إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    الموقف العربي قراءة في ضوء العدوان
    استغرق بحث شكوى السودان التي رفعها إلى مجلس الأمن، ضد الولايات المتحدة الأميركية لعدوانها على أراضيه ومواطنيه وقصفها لمعمل الشفاء للأدوية في الخرطوم بحري، عشرة دقائق، وتُرِك الأمر من بعد لأعضاء المجلس فيما لو أرادوا فتح الموضوع مستقبلاً ؛ ويبدو أن الضغط والإغراء الأميركيين المجربين لن يتركا لأحد فرصة أو رغبة في فتح الموضوع مجدداً، لأنه يعرف النتائج والعواقب أيضاً، ولأن عليه أن يقتنع بالمطالعات والمعطيات الأميركية حول الموضوع ؛ فما لدى الولايات المتحدة الأميركية من وثائق ومعلومات تسوِّغ عدوانها يكفي لتكوين الرأي والموقف "المعصومين" من الزيف والزلل ؛ وحتى لو كان ذلك كذباً صريحاً فإن صدوره عن الدولة الأعظم كاف لإضفاء صفة الصدق عليه وتسويغ الأفعال المستندة إلى شرعيته، والقبول به !؟؟‏
    وفي سوابق لهذا الحدث نجلو موقفاً ونهجاً أميركيين ثابتين يكشفان عن استهتار واحتقار وغطرسة، وادعاءات عريضة بامتلاك الحق نظراً لامتلاك القوة، ففعل القوي سيد الأفعال ؟!! ونسأل بهذه المناسبة عن موقف ونهج عربيين مقابلين، يعريان ذلك الذي يوجه ضدهما على الأقل؛ فلا نجد في معظم الأحوال إلا زحفاً أميركياً وتراجعاً عربياً يخفي تبعية مشينة أو تردداً وخوفاً فضَّاحين !؟‏
    في مجلس الجامعة العربية على مستوى المندوبين، الذي عقد بعد العدوان بناء على طلب السودان، صوَّت العرب جميعاً إلى جانب قرار يشجب العدوان ويعلن موقفاً إلى جانب السودان ويدعمه حيال العدوان الأميركي عليه، وكان هذا مريحاً للسودان، الذي يبدو أنه لم يفكر أصلاً بالحصول على أكثر منه ؛ ولكن هذا القرار " المعلن ـ الموثق " في مجلس الجامعة لا يقدم الحقيقة السياسية لموقف كل قطر عربي من الأقطار التي صوَّتت عليه، شأنه في ذلك شأن كثير من القرارات!؟ فهناك دائماً وجه وقناع، وهناك دائماً فرصة كافية للتنصل من أي قرار لا يوافق عليه القطر أو يجد أن " أنظمته ولوائحه القطرية لا تسمح بتنفيذه " ؛ وذاك مدخل ينفذ منه الجمل ويضيع فيه الجبل، وكثيراً ما تاهت فيه قرارات وتملَّصت منه حكومات وضاعت فيه التزامات وعلاقات وحقوق؟! هناك، في موضوع العدوان على السودان، من أبهجته الضربة لأنه يعتبر السودان بلداً "إرهابيا"ً أو يرعى الإرهاب " وقد شق عصا " الطاعة " على " الكبار "، ويحتاج إلى تأديب، وأن تأديبه قد تأخر كثيراً فأغرى بالمزيد من التمادي!؟ وهناك من يتساوى عنده الأمر في حالي السلب والإيجاب فالسودان والعدوان مزعجان، وهناك من يفتك به الغضب ويتمنى لو يرد الصاع صاعين للولايات المتحدة الأميركية وسواها، ممن يستبيحون أرواح المواطنين في أرض العرب وسيادة الدول ـ الأقطار فيها، سواء أكان ذلك في هذه الجبهة المنتهَكة أو تلك من الجبهات المفتوحة على وطن العرب .‏
    وليس هذا هو وضع دول الجامعة وموقفها من العدوان على السودان فقط، بل هو الموقف المعتاد لمعظم الأنظمة العربية في معظم القضايا والأحوال، مع تأكيد تمايز حسب الحال واستثناء لبعض الأحوال، وهذا هو الوضع في تداخله وتعقيداته وهوامشه، من معظم القضايا التي تُعرَض عليها، مما تتعرَّض له الأقطار العربية والقضايا المصيرية للأمة ؛ فلا يطيب التلاوم وتصفية الحسابات والشماتة ـ إن سراً وإن علناً ـ عند بعض الأنظمة والحكام إلا حين تصبح السكين على العنق وتنطلق صيحات الاستغاثة ؟!. وقد وقفنا في أحاديث وكتابات تلت العدوان " لمثقفين عرب " ومعارضين سودانيين، على حالة عدوانية ـ سادية، تصل إلى درجة مذهلة في ضلالها واضطرابها وانحيازها وتضليلها، قدمت السودان على أنه إرهابي يخضع للمحاكمة ونسيت أو تناست العدوان الأميركي عليه نهائياً؟! كما استمعنا إلى تصريحات لمعارضين سودانيين حمَّلت السودان مسؤولية العدوان واستعْدَت الولايات المتحدة عليه أكثر، وحثتها على أن ترسل فرق تفتيش دولية لتجوس أرض السودان كله وعيون أهله وتفتش عن " أسلحة التدمير الشامل أو ما يمهد لصنعها "، على نمط ما يجري من تفتيش في العراق منذ سنوات. وقد نسي أولئك أو تناسوا انتماءهم الوطني والقومي، وما يتعرض له وطنُهم وشعبُهم من عدوان وإرهاب أميركيين صريحين، وما تتعرض له عقيدتُهم وهويتُهم من تشويه مقصود ؟!؟‏
    ويوم دخلت ليبيا قفص الحصار ـ ولا نسوق حالة العراق لاختلاف الوضعين وضيق المجال ـ كان هناك من العرب من يضحك في سريرته ويخفي علامات السرور ويقول : " يستحق العقيد ذلك " ها قد حان وقت الحساب ودفع ثمن " العنطزة "، وكأن الذي يدفع هو العقيد وحده ـ على الرغم من استهداف حياته سابقاً في غارة أميركية على طرابلس عام 1986 ـ وليس الجماهيرية والشعب العربي هناك !؟ والقائل العربي يقول ذلك لأن له معه ومعها حسابات يصفيها الغير الآن، فلم الغضب والعتب والعجب؟! ويوم وضعت قضية اختراق الجانب العربي للحصار المفروض على الجماهيرية على المحك بقي موقف الأنظمة العربية في العمق كما هو : الرافضون على رفضهم، والملتزمون بقرارات مجلس الأمن الدولي على التزامهم، لا يحركون ساكناً ويستشيرون الإدارة الأميركية في كل خطوة ظاهرة وباطنة يتخذونها، وظل " المرجئة " في تأملاتهم، وكأن الوضع البعيد عنهم آنياً لا يعنيهم.‏
    وحين نددت الجامعة بذلك الحصار الذي طال وكثر ألمه، وهدَّدت بخرقه دولياً من طرف واحد ـ من دون أن تحدد أجلاً لذلك كما فعلت القمة الإفريقية التي نفذ بعض رؤسائها القرار بخرق الحصار في الأول من أيلول 1998 ؛ مما ترك في قلوب بعض الليبيين عتباً على أشقائهم العرب وغضباً منهم ـ وافق الجميع على النصوص، وأبلغ واشنطن من يرى أن عليه واجب إبلاغها بأن الوضع العربي يملي عليه القبول، أما القرار والموقف الأميركيان فلا يمكن تخطيهما عملياً والالتزام بهما قائم وواجب، فللكلام والبيان أحكامهما وللسكوت والالتزام الضمني بتطبيق الحصار أحكامهما أيضاً، أما حقائق الحال فتجلوها الأعمال والوقائع المنفَّذة على الأرض!؟‏
    وإذا أراد أحد أن يستذكر، في مثل هذه الأوضاع والأقوال والمواقف والحالات والمناسبات، جواب ذلك الذي سئل يوماً : ما بالك تأكل على مائدة معاوية وتصلي خلف علي، فلأي منهما ولاؤك وهما خصمان، فقال ما معناه : الطعام عند معاوية أطيب والصلاة وراء علي أثْوََب أو أوجب !!!‏
    فمن حقه أن يفعل ذلك.‏
    عيب العرب في هذا المجال يتضح أكثر ما يتضح عندما تُستعرض المواقف الحقيقية من القضية الفلسطينية والقدس والمصالح الأميركية في المنطقة، ومن المقاومة الوطنية والتيارات التي تتخذ مواقف مبدئية وجذرية من الصراع العربي الصهيوني وبقية القضايا المصيرية، وتخوض نضالاً من أجل التحرير؛ إذ ينكشف حرص البعض على ألا ينتصر للقضية بل لنفسه، وألا ينتصف من عدوه بل من "خصمه" العربي، بصرف النظر عن التوقيت والمخاطر والمسؤولية القومية والتاريخية والخُلُقية ؛ ولذلك تراه يراوغ ويخاتل ويجادل، ويطلب ألا يُعطى " فلان " مثل ما أخذ هو حتى لا يتساوى معه أو يفْضُلَه بنظر الأمة؟! وألا يتحقق صمود للصامد أو نتيجة لصموده أو جدوى لمقاومته، لأن من شأن ذلك أن يكشف الذين أُمروا بأن يكونوا " متعقلين " فأطاعوا وتركوا الصمود والمقاومة، ويظهرهم بمظهر المفرِّطين أو أكثر من ذلك قليلا ؛ وهذا في النتيجة سيكلف الذي انساق وراء الرغبة الأميركية ـ الصهيونية أو الغربية مكانته وكرامته وربما حياته، وسيجعله يظهر ضعيفاً أو متواطئاً أو حتى خائناً في سوق الكلام والسياسة العربيين، وأمام جماهير الأمة ؛ وهذا ما لا يطاق وما لا يجوز أن يحدث، وهو ما ينبغي ألا يتجاوزه الغربيون والصهاينة أو يغفلونه أو يغفرون لمن يعمل على حدوثه !؟!.‏
    وحده الذي يقف الموقف المبدئي الواضح الصادق الصلب يدفع الثمن، ويدفعه قاسياً جداً وباهظاً جداً، وقد يكلفه حياته، ويكلف شعبه الكثير من القهر والمعاناة والتضحيات والدماء، إذا كان مسؤولاً يعي أبعاد المسؤولية التاريخية ويلتزم بها. فهل مثل هذا الوضع الذي نحن فيه يشكِّل قوة منقذة أو رادعة حيال مواقف مبدئية وقضايا قومية ومواجهات مصيرية كتلك التي تواجهها الأمة العربية؟! وهل يقود هذا إلى ثقة متبادلة بين الحاكم والحاكم، النظام والنظام، الحاكم والمحكوم في الوطن العربي ـ مع رفضنا لصيغة الحاكم والمحكوم القائمة، تلك التي تشلنا وتعطل إرادتنا وتغلق آفاقاً رحبة أمامنا ـ وهي ثقة نحتاج إليها في نضالنا ومواجهاتنا وتعاملنا مع الحوادث والدول والمؤسسات الدولية والصراعات المصيرية، وحتى مع الأحلام الكبيرة والتطلعات الحضارية العريضة ؛ ونحتاج إليها على الخصوص في صراعنا المضني مع قوى العدوان والاحتلال والعنصرية، التي تستهدف هويتنا وعقيدتنا وثقافتنا ووجودنا ذاته، وكل ما يبني ذلك الوجود ويحميه ويحافظ عليه ويدفعه قُدُماً؟!‏
    إنه السؤال المؤرق الذي نجده يتجدد ويتورَّم كلما اجتاحنا خطب وتجددت مصيبة ووقعت كارثة وحصل عدوان !! وهو السؤال الذي علينا أن نواجهه بشجاعة ونحاول الإجابة عليه بموضوعية ومسؤولية، وأن نبحث عن مخارج من الأوضاع والأزمات والحالات التي يخلقها الغياب عن مواجهة استحقاقاته، ومن الانعكاسات التي يتركها على نضالنا وعلاقاتنا وسبل تعاوننا وتقدمنا !!.‏
    لم يكن السودان يتوقع من أقطار الأمة العربية أكثر من الذي حصل عليه من عواطف وكلام، ولم يكن ذلك قادراً على ردع المعتدي والرد على العدوان وتوفير حالات الأمن والأمان؛ ولم يكن حال السودان هو الحال الأسوأ ـ عربياً ـ في هذا المجال، فهناك معاناة للجميع مع الجميع ومن الجميع !! فمتى ينتهي هذا الوضع، متى نفتح صفحة جديدة بكل الصدق والإخلاص والصفاء والالتزام، لنبدأ مسيرة الأمة الواحدة في مواجهة أعدائها وحماية حقوقها ومصالحها ووجودها؟! متى نبدأ المصارحة والمصالحة والعمل المشترك، ونلقي بعيداً القناع الذي أصبح وجهاً لنا لنكشف عن حقيقة الوجه الذي لنا، ونبني ابتداء من ذلك المواقف السليمة والتوجهات الاستراتيجية ونستعدّ للمواجهات الحقيقية ؛ ونجبر الآخرين على الإصغاء لحقنا ومنطقنا وصوتنا الواحد وخطابنا الصادق المتكامل؟!‏
    متى يكون لنا أكثر من دقائق عشر في مجلس الأمن؟! ومتى يكون لنا صوت مسموع، ومندوب دائم، وكلمة تفرض مضمونها وهيبتها واحترامها، وقوة تجعل لكلمتنا صوتاً ومعنى ومصداقية؟!‏
    لا بد أن يكون المدخل إلى ذلك : كيف نفعل ذلك ومتى؟! ، وعندها سيقال : ها قد دخلنا دوامة الكلام من جديد؟! إن ما ينقصنا حقيقة ليس هو الكلام بل العمل، ولن يتغير وضعنا وحالنا من تلقاء ذاته و من غير شجاعة في مواجهة الذات، و " إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ". صدق الله العظيم.‏

    دمشق في الأربعاء، 10 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن‏
    دمشق في الأربعاء، 02 أيلول، 1998 ـ المستقلة ـ لندن‏

    الأسبوع الأدبي/ع626//12/9/1998‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      التطبيع
      التطبيع : هو إعادة وضع تاريخي بين متخاصمين إلى طبيعته، بعد خلل أصابه وأدى إلى خروجه عن المألوف بينهما، وقد يكون المتخاصمان فردين أو جماعتين أو دولتين أو مجموعتين من الأطراف.‏
      ويتم ذلك باتفاق : مباشر أو بواسطة طرف أو أطراف أخرى، على أن تعود العلاقات والصلات بينهما إلى طبيعتها المعتادة على الصُّعد والمستويات جميعاً؛ أو أن يصبح التعامل بينهما عادياً بعد انقطاعه أو فتوره لأسباب ناشئة عن نزاع أو صراع بينهما على حقوق أو مصالح، أديا إلى أشكال من الخصومات والمواجهات السياسية والعسكرية والثقافية، وأفضى ذلك إلى تعطّل ما كان قائماً وسائداً ومستقراً بينهما من علاقات وصلات طبيعية عبر الزمن تخدم مصلحة الطرفين. أو هو: استقراءً لمظاهر ومعطيات وضعٍ خاص مثل وضع الكيان الصهيوني المغروس بقوة الإرهاب والظلم والقهر في فلسطين على حساب الفلسطيني وحقه التاريخي؛ إنه محاولة إضفاء صفة الوضع الطبيعي/ "عادي" normal/ ومواصفاته على أمر غير طبيعي، بجعل الأوضاع التي خلقتها معطيات ـ إن العادي والطبيعي في وضعنا مع الكيان الصهيوني هو ألا يكون موجوداً ـ وعوامل وقوى غير عادية تؤول إلى المسلَّم به والمستسلَم له من الأوضاع والنتائج والصلات وأشكال التعامل والتواصل ؛ وفرض حالة طبيعية /عادية normal/ على أفراد ومجتمعات ودول بالقفز فوق الحقائق والوقائع والحقوق، بوسائل الإرهاب والعدوان والتخويف والترغيب لإقامة علاقات مستقرة بقوة الأمر الواقع، ومجاوزة الذاكرة التاريخية والوجدان الجمعي وكل ما يتصل بأبعاد الصراع وحقائقه وأسبابه ونتائجه ومعطياته.‏
      وقد بدأ مصطلح التطبيع يفرض نفسه في التداول السياسي العربي، وفي منطقة " الشرق الأوسط" ابتداء من اتفاقية "كامب ديفيد" 1978-1979 التي عقدها السادات ومناحيم بيغن بين مصر العربية والكيان الصهيوني بإشراف الولايات المتحدة الأميركية وتدخّلها المباشر في عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغن.‏
