إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    فطير صهيون أم انكشارية جديدة
    يذكر العرب السوريون جيداً قصة " فطير صهيون " تلك التي انكشفت، من بين قصص كثيرة أخرى، وكان أبطالها من يهود حي باب شرقي في دمشق، وقد صفّوا دم مسيحي حتى الموت ليصنعوا بدمه فطيراً يوم عيدهم .‏
    وإذا كانت التحقيقات الفرنسية، إبَّان عهد الاحتلال الفرنسي لسورية، قد كشفت الفاعلين وسجَّلت شهادات الشهود، وثبَّتت القضية في سجلات الشرطة والقضاء، وأصبحت مصدراً لمن يريد أن يعرف المزيد عن عنصرية اليهود ودمويتهم؛ أقول إذا كانت تحقيقات الفرنسيين قد كشفت بعض ذلك في دمشق فإن البريطانيين، الذين كانوا مكلفين بتنفيذ وعد " بلفور "، الذي تبنته عصبة الأمم بإقامة دولة يهودية في فلسطين، لم يهتموا بعشرات الحوادث التي كانت تتم في فلسطين المحتلة، ويُصَفَّى فيها دم فلسطينيين حتى الموت لأغراض شتى؛ ومن ثمة لم تنكشف تفاصيلُها. وهناك حوادث كثيرة مشابهة عُتِّم عليها تمت في روسيا وفي أنحاء مختلفة من أوربا والعالم.‏
    وما يبعث تلك الحوادث اليوم حيّة في ذاكرتي خبرٌ ورد من " ريو دي جانيرو " ونقلته وكالة الأنباء الفرنسية (أ. ف. ب) وقع يوم‏
    الاثنين (5/10/1992) وقد جاء فيه ما يلي :‏
    "اعتقلت الشرطة الفيدرالية البرازيلية مساء الاثنين (5/10/1992)‏
    في مطار " ريو دي جانيرو " برازيليتين كانتا تهمَّان بتسليم زوجين " إسرائيليين " طفلة من " البارغواي " في شهرها الرابع بعد شرائها من عائلتها. وأفادت الشرطة أن إحدى البرازيليتين اشترت الطفلة من عائلة فقيرة في سانسون " الباراغواي " وكانت تسافر منتحلة اسماً مستعاراً .‏
    وأفادت الشرطة الفيدرالية أن من بين كل (10) أطفال برازيليين يتبناهم أجانب بطريقة غير شرعية هناك ستة يحملون جواز سفر مزوراً يصلون إلى "إسرائيل " !!‏
    وإذا كانت نسبة 60 % مما يُشرى أو يُسرق من أطفال البرازيل يذهب إلى " إسرائيل " فإن أيدي اليهود في إفريقيا طائلة بالقدر ذاته وربما أكثر.‏
    ولم ينصرف انتباهي وأنا أتأمل في الخبر الوارد من " ريو دي جانيرو " إلى أن " إسرائيل " تشتري خرافاً بشرية وتعلُفها من أجل صناعة فطير للسكان في أعياد الدولة الصهيونية العنصرية، على الرغم مما قفز إلى الذاكرة من مخزون يشد الانتباه إلى هذا الاتجاه؛ بل انصرف تفكيري إلى شيء آخر تماماً أراه أقرب إلى التكوين العنصري لليهود اليوم، وإلى أطماعهم الصهيونية في المرحلة الحالية، وألصق بمتطلبات السياسة التوسعية الاستيطانية التي تنتهجها " إسرائيل "؛ وبطبيعة تفكير اليهود في فلسطين المحتلة، وحساسيتهم الشديدة من الخسائر البشرية التي تلحق بهم، وتأثير ذلك في الأوساط الاجتماعية والدينية والسياسية، تلك التي ترى أنه لا يجوز " للغوييم" أن يقتلوا يهودياً أُوكلَ إليه " يهوه " استبعاد " الغوييم واستخدامهم وقتلهم، وترى أن اليهودي يساوي عشرات "الغوييم" بنظر أبناء " الشعب المختار" وحاخاماتهم، الذين يرون أن التلمود يجيز قتل الواحد من "الغوييم" بحمار اليهودي ؟!.‏
    ولذلك فإن التفكير الإستراتيجي الصهيوني، في ضوء تعامله مع عرب الأرض المحتلة، الذين يعتبرون " مخرِّبين"، وفي ضوء توجهه التوسعي مستقبلاً لتحقيق الحلم التوراتي بدولة يهودية تمتد من النيل إلى الفرات؛ ولأنه ينظر إلى وجود " إسرائيل " على أنه وجود مهدد في خضم من العرب، الذين يتكاثرون بسرعة ويغضبون بسرعة أيضاً؛ وفي ضوء حقائق توجه المجتمع اليهودي الذي يريد أرباحاً من دون خسائر من أي نوع ؛ ربما اتجه ذلك التفكير الاستعماري ـ الاستيطاني، بل ارجح أنه يعمل في الخفاء ـ على إيجاد قوة بشرية، غير يهودية الأصول، تخدم أهداف " إسرائيل" بولاء لا يقبل الشك، ويمكن التضحية بأعداد كبيرة منها من غير إِثارة من أي نوع للمجتمع اليهودي وعواطفه ومشاعره؛ كما يمكن تربية تلك القوة منذ الصغر تربية خاصة على الخدمة بتفانٍ، والقتل بقسوة، والتصرف من غير رحمة مع العرب؛ فتحقق للصهيونية أهدافاً كبيرة من خلال الولاء، وربما من خلال التهويد ـ تهويد النسل ـ مستقبلاً .‏
    وذلك نمط من تكوين جيش "إنكشاري" صهيوني بمواصفات عصرية، ينفذ الإستراتيجية التوسعية ـ الاستيطانية ـ الصهيونية. وإلاّ فما معنى أن تمتد تلك الشبكات التي تشتري الأطفال لمصلحة " إسرائيل " في بلدان متعددة ومناطق مختلفة من القارات التي ينتشر فيها الفقر والحاجة، وأن تصل نسبة ما يصل إلى " إسرائيل " من الأولاد المسروقين أو المبيعين إلى 60 % من مجموعهم في الأورغواي مثلاً؛ وما معنى أن يسهَّل خروج أولئك من بلدانهم بجوازات سفر إسرائيلية، وأن يصلوا إلى فلسطين المحتلة مملوكين بالشراء من متبنّين " إسرائيليين "؟! وما معنى أن يتم التكتم على عمليات من ذلك النوع؟! وإذا ما انتشر خبر من أخبارها مصادفة عُتِّم عليه بإشكال مختلفة جراء سيطرة الإعلام الصهيوني والتعاطف معه؟! ألا يكمن وراء ذلك جهد المنظمة الصهيونية، و " دولة الكيان الصهيوني" وأجهزة الاستخبارات التي تنظم ذلك وتدفع تكاليفه، وتبرمجه خدمة لمخططها؟ !‏
    إن من واجبنا أن نفكر بكل احتمال من تلك الاحتمالات، وأن نتلمَّس ما تُخفيه " إسرائيل " من خطط ومشاريع؛ لأن اعتمادها المستمر على القوة القاهرة، وسعيها الدؤوب للتفوق العسكري على العرب مجتمعين، وتبنيها للاستراتيجية التوسعية العدوانية، مازال مستمراً، ولأنها تأخذ مكانة متقدمة في الاستراتيجية الأميركية في هذه المنطقة من العالم ـ وهي استراتيجية قائمة على حماية المصالح الأميركية بالقوة إذا لزم الأمر، وعماد قوتها واقتدارها ينصب على دور " إسرائيل " في هذه الاستراتيجية، التي تعود بالنفع على الطرفين وتحقق أهدافهما ومصالحهما المتبادلة، وتحتاج إلى قوى بشرية كبيرة ومخططات طموحة وبعيدة المدى لتنفيذها.‏
    إننا في صراع طويل وقاس ومرّ، مع الكيان العنصري الصهيوني الذي يحتل أرضنا العربية، ذلك الذي لن نعترف " لدولته " بشرعية وجود من أي نوع بين ظهرانينا، مهما امتدّ الزمن واشتد الصراع وطال مداه. وعلينا أن نتهيَّأ لذلك بكل الوسائل حتى لا نندُب حظاً عاثراً بعد فوات الأوان في كل جولة من جولاتنا معه .‏

    الأسبوع الأدبي/ع335//1992.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #17
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      فعلان صهيونيان لافتان للنظر
      فعلان لافتان للنظر تمَّا خلال الأسبوع الماضي، الأول في الولايات المتحدة الأميركية والثاني في ألمانيا.‏
      ـ في أميركا قدم " ديفد ستاينر" رئيس اللوبي الصهيوني - اللجنة الأمريكية الإسرائيلية للشؤون العامة " ايباك " استقالته من منصبه، لأنه " ثرثر أكثر من اللازم " وكشف بذلك نفوذ " ايباك " ومدى حضوره في حاشية الرئيس الأمريكي الجديد " بيل كلينتون "، ولم يضع أميركي غير يهوديي حداً لتبجح " ستاينر"، بل كشف ذلك ووضع له حداً يهودي عضو في اللوبي الصهيوني ذاته هو " هاري كاتز" رجل الأعمال النافذ الكلمة، لأنه لمس في مكالمة " ستاينر " وأسلوبه وتبجحه خطراً على مستقبل عمل اللوبي الصهيوني، وعلى اليهود أنفسهم في أميركا؛ هكذا ادعى. " ذلك لأن " ستاينر" صرح بأن له " دزينة" من الرجال في " حاشية " الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية، كلهم ذو نفوذ، وأن " ايباك " لعب دوراً كبيراً في حملة " كلينتون " وفي نجاحه، وأن " ستاينر" يساوم ويناور الآن لضمان منصبين هامين في الإدارة الأميركية الجديدة هما: منصب وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي، ليضمن تماماً وجود شخصين مواليين " لـ " إسرائيل " " في هذين المنصبين. ولأن " ستاينر" كشف بتبجحه وثرثرته كثيراً من الأمور ذات التأثير والخطورة: مثل معرفته بالرئيس الجديد، ونجاحه - أي نجاح اللوبي - في " فرض " "آل غور" نائباً للرئيس، وهو أكثر موالاة " لـ " إسرائيل " " من سواه، وأنه استطاع الحصول من بيكر على مليار دولار لصالح " إسرائيل " لقاء سكوت " ايباك " وإسكاته لعملائه من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، عن صفقة الطائرات الأمريكية الأخيرة التي بيعت إلى السعودية.. الخ. وقيام " كاتز" بهجومه الصاعق على " ستاينر " ونشره لتلك المكالمة أو المكالمات الهاتفية المسجلة معه، التي دارت حول حملة " كلينتون " ومكانة " ايباك " فيها، وحول توجهات " ايباك " المستقبلية؛ لم يكن تأكيداً من " كاتز " لأميركيته على حساب " ايباك" أو رئيسه، فهو العضو الفاعل في ذلك اللوبي، ولم يكن فعله ذاك لحماية اليهود من غضبة أمريكية تضع لنفوذهم حداً، كما يلمِّح الفعلُ وبعض القول الذي صرح به الرجل؛ بمقدار ما كان فعلاً صهيونيا ذكياً ومدروساً، يرمي إلى تحرير الرئيس الجديد من قيود قد يكبله بها كلام " ستاينر" ووجوده في رئاسة " ايباك "، بعد أن أدى دوره ومهامه بنجاح؛ ويمهد الساحة النفسية أمام فريق العمل الجديد في البيت الأبيض، بمن فيهم الرئيس، ليخلو جو البيت من أي ضغوط أو شوائب أو منة أو التزام، في الظاهر؛ لأن في ذلك تكبيلاً خُلُقياً من نوع أشد، والتزاماً بمواقف أكثر تحيُّزاً لـ " إسرائيل " يبادر بها الرئيس " المحب " إمعاناً منه في إظهار تحيزه، أو قل: إظهار " ولائه " لـ " إسرائيل " " والتعبير عن امتنانه لـ " ايباك ".‏
      وحينما يعاقب " اللوبي الصهيوني " نفسه، ويزيح رئيسه من طريق " الرئيس " الجديد، ومن طريق الأشخاص الذين ذكرهم " ستاينر" وقال: إنهم فاعلون في طريق العمل، ويزيحه كذلك من طريق الشخصين اللذين ذكَّرهما بمواقفهما " وبعدائهما " لليهود و لـ " إسرائيل "، أي الرئيس بوش ووزير خارجيته بيكر - على الرغم مما قدماه من خدمات مذهلة لـ " إسرائيل " ـ فإن اللوبي، يضمن بذلك خلق مناخ ابتزاز أنموذجي ومن نوع متقدم جداً، يعتمد الدراسة النفسية والاجتماعية للشخصيات والمناخ العام، ويتوجه إلى الرأي العام الذي ترامى إليه الكثير من ذلك الذي حدث ومورس وقيل، ليغسل آثاره ويمحو تأثيره، وليهيئ ساحة العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأداء جديد متجدد يخدم " إسرائيل " أكثر ويساعد على تنفيذ برنامج نهب الاقتصاد الأمريكي، الذي تقوم به العناصر الصهيونية بأشكال مختلفة، ويعطى مدى واسعاً لتحرُّك اليهود هناك، عبر هالة " خُلُقيَّة " تُصنع وتُزين للحصول على مزيد من الربح والمزايا الحسنة، والمواقع المتقدمة في كل مجال من مجالات التعاون والعمل والإنتاج المشترَك، بين أمريكا و" إسرائيل " واللوبي الصهيوني.‏
      ولا يعني هذا الفعل تغييراً من أي نوع في توجهات اللوبي الصهيوني وسياسته وثوابته وأساليبه، بل على العكس من ذلك، فإنه بتصرفه هذا يضمن وصول الأشخاص الذين يريد لهم أن يصلوا، إلى مواقع محددة وهم في ثوب البراءة التامة من تهمة الولاء العلني للوبي الصهيوني و لـ " إسرائيل " أو على الأصح، يحافظ على ظهورهم بمظهر من حصل على موقعه لجدارته فقط وبنزاهة تامة، ومن دون تدخل أو ضغط من أي نوع؛ وفي هذا ما فيه من مزايا، لكل من الموالي وصاحب النعمة معاً.‏
      في ألمانيا قدم " كارل هاينز شميث " رئيس اللجنة الشعبية في مدينة " روستوك " وعضو الحزب الديمقراطي المسيحي، قدم استقالته مرغماً، حين لم يُقبل اعتذاره واعتذار مسؤولين ألمان آخرين لدى " اينياس بوبيس " رئيس المجلس اليهودي المركزي في ألمانيا. وذلك لأن السيد " كارل " سأل ببساطة وعفوية سؤالاً لا يجوز أن يوجه ليهودي تجمعت فيه كل الغطرسة وأصبح أنموذجاً للجبان إذا سيطر، وللذليل إذا استشعر الاحترام .‏
      وجه " شميث" لـ " اينياس بوبيس " سؤالاً في مؤتمر صحفي في روستوك: " هل اليهود شعب أم طائفة " ؟؟ وهل يمكن تشبيه اعتداءات " الدولة الإسرائيلية " على فلسطيني الأراضي المحتلة باعتداءات المنظمات الألمانية المتطرفة على اللاجئين الأجانب؟! وقامت الدنيا إثر ذلك ولم تقعد، وتنمر اليهود في ألمانيا واستلوا سكاكينهم الطويلة لينحروا " المعادين للسامية "، وليجعلوا " الألمان " يركعون طالبين الغفران، عن كل الذنوب القديمة والجديدة التي ارتكبوها " بحق الإنسانية " ؟؟ وليجبروهم على التسليم بكل ما يرى اليهود أنه حق لهم وحدهم من بين الناس؛ فاليهودي الذي يحمل جنسية في " إسرائيل " يريد أن يحافظ على جنسية أخرى في ألمانيا، على الرغم من مخالفة ذلك للقانون، ليضغط بوصفه ألمانيا لمصلحة " إسرائيل "، ولينهب كيهودي لصالحه ولصالحها أيضاً، ولينمي تجارة واستعماراً استيطانياً في فلسطين المحتلة على حساب العرب.‏
      لم يستطع " شميث " الذي كان يجمع التبرعات في " روستوك لصالح اليهود " الذين يهجرون مما كان يسمى الاتحاد السوفييتي سابقا، لينزرعوا بالقوة والعدوان في فلسطين العربية المحتلة، لم يستطع أن يقنع أحداً ببراءته من تهمة " اللاسامية " ولم يكن هناك استعداد، حتى لدى زملائه، لأن يفهموا وجهة نظره، أو ليغفروا له زلة لسانه، فالحكم النهائي قد اتخذ من قبل اليهود، أو ربما كان قد اتخذ أصلاً قبل زيارة اينياس لروستوك !؟!.‏
      وانطلق من ذلك الحادث " المدبر" من قبل " اللوبي " اليهودي في ألمانيا، هجوم ابتزازي على ألمانيا / الحكومة والأشخاص / إضافة إلى التاريخ، وبدأت الصحافة الألمانية تشتم " شميث " وتشتم الفلسطينيين - أولئك " الإرهابيين " الذين يهاجمون " دولة مسالمة تدافع عن نفسها " هي " إسرائيل " - وتعتذر، وتدفع الشعب الألماني إلى المزيد من الشعور بالإثم والتكفير عن الذنب حيال اليهود. والمرمى البعيد لذلك الفعل المدبر، الذي حدث في ألمانيا واضح من جهة، ومتناغم متساوق منسق مع الحدث الذي تم في الولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى. ففي الوقت الذي يظهر فيه اللوبي اليهودي الأمريكي " خُلُقياً " حضارياً محترماً (؟!؟ )، يعاقب " المخطئين " والمتجاوزين لحدودهم، فيه، حتى لو كان المخطئ رئيساً له؛ نرى " اللوبي " اليهودي في ألمانيا، وهو قليل العدد وضعيف نسبياً، يقيم القيامة على رؤوس الألمان، ويسترعى نظر العالم؛ ويستقطب الرأي العام والإعلام، حول قضية يعتبرها " فضيحة " فلماذا؟!‏
      إن لـ " إسرائيل " مطالب ابتزازية عند ألمانيا، لا ترتبط فقط بتاريخ الابتزاز القديم الذي دام عقوداً وقدّمت فيه " الألمانيتان: الغربية والشرقية سابقاً" تعويضات لـ" إسرائيل " ومساعدات لا يحلم بها أحد؛ وإنما تتعدى ذلك إلى مطالب المستقبل.‏
      ـ فـ " إسرائيل " تريد مساعدات أو ضمانات قروض بمبلغ خمسة مليارات دولار من ألمانيا لتوطين " المهاجرين الجدد " وقد وعد الرئيس بوش، سابقاً، بالضغط على ألمانيا، ودول أخرى لتقديم تلك الضمانات، بعد أن قدَّم حصة بلاده من " الخوّة " الصهيونية. وقد جاء الوقت الآن للضغط على ألمانيا قبل ذهاب بوش لإنجاز الوعد أو للتذكير به، ونقل " العُهْدَة " والمطالبة بتنفيذها إلى خلفه " كلينتون ". وألمانيا يجب أن تدفع وأن تُرْغَم على مواجهة استحقاقات معينة لصالح " إسرائيل " والحركة الصهيونية، واستحقاقات أخرى كلفت الصهيونية بتحصيلها أو وضعها على الطاولة؛ ومن تلك الاستحقاقات أو المطالب - أن يسمح الألمان " للمهاجرين اليهود " بالمرور عبر ألمانيا والإقامة فيها إذا ما رغب بعضهم في ذلك، لأن لـ " إسرائيل " ولأمريكا مصلحة في أن يكون في ألمانيا وجود " للوبي " يهودي قوي، أكثر مما هو عليه الأمر الآن، لتحقيق سياسات ونهب أموال، والقيام بأفعال تندرج في سلم المواجهة الأوربية - الأمريكية المحتملة، سواء أتت من باب التجارة، أو من أي باب آخر سواه.‏
      ـ أن يقوم الألمان بتقديم ضمانات القروض أو المساعدات لـ " إسرائيل" من أجل توطين اليهود الذين تورِّدهم الصهيونية إلى فلسطين المحتلة: إعداداً واستعداداً لتنفيذ مشروع " إسرائيل " الكبرى لاحقاً؛ فضلاً عن تقديمها السلاح المطلوب لذلك، ومنه غواصات تُبنى لمصلحة " إسرائيل " وأسلحة متقدمة أخرى.‏
      ـ أن تدفع ألمانيا تعويضات، كانت " ألمانيا الديمقراطية سابقاً " قد توقفت عن دفع بعضها، وهي تعويضات فرضت على الألمان جراء الممارسات التي تمت في العهد النازي ضد اليهود، ويضاف إلى هذا خلق مناخ ملائم لصالح أمريكا بالدرجة الأولى - لجعل الألمان يتلهون أو يغرقون بمشاكل داخلية، ويواجهون حركة القومية الألمانية المتصاعدة، والنزوع الألماني إلى إقامة أوربا قوية متحدة ومنافسة لأمريكا مستقبلاً، ولإضعاف الاقتصاد الألماني عموماً؛ وكل هذا يخدم أمريكا التي تشعر بوطأة الضائقة الاقتصادية، و ربما تضطر إلى الالتفات نحو الداخل، لسنوات قليلة، وهي تريد أن تضمن إبَّان ذلك كله، أن لا يقفز الحضور الألماني خاصة والأوربي عامة، إلى درجات لافتة للنظر، لا سيما في مجال الاقتصاد والعمل السياسي، أوربياً وعالمياً. ولذلك فإن إحداث مثل هذه البلبلة سيشكل مدخلاً لإعادة حملة الضغط على ألمانيا وتحجيم دورها، وردعها عن التفكير بطموحات وتطلعات ضارة بأمريكا؛ وسيعمل ذلك على تعويض التحرك الأوربي المشترك، وسيفسح المجال أمام الابتزاز الصهيوني - "الإسرائيلي": وفي هذا كله مصلحة صهيونية - أمريكية مشتركة، وتبادل منافع، وتسديد حسابات و" فواتير " سابقة. وكل من الفعلين اللذين أشرت إلى حدوثهما في أمريكا وألمانيا، وأشباه ذينك الفعلين وسوى ذلك مما تخطط له الصهيونية والإدارة الأمريكية ـ المدخولة بالصهاينة والصهيونية، حضوراً وفكراً وهوى ومشاريع ـ ينعكس سلبياً على القضية العربية، وعلى موقع العرب وموقفهم، خلال تزايد قوة " إسرائيل " ونفوذها، وتزايد المؤيدين لها والداعمين لمشاريعها الاستيطانية - الاستعمارية، وخلال التغطية على ممارساتها التي تستمر منذ سنوات ضد أهلنا في الأرض المحتلة وضد أهلنا في لبنان؛ ويتحمل ثقلها الآن بشجاعة وصبر حزبُ الله وجنوب لبنان. كما أن ذلك يواكَب بضغط وحصار يُفرضان على العرب، وبتشويه لصورتهم وقضاياهم ومواقفهم ولأفعالهم، بهدف إظهار هم بمظهر المعتدي والمتهم، وإظهار " إسرائيل " بمظهر الضحية؛ لكي تستمر في ابتزازها وتنفيذ مخططاتها .‏
      وقد ترافق ذلك كله بحملات جديدة واضحة الهدف ضد العرب عامة وضد سورية خاصة، وفي مقدمة ذلك التشكيك بمواقف سورية. فهم يطلقون الآن في الصحافة الغربية مقولة يُراد تثبيتها في أذهان الرأي العام، تمهيداً لاستغلالها في توجيه ضربة لسورية أو ممارسة ضغط عليها. فهم يقولون: إن في سورية أكبر المستودعات للغازات السامة في المنطقة، وهي تهدد بذلك "إسرائيل" وإنها تسعى، كما تسعى إيران والعراق، لامتلاك السلاح النووي بعد أن كدَّست أنواع السلاح التقليدي؛ ويقولون عن الرئيس الأسد: " إنه مفاوض غير موثوق يريد مواصلة الصراع مع " إسرائيل " ". وفي هذا كله مداخل لهم يشرعونها، ويشرِّعون لها، لمهاجمة سورية، التي قيل إنها تشكل خطورة عليهم!؟؟‏
      ودائماً تتخذ " إسرائيل " لعدوانها المبررات، وتحاول أن تقدم ذلك العدوان على أنه صورة من صور الدفاع عن النفس المبرر والمشروع.‏
      وها هو الدليل الحي على نهجها ذاك، وعلى تزييفها المستمر للوقائع والحقائق يسطع اليوم في لبنان، حيث تقصف وتقتل وتحرق، وتمارس ما لا يقبله عقل ولا يقره تشريع، ولا يحتمله ضمير حي، ولا يسوِّغه منطق؛ وما لا ترضى به كرامة ولا منظمة دولية من أي نوع على الإطلاق.‏
      فهل يا تُرى يمكن أن نواجه، عربياً، هذا الوضع وأمثال تلك الأفعال التي تقوم بها " إسرائيل "، لنحقق شيئاً من الحضور الذي يخفف من شدة الضغط علينا، ويقدم شيئاً من الإنارة للحقائق كما نراها نحن، وكما تنعكس علينا قتلاً وتدميراً وتزييفاً لكل شيء ؟!؟.‏
      إن أبواب الأمل تضيق كل يوم للأسف، والحصار يزداد، وأكثر الألم يأتي من تزايد مظاهر التطبيع مع " إسرائيل " عربياً، ومظاهر التعاطف معها دولياً. وقد جرحني أن أسمع قبل أيام، ولأول مرة، صوت كلوفيس مقصود، الممثل السابق للعرب في الأمم المتحدة، من إذاعة " إسرائيل " في مقابلة خاصة، تثير أكثر من علامة استفهام، وتجعلنا نسأل أنفسنا جميعاً: إلى أين نسير؟! ومن نحن فعلاً حين ندعي ونتكلم ونعمل ونمارس حياتنا في السر والعلن؟! ماذا نريد بالضبط وكيف نصل إلى ما نريد؟! إن زمن الأقنعة يجب أن يولي، وأن تسقط معه كل الأقنعة؛ وزمن الفعل العربي الرصين والقول العربي المبين يجب أن يأتي، فقد طال غيابه، واشتد الألم والظلام جرَّاء ذلك الغياب.‏

