
    - قيس مفيدة أو جميلها .
    - يقطع لسانك يا خائنة .
    - رأيتهما بعيني هاتين .
    - تفوه عليك ، تفترين على من نأكل من خبزها !.
    - إنها الحقيقة .
    - انقلعي من هنا .
    بكت فخرية بصمت :
    - لولا هذا البيت و الست مفيدة لكنا مشردتين .
    - لا...لا لم نأخذ صدقة .
    - يجب أن نحترم صاحبة البيت .
    - لا...لا هذا البيت شيد بسواعد أجدادنا ،ثروة الدحبيش الطائلة من عرق جباههم .
    استاءت فخرية من النقاش ،هرعت إلى ركن المطبخ تناولت عصا المساحة ،اسرعت خلفها انهالت عليها ضرباً .
    كانت فوزية ذكية ، تمتاز بوجه جميل و عينين واسعتين و فم مشدود ، و شعر أسود طويل ، منذ صغرها تهوى الفلسفة و تعشق الجدل لإظهار الحقيقة .
    تأتى الصراخ لمسمع مفيدة ، أسرعت لتعرف سبب الخلاف .
    قالت فخرية بلهجة منتصرة :
    - اسألي فوزية .
    صرخت:
    - لماذا يا فوزية ؟
    - قلت إن الضيف عاطف .
    كانت فوزية تدرك معنى هذا الكلام .
    قالت مفيدة:
    - ما الغرابة ؟
    ارتسم الانتصار على وجه فوزية بلهجة انتقام :
    - علميها الأصول يا سيدتي .
    تاهت فخرية في تفكيرها نظرت إلى وجه فوزية المنتصرة :
    - تقول إنه فارس أحلامك .
    سرحت " مفيدة " في صدى كلمات " فخرية " ، دبت الحرارة في جسدها ،اكتفت بقولها :
    - كفي عن الثرثرة يا فوزية .
    هرعت مسرعة إلى غرفة الاستقبال . رتبتها بنفسها ،اجهدت نفسها لتبدو عادية كأنها لم تسمع أيّ سخريّة . لعلها ستعود إلى سابق عهدها و علاقتها مع " عاطف " فارس الأحلام .
    جلست تتخيل وجهه الوسيم حدثت نفسها:"من المستبعد أن يكون الأمر مصادفة " .
    أدركت أن اهتمام " الدحبيش " هو نتيجة حقد دفين ، انقبض قلبها أحست أن هناك مكيدة ، حاولت أن تبعد هذه الأفكار عن ذهنها ، سمعت صدى الصوت أجبرها على الوقوف أمام النافذة ، بدا لها أن الأمر ينطوي على أمر غريب ، لاحت نظرة خوف على محياها . وجدت نفسها تصرخ :
    - ثمة مصيبة يا فوزية ؟
    - لم أفهم !.. كفى الله الشر .
    - عاطفً في خطر ، يجب أن نحذره .سأذهب بنفسي .
    انتابها خوف شديد على " عاطف " ، صفقت الباب خلفها ، عبرت الشوارع مضطربة الأعصاب تجمد ما يجول في خاطرها ،ثمة ريح تهب على المكان ، اختلط الأمر في ذهنها حدثت نفسها:" أعرف فظظاته .
    تبين ماجد مبلغ الأثر الذي تركته الذكرى في نفس نمر ،بذل جهدا ليغير مجرى الحديث ،لم يكن ينوي عدم متابعة الحكاية بل ليأخذ نمر قسطا من الراحة ، أحس نمر ما يدور بخلد ماجد .صمت هنيهة يستعيد قول المحقق :
    - حسنا ...نبهتنا من رقصات نجمة .
    نقر المحقق بأطراف على الطاولة ، حسبها نمر عشرات من نقرات الجراد على نوافذ نجمة الغجرية :
    - أتعلم لأكون سندا للوطن .
    صمت قليلا ، وجد نفسه مصغيا يسأل ذاته :"من أين لي معرفة أن الأفندي قد أعطاهم أسمي ونسبتي ولقائي مع نحمة "!.
    رفع بصره إلى وجه ماجد :
    - يالك من حصيف .
    أجابه مصمما :
    - أكمل ماحدث لعاطف .
    دون تردد قال نمر :
    -وقف " عاطف" أمام أبي " عقل " . في شيء من الخوف، يزدحم المعمل بالعمال .كان عاطف في وضع لا يحسد عليه ، وضع نفسه في موقف حرج ،نظرات العمال تدل على السخرية ،فقد السيطرة على أعصابه .بلا شعور انقضّ على أبي "عقل "ليخفي ارتباكه ، حاول أبو عقل استيعاب تصرفه :
    - يا رجل نبقى من عمال .
    اكتسى صوته لهجة رقيقة ، و سارع ليطيب خاطره .
    كان " الدحبيش " يرصد الواقع عن كثب ، ربت على كتف " مطاوع " باركه ثم مدّ يدّه تناول مسدساً من درج الطاولة . أعدّه لمثل هذه اللحظات الحاسمة سدد إلى صدغ أبي " عقل " ضغط على الزناد بإصبعه دوّى عيار ناري ، خرق رأس أبي "عقل " وهوى ليرتطم بالأرض عائما بدمائه. مفاجأة غير متوقعة .
    دارت الدنيا أمام ناظره ، لم يعرف كيف حدث ذلك ؟ صرخ:
    - ماذا حدث ؟. قسماً لم أعرف كيف يطلق النار في حياتي .
    ارتجفت ركبتاه صفر وجهه ، انكب على الجثة ،انسكبت الدموع من عينيه ، غاب عن الدنيا .
    استيقظ من هول المصاب شد على قبضة المسدس ، كادت أن ترتخي أعصابه ، رقصت عيناه غضباً تبدلت لهجته :
    - فعلها النذل ..
    اندفع عاطف صوب مكتب " الدحبيش" ، صعد درجات السلم بغية أن يصفي حسابه معه ، مرت الثواني قاسية ، لاحت في عينيه نظرة انتقام ، لما اقترفت يداه من جريمة نكراء .صرخ :
    - جرح كبير .
    - ضرب الباب بكلتا يديه صرخ :
    - سأقتلك يا مجرم . سأقتلك ، سأقتلك .
    كان باب المكتب موصداً بإحكام ،ابتدأت أضواء المعمل تخبو أخذ " الدحبيش " يحدق في وجه " مطاوع " بعينين حانقتين ، فيما كان الآخر يعتصم بالصمت ، نظر إليه يهز رأسه شامتاً :
    - انظر ...
    نظر في ذعر إلى حشود العمال . اتصل مع رئيس المخفر :
    - من رئيس المخفر ؟..
    - ..
    - حسب الاتفاق .
    - حسنا... دقائق فقط .
    احس مطاوع بسحابة ضبابية تظلل عينيه ،قال :
    - لم أتصور منك هذا الحقد !..
    تنفّس كفيل ثائر :
    - حقك ، لكن دعه يفطس كبعوضة .
    - ويلك من الله . . . ( بشّر القاتل بالقتل ) .
    - دعك من هذه الأقاويل ، و إلا سوف ترى مصيرك .
    وصل رئيس الدرك و رجاله في الوقت المناسب ، انقذوا الدحبيش "من موت محتم . و القوا القبض على عاطف متلبساً جريمتين . القتل العمد ، و الشروع بالقتل . قيّدو يديه بالجامعة . قال رءيس المخفر :
    - نحجز حريته لنقدمه إلى النيابة لينال العقاب.
    ارتعش "عاطف " في وضح النهار .
    وصلت " مفيدة " إلى المعمل ، أحس "عاطف " أن من المستبعد أن يكون قدومها مصادفة ، اشتعل الدفء في جسده ، بادلته نظرات مستفسرة . صرخ بغضب :
    - قسماً لم أفعلها يا مفيدة .
    ثمة مفاجأة صاعقة تنتظرها ،كان عاطف خافض الرأس ، ارتسمت علامات غضب على وجهها ،تجمد ما يجول في خاطرها :
    - أعرف ، أعرف .
    انطلقت سيارة الدرك تشق طريقها بين حشود العمال ، و تطوي الطريق ، متوارية بعيداً ، مخلفة وراءها الغبار ، بقيت " مفيدة " تشيع عاطفاً بنظراتها ، تدرك عودة "عاطف " إلى المعمل .
    حضر الطبيب الشرعي عاين الجثة أمر بنقلها إلى المشفى. تنهدت " مفيدة " بغيظ ، نظرت إلى معمل يمور بالعمال .
    انصرف الحاضرون كل إلى شأنه ، ارتسمت في ذهنها عشرات الصور لوجوه صامتة .
    اتجهت إلى مكتب الدحبيش ، وقفت أمامه وجهاً لوجه ، يريد أن يطرد من رأسها فكرة أنه وراء الجريمة :
    - ما الذي جاء بك ؟ .
    صرخت " مفيدة " بغضب ،:
    - فعلتها يا أحمق ؟.
    - انقلعي من وجهي .
    - أنت خالٍ من الضمير .
    - كفاك هراء . الأمر يتعلق بي شخصياً .
    - أعرفك فظاً ؟.
    حاول أن يمتص غضبها :
    - ما أروعك يا مفيدة !.


