      وأخذ استخدام هذا المصطلح يزداد حضوراً في التداول السياسي والإعلامي، وينتشر ويتعدد الأشكال والوجوه، لا سيما بعد اتفاق أوسلو 13/9/1993 واتفاق وادي عربة، الذي تحول فيما بعد إلى معاهدة بين المملكة الأردنية الهاشمية والكيان الصهيوني عام 1994.‏
      ويصر الكيان الصهيوني على إدراج موضوع التطبيع في جدول أعمال التفاوض مع العرب سواء أكان ذلك في "واي بلانتشِن" بين سورية والكيان الصهيوني قبل أن يتوقف عام 1996 أو في مراحل التوصل إلى اتفاقيات لتنفيذ اتفاق أوسلو، أو في إطار تطبيق القرارين 425-426 اللذين اضطر العدو الصهيوني للإعلان عن قبوله بتطبيقهما تحت ضغط المقاومة التي يلقاها في جنوب لبنان من حزب الله.‏
      ولا يوفر العدو الصهيوني وحليفُه الأميركي جهداً في فرض موضوع التطبيع على الدول العربية، وقد تجلى ذلك في مجالات أهمها :‏
      1. المفاوضات المتعددة الأطراف، التي تشمل المياه والتجارة والتعامل الاقتصادي، وفي إطارها تم عقد المؤتمرات الاقتصادية الأربعة في: الدار البيضاء والقاهرة وعمَّان والدوحة.‏
      2. رفع المقاطعة العربية من الدرجتين الثالثة والثانية عن الشركات المتعاملة مع الكيان الصهيوني.‏
      3. التعاون السياسي حول ما يسمونه موضوع " الإرهاب "، وقد بلغ ذلك التعاون ذروته في قمة شرم الشيخ عام 1996 التي حضرها ممثلون عن ثلاث عشرة دولة عربية من مجموع ثلاثين دولة شاركت في ذلك المؤتمر.‏
      4. التواصل السياسي ذو المضمون الاجتماعي، الذي بلغ ذروته في حضور ممثلين عن ثمان أو تسع دول عربية لتشييع جثمان الإرهابي إسحق رابين، وذرف الدموع عليه لا سيما من الملك حسين وعرفات.‏
      5. التعامل المصرفي والتعاون في مجالات الزراعة والري والمياه، وكذلك التعامل التجاري والسياسي والتبادل الدبلوماسي : فقد تم تبادل تمثيل دبلوماسي على مستوى سفارة أو قنصلية أو ممثل تجاري مع كل من: مصر -الأردن- قطر- عُمان ـ المغرب- تونس، وأعلنت موريتانيا عن نوع من التقارب مع الكيان الصهيوني.‏
      6. التعاون العسكري المحدود، لا سيما بين الأردن والكيان الصهيوني في إطار التحالف التركي- الإسرائيلي- الأميركي [ اتَّبَعَت عائشة بنت الملك حسين دورة في الجيش الإسرائيلي وكذلك حمزة ابنه، وحضر ضباط إسرائيليون تدريبات عسكرية للطيران الحربي الأردني في الأردن، وشارك ضباط أردنيون في تدريبات عسكرية في "إسرائيل"؛ وحضر ممثل أردني المناورات البحرية للتحالف التركي "الإسرائيلي" الأميركي في البحر الأبيض المتوسط عام 1998.‏
      7. والتطبيع في مجالات الثقافة بمفهومها الشامل. وسوف نتوسع في هذا المجال بعد قليل.‏
      والمقصود من التطبيع بين الكيان الصهيوني والبلدان العربية المعنية بالصراع العربي الصهيوني أن يتوقف كل ماله صلة بحالة الحرب وتُنسى الأسباب التي أدت إليها، وأن يتم القفز فوق ذلك كله -بتجاوزه- لتقوم بدلاً منه علاقات طبيعية بين "إسرائيل" والدول العربية جميعاً، تؤكد " حقاً تاريخياً " لتلك الدولة في أن تقوم وتبقى على أرض فلسطين، وأن تصبح جزءاً من النسيج الجغرافي والتاريخي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي والأمني للمنطقة، ويكون لها رأي في مستقبلها، وتدخل شريكاً في شؤونها؛ وأن تقوم بينها وبين دولها علاقات دبلوماسية وتجارية وثقافية في المجالات جميعاً. وتذهب "إسرائيل" إلى أبعد من ذلك في هذا الاتجاه لتركز، بالتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية وبقية حلفائها في المنطقة، على أن تعيد الترتيب الجيوسياسي للمنطقة إن أمكنها ذلك. فقد دعت، عبر شمعون بيريس، إلى إلغاء جامعة الدول العربية وتفكيكها بوصفها -كما يقول بيريس- جامعة الكراهية، وإقامة جامعة شرق أوسطية تكون "إسرائيل" في جوهر تكوينها وأحد المؤسسين الرئيسين لها.‏
      وقد أسفر المشروع الشرق أوسطي عن مجموعة من التدابير والتوجهات والمقترحات ما زال بعضها مستمراً وبعضها الآخر يراوح في مكانه بسبب وصول " حزب الليكود " إلى السلطة، الحزب الذي يرى أن تحقيق الأهداف التي تسعى إليها "إسرائيل" لا يكون عبر مشاريع الشرق أوسطية وتوجهات حزب العمل، وإنما بفرض الوجود والاستيطان والحلول والسلام والتهويد بالقوة، وانتزاع الاعتراف والأمن من دون تقديم أية "تنازلات" عن الأرض؛ حسب قول نتنياهو وشركائه.‏

      التطبيع الثقافي:‏
      أود أن أؤكد بداية على أن التطبيع مع العدو الصهيوني هو نتيجة من نتائج الاعتراف به، ولما كنت ممن يدْعون إلى عدم الاعتراف بالعدو الصهيوني، وممن يرفضون رفضاً تاماً وقاطعاً أي شكل من أشكال الاعتراف بأي حق تاريخي له في فلسطين- على أرضية الحقائق والوقائع التاريخية المستمرة الحضور والتواصل- فإنني أرفض نتيجة لذلك كل شكل من أشكال تطبيع العلاقات معه، وفي مقدمة ذلك التطبيع الثقافي؛ الذي أراه أشد خطورة في المستقبل وعلى مستقبل صراعنا مع العدو الصهيوني من سواه.‏
      ويهدف التطبيع على الصعيد الثقافي إلى :‏
      1- توظيف الثقافي في خدمة السياسي، أي جعل المبدئي والحقاني والخُلُقي والتاريخي، في خدمة الآني والظالم والفاسد والمفروض بقوة القهر الإمبريالي- الصهيوني على المنطقة وأهلها.‏
      2- توظيف ثقافة ومثقفين في خدمة سياسة " أوسلو " واتفاقيات الإذعان، التي فُرِضَت على العرب أو تواطأ عرب مع العدو الصهيوني والطغيان الأميركي على فرضها، خدمة للعدو وتحقيقاً لمرحلة جديدة من مراحل الصهيونية، على طريق تنفيذ مشروعها المستمر /إسرائيل التوراتية أو إسرائيل رباتي./‏
      3- جعل الثقافة إحدى أهم حواضن سلام الاستسلام، أي السلام الصهيوني -الأميركي، الذي يحاول انتزاع اعتراف تاريخي بحق لليهود في فلسطين عامة والقدس خاصة على حساب حق الفلسطينيين والعرب والمسلمين بفلسطين ومقدساتهم فيها، وعلى رأس تلك المقدسات القدس الشريف.‏
      4- إعادة تكوين الذاكرة والوجدان العربيين من جديد وذلك بـ :‏
      آ -محو حقائق الصراع العربي الصهيوني من الذاكرة، واستهداف الأجيال الناشئة قبل سواها لتحقيق ذلك.‏
      ب- إفراغ الصراع العربي الصهيوني من مضامينه وأهدافه وحقائقه تحت ضغط تزييف الوقائع والحقائق من جهة، ومواجهة الناس بمنطق واقعية انهزامية من جهة أخرى، تُقدِّم الكيان الصهيوني وحليفَه الأميركي على أنهما قدر وأبد، وما على الناس إلا أن يقبلوا بهذه الصيغة وإلا خسروا ما تبقى من أرض وحق ومستقبل ؛ وعليهم أن يقتنعوا بأن هذه هي نهاية تاريخ وبداية تاريخ.‏
      وعلى الرغم من أن هذا مناقض لقانون الحياة الذي هو حركة لا تعرف الركود، ولكل استقراء سليم لتاريخ الأمم وتجارب الشعوب، الذي يقدم الدرس تلو الدرس والخلاصة تلو الخلاصة حول موضوع تداول الدول، وتراخي الحضارات وذبولها أو سقوطها في مناطق ولدى أمم ونهوضها في مناطق ولدى أمم أخرى؛ وحول حقيقة أن التاريخ تصنعه إرادة الأفراد والشعوب بالإيمان والوعي المعرفي وتغيير معطيات الواقع وموازين القوى، على أرضية من الثبات على الحق والمبدأ والتمسك بهما والتضحية من أجلهما؛ على الرغم من ذلك كلِّه، فإن هذا النوع من المنطق الانهزامي يروّج له ويلقى آذاناً صاغية من أفراد وجماعات ودول.‏
      جـ - إعادة صوغ الوجدان الفردي والجمعي العربيين بالتركيز على :‏
      1- تخريب منظومات قيم ومعايير حكم واحتكام تستند إلى معطى ديني وقومي تحريري، وتشويه معطيات تاريخية وإمكانيات واقعية تشكِّل روافع الصمود والنهوض العربيين ؛ والتلويح بالقوة واستخدام منطقها وسيادتها الحالية للقضاء على كل أمل في المستقبل.‏
      2- التركيز على منظومات قيم ومعايير حياتية دنيوية -آنية أو غربية مستوردة ـ تركز على مخاطبة الغرائز وتنميتها والتركيز على الفردي والأناني والآني من الموضوعات والاهتمامات والرؤى؛ وتعزيز النزوع المادي الاستهلاكي على حساب الروحي الاجتماعي المتسامي، وتفتيت قوى الإيمان والإرادة، وإنعاش قيم ومقومات مجتمع أناني منخور البنية ذي تطلعات دنيا، مأخوذ بإغراء سلوك الغرب ومفهومه المدمر عن التحرر.‏
      3- التأكيد على منطق الهزيمة وأبعادِها، وعلى عدم استطاعة العرب كسب المعركة مع "إسرائيل" بالقوة، وأن الحرب لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، وأنه لا بد من "السلام"، على أرضية المفهوم الإسرائيلي -الأميركي للسلام، الذي ينتزع فلسطين من أهلها ويبقيهم مشردين أو تبعاً، ويطلب من العرب الاعتراف بإسرائيل لأن فلسطينياً قد اعترف بها وقبل بالتعايش معها، فما شأن الآخرين ما دام صاحب البيت قد وافق؟!‏
      لقد لاحظ المهتمون بفرض سلام الاستسلام، أن التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني بعد "كامب ديفيد" لم يأخذ طريقه بسرعة إلى الشعب وإلى سبل التعاون الأخرى في المجالات المختلفة، وأن مصر لم تفرض ما اخترعته من صلح على العرب بالسرعة المنتظرة، وأن الثقافة لم تناصر تلك الاتفاقية ـ اتفاقية كامب ديفيد ـ ولذلك لم تنتشر وتتعمق بالشكل المطلوب. من أجل هذا أكد الرئيس الأميركي بيل كلنتون أهمية العمل في المجال الثقافي تحت شعارات مختلفة وبصيغ منها :‏
      ـ الانتقال من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام .‏
      - المبادرة من أجل السلام.‏
      - بذور السلام.‏
      - بناؤون من أجل السلام...الخ.‏
      ورصد أموالاً ودعا إلى رصد أموال من أجل إقامة مشاريع في خدمة سلام أوسلو بعد توقيع الاتفاقية في واشنطن 13/9/1993.‏
      وقد جُند من أجل ذلك أشخاص كثر في المجال الثقافي، وأقيمت أول تظاهرة منظمة في هذا المجال على أساس برنامج سياسي- ثقافي مموَّل من جهات ودول وأجهزة في غرناطة 9 ـ 13/12/1993 تحت مظلة اليونيسكو شارك فيها أربعون تقريباً من الكتاب والأدباء والشعراء منهم: يهود إسرائيليون وعرب وأوربيون تحت عنوان : " لننتقل من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام " .‏
      وقد عُقد هذا الملتقى تحت رعاية " شمعون بيريس " وياسر عرفات وحضره فديريكو مايور المدير العام لليونيسكو، وجاء احتفاء بمرور ثلاثة أشهر على توقيع " اتفاق أوسلو "، ومن أجل تركيز جهود ثقافية على برنامج مكون من أربع عشرة نقطة للعمل على تنفيذه وإعطاء أولية لما جاء فيه على كل ما سوى ذلك من موضوعات. وقد قال شمعون بيريس في هذا اللقاء، " لقاء غرناطة " :‏
      "إن السلام- يعني سلام أوسلو- أثمن من أن يترك بأيدي السياسيين، أكلمكم بصفتي سياسياً- " وقد ركز مايور في كلمته على "التربية من أجل السلام" وعلى مواضيع ثقافة السلام.‏
      ومن أهم النقاط التي تضمنها برنامج عمل الملتقى وتم اتخاذ قرارات بشأنها أذكر بإيجاز:‏
      1- إعادة كتابة تاريخ المنطقة بأيدي أبنائها. وهم يقصدون مشاركة يهود - " إسرائيليين" بإعادة كتابة تاريخنا العربي والإسلامي، لا سيما تاريخ بلاد الشام ومصر، ليكون لذلك التاريخ طعم ملوك بني إسرائيل، ولطمس حقائق الصراع العربي الصهيوني، وإزالة كل ما لا ترضى عنه الصهيونية من حقائق ذلك الصراع ومعطياته.‏
      2- إعادة النظر بمناهج التربية والتعليم وبالقيم التربوية، لتكوين أجيال بمنظور ورؤى وتطلعات جديدة تتعايش في ظل ما يسمونه السلام.‏
      وهذا يعني:‏
      أ - إعادة النظر بمناهج التربية الوطنية والقومية، وبكل ما يتصل من ذلك بموضوع فلسطين وعروبتها وباستعادة الحق والسيادة العربية فيها وتحريرها من الاحتلال الصهيوني ـ الصليبي. وما يتصل من ذلك أيضاً بالصراع العربي الصهيوني الذي سيصبح مسرداً تاريخياً باهتاً في الذاكرة والتسجيل. ( و كل ذلك على أرضية حقائق أوسلو وسلامها الذي لا يبقي للفلسطينيين شيئاً يذكر من وطنهم مع بقاء الهيمنة الصهيونية على ما قد يعيشون عليه من أراض وعلى ما قد يتخذونه من قرارت ).‏
      ب- إعادة النظر بمناهج التربية الدينية. ويستدعي ذلك حذف كل ما يتصل باليهود من آيات قرآنية وأحاديث وحوادث لا ترضي "الإسرائيليين"، بحجة أنها تتصل بتاريخ العداء وتحث على عدم التعايش. وهكذا يصلون إلى القرآن والحديث ويعملون على إقرار تربية إسلامية تتوافق مع اليهودية والصهيونية أو لا تتنافى ولا تتصادم معهما. وهذا شيء مثير وخطير إلى أبعد الحدود، لا سيما إذا أدركنا أن هذا المطلب يطال شؤون التربية العقيدية عند العرب ـ المسلمين، ولا يطال التربية العنصرية التلمودية لدى العنصريين اليهودي.‏
      جـ - التأكيد على منظومات قيم تربوية وخلقية واجتماعية تعترف بحق تاريخي -وربما ديني لليهود في فلسطين وتؤكد على ذلك. وبث مثل هذه المنظومات من القيم في دروس القراءة وفي النماذج والأمثلة المقدمة للطلبة، وكذلك استخلاص عبر وتقديم وقائع تؤكد الاتجاه الذي يعملون من أجله.‏