      الأسبوع الأدبي/ع337//1992.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #18
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        نحن وأحكام الغرب الخُلُقية
        "المقاطعة العربية عمل غير أخلاقي " هكذا وصف الرئيس الفرنسي ميتران نظام المقاطعة العربية للشركات التي تتعامل مع " إسرائيل " التي تحتل أرض العرب وتقتل من بقي من سكانها تحت الاحتلال. قال ذلك في باريس قبيل زيارته المقررة إلى فلسطين المحتلة وبعد اجتماعه برأس الأفعى الصهيونية " حاييم هرتزوغ ".‏
        ونحن نستذكر اليوم أن الرئيس الفرنسي شارل ديغول قال عندما نشبت حرب بين العرب والمحتل الصهيوني " أنه من حق الإنسان أن يقاتل ليعود إلى بيته "، ولم يسم الرئيس الفرنسي ذلك الفعل عدواناً كما سماه آخرون ‍‍. وكم بين القولين والموقفين الفرنسيين من فرق في فهم الأخلاق والخُلُقي، وكم بينهما من تمايز في التعبير عن موقف يبني على أساس متين من فهم للحق في سياقه التاريخي، وربط للفعل المحدث بذلك السياق، وإصدار للوصف أو للحكم الخُلُقي استنادا إلى إدراك معرفي أصيل مؤسس على المبادئ والمعرفة والفهم الدقيق لمعطيات التاريخ ولجوهر الحق، وعرض الأفعال والأقوال على معيار سليم ودقيق يبين الموقف والفعل في آن معاً، ويضع الحد على المفصل في كل رأي. فلو أراد الرئيس الفرنسي ميتران أن يرى إلى فعل "المقاطعة العربية " في السياق التاريخي للقضية الفلسطينية وموقف الغرب منها، لوجد من المعلومات والمعطيات التاريخية ما يبرر موقف الحكومات العربية، ولوضَع هذا الفعل " فعل المقاطعة العربية " في سياق القضية التاريخي، ولوجد أن استمرار الاحتلال والغطرسة والاستعداد للتوسع الاستيطاني، سواء بتطوير القوة العدوانية أو بجلب المهاجرين؛ أقول لوجد في كل ذلك عملاً عدوانياً متصاعداً يحق للعرب أن يقاوموه وأن يتخذوا موقفاً من كل من يدعمه؛ وأن فعلهم ذاك يبقى في حدود الفعل الخُلُقي المشروع.‏
        أما إذا كان الرئيس الفرنسي يمهد لزيارته إلى فلسطين المحتلة بأقوال ومواقف تجعله مقبولاً في " تل أبيب " فإن عليه أن يذكر أن حرصه على أن تلعب فرنسا خاصة وأوربا عامة دوراً مؤثراً في مفاوضات السلام، وفي حل مشكلة " الشرق الأوسط " يقتضي منه أن يتخذ من المواقف ويعلن من الأقوال ما يجعله مقبولاً أيضاً من العرب، لا سيما من أولئك العرب الذين تحتل " إسرائيل " أرضهم وتقتل أبناءهم. وعليه أن يذكر جيداً أن الكيان العنصري الصهيوني هو الذي كان يرفض دائماً تدخل أوربا في القضية، وحضورها مراقباً أو من خلال الأمم المتحدة - بحضور تلك الأخيرة - في مؤتمر مدريد، وأن العرب هم الذين كانوا يصرون على مشاركة أوربا، ليس لأن أوربا عادلة ونظيفة ولا مصلحة لها في هذه القضية، وغير منحازة؛ بل لأن أوربا، أو بعض دولها على الأقل، هي التي غرست تلك الجرثومة الفتاكة في جسم الوطن العربي، ولأنها تعرف تاريخ ذلك الجرح وتتحمل مسؤولية خُلُقية حيال اللاجئين والمشردين والمحتلة أراضيهم، وحيال عشرات آلاف الضحايا الذين فتكت بهم العنصرية الصهيونية بالأسلحة الأوربية والأميركية، وبأشكال المساعدات والدعم المادي والمعنوي؛ وعلى أوربا أن تساهم بدور في حل مشكلة خلقتها.‏
        يشير الرئيس ميتران، إضافة إلى إشارته المتعلقة بالأخلاق، يشير إلى أن على المعنيين بهذه القضية " أن يقبلوا ما فرضته الحرب العالمية الثانية من أوضاع ". وهو يرمى إلى تثبيت النتائج التي منها: ذهاب فلسطين والاعتراف " ب" إسرائيل " " دولة من دول المنطقة والتعامل معها ليس كأمر واقع فقط، وإنما كقدر صاغته الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية؛ تلك التي كانت وما زالت هي الدول النافذة الرأي والقرار في السياسة الدولية، ولا سيما في مجلس الأمن الدولي. كما يذكِّر من طرف خفي بأن القوة هي التي فرضت " دولة اليهود " وأن ميزان القوة ما زال لصالح تلك الدولة لأنه ما زال لصالح من فرضها أيضاً ؟!؟.‏
        وإذن فلماذا يكابر العرب، ولماذا يفرضون مقاطعة " غير خُلُقيَّة " على من يتعامل مع " إسرائيل " في حين أنهم لا يستطيعون تغيير أي شيء مما أقرته القوة وفرضته وما زالت قادرة على إقراره وفرضه ؟‍‍‍‍؟.‏
        إن منطق الجمهورية الفرنسية الحالية يختلف خُلُقياً عن موقف جمهورية شارل ديغول، على الرغم من أن جمهورية كل من ميتران وديغول ورثتا نتائج الحرب العالمية الثانية، ولكل منهما الحق بالإشارة إليها والحديث عنها، ولكن يبدو أن تحولاً ضخماً ما زال تياره مستمراً منذ غياب ديغول وحتى اليوم، ليس في فرنسا وإنما في أوربا كلها، وهو تحول يضع عنق أوربا في يد راعي البقر الأميركي، تلك اليد التي تحرك الصهيونية أعصابها وعضلاتها وأصابعها بقوة أشد وعلانية أكثر. وليس لنا، ولا نستطيع حتى لو كان لنا، أن نرى لأوربا رؤية ونقول لفرنسا قولاً يتعلق بسياسة أمريكا أو بالصهيونية؛ فنحن نؤمن بحق كل دولة بممارسة السيادة التامة، واتخاذ ما ترى من قرارات، وإقامة ما ترى من علاقات، ولكن عندما يتعلق الأمر بإصدار أحكام خُلُقية علينا، في ظل الانحياز لعدونا والسكوت عن ممارساته التي تزري بكل قيمة خُلُقية وإنسانية، وبالشرعية الدولية ذاتها ؛ وعندما يتعلق الأمر بقضية تقع مسؤولية الإخلال بالجانب الخُلُقي منها على الاستعمار، الذي تواطأ ضد شعوب كانت تحت الحماية (؟؟) وبلدان تعهد بأن يحافظ على أراضيها، ويوصلها إلى حالة من الاستقرار والتقدم تمكنها من ممارسة الاستقلال وتحمل تبعاته داخلياً ودولياً، فإن لنا الحق في أن نسمي الأمور بأسمائها، ونرفع الصوت عالياً لندفع عن أنفسنا أذى وتهمة، وأحكاماً جائرة، يصدرها أولئك الذين يعيشون نوعاً من الغطرسة في ظلال القوة.‏
        فالفعل الذي قامت به الدولتان الاستعماريتان " فرنسا وبريطانيا " عام (1916) فيما يعرف باتفاقية " سايكس - بيكو" هو فعل غير خُلُقي.‏
        ـ وإصدار وعد بلفور عام 1917 عمل غير خُلُقي.‏
        ـ واستعمار سورية الطبيعية، وتقسيمها إلى أربع دول، عمل غير خُلُقي.‏
        ـ وتبني عصبة الأمم لوعد بلفور ولفكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين على حساب شعبها عمل غير خُلُقي.‏
        ـ وممارسات الاستعمار الفرنسي والبريطاني، وكل استعمار، هو عمل خُلُقي بحق الشعوب والشرعية الدولية لحقوق الإنسان، والقيم الإنسانية.‏
        ـ والتنازل عن لواء إسكندرون لتركيا من قبل فرنسا التي كانت تحتل سورية تحت اسم الحماية، وكذلك التنازل عن كليليكا قبل ذلك، عمل غير خُلُقي.‏
        ـ وإقامة دولة صهيونية في فلسطين على حساب حق الشعب العربي الفلسطيني في وطنه، وحقه بإقامة دولته فيها، عمل غير خُلُقي، ومخالف لكل القوانين والشرائع والأعراف الدولية.‏
        ـ والتواطؤ ضد مصر في حرب السويس والعدوان عليها، عمل غير خُلُقي.‏
        ـ وتقديم أنواع الدعم " لـ " إسرائيل " " العنصرية المعتدية، التي تحتل أرض العرب بالقوة، وتقوم بإبادة السكان المدنيين، إبادة عرقية؛ ومساعدتها على امتلاك السلاح النووي، عمل غير خُلُقي بكل المقاييس.‏
        ـ والموقف الأوربي من اجتياح " إسرائيل " للبنان عام 1982 ومن حصار بيروت عمل، غير أخلاقي. والقائمة بعد ذلك كله وقبل ذلك أيضاً طويلة ومتخمة بالأفعال المجافية للأخلاق، بالمفهوم " غير الاستعماري وغير العنصري " للأخلاق، أي بالمفهوم النظيف والسوي والطبيعي والإنساني والروحي النظيف لها.‏
        فلماذا هذا الضغط علينا نحن العرب، ولماذا هذا التعالي، وتقديمنا قرابين؟؟ إذا كانت أوربا تريد أن تتخلص من مشاعر الإثم حيال ما يقال إنها ارتكبته بحق يهود غربيين، فعليها أن تدفع الثمن هي، لا أن تجبر العرب على أن يدفعوا ثمن أخطائها بحق الآخرين.‏
        ولقد كانت جرائم أوربا بحق العرب أشنع، إذا ما أخذنا تاريخ الاستعمار وممارساته في الوطن العربي بعين الاعتبار ؟؟ وإذا كانت أوربا تريد أن تكسب ودّ " دولة عنصرية " قوية، وتنازع " أميركا " على صداقتها، وتستعيد تحالفها معها ضد العرب؛ فعليها أن تقرأ التاريخ جيداً وأن تعرف أن العرب قد يمرون بأزمات خطيرة، ولكن تاريخهم لن يستسلم؛ وإذا كانت أوربا معنية بمصير اليهود ومستقبلهم، فعليها أن تفسح المجال أمام الغربيين منهم ليعيشوا في أوربا وليعودوا إليها. وعليها أن تشجعهم على أن يتركوا البلد الذي يغزونه ويقتلون سكانه الأصليين ويقيمون فيه دولة للعدوان والظلم والعنصرية والقهر؛ دولة خلقتها القوة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وما زالت القوة الغربية الظالمة تناصرها وتتغاضى عن كل ممارساتها وجرائمها، وتَصِم كل من يدافع عن نفسه ضدها، ويعمل على تحرير أرضه من احتلالها بالإرهاب وتصفه بأنه غير أخلاقي (؟؟). إن الغرب غير منصف، وفي الغرب ممارسات وأحكام غير خُلُقية ضد الآخرين، وفيه عنصرية تتجلى بأشكال مختلفة؛ وعليه أن ينظف بيته وذاته قبل أن يصدر أحكاماً خُلُقية على الآخرين. كما أن عليه أن يعرف ـ أو أن يتذكر ـ تاريخ القضايا التي يريد أن يصدر أحكاماً خُلُقية وغير خُلُقية عليها.‏
        وفي جميع الأحوال، وعلى الرغم من أحكام الرئيس الفرنسي السلبية على المقاطعة العربية لـ " إسرائيل "، ومن ثم على من فرضها، فإننا نرحب به في بلا د الشام - سورية الطبيعية، في فلسطين المحتلة ـ جنوب سورية ـ وفي القدس العربية؛ التي يختار أن يزورها وهي في قبضة الاحتلال العنصري الصهيوني ترتعش من وطء أحذية الذين آذوا المسيح، وولغوا في دمه، ومازالوا يلغون في دم الأبرياء الذين أحبهم المسيح وفداهم .‏
        " نرحب " به نحن أبناء سورية الطبيعية في بلادنا فلسطين، التي ستبقى عربية والتي سيناضل أهلها، وكل العرب أهلها، من أجل عروبتها وتحريرها وهويتها الحضارية، لتعود عربية كما كانت دائماً، ولتبقى عربية.‏
        " نرحب " به خُلُقياً، وكما عرفنا ونعرف نحن الأخلاق، في أرض المحبة، وفي كنيسة المهد، وفي القدس الشريف التي حافظ العرب، مسيحيون ومسلمون، على قداستها وخصوصيتها، وفتحوا أبوابها باحترام ومحبة لكل عباد الله واتباع المسيح، وصانوا الرسالة التي حملها يسوع، وأشعلوا شموعها في أوربا وسواها من بقاع العالم. ونأمل أن يذكر وهو في فلسطين المحتلة أن حواريي المسيح وأتباعه وأحفادهم، الذين تحملوا عبء نشر رسالته ومحبته وتمسكوا بأخلاقه، ليسوا هم اليهود وإنما هم الذين إذا هم وقتلهم اليهود ؟‍؟ وأننا في هذه المنطقة من العالم، مسيحيون ومسلمون وموسويون حقيقيون، عشنا ونعيش بتسامح أشد وبفهم للخُلُقي والإنساني، أسمى وأعمق وأوضح، مما نسمعه اليوم في الغرب الاستعماري.‏

        الأسبوع الأدبي/ع339//1992.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #19
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          الانتفاضة في عامها السادس
          انتفاضة أهلنا في فلسطين العربية المحتلة تسجل دخولاً مشرفاً إلى رحاب العام السادس من عمر النضال بالحجر واللحم العاري ضد الرصاصة والحقد الجبان المتدرع بالدبابة، وتجدد هويتها في سجل ثورات الشعوب من أجل الحرية والتحرير، بسمات وبصمات وقسمات أهم معالمها: أكثر من ألف شهيد، آلاف الجرحى والمشوهين والمعوقين والمعتقلين والمشردين في الكهوف والمغاور والجبال وفي أطراف المدن والقرى، ومئات البيوت المهدمة والحقول المحروقة، وجموع الشعب المحاصر في المخيمات والقرى وفي أحياء المدن حصاراً شبه دائم. وهي تنير طريقها وتجدد إنارته كل يوم بقناديل يغذيها دم الشهداء، الذي ينسكب صباح مساء ليطرد أشباح ليلِ العرب البائس الحزين الذي يقتحم واحات النضال والنور الصامدة المعاندة، ولينير في الوقت ذاته طريق الحرية والتحرر، طريق الكرامة والعزة، طريق الشعب والتاريخ والحق؛ تلك الطريق التي يراد لمعالمها أن تتلاشى في ضباب الكذب والرياء والخوف، وللسائرين فيها أن يغرقوا في مستنقعات الاستسلام وفي متاهات "السلام" ورماله؛ "سلام" رابين الذي كسَّر عظام شباب الانتفاضة، وشن أكثر من حرب قذرة ضد العرب، وسلام الصهيونية العنصرية المخاتلة التي تريد أن تكسب الوقت والمال والدعم، وتحصل على كل مقومات القوة والتفوق، وتجلب إلى أرضنا ملايين الغزاة من يهود العالم في ظل ادعائها الزائف بالتعلق بالسلام، وتباكيها المفضوح الأهداف على الأمن!؟.‏
          وهي تحقق كل أغراضها وتكسب ما تريد أن تكسبه في مناخ يسوده تواطؤ الغرب وبعض العرب المغرَّر بهم معها، وتراخي العرب أمامها، ولا ينوب أهلنا الصابرين في الأرض المحتلة من ذلك كله إلا المعاناة والحسرة والموت وتكاثف ليل الحصار واليأس من فوقهم، حيث يبدو لهم بكل الوضوح أن العرب يلقون كل الأسلحة، والصهيونية تشهر ضدهم كل الأسلحة: من الإرهاب إلى تخريب مسيرة السلام إلى التجويع والترويع وتضييع حقوق الناس بضرب بعضهم ببعض.‏
          وحين يستذكر المرء معهم كل تلك السنوات التي مرت عليهم خلال الانتفاضة، وكل ذلك الموت والفتك العنصري البغيض بالصغار والكبار منهم على حد سواء، وبكل أشكال الحياة ومقوماتها من حولهم؛ فإنه يستشعر عمق المأساة وأبعاد الخيبة وضخامة التواطؤ واتساعه، ويدرك أن طول الزمن الذي استغرقه ويستغرقه ذلك المخطط الرامي إلى تفريغ الشارع في الوطن العربي عامة وفي الأرض المحتلة خاصة، من كل أمل وشعور إيجابي وإحساس بالجدوى، وغرس اليأس والبؤس في أعماق النفوس والإرادات، وتنفيذ برنامج الإبادة البطيء بجرعات متتالية منتظمة تفقد الناس، عربياً وعالمياً، كل إحساس بالمأساة والظلم والنقمة، وتجعلهم يتعودون على أن يُقتل العرب ـ فلسطينيون وغير فلسطينيين ـ في الأرض المحتلة كل يوم كما تعودوا على تناول وجبات الطعام وشرب القهوة والثرثرة.‏
          والغرب المتواطئ مع الصهيونية يقبل هذا ويضغط على العرب أو يحذرهم ليستمروا في قبوله، ويغيب أخباره عن العالم، ويغلف ذلك بـ"سوليفان" السلام، ويشوه الرؤية والمنطق حين يلقى سؤالاً إشكالياً: ما معنى الانتفاضة في ظل مباحثات السلام؟!. وهو يفعل هذا ليشوه كل القيم والمفاهيم والأفعال في الوطن العربي، ولا يكاد يضاهي مخططه الذي ينفذ على نار هادئة في فلسطين المحتلة ضد الانتفاضة لإبادة أكبر عدد من الفلسطينيين إلا مخططه القذر الذي ينفذه بشكل صاعق بالتواطؤ مع الصهيونية والصرب العنصريين في البوسنة والهرسك والرامي لإبادة المسلمين بأسرع ممكن، وقد مالأه الرسميون المسلمون بعد الأمم المتحدة حيث مددوا مدة "الذبح الجماعي" في البوسنة حتى الخامس عشر من كانون الثاني عام 1993 وإذا بقي هناك مسلم حي يصرخ في البوسنة والهرسك فإنهم سوف يفكرون بإيجاد طرق لخرق الحصار المفروض على البوسنيين لإيصال الغذاء و"السلاح إليهم!!؟.‏
          إن مفاوضات السلام التي تدخل جولتها الثامنة في واشنطن، تلك التي يحرَّم على أحد الانسحاب منها وإلا فهو مخرب لمسيرة السلام، ويحرّم عليها أن تتقدم بشكل جاد، ويحرَّض على تدفق أنواع الدعم والمدد " لإسرائيل" خلالها ومن أجل استمرارها؛ إن تلك المفاوضات تتحول بشكل أو بآخر إلى ستار تتم تصفية الأجساد والإرادات العربية وراءه، أو إلى فخ يسقط فيه المناضلون والرسميون والمثقفون العرب، الذي يغرقون، أو يراد لهم أن يغرقوا في "إشكالية السلام والانتفاضة".‏
          لقد بدأ العرب يستسيغون تسويق الغرب والصهيونية للوجه " الإسرائيلي " "الجديد"، ذلك الذي يفاوضهم ويقتلهم ويستلب أرضهم ويستقدم إليها المستوطنين والسلاح، وأخذوا يبتلعون الطعم ويسوِّغون لأنفسهم ما سوقه الغرب بينهم وسوغه لهم في ظل التطبيع السياسي والاجتماعي والثقافي وتسويغ الاعتراف بالعدو خُلُقياً.‏
          فإسحاق رابين الذي لم يغير شيئاً أساسياً في ثوابت الصهيونية و"إسرائيل"، وإنما غيَّر سلم الأولويات انسجاماً مع الواقع والمعطيات والمتغيرات الدولية والمحلية، صار أكثر قبولاً من إسحق شامير. وايتامار رابينوفيتش أصبح أكثر تفهماً وموضوعية من "نتن ياهو.." وحركة "ميرتس" أقرب إلى "القلوب" ويتم التشاور معها حول أوضاع البيت العربي وأوجاعه أكثر من متعصبي " كاخ ". وكأننا نختلف نحن العرب مع الصهيونية- والغرب ضمناً- حول من يحكم "إسرائيل" ومن نجري معه اتفاقيات السلام!؟ وكأن الأمر بالنسبة للعرب الواقعين تحت الاحتلال هو أن يختاروا من يذبحهم أهو شارون بأسلوب "صبرا وشاتيلا " أم رابين "بكسر العظام" أم أتباع "كاهانا" بالقنابل التي تلقى على المدنيين!؟ وكأن الأمر ليس فلسطين المسروقة والعرب الذين شرِّدوا منها والجسم العنصري الاستعماري الدخيل الذي يغرس في المنطقة ويتحكم بمستقبلها وأمنها؟!؟.‏
          ويصبح الأمر بالنسبة للانتفاضة هو - في نهاية المطاف - من تلجأ إليه ليكون المفضي بها إلى طريق، أي طريق، ما عدا طريق تحرير فلسطين واستخلاص الحقوق، والبقاء هناك بكرامة وحقوق.‏
          وصار البحث حثيثاً، بعد التي واللتيَّا، من قبل عرب وصهاينة وغرب يرعى تصفية العرب وحقوقهم جميعاً؛ صار البحث حثيثاً عن مفاوض مقبول بين مفاوضين يتزاحمون على الباب و"متشددين" يرفضون أن يقدموا أضاحِ في أعياد "السلام".‏
          صارت فصائل الانتفاضة المتشددة والمقاومة اللبنانية المتشددة أيضاً جماعات تضيّع الحق وتجلب عتمة للدرب وتعوِّق كل فعل "نافع وحاسم" على طرق هذه القضية- "المغثية بنظر البعض"- قضية فلسطين!!.‏
          وإذا كانت الانتفاضة تصل إلى وضع خطير، وهي على باب العام السادس من عمرها، فيه تنازع بين أطراف عربية، وتوافق بين أطراف عربية- وأجنبية، لتصفيتها، وضع ينظر إليها فيه بعض الفلسطينيين على أنها عبء على الحل المرتقب. ويتذرع بها الصهاينة المحتلون لينتقوا البديل المسالم ليجلسوا معه شريطة أن يُسْكِت "أخوته" المتشددين إلى الأبد.. فإنها إنما تصل إلى عنق الزجاجة، بتواطؤ كريه تشارك فيه أطراف كثيرة مع العدو الذي يريد أن يتخلص منها ويبيدها.‏
          والأمر الأكثر أهمية وجدية وإلحاحاً الآن، ونحن نقف مع الانتفاضة المباركة على بوابة العام السادس من عمرها المجيد، هو كيف تستمر بأقل قدر من النزيف، وكيف نُمِدُّها بالدعم الفعلي والعون البشري والمادي والمعنوي؟! كيف نخلق لها حاضنة بشرية عربية تبقيها حيّة على الرغم ممن يريدون تصفيتها، وتبقيها نقية على الرغم ممن يريدون تلويثها، وتبقيها قوية على الرغم ممن يريدون لها الضعف والامحاء؟! وكيف نبقي قناديلها مضاءة، وطريقها مفتوحة للعابرين رغم الظلام وشدة النزف وأنواع العراقيل، التي توضع في طريقها؟!.‏
          إن الأمر يتوقف على موقف ذي امتداد شعبي ثقافي واعٍ ينعكس رسمياً، أو يجد مرتسمات في المجالات الرسمية العربية، كما ينعكس وعياً إيجابياً في كيفية التعامل مع الصراع العربي الصهيوني. وكيفية إيجاد الحاضنة الشعبية العربية لهذا الصراع، حيث يستمر حتى يحقق غاياته من دون أن يفرط بحق ومنة دون أن تباد الانتفاضة، ومن دون أن تقلب المنضدة فوق العرب الذين يريد الصهاينة والغرب أن يحمِّلوهم مسؤولية التمسك بالحرب، في أوقات وظروف ومتغيرات وأوضاع عربية ودولية لا تمكِّنهم من خوض حرب ناجمة ضد عدوهم؟!.‏
          وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بوهج الانتفاضة ليمد وهج قضية التحرير في ليل العرب الكئيب البارد المديد هذا؟!. تلك أسئلة لا نلقيها لنبعث اليأس أو لنشيعه في النفوس، ولا لنثقل ساحة مثقلة بالأسئلة بمزيد من الأسئلة، ولكنها متطلبات جدية وعملية لا بد من مواجهتها إذا أردنا أن نواجه مسؤولياتنا حيال قضايا رئيسة طالما ضحينا من أجلها، ومشكلات لا بد من وضع حلول لها، حتى يستمر السير في طريق نريد لها أن تفضي إلى غاياتها. ولا بد من البحث عن أجوبة في إطار عقلاني عملي فعال، يضعنا على درب الفعل المنجز لا التمني الهزيل.‏
          إنه لا يأس لدينا من أمتنا ومن مناضليها، ولا يأس من مثقفيها وثقافتها وتاريخها العريق، ولا يأس لدينا من أهلنا في فلسطين المحتلة، الذين مزقوا أشباح اليأس من حولنا يوم ترامت فوقنا. وكل ما نريده ونتطلع إليه ونأمل أن نسرع في إنجازه، هو فعل عربي ناجز يقوم به كل فرد لينعكس في كل قطر وفي مسيرة الأمة، فعل يضع حداً للتردد في كيفية حسم الصراع العربي- الصهيوني، وكيفية حل قضية فلسطين، التي كانت وستبقى قضية العرب الأولى حتى تعود فلسطين، كل فلسطين، عربية.‏
          فليكبر حجر الانتفاضة حتى يصبح جبلاً يسحق العدو العنصري، وليتوهج قنديل الانتفاضة حتى يصبح شمساً تنير للعرب طريقها إلى الحرية والتحرير والكرامة؛ وليرتفع في أغانينا وقصائدنا وكلماتنا صوت المنتفضين على الاحتلال والاستسلام والذل، وصوت الشهداء، الذين ترتفع ترانيمهم في كل فجر، لتملأ الفضاء بنشوة العمل الجليل: المقاومة والشهادة، من أجل النصر والحرية والتحرير، عمل التضحية الجليل؛ ولنرفع مجد الشهداء وبطولة شباب الانتفاضة في كل ساحة وقلب راية ومشعلاً وهدفاً وشعاراً، ليوقَف الانهيار في النفوس وفي ساحات عربية كبيرة وكثيرة.‏