    الفصل الثاني



    هز " نمر " رأسه ، رحل بفكره بعيداً ، محدقاً في الجدار القماشي و أحس ما يدور بخلدهم ،غمغم :" إن ما يفكر به المحقق جور" !..
    لزم الصمت و كفّ عن الكلام .
    بحث في خلايا عقله ليجد الأفكار . سرح بخياله بعيداً . تذكر أنه قد غاب طويلًا عن بلدته و في داخله شيء مظلم مليء بالحزن . كانت هذه اللحظات تستحوذ عليه برؤية رائعة حين راودته "نجمة " في المنام .رأى نفسه في بلدته . يسير في الأزقة أيّام طفولته . يلعب مع أقرانه لعبة الأفندي والفلاح ،راودته صورة " نجمة " الغجرية ، و هي ترقص على بيادر القرية ، تضيء وجهها الأسمر الجميل ضحكة عريضة ، لاحظ بأنها مضطربة ،لم تنتبه لوجوده إلاحين بلغت ذروة الرقص. سرعان ما التفتت إلى الجهة اليمنى رأت الأفندي يلهث و يشير إليها أن تقف عن الرقص أمام الجمهور .
    انتفض لدى سماعه ، تنهداتها " المتصاعده و الأسى ينبعث من أعماقها،نظرت إليه :
    - أنسيت " عقلا " يا " نمر " ؟
    مهامي كثيرة ، يا عاشقة .
    - وعقل ؟.
    - أما تزالين على عهدك ؟.
    - كيف أنسى طفولتي معه ؟!
    تسللت صور ملونة إلى تلافيف دماغه ، عادته الذكرى إلى أيّام خلت . كان يخرج مع "عقل " إلى الحقول .ليصطاد العصافير و يركضا خلف الفراشات الملونة بمرح طفولي ،كانت " عاشقة " تقفز كعصفورة مزركشة من فنن إلى فنن ،يقف أمامها متأملاً لساعات ثم يعودون إلى بيادر القرية حيث خيام تضج بالرقصات و قرع الطبول يرصدون حركات نجمة ، تقف " عاشقة " تمط شفتها السفلى ، و تنكفئ مضطربة الأعصاب .
    كانت الثكنة تضج بالأصوات ، و ثمة خيمة متشابكة الأشجار تحميها من لهب الشمس والعواصف ، ذكّرته بذلك اليوم الحزيراني المشبع برائحة البارود ، حين تراجعت القوات إلى الخلف وظل " عقل " جريحاً قرب مدينة القنيطرة ، تحرسه شجرة زيتون متصابية ولا تزال كلمات "عقل" الأخيرة في وعاء الذاكرة :
    - وصيتي عاشقة يا نمر .
    قطع " ماجد " على نمر شريط الذكريات ، كان شديد الطيبة ، ذو عقلية رفيعة ، شاب ذوشاربين صغيرين ، التمعت عيناه:
    - أين شرد بك الخيال؟
    نظر إلى " ماجد " مستغرباً ، منذ لحظات سيبدي ملاحظته و لكنه لزم الصمت ، كأن فكرة خاصة صدّته .لكن كيف ينسى ذلك اليوم الأسود :
    - شتت العدو رفاقي ، و شرد عشرات الآلاف من الأهل عن الديار . بدعم من أمريكا .
    رفع رأسه شامخاً ، بادله نظرات مستفسرة :
    - سامحك الله .
    ربت ماجد على كتف " نمر " مقطباً ما بين حاجبيه :
    - على ماذا ؟!
    شعر " نمر " بمزيد من الاكتئاب ،اكتسب صوته لهجة إقناع :
    - لم يكن حضوري لأنقل أحاسيس أن الحرب قريبة . بل جئت لنتحدث عن أمور شتى.
    أجاب " ماجد " :
    - تدهشني .
    - ثمة أمر مؤلم .
    كان الشاعر ضجراً :
    - يا لك من قوي !.. لم أر مثلك أبداً .
    - حسنا ، لا بأس ..ُ أنت جاد في قولك ؟.
    - بالطبع .
    اعترت جسد " دياب " رعدة قوية ،كان يرهف أذنيه لكلمات نمر:
    - من دواعي الشرف أن نكون على استعداد للتضحية مهما كانت نتائج النبوءات.
    قال :
    - أجل ...يجب أن يعاقب العدو على ما اقترفت يداه من جرائم.
    - هي الوسيلة الوحيدة لاسترجاع الحق .
    أطبق الصمت ،فبدا على وجه " دياب " الاهتمام ، لم يكن صمتهم إلا استجابة لإلحاح في استرجاع الذكريات .
    كانت القنيطرة تقضي لياليها مؤرقة ،وبيوتها موشحة بالسواد، أضواؤها تخبو ، تنتظر بنفاذ صبر . تحتاج لنمر "لينتزعها من براثن الضواري .اخترق " نمر " جدار الصمت :
    - شاركت في حرب النكسة .
    دياب :
    - حسنا ،لابأس .
    - منذ ذلك اليوم و نحن في حالة تأهب .
    - ما قصدك ؟.
    - أصبح لدي خبرة عسكرية جيّدة .
    - نعم . لا ننكر ذلك .
    ابتسم " نمر " و قال :
    - و أنا لا أنكر خبرتكم أيضاً .
    ضحك الشاعر :
    - شكرا على الإطراء .
    وقف الجميع و تشابكت الأيادي ، أقسموا على تحرير الأرض"
    - ( سنمد أجسادنا جسورا لرفاقنا ) .
    أخذ القسم سمته وانداح الفجر في مسالك الدشم ،غنت القبرات غناء ينجي الورد من غوائل الشتاء .
    شحذ نمر ذاكرته ، مرّ أمام عينيه شريط طويل من ذكريات خلت ، بلهجة رقيقة :
    - كنت على رأس الكتيبة ،فأخبرني عامل " الديوان " - لقد نقلت إلى الخطوط الأمامية .
    دخلت إلى دشمة عقل أخذني بين ذراعيه ،ربت على كتفي :
    - ما هذه المصادفة ؟!.
    - ليست مصادفة .
    - قل أنك أصبحت من تعداد كتيبتنا .
    - نعم ..
    - حسنا ، لابأس تعال اجلس يا نمر !
    - أمرك .
    - أيه ... ما أخبار البلد .
    نظرت إلى ساعده رأيت اسم " عاشقة" موشوماً عليه ، تراقصت في مخيلتي الصور:
    - تبلغك عاشقة السلام .
    - حقاً .أين رأيتها ؟.
    - كنت إجازة .
    - يحزنني بعدها .
    - كن صبوراً .
    كان " عقل " يستنشق من رأس " عاشقة " نفحة العطر ، و هما يطاردان الفراشات .كان الصبية يلعبون بين خيام الغجر و يقذفون الحجارة على دار الأفندي ، عايش عاشقة وهي في عمر الورد ، وعدها بالزواج بعد جني المحصول :
    - سأدعو إلى كل غجر العالم من أجل أن يرقصوا ليلة عرسك.
    مرت النهارات تعقبها الليالي ، رحنا نكبر عاماً بعد عام . نسهر الليالي ، نحرس القرية من الوحوش الضارية ، نرقص على البيادر و رثنا المهنة عن الغجرية " نجمة " نتأبط الطبل و نغني الموال بين حقول تنضج بالسنابل ،ننام ساعتين لنستيقظ عند الفجر على زوجة الأفندي ترمي بالحجارة " نجمة " .
    كانت كلماته بحاراً يتعذر سبر أغوارها .بعد الصمت سألته :
    - متى ستتزوج يا عقل ؟.
    - في أول بعد الحصول الشهادة .
    تبرعمت الكلمات على شفتي دياب :
    - هل تزوج عاشقة ؟ .
    تنفس عبير أيّام خلت ،تذكّر " الدشمة " التي تقوم على التلة يرى من خلالها أرض "فلسطين" تؤطرها جبال كسوار في معصم و أمام بصره المدينة التي ولد أجدادنا من رحم ترابها ،كان يرى دخاناً يصعد من مداخن البيوت تتلوى في الأفق ، كرقصات " نجمة على بيادر القرية ،ثمة قبرات ترقص على الإيقاع . قال :
    - كنا نرى أبقاراً ترعى الأعشاب .
    - يا للروعة ما تصف ؟!.
    - إنها الحقيقة .
    فجأة ضج المكان ، و انقضت علينا طيور سوداء من صنع الإدارات الأمريكية ، ولكن ! بيد إسرائيلية .. انقضت ممزقة الهواء الحزيراني بصليات حارقة مدمرة ،القت علينا قنابل النابلم المحرمة دوليا ، و بعد معارك ضارية أصيب " عقل " .كان يجدر بنا أن نسعفه إلى الداخل إلا إنه ظل بطلاً ،أشار علينا أن ننجو بأنفسنا ، و شد على يدي .. ناولني البندقية و قال :
    - اسمع يا نمر وصيتي عاشقة و خاتم خطوبتها .
    - أين هو ؟.
    - أضعته هنا .


















    الفصل الثالث


    طل الصباح على سماء الجولان الملبدة بغيوم خرافية وعناصر الطبيعة الغضوب ، تُنذر بهطول المطر . ثمة ريح تشرينية تحمل بين طياتها رائحة أوراق خريفية ، و بين الأوابد يرفرف جناحا " عشتار " و "انكيدو " ، و " جلجامش " على ذرا الجبال و راحت " عشتار " تشق بجناحيها الهواء بعنفوان و غضب ، يرصدان " خمبابا " و " نمتار " .
    هب أنكيدوا إلى غابة الأرز :
    - أنظر إلى ألسنة اللهب .
    رد انكيدو :
    - عليك به .
    - لا عليك سأكون كفؤا.
    أدرك موت زمليه هب والألم يعصر قلبه ،اندفع يبحث عن جده الذي دله على عشبة الخلود ، رغم حصوله عليها عاد بخفي حنين حين أبتلعتها الأفعى . رفرفت عشتار فرحا فوق قنن بد ت كالحراب . تبحث عن نجمة مضيئة في صباح مغسول بدخان البارود ، تعالى صراخ أنكيدو في مدى المكان ، لم يطق الحياة بدون صديقه :
    - حطم تابوتك أيها البطل .
    رأى رسمه في الأمطار الدامية ،استجابت عشتار لقبرات الصباح مع همس شجيرات السنديان وغناء السواقي :
    - اليم هائج .
    - نعم .الموج يئن تحت الريح .
    - الخوف يحتضر .
    رفرفت أحلام نمر كعصافير تغني لتسمع في الأغوار السحيقة ،مع لذة الحوار تفجر شعاع من الظلمات ،تناهى إلى سمعه صدى أغانٍ من الجولان ، ذكرته بصدى طفولته بين الأنجم ،انسربت إلى قلبه فرحة راعشة ، تعالى قرع الطبل ، انبثقت "نجمة " ترقص رقصاً جديداً تغني :
    ( نسر أحمرْ
    نسر محجلْ
    يا لله يا نجمة يا الله
    نسري يطير
    فوق المجدل
    حلاّ الرجعة حلا
    يا صهيوني قوم ارحل
    يا ليل ولي يا ليل
    هذي أرضي سوريا
    يالله يا نجمة يا الله )
    ثمّة أفنان تتهامس في يوم خريفي ،تعالت أغاريد قبرات النهار وقف إجلالاً لها ،استجلى كل الأشياء ، رأى نجمة حمراء تحوم في قبة الكون نهض:
    - لم تنته الحرب .
    دخل " عماد " اتّخذ مجلسه دون ضجة ، يترقرق نور في عينيه ، يحمل إرث الحقيقة ، وقفوا باستعداد تعبيراً عن الاحترام و التقدير . كان " عماد" مقاتلاً ماهراً طويل القامة ، يتمتع بذكاء و رأي سديد ، كان صوته خفيضاً ، حدثهم بهدوء . ، رقص قلب " نمر " طرباً وقف أمام "عماد "أخذت الكلمات سمتها :
    - منذ قليل حدثتهم عن عقل .
    - أنت وفي .
    - تربيتك سيدي .
    صمت عماد للحظات ،انفسح الدرب أمامه ،تراءت إليه الأشياء كما هي فقال :
    - سأحدثكم عن أمّ عقل .
    - تفضل .
    - ذات شتاء ،الناس يتحلقون حول المدفأة ،معظمهم دون مأوى ، منهم أمّ عقل ،امرأة فلاحة طيبة ،كوالدتي ،فاجأتني وغضت طرفها:
    - حضرتك عماد .إن شاء الله ،أنت ولدي ، ألم يحدثك عن عاشقة ؟
    - أبداً .
    انبعثت العبارات من أغوار ذاتها ، وارتقت بفكرها بعيدا عن السفاسف تناهى إلى سمعي صدى وقع خطا ، كنت مستغرقه في تأملات مبهمة حين انبثقت عاشقة أمامي كحلم :
    - مباركه يا خالة .
    - ما قصدك .
    - نجح عقل في الثانوية ، و أنا أيضاً .
    - مباركه لك .
    ضحكت عاشقة ،جلست بقربي في ظل شجرة البيت الهرمة :
    - مباركه لنا جميعاً .
    أطلقت الزغاريد علت جلبة في قريتنا ،بدت أشعة الشمس فوق سطوح القرية كالسنابل أيام الحصاد :
    - لم نكن ندري سر العشق بينهما . اتفقا على الزواج بعد جني المحصول . اكتفى بخطوبتها . أهل القرية ينادونه بـ " عاشق " تيمناً بعاشقة .. ابنة هذه الحقول .
    ثم تنهدت بعمق :
    - الوحوش ، الوحوش ..
    - هل ثمّة وحوش ؟..
    - ماذا ترى في البعيد ؟.
    - همجية صهيون .
    - هم .. هم يا بني ..
    ما كادت العبارات تستقر في ذهن الشاعر ، حتى عصفت في صدره رغبة عارمة بأن يعرف السر ، كان رجلاً صادقاً في عاطفته ، واسع الخبرة بالحياة ، جديراً باستيعاب ما يدور في الخفايا ، قطع حديثه :
    - هل تزوج من عاشقة ؟
    - لا أعرف .
    فتح " نمر " عينيه ، عاودته ذكريات الأمس تراءت إليه " نجمة " تلوح بمنديل أبيض على بيادر القرية تأملها في دهشة ، ينبغي أن يكون شجاعاً لمواجهة أيّام الخريف ، عولت الريح في الليالي العاصفة ، كان يؤمن بأن أفراح الحياة تأتي مع الغجر الذين يملؤون الحقول بالأهازيج . اتجه إلى "عماد" سأل بأدب و تهذيب :
    - متى ستُنفذ قرارات مجلس الأمن ؟
    - كل المؤشرات تدل على عدم التنفيذ ، هل سمعت يوماً عن أرض محتلة استردَّت دون سلاح و رجال أقوياء ؟!..
    - إلام تبقى مغتصبة ؟
    - هذا ما جئت لأجله . يجب أن نكون أكثر حذراً و حيطة .
    - حقا هي الحرب ؟
    - ستعود أرضنا . عاجلا أم آجلاً .
    ما إن استقرت العبارات في ذهن " نمر " ، حتّى تذكّر حزيران أيقظ في داخله حقداً دفيناً ، يعرف طريقه إلى القنيطرة جيداً ، و يعرف سمفونية السواقي حينما يعزفها المطر فقال :
    - نعم ، ذكرى حزيران النكسة .
    ساد الصمت دقائق . كان " عماد " تائهاً في أفكارتتوارد إلى ذهنه ، ، ارتسم الفرح على وجهه ، ورفرفت الأحلام فوق رأسه :
    - يجب أن تكون جاهزيتكم القتالية جيدة .
    - أمرك .
    أحس الشاعر كأنه في حلم بهيج :
    - سيدي آن لي أن أكتب ملاحم الشعر .
    انتاب " عماد " سرور شديد ، خرج يتفقد العتاد ، بخطوات سريعة ينتقل بين الفصائل ، أحس بموجة عارمة من الأسئلة ، تتسلل إلى رأسه ،وطئت قدماه ساحة الاجتماع، غصّ المكان بالجند ، تراصت الصفوف . كان " نمر " يقف باستعداد أمام أرتال الجند ، ينظر إلى وجوه لوحتها شمس الحصاد ، يقرأ عليها أشياء ، و أشياء . و بصوت جهوري ، :
    - استعد ، استرح ، استعد .
    نفذ الجند الإيعاز .خبطت الأرض أقدامهم ، كأنّها تقول للمارد انهض من القمقم .التف بحركة نظامية إلى الخلف ، رفع يده محييّاً :
    - عدد الجند كامل سيدي .
    - استرح .
    وقف " عماد " أمام أرتال الجند ،نظر إليهم مليّاً ، رأى في سحناتهم سمات صقور متحفزة لتلبية نداء الواجب ، كان شديد الرغبة بأن تكتحل عيناه بتراب القنيطرة ،أحس بداخله أن المقاتلين يشتعلون ناراً:
    - من الواجب أن أذكركم بمصاب أرهقنا في حرب حزيران و إن كنت واثقاً أنكم تعرفونه جيداً . يوم ذاك شنت إسرائيل حربها الغاشمة على جبهتنا .لم تكن إسرائيل وحدها ،بل بساعدة الإمبريالية العالمية .
    حديث طويل .
    قال الشاعر :
    - إن إسرائيل الولاية الثالثة و الخمسون للولايات المتحدة الأمريكية . و نجمة سداسية ضمن النجوم في علم الدولة الإمبريالية العظمى .
    - صدقت .
    - أريد مقاتلاً فحلا .
    صمت مليا :
    - الجدير بهذا القلب يتبعني إلى المكتب فوراً.
    انصرف الجند كل إلى مهمته ، و راح " عماد " يجيل نظره بين الجند كأنما يربت باعتزاز على أكتافهم ، بدت على وجوه المقاتلين تباشير أمل الصباح . و علائم قوة تؤكد تكاتفاً يوّحد القلوب ، امتلكتهم رغبة منقطعة النظير بتحرير التراب .

