      ونسوق هنا كأنموذج درساً أُقترح لمنهاج الصف السادس الابتدائي، في إطار التطبيع القائم بين المملكة الأردنية الهاشمية والعدو الصهيوني بعد اتفاق وادي عربة يحسن بنا أن نتوقف عنده قليلاً:‏
      [ داود وعبد القادر وأحمد يملك كل منهم حقلاً مجاوراً لمنبع ماء فإذا قام داود بالاستيلاء على الماء فإنه يحرم أحمد وعبد القادر من ريّ حقليهما ولن تنبت فيهما المزروعات وإذا قام أحمد وعبد القادر أو أي منهما بالاستيلاء على منبع الماء وحرما داود منه فإن حقله لن ينبت المزروعات أيضاً وسيصاب بالجوع والعطش والطريقة المثلى هي أن يتعاون كل من داود وأحمد وعبد القادر للاستفادة من الماء واستثمار حقولهم بشكل إنساني وحضاري من دون خصومات، وهكذا يقدَّم للطفل في المرحلة الابتدائية درس يخاطبه بإنسانية ويقدم له منطقاً مقبولاً لتعايش وتعاون وتنسيق واستقرار لكل من داود وأحمد وعبد القادر أي "إسرائيل " والدول العربية الأخرى المجاورة ] .‏
      ويغفل هذا الدرس ببساطة كل الحقائق المتعلقة بالصراع العربي الصهيوني ليقفز فوقها متجاوزاً الحقائق الآتية :‏
      أ - أنه لم يكن لداود أي حقل أصلاً في المنطقة وأنه اغتصب الحقل أي أرض فلسطين وطرد أهلها منها.‏
      ب - أن أصحاب الحقل الأساسيين الذي اغتصبه داود ( الفلسطينيين ) ما زالوا مشردين ولا يملكون أي حقل ومن حقهم أن يعودوا إلى أرضهم .‏
      ج - أن داود الذي اغتصب حقلاً بالقوة، ما زال يملك القوة ويهدد كلاً من أحمد وعبد القادر ويضع البرامج للاستيلاء على حقليهما ويأخذ كل حاجته من الماء بصرف النظر عن ماضيهما لأنه يملك السلاح .‏
      د - أن أحمد وعبد القادر لا يملكان ما يدافعان به عن نفسيهما وحقليهما وحقوقهما وملكيتهما من الأرض والماء والماشية، وكل ما لديهم رهينة عند داود .‏
      وفي ظل وضع كهذا لا توجد معطيات إنسانية وحضارية ولا توجد عدالة، ولا بد من التوجه بخطاب تاريخي وواقعي وعادل ( يربَّى عليه الأطفال وهو ما تريد اتفاقيات الإذعان تجاوزه باسم السلام * .‏
      3- إقامة دور نشر ومراكز أبحاث مشتركة لنشر الكتب والدراسات في ضوء العنوان العام أو الشعار المتفق عليه /الانتقال من ثقافة الحرب إلى ثقافة السلام/ وعقد لقاءات وندوات للدفع بهذا الاتجاه.‏
      أمثلة من المراكز: مركز ابن خلدون للدراسات في مصر - مراكز إسرائيلية- مصرية وفلسطينية وأردنية مشتركة.‏
      4- إنشاء مراكز إعلام ومحطات إعلامية أو الاتفاق مع وكالات ومراكز ومحطات فضائية قائمة، للتركيز على هذا التوجه من خلال الإعلام، وللتأثير على الرأي العام العربي والإسلامي للقبول به.‏
      هذا إضافة إلى مشاريع أخرى تتعلق بالتعاون وتطبيق التطبيع في مجالات : زراعية - تجارية- سياحية.. الخ.‏
      وقد عقدت في إطار هذا المخطط أو البرنامج عدة لقاءات لـ :‏
      - شعراء عرب وصهاينة مع أوربيين اجتمعوا في تونس وبلجيكا.‏
      - إعلاميين عرب وإسرائيليين في تركيا انبثق عنها أداء مشترك وتعاون مع صحف ووكالات أنباء وفضائيات وإذاعات، وكذلك تعاون بين صحفيين عرب ويهود إسرائيليين؛ وفسح مجال لتقديم الوجه الصهيوني في الإعلام العربي بأشكال مختلفة لخلق اعتياد عليه وتطبيع معه، وحوار مشترك. ( تم ذلك في فضائيات مثل : الجزيرة ـ الـ m.b.c. ).‏
      وعندما ووجه ملتقى غرناطة بشدة من قبل مثقفين عرب ومن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب واتحاد الكتاب العرب في سورية بشكل خاص، وأحبط الكثير من جهده وكُشِفَت رموزه؛ قامت حملة إعلامية غربية -إسرائيلية وحتى من بعض الأوساط العربية / ضد مقاومي التطبيع من المثقفين العرب واستماتت بكل الوسائل وأساليب الضغط الممكنة للتأثير على مقاومي التطبيع ؛ وقد تدخل مدير عام اليونيسكو ليتهم الكتاب الذين يرفضون التطبيع ويقاومون دعاته ويضعون لتخريبهم حداً، اتهمهم بأنهم" قوى ظلامية" مستخدماً ما حاول أن يضفيه الإعلام الغربي والصهيوني من صفات سلبية على الأصولية الإسلامية والقومية العربية، فأخذ يصف كل من يقاوم أوسلو ويؤمن بصحوة إسلامية وقومية ويعمل لهما بأنه من القوى الظلامية -الأصولية- الإرهابية ... إلى آخر تلك المصطلحات التي يتقن استخدامها الغرب والصهيونية وعملاؤهما بغوغائية لا نظير لها وبانتشار إعلامي واسع.‏
      وبعد أن انهزمت جماعة غرناطة نسبياً أو انكشفت صورتُها ورفضها المجتمع العربي بشكل عام، بدأ التركيز على توجه جديد نابع من الأصل ذاته ومن الجهات المحرِّكة ذاتها: المبادرة من أجل السلام التي تشرف عليها الصهيونية والقوى المتصهينة في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأميركية ويدعمها الكونغرس الأميركي واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة " إيباك ".‏
      فمع تعثر تطبيق اتفاق " أو سلو "، ولا سيما في مرحلة اتفاق الخليل وما تلاه، وفي فترة تصاعد المقاومة النوعية للمقاومة الوطنية اللبنانية ( لا سيما حزب الله ) والمقاومة الفلسطينية : الجهاد الإسلامي وحماس، وبعد مذبحة " قانا "، التي قام بها الكيان الصهيوني بأمر من حزب العمل و " شمعون بيريس "، شريك عرفات بعد مقتل " رابين " في " عملية السلام "، ووصول نتنياهو وحزب الليكود إلى السلطة ؛ بدأت مرحلة جديدة من مراحل التطبيع والاختراق الثقافي، بدخول بعض المثقفين والسياسيين العرب طرفاً في اللعبة الإسرائيلية الداخلية ليظهروا بمظهر المناصر للسلام، الذي يعادي صهيونياً يعاديه هو نتنياهو، ليجلبوا إلى الحكم صهيونياً آخر يعترفون به ولكنه لا يغير من أهداف "إسرائيل" شيئاً ولا يغير من الواقع الذي فرضته "إسرائيل" باتفاقيات الإذعان التي عقدتها /كامب ديفيد -أوسلو- وادي عربة / شيئاً أيضاً.‏
      وأخذ أولئك يقدمون أنفسهم معادين للتعصب والتطرف الصهيوني- الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه يعلنون وقوفهم ضد من يسمونهم بالمتطرفين العرب، الذين لا يأخذون بالتطبيع مع "إسرائيل" على أرضية الاعتراف بها ؛ وهو الأمر الذي يهدد ما أسموه "مسيرة السلام" لدى الطرفين.‏
      وهكذا خُلِق بديل أوسع لغرناطة يعمل على الأهداف ذاتها بتطوير للخطاب والوسائل والأدوات فكان أن تعاون:‏
      - الأميركيون من خلال الـ c.i.a. وممثلها ورجلها مارتن إندك السفير الأميركي السابق في "إسرائيل" ـ ومارتن إندك هو يهودي أسترالي قدِم إلى فلسطين المحتلة عام 1973 ليخدم متطوعاً، وعندما قالوا له إنه لا يوجد أعمال عسكرية يقوم بها لأن المتطوعين كُثُر، طلب القيام بأي عمل وكان أن عمل فعلاً في جمع القمامة. ثم أصبح مواطناً أميركياً بسرعة غير عادية وترقى لرتبة سفير الولايات المتحدة الأميركية في "إسرائيل"، وهو الآن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، ويشرف هو ويهود آخرون منهم دنيس روس وأهارون ميلر .. على ملف المفاوضات بين العرب والكيان الصهيوني وهو يهودي صهيوني.‏
      ـ والإسرائيليون من خلال دافيد كمحي نائب رئيس الموساد السابق.‏
      ـ والعرفاتيون ومن يقدمه الجهازان السابقان لهما من أشخاص/ من خلال لطفي الخولي/ مصر .‏
      تعاونوا على إقامة تحالف كوبنهاغن. حيث عقد ملتقى موسع بين كتاب ومثقفين وسياسيين في كوبنهاغن / عاصمة الدانمرك / في نهاية شهر يناير 1997 وحضره ميخيل انجيل موراتينوس ممثل الاتحاد الأوربي، ووزير خارجية الدانمارك، وموِّل من قبل جهات أوربية وجهات أخرى خفية تعود للأجهزة التي ينتمي إليها المنظمون الرئيسون للملتقى. وخرج علينا أولئك بإعلان تحالف بين مثقفين إسرائيليين وعرب ـ منهم: فلسطينيون ومصريون وأردنيون ـ وأوربيون( معظمهم يهود) يعملون جميعاً على تطبيق اتفاق أوسلو الذي إذا طبق في أحسن وأرقى صور تطبيقه تنفيذاً لنصوصه، فلن يسفر إلا عن كارثة تبقي أربعة ملايين فلسطيني خارج وطنهم محرومين من أية هوية وحقوق وأراض، وتضع فلسطينيي الداخل في إسار المشروع الصهيوني وفي حالة خدمة مستمرة لإسرائيل لترويج التطبيع بكل أشكاله، ولملاحقة من يرفض إسرائيل واتفاقيات الإذعان ويتمسك بتحرير فلسطين والقدس والجولان وجنوب لبنان.‏
      وقد لجأ أهل كوبنهاغن إلى عمل متناغم مع جهات إسرائيلية وعربية وغربية، فأقيمت شبكات دائمة التواصل للعمل بمعرفة جهات رسمية في كل من الدول المعنية : الكيان الصهيوني -مصر- والأردن ـ والولايات المتحدة الأميركية ) مثل : جماعة السلام الآن (الإسرائيلية) - جماعة القاهرة من أجل السلام التي أنشئت في القاهرة تحت رقم الإشهار 392 لسنة 1998 وأعلن عن قيامها أولاً من قبل التلفزيون الإسرائيلي ـ جماعة أبناء إبراهيم في الأردن، التي تتألف من أساتذة جامعيين بالدرجة الأولى، وجماعة السلام الآن الأميركية وهي من اليهود الأميركيين وقد أسست في مطلع الثمانينيات بعد كامب ديفيد.‏
      وكل هؤلاء وسواهم يعملون بتنسيق وتوافق مدروس وبإيعاز تمليه وتشرف عليه أجهزة رسمية، ليحققوا اختراقاً في الحياة الثقافية العربية لمصلحة إسرائيل وسلامها والولايات المتحدة الأميركية وخططها الاستعمارية- الاستثمارية- الاستلابية في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.‏
      وتناصرهم في دعواهم وفي الترويج لأفكارهم والوصول إلى نتائج في برامجهم : صحف عربية وأجنبية، ومحطات بث فضائية، ودور نشر وتوزيع، ومراكز أبحاث، ومؤسسات متناغمة مع الدور الذي سُخِّروا له ؛ ويموَّلون من أجهزة وجهات مستورة مفضوحة في آنٍ معاً، عبر الاتحاد الأوربي من رصيد يبلغ أربعين مليون دولار موضوع تحت تصرفهم.‏
      وهناك عمل في :‏
      1- مجال المرأة :‏
      حيث يُتَّخذ من تحرير المرأة اقتصادياً مدخلاً، وهو يرمي حقيقة إلى تخريب بنية الأسرة العربية الإسلامية بتدمير خليتها الأولى المرأة عن طريق إتاحة ما يسمونه تحريرها اقتصادياً عن الزوج ـ أو من الزواج ـ بتقديم قروض مالية خاصة، ومن ثم يتم إغراؤها بالتحلل من كل قيد اجتماعي وقيمة خلقية ورابطة أسروية، باسم تحرر المرأة وممارستها للحرية بالمفهوم الغربي لحرية المرأة ،من خلال غمسها في مغطسين :‏
      - الاندفاع الغريزي تحت اسم الحرية، التي يقدمها الغرب أو يفهمها انحلالاً خلقياً.‏
      - الاندفاع الاستهلاكي والمظهري، أي الاندفاع السطحي في الحياة. وبذلك تتخلخل بنية الأسرة : المرتَكَز الأول لكل سلوك وعمل بنَّاء : تحريري أو نهضوي، قومي أو إسلامي أو إنساني.‏
      2- بذور السلام‎‎‎‎‎‏
      حيث يتعاون الأميركيون والأوربيون بتنسيق وإشراف صهيونيين على أخذ أفضل العناصر النابغة والقيادية بين الأطفال والشباب العرب والصهاينة ويقيمون لهم معسكرات صيفية خاصة، ويربونهم تربية خاصة تحت مظلة [ (التعايش والسلام) وهو المفهوم الذي فرغنا من توصيفه سابقاً وبينا أنه المفهوم الصهيوني العنصري للتعايش، والسلام الإسرائيلي- أميركي المفروض على العرب]، ليكون أولئك هم قادة المستقبل في المنطقة، وتستمر الرعاية لهم والإشراف عليهم والتواصل معهم من قبل الصهاينة والأميركيين؛ ولا يتم الالتفات لهذه الظاهرة في الوطن العربي مع الأسف، ولا إلى مراميها في العالم الإسلامي، حيث تحاول أميركا وإسرائيل أن تسيطرا على صورة المستقبل السياسي وأن تتحكما به في تلك البلدان من خلال تقديم قادة المستقبل، المضمونين بالنسبة لها والضامنين لمصالحها، ممن تمت تربيتهم وأُحْسِن إعدادهم ومتابعتهم من قبل الغرب والصهيونية.‏
      3- بنَّاؤون أو ( بناة ) من أجل السلام :‏
      ويتكون أولئك من عناصر بشرية فاعلة وقادرة، تقوم بمشاريع وتمارس أعمالاً وتقوم بمبادرات من شأنها أن تروج للتطبيع في مجالاته جميعاً ؛ ويقيم أولئك مشاريع مختلفة يتفقون عليها وترعاها الجهات السياسية المعنية بمسيرة‏
      "السلام " الصهيوني الأميركي في المنطقة.‏
      وعلينا أن نلتفت إلى حقائق منها:‏
      - تسلل التطبيع إلى :‏
      - مصر الشعب.‏
      - أردن النظام وقسم من الشعب.‏
      - فلسطيني الداخل الذين يبنون المستعمرات الصهيونية للاحتلال بأيديهم، لأن لقمة عيشهم ارتبطت بالعمل لدى المحتل.‏
      - مصانع النسيج المشتركة لا سيما بين مصريين و" إسرائيليين -المناطق الحرة والصناعية المشتركة، لا سيما بين " إسرائيل والمملكة الأردنية الهاشمية /اربد مثلاً .. الخ.‏
      إن هناك مواقف سلبية عربية وإسلامية تضاعف جهوداً عدوانية أو مناصرة لعدوان العدو، وهي تُبذل بكثافة أحياناً، وترمي إلى :‏
      * تشويه صورة الإسلام، والتركيز على تقديم الدول التي ترعى نهضة إسلامية أو قومية، وتأخذ باستقلالية الإرادة والقرار، وترفض أن تكون تابعة لأميركا، كما ترفض الاعتراف بإسرائيل وبحق لها في فلسطين، وتدعم المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني؛ تقدمها على أنها دول إرهابية أو ترعى الإرهاب وتهدد "السلام الدولي" ولذا تستحق العقاب والحصار، من وجهة النظر الأميركية ـ الصهيونية‍؟‍ .‏