          الأسبوع الأدبي/ع341//1992.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #20
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            المبعدون ..ظلال وظلمات وأفاق
            ـ1ـ‏
            حزن فوق جبل الشيخ، حزن وبؤس وظلام فوق هامة الأب الجليل، وثلج أبدي يمد بساطه تحت أقدام المتعبين يتزلج بهم مسرعاً نحو البحر، كأنما يود أن يغيب من الوجود بعد أن غيبهم عن الوجود؛ وحين يضعهم هناك في قلب دوامة الظلمة والإعصار يرقص مذبوحاً من الحسرة والألم، ويرتمي في الأعماق كمن ينتحر تخلصاً من عار تركه الناس على وجوه الناس، ومن أناس ما عاد يحركهم إحساس بالكرامة والقهر والألم فأسلموه للعبث، فأخذ يتماهى مع البحر فاتحاً رئات الخلايا للأملاح والأتراح. وعلى سفح الشيخ الغربي ليل قطبي الصفات يخيم فوق أبنائه المبعدين عن أهلهم وبيوتهم ومقدساتهم في فلسطين بقوة القهر العنصري الصهيوني، والتواطؤ الاستعماري الغربي، والعجز التاريخي العربي؛ ليل يفتك فتْكَته البكر بالأرواح والأجساد التي تحاول أن تتماسك فوق التلال وهي تتوشح بالماضي وبفضائل الحق والإيمان، يحرسها بؤس عبوسٌ ويمنع عنها حتى ذا مرحمة، قد يمد لها يداً بعون يسند جسداً يتهاوى في الريح.‏
            ويتهجَّد مع أولئك النفر الصابر المثابر في صيامه وقيامه، يتهجد معهم بترانيم تنداح بين الخيام التي تنشب أظفارها في التراب والخصور، وتتثاقل رجراجة في المدى، تنشر النداء في كل الأرجاء، وتقيم أوتاراً في مقامها تشد إليها صقوراً تنشد مع الريح إلى حيث ترى مكانها في الأعالي مع الشهداء والصديقين، وتمنعها أجنحة مهيضة من التحليق والانعتاق؛ فتنهار على السفوح مترنحة في خضم النشيد الذي يسيل إيماناً وصبابة ووصباً وصبراً، وحتى أملأ في أحايين، تعلقاً بما قد يكون من أخوة وأحفاد وبنين:‏
            "صامد يا شعبي صامد". و"الحمد لله والله أكبر".‏
            جبل الشيخ المثخن بالجراح والهجر يتطامن، بكل ما يمثل ومن يمثل، يتطامن من تحت الأسى والقهر، ذليلاً يسحب أنفاسه وسواقيه، ذليلاً يغمد سيوفه ويفتح منافيه، ذليلاً يلجأ إلى الصمت والنوح، ويفقد كثيراً من قواه وحكمته ومعانيه؛ ويرتجف من هول ما يرى وترتجف موازينه، ويرتجّ في أعماقه شيء لا يترجمه إلا نوع من الإحساس الأزلي بين الإنسان والأرض، الاتصال المقدس بينهما، ذاك الذي يتجلى في التصاق إنسان بأرض وتماثل أرض في إنسان. يفقد جبل الشيخ كثيراً ويضيع فيه شيء كبير، ويستخرج أسراره ويجمع عيدانها فلا يزداد إلا حسرة وانكساراً؛ حتى ثلجه وبرده لا يحققان قسمة عادلة بيننا نحن المنتمين إليه والمحسوبين عليه!! فما بيننا وبين أخوتنا الجاثمين على امتداد سفوحه بون شاسع، فنحن في بيوتنا مع ذوينا حول المدافىء أو في نعيم التدفئة المركزية والمكيفات العصرية- ممن شملهم نعيمها- بعضنا يحتفل بأعياد الميلاد، وبعضنا يشارك المحتفلين الفرحين احتفالهم ويتابع ظلال بهجتهم، وأخوة لنا هناك تعزف لهم العواصف ألحانها، أو تعزفها بهم؛ تلاحقهم مزامير "رابين" على شكل قذائف وزخَّات رصاص وموجات حقد عنصري كريه وتوعُّدات وتهديدات، وقتل لأبنائهم وتدمير لبنائهم؛ ولا من يخفف معاناتهم ولا من يجعل موج أملهم في صعود، ولا من ينفخ في وجه الأفعى التي تطاردهم سمَّه وناره.‏
            العالم يحتفل بأعياد الميلاد، والذين يدّعون في الغرب أنهم ألصق بالمسيح ورسالته من المسيح ذاته، يعملون "ليهوه" أكثر مما يعملون ليسوع، ويعيدون صلب المسيح ومسيرة الجلجلة الحزينة حين يمكِّنون أعداءه من قتله كل يوم في أجساد البشر الذين أحبهم، وحين يئدون، بأفعالهم الشنعاء ومكاييلهم المزدوجة، جوهر الحب والعدل والسلام، تلك التي عمل من أجلها في الأرض التي كرز فيها ودعا فيها للمحبة والسلام.‏
            العالم يحتفل بأعياد الميلاد، والمسلمون في البوسنة أضاحي العيد يرفلون بأثوابهم البيضاء ويتجهون إلى النُّطُوع يخوضون بدم الذين سبقوهم إليها؛ وهم في فلسطين المحتلة قرابين العيد المقدسة يرضي بها اليهودُ زوارَهم حين ينحرونها على عتبات القدس والخليل وبيت لحم والناصرة باسم الأمن والأمان ومجد ابن الإنسان، الذي أرادوه أفعى يسحقونها روحاً وجسداً فلعنهم أولاد الأفاعي.‏
            ومجلس الأمن كاهن أكبر يشف على نظافة الطقس وسلامته، ويدقق في تفاصيل نظامية الذبح، ويسجل الوقائع بكثير من الدقة والبرودة والتبتل والإعجاب والإخلاص، فالذي يأمر بذبح المسلمين وينفذه يأمر بذلك وينفذه باسم الأمن والشرعية الدولية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويأمر به قبل ذلك كله وبعد ذلك كله من أجل " رضا الله "، من أجل المحبة وإشاعة السلام، من أجل إعادة "شعب الله المختار" إلى "أرضه"؟!؟" على جثث "الغوييم"، الذين نبتوا في أرض فلسطين منذ أن وجد خلق فوق الأرض ووجدت فلسطين في الجغرافية. ولا بد بنظر الغرب الاستعماري المتصهين من اقتلاع "الزُّؤان" الذي يشكل قوام حقل الرب الذي منحه لأبناء "يهوه"، لكي تنبت حنطتهم وتتكاثر في الحقل المقدس الذي وعدهم به مالكه من دون الأرض "؟!؟" فكل خلق الله "زؤان" في حقل صهيون، وكل الأرض لا يعيرها الرب اهتماماً ولا يرضاها سكناً لمن "أحب" من دون خلقه"؟!؟" كما يتضح من تفسير ساسة الغرب لوعد الرب، ومن قراراتهم وسياساتهم الرامية إلى تنفيذ ذلك الوعد؛ وكما يتضح خصوصاً من ما جريات الأمور فيما يتعلق بفلسطين، قضية وشعباً وأرضاً، فلسطين التي قصدها موسى هارباً لاجئاً، فأحرق أتباعُه قلبَه بالهجر والكفر، ودفنوا أحلامه أو كادوا عند حدودها في رمل سيناء ونارها، فلسطين التي نبت فيها المسيح محرراً من جور اليهود وكفرهم، فلقي من أولاد الأفاعي الذين تكاثروا فيها وغلبوا على جزء منها في فترة من زمن، لقي منهم أذى وعنتاً وتعذيباً ما زال في النفوس أثره وتأثيره وتاريخه.‏
            العالم يحتفل بأعياد الميلاد. وأولئك الذين يشاركون أبناء العالم الذي يحتفل بصفات الإنسان ومواصفاته ويجمعهم معه الشرط الإنساني والمصير الإنساني، يعانون في أعماق أرواحهم وأجسادهم من الظلم والبرد والجوع والغربة، ويحرَمون من أبسط حقوق الإنسان، ولا يحرك أمرُهم ووضعهم "خصر" سياسي راقص، أو معصم عدالة دولية قادرة على الإيماء للمجرمين لكي يكفوا عن الإرهاب والإجرام وإبادة النفوس بأشكال الإبادة المختلفة !؟.‏
            إن ما يجري للمبعدين العرب من ديارهم وعن ذويهم لفظيع، وإن ما ينتظرهم من عيش ومصير لحالك السواد، في ظل وضع دولي مجيّر لمصالح قوة وحيدة عمياء، تقودها عصبة إرهابية ذات حقد وإجرام؛ عصبة سرقت وطن الغير وحولته لها وطناً، وسخرت قوة الغرب وسيَّجت بها سرقتها، وأبادت باسم الحماية من الإبادة شعباً وشردته وما زالت تلاحق جموعه، ومارست وما زالت تمارس أبشع أنواع الإجرام وإبادة الجنس البشري وإرهاب الدولة، وتشن على ضحاياها حرباً حقيقية، إعلامية ونفسية، باسم الدفاع عن النفس؛ في موجهة عزَّل إلا من الحجر والإيمان بالله والحق والوطن.‏
            لقد آن للغرب أن يرى لو أراد أن يرى، ولقد آن لمجلس الأمن أن ينصف لو استطاع أن ينصف وأن يملك زمان قرار من قراراته، ولقد آن الأوان للعرب أن يدافعوا عن أنفسهم وحقوقهم وذويهم بالقوة لو أرادوا أن يختاروا الدفاع طريقاً ومواصلة الصراع ثابتاً من ثوابتهم القومية في القضية الفلسطينية.‏
            ولكن الأمور ليست في هذا الاتجاه تسير، والنيات تتجه إلى الممالأة، وتضييع الفرص، وتضييع الأوقات؛ لأن الجسم العربي منخور بالتآمر والفساد والخلل والتدابُر، ولأن العدل الدولي مقود بخِطَام أمريكي- صهيوني، ولا ينطلق إلا عندما يكون في انطلاقه مصلحة وخدمة للإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية.‏
            ولذلك فإن الحديث عن حقوق الإنسان واتفاقية جنيف الرابعة، وعن الشرعية الدولية، ومجلس الأمن القادر على تنفيذ قرار واحد من قراراته العديدة التي اتخذها ضد " إسرائيل " منذ عام 1947 وحتى اليوم، إن ذلك كله هراء في هراء. فالمجلس متصهين في أكثريته وقيادته، والفصل السابع من ميثاق المنظمة الدولية يطبَّق على العرب وليس على "إسرائيل"، والدول العربية أعجز من أن تفرض حضوراً في ساحة قرار دولي جاد، أو في ساحة مواجهة فاعلة مع العدو، لا سيما في الأوضاع العربية والدولية الحالية؛ ولذلك شاع التباكي وشاعت الشكوى، وازدهر البلاء والظلم والقهر والقتل بين ظهراني أهلنا في المحتل من أرضنا، وصار مسلسل إبادتهم واضطهادهم يومياً واعتيادياً يمر من دون أن يثير في أحد ثورة الدم والعزم؛ ويتكرر من دون أن يترك في النفس تبرُّماً واحتجاجاً واستهجاناً.‏
            اليوم تجاوز عدد المقتولين بالجندي " الإسرائيلي " الذي اختطفته حماس وقتلته: الإثني عشر شهيداً من أبناء فلسطين، وتجاوز عدد الجرحى به الخمسين، وتجاوز عدد المبعدين به الأربعمئة رجلاً، وتجاوز عدد المعتقلين به الثمانمئة معتقلاً، عدا حالات الحصار والمداهمة والترويع والتجويع وهدم البيوت، فبربِّكم كم يبلغ ثمن صعلوك يهودي في زمن الذل العربي هذا؟! وما هي الدرجة التي بلغها الإنسان العربي في سلم حقوق الإنسان في العصر الأميركي اللعين، الذي يسوس الدول بسوس الفول وفأر الحقول ومسخ العقول؟!؟‏
            إن البؤس الذي يخيم على سفوح جبل الشيخ، والذي يمتد اليوم إلى التلال القريبة من البحر سوف يزحف ويزحف ويزحف ليتجاوز الأجساد ويأتي على سويداء القلوب، وسوف يبذر بذوره في النفوس، كل النفوس، ويستنبت فيها ذلاً أكثر وقهراً أكبر، ما لم نضع حداً له بالعمل المنقذ لكرامتنا ووجودنا على أرض أجدادنا وآبائنا؛ إننا اليوم على مرمى الرؤية إذا ما استشرفنا الأمل وعملنا بجدية وعزم على تهيئة النفس لمقاومة العدو والرد عليه باللغة الوحيدة التي يفهمها: القوة، ولكننا غداً، سنكون أبعد من أن نرى الأمل ونستشعره، وسيكون الزمن قد قطعنا بسيفه فأحالنا أشلاء على درب الناس، فهل ترانا نستخلص العبر مما يجري لنا؟!. وهل نقوم بفعل علمي مدروس يلفت النظر لوجودنا ولحقوقنا ولقدرتنا على أن نقول ونفعل، وعلى أن نغيِّر نظرة العدو والعالم الذي ينصره، بالنسبة إلينا؟!.‏
            إن ما هو صعب اليوم سيكون مستحيلاً غداً، ولكن مواجهة الصعب ممكنة وتفتح أبواب الاحتمالات وتفجِّر طاقات الشعب في الإبداع والمواجهة، ولكن مواجهة المستحيل ستكون صمتاً من نوع فظيع جربه بعض " قادة " العرب فاثبتوا أنهم نماذج متفوقة لقِصَر النظر وسوء التدبير؛ فهل ترانا نتدارك بعض ما يمكن تداركه اليوم، ونعمل ما يمكن أن يفتح للأمل باباً، أو يسد على العدو منفذاً؟!؟ إنني لآمل أن يتم ذلك قبل فوات الأوان، وآمل أن تكون قضية المبعدين مدخلاً لوضع بداية النهاية بالنسبة إلى مد الكذب "الإسرائيلي" والإرهاب العنصري، الذي يمارسه العدو تحت ستار "الديمقراطية" وحماية الأمن.‏

            الأسبوع الأدبي/ع344//1992

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #21
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              المبعدون بين الإبادة والأمل :
              ـ2ـ‏
              المبعدون الفلسطينيون يعيشون حالة بؤس لا نظير لها في ظروفها وأسبابها وقسوتها وإيلامها إلا في البوسنة والهرسك، حيث المأساة هناك تفوق حدود الوصف والتصور، وحيث التطهير العرقي يتم بالأشكال الممكنة والوسائل المتاحة، وحيث الاغتصاب المنظم للنساء المسلمات - وهو إحدى الوسائل المتبعة لإبادة الروح المعنوية وقتل الكرامة والإحساس بمعنى الحياة - يتم علناً وجماعياً؛ يواريه تواطؤ قذر، امتد طويلاً حتى حقق أهدافه أو كاد، وبلغ مدى جعل العالم شبه مقطوع الصلة بما تتعرض له الإنسانية المضطهدة هناك وشبه ميت الإحساس بما هو خُلُقي وإنساني وحضاري.‏
              والمبعدون الذين يعانون في منفاهم القسري من ممارسات عنصرية - صهيونية متوائمة مع العنصرية الصربية، التي تتلمذ على يدي الموساد، تصرخان بملء الصوت أن دعونا نقضي على أولئك المسلمين المتشددين؛ أوَليست هناك رغبة وشكوى عند بعض العرب منهم ويودون أن يتخلصوا من وجودهم؟!!‏
              في البوسنة حصار وقتل وقهر وبرنامج للإبادة منظم وقصير الأمد يقابل "بتعقل" بليد ومريع، وفي فلسطين المحتلة برنامج إبادة واقتلاع للناس من أراضيهم ومساومة على روح المقاومة وحس الحياة لديهم؛ واستمرار للنهج العنصري الصهيوني، القديم المتجدد، يتم ببطء وقسوة وبرودة أعصاب، في ظل صمت مريب لجزء من عالمنا "المتحضر" وبتواطؤ قذر من أقويائه مع الجلادين العنصريين.‏
              وفي هذه الأثناء التي يتعرض فيها العرب والمسلمون إلى أنواع من الاضطهاد والظلم والعدوان، تنادي بعض الأنظمة العربية "بتحالف" ضد "الأصولية"؛ وكأنما يأتي ذلك تلبية لدعوة انطلقت منذ أقل من سنتين، وبدأت من "إسرائيل" ثم انتشرت في الأوساط الاستعمارية الغربية، وهي دعوة تقول بأن "الأصولية" في خطورة الشيوعية وأنها ينبغي أن تسقط ويسقط مستندها كله -أي العقيدة- في القرن القادم كما سقطت الشيوعية في القرن الحالي.‏
              وهاهم العرب، يتولون تنفيذ الخطط الكفيلة بجعل عجلة الموت تدور، وعجلة المواجهة بين العروبة والإسلام تسرع في دورانها لتحقيق التآكل والضعف والدخول في أوحال الحقد والدم التي تجعل سقوط كل ذلك البناء ممكناً، وتجعل أعداء العروبة والإسلام يطمئنون ويعملون لتحقيق انتصاراتهم، في ظل غياب كل مقاومة لمشاريعهم. ويتناغم قول "رابين" في الأصولية اليوم مع قول عرب آخرين فيها، حتى ليُسٍتَشهد بقول رابين ورأيه!؟ ويروج لذلك رسميون عرب في اجتماعات رسمية، من دون أدنى تمييز بين تعصب سياسي على أرضية الإسلام في بلد عربي أو إسلامي وبين تشدد نضالي على أرضية الحق والعدل والإسلام والتمايز الحضاري والحرص على الحرية والأرض، يعمل على مقاومة الاحتلال والإبادة والتطهير العرقي والانتزاع المبرمج من الأرض؛ ليُغرس فيها دخلاء مجلوبون إلى وطننا، تحقيقاً لبرنامج إمبريالي - استعماري- صهيوني قذر، ويمكَّنوا في هذه الأرض المباركة؛ تشدد نضالي يضحي بالنفس من أجل مقاومة ذلك المخطط وتحرير الذات والأرض من الاحتلال والانتهاك والاستلاب؛ والدفاع عن الوجود وخلق مناخ الحرية السليم الذي يمارس الإنسان في ظله وجوده بامتلاء، ويحقق على أرضيته حضوراً بشرياً مطمئناً في شتى مظاهر الحياة.‏
              كانت وطأة الإحساس بالعجز والقهر والامتهان تضغط علي وتحاصرني، وتتكتل صباراً في حلقي، وأنا أتجه، مع بعض زملائي الكتاب إلى مفرق المصنع- حاصبيا حيث ينتظر زملاء آخرون يجمعنا هدف زيارة المبعدين. وعلى مفرق المصنع- حاصبيا اجتمع شملنا بعد انتظار، ومنه انطلقنا: كتاباً عرباً في بلاد الشام، تتساقط أمامنا الحدود، ونسخر من كل ما تركه "اللورد سايكس" ونظيره "بيكو" وأحفادهما من قيود وتقسيمات وندوب على جسد أمتنا وفوق تراب أرضنا.‏
              انطلقنا كتلة حماسة، ملء قلوبنا ألم وملء كيان كل منا غضب وجراح وأمل. يتدحرج موكبنا المتواضع بين الهضاب والوهاد، نقصد مرج الزهور.. حيث لا مرج ولا زهور، بل أمة منفية في الوعر، ملقاة في العراء، غريبة عن ماضيها المجيد، مبعدة عن كل ما يتطلبه حاضرها ومستقبلها من فعل منقذ ومواجهة عصرية جريئة ومجدية. وحيث الإنسانية مقيدة في الفقر، عارية جائعة ترتجف في الثلج عند أقدام جبل الشيخ، وتتلقى أنواع الازدراء والتهديد والاضطهاد، وتعيش قسوة المأساة والمعاناة من عنصرية صهيونية كريهة، تجسِّد مكراً بأبناء هذا العصر، وخبث طوية أقويائه، وتبقى خارج حدود المنطق والمدنية والأخلاق والقوانين والأعراف؛ وتتمتع، على الرغم من ذلك كله، بحماية ورعاية ودعم من ينصِّبون أنفسهم سادة للعصر وسدنة للقيم وحراساً للمنطق والحقوق والأخلاق فيه؛ وهم إنما يقدمون، بحضورهم على ذاك النحو وبظهورهم في ميزان الأحداث بهذا الانحياز والجنوح، يقدمون صورة صادقة عن عالمنا المضطرب الذي غابت فيه سلامة المعايير وانتفت منه الحكمة والاحتكام للحق والعدل.‏
              كانت كل هضبة طفلاً في موكب الجبل الجليل تقودنا بحنان لتسلمنا إلى أخرى، وفي نفوسنا ترتسم معالم المفاجأة المنتظرة، كما نتخيلها، وهي تتلون بألوان التلال والوهاد والأحلام والآلام التي تكون الفضاء فينا ومن حولنا.‏
              قبل مرج الزهور، التي كنا نقصدها، بسبعة كيلو مترات تقريباً، جرِّدنا نظرياً من صفاتنا ككتاب وتضاءل موكبنا حتى غدا كرة واحدة تدحرجت من هناك إلى المرج حاملة قلوب الآخرين، وكل من نمثل من كتاب الوطن في نواتها الصلبة المؤمنة بأهمية ما تعمل وما تحمل .عند بوابة مرتفع من تلك المرتفعات المتتالية لمحنا أشخاصاً منتشرين على امتداد انحدار الطريق، فأيقنا أننا اقتربنا من مخيم العائدين.‏
              مخيم العائدين؟! وقصفت في جمجمتي فكرة أو ذكرى مثل عاصفة رعد، وأمطرت مصطلحات مميتة، مصطلحات ما زالت تحبل وتلد ملء امتداد مساحات الأرض المأهولة بالمقتلعين من أرضهم في أرضهم، مصطلحات من مثل: اللاجئين- النازحين- المنكوبين- المشردين- العائدين- المبعدين، جرَّاء أفعال ذات مصطلحات هي الأخرى: النكبة- النكسة- الهزيمة- الكارثة- المحنة- المصيبة- الخ.‏
              استجمعت نفسي من ذلك وانتزعتها من تأثيره، كانت قلوبنا تقفز فوق سرعة السيارة المنطلقة إلى لقاء الأخوة. على كتف الهضبة التي فتحت صدرها للقِبلة ركعت مجموعة من الخيام تصلي مرتدية ثوب الفدائي المخضر، ناشرة على رؤوسها نقاء البياض مغسولاً بالمعاناة المرة وثلج جبل الشيخ، الذي ما زال يزوبعها بزمهريره لتجف فتغدو أكثر قسوة ووخزاً من رؤوس الحراب وتشققات الصوان، الذي يلاقح السماء وغيومها.‏
              توقفنا وترجَّلنا من ركوبتنا كنا ثلاثة أشخاص فأصبحنا أربعمئة وثمانية عشر شخصاً، وخلفنا في مدى ما تعيه الذاكرة وما يكتنزه الوجدان ملايين الأشخاص الذين تصهرهم لحظة اللقاء تحت وطأة المشاعر التي تعقد الألسنة وتلغي لغة الكلام وتذيب الخلايا معاً.‏
              قرأنا الفرحة بنا على بعض الوجوه، وقرأنا عتباً معجوناً بالغضب، وقرأنا التصميم في العيون والبراءة على كل وجه. دخلنا مع أول الواصلين إلينا من المبعدين إلى خيمة هي عيادة المخيم، وعلى من يبحث عن توصيف جيد لها أن ينتزع من مخيلته كل الصور والتصورات الممكنة لعيادة طبية من أي نوع ولبناء مديني أو قروي من أي نوع أيضاً، وأن يأتي على كل حضور لخيمة بدوية عادية فيها احتياجات البدوي البدائي؛ ويستحضر الصورة الأكثر بؤساً للأرض الوعرة غطيت حجارتها، التي تشبه رؤوس الشياطين، بإسفنج صناعي رخو وبطانيات سوداء خففت نسبياً من حدة أسنانها ومناشيرها الموجهة إلى كل ما يمر في فضائها. ولا تكاد تتبيَّن مما يتصل بالعيادة إلا وجود بعض علب الدواء المبعثرة في زاوية من المكان.‏
              وعلينا ألا ننسى أبداً تذكر العصر والقوة الغربية عموماً، وربما الأميركية خصوصاً في تلك الخيمة وأمثالها المنتشرات في المكان، فنحن نتبينه في لون القماش الخاكي المتين الحديث الذي يشبه في لونه لباس الجنود المعتدين، والدبابات التي تتربص بالأبرياء وتقصفهم وهم نيام، وطلاء الصواريخ والأسلحة الذرية الفتاكة التي تتباهى وهي تستعرض القيمة "الحضارية والخُلُقية والإنسانية" التي وصل إليها الغرب الاستعماري، من حفدة رعاة البقر وأضرابهم إلى الصهيونية العنصرية من هرتزل وشامير وشارون ورابين.‏
              استقر جمعنا في المكان البائس الذي تنحى عن القبلة ليواجه جبل الشيخ، فلا بد للمرضى من ملاءات بيضاء ونظافة وتعقيم ونقاء، الأمر الذي لا يوجد إلا في قمة ذلك العملاق المقيّد المكلل بالثلج النقي.‏
              بعد التحية وتبادل بضع كلمات عبرت عن هدفنا وتطلعنا في هذه الزيارة وبعض مشاعرنا، ثم دعينا إلى خيمة أخرى، يبدو أنها "قصر الضيافة في مخيم العودة "؛ وكانت تختلف عن الخيمة الأولى في شيئين فقط: اتساعها قليلاً وغياب الأدوية منها، ولكنها تتميز عن تلك بميزة قد لا تخلو منها خيمة أخرى وهي وجود هياكل بشرية ملفوفة بالبطانيات تكظم غيظها وتقطع أنفاسها، ربما ألماً وربما مرضاً ورهقاً وقلقاً، وهي مسجَّاة في أطراف المكان دون حراك.‏
              جلسنا هناك وتعرَّفنا على بعض الشخصيات البارزة، وكل المبعدين شخصيات بارزة، سواء في المهنة أو في المكانة الاجتماعية أو في النضال.‏
              كان بينهم أساتذة جامعات وأطباء ومهندسون ونقابيون من اختصاصات مختلفة، وقد تحولوا بقرار صهيوني -عنصري بغيض إلى حمالي حطب وطباخين، وكتل من المعاناة فوق الصخور التي لا ترحم. بعد كلمات قليلة معهم شعرنا كأننا بدأنا بها جدية اللقاء، دعينا مرة أخرى إلى تغيير المكان.‏
              على الطريق العام على حافة واد سحيق لا يأمن المرء من الانزلاق إليه، أمامنا على امتداد النظر موقع "زُمْرَيَّا" وخلفنا الخيام التي تفترش صدر الهضبة، وعن يمين وشمال وقف المبعدون عن أهلهم ووطنهم وساحة نضالهم، وبدا كأننا مركز الحلقة مع د. عبد العزيز الرنتيسي الناطق الرسمي باسم المخيم ورئيس الجامعة الإسلامية، وبعض الأساتذة والمهندسين.‏
              القينا بياننا الذي كنا نحمله بعد أن وقَّعناه في الخيمة أمامهم.‏
              وتدفقت مشاعرنا كلمات بعده تحمل غضب الأرض والناس والكرامة وصدق معاناتنا، نحن الذين تفترسنا الأحداث فنفترس الكلمات أو نفترشها، ووعدناهم بأن نكون على العهد أمانة ووفاء وتعلقاً بالحق والأرض التي استشهد على طريقها عشرات آلاف الشهداء، وأن نحمل القضية في إبداعنا ونبقيها حية في الوجدان عبر الزمان.‏
              كادت الهضبة تصبح عرساً وتعالى الهتاف "الله أكبر" وألقى الدكتور الرنتيسي كلمة مؤثرة وتشابكت أيدينا معاً، كنا كتلة متوهجة فيها معنى الموقف والكلمة، وخلت أن الهضبة تروج بنا، أنحن حقاً من أمة تعد كل هذه الملايين، ولها كل ذلك التاريخ، ولا تستطيع أن تغير الواقع المر والوضع المزري الذي يعيشه نفر من أبنائها لأنهم رفعوا الصوت باسمها، وأرادوا أن يعملوا بإخلاص من أجل تحقيق أهدافها، وأن يضحوا في سبيل أن يبقى لهم أولاد وأحفاد يعيشون على أرض الآباء والأجداد، التي يقتلع الصهاينة وجودهم منها بكل أشكال الاقتلاع؟!‏
              هل هناك جدية فعلاً في موضوع القضية وفي معالجة قضايا: اللاجئين والنازحين- والمشردين -والمطرودين- والمبعدين.. الخ؟!‏
              هل هناك صوت عربي ما، صوت عربي -إسلامي ما، صوت إنساني ما، يفرض وجوده في صورة قرار قابل للتنفيذ في هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويلزم الكيان العنصري الصهيوني باحترام حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية والقانون الدولي؟! وهل هناك دول عربية تستطيع أن تقول لا أو أن ترفع الصوت بلا، وهي تنظر إلى مواطنيها أو إلى البشر في أطراف ممتلكاتها وممالكها وسياجاتها الجغرافية والسياسية، وهم يُذبحون أو يسحقون أو يعذبون أو يبعدون؟!‏
              هل هناك أخلاق وقيم وحقوق ومبادئ مقدسة لأهل العصر عرباً كانوا أو غير عرب، آسيويين، وأفارقة، وأوروبيين، وأميركيين ومن كل الأجناس والبلدان والأديان، تستطيع أن تحركهم لينقذوا الإنسان من ظلم "الإنسان" وهمجيته؟!‏
              في لحظة الوداع قال لي رئيس الجامعة الإسلامية أمام الدكتور الرنتيسي: نحن الأربعمئة وخمسة عشر، ومثلنا ومثلنا، نحن على استعداد لأن نضحي بأنفسنا ونموت هنا في المكان الذي نرفض أن نغادره إلا إلى وطننا؛ نحن على استعداد لأن نموت من أجل أن يتغير شيء في هذه الأمة وفي طبيعة مواقفها ومواجهتها للعدو، وأمَّن شيخ المسجد الأقصى، المبعد عن محرابه، أمَّن على ذلك ولحيته البيضاء تفيض هدوءاً؛ ثم تعانقنا على هذا الاتفاق.‏
              فهل تراه يتغير شيء في الأمة إذا ما استشهد المبعدون وأضعاف أضعافهم، ممن هم على شاكلتهم أو على غير ذلك المبدأ الذي أعلنوه؟!‏
              إنني أحمل الرسالة والوعد والأمل وأتمنى أن يحدث ذلك قبل أن يأكل الأب لحم ابنه والابن لحم أبيه، جرَّاء فتن وأوضاع وعداوات واعتداءات وتآمر يطرق أبواب أوطاننا، وترتعش على وقع اقترابه قلوبنا. ولنا كل الحق بالأمل، ولنا أيضاً كل الأمل في هذه الأمة التي عرفت كيف تعيش وتتغلب على الصعاب، وتقوم من رمادها عبر عصور وعصور فوق هذه الأرض، التي قدمت للبشرية العقائد والأبجدية والمعرفة والحضارة.‏
              لنا كل الحق بالأمل، وإنني لعلى مستشرف اليقين من أن المبعدين سيعودون إلى فلسطين وسيستأنفون نضالهم العادل، وستكون لهذه العودة معانيها؛ لأنها ستؤكد، بضغط عربي ودولي، تراجع "" إسرائيل " العنصرية" عن قرارات همجية اتخذتها، وسيكون لذلك مدلوله وأثره في المستقبل.‏