    الفصل الرابع


    انهالت على " دياب " ذكّريات ،ولفحته نسمة صحراوية .لم يبق من حوله سوى نعيب غربان .دندن لحناً " لعشتار " . هبت رياح عاتية ، في مثل هذه السويعات تنقبض القلوب ، تتمطى الدقائق ، يتذكر المرء أهل بيته ،وصبايا قريته. وقف بنفس منسحقة يتأمل السحب بين الأشجار، تأتّى لسمعه زقزقة عصفورة أحست بالرعشة ،أيقظت ما كان غافياً من شجون. هزَّ رأسه ،وأجال بصره يميناً و شمالاً ، وقع على نمر :
    - ترى أيّ قوة و ذكاء وراءك . بالأمس حدثنا بثقة ، و ها هوذا " عماد " يؤكد حديثك .
    اتجه " نمر " صوبه وقف قبالته سأله :
    - أتحدّث نفسك ؟
    - بالأمس أيقظت من داخلي حباً دفيناً .
    أتقصد القدس .. و الجولان .
    - طبعاً .
    أحس " نمر " برتياح ، حث خطاه صوب العربة في وعاء ذاكرته ألف سؤال محال ، جلس في عربته ، يراقب دشمة سوداء . يرصد الكوّات الفاغرة أفواهها ، فبدت في ضوء الشمس أشبه بثعابين كوبرا تتربص الطرائد .نهض منتفضاً . انزلق من العربة ، حاول الكف عن التفكير ، دون جدوى الذّكريات لاتزال تتمطى بلا انتهاء . ثمة ذكرى لها وقع خاص في داخله . في نهار غائم جلس تحت شجرة هرمة ، تظلل الغدير حدّث نفسه :
    - كيف سيكون وقع الخبر على عاشقة ؟.
    تأتى لسمعه صوت فيروز يتردد صداه في الوهاد :"البيت لنا و القدس لنا .. و بأيدينا سنعيد بهاء القدس " .
    لم يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل ، و لعل طفولته القاسية قد علّمته أن يخفي شعوره عن الآخرين ، لفّع الضباب الحقول الندية حملت إليه الريح غناءً نجمة الرخيم ، أحس بأنه لمس ذروة السعادة :
    على دلعونا ..
    على دلعونا ..
    ترابك يا بلادي
    الكنز المسكونا
    من حقل الحنطة
    و من قطن بلادي
    نجيب البارودة
    بعرس فلسطين .
    في ليلة قاسية بائسة مشحونة بالخوف و الحذر ، حثه الصغير في وعاء الذاكرة للتعرف على " عاشقة " ،ردحاً طويلاً و مازال يركض خلف سرابٍ ، تائهاً كوعل ، يبحث عن نبع ماء في صحراء قاحلة .
    و قف أمام شجرة مبتلة بالمطر ، أطربه الغناء ، نظر يميناً و شمالاً . اصغى إلى مصدر الصوت. بدا الغناء واضحاً . رغبّ بأن يتعرف على صاحبة الصوت . في وسط الضباب ، عثر على ضالته ، حين و طئت "عاشقة " المكان انحدرت إلى الغدير و هي تبتسم ، من تحت عينين عذبتين ، على بشرة وردية المحيا ، وذقن آخّاذ ، و ينساب شعرها على كتفيها كشلال متدفق . بدت حورية من الحوريات اللواتي وعد الرّب عبيده بهنّ :
    - تبارك الخالق .
    تأمل أفق بعيد صبغته الشمس بلون الأرجوان . استجمع " نمر " كل قواه ، دنى من الفتاة :
    - ما اسمك ؟
    - ما شأنك ؟
    - سؤال .
    - عاشقة .
    - حقاً ، أنت عاشقة .
    - ما وجه الغرابة ؟
    - لا شيء ، لا شيء .. أبغي الماء .
    - الماء فقط ؟.
    - لي ذكرى عند هذا الغدير ، وأتمتع بمناظر الحقول النّدية ، الطبيعة الخضراء تأتى بالسعادة.
    - أنا أعشق الطبيعة و الماء أيضاً .أحب رقصات الغجر على تلول القرية .
    كانت في رأسه ذكريات ، تبوح بما ينوء به صدره ، و فيما يشبه الوحي تذكّر حديث "عقل" عن أول لقاء مع " عاشقة ". حين قال " عقل ": منذ أول لقاء أمسيت أراها في أحلامي ، ودام لقاؤنا ردحاً طويلاً ، و كنا نرتجف خوفاً ، لأننا مراقبان ، كنا متيقظين لعيون المارة وخصوصاً الدحبيش صاحب معمل الغزل .صمت عقل :
    - يوم ذاك تبينّت ملامح وجهها بوضوح، أصرّت على أن اطلبها من جدّها بشكل رسمي سألتها:
    - أين والدك ؟.
    كادت تطفر الدموع من عينيها ، لم تكن دموع وجلة بل دموع أبيّة غاضبة جلدة :
    - كتمت عليك سراً ، ينطوي على قصة مؤلمة .
    - ما هي ؟.
    - لا أدري .. من أين أبدأ قضى والدي ،عشت اليتم بشقيه .
    - أنا مثلك ، لكن ثمة فارق والدتي على قيد الحياة .
    ضحك " عقل " ومسح شاربيه :
    - أحست عاشقة بأنني أسخر منها .
    حاولت تمالك أعصابها ، دون جدوى .انطلقت راكضة باتجاه البيت ، ناديتها ، لم ترد ، اعترتني نوبة غضب :
    - تعالي .. لن أسمح لك .
    اندفعت في أثرها حتى أمسكت بطرف ثوبها ، كانت ترتعش من شدة الانفعال:
    - هل يكون المرء مجبراً على اختيار شريكة حياته ، ألا تذكر أول لقاء لنا ؟
    - نعم .
    - أريد جوابا .
    - أضروري غداً ؟
    - الحقيقة هو أمرضروري .. لأني أحبك .
    - واضح حبك يا عاشقة .