      ** تشويه مفهوم الصحوة الإسلامية وممارساتها وتوجهاتها والصورة المستقبلية التي يمكن أن تكون لها، عن طريق تقديمها على أنها معادية للتقدم والعصر، وللديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والسلام ... إلى آخر المعزوفة المعروفة جيداً.‏
      *** تشويه المقاومة التي تتصدى للاحتلال الصهيوني في فلسطين وجنوب لبنان، ونعتها بالإرهاب والتخريب ؛ وتشترط تصفيتها قبل أي اتفاق أو في أثناء أي تفاوض مع الأنظمة العربية، ولا سيما مع السلطة الوطنية الفلسطينية. والقيام بخلط أوراق العنف والعنف المضاد الداخليين في بعض الأقطار العربية بالإرهاب لمساواة صورة المقاوم ضد الاحتلال الصهيوني بالمعارض الداخلي لنظام حكم، مساواة ذلك بالإرهابي!؟ وجعل الأنظمة العربية تشارك في القضاء على المقاومة المشروعة للاحتلال بإلصاق صفة الإرهاب بها أو بخلط أوراقها حين تكون المقاومة والمعارضة من التنظيمات السياسية الإسلامية ؛ وبث شعور عدم التعاطف مع المقاوِم للاحتلال بتقديمه للناس إرهابياً ومخرباً.‏
      ****التعتيم على المفكرين والكتاب والأدباء الذين يقاومون التطبيع ويدعمون المقاومة ضد المحتل، ويؤمنون بقدرة الأمتين العربية والإسلامية على النهضة والصحوة، وبحقهما في امتلاك القوة علىأرضية العلم والإيمان والعمل بهما، وبقدرتهما على التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني ومقاومة أشكال الاستغلال الأميركي.‏
      ويذهب الأمر إلى حد تشويه الصورة والسمعة واختلاق الكذب وممارسة الافتراء بالنسبة لمن يخترق دائرة التعتيم من أولئك، أمَّا التعتيم فهو السلاح الأول.‏
      -تسخير صحفيين وإعلاميين وكتاب، لا سيما من الصفوف الملحدة أو المعادية للدين والقومية بمفهومها المتماهي مع الدين، تسخيرهم للكتابة ضد من يقاومون التطبيع وتقديم صور مشوهة للواقع بهدف تفتيت الإرادة وتشويه أفق الرؤية أمام الإنسان العربي. ويأتي أولئك في الأغلب الأعم من تنظيمات كانت مؤيدة لوجود "إسرائيل" منذ غرسها بالقوة عام 1948 في فلسطين، ومن أيديولوجيات معادية كلياً للدين والقومية تحت ذرائع المولاة لوطنية وديمقراطية وتقدم لاتمت أي منها إلى الوطنية والديمقراطية والتقدم بأدنى صلة‍. وقد أثبت التاريخ والتجربة ذلك الاستنتاج عملياً، ولكن يبدو أن هناك من لا يستطيعون رؤية الشمس ولا يريدون ذلك.‏
      النتيجة: الخلاصة:‏
      1- لا أؤمن بإمكانية قيام أي سلام في المنطقة مع بقاء الاحتلال الصهيوني لفلسطين وبقاء سيادة إسرائيلية فيها.‏
      2- أؤمن بضرورة العمل من أجل تحصين المواطن العربي بالوعي المعرفي وتجديد ذاكرته والمحافظة على سلامة وجدانه، ليتذكر دائماً أن الصراع العربي الصهيوني هو صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود، وأن فلسطين عربية وستبقى عربية، وأن القدس الشريف أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين هي في القلب من تلك القضية؛ ولا بد من امتلاك قوة على أرضية العلم والإيمان والعمل بهما، قوة في كل المجالات من البندقية إلى القنبلة النووية، لتحرير الأرض وردع العدوان والدفاع عن الدين والهوية والشخصية والمصالح العليا للإنسان والوطن والأمة.‏
      3- أن المستقبل لنا بعون الله، وأن المتغيرات الدولية التي قدمت الولايات المتحدة الأميركية في هذا العقد من الزمن قطباً وحيد الطرف وإسرائيل قوة لا تُغْلَب، وكياناً باقياً؛ أن تلك المتغيرات إلى تغير أيضاً لأن هذا هو قانون الحياة. وأن ضعفنا ليس قدراً بل تقصيرمنا بحق أنفسنا، وأن قوتهم لن تدوم إلى الأبد، فالحياة حركة، وعلينا أن نحسن العمل ليحملنا قانون الحركة إلى حيث القوة والسيادة والقيادة والدفاع عن الدين الحق والحرية الحقة، وعن الإنسان في أجلى صوره وأفضل تجليات حياته.‏
      4- أن ما نملكه من إمكانيات ومواد أولية وطاقة بشرية وأموال وعقيدة وقيم روحية وخلقية وإيمان بالله وبالحق والمستقبل، كفيل بأن يؤكد حقيقة أن المستقبل لنا وليس لمن يحتل أرضنا ويحاول أن يشوه صورتنا ويغرس فينا الدونية ويجعلنا مللاً وأقواماً وجماعات تتقاتل لتضعُف ويذهب ريحُها.‏
      المهم ألا تنهزم منا الإرادة وألا تنهزم من الأعماق قبل المواجهة، وأن نعد للأمر عدته، وأن نعد أنفسنا الإعداد الملائم للتعامل مع تحديات العصر واستحقاقات الحياة.‏
      وإنني لواثق كل الثقة من انتصارنا في المستقبل.‏
      إن طريق المقاومة هي الطريق المضيئة، وإن حزب الله ببسالته وإيمانه أجبر إسرائيل، لأول مرة في تاريخها، على أن تعلن أنها ستنسحب من الجنوب اللبناني تنفيذاً للقرار 425 وهو القرار الأول الذي تعلن التزامها به، بعد عشرين سنة من صدوره، نتيجة المقاومة. وأنه لا بد من المضي في طريق العمل الثقافي لأن الجبهة الأسخن والأهم في القرن القادم هي الجبهة الثقافية، التي تصنع الوعي المعرفي، وتثبت المرء على الحق والمبدأ، وتقيم قوامه على الإيمان والعلم والحرية بمفهومها الحق، والتحرير بأدواته ووسائله وتضحياته وإشراقاته.‏
      ومن المفروغ منه أن لكل شيء ثمناً، وأن من يطلب أمراً بمثل أمر النهضة والتحرير ومقاومة قوى الطغيان والاستغلال في العالم واستعادة المكانة والدور الحضاري والمجد الذي كان، عليه أن يستعدَّ لدفع ثمن باهظ وتقديم تضحيات كبرى.‏

      تعبت في مرادها الأجسامُ‏


      وإذا كانت النفوس كباراً‏

      وأذكِّر هنا بقوله تعالى:‏
      "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"‏
      وبقوله جل من قائل:‏
      "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"‏
      وبقوله عز وجل:‏
      "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " و" أعدوا لهم ما استطعتم من قوة" ومن ذلك قوة المعرفة والعلم وصلابة الإيمان ووقد العرفان في الروح والقلب معاً.‏

      والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏

      طهران في 24/5/1998‏

      الأسبوع الأدبي/ع425//18/آب/1994‏
      * يمكن العودة إلى كتابنا : المثقف العربي والمتغيرات للوقوف على مزيد من التفصيل في هذا الأمر. وهو من منشورات اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق 1995‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        حــــوار مــــع جريدة الشرق الأوسط اللندنية :
        عرض علي مكتب جريدة الشرق الأوسط* أسئلة حول "فصل" الشاعر أدونيس من اتحاد الكتاب العرب وطلب إليَّ الإجابة عليها، وقبل أن أنظر فيها قلت له إذا كانت تنطوي على الاستفزاز فأنا لستُ ممن يرغبون في هذا النوع من الحوار، وكنتُ قد قرأتُ كلاماً ينطوي على كثير من الاستهتار بالمنطق والمغالاة وعلى ما لا يستهان به من الاتهام والاستفزاز في جريدة الحياة، وشرحت للمراسل وجهة نظري، وما جرى في المؤتمر وإبعاد الموضوع، وأبدى تفهماً ولكنه أصر على أن أطلع على الأسئلة، و حين قرأتها ازددت اقتناعاً بأنها أكثر من استفزاز، وربما قادتنا إلى مالا نرغب فيه من حوار، وبدا مقتنعاً بذلك وأخذ الأسئلة، واعتقدت أن الأمر قد انتهى. ولكنه عاد في اليوم التالي ليؤكد لي أنه لم يتغير شيء في الأسئلة، التي كان يرغب في تخليصها من الاستفزاز، وطلب أن أجيب عليها مؤكداً الرغبة في ذلك، بل الإصرار على الحصول مني على أجوبة.‏
        ووجدتني أمام أمر يصعب دفعه لأن القضية صارت موجهة للاتحاد الذي أتشرف برئاسته، وبالموضوع الذي اتخذ المؤتمر الذي رأسته قراراً فيه، وبرئيس الاتحاد الذي لا بد أن يواجه موضوعاً مطروحاً على المؤسسة، فقررت أن أخوض هذا المعترك على غير رغبة مني، نظراً لاعتبارات كثيرة ليس هنا مجال التفصيل فيها. وهاهي أسئلة جريدة الشرق الأوسط والأجوبة التي تسنى لي تقديمها في الظروف التي أشرت إليها، فإذا انطوت على شيء من الحدة والانفعال فلأن المناخ الذي وُضعتُ فيه حتّم عليّ أن يرشّح شيءٌ من ذلك في أجوبتي، وإذا وقع في كلامي ما يشي باستفزاز فإنني أعلن عن رغبتي الصادقة بمجاوزة ذلك إلى صدق الجواب المنبعث من صدق الحال، ولا أرمي إلى استفزاز أحد على الإطلاق؛ وإذا أستُشف من كلامي دفاع الحريص عن الموقف والتوجه، فهو ذاك، لا لاعتبارت شخصية ولكن للإيمان بدور المؤسسة التي أمثلها وبسلامة توجهها وبتكاليف اختيارها ذاك على كل مستوى وصعيد، ولاقتناع شخصي بذلك التوجه والدور، وبمسؤولية كبرى تلقي بثقلها على أهل الكلمة والرأي في هذه الظروف، ولشعوري بوجود شرائح من الكتاب والناس تنتظر فيما يشبه الحياد حتى تتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ثم تسلك المسلك الآمن من دون أن تتكلف عناء الاختيار وتبعاته. والله سبحانه أسأل سداد الرأي وسلامة الرؤية مستعيناً بقوله الكريم: "وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق، واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ".‏
        صدق الله العظيم.‏


        س 1-هل هناك قناعة كاملة بقرار فصل أدونيس من عضوية اتحاد الكتاب العرب؟‏
        ج 1 - نحن في اتحاد الكتاب العرب لا نمارس ديمقراطية شكلية، ولا ننضوي في مؤسسة لا نؤمن بأهدافها، وليست هناك ضرورة من أي نوع تجبر كاتباً على الانضمام للاتحاد مكرهاً، ولكل عضو في الاتحاد الحق الكامل في أن ينسحب من الاتحاد في أي وقت إذا شعر بأن أهداف الاتحاد أو ممارساته لا تلائمه؛ ومن الطبيعي أن يكون له الحق في أن يعبر عن رأيه بكل الحرية داخل المؤسسة وخارجها. كما أن لأي كاتب الحق في أن يبقى خارج المؤسسة من دون أن يرتب عليه بقاؤه خارجها أي حرّج أو عنت من أي نوع، وقرارات الهيئات التي يتكون منها الاتحاد وهي: المؤتمر العام- مجلس الاتحاد- المكتب التنفيذي، قرارات تحظى بالمصداقية والاحترام وتتخذ استناداً إلى مرسوم تأسيس الاتحاد ولوائحه الداخلية.‏
        كنا نتمنى ألا تضطرنا مواقف أدونيس أو سواه من أعضاء الاتحاد إلى اتخاذ أي قرار أو موقف له انعكاس سلبي على أحد لكنه يرمي إلى احترام أهداف المؤسسة وبنيتها وتوجهها. والقرار الذي اتخذ لا يتصل بالمحافظة علىهدف بسيط من أهدافها، ولا بهدف ضيق، مؤسساتي أو قطري، إنه يتصل بموقف تاريخي ومستمر من قضية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، ومن حقوق تاريخية للفلسطينيين والأمة العربية في فلسطين. إنه يتصل بموقف من المحتل، والقوة العنصرية الصهيونية، التي تمارس الإبادة ضد شعبنا وتحتل أرضنا، وتهدد أمننا.‏
        وانطلاقاً من ذلك كله فإن القرارات الرامية إلى التمسك بالحق والمبدأ والقيمة القومية والأخلاقية هي قرارات تبنى على الثوابت وتمليها قناعات أو تتكون حولها قناعات، وقد تشكل تلك القرارات جراحاً ونزيفاً وألماً ولكن المرء يضطر أحياناً إلى إجراء عملية جراحية خطيرة لينقذ نفسه ويؤمن حياته.‏
        س2 - هناك من قال إن أدونيس كمؤسسة ثقافية كاملة وله مريدون وأتباع في كل مكان وأكثر الشعراء غزارة في الإنتاج وليس من حق لأحد على الإطلاق أن ينصب نفسه قيماً على الموقف ولاوصياً على الأفكار، وأن يعطي لنفسه الحق في توزيع صكوك الوطنية على الآخرين؟ ماردكم على ذلك؟‏
        ج 2 -الأفراد - رغم الأهمية الكبرى لبعضهم- ليسوا مؤسسات بالمعنى القانوني والاجتماعي والمدني العام للمؤسسات، وليسوا بدلاء لها، إنهم جزء منها، أو قيمة فيها، أو عامل مهم في قيامها وبقائها وتطورها وانتشارها وأهميتها، ولكنهم لا يلغونها ولا يقزمونها ببقائهم خارجها أو بخروجهم عليها، إنها تبقى ويذهبون، وهي تخدم الكل وقد يخدمون أنفسهم. ولكن لماذا نقيم تعارضاً غير منطقي بين الفرد والمؤسسة، بين الجزء والكل، بين الخلية والجسم، لماذا لا نحافظ على الانسجام والتكامل الطبيعيين؟‏
        نحن في معظم أقطار الوطن العربي، نشكو مر الشكوى من ضعف مؤسسات المجتمع المدني، ومن تهميش المؤسسات جميعاً، ونرى أو يرى كثيرون من طلائعنا الفكرية، أننا نحتاج إلى إقامة تلك المؤسسات واحترامها لنبني أسس التقدم السليم، فلم هذه الهجمة على مؤسسة تحاول أن تحترم أنظمتها وأهدافها وتوجهها وسلامة بنيانها؟؟!‏
        إن المؤسسات الثقافية ذات أهداف عامة، ذات شمول قومي وإنساني، وهي تقدم خدماتها للأفراد والمجتمع والأمة والثقافة على حد سواء، وتتكامل جهود الأفراد فيها أو تتظافر لتقدم رؤية حضارية وخصوصية قومية وقيمة مبدئية وإبداعية.‏
        وفي مقدمة أهداف المؤسسات الثقافية: الدفاع عن الحق والمبدأ والشخصية والانتماء، وتوظيف الجهد والإمكانية لجلاء رؤية في حُلكة الليل، وضبابية الرؤى، والسعي لتكوين رؤية مبنية على حقائق التاريخ ومعطيات الواقع، واحتياجات الناس، وقيم العدل، ضمن استشراف للمستقبل لا ينسف معنى وجود الأمم وحقوقها وتمايزها، الذي يغني الحضارة الإنسانية.‏