              الأسبوع الأدبي/ع345//7/ك2/1993.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #22
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                الإبعاد: هل نعي دروسه !؟:
                ـ3ـ‏
                يحذِّر الصهاينة في فلسطين المحتلة مجلس الأمن الدولي من اتخاذ قرارات تفرض عقوبات على "إسرائيل" جراء عدم تنفيذها للقرار (799) القاضي بإعادة المبعدين الفلسطينيين إلى ديارهم.‏
                ويقول القادة العنصريون: إنهم لن ينفذوا القرار، ولن تنجح العقوبات إلا بإفساد كل شيء؟! وكل شيء فاسد مسبقاً في المقياس " الإسرائيلي " عندما يتعلق الأمر بحق للفلسطينيين أو بقرارٍ يتعلق بالعرب وبما يرتكب بحقهم من أفعال.‏
                ذلك أن "إسرائيل" اعتادت على أن ترفض كل ما يصدره مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المرتبطة بها من قرارات، إذا كان ذلك لا يخدم مصالحها وحدها، وقد استمر ذلك الوضع منذ القرار (181)‏
                عام 1947 وحتى اليوم، واعتاد العالم على رفض "إسرائيل" وعلى عدوانيتها التي تسميها دفاعاً عن النفس في وجه "الإرهاب"؟! والإرهابي عندها وحدها هو ذلك العربي الذي يفكر بالعودة إلى بيته، ويراوده الحلم بتحرير أرضه واستعادة حقوقه.‏
                على مجلس الأمن الدولي، الذي طالما اضطربت معاييره وازدوجت مكاييله ومواقفه من قراراته، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالعرب، عليه أن ينتظر " العدل " الإسرائيلي " الأعرج "، وإلا فهو فاقدٌ لمصداقيته حيال عملية السلام، ومنحازٌ ضد " إسرائيل "، حتى بعد زوال الاتحاد السوفييتي الذي كان يشكل كتلة تحاول أميركا أن تتغلب عليها إبَّان الحرب الباردة، التي انتهت لمصلحة أميركا وحلفائها؟!؟ هذا ما يصرح به رابين وبيريس بوقاحة لا مثيل لها. ويذهب رابين، إلى حدود الإعلان عن أن مجلس الأمن الدولي إذا اتخذ قراراً يتضمن عقوبات لـ " إسرائيل " ليرغمها على تنفيذ القرار (799) الخاص بإعادة المبعدين فإنه يكيل بمكيالين، تعبيراً عن انحيازه ضد " إسرائيل" (!؟؟) وهذا القلب المتعمد للحقائق والتشويه الصارخ للوقائع والمنطق ولصورة العدل وعمل العقل ومعايير القيم، يشكل قاعدة الانطلاق الراسخة في العمل الصهيوني. والصهاينة يقومون دائما بالهجوم عندما يرتكبون جرائمهم، حتى لا يضعهم أحد في موضع المدافع عن نفسه وعمله وسلوكه!؟‏
                وهذا النهج ليس نهجاً مختاراً ومجرباً منهم وحسب، وإنما هو نهج تباركه أميركا وتطلبه أيضاً، ويتيح لها أن تستخدم على أرضيته نفوذها لمنع مجلس الأمن من اتخاذ عقوبات بحق " إسرائيل "، سواء بالإقناع أم بالتهديد والضغط واستخدام حق النقض " الفيتو"، الذي تلوِّح باستخدامه الآن. لقد أصبح بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة اليوم متسرعاً لأنه قدَّم لمجلس الأمن الدولي تقريراً عن نتائج زيارات موفديه إلى " إسرائيل " بعد مضي أكثر من شهر على إبعادها أكثر من أربعمئة فلسطيني من ديارهم وإلقائهم في العراء من دون غذاًء أو دواء أو اكتراث بحقوقهم السياسية والمدنية بوصفهم بشراً واقعين تحت الاحتلال، تضمن لهم اتفاقية جنيف الرابعة حقوقاً ثابتة. وعاد مجلس الأمن من جديد متهَماً من قِبَل " إسرائيل " بالانحياز، كما عاد معوِّقاً لمفاوضات السلام، بل عقبة في طريقها؛ وربما قرر رابين طرده أو استبعاده مرة أخرى من الحضور حتى بصفة مراقب صامت في تلك العملية !!؟‏
                لم يعد خافياً على أحد تلاعب " إسرائيل " بتشجيع من أميركا، بالمنظمة الدولية وقراراتها ومواثيقها، وكذلك استهتارها بشرعة حقوق الإنسان وما يتصل بتطبيقها واحترامها. ولم يعد خافياً أيضاً تحيُّز الأقوياء لـ " إسرائيل " ومحاولتهم استرضاءها، ولا هو خاف ضعف الدول العربية، وربما عجزها، عن مواجهة هذا الوضع في إطار المنظمة الدولية والهيئات التابعة لها، ووضع حد لهذا العبث المستمر.‏
                فما هو التصرف الممكن، ولا أقول التصرف الملائم، الذي يساهم في تغيير الأوضاع فعلياً في عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث تكون هناك علاقات دولية متوازنة فعلاً، وهيئات ومواثيق دولية موحَّدة المعيار مرعيَّة التطبيق؟! لا يلوح في الأفق تحرُّك جدِّي نحو تحقيق شيء خارج السائد الآن؛ فحتى التفكير بتوسيع قاعدة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ينصرف إلى ضم أقوياء غُلِبوا في الحرب العالمية الثانية إلى أقوياء انتصروا، بعد أن استعاد أولئك بعض قوتهم وأبدوا استعدادهم للتعاون ضد ضعفاء العالم ومستضعفيه.‏
                و"إسرائيل" تعتمد اعتماداً تاماً على دعم الولايات المتحدة لها في رفضها لقرارات مجلس الأمن، وفي تحذيرها له من اتخاذ أية قرارات على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.‏
                وإذا كان من المتعذر في الظروف الدولية الراهنة أن يتخذ مجلس الأمن قراراً وتنفذه "إسرائيل"، بسبب التواطؤ الأميركي -" الإسرائيلي "، فإن عودة المبعدين تصبح وهماً عربياً وأملاً دولياً لا أكثر ولا أقل، وربما انطلاقاً من ذلك يعرض وزير خارجية فرنسا حلاً وسطاً بأن تستوعب فرنسا والجزائر ثلثي المبعدين ويعود ثلثهم إلى فلسطين المحتلة.‏
                وبصرف النظر عما ينطوي عليه هذا الطرح الغربي من إفراغ للقضية من مضمونها السياسي وتحويلها إلى قضية ذات طابع إنساني مرضاة لـ "إسرائيل" وانصياعاً لمطالبها وقراراتها، أقول بصرف النظر عن ذلك كله فإن السؤال الذي يطرح نفسه علينا نحن العرب المعنيين بالأمر هو: ما هي قدرتنا على التأثير جدياً وفعلياً في الوضع؟ وما الذي نستطيع أن نغيِّره على أرض الواقع انطلاقاً من مرج الزهور، أو من الأراضي المحتلة كلها، أو من خارج الحدود، أو من مجلس الأمن، والتنظيمات والتجمعات الدولية؟!؟‏
                هل نحن قادرون على فعل شيء يحسب حسابه العدو، ومن يناصر العدو علناً؟! أم أننا ما زلنا جملة اعتراضية في القرارات الدولية، وبين الإرادات الفاعلة في عالمنا؟! الواقع يشير إلى عجزنا عن اتخاذ أي قرار مؤثر، حتى قرار تجميد مفاوضات السلام المتعدِّدة والثنائية؛ لأن "إسرائيل" ذاتها ترغب في التخلص من كل شيء يذكِّرها بعرب يريدون أرضاً أو حقوقاً، ما دامت قادرة على رفضهم، ومؤَّيدة من أميركا في إبعادهم عن مساحة الرؤية وساحة التأثير.‏
                وإذن.. هل نضم جناحينا على جسمنا لنستر عرياً، ونحفظ دفئاً متواضعاً، وننتظر مصيرنا الذي يقرَّر لنا؟! وإذا جاز لنا أن نتساءل عن إجراء عربي منتظَر يضع المجتمع الدولي- وهو بالمناسبة حسب عرف الغرب لهذه الكلمة واستخدامه الفعلي لها ينحصر بالغرب نفسه فقط -أمام حقيقة شعور العرب ودول أخرى في العالم على شاكلتهم بالإحباط وحتى باليأس من إمكانية تخلُّص المنظمة الدولية من تحكُّم القوى الكبرى بها، ومن سيطرة الولايات المتحدة -الحليف الأقوى لإسرائيل- عليها.‏
                إن كل ما يلوح في الأفق هو سعي عربي للتعبير عن التململ يرافقه إعلان عربي عن الخضوع لما هو سائد. ولا يبدو على الإطلاق أن العرب راغبون في اتخاذ قرار يؤهلهم للحضور كقوة مؤثرة في صنع القرار الدولي، وربما كانوا غير قادرين أصلاً على اتخاذ مثل هذا القرار لعجز ذاتي يدارونه ويدورون حوله.‏
                إن ما ينتظَر في قضية المبعدين، التي أصبحت، على ما يبدو، قضية طرف أو أكثر في مجلس الأمن، لا يصل إلى حدود قيام مواجهة سياسية ما بين الأقوياء، ولن يصل إلى مواجهة بين الأمين العام للمجلس وبين عضو في المنظمة الدولية يستهتر بقرارات المجلس ولا يطبقها؛ ذلك لأن الأقوى في هذه المؤسسة الدولية هو صاحب القرار والأمر وهو أميركا تحديداً، وأميركا تعلن أنها ستجنب " إسرائيل " أي مأزق ولو اضطرت لاستخدام حق الفيتو لكي "تشجعها" على الاستمرار في عملية مفاوضات السلام(؟!؟).‏
                وهذا يعني عملياً، قيام أميركا و" إسرائيل " باتفاق عملي، على إيجاد مخرج يغسل وجه " إسرائيل " أمام العالم ويعيد إليه بهاءه كوجه دولة ديمقراطية عادلة، وذلك من خلال قيام العدل " الإسرائيلي " المتمثل في محكمة العدل العليا باتخاذ قرار وسط يطعن بشرعية الإبعاد ويعيد المبعدين إلى حالة من المعاناة والضغط والملاحقة داخل " إسرائيل " ذاتها. وهذا يعني أن العدل " الإسرائيلي " فوق الشك، وهو أقوى من السلطة التنفيذية المتمثلة برابين وبيريس وسواهما. وحينما يتخذ مثل ذلك القرار ستهلل أجهزة الإعلام لـ " إسرائيل " الحضارية وللعدل والديمقراطية وينصاع رئيس الوزراء " الإسرائيلي " لقانون بلده وليس للقانون الدولي الغاشم، وستعلن أميركا كلنتون أنها نجحت في الرهان على تغلُّب " إسرائيل " الديمقراطية على نفسها وأن المجتمع المدني فيها وضع حداً للعسف القائم وسيضع حداً للعسف المحتمل.‏
                وفي ظل هذا الممكن تسقط محاولات العرب وترتد مقولاتهم إلى ذواتهم، وتسقط مقولة: الكيل بمكيالين التي يدّعونها؛ ويرين الماء على القتلى والجرحى الذين تفتك بهم "إسرائيل" يومياً في الأرض المحتلة، وذلك لمدى قادم بعيد، ويستعيد مجلس الأمن "كلامه" عن السلام والعدل وحقوق الإنسان، على الرغم من عجزه عن طرح مسائل جادة وحادة في هذا المجال على بساط البحث مثل قضية البوسنة والهرسك؛ وتكون أميركا -في ظل هذا الإجراء وخلال الزمن السابق له منذ بدأت قضية المبعدين، قد نفذت عمليات راح ضحيتها عرب أبرياء في العراق، وأعلنت من جديد جديتها في تنفيذ قرارات مجلس الأمن" التي لا يجوز لأحد" أن يتخطاها!؟! و"أحد" هنا لا تنصرف إلى "أحد" من المجتمع الدولي "أو حلفائه، فهؤلاء فوق الشبهة وفوق القانون أيضاً!!.‏
                إن العرب خاصة والمسلمين عامة، هم وحدهم الذين يتعرضون لهذه العمليات ويذهبون ضحية لها، والذين أُدرجوا على قائمة المحبطين الدائمين والمذنبين الدائمين، وهم في هذه الحالة مطالبون بوسيلة مغايرة لكل ما اتبعوه سابقاً، تمكنهم من استثمار مشكلات الغرب وحلفائه، واستثمار مواطن الضعف فيه، ليصبح ذلك محور عمل لهم، إضافة إلى تلافي الأخطاء والصراعات الداخلية، واكتشاف القدرات الذاتية المؤثرة عملياً في القرار السياسي للأقوياء، وملامسة مصالحهم؛ حيث بذلك وحده يعيدون النظر بحساباتهم ويراجعون بعض المواقف والسياسات. فهل ذلك ممكن يا ترى؟!‏
                إن الملامح الحالية تشير إلى انشغال بعض أقطار الوطن العربي بمحاربة ظواهر فيه، ولجوء العالم الإسلامي، من خلال هيئة المؤتمر إلى إرجاء القرارات المتعلقة بالبوسنة والهرسك، ولا سيما القرار الذي أشار إلى ضرورة تقديم المساعدة العسكرية والتدخل بالموضوع مباشرة بعد 15 كانون الثاني‏
                عام 1993 إذا لم تُحل مشكلة البوسنة والهرسك ويضع الغرب حداً لها؛ لأن الدول الإسلامية أرادت أن تتجه نحو "السلام" وأن تعطي فرصة أوسع للغرب(؟!؟) لأنه على ما يبدو لم تكن المدة الزمنية الممنوحة له كافية ليقوم الصربيون خلالها بإبادة المسلمين في البوسنة، فلا بأس من تمديد فترة الذبح الحلال، والاغتصاب "المشروع"؟!!.‏
                إنه العجز أو الخوف أو التواطؤ، وكل ذلك يفرض علينا أن نفكر جدياً بتغيير أساليب عملنا وتحليلنا وتواصلنا، لنكون أكثر واقعية وأكثر مصداقية وأكثر فاعلية في مواجهة جماهيرنا وقضايانا وعالمنا والذين نتعامل معهم فيه.‏
                هل نبدأ بالتربية، أم بالثقافة، أم بالاقتصاد، أم بالسياسة أم بالحرب؛ أم يبدأ كل منا بنفسه وبيته وبنيه وأقرب الناس إليه وبعلاقته المباشرة بالعلم والعمل والعبادة والسلوك؟!‏
                إن كل ذلك بتقديري مطلوب ومُلِح، والأكثر إلحاحاً هو أن نرفض نفاق الغرب وصيغ تعاملنا الراهنة مع ذلك النفاق، الذي يقوي "إسرائيل" ويجعلها أكثر غطرسة وعدوانية.‏