    الفصل الخامس


    حث عقل خطاه ، عبر الأزقة الضيقة ، ثمة دالية تتعرش على سطوح المنازل ، و أسراب من الفراشات تحط على عناقيد العنب خجولة أمام طيور جارحة ، تغرس مخالبها في أغصان الدالية اللدنة ، تفرد أجنحة سوداء تجعلها مظلة ، بشعة تتغذى بدم العصافير ، و حين هبط المساء وصل إلى منزله استقبلته والدته بوجه بشوش ، جلس قرب المدفأة . اقترب منها يستدرجها بالكلام . احست أن وراءه أمراً ما .:
    - ما وراءك ؟.
    - عشقت .
    - ما الغرابة ؟.
    - يجب أن تعرفي خطيبتي .
    - من تكون ؟
    - عاشقة .
    - اسم جميل .
    - إذاً أنت موافقة ؟
    - مبدئياً .
    بلغت أمّ " عقل " الشرفة ، جلست هادئة رصينة كعادتها ، نظرت في البعيد ، بدت قبة الكون مظلة سوداء مرصّعة بنجوم فضية عاشت قلقاً حقيقياً بدت أفكارها مشتتة ، يالها من أفكار غريبة ، لا تستطيع البوح بأنها مسرورة . ماذا عساها أن تفعل ؟. هي تعرف جميع صبايا الحي ، تعرفهن عن طريق زوجها . غالباً ما يستقبل شباباً و شابات ممن يتجهون إلى معمل " الدحبيش " يقصدوه مرات و مرات ، و تناولوا الطعام في منزلها . كان أبو "عقل " يعامل الناس معاملة رجال يقدم لهم المساعدات كافة .يحيطون به ، يستمع إلى مشاكلهم باهتمام . قالت لنفسها : "زواج عقل يهمني كثيراً ".
    منذ زمن تنتظر هذا الخبر لعلها تراه عروساً ، بحاجة إلى حفيد ترعاه ، و تعامله بحب و حنان مثل كل الجدات . سرت بخلدها :" آه .. ما أمتع هذا "!.
    انهمكت في وضع خطط و مشاريع للعرس ، رغم قلقها لم ترتاح حتى تزوج " عقل " من ابنة مناضل ، وفاءً لوصيّة زوجها الذي قتل على يد " الدحبيش "لم تهدأ أعصابها حتى تعرف من يكون والد عاشقة ،بقيت مستيقظة طيلة الليل . حتى أشرقت الشمس و مدت أصابعها تتسلق جدران المنازل ، اختلطت الأفكار في ذهنها ، دخلت إلى المطبخ أعدت وجبة الفطور، ايقظت " عقلاً " دعته لتناول الفطور:
    - سأذهب حالاً إلى منزل عاشقة ،( خير البر عاجله ) .
    - حقاً ؟.
    ارتدت أفخر الثياب ، و انصرفت إلى حي " عاشقة " حسب العنوان ، تعبر الشارع حدثت نفسها :" يجب أن أكون حذرة ".
    لم تشعر بمسافة الطريق .و قفت أمام دار " عاشقة " .
    بيت متواضع، جدرانه من الطين و سقفه من التوتياء ، مسحت المكان بناظريها ، دقت على الباب بيد مرتجفة . لم تمض إلا لحظات حتى فتح الباب ، أطلت من ورائه فتاة بعمر الورد عيناها ظلمة ليل كانوني وفي وجهها نهر ماء فياض ،رشيقة القوام . وقع بصر عاشقة على أمّ "عقل " ابتسمت قائلة :
    - تفضلي يا خالة ..
    - أنت عاشقة ؟
    - حضرتك الخالة أمّ عقل ؟
    - فراستك قوية .
    دخلت أمّ " عقل " إلى البيت ، صافحت " عاشقة " ،كان "الجد " يقف وسط الدار ،يتكئ على عكازه ،وقع بصره على الضيفة استقبلاها استقبالاً حاراً .أجلسها قربه على أريكة قديمة و قال ملاطفاً:
    - أهلاً .. شرفت البيت ، من حضرتك ؟.
    - والدة عقل .
    - من يكون عقل ؟.
    - ألم تخبرك عاشقة ؟.
    - لا... ما الذي تعنينه تماماً هل لك أن توضحي الأمر ؟.
    - حسناً . جئت أطلب يد عاشقة .
    - أتعرفينها ؟.
    - سأعرفها في الوقت المناسب .
    - تبدين رائعة .
    - شكرا .
    - عاشقة تتيه إعجابا بعقل ،تعتبره من أعظم الشباب .
    - شكرا لها .
    - لا مانع . أرجو أن لا تمانع هي أيضاً . و كل ما أتمناه أن أموت مرتاح البال . علينا أن نسأل عاشقة عن رأيها .
    أدركت " عاشقة " ما يدور من حديث ، صدق حدسها ، ابتسم "الجد " دغدغته الأفكار نادى على " عاشقة ":
    - نعم جدي .
    - اجلسي ..لنفترض أن عقلاً جاء ليخطبك ، هل توافقين ؟.
    - نعم .
    - آمل أن أرى بينكم الثقة الكاملة .
    حوّلت أمّ " عقل " بصرها إلى شجرة الياسمين المبتلة بندى الصباح البكر ،فهمت حقيقة مشاعر " عاشقة " ، اثلج قلبها الجواب ، مدت يدها إلى شعر " عاشقة "مسحت عليه بقلب أم رؤوم :
    - إذاً أنت موافقة ؟
    - يا إلهي ، كيف لا أوافق ؟! .
    بدت على وجه أمّ " عقل " ابتسامة ، أكلت بنظرها " عاشقة " والفرحة تغمر قلبها ، حوّلت بصرها في أرجاء البيت ، بدت الأرض لناظريها بساطاً أخضر موشى بالأزاهير ، أصرّت على إجلاء الحقيقة بعد جدل طويل مع الذات :
    - حسناً ، سأخبرك عن موعد الخطوبة .
    قرع باب الدار ، دخل ابن " الدحبيش " يرتدي ثياباً أنيقة من خلفه " مفيدة " لا تقل عنه أناقة ، استقبلهما " الجد " :
    - أهلا ...
    جلسوا في فسحة الدار بشكل نصف دائرة . بعد صمت طويل دارت بينهم أحاديث كثيرة ، تارة في أحوال البلد ، و طوراً في الأمور الاقتصادية ، والاستغلال ، و أحياناً في أمور جانبية . كان ابن " الدحبيش " يحاول أن يبرز فلسفته يناقش من فوق أنفه كأن لاوجود لأحد سواه . كانت " عاشقة " تتجنب نظرات تجلدها كالسياط . ضاقت ذرعاً :
    - هذه أراء برجوازي الصغير .
    - هل هناك برجوازي كبير و صغير ؟.
    - نعم لا فرق كلاهما يمص الدماء .
    بدا على وجه ابن " الدحبيش " قلق خالص ،كف عن النقاش أحس من نظرات "عاشقة " بأنه غير مرغوب في وجوده .. ارتبك و لم يعرف كيف سيتدبر الأمر ؟ . حوّل بصره عن "عاشقة " يجتر قلبه الأحلام كان يحلّي إصبعه بخاتم ثمين ، انطلقت منه ضحكة عريضة ، و قال:
    - سأقضي شهر العسل في الولايات المتحدة الأمريكية .
    و نظر إلى وجه " عاشقة " التي بادلته نظرات استصغار ، وجدت في الصمت جواباً ، ارتبك بعض الشيء ، لم يعرف كيف سيتدبر الأمر ؟. أشار إلى أمّه بالانصراف .قال لجد عاشقة :
    - لي حديث بخصوص عاشقة .
    - تفضل .
    - هذا لطف منك لكن ليس بالضرورة الآن ، عليك أن تذهب إليّ على العنوان التالي . شارع مدحت باشا رقم المنزل 2 في بيت الدحبيش صاحب اكبر معمل غزل .
    استأذن من " الجد " و انصرف مع والدته لا يلوي على شيء .
    وقف " الجد " يشيعهما بنظراته ، كان رجلاً صادقاً في عاطفته ، واسع الخبرة بالحياة ، خليق باستيعاب ما يدور من خفايا ، طافت في رأسه ذكريات ،شعر برغبة جامحة لأن يضم الناس لا غيرهم إلى صدره تهدّج صوته :
    - إنك طاعون.
    تسير السيارة بسرعة هائلة في الطريق الدواليب تطوي الطريق طياً ، فوجئت "مفيدة " بتغير طرأ على وجه ولدها ، سألته:
    - أتكون المرأة خاطبة لعاشقة ؟.
    - لا أعرف ، لكن شكلها مألوف ، ربما كنت أعرفها من قبل .
    - هل لك معارف من هذا الصنف ؟.
    - أنسيت أن معظم الذين اشتغلوا في معمل والدك من هؤلاء ؟.
    - لم أنس .. أولم تلاحظي نظراتها ، كانت تجلدني ، كأن لها ثأراً عندي ، إنني خائف ، بالأمس تنبأت لي البصارة ، بأن شاباً فقيراً سيخطف منك عاشقة .
    - لا عليك ، من يستطيع أن ينافسك و أنت ابن الدحبيش الذي يملك الأرصدة في البنوك و الأرض الممتدة على طول النظر.
    - والعرافة ؟.
    - ليس البصارة بأكثر من غجرية ترقص من أجل حفنة من النقود .
    وقع بصرها على عناصر الدرك يقبضون على الغجرية من أجل توقيفها و هي تشتبك معهم ، تقاومهم تصرخ ، و شعرها يتطاير مع الريح كفرس جموح هذا المنظر أعادها إلى أيّام خلت ، تذكّرت " عاطفاً " شعرت بخزي أحست بأنها سببا في انقياده إلى السجن لينال عقاباً على جريمة لم يرتكبها .قالت :
    - عرج إلى المقبرة .
    أحبت أن تزور المقبرة ، بغية أن تضع على قبر أبي " عقل " بعض الرياحين ، سرت إلى صدرها نسمة ارتياح ، فوجئت بصوت شاهدة تتحطم على الأرض . كل شيء تراءى لها واضحاً في ضوء الشمس . تأكدت من تكون تلك المرأة التي جمعتها بها المصادفة في منزل " عاشقة " ، أومأت برأسها و هي تستند إلى شاهدة القبر :
    - ابعدْ عن عاشقة يا ولدي .
    - لماذا غيرت رأيك ؟
    - لا أعرف ، لا أعرف . أرجو أن تبعد عنها .