        وكل مؤسسة ثقافية عربية، في كل قطر، وفي كل مرحلة زمنية، حلقة من حلقات الثقافة العربية المتصلة. والمثقفون /المبدعون والمفكرون/ جداول يتكوّن منها نهر الثقافة الذي يتواصل انسيابه في مسار ليصب به في خضم العطاء الإنساني الكبير.‏
        لم أسمع ولم أقرأ زعماً لأدونيس بأنه مؤسسة، ولا أنكر عليه أن يكون وأن له مريدين وأتباعاً وإنتاجاً غزيراً؛ ولم يتخذ اتحاد الكتاب العرب موقفاً سلبياً أو إيجابياً، من ذلك، ولا قال بوصاية على الأفكار والأشخاص والتوجهات، ولكنه قال بكل الوضوح والدقة والبساطة: إن هذه المواقف والأفكار والتوجهات المتصلة بالنظرة لإسرائيل والصهيونية والقوى العنصرية التي تحتل جزءاً من وطننا العربي، وتمارس اضطهاداً لشعبنا الفلسطيني، وتهديداً لأمننا ووجودنا، لا تنسجم وأهداف الاتحاد. ولأن الأعضاء يلتزمون بهذه الأهداف عندما يدخلون /مؤسستنا/ مختارين، ويعلنون أنهم يوافقون على الانضمام للمؤسسة التي تعمل لخدمة هذه الأهداف، ويوقعون على ذلك بحرية تامة، فإن خروجهم عليها يشكل خروجاً على المؤسسة، ويسبب زوال صفة العضوية.‏
        إننا، في اتحاد الكتاب العرب، لا نوزع صكوك وطنية ولا صكوك الغفران على الآخرين، ولا نضع أنفسنا لا فوق الناس ولا أوصياء عليهم. نحن بكل بساطة أصحاب موقف وانتماء وقضية عادلة، واخترنا أن يكون لإبداعنا طعم أرضنا ومعاناة شعبنا وكفاح أمتنا من أجل الحرية والتحرير، فلماذا يستكثر علينا دعاة /المؤسسات الفردية/ أو أصحابها أن نكون منسجمين من أنفسنا مخلصين لاختياراتنا مجتهدين على طريقتنا في الاجتهاد؟؟ هل لأنهم الأعرف والأكثر عصرية وحضارية؟! إننا لا ننكر عليهم ادعاء من أي نوع، ولكننا نزعم أن لنا الحق في أن نستنكر إرهابهم لنا، ذلك الذي يرمي إلى أن نغيِّر مواقعنا ومواقفنا أو لا نعبر عن تلك المواقف بوضوح.‏
        إننا لا نوزع صكوك الوطنية على أحد ولا ننزع صفة الوطنية عن أحد، ولا نهدد أحداً بشيء، ولكن ألا ترون أنكم بطريقة مداورة تخضعوننا لنوع من التهديد إذا عبرنا في وطننا عن نوع من الرؤية للوطنية؟!‏
        أيها السائلون باستنكار لماذا تصبحون حراب العدو في قلوبنا وتستكثرون علينا أن نصرخ وأن نرفض دعاوى الاعتراف به وتطبيع العلاقات معه، وترون في فعلنا ذلك نكوصاً حضارياً وتخلفاً، في حين لا ترون في احتلاله للجولان وجنوب لبنان وفلسطين عدواناً علينا واستعماراً لنا، وقهراً لأرواحنا وأجيالنا‍؟ ما الذي يبقى من مفهوم الوطن والوطنية عندما لا يعنينا احتلال الأرض وتشريد الشعب وإبادة الأبرياء؟ ماذا يبقى من الإنسانية والثقافة والحضارة حينما نسكت عن إسرائيل النووية، واستيطانها المتنامي، وعدوانيتها العنصرية المستمرة؟.‏
        إننا لا نطالب المؤسسات الأفراد، أو الأفراد المؤسسات، بمواقف نابعة من "ضيق أفق قومي"... يقول بأن بلاد الشام لأهلها، وسورية الطبيعية للسوريين، وأرض العرب للعرب، وفلسطين لأهلها وليست للذين يتجمعون فيها من أنحاء الأرض ويقيمون فيها بقوة القهر؛ إننا نطالب بموقف نابع من معطيات المثقف الإنسان المؤمن بالعدل والحق والقيم الأخلاقية والإنسانية. هل يقر مبدأ احتلال أرض الغير بالقوة، وتشريدهم، وإبادتهم حتى لا يطالبوا بأرضهم؟ هل يجيز الممارسات العنصرية لأنها تأتي من معسكر الأقوياء ويرفض حق الضعفاء ومعاناتهم الإنسانية لأنهم ليسوا أقوياء بما فيه الكفاية لسحق الآخرين والعدوان عليهم؟ إذا كان ذلك كذلك.. فهي قيم ومبادئ ورؤى: وطنية وإنسانية وأخلاقية جديدة لا بد لنا من وقت لابتلاعها واستساغتها وتسويغها، فاعذرونا إلى أن يأتي ذلك الوقت، إن هو أتى؟!‏
        س3 - كيف يمكن التفريق بين رفض التطبيع الثقافي وبين الإرهاب الفكري الذي أعلنه بعض الصحفيين والكتاب العرب بسبب فصل أدونيس؟ هل يمكن شرح القضية؟‏
        ج3- إن كمّاً من الاستفزاز والمغالطة والتجني يكمن في طيات هذا السؤال لأنه يعمد إلى خلط الحق بالباطل على نحو يلوث الحق ويعلي شأن الباطل.‏
        إننا حين نرفض التطبيع مع العدو الصهيوني -ونصرُّ على استخدام هذا التعبير على الرغم من كل المتغيرات والاتفاقيات والمفاوضات والإغراءات والاستفزازات ـ إنما نعبر عن رأينا وموقفنا ونحدد اختيارنا، ولا نلزم الآخرين بذلك، ولا نمارس إرهاباً عليهم، فنحن لا نطلب منهم أن يكونوا منا بل نطالب بأن يتمايزوا عنا، لأنهم اختاروا اختيارهم واخترنا نحن اختيارنا، ونرى أن ملاحقتنا على هذا النحو بتهمة الإرهاب الفكري هي الإرهاب الفكري الحق بعينه؛ وهذا الذي يمارَس ضدنا درس مستقى من المدرسة الصهيونية، التي دأبت على تقديم من يقاوم احتلالها لأرضه وإبادتها لشعبه على أنه مخرب وإرهابي. وتصوير من يقاوم القهر، بعد أن سرقت وطنه، على أنه عدو للسلام. وإعلان من يستخدم الوعي المعرفي لصيانة حقه التاريخي وتجديد ذاكرة شعبه، خائناً للمعرفة، خارجاً على أهدافها، قابعاً في خنادق تخلفها؟!...‏
        ومن عجب في هذا المجال رقص بعض العرب على نغم الطرب الغربي -الصهيوني، أو الصهيوني الغربي، الذي يرى فينا متخلفين إذا لم يعجبنا نغمه، ولم نخضع لمشاريعه وقيمه، ولم نتبع ثقافته بعد أن نمحو خصوصيتنا ومقومات ثقافتنا؟؟..‏
        نحن حين نرفض تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني نرفض في آن معاً:‏
        - الاختيارات السياسية العربية تجاه إسرائيل وما نتج وينتج عنها، مدركين تماماً للظروف والمتغيرات التي فرضتها. مختارين أن نتوجه من موقعنا الثقافي نحو المستقبل لنبقي الأبواب مفتوحة أمام الأجيال العربية لتمارس حقها في خيارات التحرير، جاعلين من نشاطنا الثقافي والإبداعي حصناً ومشعلاً في آن معاً.‏
        لهذه الأسباب فصلنا أدونيس:‏
        - الاعتراف بأن "لإسرائيل، الحق في أن تصبح -بقوة القهر- جزءاً من النسيج الجغرافي والتاريخي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني للمنطقة العربية، التي تحمل هويتنا، ولا نقبل أن تسمى "الشرق الأوسط" ليكون لإسرائيل مكان فيها، بل نتمسك بأنها الوطن العربي -وبلاد الشام- وسورية الطبيعية- وفلسطين العربية، على تسلسل يضيق الدارات والتسميات.‏
        - نرفض تبعية الثقافة للسياسة، ومن ثم انبثاق الموقف الثقافي من الموقف السياسي أو القرار السياسي؛ لأنّنا بكل الإيجاز والبساطة لسنا مكرَهين على أن نلعب لعبة السياسي التي يكون المقام الأول فيها للمصلحة وتحولاتها وتلوناتها، بينما المقام الأول في الثقافي- باعتقادنا- هو للمبدئي والأخلاقي بهوامشهما وأبعادهما التاريخية والإنسانية والقيمية.‏
        ولذلك فإننا لا نرى مبرراً لأن نقوم بدور المسوغ لاختيارات سياسية عربية أتت تحت وطأة الضعف والإحباط والقهر، ونحن من يُفترَض فينا أن نزرع الأمل ونتجاوز الإحباط والضعف لنقاوم القهر وكل ما ينتج عنه ويقام في ظله.‏
        ولأننا أيضاً لا نرى ما يبرر سيرنا على هذه الطريق واختيارنا لهذا النوع من الاختيار، إلا إذا استسلمنا لمنطق "واقعية انهزامية"، يُراد لنا أن نرضى بها أو لا نرى بصيص أمل خارج نطاقها؛ وهي نزَّاعة للثقة منا، قطّاعة لكل جسور الاتصال التي تربط أجزاء أمتنا، أو أشلاءها، بعضها ببعض، وتربط حاضر الأمة بماضيها. وهذه القطيعة مع الثقة بالذات، ومع الذات، هي التي يتم التركيز على إحداثها في نفوسنا وتركيزها في وعينا، لأنه -كما يقال- منها نبدأ لنكون "حضاريين أو عصريين"!؟‏
        بينما نرى أنه منها نبدأ مسيرة اللا عودة في طرق الضياع والغربة والانحطاط في ظل الدولة القطرية المتجذِّرِة، التي أصبحت صيغة اعتراضية على القومية، وفي ظل الطغيانية المستشرية، والقطعانية المفروضة المرفوضة في آنٍ معاً.‏
        - إننا حين نختار أن نرفض التطبيع الثقافي مع العدو ونحن في أوطاننا ومواقعنا، فإنما نختار ما يعرضنا للغضب ولاعتراضات السياسات التي تسير في هذه المسارات؛ ونحن نرضى أن نتحمل مسؤولية الكلمة والموقف وندفع ثمن ذلك. فلماذا يصادر حقنا في ممارسة الحرية والاختيار، ونتهَم حين نختار ذلك بالإرهاب ممن يستطيعون التفريق بين المقاومة المشروعة والإرهاب؟..‏
        - إننا نرى في هذا التوجه لرفض التطبيع عملاً منسجماً مع الميثاق الذي أقره الأدباء والكتاب العرب في عمان 1992، ومساراً يلتقي مع مسارات أخرى تتكامل لتشكيل جبهة ثقافية تحرر ساحتها من أشكال التبعية جميعاً؛ وتفرض احترامها وحضورها في ساحة القرار، وتستعيد مصداقية الكلمة، وتقفل سوق الكلام العربي المفتوح الذي تموله السياسات المشبوهة والأموال الملوَّثة. وتعمل على مقاومة الاحتلال انطلاقاً من تكوين الإنسان على أرضية العلم والإيمان والعمل، والتخلص من الطغيانية بأشكالها، وبناء المؤسسات المدنية القوية، واحترام الحقوق والحريات العامة وفي مقدمتها حرية التعبير وحق الآخر في الاختلاف تحت سقف: الوطن والمواطنية الحقة والانتماء، فلا وطنية في عرفنا على حساب الوطن، ولا ثقافة خارج خصوصيات الانتماء المشرَعة على الأفق الإنساني، مع احتفاظها بلونها وطعمها؛ وولادة الكلمة من الشهادة وفيها، وتوشُّح الشهادة بنار الكلمة ونورها.‏
        - نحن لانصادر وطنية أحد حين نمارس حقنا في الدفاع عن وطننا وفي الدفاع ضد محتل أرضنا. والتطبيع ينطوي على اعتراف بالعدو وبحق تاريخي له في أرضنا، وليس هو صيغة حضارية، ولا قدرة إبداعية، ولا نصوص تحرّر الأرض من نصوص، أو من لصوص بنصوص.‍‏
        التطبيع مع العدو الصهيوني تكريس لاعتراف من شقين:‏
        - اعتراف بدولة إسرائيل على أرض فلسطين.‏
        - واعتراف بهزيمة العرب التاريخية والشاملة في هذا المجال.‏
        وهذا النوع من الاعتراف لم نتوصل إليه بعد، نحن الرافضين للتطبيع، ولا نريد أن يستقر في أرضنا ونفوسنا وثقافتنا؛ لأننا بكل بساطة نريد أن نمارس حقنا المشروع في اتخاذ الحلم بالحرية والتحرير مدخلاً لتغيير الواقع الأسود الكريه، فلماذا تصادرون أحلامنا وتضيقون علينا فسحة الأمل، وتريدون أن تفرضوا علينا "واقعية انهزامية" باسم العقلانية والحضارية، وتلاحقوننا بإرهاب يدعي أنه ينطلق من مقاومة "الإرهاب"؟؟ قولوا لنا لماذا يسقط حقنا التاريخي في وطننا، وينتصب حقكم في الدفاع عمن احتل ذلك الوطن وأخرجنا منه بقوة القهر؟! قولوا لنا كيف يتم ذلك وتبقى مفاهيم الوطنية رغم ذلك التباين هي ذاتها؟ لا يوجد تعريف للوطنية أضيق من الإخلاص للوطن، ولا يكون الإخلاص له بالتنازل عنه أو عن بعضه مادياً، وعن كيانه المعنوي وكرامته وحقه التاريخي معنوياً. لقد ذهب بعض "النشطاء" إلى الجمع بين فصل أدونيس وطعن نجيب محفوظ وقتل فرج فوده تحت تسمية "الإرهاب"، وهاهو السؤال الاستفزازي يحاول أن يصبغنا بصبغة الإرهاب الفكري"، ونريد أن نعرف بحق المنطق والفكر العلمي، والممارسة الديمقراطية النقية، والفهم الحضاري الرفيع للحرية الفكرية، أين هو المشترك بين فصل أدونيس والعدوان الجسدي بهدف القتل على الآخرين؟؟‏
        إن أدونيس يختار غير ما اخترنا، وقد أعلنا عن اختلاف اختياراتنا، وهذا تعبير عن واقع فعلي موضوعي، صدر بقرار ديمقراطي عن أهل رأي وأبناء دار ثقافة وإبداع، يهمهم الحفاظ على مُناخ الرأي وحرية الإبداع، ويهمهم أن يحافظوا على مبدئية يرونها، وينذرون أنفسهم لها، وعلى ألا تمارَس عليهم غوغائية ليتراجعوا عن مبدئيتهم.‏
        إنهم لم يهددوا حرية أحد، ولا هم ضيقوا على أحد في عيشة أو أمنه أو هددوا حياته، في حين أن اختيارات الآخرين التي تناصر العدو المحتل تشكل إقراراً له على ماهو فيه، والرضا عنه على النحو الذي هو عليه، والقبول باستقرار عدوانه واستمرار ذلك العدوان؛ وهذا يشكل، عند الاستنتاج، تواطؤاً مع العدوان، وهو أمر مرفوض من الغرباء فكيف يُقبل من الأقرباء وأبناء التراب الوطني والتربة الثقافية الواحدة؟!‏
        ومع ذلك لم يقل أحد شيئاً يمس الرجل، ودافع عنه من دافع عنه، واتُّخِذ قرار بإزالة صفة العضوية عنه، وهذا أمر لا يلحق معاناة أو ضغطاً أو إرهاباً بأدونيس ولا يضيق عليه في انطلاقته من باريس حيث يقيم ويعمل.‏
        الحق أقول: إن الإرهاب الفكري الحق يمارس على كثير منا، ممن يريدون محو شخصياتنا وخصوصياتنا واختياراتنا وتشويه صورنا ومفاهيمنا، وهم من لحمنا ودمنا، ويمارسون في أعلامنا وصاية علينا، وفوقية تزري بوصاية الحكَّام وفوقية بعضهم. إن من يتهموننا بالإرهاب الفكري ويجعلون الفرد أكبر من المؤسسة، إنما يناصرون الدكتاتورية والإرهاب، قصدوا ذلك أم لم يقصدوه...‏