                الأسبوع الأدبي/ع347//21/ك2/1993.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #23
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  الصفقة حول المبعدين: هل يكتب لها النجاح؟!
                  ـ4ـ‏
                  أميركا، الحليف الاستراتيجي "لإسرائيل" وشريكها في التواطؤ ضد شعوب المنطقة لتأمين مصالح وأهداف بعيدة الأمد سياسية وثقافية واقتصادية وعسكرية، تروِّج نفسها كوسيط "نزيه" بين العرب والصهاينة، وتعقد صفقات خسيسة مع رابين وتعمل على فرضها، على العالم لأنه عملياً "إرهابي ويتعاون مع الإرهابيين".‏
                  إن هذه الصفقة التي رفضها العرب بشجاعة وتصميم، ورفضها المبعدون بتضامن مصيري رائع، وهوجم بطرس غالي لأنه رآها لا تحقق تنفيذاً للقرار (799). إن هذه الصفقة الأميركية -الإسرائيلية تسير علنياً في طريق الإحباط، ولكنها بين الشريكين المتحالفين أحد الثوابت التي سيعمل التحالف على أخذه بعين الاعتبار عند وضع الخطط والبرامج الخاصة بالمنطقة وكذلك عند التعامل مع القضية الفلسطينية والصراع العربي الصهيوني.‏
                  وسوف نذكر ذلك مستقبلاً حتى لو أعيد المبعدون جميعاً إلى فلسطين المحتلة تحت ضغوط عربية ودولية.‏
                  ذلك لأن اجتماع بوش -رابين الذي تقرر فيه منح ضمانات القروض قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة كان في الحقيقة اجتماع مراجعة للأهداف الاستراتيجية وللوسائل الكفيلة بتحقيقها، وفي مقدمة ذلك كان مقاومة الإسلام المتشدد في قضية التحرير ووضعه في موقف الإدانة سواء تحت عنوان الأصولية أم سواها، وإعلانه إرهاباً ينبغي أن يقاوم بكل الوسائل، تحقيقاً لأهداف غربية -صهيونية، كانت أعلنت بعيد إنجاز تدمير العراق وانهيار الاتحاد السوفييتي، وإعلان نهاية الحرب الباردة؛ وملخصها العمل على تحقيق انهيار العروبة والإسلام في القرن القادم، واعتبار الأصولية الإسلامية بخطورة الشيوعية أو أشد.‏
                  إن المخطط يستمر، ولا تلجأ القوى الغربية، ولا سيما أميركا و"إسرائيل" إلى الهجمات الإعلانية الإعلامية الحماسية، على الطريقة العربية، حول هذا الهدف وحول ما تنوي تحقيقه؛ بل تعمد إلى تأمين كل ما يلزم لتحقيق ذلك الهدف من:‏
                  -قوة عسكرية أولاً، قوة قادرة على العمل ضد المناطق والمواقع المؤثرة، وإسكاتها.‏
                  -مناخ سياسي- واقتصادي ملائم كذلك المناخ الذي يخوض فيه العرب، حكام ومحكومون، طريق الدم والفتنة بين سلطة مسلحة دوماً تحافظ على النظام وما ترى أنه الأفضل ومعارضة مسلحة أيضاً تسلك طريق العنف لأنها تزعم ألا طريق سواها للوصول إلى تحقيق ما ترى أنه الأفضل.‏
                  وتضيع بين هؤلاء وبين من يقف وراءهم أو من يتعامل معهم بشكل مباشر أو غير مباشر، كل معاني الديمقراطية وحقوق الإنسان، وأهمية الحوار، والالتفات إلى مخططات الأعداء، وإلى واقع الأمر الذي آلت إليه قضايا مصيرية وأهداف مركزية وأوضاع اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية تسحق الجميع وتهدد الجميع.‏
                  -وسط دولي سياسي وإعلامي، تهيئة الوسائل المختصة، يجعل كل ما يقوله الضحايا كذباً، وكل ما يقوله الطغاة والمعتدون والإمبريالي والعنصريون حقائق لا يرقى إليها الشك، وحقوق لا يجوز التطاول عليها!!.‏
                  لقد سارعت أميركا إلى القبول بإدراج المناضلين ضد الاحتلال في قائمة الإرهابيين، وطبل لذلك الأتباع والأعوان. وكعادة الدولة العلية التي لا ترى إلا بعين واحدة ولا ترى إلا ما يعجبها أن تراه، لم تلتفت إلى حقيقة أن "إسرائيل" تمارس إرهاب الدولة المنظم من سنوات عديدة، وتقوم بعمل عنصري مقيت هو التطهير العرقي بأشكال مختلفة منها: الأبعاد والقتل والتشريد والترويع بهدم البيوت وحرمان الإنسان الفلسطيني من موارد العيش ومقومات العمل والأمن والحياة السليمة. لم تلتفت أميركا إلى ذلك على الإطلاق بل أنها لم تره، وأفتت هي وكندا أولاً ـ وسيتبعهما الآخرون- أن من حق " إسرائيل " أن تدافع عن أمنها بالطريقة التي تراها ملائمة".‏
                  هكذا قال مالروني بالضبط بعد اجتماعه بالأميركيين منذ أيام فقط.‏
                  وهذا معناه أن أميركا تقر، في إطار التحالف القذر بينها وبين "إسرائيل"، تصفية الشعب العربي الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، ولكن بشكل بطيء ومتنوع، وتقر سياسة "إسرائيل" الرامية إلى تنقية فلسطين من العرب بكل الأشكال الممكنة، وتقر مبدأ إبادة الجنس أو لا تعترض على ذلك لأنها "لا تراه" أو لا تريد أن تراه في هذه المنطقة من العالم، وفي هذا الوقت بالذات.‏
                  وهي لا تنظر أصلاً إلى مواطنيها نظرة متساوية، فحين تضطهد "إسرائيل" أميركياً من أصل عربي وتسجنه بحجة أنه يتعاطف مع "حماس" في فلسطين تتغاضى أميركا عن مفهوم حق المواطن الأميركي لأن المعني بذلك عربي مسلم يزعج الحليفة "إسرائيل"؛ أما عندما يتعلق الأمر بمواطن أميركي من أصل غير عربي، ولا سيما إذا كان يهودياً تعرض لتوجيه سؤال، مجرد سؤال إليه، في أثناء ممارسته للتجسس مثلاً فإن الدنيا تقوم ولا تقعد!؟.‏
                  إن علينا أن ندرك جيداً أبعاد المؤامرة التي تحاك ضدنا، وعلينا أن نكشف الدور العربي فيها أولاً وقبل كل شيء، لأنه أخطر الأدوار وأشدها فتكاً في الجسم العربي وفي قوة المقاومة واستمرارها. وعلينا أن نعمد إلى فعل يؤثر واقعياً وعملياً في الساحة السياسية والنضالية ويكشف التواطؤ ويوقفه.‏
                  إن المساومة المعلنة- مثلاً- على قبول الصفقة الأميركية -الإسرائيلية حول المبعدين لقاء تمثيل منظمة التحرير في الحوار الفلسطيني -الإسرائيلي، على الرغم من ظهورها بمظهر التعجيز إن لم تتحقق والمكسب الكبير إن تحققت؛ ستترك آثاراً سلبية على مجمل النضال في الساحة العربية. ولجوء بعض الدول العربية إلى قبول الصفقة ومباركتها، ثم التراجع عن ذلك، ثم التملص من مواقف؛ هو عمل لا يجوز أن يتم في هذه الظروف التي تتصاعد فيها المواجهة بين الانتفاضة والعنصريين الصهاينة، ويُقتل يومياً فيها عدد من الأشخاص في غزة والضفة الغربية، ويجرح عشرات، ويطرد من الفلسطينيين مئات ويجلب إلى فلسطين مئات الآلاف من الروس.‏
                  إن المؤامرة أوضح من أن تخفى، والتواطؤ أكبر من أن يبتلعه فم، وعلى العرب، حاكمين ومحكومين، ألا يلعبوا لعبة ملوك الطوائف مرة أخرى حتى لا تذهب الملوك والطوائف العربية إلى الأبد.‏
                  إن مجلس الأمن سينعقد بعد تأجيل طال واستطال، لأن الموضوع يتعلق بعرب، وسوف لن يجرؤ على مخالفة السيد الأميركي في نهاية المطاف. فليكن لنا فيه موقف موحد مشرف حتى لو لم نحصل على قرار يفرض عقوبات على "إسرائيل"، لأن استعمال أميركا لحق النقض أو وقوف جنودها وأتباعها في المجلس معها، سوف يضع المخرز في عيون أولئك الذين لا يرون عيوب أميركا وتواطؤها، وسيجعل العالم الذي تحتقره أميركا أقرب إلى إدراك حقيقة الدولة التي تتشدق بكلام عن حقوق الإنسان والديمقراطية والعدل الدولي وهيبة المنظمة الدولية وتنفيذ قرارات مجلس الأمن واحترام تلك القرارات؛ وتقوم باستخدام قوتها عندما يدفع لها بدل ذلك، وتحجم عن استعمال تلك القوة عندما يتعلق الأمر بإبادة جماعية لفقراء لا يدفعون نقداً، أو لجنس أو أبناء عقيدة مدرجين على جدول الإبادة في اتفاقياتها السرية وتحالفاتها العنصرية.‏
                  إن وارن كريستوفر وزير الخارجية الأميركية قادم إلى المنطقة لترويج الصفقة الأخيرة، فهل نستطيع أن نقدم له بمنطق غير استفزازي، وكمجموعة عربية متماسكة موحدة الرأي والرؤية والكلمة، حقيقة ما نشعر به وحقيقة إدراكنا للدور الأميركي غير النظيف وتحكمه بمصائرنا ومصالحنا وقضايانا، وبالمنظمة الدولية التي يفترض بها أن تمثلنا جميعاً؟!‏
                  نأمل ذلك من كل قلوبنا، وإن غداً لناظره قريب.‏


                  الأسبوع الأدبي/ع350//11/شياط/1993.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #24
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    نحن ولغة أقوياء العصر
                    لا يعجبن أحدٌ أبداً إذا ما تحولت الأرض اللبنانية التي تحتلها "إسرائيل" إلى وطن بديل للفلسطينيين، الذين تقتلعهم العنصرية الصهيونية من وطنهم وتلقيهم في العراء وراء ما شكَّله الاحتلال من حدود (؟!؟)‏
                    ولا يعجبن أحدٌ أيضا إذا ما دعا إلى ذلك أو باركه عرب وفلسطينيون بالذات، ممن يرون أنفسهم (معتدلين) ومقبولين من رابين ونظرائه وممن لا يريدون ألا يزاحمهم أحد على الظهور بمظهر الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني (؟!؟).‏
                    ولا يعجبن أحدٌ من استمرار مجلس الأمن بقيادة الولايات المتحدة الأميركية بالكيل بمكيالين حين يتعلق الأمر بعرب ومسلمين، على نحو ما نشهد بالنسبة للفلسطينيين وللشعبين العراقي والليبي ولمسلمي البوسنة والهرسك.‏
                    لا يعجبن أحدٌ من ذلك لأن اللغة المفهومة جيداً في علم العلاقات بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول لم تتغير تقريباً منذ آلاف السنين وهي لغة القوة: سافرةً كانت أم مموهةً بقشرة الحضارة، ولأن تلك اللغة لا يتقنها الآن العربُ والمسلمون، ولا يبدو عليهم أنهم يسيرون في طريق تعلمها وإتقانها بعد الذي كان منهم والذي صار لهم.‏
                    ولأن ما ينظرون إليه، وما يحاولون استجلاءه وتعلمه والتلاؤم معه، مما يسمى " بالنظام العالمي الجديد "، لا يعدو لغة القوة المحصورة بمن مارسوها في الاستخدامين الساخن والبارد لها؛ أولئك الذين كانوا ومازالوا يتداولونها ويمارسون في ظلها تحديات للآخرين واستلاباً ونهباً واستعماراً لهم؛ ولن تحركهم في طريق استخدامها أو عدمه إلا مصالحهم ومصالحهم وحدها.‏
                    وعلى الذين يتمسكون بالثوابت المبدئية والخُلُقية ويبكون عليها، ويجلسون منتظرين أقوياء " الكبار" أن يحترموها... عليهم أن يدركوا أن ذلك لن يتم إلا إذا كان فيه خدمة مباشرة لمصلحة القوي " الكبير"، حتى ولو كانت تلك المصلحة تكمن في مجرد تجديد الطلاء الإنساني لجلده؛ ذلك الطلاء الذي يتآكل في الممارسات والمعارك التي يخوضها ضد الشعوب من أجل إثبات قوته وتحقيق مصالحه وفرض هيمنته.‏
                    إن مجلس الأمن الدولي ليس أكثر من أداة بيد الدول المنتصرة في الحربين الأخيرتين: العالمية الثانية "الساخنة" والعالمية الثالثة " الباردة ". وهاهي أميركا التي انتصرت في الحروب الثلاث تقود ذلك المجلس خلف رايتها أو تدحرجه ذليلاً باحثاً عن ذرائعه أمامها.‏
                    إن لغة القوة ما زالت القانون السائد في علاقات الناس والدول، وهذا أمر يؤسف له كثيراً، ولكن الأسف كل الأسف لن يغير من حقيقة الواقع المر شيئا. وعلى الذين يريدون أن يحافظوا على حياتهم وحقوقهم وحرياتهم ومعتقداتهم أن يستيقظوا على حقائق العصر ولطمات الواقع، وأن يغيروا أسلوب تعاملهم مع المعطيات والأحداث والسياسات القائمة.‏
                    إن مجرد فضح الغطرسة " الإسرائيلية " واتهامها والدعوة لوضع حد لها، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية حيال الممارسات العنصرية التي تقوم بها، واللجوء إلى البيانات والخطابات ومناشدات مجلس الأمن، كل ذلك لن يغير شيئاً على أرض الواقع. لأن التواطؤ الغربي، والأميركي تحديداً، مع " إسرائيل" لا يحتاج إلى دليل أو برهان، ولأن الإعلام الأميركي لا يطرح على الرأي العام هناك ولا يطرح على الرأي العام العالمي أية قضية لا تريدها أميركا والصهيونية ولا تخدم المصلحة الغربية الاستعمارية، ولأن الإعلام الذي نقوم به عربياً موجه إلى العرب، ويتحول إلى استهلاك داخلي يفت في عضدنا أكثر مما يشفينا وينفعنا ويحررنا أو يحرر بنا؛ ولأن كل ذلك الذي نمارسه لا يغير الحقائق والوقائع التي تُفرض على الأرض، من قِبَل عدوِّنا، تلك التي مارسها شامير وقال: إنه يريد أن يستمر في المفاوضات مع العرب عشر سنوات ليحققها، وأتى رابين ليكمل طريق سلفه من دون إعلان صريح من قِبَله عن رغبته في ذلك؛ بل على العكس جاء بادعاء كاذب عريض يؤكد تغيير نهج سلفه وبعض ثوابته.‏
                    إننا بحاجة إلى تغيير شامل وعميق، بعيد النظر طويل النفَس، يطول كل أساليب عملنا وتعاملنا مع القضية الفلسطينية والعدو الصهيوني، ومعالجات مجلس الأمن لها ولكل ما يتصل بنا من شؤون وقضايا.‏
                    وإذا قلنا إن علينا ن نبدأ من المدرسة والمناهج المدرسية، ومن الجامعة ومناهج الدراسة والبحث العلمي، ومن المؤسسات وأساليب عملها، ونوعية أداء البشر فيها؛ فإننا نكون قد أشرنا إلى الأهم الأبعد منالاً وتأثيراً، ولكنه الضروري أيضاً الذي لا بد منه لإعادة بناء الإنسان والمؤسسات وامتلاك القدرة على المواجهة ولامتلاك مقومات الدخول إلى العصر والتعامل مع أقويائه باللغة لتي يفهمونها جيد.‏
                    ولكن هذا لا يعني إطلاقا ألا نباشر العمل في تحقيق الممكن القريب الذي يفيد في إيقاف التصفية الجسدية المستمرة لأهلنا في المحتل من أرضنا، وفي رفع الظلم والمعاناة القاسية غير الإنسانية عنهم؛ وهو ما يتجسد في ما يتعرض له المبعدون. والتأثير على المصالح الأميركية بالقدر الذي تستشعر فيه الولايات المتحدة الأميركية الحد الأدنى من جديتنا، والحد الأدنى من الضرر الذي نستطيع أن نلحقه فعلياً بمصالحها إذا ما قصدنا ذلك فعلاً؛ حتى تنظر إلينا بعين مصالحها المهدَّدة ولو مرة واحدة.‏
                    ولا بد أنه آن الأوان للالتفات إلى إيصال معاناتنا ووجهات نظرنا وأفكارنا والحقائق التي ينطوي عليها نضالنا إلى الرأي العام العالمي عامة والغربي خاصة، بوسائل نحن نملكها ونسيرها ونتقن استخدامها. فلا أقل من إيصال الصوت عبر إذاعة مسموعة ـ مرئية، تقدمنا إلى الآخر بجدية ومصداقية ونظافة ودقة وبلغة عصرية ملائمة.‏
                    فهل نحن فاعلون يا ترى، أم أننا سننتظر عطف الآخرين، وتفهم مجلس الأمن، وتغيُّر العقلية الصهيونية، وما إلى ذلك من الأحلام والأوهام؟!‏
                    إن العدو لا يضيع وقته، والزمن لا يرحم، والمعاناة العربية فاقت حدود الاحتمال والوصف والتصور، وعلى القادرين والعارفين والواعين منا أن يبادروا إلى فعل شيء يوقف الألم والمعاناة والإذلال.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع346//14/ك2/1993.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #25
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      الحليف الشريك
                      الأميركي وسيط نشط إذا ما استجبت لشروطه ولسوف يعطيك ظهره ويهتم بيوغسلافيا وبقضايا أخرى إذا لم تستجب لها.‏
                      ويبدي استعداده لأن يكون شريكا كامل الشراكة في مفاوضات السلام، التي يؤكد أنه "أحد" راعييها وأنه سوف يحافظ على نظافة يده ونزاهته فلا يمارس ضغطاً على أحد الأطراف حتى يستحق دور الراعي المنصف.‏
                      وحين تمزج هذه الخلطة من الإعلانات والمواقف والآراء أو تسعى إلى رؤيتها في كل متكامل، تقف عل خلط متعمد للأوراق والأقوال والمواقف يهدف إلى أن يبدو جديداً ويخفي وعيداً، ولكنه عند التدقيق لا يخرج عن استمرار الموقف والدور الأميركي السابق، وربما كان أكثر تعثراً في إخفاء وجهة ونيَّاته واكثر إخفاقاً في القدرة على الظهور بمظهر التجديد والمغايرة. فإدارة كلينتون التي أوقفت مجلس الأمن عند حده عندما فكر بتنفيذ القرار (799) بإصدار عقوبات على الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، لا تريد أن يشك أحد بتمسكها بوعودها لـ " إسرائيل " سواء قبل الانتخابات أو بعدها، تريد أن تلعب بأوراق جديدة، في قضية لعبت فيها الإدارة السابقة بشيء من المهارة؛ حتى لا يقال إنها تخلت عنها أو أهملتها أو أحبطتها. ويبدو أن محاولة الإدارة الأميركية تكريس مفاهيم ومواقف مزدوجة في أذهان من تحاورهم وتدعوهم إلى طاولة المفاوضات وتسويغها لمنطقها في هذا المجال، يبدو أن تلك المحاولة سوف تكلل بالنجاح. فهي تريد أن تضع قضية المبعدين، التي تسببت في تجميد المفاوضات عملياً، في إطار ضيق ضمن الإطار العام للقضية الفلسطينية وموضوع الصراع العربي - الصهيوني، الذي يستحق اهتماما أعلى لأنه القضية الأهم. وهذه كلمة حق يراد بها باطل، لأنها ترمي إلى تمرير الصفقة الأميركية - الإسرائيلية حول المبعدين، تلك التي ألغت عمليا دور مجلس الأمن وحمت " إسرائيل " من عقوبات، كما جنبت أميركا موقفاً حرجاً كان سيضطرها لاستخدام حق النقض " الفيتو " ضد قضية عادلة في توقيت غير ملائم لها. كما ترمي إلى صرف النظر عن عرض القضية من زاوية أخرى أكثر أهمية وهي: الموقف من قرارات مجلس الأمن، فهناك قرارات للتنفيذ والإمعان في استغلالها إلى حدود مجاوزة القانون الدولي والشرعية الدولية وسحق بلدان وشعوب؛ وهناك قرارات يتم إجهاضها بكل الوسائل، مثل القرار "799 ". وإذا ما تم النظر إلى قرارات مجلس الأمن على إنها قرارات متساوية في القيمة والاحترام وواجبة التنفيذ فإن ذلك سيجعل " إسرائيل " مجبرة على التراجع أمام حماس والجهاد الإسلامي خاصة وأم العرب عامة. وهذا ما لا يجوز بعرف الغرب، ولذلك تتم عملية تفصيل الفصل بين قرارات وقرارات من خلال الفصل ين قضايا وقضايا. وبعد قليل سوف نصل مع الإدارة الأميركية، التي تعلن إنها ستأخذ دور الشريك الكامل في المفاوضات، إلى موقف القرارين‏
                      (242) و (338) لأن إعلانها الاستناد إليهما في حل الصراع لن يجعلها ملزمة أو ملتزمة باحترام نصوصهما وروحهما وبتفسير عادل لهما، وسوف تمرر صفقة ثنائية مع " إسرائيل " ينتج عنها تبني التفسير " الإسرائيلي " للقرارين كما حدث في القرار (799) حيث أبعدت الهيئة الدولية وأقر الاتفاق الثاني الأميركي - " الإسرائيلي " وباركه مجلس الأمن بعد ذلك طوعاً أو كرهاً!؟. وإذن فإنه من المبرر تماماً ومن المشروع أن نقرأ الإعلان الأميركي القائل بدخول الإدارة الأميركي شريكاً كامل الشراكة في المفاوضات على أنه دخول الشريك كطرف إلى جانب حليفه الاستراتيجي وليس كراع نزيه فعال وكقوة عادلة تضع النقاط على الحروف وتعمل على إحقاق الحق. وهذا هو السبب في عدم الرغبة في ممارسة أي ضغط تحت ستار الوسيط النزيه لأن الذي يحتاج إلى أن يضغط عليه هو حليف أميركا ومن تضمن مصالحه وتفوقه ورفاهية سكانه وسيطرته الكاملة في المنطقة.‏
                      والشريك الأميركي مارس قبل أسابيع ضغطاً هائلاً على مجلس الأمن وعلى العرب ليحبط جهداً عربياً ودولياً يرمى إلى فرض عقوبات على " إسرائيل "، فلماذا لم يتذكر حينذاك أنه وسيط نزيه يجب ألا يمارس ضغوطاً على أحد في قضية يرعاها مؤتمرٌ للسلام يسوسُه. وإذا كان التوجه الأميركي لا يحتاج حتى إلى أن يغطى نفسه بورقة توت، لأنه يقوم على اختيارات استراتيجية خاصة به ويعمل ما يخدم مصالحه ومصالح حلفائه، فهل ترانا نملك معطيات تغيِّر من مواقفه وتوجهاته ؟!.‏
                      إن العرب يملكون معطيات كثيرة ولكنهم لا يختارون استخدامها في اتجاه متفق عليه، ولا سيما إذا كان هذا الاتجاه مضاداً للمصلحة الأميركية. لأن الكثيرين منهم يراعون الدولة الأعظم ويخشونها ويتقربون منها، وهي تعرف جيداً ماذا يريدون في السر وماذا يقولون في العلن، وتعرف أنهم يطرحون فكراً ومواقف ومشاريع أخرى للتنفيذ الفعلي، ويرغب بعضهم في أن يُمارس ضغط عليه أو يُعْلَن عن ذلك، لأنه يبرر سياسة وتوجهاً وموقفاً؛ ولكن أن يلجأ العرب إلى تنسيق فعلي لموقف موحد يفرض هيبة وتوجهاً وقراراً مهما كان ثمن ذلك؛ فأمر يبدو بعيد المنال.‏
                      ويظهر من بشائر جولة كريستوفر أن الآتي سوف يكون أشد مرارة من الماضي، وأن رابين وسائر المتعصبين والعنصريين الصهاينة سوف يستمرون في القتل والطرد والتصفية، وسوف يلقون عظْمَة ليأخذوا بها ثمناً باهظاً في مقدمته السكوت عن المشروع التوسعي وعن سائر الممارسات المهينة للإنسان وللعرب وللمنظمة الدولية ولشرعة حقوق الإنسان.‏
                      فهل نرى لهذا الليل من آخر؟! وهل هناك سوى إعداد النفس والقوة لوضع حد للظلم ولطغيان القوة ؟!؟ لا أظن إن هناك خلافاً على رؤية الشمس.‏