    الفصل السادس


    طلع الفجر و بدأت القبرات ترتل أغاريدها ، بدت عاشقة " حورية في حلة قشيبة .تسلل شعاع الفجر من الأكمة لاح من بعيد كحورية يرعشها النور . كان دياب في نشوة أحلامه ، ورقص النور في أوابد الشام ،تسلل شعاع الفجر من كوّتها يرتعش بزقزقات العصافير ، وجماعات من تحل دؤوب يطن حول الخلايا ،ثمة زهور تفتح أكمامها لإبره حبا بالخصب .
    رنا دياب صامتا .
    تناول شبابة قبل أن يبدأ العزف ، سمع خشخشة في ظلام مطبق ، ارتسم أمام ناظره طيف نجمة فأخذ يعزف للغجرية أغان أبدية ،غط ريشته في لجج البحار ، يعزف أغان لعشتار وجلجامش يبحث عن عشبة الخلود في لجة البحر ، عمل بوصية " أوبتنابتشيم " لكن الأفعى ابتلعت العشبة ، كما ابتلع الهنود الحمر و لاحق الأفندي عشرات من الغجر ، ثمة حورية تنبثق بزي تراثي قديم ، بدت قوية سريعة الحركة ، حدجته بنظرات ثاقبة :
    - من يردد قصيد الشآم ؟.
    تتطلع " نمر " بإعجاب ، استدعى ذاكرته ، انتابه شعور قوي بأنه عازف قصائد الشام . راودته حورية الأوابد مع حاشيتها لتقيم السهرات الراقصة مع الغجرية " نجمة " على مسارح الحياة .
    استيقظ على رائحة تربة من آبده في عرس الصحراء . انبرت "نجمة " ترقص فهي تلم بثقافة الآلهة " عشتار " تطوف فوق المعابد . دعك عينيه ،نظر إلى ساعته ، كانت الساعة تشير إلى ظهيرة السادس من تشرين الاول لعام 1973 . أدار " نمر " مفتاح المذياع . كان صوت " فيروز " ينداح ، بالافاق : ( خبطة قدمكم ع الأرض هدّارة ) .
    ضرب كفاً بكف:
    - حان وقت الرقص يا نجمة و الذوبان .
    تطلع " دياب" إليه بنظرات لا تخلو من الإعجاب:
    - من يردد قصيدة الشآم ؟.
    - أبشري يا عاشقة إنني على العهد سأعيد ما فقده عقل ، ستبقين مرفوعة الرأس بعودته .
    التمعت عينا " دياب " ضحك وهو ينظر إلى وجه " نمر " أدهشه ما بدا على وجهه سأله :
    - أتحدّث نفسك ؟.
    - يا إلهي !...كم أنت دقيق الملاحظة .
    - لا أفهم قصدك ؟
    - ألم تر الطائرات ؟
    - ربما تكون في حالة تدريب .
    - لا ...لا أبداً إن الأمر غير عادي .
    - ليكن .. لنحتفل بهذه المناسبة ...و سترقص نجمة أجمل الرقصات .
    وصلت الأوامر .. تحركت المدرعات ،بدا كل شيء إلى الأمام ينبض بحمرة قانية ، وبدت مداخن ترسل دخاناً في الظهيرة . وقفت " عاشقة " بشموخ على قمم الجبال تشد أزرهم :
    - عقل بانتظاركم .
    وقفت رقية تعبة لاهثة تعد أكليل العرس :
    - سنقف اجلالا أمام الغجر .
    ما كادت الأنباء تستقر في ذهنها ، حتى مسحت بطرفها أرجاء المكان ، و راحت تضفّر جدائلها .
    كانت رقية تصغي إلى المذياع علها تسمع خبراً عن " عقل " سرّت لذاتها :" سيكون الحلون كبيرا من عاشقة ".
    قررت عاشقة أن تبحر في عالم الغجر رغم شدة القيظ ،تبدلت رؤيتها للأشياء ، لم تستطع أن تعبر عن مشاعرها ،وجدت نفسها ترتدي ثوباً نظيفا عله يكون استعداد للقاء " عقل " . كانت تسير باتجاه محطة الحجاز والشوارع تكتظ بالناس ،الباعة يجوبون الشوارع ،العمال متجهون إلى معاملهم وطلبه في مدراسهم غير مكترثين ، رغم همجية الطائرات التي تلقي حمولتها ،سقطت دمعة على خدها ، وتوقفت غصة في الحلق ، شعرت بالفراغ حدثت نفسها وهي تصعد إلى بالص المخيم :" أرجوك ...عد يا عقل".
    وقع بصرها على قافلة من الجند تشق الدخان باتجاه الجبهة والناس يلون بالرايات ويرفعون الإشارات بأصابعهم غمرها المشهد بفرح عارم ، كم تمنت أن تضمهم إلى صدرها "
    - سيعود مكللاً بالغار بالأمس رأته في المنام .
    قال لها :
    - سأعود يا عاشقة و معي هدّية لائقة .
    صوب نظره إلى قاسيون :
    - ماذا نسمي المولود بعد الزواج ؟.
    - سأسميه عقلاً إذا كان ذكراً .
    - عاشقة إذا كانت أنثى .
    ارسلت نظرها إلى الحقول ، تذكرت شقشقات القبرات عندما لاحق الخيط الأبيض جحافل الليل ،كانت نجمة ترقص بعنف :
    - يحيا الفجر .
    جماعات من الغجر يرقصون على البيادر :
    - يحيا انبلاج الفجر .
    تبادر لذهنها شريط من الذكريات فسألت نفسها :
    - أين أنت يا نمر ؟!. أما زلت تعشق نجمة ؟!.
    يوم ذاك قال لها :" أعرف أنني ولدت في بيوت الغجر ، بين شجيرات الصبار ،لكن لا أعرف أين أموت ؟.
    أثناء ذلك اتصل " ماجد " مع " نمر " عبر جهاز الإرسال :
    - بدأت المعركة.
    - سينطفئ سراجهم ، و سندحرهم عن أرضنا .
    - يقاومون بعناد مستميت .
    - ترعبهم قواتنا .
    انقطع الإرسال لم يعد يسمع شيئاً ، اختلط الأمر في ذهنه ، تبدلت رؤيته للأشياء ، منذ منتصف النهار ، تدور رحى المعارك . يشتد أوارها حتى هبوط الليل ، توغلت القوات في عمق "الجولان " هذا ما أعلنته الإذاعات كافة : إن القوات السورية سيطرت سيطرة تامة على طول الجبهة بخسائر لا تذكر .
    كان " نمر " واثقاً من تحرير الأرض عاجلاً أم آجلا .
    كان " عماد " يراقب ما يحدث الآن ، شمخ حين رأى القوات تسطر أحرف الملحمة . فقال عبر جهاز الإرسال :
    - أنت الأمل يا نمر .
    - لا عليك .
    - أنت تعرف سبلها و فجاجها .
    - كن مطمئناً .
    - كيف . معنوياتكم ؟
    - لدينا أسرى ، سنرسلهم إلى الداخل .
    كان نمر يدير معركة الدبابات بأعصاب هادئة ، وأمام نظره البيّارات تطوق فلسطين الملفحة بالدخان:
    - القنيطرة بأوديتها وأشجارها وشجيرات العليق الشاهدة على الأصالة قال محدثاً نفسه :" انتزعت أنياب الذئاب.
    اتصل " عماد " بـ " دياب ":
    - كيف أحوالكم ؟
    - خسرنا دبابتين . عندما اخترقنا موقع العدو .
    أثنى " عماد " على " دياب " :
    - سننزع الأرض من الغاصب .
    قال دياب :
    - أسراب من الطائرات تُلقي علينا أحمالها .
    أجابه " عماد " :
    - القيادة أدرى بما يحدث .
    رصد " ماجد "الطائرات.تصدى لها الدفاع الجوي
    قال المذيع :
    - فعلت الصواريخ فعلها .
    كانت نجمة ترقص رقصا غريبا وقارع الطبل يدق على جلد الثور ، صدحت أغاني الدلعونة :
    ( على دلعونة على دلعونة
    من يوم النكبة تغير الكون
    على دلعونه على دلعون
    يالله يا لغاصب أرحل من هونا ).
    - شوبوش .شوبش .
    قال عماد :
    - اليوم يومكم أيها البواسل ..
    المذيع :
    - زجوا بسلاح جديد من الطيران .
    عاشقة :
    - ليزجوا كل ما لديهم .
    قائد دفاع الجو :
    - لا عليك ... لو زجوا طائرات من كوكب آخر صواريخنا لها بالمرصاد .
    ردّ " عماد " عبر جهاز الإرسال :
    - فلنصمد .. فلنصمد .. و سنصمد .
    أحب " الشاعر " الناس و الأزاهير ، كتب عن الوطن ، كان يعرف كل طقوس العشق ، حذّر من اللصوص ، أشار إلى مواضع الخراب ، نقّب عن الحقيقة في أمهات الكتب . صفّق تعبيرا عن مدى سعادته:
    - مرحى لك يا ماجد .. أرى الصواريخ تمزق طائراتهم .
    هبط الليل و ما زالت قوات " نمر " تدك تحصينات العدو . الانفجارات تحرق الأرض و قوارضها . تقدم دياب بدباباته قام بمنوارة ،عتلت الدبابات التلول تصر جنازيرها على الضخر ، ثبت رماة صواريخ المالوتكة في مواقعهم ، تهيأ لـ " نمر " أنّ أسفل الراسيّات تمور تحت جنازير الدبابات . تقدمت ا إلى الأمام وقف شامخاً على التلول ( الحمر ، الفرس ، و أبي الندى ) .
    اتصل " عماد " مع " دياب " عبر جهاز الارسال :
    - أين أنتم الآن ؟.
    كان جالسا في دبابة القيادة .
    - ملأت قربتي من ماء طبرية .
    - القوة لكم .
    المذيع :
    - تتساقط الطائرات الأسرائيلة كالغربان في سماء دمشق .
    جعلتها الصواريخ تضل أهدافها داست أقدام الأطفال على قطعها غدت بين أياديهم ألعابا .
    ظهرت عاشقة بثوب أحمر ربت على أكتاف الأطفال ، دعوتهم إلى عهد جديد :
    - من أجل أن تعيشوا بآمان .
    ردوا عليها :
    - لن نحفل بلأخطار مادامت نجمة تعلمنا الرقص .
    دوي الانفجارات تصم الآذان ، ولهيب النار يشق حجب الليل ،العيون متعبة والأمل يتسلق الأهداب كياسمين الشام .
    سأل عماد :
    - كيف معنوياتكم ...يا رفيق دياب ؟..
    - لم أتوقع بأنهم جبناء إلى هذه الدرجة !.
    - حسنا .
    - أنتم دربتم الجواد على شق الوهاد و اقتحام المصاعب .
    - الصمود .. ليس إلا الصمود .
    - خسرنا بعض المدرعات .
    - ساعات يصلك الدعم .
    ثمة تكاتف عام و تنسيق بين القوات الأرضية ، من مدرعات وسلاح دفاع الجو و الطيران .
    تعالت أغاني نجمة على شاشة التلفاز .
    قطع أغانيه :
    - من ينال من أناس يقاتلون من أجل حقهم وقلوبهم صلدة كالرّحى .
    صرخت الحجارة:
    - أين جلجامش ؟.
    ردّت القلاع :
    - علام ؟.
    - لإخماد ألسنة خمبابا .
    دوى صوت أنكيدوا :
    - تعالي يا آلهة المعابد و افردي غلائلك في مدن العشق .
    تعاظمت قوة " جلجامش " اقتحم غابة الأرز بعنفوان و غضب يشد أزر " انكيدو " حرق غابة الأرز .
    استمرت الاشتباكات طيلة النهار كان "جلجامش " يرصد مركزين " لخمبابا" في لمح البصر وجه سهاماً إليهما ،ارتفعت سحب الدخان توهج المكان بألسنة اللهب.
    كان " عماد " يرصد الهدفين . فاتصل بـ " دياب ":
    - تحية لكم .
    - اطمئن .. لكننا نحتاج إلى بعض القوات .
    - القوات تتقدم .
    كان " نمر " شديد الاهتمام بتحرير الأرض . سرح بصدى الآمال ، لم يستطع أن يعبر عن شعوره المفاجئ ، وجد نفسه ينتظر القوات بنفاد صبر .. غضب غضبا شديدا . تذكر أيّام حرب النكسة ،شلهم العدو في تلك الأيّام اغتصب " الجولان " . ووقع " عقل " جريحاً في حفرة الدبابة .


    كانت عاشقة مستغرقة في تأملات حين بدا الفجر يلاحق فلول الليل لاح طيف عقل من بعيد كأنه حلم ، حلمت بإخلاء سبيله ، تألقت عيناها حبورا وضعت لنفسها جنحين وطارت كعقاب في الفضاء .كانت كافة أعماله ماثلة أمامها ،فتحت الباب وجدته يكتب عن رقصاتها :
    - إن الشفاه الناطقة بالمعرفة جوهرة الحياة .
    - من ؟.أنت .
    - بالمطالعة تترسخ المعرفة .
    - سيعود نورس البحر .
    مرت الأيّام وفاض الدمع من عينيه ولم يعد النورس .
    هربت كنبع في منحدر ستت أعوام ميلادية طفرت أوراقها ، تدون على الأوراق من حكم وأمثال حتى امتازت بعقلية فلسفية ، ستت أعوام والحروف تحترق والكلمات هاجعة ، بدت تتبخر العاطفة ، ولم تبق إلا صور لم تؤول إلى النسيان ، ملكة النسيان تهيئ الراحة للإنسان راحة الضمير ، وسلامة سير الأفكار قالت لنفسها :
    - لعل الطبيعة تحمل هذه الملكة ،وإلا لماذا لانرى شرخ الزلزال ؟.
    قال النقيض :
    - حسنا . ما هذا ؟.
    - نعم . لم نره إلا بعد حين ، فيدمل الآثار لتنبت عالما جديدا من العشب يمثل الخضرة والديمومة .
    لم تشأ أن تضيع الوقت ،شغلت نفسها بمشكلة أسر عقل :
    - من حق أي إنسان أن يدافع عن أرضه .
    كانت تتوقع شيئا لا تدري كنهه ، ربما الأيّام التي عايشته أقوى بكثير من ذلك البركان الذي خطفه في ذروة العشق ،فرأت أنه من الواجب أن يبقى على سابق عهدها .فقالت :
    - يا إلهي !..أنا واثقة بأنه على قيد الحياة .
    كانت تعرف السياسة ، وكل ما يدور حولها من التواء نتجة الحرائق الخفية .
    قطعت القيادة عهداً على نفسها أن تواصل التدريب .كان التدريب الوسيلة إلى بناء رجال أقوياء لا يخشون جحافل العدو ، استيقظ الفينيق من رماده ،ونذر نفسه للزود عن حياض الوطن :
    - هذا ما حدث في ستت أعوام .
    عرفت القيادة بأن المقاتلين أصبحوا رجالا للمهام الصعبة .
    اتصل " عماد " بـ " دياب " :
    - اليوم يومكم ،اصمدوا في مواقعكم مهما كان الثمن .
    واصل الجند اقتحام خطوط العدو . استطاعوا أسر عدداً من جنوده . هناك ممن لم يحالفهم الحظ لمثل هذه المواقف .
    كان الشاعر يقبع في حفرة ،تواردت الأفكار إلى ذهنه ،ارتسمت علامات فرح على وجهه :
    - يجب أن أفعل سيئا .
    رفرفت الأحلام فوق رأسه كحمائم فوق معابد الشآم .قرر أن يقتحم موقعاً بطريقة فردية ، ظل يحتفظ بهذه الفكرة حتى دوي الليل المهيب طوى المسافة زحفا على يديه وركبتيه ، قفز من حفرة إلى حفرة حتى أصبح على قاب قوسين من ضالته تأتى لسمعه وشوشات بلهجة عبرية :
    - هذا الموقع الذي رصدته منذ ساعات .
    انقض على الحفرة قتل الأول وأسر الثاني كبل يديه . جاء به إلى الموقع :
    - رماه أمام " ماجد " .
    قال :
    - قمت بفعل تعاقب عليه .
    - حسنا . علام ؟
    - حياتك غالية جداً .عليك ألاّ تتصرف بشكل إفرادي .
    - أمرك سيدي .
    انتاب " ماجد " سرور شديد :
    - يا لك من بطل .
    راح يشد أزر قواته ،يتأمل الرفاق، يقدمون الأرواح رخيصة فداء للوطن . انقضت طائرة معادية ،تلقي حمولتها على قواتنا المتقدمة إلى قطاعات جديدة في عمق " الجولان" ، تصّدت لها القوات السورية قبل أن تحقق هدفها ...قامت الطائرات سورية بهجوم معاكس على أهداف معادية في عمق الجبهة الشمالي .
    صرخ الشاعر :
    - حماكم الله أيها العقبان .
    رصد ماجد تحركات طائرات معادية :
    - اللعنة .
    - انظري يا عشتار ؟ ما يحل بنمتار .
    - هذا من صنع الثور السماوي ؟
    اتصل عماد بنمر :
    - لا يهمني سوى تتحرر الأرض و بخسائر لا تذكر .
    - لا عليك .. خلقنا للدفاع عن الأرض و العرض .

