        فمن يقول بأن الفرد أكبر من المؤسسة التي يكوِّنها مبدعون وكتاب من قماش ثوبه ذاته، إنما يذهبون في نهاية الاستنتاج إلى القول ببطلان الحاجة إلى مؤسسات المجتمع المدني أو بنقص بنيانها، إذ الطريق مفتوحة أمام الفرد للخروج عليها والإزراء بها، ولا أقول الخروج منها؛ وهم يبررون -استنتاجاً- ديكتاتورية الحكام العرب التي "يشكون" منها ويدينونها؛ لأن من حق أولئك الحكام -عملاً بهذا المذهب من مذاهب التفكير والتدبير والتعبير- أن يقولوا: "إنهم أكبر من مؤسسات المجتمع المدني كلها "من المجالس" شعب -أمة- نيابي-شورى.... الخ"، إلى النقابات والتنظيمات وسواها. ولأنهم كذلك فكل ما تقوم به تلك المؤسسات لهم الحق في نقضه حسب الهوى والخاطر، ولهم الحق من ثم في تركيب مؤسسات يرون في تركيبها على هذا النحو أو ذاك، تحقيقاً للمصلحة العامة، كما يرون هم المصلحة العامة من موقعهم كأفراد أكبر من كل المؤسسات والتنظيمات والقوانين والشرائع والتشريعات؟؟ فكيف تنسجم هذه الدعوة مع الدعوة للديمقراطية، واحترام حقوق الغير، وترتيب واجبات وحقوق متساوية على المواطنين، مع الاحتفاظ بتمايزهم في حقول إبداعهم واجتهادهم ومهاراتهم؟!؟‏
        إن مؤتمر اتحاد الكتاب العرب لم يقوّم أدونيس الشاعر، ولم يتخذ موقفاً من إبداعه، وإنما ناقش وضعه وموقفه بوصفه عضواً وتترتب عليه واجبات فرضها القانون على الأعضاء -الكتاب- بوصفهم أعضاء في مؤسسة يحكمها قانون ساهموا هم في وضعه، ووافق كل منهم على الإلتزام به طوعاً؛ فأين هو الإرهاب الفكري في تطبيق القانون وفي ممارسة المثقفين للديمقراطية في مؤسستهم خارج نطاق أي تسلط أو إيحاء سلطوي؟؟.‏
        - إذا أخذنا- على محمل الجد- القول بوجود إيحاءات وممارسات الحزب الواحد، والنهج الستاليني، وإيحاءات السلطة، فإن المنطق في هذا المجال يقول: إن دولة تفاوض إسرائيل لتقيم معها سلاماً ينطوي على اعتراف بها، إذا ما انسحبت من أرضها المحتلة، لا يمكن أن تسمح بتوجه أو تصرف يقوم على مبدئية رفض الاعتراف بإسرائيل ورفض تطبيع العلاقات معها‍؟ ومن الطبيعي ألا توحي بذلك لأنها تضع "الدب في كرمها" ولا مصلحة لها في ذلك.‏
        فكيف تعمد إلى مثل هذا؟؟‏
        وعلى فرض أنها تريد أن تتبنى ذلك التوجه، وأن توافق عليه فما الذي يضير بعض العرب في أن ترفض دولة أو أن يرفض مثقفون توجهاً للاعتراف بمن يحتل أرضهم ويدعو إلى تطبيع العلاقات معه، قبل أن ينسحب من الأرض التي يحتلها، ومن دون أن يتوقف عن ممارسة العدوان اليومي على أرضهم وشعبهم، /جنوب لبنان والانتفاضة في فلسطين/؟ إن المدهشات والمستغرَبات كثيرة إلى الحد الذي أخذ يتلاشى معه الاستغراب والدهشة.‏
        س4- هل يمكن العودة عن قرار الفصل الذي اعتبره أكثر الصحفيين والأدباء إنه سابقة خطيرة تجعل مما أسموه وأطلقوا عليه الإرهاب الفكري والمصادرة على الرأي سياسة ثقافية رسمية توحي بممارسة بعض الكتاب الذين يدعون إلى حرية الفكر ويمارسون عكسها دون إدراك ذلك؟‏
        ج4 - لا أحب الادعاء بالعصموية والتقرير باسم الأكثرية، لمجرد أن شخصاً أو أشخاصاً في منبر صحفي قرروا ذلك. فليس هذا هو الأسلوب الموضوعي الذي يقود إلى الحقائق أو إلى الاقتراب منها، إنه أسلوب يرسخ حقائق الإعلام التي ليست هي بالضرورة الحقائق؛ بل إننا نشكو من عصر تسود فيه حقائق الإعلام وتتضخم، وتضمر فيه الحقائق أو تغيَّب. وقد ناقشت ذلك في الإجابة على تهمة الإرهاب الفكري وأرى المنبر الكريم أو السائل الكريم ينتقل في هذا السؤال ليقرر "باسم الأكثرية" أن هذا إرهاب، وأن الأكثرية استنكرته، وإنه مصادرة، وأنه توجه "ثقافة رسمية توحي بممارسة بعض الذين يدعون إلى حرية الفكر ويمارسون عكسها دون إدراك ذلك"..‏
        هذا السؤال لا ينطوي على استفسار، أو على استفهام استنكاري، أو على استفزاز، وإنما يذهب إلى التقرير وينطلق بعد ذلك إلى الاتهام الأدهى بتجريد كتاب من الرأي والرؤية والموقف وتحويلهم إلى دمى هكذا باسم "الملكة الصحافة" صاحبة العصمة؛ وأرى ألا عصمة في المطلق،لا سيما بعدانهيار ادعاءات العصمويين الجدد وحتمياتهم. إن هذا الموقف موقف مسبق بعيد عن الصواب وربما عن النزاهة، ولاينطوي على احترام للآخرين. وهذا أمر اعتدناه من صحافتنا العربية المعاصرة، القارة والمهاجرة؛ فكل جديد يأتي يمسح الآخرين وتاريخَهم لتظهر اللبنة التي يريد أن يبنيها في الفراغ.‏
        المهم الآن هو الوقوف عند بعض هذه الاستفزازات التي تتعرّى حتى من ثوب الاستفسارات، متذرعة بالدفاع عن الحرية وهي تنهي حرية الآخرين وتصادرهم هم لا رأيهم فقط.‏
        أولاً: لا نوافق على أن ما قام به مؤتمر اتحاد الكتاب العرب هو إرهاب فكري، ونرى أن السعي إلى فرض موقف وسياسة ورأي، تستمد من سياسة الأمر الواقع والهيمنة والتركيع التي تمارسها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها وأنصارها بدافع من الصهيونية ومن تيار الصهيونية الذي يمتد ويشتد ويمارس عنصرية مكشوفة على العرب، بوصفهم قومية وعقيدة وخصوصية حضارية، هو الإرهاب الفكري بعينه؛ ونحن اليوم ضحاياه كما كنا ولم نزل ضحايا العدوان الصهيوني الذي يدأب على تصويرنا، بأننا نرهِبه ونهدده بالإبادة بينما يستمر هو فعلياً بإبادتنا.‏
        ثانياً: : لا ينطوي ما قام به مؤتمرنا على مصادرة من أي نوع، ولكنه رفض أن يصادرنا الآخرون؛ ورمى إلى أن يكون هناك وضوح في الرؤية والموقف والتوجه ليدافع كل منا عن اختياره بحرية، ولتبقى لبيتنا هويته التي نعتز بها. فنحن ضد الاحتلال والتطبيع ومع الأهداف التي استشهد من أجلها الكثيرون من أبناء أمتنا، ولم يكن أولئك أغبياء، كما أننا لسنا مجردين من المبدئية والوفاء.‏
        ثالثاً: لا توجد في بلدنا، الذي نعتز بمواقفه، (سياسة رسمية) ترمي إلى مسخ الثقافة وتشويه المثقفين، ولا يوجد سوق كلام نفتحه لنغري به ونشتري ونبيع في السوق، التي أفسدت المواقف والثقافة والأحكام، ولوَّثت القيم والمفاهيم.‏
        وننظر إلى هذا الكلام على أنه مصادرة في صيغة تهمة، وادعاء باطلاً من قبل أن يقول كلمة حق يريد بها باطلاً.‏
        إن خيارات الكتاب في سورية ليست خيارات مملاة عليهم، ولا هي توجيه رسمي أو قرار سياسي يترجم ثقافياً، إنها خيارات منتمين إلى أمتهم، مؤمنين بقضيتهم، يرفضون أن يصبح الخضوع ثقافة وتقدماً وحضارة، ويرفضون أن تملى عليهم مواقف لا يؤمنون بها ولا يحترمونها تحت وطأة دعاة "الحضارية" و"الشرق أوسطية".‏
        إذا كان الذي يطلق علينا مثل هذا الاتهام سورياً فليعلم أنه لا يعنينا على الإطلاق أن تلتقي مواقفُنا مع مواقف السياسة السورية، حين نرفض الاحتلال الصهيوني للجولان ونتمسك بالحق، أو ببعض الحق، العربي في فلسطين، وبحق الفلسطينيين المشردين في وطنهم؛ وحين ندعو إلى تضامن عربي يكرهه الغربيون ويحاربه الصهاينة، ولا يريده عرب خرجوا عن جلد أمتهم ليحتموا بجلد غريب ففقدوا المشيتين. وليعلم أيضاً أن الجولان محتل وأنه لا وطنية على حساب الوطن.‏
        وإذا كان الذي يطلق علينا ذلك الاتهام عربياً فليعلم جيداً أننا مهما قيل عنا أو فينا، فلن نتنازل عن تمسكنا بالدعوة لوحدة الأمة لأننا نؤمن أنه لا يوجد خلاص قطري على الإطلاق في عصر التكتلات الكبيرة و التقدم الهائل للعلم والتقانة. ولم نقتنع بأن تلك الدعوة سقطت، ولكننا أدركنا جيداً كم هو متغلغل في الأعماق من نفوس بعض أبناء أمتنا نفوذ الغرب، والاستشراق الاستعماري المريض، وحضور من يسوطون فكرنا ووجداننا بسياط الدونية ليزرعوا فينا الإقرار بأننا لن نخرج من دائرة التخلف لأننا "خُلقنا" من طينة متخلفة ولأننا نؤمن بعقيدة لا تُنتج إلا التخلف(؟!‏
        إننا نعرف هدف المحاربين على تلك الجبهة ونرفض أن نستسلم أو أن ننهزم أو أن يعشِّش فينا الإحباط ويفتك بنا انعدام الثقة بالذات وبالمستقبل. أما إذا كان ذاك الذي يتهم هو عدو وجد ثوب قريب فلبسه وتقدم إلينا فيه، حريصاً، ولا كل حريص، فليطمئن إلى أننا ندرك أن العدو سيبقى عدواً، لا سيما في حالة إسرائيل التي ليس لها حق جوار ليزول بيننا وبينها العداء، وليس ما بيننا وبينها أمر طارئ لتعود من بعد ذلك الأمور إلى طبيعتها؛ إذ الطبيعي في هذه الحالة ألا تكون إسرائيل، والتطبيع عندنا يعني، إن تعود المنطقة إلى أهلها وتاريخها وحقائق الحياة فيها. وليعلم ذاك جيداً أننا ندرك أن العدو قد يتنكر بثوب صديق أو قريب، وأنه من حقنا أن نجتهد لنزيل الأقنعة ولنهتك ما يحجب عنا سلامة الرؤية ودقة التمييز.‏
        إن السياسة الرسمية في سورية، مادامت ترفض الاحتلال، وتعمل على فضح العدو الإسرائيلي وممارساته وتوجهاته ومخططاته، وتدعو إلى التضامن العربي، وترفض الاستسلام لمطالب إسرائيل التوسعية والعدوانية؛ ستلقى من المثقفين في سورية تفهماً ودعماً لأن قناعاتها تلك هي قناعاتهم، وخياراتها تلك هي خياراتهم، ولا يعيبهم أو يضيرهم في شيء أن يكونوا مع وطنهم ومع السياسة الوطنية التي ينتهجها.‏
        ومن ثم من يأخذ علينا أن نكون مع وطننا في اختياراته ونحن الذين نعيش فيه ونكتوي بناره، ونتحمل مسؤولية مواقفنا وآرائنا وكلماتنا فيه، وندفع ثمن ذلك بكل الأشكال، وعلى هوانا، من دون أن نتخلص منه لأننا لا نطيق الغربة ولا نريدها، ولأننا نحب أن نستشعر معاني شروق شمسه وغروبها كل يوم!؟!.‏
        ماهو المأخذ الخُلُقي الثقافي والمعرفي على مثقف لا يهرب من ساحة المواجهة في وطنه، ويختار أن يكون خلاصه في خلاص شعبه، ولكنه لا يملك أن يغير بلمسة سحرية كل ما يريد أن يغيره في الوطن؟ ماهو العيب في أننا نعيش ظروفنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ونستخلص من ذلك سياسة ثقافية تخدمنا أو تحقق ما نراه مفيداً لشعبنا وممكن التحقّق حسب معطياتنا وإمكاناتنا؟ ونرفض مع ذلك الاستكانة لظروف ومعطيات لا نرضاها، ويبقى لنا على هامش ذلك تطلع وطموح وحلم وشيء نناضل من أجله بالكلمة والعمل والموقف؟‏
        إننا بكل التأكيد، نعتز بانتمائنا لأمتنا ولا نجرد أحداً، من هذا الاعتزاز إذا أراد أن يجهر به أو أن يبطنه لظروف واعتبارات يراها، وإننا بكل تأكيد نقاوم بطريقتنا وحسب إمكاناتنا، كل ما لا نرضاه لأنفسنا ولوطننا ولأمتنا؛ وحين يتم اعتراف عربي شامل بإسرائيل، وتطبيع عربي كامل معها، فإننا سنرفض أن نسير في تلك الزَّفة، وسنبقى مخلصين لأهداف الشهداء. سيقول لنا قائل: الميت يحكم الحي وينبغي إلا يحكمه، ولكننا نجيب بأن ذلك الميت قضى وفاء لاختياراتنا ونحن أوفياء له ولتلك الاختيارات التي دفعناه إلى الموت من أجلها؛ لسنا الجبناء ولسنا العاطفيين التعساء، ولكننا أصحاب رؤية متعبة، وأصحاب تطلعات واختيارات وأحلام، فاصبروا علينا أيها الكبار ولا تستعجلوا موت أحلامنا فتقتلوننا بذلك مرتين ونحن أحياء لما نزل، مرة بالتخلي عنا، وأخرى تقتلنا بقتل كل ما نتطلع إلى العيش من أجله، وهو معنى الحياة بكرامة. لسنا أيها الكبار طلاب حرب، ونعرف ويلاتها جيداً، ولكننا طلاب وطن وحق وكرامة ووجود يختلف جوهرياً عن وجود دواب الأرض وهوامها، وجود يليق بالإنسان، فهل تستنكرون ذلك وتنكرونه علينا؟!‏
        بقي أن أقول في ختام الجواب على هذا السؤال: إنها لكبيرة تهمة النفاق وتهمة الجهل، وواحدة منهما أو كلتاهما ينطوي عليه المقطع الأخير من السؤال "الجليل". ولا نعرف أبداً بأي حق، واستناداً إلى أية معطيات، وتقديراً لأية مؤسسات، وتحقيقاً لأية غايات، تثار زوابع الكلام هذه في وجوهنا وتنتثر أمام أبصارنا وبصائرنا؟!؟ هل لتحول دون أن نختار ونرى ونفكر؟ هل لتسهل على مشروع رابين وبيريس وسائر الصهانية أن يمر؟ هل لتضمن مصالح أمريكا من خلال سيطرة تامة لها ولحلفائها وأتباعها والمعجبين بها على المنطقة وأهلها وساساتها ومفكريها وعمالها وفلاحيها؟؟ إن ذلك قد يحدث ولكنه لن يبقى، وإن ذلك قد يطول ولكنه حتماً سيزول. وعندها تشرق الشمس وتتضح الرؤى أكثر فأكثر.‏
        وبعد، فإننا نتمنى على أولئك الذين يرون أننا "لا ندرك" ويريدون لنا أن نتعلم وندرك، نتمنى عليهم ألا ينفِّرونا من مدرستهم ودروسهم بالاتهام ولذع السياط، لأنهم إذا أرادوا إنقاذنا فعليهم أن يحرصوا على إيصالنا إلى الوعي الفعلي بالخطر الذي يتهددنا وبكيفية الخروج منه، مع الحفاظ على شيء من الكرامة، يعيش بها ومن أجلها الإنسان؛ ولا يتم ذلك بالاتهام والتعنيف والاستعلاء؟!!‏
        في الختام أجيب على أول نقطة في هذا السؤال: إن العودة عن القرار أمر غير وارد، ولكن إعادة الانتماء، والانتساب، أمر مفتوح على مصراعيه مع الالتزام بأهداف الاتحاد، وميثاق المثقفين العرب. وهذا هو نص القانون الذي يحكم مؤسستنا المتواضعة جداً: اتحاد الكتاب العرب، ونحن نفضل أن تحكم المؤسسات روح جماعية وأنظمة وأهداف وانتماءات واضحة.‏
        س 5- هل يعني هذا القرار أنه أصبح قانوناً لاتحاد الكتاب العرب يمكن أن يطبق على الكتاب والشعراء فيما لو اتخذوا خطاً فكرياً معيناً يتناقض مع المسؤولين عن قرارات الاتحاد.‏
        ج 5- هذا السؤال أكثر بؤساً من سابقه، وينطوي على فهم غريب وعجيب للمؤسسة، فضلاً عن كونه ينطوي على معلومات ومواقف مسبقة اعتدنا على سماعها من فصائل من الأيديولوجيين والصحفيين، وبين يدي الإجابة على هذا السؤال الذي ينطوي على حكم ومصادرة نقول:‏