                      الأسبوع الأدبي/ع352//25/2/1993.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #26
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        لا يأس... لا يأس
                        المدهش إلى حد الإثارة والمقت، هو المنطق الصهيوني الوقح في تعبيره عن العنصرية البغيضة وكأنها مسلمة خُلُقيَّة وإنسانية يضحي اليهود من أجلها ويضطهدون على مذابحها المقدسة. والمدهش أكثر، والباعث على الغضب والأسى، هو المنطق العربي المقابل الذي يمشي مع المنطق الصهيوني ويحاربه بحذر ولكنه يصل في النهاية إلى قريب جداً مما يريده ذلك المنطق البغيض. وآخر تجمعات خيوط هذين المنطقين بدت أمس عندما قامت يد غزَّاوية مباركة بقتل غازيين معتديين يقيمان في تل أبيب من فلسطين المحتلة وجرح عدد من الوافدين في الحملة العنصرية الصهيونية- الصليبية الجديدة على وطننا وأمتنا العربية. فقد(ضج) المجتمع " الإسرائيلي " بالاحتجاج والغضب والإضراب ضد (الإرهاب) والقتل الذي يطال(الأبرياء) وهم يذهبون إلى أعمالهم، وتقرر حصار قطاع غزة وعزله عن العالم والتضييق الاقتصادي والأمني على الناس هناك.‏
                        -ورأى بعض العرب أن من واجبهم أن يعبروا عن(إدانتهم) لليد الغزَّاوية (الآثمة) وأن يظهروا حضاريين ترضى عنهم(" إسرائيل " الديمقراطية) والغرب الأكثر(ديمقراطية) فيدين هذه الأعمال التي لا تخدم القضية، ويعلن عن رغبته في أن يرى الشعبين(الإسرائيلي) والعربي يعيشان بأمان واطمئنان. وأين(في فلسطين) التي أصبح أكثر أماني بعض الفلسطينيين أن يبقى لهم مكان من الدرجة الثالثة- أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً- فيها، بعد أن كانت وطن الآباء والأجداد ومرتكز التاريخ القومي ومدى انطلاقة المد القومي والتحريري المعاصرين. والمثير في الأمر أن اليهودي العنصري يرى أنه من الطبيعي أن يقتل الجيش " الإسرائيلي " المدنيين الأبرياء في غزة والضفة الغربية، ويقوم بكل أنواع الممارسات اللاإنسانية ضدهم، وهو يدرج هذا في إطار العمليات اليومية المبررة التي لا تعكر ضميراً ولا تزعج إنساناً فهي تتم بحق(إرهابيين) يريدون تدمير (إسرائيل) ووقف انتشارها فوق أرضها التاريخية. وأنه من الأمور المبررة أن تقام لأولئك الرافضين للمنطق والنهج والمشروع " الإسرائيلي " المذابح ومعسكرات الاعتقال، وأن يرموا في العراء كما ترمى النفايات. ولا يحق لأحد أن يتعاطف معهم، وأن يستشعر الألم من أجلهم.. فهم خارج لائحة حقوق الإنسان، وخارج المواصفات البشرية من وجهة نظر الغرب الصهيوني، والصهيونية العنصرية معاً. وأن العربي يرى إلى مقتل(يهودي) على يد عربي كارثة بحق البشرية، فتراه يسارع إلى اللطم والشجب والتبرؤ من(الجريمة) بدلاً من أن يقول للصهيوني القاتل: إنك قلبت حياتنا جحيماً، وأنت تحول الإنسان داخلنا إلى مطارد حتى في نومه، ومطلوب رأسه بسبب براءته وإنسانيته وتمسكه بحقه في الحياة، وحولت دمنا إلى ماء يغسل به جنود جيشك النازي أقدامهم صباح مساء، وأنت تقتل منا عشرين وتجرح عشرات وتطرد مئات من بيوتهم، وتدمر بيوتاً على ساكنيها بمقابل شخص يُقتل تحت وطأة القهر والإذلال والدفاع عن النفس والحق والوطن والحرية، والوطن والأرض....؟! لقد مات في بعض العرب شيء كبير وأساسي وهام هو الكرامة والشعور بالحق في الحياة على قدم المساواة مع البشر الآخرين. ولقد أماتت فيهم الأنظمة العربية السلبية التي تتفرج على أشكال الانتهاك التي تلحق بهم، أفراداً وجماعات، والتي تلحقها هي بهم أماتت فيهم النخوة والقدرة على المواجهة، والإبداع في المواجهة والدفاع عن النفس، لأنها ارتضت لها ولهم الاستسلام للفتك والانتهاك، والتسليم بقدرة الغازي، وبقدرية حضوره وانتصاره وحواره، على أرضية التسليم(بحقه) الذي فرضه بقوة القهر وقوة السلاح. اللهم أشهد أنني عربي- مسلم أرفض هذا المنطق وأرفض أن أكون أنا أو أحد من أبناء أمتي، أو أحد من أفراد الإنسانية التي أنتمي إليها، مهدر الكرامة والحقوق والحريات، محرم عليه أن يدافع عن نفسه وأرضه وعقيدته ومقومات حياته على أرض البشر..‏
                        اللهم أشهد أنني عربي- مسلم أجد الظلم ينحرني، وأستشعر العار مما يلحق بي، وأراني مكرهاً على الفرجة من بعيد على مسلسل الإبادة البطيء المستمر لبعض أبناء شعبي- وأخوتي في الإنسانية والعقيدة والانتماء القومي، وأنا عاجز أو معجز عن القيام بأي شيء يخفف عنهم المصاب أو يوقف المذبحة البشعة.‏
                        اللهم أشهد أنني أقول بقولك الحق: (العين بالعين والسن بالسن) ولكنني مغيَّب عن الحضور الفعال الذي مكنني من ممارسة ذلك وتمكين المظلومين من ممارسته، لدفع البلاء لا لإلحاق البلاء والأذى والضرر بالآخرين، أياً كان انتماؤهم واعتقادهم، لقد ذهب غلاة الصهاينة في الغطرسة مذاهب شتى، وذهبنا في الاستسلام لتلك الغطرسة مذاهب شتى. وفي حين استطاع أولئك أن يجروا وراءهم الغرب ويجعلوا قسماً كبيراً منه متصهيناً على نحو ما، عجزنا نحن عن أن ننهض بأود أنفسنا فيقنع بعضنا بعضاً بخطة وموقف ورؤية وتضحية تجعل وجوداً محمياً ومتماسكاً، وحقنا في الحياة والوطن مصوناً.‏
                        ولكن يداً غزَّاوية أو خليليَّة أو جنوبيَّة أو سوريَّة أو مصريَّة تفجر من آن لآن دماً في مقابل الدم، وتفتح وريدها للموت في مقابل محاولة لإلحاق الأذى بمن يميتها، وفي محاولة لإشعال شمعة على طريق الذين ضلوا عن طريقهم إلى الحرية والحياة، يداً مباركة تعيد إليَّ ثقة بالأمة، وإيماناً بالمستقبل، وقدرة على التشبث بالثوابت المبدئية والانتهاء العريق لأمة بكل ما لها وما عليها فأنظر على الغد بارتياح وأسأل نفسي، وآمل أن يشاركني غيري سؤال نفسه ما أسأل به نفسي: ترى هل اليهود حقاً بملايينهم المعدودة، أقوى من كل هذه الملايين العربية إذا صدقت؛ أم أن صدقهم أقوى من صدقنا وظهرهم أقوى من ظهرنا؟! هل(إسرائيل) مجتمع بلا مشاكل وبلا مؤرقات حتى تنصرف إلى التوسع باستمرار، وتوسيع قدراتها باستمرار، واضطهادنا باستمرار؟! ونحن مجتمع تأكله المشكلات ويرهقه فقدان الإمكانات إلى الدرجة التي لا يطور فيها نفسه، ولا يحمي فيها أرضه وأبناءه ومستقبله؟! هل(إسرائيل) تملك من القدرات في التأثير على الغير ما يمكنها من استقطاب الآخرين وصهينتهم، وكسب عرب ومسلمين أولي حق وذوي جراح في فلسطين؛ وتسيطر على الغرب وتستقطبه؟! ونحن لا نملك أن نفعل حيال ذلك شيئاً؟! ومن الذي يقنعنا بأننا هَمَل إلى هذه الدرجة، ومجردون من القدرة على التحرك والإقناع إلى هذه الحدود؟! وما الذي يجعلنا نسلم بأنه ليس أمامنا إلا أن نقر بمبدأ العطالة الذاتية بالنسبة إلينا، أفراداً ومجتمعات، حاضراً ومستقبلاً، ونرضى بما يقسمه عدونا لنا. والوسيط أو الشريك أو الراعي الأميركي بنصرته للعدو وتحالفه معه، هو طرف نقيض لنا مهما ادعى وتلون وتستر.‏
                        إن المجتمع(الإسرائيلي) مجتمع يعاني بشدة من خلافات ومشكلات ومفسدات، وهو مؤهل للتقويض، ولكن قوته الظاهرة وتماسكه البادي للعيان يأتيان من مصادر أهمها: ضعفنا نحن وانهيار قوانا من الداخل، واستسلامنا لليأس من أنفسنا أولاً ومما نحصله من الغير ثانياً. وإلا فما الذي يمنعنا، ونحن أمة لديها الإمكانات التي يسرقها أعداؤها ويتقوون بها عليها، ما الذي يمنعنا من أن نستقطب يهوداً يعانون في فلسطين المحتلة ليكونوا مع عرب فلسطين حلفاً واحداً ضد(الأشكينازيم) الذين يستعمرون الطرفين عملياً ويوالون الغرب الذي يواليهم ويعتمدهم وكلاءه الاستعماريين والاستثماريين في المنطقة؟! ما الذي يجعلنا أقل تأثيراً فيمن عاشوا معنا وبيننا قروناً من الزمن، وحفظناهم من الموت والجوع والقهر، فعاشوا في ظل دوحة العروبة وتسامح الإسلام حياة آمنة لم يعرفها إخوانهم في العقيدة، ما الذي يجعلنا أقل تأثيراً فيهم من تأثير (الأشكينازيم) في الغرب كله؟!.‏
                        هل هي حالة التبعية المزدوجة: تبعيتنا نحن للغرب وتبعيتهم هم له، وفقدان الثقة بالنفس وبالموروث وبالحق في الاستقلال وبالقدرة على التقدم؟! هل هي دونية غرسها الغرب فينا وقبلناها وأقبلنا عليها؟! أم هي قدرة الفتك المنظم في قدرات الذات التي تتعاون عليها العمالات للغرب والولاءات له، والممارسات التي تلغي إنسانية الإنسان في مجتمعاتنا وتجعله كارهاً لنفسه، محبطاً وحتى يائساً من إمكانية رفع الصوت وممارسة الحق، والموت النظيف على مذبح طاهر من أجل قضية مقدسة يحافظ كل فرد على قداستها واستمرارها حية ونظيفة؟!.‏
                        ما الذي يجعلنا عاجزين طوال خمسة عقود عن امتلاك العلم والتَّقَانَة والقدرة على الإبداع في مجاليهما، ونحن نمتلك كل المقومات والإمكانات التي تجعلنا قادرين على تحقيق ذلك؟! هل تواطؤ الغرب والصهاينة؟! نعم... ولكن الغرب أيضاً يبيع ويتعامل ويحتاج إلينا، فلم لم نكسب لاعبين معنا؟!.‏
                        هل لأننا ضد أنفسنا، ومنخورين من الداخل، ويخاف كل منا الآخر، ولا نريد، حقاً وصدقاً، أن نحل قضية فلسطين حلاً شافياً خالصاً عادلاً ونهائياً، بالوسائل التي لا تحل إلا بها؟! اللهم نعم... إن لدى البعض منا شيئاً من ذلك كثير، وإلا لم افتعال المعارك على غير جبهاتها وفي غير أزمانها، والاقتتال بين الأخوة، والتوزع على المعسكرات، وانتشار العمالات والولاءات المشبوهة، وخوض الحروب بالوكالة ضد الأخ والجار والجار بالجنب من غير رحمة؟! ولم تفرق الصف حتى في إيجاد رؤية موحدة، وخطة موحدة تتواكبان بانتظام واحترام وتحققان نجاحاً؟!‏
                        لقد امتلك العرب في يوم من الأيام، من الأسلحة الفاعلة في الصراع العربي- الصهيوني /وليس السلاح العسكري إلا واحداً/ منها ما يمكنهم من فرض حل مشرف؛ ولكنهم لم يفعلوا ذلك، لأنهم لم يتفقوا عليه بإجماع وصدق وتنسيق فاعل. وقد صدئت دبابات وطائرات في رمال الصحراء، وكانوا يشترون السلاح ولا يحاربون به. وها هم اليوم يشترون سلاحاً لن يحاربوا به، اللهم إلا بعضهم بعضاً، فكيف يمكن أن ننسى ذلك؟! وكيف يمكن أن نصل إلى مناخ يجعلنا قادرين على أن نضع قوتنا خلف رؤية وموقف سليمين خالصين لوجه الله والعدل والحق والوطن؟! إننا الآن لا نطلب الكثير، ولا نطالب بالمستحيل، نطلب فقط ألا يرتفع الصوت مشجعاً " إسرائيل " على قتل غزة بِشِسْعِ نعل يهودي محتل قتله غزَّاوي تُحتل أرضه ويُقتل شعبه ويُضطهد هو وذووه، ويُقتلع أخوه أو أبوه أو ابنه من أرضهم كما تُقتلع عيون الأطفال من أبناء بلده برصاص جيش رابين العنصري.‏
                        ونريد أن يرتفع صوت يعلن الحق ولا يراوغ، وينصف الدم العربي المهَراق ظلماً ولا يخاف، ويطالب بحق المبعدين بالعودة بعد هذا النفي البغيض الوحشي الذي لا تكترث به السياسة إلا حياء أو استحياء، والذي لا تُحترم فيه المنظمة الدولية وقراراتها، والذي تساوم عليه أميركا وتعقد تحت مظلته الصفقات وكأنها طرف ذو حق بذلك، في حين أنها لا تحمي إلا حليفتها وشريكتها(إسرائيل) من(سطوة) المجتمع الدولي ومؤسساته؟! نريد أن نعلن أن الدم بالدم، والقتل بالقتل، والشخص العربي يساوي أي شخص من أية أمة؟! فهل هذا كثير!؟ وهل إلى هذه المطلبيات(العنصرية) من سبيل في ظل الترامي العربي على أعتاب البيت الأبيض، ومراتع الصهاينة في القدس الشريف؟! وهل من سبيل إلى ذلك، وكل فصيل منا يبيع الفصيل الآخر ويشتري به؟! وهل إلى ذلك من سبيل واستعدادنا للمستقبل ومعاركه معطل، وإعدادنا لذواتنا مشوب بالفساد وإهمال القيم، وبعض مجتمعاتنا تسير إلى مهاوي الانحلال، وإنتاجنا الاقتصادي العربي، إذا ما جرد من الثروات الطبيعية التي يستثمرها الغير ويعطينا بعض قيمتها، لا يساوي إنتاج أقل المجتمعات الغربية كماً ونوعاً؟!.‏
                        إن ذلك كله لداء وشر داء، ولكن فينا ومنا الدواء، وبأيدينا وعقولنا وقلوبنا وإرادتنا يكون الشفاء، ولا يأس.. لا يأس.. لا يأس.. مادامت تتفجر من آن لآن رؤية ومشاعل ودماء مضيئة، على درب التحرير والحرية والحق، درب الأمة العربية العظيمة، إلى النصر والكرامة والحضارة والبقاء.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع353//4/آذار/1993‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #27
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          أمل في حقول الألم
                          أغنية الشيطان تتكرر، تجرح ولا تطرب، وتُمل لكن لا تتوقف، تنتشر في فضاء المكان من حولنا وفي مسارات الدم من أجسادنا وتدوِّم رافعة إيقاعها من دون أن تشفي نفساً أو تعفيها من لكم السأم.‏
                          ويوماً بعد يوم تستنزف طاقاتنا وأحلامنا وأعمارنا، ونبقى دائماً على عتبة الحضور، نرفض الإهمال ولا نسجل فرض الحضور وزهوه ومشاركته. كرة الدم والقمع والاحتقار تكْرُج في بقاع نحن أهلها وتاريخها وانتسابها، وتكبر كلما كرجت، ويزداد معها الصراخ واللهاث والإحباط والألم: الصهيونية، الاستيطان، الإبعاد الاعتداءات، المفاوضات، الدم المراق، النشيج الذي يعتصر فروع شجرة الحياة، وصراخ مكتوم في مقابل موت محتوم.‏
                          أمة تدخل جحرها وتتوه فيه فلا تخرج منه إلاّ إلى القبر أو إلى سوق الرقيق، وهي تملك كل ما يجعلها براء من ذاك الداء، أمة هي بشأنها تجهض قلباً في تألق زهوه إن لم يستنفر تاريخاً من رقدته؛ ما لها كأنما لا موعد لها من الكرامة والجسارة والحظ الحسن والعصر الحديث؟! ويوم يهل عليها سعدها في أحسن أحواله، يبتسم لها أميركي صلف ويغمزها بطرف عينيه لتلحق به.‏
                          ونبقى أبناءها مبثوثين كالفراش حول بؤر النور نصرخ حتى نتلف وتغيب أصواتنا في عتمة جيدة التصنيع والتوزيع. ندور ونتراكم فوق نار المصباح، وهو يرتوي منا على مهل، ويرمق أفواجنا المتدافعة إليه ناهراً زاجراً أن انتظموا وانتظروا، فكل وارد مناهلي بأسرع مما يتصور. ويا ليت ورودنا تلك المناهل يكون لتحقيق شرف الحياة وشرف الأوطان، لكأنما هو موت الحي في موت معنى الحياة والكرامة لديه، موت يُراكم الأجساد في دروب الأحياء، ويُراكم الآلام في نفوس الأصحَّاء، نكتب ونزفر ونلوك الكلام، وهناك من يلوك أعمارنا ويصنع أقدارنا على مهل، ويراقب مواتنا على مهل؛ لا نحن ننتقل إلى الفعل المجدي المؤدي إلى إنقاذ ونجاة، ولا يكاد أحد منَّا يقرُّ أحداً على فعل منقذٍ مجدٍ أصلاً؛ وحتى في مجالات التوافق الضمني على أفكار ومناهج وبرامج تقربنا بعضنا من بعض، نختلف أشد الاختلاف ولا يجتمع لنا شمل على أبسط المسلمات. وحين يُشْهَر فوق رؤوسنا سيف التسلط والقهر نمد الرقاب ونطأطئ الرؤوس، وننفخ بصمت من تحت النير، وينظر أحدنا من أسفل إلى الآخر الذي يبادله النظر من أسفل أيضاً، ولكن القلوب تبقى شكَّاكة متنافرة غير مطمئنة ولا واثقة. ترفض أن ترتاح حتى إلى المصير المزري المشترك، إذ تحسب ألف حساب ريحٍ قد تأتي من ألْف باب وباب !! فربما كان قرين النير عميلاً مدسوساً، ورقيباً وزِّع بين الصفوف، أو طامعا بدور يؤديه لدى السيد الكبير الذي يدفعه، ويدفع له، ويزري به، ليعليه!؟.‏
                          وهكذا يزدهر القهر والشك والألم والموت، البغض والضعف والاستسلام. في سوق الكبار نعرض نحن " الصغار " أصنافاً من السلع، وتصانيف من الغباء، بعضها نادر مطلوب، وبعضها مرفوض لا يُشتري بفلسين اثنين !! ومن يروج سوقه يُشترى ويُشوى ويؤكل، ومن لا يروج يكسد ويفسد ويُسحق بالأقدام؛ فيكون المصير متقارباً بالنسبة لسلع مصدرها واحد، ومناخها واحد، والمتحكم بها واحد، والمستفيد منها واحد!! فمن يخرجنا من دوامة التآكل والاجترار والإحباط؟ ومن لنا، سوى أنفسنا يا ترى؟! ولا ينقذ الإنسان إلاّ عقلُه وقلبُه وفعلُه: رؤية وإيماناً وعملاً؛ وكأنما يتعطل منا العقل، ويضطرب القلب ويضمحل الفعل، أو يفني هذا ذاك، وذاك هذا، فيؤول الأمر إلى تراكمات الضيق والاعتراض والضياع.‏
                          من نار إلى نار نندلق وقوداً ساخناً، ويشمت من هو مقدم على الاشتعال بمن يشتعل، ناسياً أو متناسياً دوره وجلده. وتدور بنا عجلة العنف والفوضى، القهر والموت، تدور مرات ومرات على مدارها القديم الجديد المتجدد !! الحاكم يأكل المحكوم، والمحكوم يتلهف على تفتيت الحاكم، وأمر كل من الحاكم والمحكوم معاً، يستفيد من سقم رؤية الاثنين ورأيهما، وكل منهما يرتاح إلى دوره ومكانه ومستقبله، في ظل استمرار ذاك الترصد المقيت.‏
                          وترانا على مدار تاريخنا الحديث، من أقصى الوطن إلى أقصاه لا نمل من تخفيض سقف الطموح والأمل والرؤية والشعار؛ حتى الحدود الدنيا لتطلعات الناس، تصبح عندنا، جراء جهود المروِّجين والمسوِّغين والمتهافتين، حدوداً عليا للأمل والطموح.‏
                          تراجعاً بعد تراجع نعيش، ورتبة فوق رتبة في سلم الوهم نرتقي؛ نعوِّض ونعوِّض ونعوض، حتى صارت هذه الآلية - النفسية خير ما نتقن من أفعال .‏
                          في سوق " الحكمة " يكثر منا المنجمون، وفي أسواق التنجيم يتشمرخ الحكماء، ويمتد التيه الخالد زمناً يطول ويطول؛ نبحث عن ذواتنا، ويبحث بعضنا عن بعضنا الآخر، في لعبة " الاستغماية " التي نعرف - ونحن نلعبها - أننا نضحك خلالها على أنفسنا ومن أنفسنا. ونسوِّغ استهلاك القدرة والوقت، ونؤجل ميلاد الرؤية واليقين ونطمس معالم الطريق المؤدية إلى الخلاص، وبين الشعر والسياسة ننشر غسيلنا ولا نريد له أن يجف حتى لا يدخل مخابئه؛ ونطلب من الزمن أن يخلد عطاءنا ذاك، وأن يحفظ كل ما تقدمه له صفحات التاريخ .‏
                          مسكين التاريخ.. ماذا يسجل وماذا يهمل؟ مسكين الزمن ماذا يترك وماذا يحمل؟ ومسكين قلب الإنسان ماذا يحتمل ومتى ينكسر، ومسكين طفل عربي يولد، ماذا ينتظر !؟!‏
                          " إسرائيليات" العصر الحاضر و " أميركياته " التي نرتِّلها، تسجل أكبر مساخر الأبناء من الأجداد، وأكبر مساخر الناس من الاثنين ؛لأننا ننفخ في قرب' غيرنا وقربتنا مبقورة، ونغني في عرس سوانا والحزن يجتاح أعراسنا ودورنا وقلوبنا، ونبعث شهاداتنا وبرقياتنا إلى متاحف التاريخ الحديث ليعرف الآتون بعدنا أننا كنا نعرف ولا نقدر، وليدرك الآتون من بعدنا أننا كنا نعرف ما نرسم لهم من مصير، ومع ذلك نشدهم عبر خيوط الزمن إلى دوامة الأعاصير، وعمق المعاناة، ومستنقعات الحياة التي نهيئها لهم..‏
                          من يقول بصوت يُسمع ويُفهم أنه لا خير في معرفة لا تنقذ صاحبها؟! ولا خير في من يُلدغ من جحر مرتين وألفي مرة ومرة ويعاود النوم على باب ذلك الحجر مطمئناً أو متطامناً؟!‏
                          نكتب، ونكتب، ونكتب.. ولكن ليل الحبر الذي أخذ يطمس نجوم الأفلاك في عالم الرأي والرؤية، يزداد ظلمة واتساعاً؛ إذ ما فائدة أجمل الكلام وأعذبه وأحكمه وأكثره صدقاً وصواباً، إذا لم يتحول إلى إرادة وعمل وموقف وسلوك؟! وما سبب عدم تحقق ذلك، ولماذا لا يتحول القول إلى إيمان وفعل ومواقف في الحياة؟! هل لأن ما يكتب لا يقرأ، أم لأن ما يقرأ لا يحمل شيئاً مفيداً، أم أنه لا يفهم، أم لا يوجد فيه أصلاً ما يُفهم وما ينفع، أم لأن ما يفهم ويعلم لا يترجم أو لا يمكن أن يترجم، في ظل تداخل المعطيات والظروف والحالات، إلى فعل ينفع الناس؟؟!‏
                          أياً كانت الإجابة والأسباب فلا بارك الله في علم لا ينفع الناس، وبورك من يسعى إلى إيجاد صيغة يحقق فيها ذاك النفع. لقد تغلغل الإحباط، ولا نقول اليأس، في خلايا الناس وخلايا الوقت، ونكاد نغرق في بؤس يجعلنا نشرف على اليأس، فهل يعقل أن يكون المرء ضد نفسه إلى هذا الحد؟ وهل يعقل أن يعبث الآخرون بمصائر أمة عريقة كأمتنا العربية إلى هذا الحد؟! وهل يقف أبناؤها، على درجات مسؤولياتهم ومعارفهم ومراتبهم وقدراتهم، يتفرجون على الآتي، المحتم المجيء، دمن ون أن يملكوا لسوئه رداً ولا لقسوته دفعاً ؟!. وهل نعجز حتى عن استثمار اللحظة التي يُراق فيه دمنا على مذبح قضيتنا العادلة ؟!‏
                          الرؤية القاتمة محجوبة، إنها رؤية من خلال غيوم الألم، وليست رؤية من بوابة الأمل الذي يبذر حقول النفوس الطيبة باستخلاصات طيبة من حقول المعاناة والانتماء، ليزدهر فيها عطاء جديد ينفع الناس وينقذهم؛ وإننا لن نملّ من بذر حقول النفوس بالأمل وبما يزيل الغمة والألم.‏