    الفصل السابع


    خرج " عائد " مع قطيعه إلى المرعى .بعد أنتهاء حرب النكسة ، جلس على صخرة دهريّة ، كان واضعاً أمامه شبابة ، لكنه لم يعزف في تلك الحظات ، سمع خشخشة ، ارتسم في مخيلته طيف يعبر المحيطات ، خفق قلبه ، تمالك أعصابه فتناول شبابته ، و راح يعزف أغان أبدية "لعشتار " .
    أحس أنه يحلق في الآفاق ، و راحت غجرية الغدير تستحم بشعاع الشمس ، ثمة غجريات بين الحقول ، أحب إحداهن ، كانت تنبثق كلما طلبها ، و فجأة ظهرت " عشتار " كعادتها ، بدت قوية ، سريعة الحركة حدجه بنظراتها :
    _ من يردد قصيدة الشام ؟
    تطلع إليها بنظرات لا تخلو من إعجاب ، استل شبابته و راح يعزف لحنا و الأغنام ترعى الأعشاب ، يدندن أغنية شجية :
    ( يا شام مالك
    علي لوم ..
    لومك على الغدار
    يا شام أنت القلب
    دمعي عليك انهار ) .
    التمعت عيناها و ضحكت ، ثمة سحبت قوسها السحري ، اطلقت سهماً صوب قلبه ،اختفت بين أشجار آبدة ، في الأوابد تعيش آلهة الخصب ، شعر بعاطفة تدفعه صوبها ، انتابه شعور قوي بأنه عازف قصائد الشام .راح يعزف بدافع من الآلهة ، استولى عليه سحر العزف ،تذكر حين تأتي الغجرية مع حاشيتها لتقيم السهرات الراقصة على مسرح الحياة تهتز الأرض ، يجتمع كل الغجر في معبد عشتار . أثناء ذلك ارتقت الشمس قبة السماء ،بدأت القبرات ترتل ألحان الشام . توقف " عايد " عن الغناء تأتّي لسمعه أنين إنسان ، حبس أنفاسه ، التفت يميناً و شمالاً حتى حدد مصدر الصوت . مشى بتؤدة وصل إلى حفرة كبيرة أجال بصره ، شاهد رجلاً جريحاً ، لم يميز سحنته من الدماء . وقف برهة يفكر وصل إلى قرار . حدث نفسه : "سأسأله من يكون ، إذا ردّ علي بلغة عبرية تركته ومضيت إلى شأني ".
    حشد " عايد " كل جرأته:
    - من أنت ؟.
    أجابه بلغة الضاد :
    - عقل .. أرجوك جريح .
    وثب " عايد " إلى وسط الحفرة ، حشد كل قواه ، نزع ثياب "عقل " العسكرية ،و الحذاء أيضاً .ضمد جراحه بالكوفية ،و خلع ثيابه البسها إلى " عقل " ،لم ينس أن يضع ثياب " عقل " المشبعة بالدماء في صندوق الذخيرة ،حفر حفرة كبيرة ، وضع الصندوق في جوف الحفرة ،طمّها بالتراب . عاد ليدس نفسه بين المواشي. كان على موعد مع زوجه ، ستصل بعد قليل تحمل إليه طعام الغداء .
    انقبض قلبه بعض الشيء ،أحس برعشة في جسده .فكر كيف سيتدبر الأمر .قال لنفسه : " يجب أن إسعف عقل .
    كانت زوجه تغذ السير في مدى الدرب. تجيل بصرها يميناً و شمالاً ، لم تعثر على " عايد " نادت بأعلى صوتها :
    - أين أنت يا عايد ؟.
    - تعالي يا غالية .
    رنت يميناً و شمالاً لم تعثر على ضالتها :
    - اظهر عليك الأمان .
    فكرت أنه يمازحها . رفع رأسه ، وقع بصرها عليه حثت خطاها صوبه ،كانت المفاجأة .وقفت قبالته وجهاً لوجه صعقت لمنظره غير المألوف . القت الطعام على الأرض ، ضربت على صدرها و صرخت :
    - يا ويلي .. جنّ الرجل .
    رفع إصبعه و أشار :
    - بس دون فضائح يا غالية .
    - يا ويلي ...
    - اجلسي لأقص عليك ما حدث .
    رجفت أعصابها بسملت وحوقلت ، جلست القرفصاء على بعد أمتار خوفاً من أن يكون قد أصابه مس من الجنون :
    - تفضل .
    - هجم قطيع من الذئاب على الأغنام ،و دارت بيننا معركة .
    - ما علاقة ثيابك ؟. لا تقل إنها سلبتك الثياب .
    - يا لك من ذكية كيف عرفت ؟ أخذت الثياب وولّت الأدبار.
    ضحكت " غالية " هدأ روعها ، دنت منه لاذت به :
    - أحسب أني صدقت قصتك . كيف ستذهب إلى البلدة ،وماذا سيقول الناس ، و لو شرحت لهم الحادثة هل يصدقونك ؟.
    - لا حاجة لتضييع للوقت ،أسرعي إلى البلدة واجلبي لي ثيابا غيرها .
    حثّت خطاها صوب البلدة ،سألت نفسها:
    _ أيكون قد فعلها مع العبريات ،و من أجل أن يكون عرضة لمسخرة الناس، أخذت ثيابه ، فاقترح هذه الحكاية خوفاً من الفضيحة ، لا .. لا لم أصدق ،أعرفه جيداً ، وأعرف كم يحبني المرأة تعرف زوجها أكثر من غيرها!..
    لم تشعر بمرور الزمن ،دخلت البيت تناولت الثياب ،عادت مسرعة . ناولته الملابس ارتداها بلمح البصر هدأت أعصابها سألته :
    - حقاً ما حدث ؟
    - لا ترحلي بأفكارك بعيداً ،وعليك أن تذهبي إلى والدتك ، سمعت من أحدهم أنها تعاني من المرض .
    - حالاً .
    انصرفت " غالية " مسرعة ، تذكرت حلم ليلة أمس ، رأت " عايد " يستل سكينه و أقدم على ذبح أولاده الثلاثة بعد أن قام بقص شعرهم . انكمشت "غالية " في مكانها هلعه :
    - لا تفعلها .
    هوت على الأرض ، استيقظت مرعوبة:
    - الحمد لله . إنه منام .
    قالت :" سأخبر عايد بالرؤية لعله يتقدم من الله بثلاثة قرابين . غداً عندما أعود إلى البيت .
    وقف " عايد " يشيعها بناظره حتى توارت خلف التلال ، و راح يفكر و يفكر . كيف سيتدبر الأمر ؟. قفزت الفكرة إلى ذهنه ، وثب كالنمر . استل الخنجر ، ذبح ثلاث اكباش من قطيعه ، بسلخ جلد أكبرهم ، قطعه إربا ، انتهى من عمله . قفز إلى الحفرة ،قدم الطعام إلى عقل :
    - لا أستطيع .
    - يجب أن تأكل .
    تناول حبة زيتون ، مضغها حيدا ازدردها ،و لفظ النواة من فيه . شرب قليلاً من الماء . ونظر إلى عائد الذي اخترع فكرة إنقاذه من الموت المحتم ، روى له الخطة :
    - اسمعني جيداً ، سنمرّ على حاجز إسرائيلي ، عليك أن تكون حذراً ، و إلا ضعنا معاً.
    - كما تشاء .
    انتظر هبوط الليل بفارغ الصبر . بدأت النجوم تضيء واحدة تلو الأخرى حمل " عايد" الجريح وضعه على ظهر المهرة ، وضع قدميه في جانب الخرج و يديه في الجانب الآخر . وضع قطع اللحم في الجانبين ثم حمل الفدية الأولى ،وضعها على مقربة من عنق المهر ، و الفدية الثانية على مؤخرتها ،اصبح عقل بين الفديتين . تناول جلد الفدية الثالثة ،فرشه على الفديتين . تأكد من نجاح خطته هش على القطيع قاصداً البلدة ،عمل قصارى جهده على إبقاء المهر يسير ببطء ليبقى في وسط القطيع . حين أصبح على مقربة من المفرزة الإسرائيلية صرخ الخفير :
    - قف .. قف .
    انقبض قلب " عايد " شعر بالقلق ، ثمة أنياب برد قارس تلفع كيانه تسمّر في مكانه :
    - أنا عايد راعي المواشي .
    اشار الخفير بإصبعه إلى المهر :
    - ما هذا ؟
    - الذئاب افترست الاكباش .
    - انقلع .
    بلهجة عبرية .
    هش على الأغنام بعصاه ، لكز المهرة ، نادى القطيع :
    - هرتش .. هرتش ..
    انتفضت في داخله مشاعر متعبة ، وصدحت تغاريد بلابل ،ولج البيت . حمل " عقلاً " بين ذراعيه وضعه على السرير ، هرع مسرعاً إلى الصيدلية ابتاع بعض الأدوية ، عاد يحمل الدواء و الشاش و القطن ، طهر الجرح .كان حريصاً أن لا يراه جاره "صبحي " بات عميلاً للإسرائيليين . انطوت الأيّام تعقبها الليالي تعافى " عقل " اصبح يرعى المواشي عند " عايد " .




