        - إن هذا القرار لن يصبح قانوناً لأنه بكل بساطة تنفيذ للقانون الموضوع القائم، وتطبيق لأحكامه.‏
        - إن قوانين المؤسسة وأنظمتها وقرارات مؤتمراتها سوف تطبق، ولا يوجد ما يحول دون تعديل هذه القوانين والأنظمة إذا ما قرر الكتاب ذلك، وأخذت قراراتهم الصبغة التشريعية، إذ هم جزء من كيان الدولة.‏
        - إن من يتخذون خطاً فكرياً معيناً يتناقض مع المسؤولين عن قرارات الاتحاد لا يفصلون ولا يعاقبون ولا يضيَّق عليهم، فتلك أوهام وأباطيل، وأفعال من صنع الذين يشوهون الكثير مما هو حقيقي وجميل وصحيح في حياتنا.‏
        واتحاد الكتاب العرب فيه كتاب وشعراء من جميع الاتجاهات، ويوجد كثيرون منهم يتناقض مخططهم الفكري مع المسؤولين عن قرارات الاتحاد وفيه، ويوجد كثيرون لهم آراء مختلفة ومواقف مختلفة وخط فكري مختلف، لكن ليس إلى درجة مباركة العدو والاعتراف به؛ ولا يبرر اختلافُهم في الرأي أو تناقضهم في الخط الفكري مع المسؤولين أن يفصلوا من الاتحاد، ماداموا يلتزمون بأهداف الاتحاد؛ وأهداف الاتحاد تلك نص عليها القانون بكل وضوح وليست موضع اجتهاد أي مسؤول، لأنه لا اجتهاد في موضع النص. ويفصل من يفصل حين يخرج على أهداف المؤسسة وليس حين يختلف مع المسؤول عنها، أو يتناقض معه في الخط الفكري.‏
        وأريد هنا أن أذيع سراً أكتمه منذ سنوات وأتعرض لأذاه، وهو أنني أقضي محكومية دائمة في وسائل الإعلام السورية يصدرها علي وينفِّذها بحقي بعض سدنة الأيديولوجيا، والصحافيون المبتدئون الذين ينتمون إلى "ميليشات" ثقافية و"قبائل" إبداعية، ومن يدعون أنهم معارضة ويتعرضون للاضطهاد، وهم المدللون والسادة والذين، رغم زعمهم بأنهم يتعرضون للاضطهاد، لم يعرفوا وجه محقق في تاريخهم، وأن جل أولئك أعضاء في اتحاد الكتاب العرب ولم يفصلهم المسؤولون عن القرارات في الاتحاد.‏
        إنها لكبيرة كلمة آثمة تريد أن تتلفَّع بالبراءة، وتشهر "سيف الحق" لتدافع عن "العدل" ولكن.. ولكن.. تبقى المرارة أكبر من الحلق الذي تعشش فيه، ويبقى ما يعرف أكبر من كل ما يمكن أن يُقال.‏
        س 6 - ماهو موقفكم من الذين سيقفون إلى جانب قضية أدونيس ويرفضون هذا الإجراء؟‏
        ج6- "قضية أدونيس" كما يسميها السؤال ليست قضية شخصية، وقد وقف كتاب في المؤتمر ضد فصله، ولم يكن هناك مبرر على الإطلاق لأن يُتخّذ بحق أي منهم أي إجراء، إنهم أكدوا بكل الوضوح، وبناء على طلبهم ومن دون سؤال وجه لأي منهم، أنهم ضد التطبيع ومع التريث للتثبت مما أسموه تهمة لأدونيس؛ ولما كان اجتهاد المؤتمر أن موقف الكاتب المعلن والمنشور لا يحتمل ظلال أن يكون تهمة وإنما هو اختيار، فقد اتخذ القرار؛ الذي سيُتَّخَذ بحق كل من يخرج على أهداف الاتحاد المعلنة والمحددة في المرسوم التشريعي ولوائح الاتحاد وميثاق المثقفين العرب.‏
        نحن نقاوم التطبيع مع عدو يحتل أرضنا، ولا نقاوم حرية الرأي في وطننا، وإذا قيل إن التطبيع اختيار يعبر عن حرية رأي، أو رأي يعبر عنه بأنواع الاختيارات؛ فإننا نقول بكل الوضوح: نحن نرحب بهذا النوع من الفرز، ونطبق أنظمة تحكم مؤسسة وتحميها، وحين نعبر عن رأينا وندحض الرأي الذي نختلف معه مستعملين الحجة والمنطق فإننا لا نتجنى ولا نصادر ولا نرهِب وإنما نمارس حقنا المشروع في التعبير والدفاع عن الرأي، ونؤسس عملياً لفهمنا للوطنية تفكيراً وممارسة؛ ولا يوجد وطنية من دون انتماء لوطن، وحمل لهوية، ودفاع عن قضية، ومعايشة للناس عبر الواقع والوقائع، وتجديد لعبر التاريخ ومعطياته، ليبقى جسم الثقافة في نمو، وقامتها في ارتفاع يوسع فضاء الوطن وينيره ويجعله أكثر قدرة على المثاقفة الواعية لانتمائها وغاياتها وأدواتها.‏
        8/2/1995‏
        q‏
        ــــــــــــــ‏
        * لقد طلبت من جريدة الشرق الأوسط، في رسالة لمكتبها في دمشق بلِّغت للندن، أنني أشترط نشر كل ما أكتبه من دون حذف، وأن أنشر نص اللقاء في منبر آخر بعد نشره في الشرق الأوسط وهذا هو نص رساتي إليهم أثبتها لأن نص اللقاء لم ينشر كاملاً في الجريدة كما وعِدت :‏

        إلى مكتب جريدة الشرق الأوسط بدمشق‏
        تحية طيبة وبعد:‏
        فقد قدم لي مكتبكم أسئلة بهدف إجراء حوار حول فصل الشاعر أدونيس من اتحاد الكتاب العرب، موضوع قرار المؤتمر العام للاتحاد في 27/1/1995 وكرر تقديمها، بعد مناقشة بيننا حول صيغتها ولهجتها، مبدياً رغبتكم في تلقي الإجابة، وتم ذلك في 5/2/1995.‏
        وإنني، نزولاً عند هذه الرغبة، على استعداد تام لإرسال الحوار مطبوعاً بعد تلقي إشعار منكم يتضمن استعدادكم لنشر الحوار من دون حذف من أي نوع، والموافقة على أن أقوم بنشره في أي مكان أشاء بعد يومين من إرساله إليكم.‏
        إنني بعد دقائق فقط من تلقي ردكم، سوف أرسل لكم الحوار الذي طال نسبياً.‏
        مع الشكر وأطيب التمنيات.‏
        الدكتور علي عقلة عرسان‏
        دمشق في 7/2/1995الساعة الثامنة والنصف صباحاً.‏
        فاكس رقم 2124568‏
        ? قد تم نشر اللقاء من قِبَلي في منبرين هما جريدة الأسبوع الأدبي ومجلة إلى الإمام.‏

        ـــــــــــ‏

        الأسبوع الأدبي/ع452//23/2/1995‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          حوار مع مجلة فتح : "فتح" تحاور الأديب الشاعر
          أرفض تبعية الثقافي للسياسي..‏
          لا إبداع بدون مشروعية ولا مشروعية خارج المصداقية والانتماء والالتزام، والعالمية والشمول الإنساني يكمنان في نوع متألق من المحلية المتسامية.‏
          وفي مؤتمره العام الأخير. فصل اتحاد الكتاب العرب الشاعر أدونيس من عضويته وذلك لجملة من مواقفه التطبيعية المعروفة وآخرها حضوره وبيانه الشهير في مؤتمر غرناطة. وأثار القرار جملة من ردود الأفعال المتسعة والمستمرة.‏
          والحوار يتصاعد والجدل يمور، وطرفاه أغلبية مؤيدة، وأقلية ولكنها تتكاثر.. تعارض هذا القرار. وبعضها يدين، ومنها من دافع عن أدونيس موقفاً وتطبيعاً.. وصل حد التشفي بجراحات الأمة، والاستقواء بالسائد وأعدائها.‏
          قد يبدو هذا طبيعياً، لأول وهلة، خصوصاً ونحن نواجه سؤالاً هو في حجم التطبيع.. لكن ونحن نتحدث عن بعض المعارضة.. هناك جملة مبرمجة تدير آلة من الخلط والتشويه. والتزوير. رافقت الحدث واستندت إليه. فجندت أقلاماً وأسماء -بعضها تطوع بقصد أو بدونه - تثير غباراً وبلبلة حول مسلمات الأمة.. وبديهيات الصراع التناحري مع أعدائها.. حملة تحاول قلب المفاهيم رأساً على عقب.. وهي من عناوينها. ومنابرها، أشرت على من يديرها وكشفت عمن يقف وراءها.. كما نمت عن خطورة مراميها وأبعادها..‏
          فتح).. لم تكن محايدة ومنذ العدد الماضي وقبله بأعداد كان لها موقفها من الحدث خاصة، ومن التطبيع عامة..‏
          ومن مؤامرة التسوية -التصفية، التي لا يعدو التطبيع تجلياً من تجلياتها، وعليه.‏
          تفتح (فتح) صدرها لكل الغيورين على حقائقنا ومسلماتنا، ابتداءً من هذا العدد..‏
          وكبداية التقت الدكتور علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب..حاورته، وتنشر نص الحوار كاملاً:‏
          س1: أثار قرار اتحاد الكتاب العرب بفصل الشاعر أدونيس من عضويته لمواقفه التطبيعية المعروفة جملة من ردود الأفعال في الساحة الثقافية العربية بين أكثرية مؤيدة للقرار وأقلية منددة والأخيرة وجدت تعبيرها في الصحافة النفطية كما سمعنا عن انسحابات واستقالات للبعض من عضوية الاتحاد. ما هو تعليقكم؟‏
          ج1: : حدث قرار المؤتمر العام لاتحاد الكتاب العرب 27/1/1995 الذي أزيلت بموجبه صفة العضوية في الاتحاد عن الشاعر أدونيس نظراً لدعوته للتطبيع مع العدو الصهيوني المحتل للأرض العربية، وممارسته لذلك التطبيع؛ أحدث ردود أفعال كثيرة، إيجابية وسلبية، وترجحت ردود الفعل التي عبر عنها المعترضون والمحتجون على القرار بين: الاتهام والهيجان الانفعاليين، والتعالي العصبوي الفرداني، ويمكن أن نسلك تلك الردود في مسارين اثنين:‏
          1- مسار رفَضَ التطبيع وشك بإقدام أدونيس عليه. وقال باتهام من أقدم على اتخاذ القرار.‏
          2- مسار رفع أدونيس فوق الاتحادات والمؤسسات والوطنيات ونظر إلى ما يقوم به على أنه فعل إعجازي لا يدرك كنهه من هم من طينة أدنى من طينة أدونيس والقائلين بذاك القول. ولم يرفض أولئك التطبيع ولم يصرحوا بالأخذ به وإن جاءت تلميحات مغرية" بواقعية انهزامية" هنا وهناك.‏
          ولم يروا في القرار ديمقراطية أو ممارسة للثقافي خارج هيمنة السياسي. وقلة من أولئك لم يحالفها التوفيق سواء باختيار العبارات أو الكلمات أو بإطلاق الأحكام والشتائم.‏
          وأستطيع القول -من خلال المتابعة - إن استثمار هذا الموضوع تم ويتم بتفعيل وتصعيد مبرمجين تقف خلفهما مؤسسات. وإن الأشخاص يوظَّفون كما وظفوا مراراً وتكراراً لتحقيق غايات، وقد يزج بهم استغلالاً لاندفاعاتهم. وإن ذلك يرمي -الآن- إلى ما هو أبعد من واقعة إزالة صفة العضوية عن أدونيس وأسبابها وملابساتها.‏
          وهنا أود أن أشير إلى أنه لم يقوِّم أعضاء مؤتمر اتحاد الكتاب العرب أدونيس بوصفه شاعراً أو أديباً، وإنما ناقشوا موقفه أو مواقفه "الثقافية- السياسية، أو السياسية المتلفِّعة بالثقافة، وطبقت على تلك المواقف، التي تعترف بإسرائيل وتدعو لتطبيع العلاقات معها، قوانين المؤسسة التي ينتمي إليها وأنظمة تلك المؤسسة وميثاقها، ميثاق المثقفين العرب، الذي أقره مؤتمر عام لاتحادات وروابط الأدباء والكتاب العرب -عمان 1992.‏
          إن استثمار هذا الموضوع يتوسع ليشمل مقاومة التطبيع بكل أشكالها، لا سيما في منطقتنا، ويريد المحركون لذلك أن يهاجموا من يرفضون التطبيع بكل أشكاله مع العدو الصهيوني في عقر دارهم، وأن يستعْدوا عليهم السلطات بوسائل مختلفة؛ في محاولة لامتحان السياسة على أرضية المفاوضات الثنائية، على طريقة امتحان الكيان الصهيوني لعرفات في غزة؛ هذا من جهة، والقضاء على كل أمل بتشكيل جبهة ثقافية عربية لمقاومة التطبيع من جهة أخرى.‏
          إن الترويج "للواقعية الانهزامية" باسم العقلانية والحضارية والحداثية والعصموية الاستعلائية، كل ذلك يحاول أن يغطي علينا فضاء الرؤية ويجتث الثقة والأمل ومشروعية الحلم من نفوسنا وقلوبنا في آن معاً، ويتنزَّل علينا من علٍ شأن السلالة اليهودية -الصهيونية- التلمودية النازلة من السماء لتجد عند قدميها "حثالات" السلالات الديدانية الصاعدة من طين الأرض‍؛ تلك المحكومة وحدها بالنظرية الداروينية؟ بينما شعب الرب يتنزل من عل، ويمسك أبناؤه بجدائل آدم وإبراهيم وبقرني ذِبْحِه العظيم.‏
          من حق كل أديب أو مثقف أن يختار ما يشاء من رأي وموقف وقضية، ولكن من شأن الأدباء والمثقفين ومن حقهم أن يختلفوا معه حول قضايا مصيرية تمس الوطن والشعب والقيم والمصير، ومن حقهم أن يقولوا في ذلك قولاً، فلم المصادرة باسم المصادرة، والإرهاب تحت ستار دفع الإرهاب؟ إن الوطن أكبر من كل فرد ممن هم فيه، والقوانين فوق الأشخاص لأنها في النهاية في خدمتهم بوصفهم أفراد المؤسسة الاجتماعية وخلاياها الفاعلة، وأنه لا وطنية على حساب الوطن لأي كان. لقد مارس ذلك الجنود والمقاومون وبسطاء الناس ودعا إليه قادة الرأي وواضعو النظريات الاجتماعية والسياسية والثقافية، فلم الخروج على مواصفات المجتمع المدني، والنواح في الوقت ذاته على عدم قيام مؤسساته وأركانه في بلداتنا؟ أرى في ذلك سمة أوصلنا حملتُها إلى إباحة الشيء ونقيضه، وإلى الدعوة إلى الشيء وافنائه في الوقت ذاته (الديمقراطية مثلاً).‏
          س2: في بيانه في غرناطة عبر أدونيس* عن موقف فكري تطبيعي خطير يصب في خانة مزاعم العدو ويقول بتركيبية الثقافة العربية واستطراداً خلع على الصهاينة انتماء تاريخياً وجغرافياً وكيانياً إلى المنطقة.‏
          وعليه هل فصل أدونيس نفسه معرفياً، وانتماء للأمة قبل أن يفصله الاتحاد من عضويته؟‏
          ج2: : عندما يقول أدونيس بانتماء إسرائيل جغرافياً إلى منطقتنا أي بإقرار شرعية اغتصاب أرض الغير بالقوة، وبشرعية الاحتلال، وبحق المحتل في أن يُمنح أرضاً سرقها وطرد أهلها منها ويصبغ ما تبقى من الناس فيها بصبغته وهويته الثقافية؛ ويقول بهوية ثقافية مفتوحة للمنطقة بما يعني زلزلة هويتها الثقافية العربية، أو عدم تمكن الثقافة العربية، عبر كل تلك الآلاف من السنين التي عمر خلالها العرب هذه الأرض وقدموا انطلاقاً منها للعالم كله: الكتابة وأول أبجدية في التاريخ والعقائد المفتوحة لكل بني البشر والتي تحترم كل بني البشر، وعدم تمكنها من تكوين هوية متميزة؛ ويأخذ على مفكري الغرب أنهم لم يعملوا بما فيه الكفاية للخروج بمشكلة المنطقة "من خناق العداء والحرب إلى أمن حضاري هو أفق الاعتراف المتبادل وإحياء الروابط التاريخية، وتشجيع آمال مستقبلية في التعايش والتبادل والتعاون"..‏