                          الأسبوع الأدبي/ع355//18/آذار/1993‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #28
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            أرض ودم ونفاق
                            يعتقد اليهود وأنصارهم في كل أنحاء العالم أن " إسرائيل " دولة خُلُقيَّة تمثِّل الأنموذج الديمقراطي - الخُلُقي لدولة عصرية؛ وأنها قدمت تنازلات كبيرة في سبيل السلام لجيران عرب إرهابيين معتدين يرفضون السلام.‏
                            ويقول غلاة الصهاينة من حكام " إسرائيل ": إنهم قدموا ما لا مزيد عليه من تلك التنازلات ولم يعد في جعبتهم شيء يقدمونه، وأنهم يدافعون عن أنفسهم بوجه الإرهاب الذي يمارسه عرب الداخل ويغذيه بعض عرب الخارج والإسلاميون الأصوليون، وأنهم سوف يستمرون في الدفاع عن أنفسهم ولن يفرطوا بالمزيد من حقوق اليهود وحياتهم. ويرى معارضوهم من الغلاة الأشد تعصباً أن ما قُدِّم من تنازلات يدخل في باب الخيانة سواء أكان ذلك في قضية المبعدين أم في الوعود المقطوعة من قبل رابين بالانسحاب من " أرض " إسرائيل " " أو في تلك المعطاة للفلسطينيين تحت اسم الحكم الذاتي والحقوق السياسية، التي يجري الحديث عنها مؤخراً.‏
                            أمَّا العرب فيرون أن على " إسرائيل " أن تقدِّم المزيد من التنازلات"؟!!" إذا أرادت أن تثبت حسن نواياها ورغبتها الجدية في السلام. ويقتربون كل يوم خطوة من الصهيوني المتعصب المتمترس في مكانه والمتشبث بمواقفه ليثبتوا للعالم أنهم راغبون في السلام وأنهم يقدمون من أجله تنازلات، وتراهم لا يحركون ساكنا في أثناء قيام " إسرائيل " بذبح اخوتهم أو بإبعادهم أو بالاعتداء على الأراضي المجاورة لامتداد " إسرائيل " الحالي ليثبتوا للسيد الأمريكي أولاً وللعالم الغربي ثانياً وللرأي العام العالمي، الواقع في قبضة الإعلام الصهيوني، ثالثاً أنهم ليسوا إرهابيين ولا يردُّون على اعتداءات " إسرائيل " وأنهم قادرون على ضبط النفس، الذي يمتد إلى كتم الأنفاس؛ وأنهم على استعداد لقبول السلام الشامل إذا ما قبلت " إسرائيل " ببعض التنازلات وانسحبت من الأراضي غير الفلسطينية انسحاباً شاملاً .‏
                            ويبدو بجلاء أن ما يفعله العرب لا يُرضي الصهاينة المحتلين، وأن ما يفعله الصهاينة المحتلون يفزع العرب ولا يطمئنهم على شيء، ويجعلهم يشكُّون شكاً مطلقاً في رغبة " إسرائيل " في السلام .‏
                            وفي هذا المناخ يقوم الراعي الأميركي، وهو الحليف الشريك الكامل الشراكة للإسرائيلي - الصهيوني، يقوم وتحت إبطه الراعي الروسي الثاني أو الثانوي، بجهود مباشرة أو غير مباشرة من شأنها أن تجمع المتفاوضين في ظل تقديم تنازلات طواعية لاستمرار المسيرة السلمية، فمن تراه يتنازل لمن؟!.. وما معنى التنازل، وما هو مداه؟!‏
                            إن استخدام " الإسرائيلي " لكلمة تنازل تنطوي على معنى استعماري - توسعي - ينطلق من يقين اليهودي بأن الأرض التي يعيش فيها عرب بلاد الشام والعراق ومصر هي " أرض إسرائيل " وهو في قبوله للسلام يتنازل عن حقوقه ويقبل في أن يعيش العرب عليها وعلاوة على هذه الأرض التي لم يحررها بعد، كما يقول، سوف ينسحب لهم من أرض حررها، أي احتلها بالمنطق العربي، وفي هذا تنازل ـ بنظره ـ لا مثيل له !! وحين يطلب إليه أن يمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في أراض يحتلها فهو إنما يقبل أن يعطي السيادة على جزء من " أرض إسرائيل " للأعداء الذين يرى من واجبه أن يبيدهم لتسلم له تلك الأراضي؛ وأنه في إقراره لهم بحق الحياة يقدِّم تنازلاً !؟! أمَّا موضوع المبعدين الذي يدخل عنده في برنامج حملة الإبادة البطيئة المنظمة، فإن مجرد الإقرار بإعادتهم إلى السجون بعد سنة ينطوي على تنازل مذهل لا سيما بعد أن تخلَّص منهم وشطب وجودهم من سجلاته.‏
                            فالتنازل، حسب المفهوم " الإسرائيلي " الأميركي بهذا المعنى، يبدأ من قمة الطمع الطَّموح، الذي أصبح استراتيجية صهيونية مبنية على تخيلات وتفسيرات وأوهام مستمدة من وعود توراتية، والمترجمة على أرضية استعمارية - ومصلحة غربية، تحققها من خلال " إسرائيل " وبالتعاون معها. أمَّا تبنِّي العرب لمبدأ المطالبة بتنازلات فهو ينطوي على ما أرادته " إسرائيل " وأراده الغرب من إقرار " بالحق " يتبعه قبول بمبدأ التنازل.‏
                            فمن يقوم بالتنازل هو ذاك الذي يملك الحق والقدرة على التنازل عنه، وكأنما يقول العرب، الذين يطالبون " إسرائيل " بالتنازل من أجل السلام: لقد سلمنا بالمبدأ ولكننا نطالب بتنازلات ترضينا، أو تعوِّض علينا، أو تجعل قلوب أشدائنا أكثر ليناً. وحتى في موضوع المبعدين، ذلك الموضوع الحزين المستمر الأداء في الضمائر وعلى أرض الواقع، حتى في ذلك الموضوع يقبل العرب أولاً والعالم ثانيا، وفي مقدمته مجلس الأمن، تنازل " إسرائيل " عن حقها في إبعادهم لمدة سنتين وأن تعيدهم بعد سنة، ثم على دفعات قبل نهاية آب المقبل. أمَّا أن يكون المبدأ هو عودتهم فوراً حسب الحق والقرار (799)، والتنازل هو تنفيذ ذلك الحق خلال شهر مثلاً، فهو أمر يتنافى مع منطق الطمع "الإسرائيلي" الطَّموح، والقوة الصهيونية النافذة القرار !؟!!‏
                            وهكذا ترانا نلعب لعبة قلب المنطق والحقائق والمعاني ونخوض في نفاق مزرٍ على أرضية سياسية قشيبة، يصنعها " التنازل الإسرائيلي " عن قمة الطموح المرسوم. وهو الأمر الذي يجعل الضحية تبتلع سيف الجلاد بعد أن يذبحها به، وتموت مطمئنة إلى أنها كسبت تنازلات كثيرة وحققت نجاحات منها أن سيفه قد أصبح في جوفها!؟‏
                            على هذه الأرضية التي تنضح بالخبث والقهر والألم، نجد أن الأرض العربية تذهب إلى المحتلين اليهود وتتحول إلى مساكن ومصانع ومتاجر ومزارع لليهود " المجلوبين"، وأن الدم العربي يُسفك بأيديهم ويتحول إلى صيد سهل يرعب العرب الباقين، ويمتد تأثيره ليشمل كل من يتعاطى مع القضية، وأن النفاق يمتد غطاء لهذا كله، وينتشر في المدى ليصنع صورة العربي الجديد، في النظام العالمي الجديد، ذلك النظام الذي يقولون إنه يولد في الغرب، ويصدَّر إلى الشرق، ويُعلَّق وهماً في وطن العرب، الذين يدفعون ثمن الحلم والنفاق والوهم: أرضاً ودماً في كل يوم؛ ولا أحد يدري إلى متى سيستمر هذا الذي يجعل وجه كل منا دريئة تنصب عليها سهام النفاق وحقلاً يُستنبت فيه، على أرضية من الدم والخوف والحلم الراعف بالمستقبل في ظل سلام التنازلات .‏

                            الأسبوع الأدبي/ع356//1/نيسان/1993‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #29
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              مستقبل اليهودي التائه
                              اليهودي البغيض في فلسطين المحتلة يبحث الآن عن هوية حضارية وصورة مشرقية ودور أمني واقتصادي، بعد أن أصبح شبه مطمئن إلى اعتراف العرب بأن ما سرقه منهم صار له وأن من حقه العيش بسلام في المنطقة كأحد أصحاب الحق الشرعيين فيها.‏
                              وهو يطرح أسئلة على نفسه وعلى سواه ليرى من خلال ذلك موقعه الجديد في منطقة أخذ اسمُها يتحول، حتى في ذهن أهلها وسكانها الأصليين العرب، من اسم: الوطن العربي، المشرق العربي، بلاد الشام؛ إلى الشرق الأوسط والمنطقة المتوسطة. حيث يغدو الاسم الجديد أكثر ملاءمة بالشركاء الجدد، وأكثر لياقة وانسجاماً مع المتغيرات التي نُظهِر مرونة فائقة في التعاطي معها من بعض الجوانب حصراً، فنغير أسماءنا وذوقنا وتاريخنا وبعض اهتماماتنا المنزلية .‏
                              ويرى اليهودي أنه لم يعد ذلك الأوروبي ذو الخصوصية الدينية والحقوقية والاجتماعية، ولا هو ممن ينتمون كلياً إلى ثقافة الشرق.‏
                              فهو إذا كان " أشكينازياً " فما هو سوى يهودي مستشرق غريب في الشرق العربي المسلم، واستعماري يبتز ما يستطيع ابتزازه لصالح الغرب، وطبقة عليا حاكمة داخل ما يسمى " " إسرائيل " الدولة "، وعنصري يحمل الإرث النازي الكريه إلى منطقة لم تعرف التمييز العنصري في تاريخها .‏
                              وهو إذا كان " سفارديمياً " فما هو سوى يهودي قاده الوهم المزروع في التوراة إلى اختيار تعاليم التلمود التي يتولى تفسيرها الأشكينازيم ويقدمونها له كمشروع استيطاني عنصري توسعي، تقع عليه فيه مسؤولية قتل من حموه عبر التاريخ؛ وهو طبقة متدنية في المجتمع ما يسمى بــ " دولة إسرائيل " لا يحصل ممثلها ديفيد ليفي إلا على 18 % من أصوات الناس الذين أكثرهم " سفارديم". وهو منخور بالخوف ومشاعر الدونية التاريخية إلى الدرجة التي يعيش فيها حالة تعويضية ـ نفسية مستمرة التجلي تظهر في تبعيته لليهودي الغربي، وفي انخراطه في المشروع الاستعماري ـ الاستثماري الأميركي، وتتجلى أيضاً في سيطرة الرعب عليه، ذلك الذي انقلب في ظل تجريد العربي من سلاحه وتخلي أخيه عن دعمه وحمايته، إلى " شجاعة " متطرفة قادت صاحبها إلى إحساس بالتفوق على الضحية، ورغبة في التخلص من صراخها بأسرع ما يمكن!؟ وما إلى ذلك من سبيل سوى البطش والقتل والتدمير والإسراع في إبادة الجنس العربي هناك ليصبح الوطن الذي سرقه مجللاً بالكذبة التاريخية التي صنعها الصهاينة في الغرب، أو التي أوحى بها قادة غربيون للصهاينة وهي :‏
                              " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض "؟!‏
                              يهودي ما بعد استتباب السلام في المنطقة سوف يكون الأقوى تسليحاً وعلماً وتقانة واقتصاداً إذا ما استطاع أن يحافظ على العلاقات الحالية التي تربطه مع أميركا وأوربا وروسيا، وإذا ما استطاع المحافظة على دور شرطي أميركا المفضل، ودمية الغرب الديمقراطية التي تخوِّف بها العرب، وتريدهم على أنموذجها؛ فهو الآن يرسم سياسة البيت الأبيض أو يساهم بالقسط الأكبر من تحديد معالمها، لا سيما بالنسبة لما يسمى بالشرق الأوسط في الدوائر الغربية؛ وقد يكون صراع الصهاينة الآن داخل البيت الأبيض وخارجه على من يكون لهم وحجم ما يكون لهم هناك، وليس من أجل أن يكون لهم ممثلون نافذون هناك.‏
                              وإذا ما تحقق هذا بصورة مطردة، ونجح الصهاينة في تقديم " الإسلام الأصولي " أو " الإسلام السياسي " أو العربي الذي يعترف بالإسلام، على أنه الخطر القائم في المنطقة، الذي يتهدد مصالح الغرب وأميركا بالذات، وأنه الأشد تأثيراً وخطورة من الشيوعية التي زال خطرها؛ فإن " إسرائيل" ستتابع دورها كحليف أول لأميركا، وكقلعة ضد التطرف و" الإرهاب "، وكأنموذج " للديمقراطية " أو للدولة " الخُلُقيَّة "، وكمدافع عن " حقوق الإنسان " من وجهة نظر الغرب المشوهة عن حقوق الإنسان غير الغربي، ولا سيما الإنسان إذا كان عربياً مسلماً.‏
                              ولأن ذلك اليهودي سيكون الأقوى، وسيكون المعتَمد الأول لحماية المصالح والمؤتمن الأول عليها، فإنه لن يحاول إطلاقاً عزل نفسه عن الغرب لكي ينتمي إلى المنطقة كلياً، لأنه لن يأمن على نفسه فيها من دون حماية الغرب، ولن يتاح له المكسب المالي والدعم المتنوع في كل مجال إذا لم يقبل الاستمرار في لعب ذلك الدور، ولأنه لن يكون مقبولاً وموثوقاً به من شعب المنطقة؛ ذلك لأن الراعي لن ينسى ولده والحيَّة لن تنسى ذنبها كما تقول الحكاية .‏
                              ولكن المتغيرات التي لن تؤثر في استراتيجية اليهودي ولا في تحالفه مع الأميركي، ستنصب على العربي الذي سيركض في تيارها ركضاً ويلائم نفسه معه بأسرع ما يمكن، وستتيح هذه المتغيرات، ومنها انتشار مناخ " سلام " بين العرب و " إسرائيل"، منفذاً ملائماً لكثير من العرب ليقيموا علاقات من نوع ما مع " "إسرائيل"، ومنفذاً لليهودي لكي يكسب أكثر ويؤثر في المنطقة أكثر، من خلال توظيفه للعربي ومشاعره ولاستسلامه " للسلام " وفهمه للمتغيرات ومرونته في التعامل معها، ولهفته للتلاؤم معها أيضاً ـ خوفاً أو طمعاً ـ وذلك باستقطاب رؤوس الأموال، واحتكار المشاريع الكبيرة، واستثمار العطاءات والمواد الأولية وحتى الخلافات العربية ـ العربية، التي سوف تزدهر على أرضية تجدد الدم على قميص عثمان، الذي يرفعه كل منا بوجه الآخر منذ‏
                              عام 1948 .‏
                              ولن توفر " إسرائيل" جهداً، إذا ما سنحت الفرصة الملائمة، لتلعب دوراً مزدوجاً من خلال السيطرة على أمرين: النفط والمال العربيين. فإذا أتيح لها أن تلعب لعبة قائد أمن المنطقة فتزيِّن للعرب تحرير ثرواتهم وقرارهم بذراعها هي، وبذلك تظهر لأميركا استعدادهم للتمرد وتثبت في نظر الغرب كله عدم أهليتهم للثقة؛ فإنها سوف تحلب البقرتين الأميركية والعربية، وتبقى البقرة الأوربية تجأر طالبة دورها في أن تُحْلَب لكي تأكل وترضع ابن مالكها.‏
                              إن اليهودي ـ الصهيوني، يلوِّح بتزاوج ثروة العرب مع " عبقرية " اليهود، وحين يصدق العربي ذلك فإن اليهودي سيضع ثروة العربي في جيبه ويضعه في قفص ليعرضه على الغرب وعلى العالم كله كرجل فقد عقله ويدعي بأن ثروته أيضاً سُرِقت منه كما سرق وطنه من قبل !! وهل سيصدق اللصوص عندها أن الذي سرقوه رجل عاقل يستحق الإنصاف ‍‍؟!!‏
                              أمّا اليهودي الذي يبحث عن هوية ثقافية في إطار شخصية " قومية " متماسكة، فإنه سوف يذوب نهائياً في شخصية المرابي التاريخية، وسوف تنازعه شخصية المسيطر على رأس المال دور المسيطر على الأرض إذا ما اضطر إلى الموازنة بين إغراء اتهما، وربما اختار اليهودي إمبراطورية المال إذا ما فرض عليه اختيار صعب بين إمبراطوريتين إحداهما إمبراطورية المال.‏
                              إن " شايلوك " ما يزال يمسك سكينه الرهيف الحد، وهو يطالب بقطع اللحم من ذراع " أنطونيو " وسوف يدفع العربي هذه المرة دماً ولحماً وأرضاً، ولن يشفى لليهودي وطر إذا ما اضطر اليهودي إلى الاختيار بين التوسع الاستيطاني على الأرض العربية وبين التوسع الاستثماري في الوطن العربي .‏
                              لقد بشر كثيرون بأن " إسرائيل" فهمت أنها لن تحقق أبداً توسعاً جغرافياً على أرض استيطانية جديدة خارج ما حققته حتى الآن، ولا سيما بعد اضطرارها إلى التراجع من مناطق احتلتها في لبنان عام 1982، وبعد استعدادها الأولي للانسحاب من أراضٍ احتلتها عام 1967 من أجل اعتراف عربي بها وسلام مع العرب.‏
                              وإذا كان هذا هو المنظور الواضح في المرحلة الراهنة من عمر دولة البغي والقرصنة والعنصرية، فإنه بالتأكيد ليس المنظور النهائي لمشروعها التوراتي الذي يمكن أن يتحقق أو يستمر العمل من أجل تحقيقه، عبر بدائل مرحلية. ذلك أن استراتيجية " إسرائيل" موضوعة في خدمة ثوابتها ويمكن تغيير التكتيك وإعادة ترتيب الأوليات وإعادة رسم الاستراتيجية بما لا يحقق تنازلاً عن الثوابت الرئيسة .‏
                              صحيح في المرحلة الحالية أن العرب لن يحتملوا توسعاً إسرائيلياً في الجغرافية، وأن العالم لن يحتمل مثلهم عربدة "إسرائيلية" جديدة من " إسرائيل " بهذا الحجم الكبير، ولكن هذا الوضع لن يوقف استمرار مرحلتين رئيستين تتمان الآن هما في قمة المشروع التوسعي وفي صلب تحققه وهما:‏
                              ـ استنفاد إمكانية الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة، ولا سيما الضفة الغربية والجولان والقدس، وخلق واقع سكاني جديد يجعل لـ "إسرائيل" إصبعاً في الوضع العربي المقبل، ويمكنها من استبدال اليهود بعرب الجليل والمثلث في الأماكن المستوطنة حديثاً لتقيم " دولة " يهودية صافية الجنس في أرض مسيطر على المستقبل السكاني فيها، وتشكل نواة الدولة المتنامية في التوسع .‏
                              ـ استيعاب مرحلة التوسع الحالية وهي في حكم "" إسرائيل " الكبرى " سكانياً إن لم يكن جغرافياً وسكانياً .‏
                              وهذا الاستيعاب يحتاج إلى المال وفرص العمل واستقرار المجلوبين إلى فلسطين المحتلة. وإذا كانت الأموال قد تم تأمينها بشروط يسيرة من أميركا، والمستوطنون يُجلبون تحت اسم حقوق الإنسان من روسيا، فإن طرد السكان العرب، وإنشاء المستوطنات، واستيعاب القادمين في أعمال، وتحقيق شروط إقامة وأمان وعمل واستقرار لهم، فإن كل ذلك يشكل في الحقيقة صلب العمل الذي يحتاج إليه مشروع " " إسرائيل " الكبرى "، وهو يمكن أن يستمر لسنوات حتى تتحقق ظروف ومعطيات وإمكانيات تمكِّن من السعي لتحقيق مرحلة أخرى من المشروع الاستراتيجي الذي لا تغيره الحكومات الإسرائيلية ولا تصنعه، ذلك لأن الكذب الصهيوني يدعي أنه أتى من " يهوه " ولا يجوز تغييب ما جاء من عند " يهوه " ؟‍!‏
                              ونجد أن اليهودي الآن يفكر ويخطط ويعمل على إيجاد السبل والمنافذ التي تجعل مشروعه مستثمَراً بشكل ما، أي أن يضعه دائماً على شريط الحركة، وهنا يلمح في المشروع الاستثماري القادم، أي في إحياء المرابي والمستثمر، إحياء شايلوك في الوطن العربي، الذي أخذ اسم الشرق الأوسط الآن؛ ليقوم من خلال إحيائه بنهب ثروات العرب وتسخيرها من بعد لتمويل مراحل التوسع الاستيطاني القادم على أرضية اقتصادية وأمنية وسياسية مستقرة في القانون الدولي، وفي الوعي العربي ؟‍!‏
                              إن شايلوك التاريخي سوف يتحرك ليدعم وايزمن وبن غوريون ومائير ودايان وبيغن وشامير ورابين بطريقته التي أثبتت جدواها عبر التاريخ. فمن أين كان لليهود بوعد بلفور لولا روتشليد " شايلوك " البريطاني؟!‏
                              ومن أين كان " لـ " إسرائيل " " عشرة مليارات دولار لدعم الاستيطان، لولا أمثال شايلوك ـ روتشليد في أميركا؟! وهل سيستمر الغرب (أوربا ـ أو أميركا) في تقديم الدعم إلى ما لا نهاية لليهود و لـ " إسرائيل "، ‍‍ أم أن العقل يقضي بأن يبحث اليهود عن بدائل يستعملونها إذا ما حانت ساعة الفطام القسري أو غير القسري ‍‍‍‍. !!‏
                              وكيف يتركون مصدراً مالياً كبيراً لا ينضب عطاؤه يفلت من بين أيديهم وهو يلوح لهم مضافاً إلى " سلام " طالما حلموا بالحصول عليه؛ وهو من وجهة نظرهم ليس السلام الذي يعرفه البشر، وإنما الاعتراف بهم كجزء من النسيج العام للمنطقة، الذي لا يمكن أن يتم إلا من خلال سلام بينهم وبين العرب، يقوم على أساس اعتراف العرب بهم ؟!.‏
                              إنها فرصة " وايزمن وبن غوريون وشايلوك وروتشليد " متضامنين في رزمة واحدة عبر التاريخ، ولكنها تستقر هذه المرة في الأرض التي فيها الكنز، ومن ذا الذي يرفض الأرض والكنز اللذين يسعيان إليه !! اليهودي الغربي: " أشكنازيم " والشرقي: " سفاراديم " لن يتوصلا إلى هوية ثقافية، حضارية يتظاهران بالبحث عنها وبالتحسُّر على إمكانية ضياعها، ذلك بكل البساطة لأن تلك الشخصية لم تكن لأي منهما ففقدها في أي زمن، ولم تكن لأحدهما فأضاعها في منفاه، ولن تكون هاجس أي منهما لأنَّ من لم يعتد على شيء فلن يستشعر فقدانه .‏
                              فمنذ متى كان لليهود شخصية ثقافية وحضارية !! وهل يعتقدون حقاً أن العبقريات اليهودية التي تفتحت في بعض البلدان هي عبقريات تنتمي إلى الدين أم إلى المعطى الثقافي ـ الحضاري ـ العلمي ـ للأمة التي عاش فيها الشخص قروناً ونهل منها ثقافياً فكان وكان إبداعه منها وإليها؟! هل ماركس أكثر من ألماني، وهل فرويد أكثر أو أقل من ذلك؟! وهل اينشتاين ابن العبقرية أم ابن اللغة والثقافة والحضارة التي نشأ وأبدع في ظلها؟! .‏
                              هناك عبقرية وحيدة لا ينازع اليهودَ عليها أحدٌ ولا يتفوق عليهم فيها أحد: هي العبقرية في تشويه التاريخ ومسخ الحقائق وتزييف الوقائع ونهب المال. إنها عبقرية الشيطان لا أكثر ولا أقل، وهي لا تزدهر إلا في ظل تعاليم التلمود وعبادة رب الجنود " يهوة "، الذي لا يشبع إلاَّ من الشر والدم، ولا يستحلي إلا قتل الأمم والاعتداء على الآخرين. لقد سرقت "إسرائيل" معطيات ثقافية شعبية وغير شعبية لعرب فلسطين، فهل يصدِّق سوى الكذَبَة والجهلاء أن تلك المعطيات المصدقة أصبحت يهودية أو كانت أصلاً يهودية؟! .‏
                              يتساءل اليهود في فلسطين المحتلة عما إذا كانت ستبقى لهم مع أوربا صلات ثقافية وحضارية وحتى اقتصادية متميزة، بعد أن يصبحوا من قوام الشرق الأوسط، و في عداد مقوماته النهائية التامة؟!‏
                              وربما كان في ردود السوق الأوربية على تركيا ذاتها التي تطلب ودَّ أوربا منذ سنوات، أسوة لهم؛ فالسوق الأوربية ليست سوقاً اقتصادية فقط، ولا يحكمها المعطى الاقتصادي الصرف، فهي سوق أبناء أوربا المعتنقين المسيحية والكاثوليكية منها بالدرجة الأولى، وهي لورثة الحضارتين اليونانية والرومانية. ولن تكون تركيا من ذلك النسيج كما قال بعضهم لأنها بكل بساطة نوع آخر، بل نوع مغاير: إنها إسلامي ة شرقية ذات معطيات ومقومات مختلفة؛ والقول ذاته ربما كان رداً على المغرب الذي يطلب الانضمام إلى تلك السوق. ولكن " إسرائيل" تنظر إلى نفسها نظرة أخرى، حيث يرى الأشكينازيم أنهم حكام فلسطين المحتلة وممثلو الصهيونية و " " إسرائيل ": الدولة " !! وأنهم أبناء الثقافة والحضارة الأوربيتين، وهم حراس مصالح الغرب على الشاطئ الشرقي للمتوسط .‏
                              ولكن الشرقيين " السفاراديم " ليست لديهم مثل هذه النظرة والأحاسيس، فهم يعرفون أنهم شرقيان، وأنهم أبناء حضارة بلاد العرب " مغرباً ومشرقاً "، وهي حضارة عربية إسلامي ة؛ وإن أوربا قد تكون أوربا المسيحية ولكنها ليست أوربا المسيحية ـ اليهودية إلا بمقدار ما تخدم " إسرائيل" المصالح الغربية، ولن تكون أوربا اليهود من جديد. وربما رأى بعضهم في " إسرائيل" مشروعاً استثمارياً استعمارياً غربياً (أميركياً ـ أوربياً) يقوم على قيادته الأشكينازيم؛ ولكن هل يملك اليهود الشرقيون ـ حتى لو أرادوا ـ أن يعبروا عن انتمائهم لحضارة الشرق العربي ـ الإسلامي ؟!. إن ضياعهم في الفخ الصهيوني جعلهم مطرودين من ملكوت الله، يقضون فترة نفي مختار في التيه الحضاري الثقافي ـ الاقتصادي الجديد.‏
                              إنهم ليسوا في البيت الذي يشعرون معه أنهم بين أهلهم فيه، وليسوا في البيت الذي يستطيعون العودة منه عند إحساسهم بغربتهم !! بعض اليهود يرون أنهم يمكن أن يضيعوا في حضارة الشرق ويصبحوا جزءاً من المعطى الثقافي للمحيط العربي الإسلامي، وبعضهم ينظر إلى شيء جديد تماماً فيرى أن " إسرائيل" يمكن أن تقود ثقافة جديدة في المنطقة تحمل طابعاً خاصاً هي الثقافة الشرق أوسطية، أو المتوسطية الشرقية.‏
                              وإنني لأخشى ـ في ظل النخر الثقافي المستمر للشخصية الثقافية العربية ـ الإسلامية والتخريب الثقافي، وإشاعة قيم الثقافة الاستهلاكية والمستوردة، أن تصل الأصالة الثقافية العربية إلى حدود الإنهاك والضعف والاستسلام للغزو والتهجين حيث يسهل على الآخرين من أصحاب مشاريع " مارشال " الثقافية أن يستثمروا أموالهم في تهجين ثقافتنا. ولكن هذا الخوف يتوقف عند حدود الحذر بالنسبة إليَّ، لأنه حين نجح أنموذج الثقافة الهلينية في شرق المتوسط لم يكن العرب قد أمسكوا زمام شخصيتهم الثقافية المتميزة بوعي. وبعد أن أعزهم الله سبحانه بالإسلام، منذ ذلك التاريخ، لم تستسلم ثقافتهم ولم تذب في الثقافات الأخرى على الرغم من ذهابها إلى المدى الأبعد في عملية المثاقفة، وعلى الرغم من دخولها معتركات شديدة الوطأة عليها؛ وقد تجاوزت كل المحن والمصائب والكوارث التي فرضت عليها. ولا أظن أنها تعجز عن مواجهة محنة هذا العصر على الرغم من دخول بعض أبنائها مدخل العدو في الترويج لطروحاته وفي بث الضعف والفساد والهُجْنة في القوام الثقافي العربي المعاصر وفي مقومات الأصالة والتأصيل، وارتدائهم أثواباً عصرية هي جلود العدو وأقنعته المهداة إليهم منه أو من حلفائه في طقوس تحافظ تماماً على خيلائهم وترضي غرورهم إذا ما استطاعوا القول بأنهم " طلائع " العرب في الغرب، أو من يرضى عنهم الغرب من العرب، أو أنهم العرب الذين سلكوا طريق التقدم ودخلوا العصر بسلوكهم طريق الغرب في التفكير والتدبير على طريقته وليس على طريقتهم !!‏
                              إن مستقبل اليهودي ـ الصهيوني الإسرائيلي، أي ذلك الذي يقيم قوام العدوان والاحتلال، ويريد الهيمنة، وإحياء دور شايلوك أو رابين، في الاستثمار أو في الاستعمار؛ هو مستقبل مظلم بتقديري أو كما أحب أن أرى، اللهم إذا وقف العرب وقفة وعي وثقة، ونظروا إلى ذلك التائه الخائف المتعجرف المحتمي بالسلاح وبقوة الغرب العدوانية والخادم لمصالحه والمتواطئ معه؛ أقول: إذا ما نظروا إليه النظرة التي ينبغي أن تكون، النظرة إلى عدو غاصب للأرض والحق، دخيل على الأرض والتاريخ والثقافة، داره: إمّا في الغرب حيث كانت وهو هنا غريب مكروه مرفوض تماماً، وإما بين أهل حي من أحياء العرب عاش سابقاً معهم لا يكون سيداً عليهم وقد يكون سيداً فيهم.‏
                              أمّا الوهم بأن تزول مقومات الشخصية الثقافية العربية بالغزو والمحو والتهجين والإحباط، لتحل محلها ثقافة جديدة تحمل هوية " شرق أوسطية " مولودة في حضن " القيم الثقافية الأميركية "، التي وعد الرئيس الأمريكي السابق بوش بتصديرها بعد حرب الخليج الثانية، والتي قال: إن القرن القادم سوف يشهد انتشارها في العالم كله، وهو ما يهيئ عالماً ذا نظام جديد لنشرها، ولتحقيق سيطرة تامة تقيم قوامها فيه، وتسيطر على اقتصاد العالم لغسل دماغه بتأثير معدته؛ فذلك ما لن يكون أبداً. ومن باب أولى إلا تتمكن " ثقافة " يهودية لم يكن لها في يوم من الأيام مقومات خاصة بها، ولا هي كونت شخصية وحضوراً عبر التاريخ أثَّرت بهما في ثقافة العالم ونشرت الوعي في وقت من أوقات سباته أو سيطرة الظلام والظلم عليه؛ أقول من باب أولى ألا تتمكن من تحقيق ذلك في دنيا تشمخ فيها الثقافة العربية ـ الإسلامية وتنتشر جذورها عميقاً في الأرض والشعب والتاريخ، وتمتد إلى عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، منذ شهدت بلاد الشام ولادة الحضارات الإنسانية الأولى في سهل نطوف قرب أريحا في فلسطين، وفي تل حَلَف شمال سورية وفي تل المريبط وقرب دمشق وعلى ضفاف دجلة والفرات من البصرة حتى منابعهما، وفي دلمون " البحرين " وثمود عمان وسبأ في اليمن.. وكتابة أكاد وأبجدية أوغاريت الكنعانية، و"اقرأ " العربية، التي كرم بها الله سبحانه العربي محمد بن عبد الله والعربية والعروبة وجعلها روحاً للإسلام، وحماية للثقافة العربية المحمولة في اللغة العربية، التي حماها القرآن الكريم وحمى بها أمة وثقافة من الضياع .‏
                              إن دور اليهودي في المستقبل هو دور العنصري المعتدي، والإرهابي الذي يمارس إرهاب الدولة مدعوماً بقوة العدوان، والمرابي الذي يستعيد تاريخه ودوره ولن يكون له وطن سوى القرش، فرأس المال لا وطن له، ودور المحتل الغاصب الذي سيكلفه احتلاله حياته ومستقبله كله، وسيجعله يرفض الأرض التي يحاول إعادة ارتباطه بها، ويستغرقه دوره التاريخي: دور المرابي البغيض التائه الذي يحتقره الآخرون لعنصريته ودونيته وتعاليه الرخيص.‏
                              فلينتظر المحتلون والمعتدون والعنصريون أي منقلب ينقلبون..‏