    الفصل الثامن


    تسرب ضوء الفجر عبر الشقوق ، خبا ضوء القمر ، هبط " عقل " درجات السلم ،شعر جفافاً في حلقه وبرودة تعصر القلب ، حث خطاه شطر بيت " عايد " كانت أصوات الديكة تنبعث من هنا و هناك تعلن عن فجر جديد .. راودته أحاسيس عجيبة استنشق من صدرها رائحة ياسمين الشام ، ذكريات ليلة أمس جعلته يحس بشيئ غريب . و حين دخل " عقل " إلى الدار وجد " عايد " بلنتظاره ، كانت زوجه مشغولة بإعداد وجبة الفطور . وقع بصره على عقل :
    - متى استيقظت ؟.
    - قل متى نمت ؟.
    - يعني مازلت مستيقظاً ؟.
    - أجل .. بعد أن تنتهي من عملك سأحدثك عن كل شيء .
    - ليس لدي عمل اليوم .
    كان " عقل " في حالة معنوية ممتازة ،عيناه صافيتين و وجهه نضيراً ، ابتسم برفق .أصر أن لا يبوح بكلمة قبل أن يتناول وجبة الفطور . انتهى من تناول الطعام :
    - قمت بزيارة عرنة .
    - نعم .
    - كنت أرعى الأغنام ، بغية التمويه ، اتخذت مكاناً هادئاً قرب غدير الماء ، أجلس وحيداً بائساً منفرداً ،أنظر إلى عمق الحقول اعطّر انفي برائحة ياسمين الشام . ثمة همسات ذكرتني بـ " عاشقة " و " نجمة " الغجرية و كلماتها الموسيقية ، كنت ارغب بأن أسمعها و أعجب في رقصات " نجمة " الغجرية ، هربت بعينيها الدامعتين بعيداً ، فبدت عيناها لوزتين عند ضفاف النهر ، ووجهها رغيف تنوري يشع في عتمة الليل :
    - يا لنبل عشتار !.
    تنهدت بعمق ،أخذت شبابتي ،عزفت لحناً حزيناً :
    ( أنا زرعت زيتونة
    و عرنة زرعت تفاحة
    و ليمونة بأرض الشام
    شربت دمع الفلاحة
    كنت على وشك أن أتوقف عن الغناء .هبطت فتاة من بين الآجام ، ابتسمت برفق ،رمشت بأهدابها و لا اجمل يحمل صدرها قبتين صنعتهما يد فلاحة دمشقية ، كلماتها بحار يتعذّر سبر أغوارها ، دنت مني نظرت إلي نظرات حالمة ، أحسست بأن وراءها أمراً ما . تأملتها وجهها المقمر .. لاذت بجانبي ،تنهدت بعمق فذكرتني بـ "عاشقة " . راودتني أحاسيس غريبة في بادئ الأمر ،خبأت كلامي في صدري و بلا شعور:
    - مرحبا بك .
    - عرنة .. ألم يعجبك اسمي ؟.
    - اسم جميل ..
    - أحب أن اسمع أغانيك . الحق .. أغانيك مثيرة جداً .
    - هل سمعت الحاني ؟..
    - هل تتلطف و تعزف لي المقطع نفسه ؟.
    توالت اللقاءات . دعتني إلى منزلها .ذهبت إلى الموعد المحدد :
    - أين أهلك ؟.
    - نزحوا إلى دمشق عنوة .
    - كيف ؟..
    - كان والدي فلاحاً طيباً يحرث هذه الأرض بيده المعروقتين ، وفي أثناء حرب حزيران كنا نجني المحصول . فجأة ضج المكان بهدير الدبابات الإسرائيلية ، ولم يتمكن والدي من العودة إلى البيت . و عرفت أنه في دمشق من المذياع ، قبض علي الضابط الإسرائيلي ، أصبت بدوار شديد ،لم أعد أذكر شيئاً ، كل الذي أذكره بأنني استيقظت بين أحضان صاحب الصورة .أشارت بإصبعها إلى الجدار رفعت رأسي وقع بصري على الصورة ، صرخت :
    - هو ذا القائد ، هو بذاته ، كنت على وشك أن اقتله .
    - أتظن أنه يعرفك .
    - ربما ..
    لم أعد أتمالك أعصابي ، قذفت الصورة بحذائي ، سقطت على الأرض ، دهشت " عرنة " من تصرفي ، قبل أن أغادر المنزل . اخرجت من محفظتها غليوناً قدمته ليّ كهديّة . تناولت الغليون تفحصته ملياً :
    - غليوني بذاته ؟!.
    سألتني " عرنة " :
    - أنت ضابط من بلدي .. أرجوك خذني معك يا عقل .
    - لم يحن الوقت .
    - أرجو ألا تنساني .
    - لا .. لا سنلتقي .
    ربت " عايد " على كتفه :
    - أرجو الحذر و الحيطة .














    الفصل التاسع


    زمجرت السماء و تحاربت العناصر الغضوب ، فاضت الشطآن و وظل " عقل " موضوع تأملاته ، امتد شعوره إلى الأعماق ، ثمة من يبعث فيه الأمل عرف في أي اتجاه تسير المراكب ، أدار "عقل " مفتاح المذياع . أفصح المذيع :" اسقطت القوات السورية طائرة استطلاع أمريكية دون طيار.
    هب واقفاً ، صرخ :
    - فلتسحق طياراتهم بطيار و بدون طيار .
    قصد مكانه المحبب ، جلس بعيداً عن الناس ، شرد بأفكاره خلف الأيّام ، تأتّى لسمعه غناء ذكّره بـ " عاشقة " غناء رخيماً ،سمع من خلاله صوت "عاشقة " و قرع طبول الغجر . كان الغناء يشنّف أذنيه ، راودته صورة والدته تدغدغ بأطراف أصابعها عقداً من اللؤلؤ ، احتفظت به رغم السنوات العجاف أصغى إليها:
    - كل حبة من هذا العقد كلفت والدك آلاف قطرات العرق من جبينه ؟
    كانت تتألّم من أعماقها . لكنها غيرت مجرى الحديث :
    - طلبت لك عاشقة . سنذهب غداً لنأخذ معنا خاتم الخطبة ، أحسنت الاختيار ، أعرف لا يعوزك الذكاء . أنت تصر على أن تكون لعاشقة نعم الخطيب حقاً و صدقاً . فأملي عظيم بأن تكون جديرة بك .
    رفع " عقل " رأسه ، وقع بصره على صورة والده:
    - هذه صورة والدي حقاً ؟!
    - نعم ، إلا أن الرسام لم يكن بارعاً . لوالدك جبهة عالية و حاجبان كثيفان ، وعينان بلون السماء ، فلتصبّ لعنتي على الدحبيش ، الله وحده يعرف ماذا صنع بوالدك .
    ضحك " عقل " :
    - سألتك عن صفاته .. دعينا من الدحبيش .
    - إنك تشبهه الخالق الناطق .
    - يسعدني أنني أشبهه . ( فمن شبّه بأبيه ما ظلم ) .
    كانت الأم تخفي في داخلها قصة زوجها المؤلمة و تعيش فيها و لا تدري كيف ستخبر "عقل" بالموضوع . استغلت الفرصة :
    - كان والدك يقف إلى صف العمال ، لأن الدحبيش ،وأعوانه مصاصوا دماء . أصحاب الأرصدة في البنوك ،كان يعرف انهم سيخطفونه بلحظة غدر ، رغم حذره فعلها الأنذال .
    قضى والده و لم يبلغ أشدّه ، يلوذ بصدر والدته و هي تذرف دموعاً مدرارة ، لذا يحمل لأمه احتراماً كبيراً ،أحسنت تربيته تحملت لأجله الكثير من المتاعب ، سهرت على تعليمه رغم السنوات العجاف . عرف مكر " الدحبيش " و الأفندي أيضاً .جمع عنهما قصصاً رديئة شعرت أمه ما يدور في ذهنه :
    - كان جدك يوجه اللوم إلى زوجه ، يعتبرها سببا في رحيله إلى المدينة .
    - أكان جدي في فاقة ؟.
    - لا .. الأرض كآلهة الخصب .
    - كيف دبر أمره في المدينة ؟.
    - استلم مهامه في معمل الدحبيش ،فكانت النتيجة .
    أجّجت الأحداث في داخله براكين الغضب . منذ ذلك التاريخ يكظم غيظه ، أخذ يعمل دون كلل كنحل دؤوب يجني العسل الأشهب بغية أن يخفف الألم عن والدته .
    ما زال ابن الدحبيش ينافسه :
    - خففي عنك ، سأحقق حلمك ، لكن أين الطعام ؟.
    - آواه ما أغربك .. ظل والدك أربعة أيّام دون طعام .
    - علام .
    - يكتفي بالنظر إلى عيني .
    - في عينيك حقول خضراء و ينابيع صافية .
    - أتسخر يا ولد ؟.
    - لا .. أبداً . أحبك والدي حتى الثمالة .
    - يا لك من عقل ذكي ..
    غابت الأم دقائق وثم عادت تحمل طبق الطعام عليه باقة من الورد . راحت تحدثه عن قدسية الورد حتى غالبها النعاس انسلت إلى فراشها ، غطّت في نوم عميق . تحلم ، و ينداح الحلم . رأت نفسها على بيادر القرية ، عقدت الدبكة في الساحة احتفاء بـ " عاشقة " كعروس لـ " عقل " ،رقصت نجمة الغجرية رقصاً غريباً على إيقاع جديد ، قارع الطبل يلف و يدور حول " نجمة " و يقرع الطبل بقوة عجيبة ، انقض الأفندي على الغجرية أمسك ضفيرتها بغية إخراجها من وسط الجمهور .
    استيقظت مبهورة على صياح الديكة . أسرعت إلى المطبخ ، و راحت تعد وجبة الفطور ،تدندن أغنية حفظتها عن ظهر قلب من أيام الحصاد في القرية . حين كان الفلاحون يتبادلون الأهازيج و الأغاني بين الحقول الناضجة بالسنابل :
    ( يا طير البطة .. يا طير البطة
    مد لي جناحك .. تّـ نام غطة
    يحرم علي .. حصادك يا لحنطة
    ما داموا غايب .. اسمر اللونا
    على دلعونا .. على دلعونا
    ترابك سوريا .. كنوز المسكونا )
    تسلقت الشمس منازل الحي و انتهت أم " عقل " من أعمال البيت ستقوم بمهمة ليست سهلة . ستذهب إلى جد "عاشقة " مع والدها ولا تدري متى تؤب إلى البيت . ما زال "عقل " نائما و هي تدندن أغان ريفية لها وقع خاص في حياتها . نهض " عقل " على صوتها الرخيم . مسح عن جفنيه الوسن ،دخل على والدته و مع ابتسامة رقيقة :
    - لم ادري انك تجيدين الغناء .
    - و أجيد الرقص أيضاً مثل نجمة الغجرية .
    - من علمك فن الرقص ؟.
    - من يكون غير والدك ، علمني الرقص الأجدى .
    - على أي إيقاع ؟.
    - على إيقاع الغجر ، اسكت ، لا تقل شيئاً .
    - عفواً ..
    و ضحك .
    - أتسخر مني يا ولد ؟!.
    - أبدا .. سألتك بغية أن أتعلم فن الرقص. ربما رقصت مع عاشقة .
    و في الزيارة الثانية إلى بيت " عاشقة " ، استقبلهما " الجد " استقبالا حاراً :
    - مباركة ، مباركة .
    صافح أمّ " عقل " زغردت ولبست " عاشقة " خاتم الخطوبة . جلس " عقل " قرب الجد بعد الاتفاق على المهر .حدد الفرح بعد جني المحصول ، ضج المنزل بالزوار ،من بينهم " مفيدة ". وقع بصرها على خال في وجه أم " عقل " ، لكزت " زهيراً ":
    - أمّ عقل .
    - من تكون ؟
    - قتل زوجها في معمل والدك .
    - ما وجه الغرابة ؟
    - أبوك وراء قتله .
    اقتربت أمّ " عقل " لتجلس قرب " مفيدة " :
    - جئت تشاركيننا الأفراح ؟.
    - أيّ أفراح ؟.
    - خطوبة عقل من عاشقة .
    انصرفت مفيدة مع ولدها تاركين البيت يعجّ بالأفراح في طريق عودتهما إلى البيت قصّت " مفيدة " عليه قصّة ،طوتها الأيّام ، وجعلت قلبها يتصدّع على " عاطف " .وبقيت أم " عقل " تبادل المباركات:
    - عاد أبو عقل بهيئة جديدة .
    أكرم الجد ضيوفه ، شمخ بأنفة و اعتزاز اتكأ على عكازه شرد خياله بعيداً . أعادته الذاكرة إلى أيّام خلت ،كان يخرج مع حشود الفلاحين إلى الحصاد . يحصدون في جد حتى أفول الشمس :
    - سأروي لك كيف تعرفت على زوجتي جدة عاشقة .
    - تفضل .
    - ذات يوم قائظ ، كنت أستظلّ بظلّ شجرة بلوط باسقة ، أمسح بناظري الحقول الناضحة بالسنابل . وقع بصري على فتاة تحث خطاها صوب القرية على كتفها قربة ماء والجفاف في حلقها و قفت قبالتي :
    - عطشانة ..
    - تفضلي.
    تناولت القربة ، شربت حتى روت ظمأها .كان الماء فاتراً:
    - كاد العطش يودي بحياتي .
    لعل طفولتي القاسية علمتني أن أخفي شعوري ، رفعت بصري و في عيني بريق لا يدرك مغزاه:
    - تبارك الخلاق .
    كانت تعيد القربة إلى مكانها ، حشدت كل جرأتي امسكت بمعصم يدها. تورد وجهها:
    - أرجوك اترك يدي ..
    - دخيل ( هالعيون ) .
    - العيون فقط ؟
    - أنت نصيبي .
    - من يدري ؟
    وقفزت كأرنبة بين الكروم ،شيعتها بناظري حتى توارت خلف التلال . أصبحت أجلس في وقت الفراغ و القيلولة تحت شجرة البلوط أنتظر أوبتها بقلق شديد .جاء ذلك اليوم و تزوجنا ، دعونا إلى وليمة العرس كل أهل الغجر و كانت " نجمة " على راس المدعوين . و رحنا نعيش فلسفة حب بعد الزواج . نحتفل في كل عام بعيد زواجنا. ما زلت أتذكر تلك الأيّام العجاف التي عشناها بكل حب .و رغم أن الافندي بات يضيق علينا حياتنا . لأنني تزوجت بمن أحب رغماً عنه . و كان على كل فلاح أن يأخذ رأيه قبل الزواج . حسب رأيه إن الأرض و كل ما عليها ملكه .
    - حقاً ؟.
    - عمل قصارى جهده بغية إفشال حفلة الزواج ،أرسل رجاله ليطردوا الغجر من الحفلة إلا أن نجمة تحدتهم و رقصت هزت أردافها بعنف ، زوجت رغم انفه ،طردتني من القرية ، فعدت عنوة ، أحببت والد عاشقة :
    - لأنه أحب الأرض مثلي .
    - لكن لم تدم فرحتي.
    ارتشف الجد فنجان القهوة ، أحس " عقل " بأن الجد يتألم من صميم قلبه ، صحح جلسته . قبل أن يسأله عن السبب أجاب الجد :
    - أخذها القدر .
    - هذا قانون الحياة .
    - نعم . للحياة قانون . لكن ليس لليد الآثمة قانوناً .
    - لم أفهمك ؟
    خرجت زوجتي لتتفقد الدواجن ،كانت المفاجأة الصاعقة إذا بها أمامي جثة هامدة عائمة بالدماء . صرخت صوتاً رددت صداه الجيران:
    _ يا ويلي .. يا ويلي .
    وثبت كالنمر تناولت عصاً ،خرجت إلى فسحة الدار . وقع بصري على زوجتي ممزقة الثياب مغمى عليها . وولدي فلذة كبدي يعوم ببركة من الدماء . لا أدري ماذا حصل . إلا أنني أتذكر أني اتجهت إلى بيت الأفندي ،أضرب كل من أجده في طريقي من رجاله كما فعل "إياس" بالماشية . استيقظت من غيبوبتي حينما رش أحد الفلاحين الماء على وجهي .التفت حولي . كان لفيف من الفلاحين مجتمعين . خبر السوء ينتقل بسرعة .
    - صدقت يا جدي .
    أحس " عقل " بان الألم يعتصر قلب الجد حاول أن يخفف من وقع الفاجعة :
    - مشيئة الله .
    - لا يا بني .. لن أنسى ذلك اليوم ما دامت على قيد الحياة . كيف أنسى منظر ولدي الذي قتل غدراً على يد الافندي .. رأيته بأم عيني التي سيأكلها الدود يساهم في حمل نعش ولدي إلى مثواه الأخير ؟؟..
    - خفف عنك يا جدي ... أتعرفه ؟
    - طبعاً أعرفه ..
    - لم تشكيه .
    - لمن سأشتكي ، أخبرت الحكومة.. ماذا فعلت . سجلت القضية ضد مجهول!. أتعتقد أن الحكومة ستقف إلى جانبي في هذه القضية؟؟!..
    - تقف إلى جانب الحق .
    - أي حقوق للفلاحين يا بني .. لا أبداً لم يكن ثمة حق لهم . لا حق بين قوي و ضعيف . ألا تذكر قول الشاعر :
    ( أعيذها نظراتٌ
    منك صادقةً
    أن تحسبَ الشحمَ
    فيمن شحمه ورمُ ).
    - إذا سلمت أمرك إلى لله !..
    كان الجد يشتعل غيظا و كل ما تفوه به عن استبداد الأفندي غيض من فيض . عرف "عقل " أن حديث الجد من وحي تلك اللحظات :
    - إلا أن القدر رؤوفاً ،لحظتئذ ، جاء المخاض لزوجة ولده ، و انجبت " عاشقة " عام ألف و تسمعائة و ثمانية و خمسون , ما أصعب ساعات الانتظار ، صرخت الطفلة بين يدي أمّ " ممدوح " القابلة زغردت زغرودة قوية:
    _مبروك .. مبروك .
    - أذكر .. أم أنثى ؟
    - مولودة كاملة الخلقة . عليك الحلوان .. الحلوان .
    كانت الحسرة تملأ قلبي . وكنا حذرين فلم نخبر كنتي خوفاً عليها لأنها في مرحلة النفاث . و لكن القرية ضيقة و المناحة واسعة . و لم يمض على الولادة سوى قليل من الوقت حتى وصل إليها الخبر فأصابها مرض عصبي و بقيت على هذه الحال حتى قضت نحبها .
    - من أخبرها ؟
    - امرأة أرسلها الافندي . نفخ في قلبها الحقد الدفين و في رحمها الله أعلم .. وأرجو أن لا تكون قد مللت ؟.
    - كم أنت صبور يا جدي !.. أرغب بأن تكمل حديثك .
    شحذ الجد ذاكرته .درج لفافة التبغ . أشعلها عبّ منها نفساً عميقاً ثم مجّ الدخان :
    - بقيت عاشقة في كنفي ، كانت شقية في طفولتها ،أنا أحب هذا الصنف من الأولاد .
    - أذن كانت مشاغبة ؟
    دخلت " عاشقة " على شفتيها ترتسم بسمة تقطر عذوبة :
    - أحبك يا عقل .
    - و أنا أيضاً .
    قال الجد :
    - تعالي .. امسكي بيد عقل .
    جلس الثلاثة يتجاذبون أطراف الحديث فقال الجد :
    - قبل الثورة كان الافندي هو الآمر الناهي . لكن الحمد لله هاهي الثورة تقف بعناد ضد هؤلاء .
    ردت " عاشقة " :
    - إن الثورة تحتاج إلى من يصححها ، أو طريقة أخرى لإنجاز الحرية و الكرامة الإنسانية . بهدف معرفة عميقة لتجارب الحياة.
    نظر " عقل " إلى " عاشقة " قرأها من جديد :
    - يا لك من ماكرة . أين كنت تخفين كل هذه المقولات ؟ إني لأعترف بأن المستقبل لك ، و إني متأكد لم توجد ثمة فتاة تجاريك في مثل هذه الأمور .
    خبطت " عاشقة " الأرض بقدمها ،تعرف أنها تلم بأمور فلسفية واسعة لكنها لم تستعمل مثل هذه الفلسفة معه سابقاً :
    - على رسلك . ليس ما سمعته سوى غيض من فيض ، إذن لنبدأ فلسفة ما بعد الزواج .
    - لنبدأ إذا شئت .














    الفصل العاشر


    قبل حرب حزيران بمدة لم يحصل على إجازة من الواجب أن يكون على الخطوط الأمامية ، عليه أن يتغلب على العواطف ، الوطن بحاجة أبنائه في مثل هذه السويعات ، كان الصغير في دماغة يصرخ :
    -لا لن يعود حزيران ثانية .سنغسل وجه الشيخ من درن العدو.
    بسطت العقبان أجنحتها في الفضاء لعزف ألحان الياسمين والورد . كان " عقل "يغتسل في ضباب من الفجر الندي ، ذكريات عن تاريخ طويل من الكفاح المرير في سبيل الحياة ...في سبيل أن تبقى للإنسان كرامته قال والبسمة تزين شفتيه :
    - آه يا جدي كم أنت رائعا ...أجل كانت كلماتك فولاذية ، حقا فولاذية ...وياللروعة كم تملك من التجربة ...يومذلك قلت – أسمع يا عقل الحياة موقف والرجل الحكيم يعرف في المصاعب ...من عركته الحياة وعجنته يستطيع أن يألف هذا الموقف .
    استيظ عقل على غناء الحجل جلس قرب غدير الماء على صخرة دهرية تطل على حقول القنيطرة الندية وسط سحر الصباح الفاتن ، خيم سكون إلا من زقزقة عصفورة أحست بالرعشة ، و طنين نحلة تجوب الحقول بحثاً عن ضالتها ، يحدوه أملاً كبيراً بالعودة و لقاء " عاشقة " ، خطرت " عرنة " من بين الأشجار الباسقة تهدلت خصلة على جبتها ترنو إلى " عقل:
    - كيف تصرفت ذلك يوم أمس .
    - آه .. ما أمتع هذا اللقاء .
    تنهدت " عرنة " من قلب مظلوم ، انكمشت في مكانها ، عضها الألم سبرت أغوار تجاربها، تفحصت وجه عقل ، انبثقت الكلمات من أغوار ذاتها :
    - سنعود قريباً يا عقل ، و سيتحقق حلمنا .
    - حقا يا " عرنة " ؟
    وجد " عقل " في الصمت جواباً ، تأملها بعين الاستغراب ، استسلم لأفكاره ، بدت له كأغنية السواقي ، و تراتيل عصافير تعشق الحرية رغب بأن يبوح لها بما ينوء به صدره :
    - تبدين كنجمة .
    - من تكون ؟..
    - غجرية تجيد الرقص .
    - أبغي الرحيل إلى خيام الغجر .
    - علام ؟
    - لأتعلم الرقص .
    تعرف أنه لا يستطيع الذهاب معها ، حوّلت بصرها عنه و قلبها يجتر اللآم ، لن تنسى بؤس تلك السويعات . رفعت رأسها تفرست وجهه ، كان يحلّي إصبعه بخاتم من خيط قوي ،هرولت إلى الغابة و اختفت بين الأشجار . ومضت إلى حال سبيلها تحس بشعور واضح أن " عقل " سيعود إلى " عاشقة " ، و ستبقى مع " عايد " .
    تقدمت الجحافل في عمق الجبهة ، هب " نمر " مسرعاً إلى الحفرة هناك ترك " عقلا " . عصفت الأشجان في صدره لم يغب " عقل " عن ذهنه لحظة ، أصبح أمام الحفرة ، وقع بصره على شجرة زيتون شابة في عامها السادس ،ترقرق النور في عينيه تفحص أرجاء الحفرة ،وقع بصره على صندوق معدني كشفته عوامل الطبيعة ، فتح الصندوق المهترئ من الصدأ . وجد ثياب " عقل " و حذاءه العسكري أيضاً . صرخ صوتاً رددت صداه الجبال :
    - البشرى يا عاشقة . ما زال عقل على قيد الحياة .
    جاوبته القبرات تبحث عن الدفء في أيّام تشرين ، رفرفت فوق الأشجار لتبني أعشاشا تقيها من غوائل شتاء غضوب .






    اقترب " عايد " من المهرة جلس القرفصاء ،يعد أكليلا للعروس ،كان الفضاء مستغرقا في ضجيج مهيب ، رطب شعره بالماء البارد ليجدد قواه ، كانت المهرة تستحم بشروق الشمس .
    كان واسع الخبرة بالحياة ، راقب المهرة صفق فرحاً .. نظر إلى " عقل " فوجئ بالتغير طرأ على وجهه ، انصرف بكل افكاره إلى اكتشاف شعوره.
    وضعت المهرة فصرخ :
    - ابشر يا عقل انجبت المهرة جواداً .
    وقع الكلام على سمعه :
    - هيا بنا .
    عصفت في صدره رغبة عارمة بأن يذهب مع " عايد " إلى الحفرة ، يلوح بمنديل أحمر ، أمسك يد " عايد " بحزم اتجها صوب الحفرة ،غادر البيت ساعيا إلى ضالته تناهى إليه نداء :
    - عقل على قيد الحياة .
    بدا النداء في داخله كنبؤة ، صوت نمر كيف ينساه ؟. هرول باتجاه الحفرة كانت المفاجأة :
    - من نمر ؟.
    وقف امامه وجهاً لوجه ، وثب إليه طوّقه بذراعيه ، أحسّ برغبة لأنّ يضم الناس كلهم إلى صدره . فيما كان العلم السوري يخفق في سماء القنيطرة مع نسمة تشرينية .
    يردد عماد :
    بلادي بلادي لك حبي وفؤادي.

    >>>>> نبيه
يعمل...
X