                              الأسبوع الأدبي/ع357//8/نيسان/1993‏
                              الأسبوع الأدبي/ع358//15/نيسان/1993‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق


                              • #30
                                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                                أسئلة سنواجهها آجــلاً أم عـاجــلاً
                                آجلاً أم عاجلاً يتوجب علينا أن نواجه أسئلة تطرحها نتائج المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية، ومن هذه الأسئلة ما يتعلق بالحقوق ومنها ما يتعلق بالحياة اليومية ومقوماتها، ومنها ما يتعلق بالمصير وربما بالوجود ذاته على مساحة من أرضنا التاريخية تضيق أو تتسع .‏
                                والأسئلة التي نعنيها تُطرح علينا على أرضية تطبيق قرارات الأمم المتحدة المنـتقاة أصلاً لتكون مستنداً للمفاوضات وهي 242، 338، 425، بعد أن تم التوصل إلى اعتراف "إسرائيلي" بتلك القرارات، كأرضية للمفاوضات، بعد أكثر من سنة من الأخذ والرد، وما زال مجال المناورة مفتوحاً بلا حدود أمام "إسرائيل" لتلعب على تفسيرات لكل قرار من القرارات لا سيما القرار 242. وعلى فرض أن القرارات المشار إليها نفذت بما يرضي العرب، فإنها ستلحق أكبر ضرر بالحق التاريخي للعرب في فلسطين، وتزرع في المنطقة كياناً دخيلاً باعتراف رسمي عربي بحق تاريخي له فيها، وستزرع خلافاً مقيتاً مراً ومكلفاً بين العرب أنفسهم حول ذلك. فما هي الأسئلة التي يطرحها ذلك الحدث الزاحف نحونا دون توقف، والذي ينتظره العرب واليهود والغربيون بتلهف، وترى أمريكا فيه مصلحة لها لأنه يؤمن مصالحها ومصالح الحليف ـ الشريك ـ المتوحد معها "إسرائيل" ؟!؟ .‏
                                ربما كان في مقدمة تلك الأسئلة سؤال يتعلق بمصير العرب الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين ممن ينطبق عليهم القرار " 194 " ومن هم في حكمهم ممن أضيفوا على حواشي ذلك القرار منذ الأربعينات وحتى يوم الناس هذا، بين نازحين ومشردين ومطرودين وملاحقين ومعتقلين ومبعدين.. الخ. وهو قرار دفنت جثته أصلاً ولكن روحه ما زالت ترسل بعض الإشارات من سماواتها التي أرسلت إليها.‏
                                وإذا كان ذلك القرار سيجد هامشاً له في المفاوضات النهائية، فلا بد من أن يملأ ذلك الهامش على نحو ما؛ ويبدو أن الكلام القديم حوله سوف يعاد، وهو كلام يتلخص بدفع تعويض مادي بدلاً من حق العودة، لأن "إسرائيل" معنية بطرد الفلسطينيين وإبادتهم وليست معنية على الإطلاق بإعادتهم إلى وطنهم الأصلي؛ وهي مستمرة في جلب من تسميهم " بيهود الشتات " إلى ما تسميه "أرض إسرائيل التاريخية " .‏
                                وفي هذه الحالة سوف يكون أمام الفلسطينيين الذين يعيشون خارج فلسطين أن يقبلوا نفياً أبدياً في وطن ما، وأن " يقبضوا ثمن الوطن الذي كان لهم "؟! فهل يكون هذا جواباً مقبولاً على سؤال مطروح؟! وهل الوطن مما يقبض عنه تعويض أو ثمن من أي نوع؟! وماذا سيكون جواب العرب والعالم على رفض الفلسطينيين أو رفض فلسطينيين لفكرة بيع الوطن تنفيذاً لتفسير "إسرائيل"‏
                                للقرار "194" وتواطؤ أميركا معها على ذلك التفسير، هذا إذا واجهت ضغطاً ما لتنفذه في يوم ما؟! ربما يكون الجواب العربي ـ العالمي، أو العالمي ـ العربي قاسياً في واقعيته حيث سيقول الواقعيون: " قبض ثمن الوطن خير من سرقة الغير له وابتلاعه من دون أدنى ثمن ". فاليهود سرقوا سابقاً وطن الفلسطينيين وتم تطويبهم دولة متحضرة ديموقراطية مدافعة عن حقوق الإنسان، ودولة أنموذج في محيط متخلف، ومسح عن رموزها كل أثر للإرهاب والعنصرية وانتهاك حقوق الإنسان ذاك الذي كانوا أفضل النماذج لتمثيله عبر التاريخ.‏
                                وسيقول الواقعيون أيضاً: إذا وافق اليهود اليوم على دفع ثمن بعض ما سرقوه فذلك مكسب لا يجوز أن يفوت بحال من الأحوال.‏
                                وإذا ما حدث ذلك ووافق بعض الفلسطينيين على هذا النهج " الواقعي جداً" فما الذي سيبقى لهم أمام التاريخ والأجيال من الوطن، ومن أي وطن؟! وما الذي سيعوضهم ويعوض سواهم عن كل تلك التضحيات التي بذلت من أجل استعادة الوطن وترسيخ الحق باستعادته عبر التاريخ؟! وكيف ستتم مواجهة ذلك الأمر في إطار الوعي المعرفي للإنسان أمام ذاته وأمام الغير؟! إنها أسئلة ربما تبدو عقيمة أو بلا قيمة؟! إذ ما معنى الضمير والوعي والأجيال والتاريخ بمنطق نظام " عالمي جديد " يقرأ في الإنسان مدى ما يقدمه للسيد من منفعة، وما يحققه لمصالحه من خدمات ودرجات أمن؟! .‏
                                السؤال الآخر الذي يُلحّ في طرح ذاته يتعلق بالتعامل على أرضية "السلام" مع عدو فرض على العرب قهراً دائماً وإحباطاً مستمراً تحت اسم السلام ومظلته؛ وهو يطالب بأن يعامل معاملة السيد في المنطقة، والمعترف بوجوده وحقوقه ومصالحه، والذي يفرض على الآخرين صداقته؟! ماذا سيقول العرب له يا ترى، وكيف سيتعاملون معه؟! هل يكون لسان حالهم هو قول شاعرهم:‏

                                ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى‏


                                عدواً له ما من صداقته بدّ؟!‏

                                فيقبلون على الأمر بمرارة بادئ الأمر ثم يسوِّغونه حتى يستسيغونه، وتمضي الأيام لتمحو من الذاكرة العربية كل أثر للحق والعداوة معاً؟! أم سيواجهون عدوهم بالرفض التام لوجوده والتعامل معه والاعتراف به على الصعيد الشعبي إذا ما اضطر الصعيد الرسمي للسكوت على مضض؟! .‏
                                إن "إسرائيل" تهيئ نفسها لاستثمارات واسعة في الوطن العربي على أرضية الثقة من أن التعامل معها سيكون طبيعياً في كل مجال، وأن كثيرين من أبناء المنطقة سيتراكضون للتعاون معها؟! وسيكون لها لدى الجانب الرسمي العربي من الحظوة والحقوق ما يمكنها من فرض مناخ ملائم لمصالحها ومصالح حليفها الشريك من جهة، ولهيمنتها ـ بالإغراء أو بالإرهاب ـ على كل صعيد، وسيكون الشارع العربي الذي يعيش منذ عقدين من الزمن على الأقل حالة المجتمع الاستهلاكي المنخور القيم والمقومات، والذي يُقبل على منتجات الغير ويركض وراءها ويدفع الثمن حتى لو كان كرامته في سبيل الحصول عليها، أقول سيكون الشارع العربي مستعداً للإقبال على مزيد من الاستهلاك تغمره به الأسواق الإسرائيلية ـ الأميركية، وسيجد نفسه مكبلاً بالحاجة والرغبة والإغراءات إلى درجة يتحول معها إلى كتلة من اللحم تحتاج إلى سقاية يومية حتى لا تجف دون أن تملك من أمرها شيئاً، وهي في حالة نمو سرطاني في كل اتجاه عدا اتجاه السلامة والصحة. فهل نهيئ أنفسنا لمقاومة هذا الاحتمال الذي يزحف علينا والذي سيروج له أصحاب نفوس ضعيفة أو أصحاب مصالح ومنافع من بين ظهرانينا ثبت أنهم على استعداد للتجارة بكل شيء وفي مقدمة ما يتاجرون به القيم والإنسان؟! ومن سيكون صاحب المصلحة الأولى في التصدي لذلك، أهو المستوى الرسمي العربي الذي سيكون مكبلاً باتفاقيات وضائقات وتعهدات وأزمات؟! أم المستوى الشعبي الذي سيلهث تحت النير وُساط بسوطين السوط الرسمي والسوط الاستعماري ـالصهيوني؟!.‏
                                من تجربة " كامب ديفيد " نستقي بعض الدروس في مجال التطبيع، وخلاصة تلك الدروس أن المستوى الرسمي ـ والمستوى الثقافي جزئياً يدعوان للتطبيع مع "إسرائيل" ويروجان له ويتغاضيان عن كثير مما يتم في سبيل فرض ذلك، ولكن المستوى الشعبي ما زال هو العقبة في وجه ذلك عملياً، سواء على صعيد البضائع، أو التواصل اليومي. ولكن ذلك المستوى ليس محصناً بشكل مطلق كما أن ثباته ليس نهائياً وبلا نهاية، ولا سيما في ظروف الأزمات الاقتصادية والمرارة اليومية.‏
                                فهل ستكون الأقطار العربية في مثل حالة مصر أم أنها ستكون في حالة مغايرة؟! إن علينا أن نتلمس الأجوبة الواقعية والدقيقة والمدروسة جيداً عن ذلك السؤال لنواجه كل الاحتمالات بمسؤولية وعلمية وشجاعة وواقعية. إن المنتجين العرب سوف يكونون أول المتضررين من زحف البضائع والاستثمارات الإسرائيلو ـ أمريكية على المنطقة العربية. وحين تتآخى تلك الاستثمارات والاحتكارات مع بعض رؤوس الأموال العربية التي تعلن عن استعدادها للتعاون، فإن الجبهة ستتسع والمواجهة ستكون أصعب. ولكن من هو المنتج الحق للبضائع والمواد في وطننا العربي؟! وأي البضائع والمنتوجات هي التي ستواجه المزاحمة في السوق؟!‏
                                ـ هل هي المنسوجات وما في حكمها وحجمها ؟.‏
                                ـ هل هي المحاصيل الزراعية والصناعات الزراعية ؟!.‏
                                ـ هل هي الآلات الدقيقة وغير الدقيقة، وماذا ننتج منها؟! .‏
                                ـ هل هي الصناعات الحربية، ماذا سنعطي منها. ولأي غرض؟!.‏
                                ـ هل هي تجارة الجملة وما هو في مستواها؟! .‏
                                إن هذه الاحتمالات جميعها مطروحة والقطاعات المختلفة‏
                                (العام ـ والخاص ـ والمشترك) كلها مدعوة لبحث الأمور ولتحديد طبيعة المواجهة، وطبيعة الرد .‏
                                لا بد في المواجهة من تعاون الوعي المعرفي - والمنتَج الوطني القومي، لخلق مناخ القطيعة مع العدو. وشعبنا ابتداء من الأفراد وانتهاء بأوسع الشرائح الاجتماعية وأكثرها قدرة على الإنتاج والاستهلاك معاً. والسؤال الثالث الذي يطرح نفسه سؤال يتعلق بكيفية مواجهة العدو على الأرض. وهذه المواجهة ذات شقين. شق مادي وشق معنوي.‏
                                ففي الشق المادي نأخذ قضية المياه وقضية الحدود وقضية امتلاك القوة. وهنا نكتفي بطرح الأسئلة التالية:‏
                                - هل ستقبل كل الاتفاقيات التي تفرض بشأن استغلال العدو للمياه المتجددة وغير المتجددة، وهل ننظر إلى ذلك على أنه حق له؟ وما هي طبيعة الرد عليه؟! أهي شعاراتية - تاريخية - تصريحاتية أم أنها طبيعة عملية ترمي إلى استغلال المياه من قبلنا ومنعه من استغلالها من قبله؟! وما هي النتائج المترتبة على؟ ذلك هل سنعود لحالة الحرب؟ هل نحن مستعدون لها، أم أننا سنلجأ إلى المفاوضات مع شريك ثبتت شراكته في عرفنا ووجداننا فأصبح الأمر يتعلق بإعطائه نصيباً يفرضه اعترافُنا بحقه وأخذنا نصيباً تحدده قدرتنا على انتزاعه؟‏
                                - وقضية الحدود تدخل في موضوع الاعتراف، فيها سيستقر في وجداننا أننا نعترف بحدود لما يسمى " دولة " إسرائيل "، فهل سنحترم ذلك حتى في المصورات الجغرافية التي نعلمها لتلاميذ المدارس؛ وقد بدأت بعض الدول العربية تثبت ذلك في المصورات الجغرافية، أم أننا سنرفض ذلك على المستوى التربوي على الأقل ما دمنا عاجزين عن مواجهته على الأرض الحقيقية ؟؟‏
                                - وسؤال القوة كيف سنواجهه وبأي اتجاه؟! إن العدو سيرفض بكل الوسائل والسبل أن نمتلك من القوة ما يقيم لنا قواماً بمواجهته، وسوف يبادر إلى الضربات " الوقائية " إذا ما شعر بأننا سنمتلك قوة من أي نوع؛ وسوف يستخدم مظلة القوة الأميركية التي ستسخر المظلة الدولية للقضاء على كل آمالنا بامتلاك قوة تحرر أو تنقذ أو تحفظ أو تحفظ التوازن، فما هو نوع الرد على ذلك الوضع الذي سيكرس - إن قام واستمر - الإحباط والعجز؟! مما لا شك فيه أن الاعتماد على الذات هو المدخل السليم، ولكن ذلك يحتاج إلى خطة بعيدة الأمد، تقوم على امتلاك العلم والتَّقَانَة والأرضية الاقتصادية القادرة على تحمل العبء؛ وهذا كله يحتاج إلى قرار سياسي قومي حر، متحرر من أية ضغوط أو قيود. فهل سيكون ذلك يا ترى، وهل نسير في تلك الطريق مهما كانت العقبات؟! وهل نستطيع أن نحول دون وجود تفنيدات وتعهدات مسبقة تحول دون التفكير، مجرد التفكير بالسير في تلك الطريق ؟!.‏
                                إن الأمر مطروح على الذات، وعلى كل من يرى أن حقنا هو حق تاريخي تملكه الأمة ولا يملكه جيل من أجيالها، عليه أن يقرر بشأن ذلك قراراً تفرضه عليه ظروفه وممارسات يتحمل أعباءها ونتائجها كانت حالت دون قيامه بواجبه حيال ذلك الحق.‏
                                أما الشق المعنوي من السؤال الثالث فيتعلق بالجانب المعنوي من مواجهة العدو على أرض الواقع، وأول مواقع تلك المواجهة تتصل بمقاومة التطبيع مع العدو، والحيلولة دون وصوله إلى الوجدان وتخريبه. وهذا يتصل بوعي معرفي نوعي، وبتقانة محصنة بالمعرفة والقدرة والإمكانات والحريات، وبدرع من المتلقين يحميها، وبإيمان حقيقي بدورها من جهة وبمسؤوليتها عن ذلك، تاريخياً وأخلاقياً، من جهة أخرى.‏
                                وسوف تنسحب مواجهات الثقافة إلى التربية والإعلام، وهنا لا بد من حضور نوع من الوعي والضمير والحس القومي لتفرض الثقافة وجوداً في ساحة القرار السياسي؛ لأن التربية والإعلام مسؤولية سياسية رسمية بالدرجة الأولى في وطننا العربي، وهما ستفرضان استمرار تربية رافضة لمبدأ الاعتراف بأي حق من أي نوع للعدو الصهيوني في فلسطين، واستمرار تقديم معلومات وتكوين اقتناع يرسخ عروبة فلسطين في الوجدان الجمعي والفردي، ويحرض على امتلاك القوة لاستعادة الحق وتعرية الإدعاء الصهيوني - الغربي.. بأي حق لليهود في وطن العرب.‏
                                وهذا نهج واسع مديد، يحتاج إلى قرار سياسي واضح في كل قطر عربي، فهل يمكن أن يتم ذلك مع وجود نوع من اعتراف رسمي - عربي بـ "إسرائيل" يكبل الجهات الرسمية بمواثيق، ويسعى لتغيير الاقتناع القائم بعدم شرعية وجودها، ولا يكتفي باستهداف المقوم الثقافي في تفرعات الكلمة والتربية، بل يزحف حتى إلى العقيدة ليغير ـ إن استطاع ـ مقولات القرآن ذاته في اليهود، وموقف الإسلام من القدس؟! وعلى الصعيد الإعلامي هناك ضرورة لمواجهة يومية للغزو، الذي يتم للعقل والوجدان وروح ابن الشعب، فكيف يمكن مواجهة ذلك الغزو عبر وسائل الإعلام والرد عليه، ومواصلة تكوين الرأي العام على أساس الثوابت القومية للصراع العربي الصهيوني، ومخاطبة قطاع كبير من الأميين لا يتم التواصل معه إلا عبر وسائل الاتصال المسموعة - المرئية، والمسموعة؛ إذا لم يكن هناك قرار سياسي وموقف ثقافي يقوم على الإيمان والإقناع والدفاع، انطلاقاً من توجه عام يساعد على تكوين الرأي العام بهذا المنحى من جهة والدفاع عنه ضد كل ما يفسد هذا المنحى من جهة أخرى؟!؟‏
                                إن القضية أخطر مما تبدو في الظاهر، وأقرب مما تبدو للمراقب أيضاً، وهذا النوع من المواجهة يحتاج: إلى اقتناع تام، وجهد يبذل، وخطط توضع، وإمكانات يستمر رصدها، وتنفيذ من نوع مغاير لذلك الذي أوصلنا الاعتماد عليه إلى ما وصلنا اليوم إليه. فهل نحن فاعلون؟! إنني أدعو إلى ذلك وإلى مناقشة الأسئلة والاحتمالات المثيرة والخطيرة الأخرى التي لم تطرح هنا في هذه العجالة؛ لأن الأمر يتصل بكل ما يكون الوجدان والقيمة والشخصية للامة العربية، كما يتصل بنوع الحضور الذي تختاره لنفسها، وبحيوية ذلك الحضور، وبالنضالي من أجل انتزاعه في المقبل من أيامها؛ لا سيما بعد أن تطورت العلاقة الأميركية - الإسرائيلية من مرحلة الحليف - الشريك إلى مرحلة التوحد التام كما قال الرئيس كلنتون في مؤتمره الصحفي بعد استقباله لإسحق رابين في شهر آذار الماضي "1993" في واشنطن. فليتدبر ذلك المتدبرون.‏

                                وما العون إلا من عند الله .‏

                                الأسبوع الأدبي/ع359//22/نيسان/1993‏
                                الأسبوع الأدبي/ع360//29/نيسان/1993‏

                                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                                تعليق

                                يعمل...
                                X