          وهنا اقتبس من مقال أدونيس: الصلاة والسيف والديمقراطية المتوحشة ومن كلمة أدونيس في ندوة غرناطة في 10/12/1994 إنني أتفهم هذا في إطار المعرفي الإنساني العام إطار، المثاقفة على أرضية الأمن والثقة والسلام الحق، ولا أفهمه حينما يصبح أيديولوجيا سياسية عنصرية ترمي إلى محو هوية الآخرين أو تشويهها بالتعاون مع قوى تعلن عزمها على ذلك.أي اعتراف العرب بإسرائيل واعتراف إسرائيل بالعرب(؟) وإحياء الروابط التاريخية بينهم -أي الروابط التاريخية بين اليهود الخزر وسلالات العرب منذ ما قبل العمورين مروراً بالكنعانيين ووصولاً إلى الفلسطينيين المعارضين لاتفاق أوسلو؟؟ -والتعايش بين الجلاد والضحية، بين العنصرية الصهيونية والذين تعتقلهم في معتقلات أنصار، وأولئك الذين تبيدهم يومياً وتشوه ثقافتهم وآدميتهم وحضورهم البشري حتى لا يطالب أحد منهم بفلسطين، وإقامة "التبادل" بكل أنواعه وأشكاله و"التعاون" كذلك الذي يقوم بين الموساد وعرفات ضد المنتفضين في غزة وضد حماس والجهاد وكل من يطالب بأرض وحق وكرامة، وكذلك الذي يقوم أيضاً بين سَدَنَة اتفاقية وادي عربة والإسرائيليين.‏
          عندما يقول أدونيس بكل ذلك ويزيد عليه متحدياً إسرائيل في تحقيق الانفتاح والتطبيع الذي تريده هي انعاشاً لمشروعها الاستيطاني التوسعي وتثبيتاً لمرحلة سرقة الوطن واحتلال هوامش إضافية عليه، ويزيد عليه المطالبة بالزواج المختلط بين العرب واليهود، لتحقق إسرائيل" خصائص التمازج والتنوع في ثقافة المنطقة التي تنتمي إليها".‏
          وعندما يدعو في غرناطة /في الندوة التي وظَّفت الثقافي لصالح سياسي معين، هو اتفاق أوسلو تحديداً/ وهُدِف إلى أن تكون احتفالاً بتطبيق ذلك الاتفاق بعد ثلاثة أشهر من توقيعه 13/9/1993 -8-10/12/1993 بحضور رمزيه: بيريز وعرفات، أقول عندما يدعو إلى ربط مسألة السلام (ذاك السلام) بمسألة الهوية ويؤكد أنه (دون هذا التمازج سيبقى السلام سطحياً، إذا حدث، قائماً بين هويات مغلقة ومتنافية، سيبقى سطحياً ومن خارج) ويصل بعد ذلك إلى إقرار في صيغة تقرير أو قرار نصه الآتي:" هكذا يستلزم السلام -أي السلام المحتفى به في غرناطة.. سلام أوسلو النووي -على المستوى الثقافي إعادة ابتكار الأفكار والمفهومات، حتى الهوية ذاتها لا تعود، في هذا الإطار معطاة -وأرجو أن يلاحظ ذلك -وإنما تصبح سؤالاً وبحثاً، تصبح بتعبير آخر انتظاراً متواصلاً".‏
          عندما يدعو أدونيس إلى ذلك كله ويرى في الذين لا يقرونه على ذلك، أو يعارضونه أو يرفضون ما ينادي به ويعلنون اختلافهم معه، لا سيما من أبناء المنطقة الذين يعانون يومياً ويتعرضون للترويع والتجويع وأشكال الاستنزاف والقمع، يرى فيهم "الظلامية والضغينة، وعقلية الدس والاتهام، والغباء والانحيازية الأيديولوجية الشخصية والمسكنة العمياء" -من (رسالته إلى أصدقائه في 10/4/1994).‏
          عندما يقول أدونيس كل ذلك، وما هو أكثر منه، ويستعدي "الحضاريين" على أبناء المنطقة المتخلفين ليخلصوهم من هويتهم ووطنهم وخصوصيتهم وانتمائهم الضيق.. الخ ويذهب إلى حدود أن يرفض تحريراً يأتي به الإسلاميون ويقبل بسلام ناقص -أي استسلام أو اتفاقات إذعان مثل أوسلو ووادي عربة، وهو بذلك يعلن ما يعلنه الصهاينة والغرب الاستعماري هذه الأيام وهو ما وضحه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي الذي أعلن ودعا إلى مقاومة الإسلام بوصفه الخطر القائم الآن والذي يشكل الخطر البديل للشيوعية التي كان يحاربها الحلف ـ عندما يعلن أدونيس ذلك ويرضى من موقعه أن يضع الثقافة في خدمة كذا سياسة فإنه يجعل من حقنا أن نتساءل ما الذي يقوم من فرق بين هذا الذي يؤمن به ويعمل له ويدعو إليه، وبين من دعوا فرنسا وبريطانيا، في مطلع القرن الحالي إلى احتلال بلاد الشام ليتخلصوا من الحكم العثماني؟! وهل كان في ذلك الاستعمار خلاص فعلاً؟ عندما يقول أدونيس بذلك كله وبسواه مما لا يتسع المجال لذكره هنا، فإنه يغدو من المشروع أن يوجه إليه هذا السؤال، وأن ينثر في الفضاء الثقافي العربي، ليكون هناك تدقيق وتمعّن في السؤال وموجباته وفي الإجابة ومناحيها ومراميها وخلفياتها ومستنداتها.‏
          س3: هل يكتسب الإبداع مشروعيته بذاته أم خلال دوره في خدمة آمال وأهداف الأمة التاريخية أي هل يجوز الفصل بين المغني والأغنية كما يقول المثل الانجليزي؟‏
          ج3: لا يكون الإبداع من دون مشروعية، ولا تكون مشروعيته خارج حدود المصداقية والانتماء والوظيفة الاجتماعية. إن جذور العالمية والشمول الإنساني اللذين يتطلع إليهما الإبداع الحق يكمنان في نوع متألق من المحلية المتسامية، إنهما يكتنزان وهج التربة الثقافية ذات الخصوصية والهوية والأصالة النوعية، ويحلقان في فضائها، ثم يرتفعان إلى حيث يصبحان شمساً تشع على أرض البشر فتفيد وتنير وتعرف بأنها شمس بمقوماتها وعطاءاتها وخصائص وجودها.‏
          الإبداع قد لا يكون خارج المعاناة. وتلك، على الرغم من أن موقدها ومحرقها في القلب من كيان الفرد، إلا أنها لا تكون ولا تتم ولا تتكامل في قوقعته المعزولة عن الناس والبيئة وتدفق نهر الحياة الذي تجدد الدقائق، بل الثواني، ماءه وتستمر سيرورته وصيرورته اللتان لا يقبض عليهما ولا تستنفدان. الفرد المبدع لا غنى له عن الآخر بوصفه طرفاً في ولادة التجربة والمعاناة واستمرارهما، وبوصفه متلقياً للتجربة وللرؤية إبداعاً، والآخر ليس فرداً وحيداً فقط، إنه جماعة ومؤسسة، بل جماعات ومؤسسات أيضاً؛ وهو نظام ديني ودنيوي، ذو بعد تاريخي وجغرافي وحضاري، ثم هو جزء من منظومة الكون ومنظومة المعرفة، ومحاولات الكشف؛ إنه الآخر الذي به أكون. قد يكون هو الجحيم، ولكنه ذلك الذي لا تتم الحياة إلا به ومعه ومن أجله.‏
          الإبداع المتعالي على الهوية والانتماء -البيئة، وعلى أمة وجغرافية وتاريخ ومعطى حضاري ونضالي -قد يكون.. ولكنه يخسر لوناً وطعماً ووهجاً يحتاج إليهما المتلقي الإنسان.‏
          ونحن نكتب ونبدع للبشر انطلاقاً من البشر في أرض البشر، ولكن في كل جيب من جيوبها أمة وهوية وقضية وموضوع ونضال، وحلم وأمل وفن أداء. إن الإبداع المتعالي على الهوية والانتماء قد يرتفع ولكنه -بتقديري- يصاب بما تصاب به خيوط العنكبوت التي تطفو على بعد أمتار من سطح الأرض، وقد يحلِّق ولكنه قد لا يجد مطارات تشتاق لهبوطه فيها أو ترى جدوى في ذلك الهبوط. وقديماً قال أجدادنا: لا بورك في علم لا ينفع.‏
          أما عن المغني والأغنية، فأنا أعطي أولوية وأفضلية للمغني، ولا أستسيغ الفصل بينه وبين الأغنية، قد تنجح أغنية في الانفصال عن مغنيها، ولكن كل من يوردها أو يتذوقها سيربط بينها وبين ذلك المغني.‏
          س4: ينطلق مثقفو التطبيع من أرضية حوار الأنا مع الآخر، ومن فرضية أن لا خوف على الثقافة العربية الراسخة والتليدة من ثقافة صهيونية غير متبلورة أو حتى موجودة.. السؤال هو أولاً: هل يعبر هؤلاء فعلاً عن هذه الأنا التي هي الأمة العربية بكل ما تعنيه مضموناً وشكلاً، ومشروعاً حضارياً نهضوياً؟‏
          وثانياً: هل الآخر هو فقط الصهيوني أم هو الغرب أساساً بما يمثل من هيمنة ونزوع إلى مركزة الثقافة ورفض مطلق للتعدد الثقافي والحضاري على الصعيد الكوني، والمعادي تاريخياً للثقافة والحضارة العربيتين؟!‏
          ج4: : أرضية حوار الأنا مع الآخر، أقدم من التطبيع ومن رؤى مثقفية واجتهاداتهم، ولا يمكن أن يقوم حوار أصلاً -والحياة من بعض وجوه الفهم حوار- إلا بين أنا وآخر، أو بين "أنا" و"أنوات" أخرى، والأنا في حوار ثقافي حاملة لثقافة بتاريخها وغناها، أي حاملة لإرث الجماعة وهويتها، مع ما لتلك الأنا من جهد واجتهاد وتطلع مكثف للكشف والإضافة، للأخذ والعطاء بثقة- على أرضية الحوار.‏
          والحوار لا يعني بالضرورة تبعية أو اعترافاً بشرعية لا تقرها الشرائع والتشريعات والانتماءات القومية، والمعطيات الخُلُقية والقيمية وما يراد لنا قبوله والإقبال عليه من حوار مع العدو الصهيوني على أرضية المعطى العام والمجرد للمصطلح أمر يتنافى مع معطيات وحقائق منطقية وعقلانية وحياتية ومصيرية.‏
          أن أعترف بأن العدو الذي يحتل أرضي موجود -كوضع موضوعي قائم على الأرض- فذلك ما لا يستطيع أن ينكره أحد، ولكن وجوده ذلك بحد ذاته وحيث هو موجود بقوة القهر هو الذي يدعوني إلى مقاومته ورفضه وإنكار حقه في الوجود حيث هو موجود، أي بوصفه كياناً استيطانياً استعمارياً محتلاً لأرضي، نافياً لوجودي بقوة وجوده على نحو ما؛ وعلى هذا الحد من حدود الوعي لنوع العلاقة بين أنا وآخر ينقلب الحوار البناء إلى صراع وجود، فإمَّا أكون أنا حيث ينبغي أن أكون تحقيقاً لمشروعية تاريخية وخُلُقية وإنسانية، أو أن يستمر وجوده الذي ينفي وجودي. فالعلاقة على أرضية الاحتلال ومقاومة الاحتلال لا تعود علاقة حوار أو مثاقفة بناءة بين "أنوات" متعايشة على أرضية الاعتراف المتبادل "أرضية الشرعية الإنسانية والخُلُقية والقانونية، بل تصبح علاقة تبادل النفي، تبادل المحو، أو تبادل الإلغاء".‏
          إن مثقفي التطبيع يرمون إلى خوض حوار مع العدو على أرضية الاعتراف به، بعد أن أخذ ما أخذ وفعل ما فعل، متجاوزين حق الأمة العربية في فلسطين، وحق الشعب العربي الفلسطيني المشرد عن أرضه في العودة إليها، وحق الإنسان القابع تحت نير الاحتلال الصهيوني بالحرية والكرامة.‏
          بعد هذا التوضيح أقول إنني لا أخشى على الثقافة العربية من حوار مع أية ثقافة، فكيف بي أخاف من "ثقافة ملفقة" تحملها اللغة العبرية الميتة، التي تصب فيها هجنة شرائح من ثقافات عدة لا يملك أصحابها علوَّ كعب تلك الثقافات كلها؛ وإن هم ملكوا شيئاً من ذلك فيبقى ذلك الذي يملكون ابن تلك الثقافات إلى أن يتاح لهم أن يحققوا تفاعلاً ثقافياً وتمثلاً جديداً لمعطى خاص ثم مؤثر، وهذا يحتاج إلى عقود وعقود بل إلى قرون من الزمن.‏
          أنا لا أخشى على الثقافة العربية من أن تطمس "الثقافةُ العبرية" شخصيتها أو أن تغطي شمسها، وإنما أرفض أن يقوم بيننا حوار على أرضية الاعتراف المتبادل بينما هم يحتلون أرضنا ويشردون شعبنا ويشوهون ثقافتنا؛ وذلك يختلف كلياً عن ضرورة معرفة العدو. ومعرفة العدو لا تتم بالضرورة على أرضية حوار الاعتراف المتبادل، فمعرفة العدو تتم وينبغي أن تتم كضرورة معرفية وأمنية تكتيكية واستراتيجية لتوظيف تلك المعرفة في المواجهة وأنواع الصراع وأشكاله.‏
          إنني لا أقرأ المماحكات التي تتعمد الخلط وإشاعة أنواع من التوهم غير المفيد في هذا المجال، ولا أحبذ إضاعة الوقت في محاولات التعالم والتفاصح والمزايدات المعرفية التي تتم على هوامش العمل الثقافي لتصبح هي المتن وما عداها هوامش، في هذه المرحلة العصيبة والدقيقة من تاريخنا ومن مواجهات ثقافتنا لتحديات الداخل والخارج معاً.‏
          إن الذين ينادون بالحوار مع العدو الصهيوني في إطار الانفتاح الفكري والمثاقفة ويقرون ضمناً -أو يبطنون- الاعتراف به والعمل على تطبيع العلاقات معه، أو يجاهرون بذلك ويرون إليه نضجاً وتفوقاً وحضارية وتقدماً، هؤلاء يقفزون فوق السؤال الأساس سؤال وجود المحتل وشرعية ما قام ويقوم به وموقفنا من ذلك كله.‏
          - بعضهم يحاول الهرب إلى الأمام بتبني الحوار معه في إطار فعل المثاقفة الإنساني والاعتراف بالآخر، من دون التدقيق بأي آخر نعترف ومن هو هذا الآخر بالتحديد.‏
          - والبعض الآخر يعرف ما يعمل ويدرك جيداً ضرورة أن يعلن ما يريد، وينطلق أحياناً من اختيار الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع. وهذا النوع الأخير هو ما نصادفه الآن، وهو يستقوي بأوضاع سياسية سائدة، ومتغيرات غيرت كثيراً من المعطيات والمفاهيم ويتذرع أو هو يسارع إلى التذرع بالسائد سياسياً ليبرر فعلاً ثقافياً مجيَّراً للسياسة، ولا ينسى أن يعلن دائماً أنه معارض لكل السياسات القائمة؟!؟ ولكنه مرفوض بمعايير المبدئية الأخلاقية والقومية، وانطلاقاً من الثوابت القومية والقيمية والإنسانية لشعب تُحتل أرضه ويطارد في شعاب الأرض ليباد، لأن في ذلك راحة المحتل ونهاية مضمونة للقضية -الجريمة.‏
          إنني لا أرى أن من يقومون بذلك النوع من الحوار مع "الآخر- العدو" يمثلون /أخلاقياً وموضوعياً/ الأمة العربية، وفعل التطبيع الذي يمارسونه لا يقدم لنا، على المدى البعيد، فرصة لإقامة مشروع حضاري من أي نوع؛ بل إنه يصادر كلياً حلمنا بمشروع حضاري ويحولنا من أصحاب حق يشعرون بالإحباط والقهر ويجربون حظهم في المقاومة متعلقين بالأمل، إلى بؤساء روحياً، إلى بهائم في سوق العمل والاستهلاك، إلى خدم سياحيين وبناة للمستوطنات والمعامل والصناعات التي يديرها العدو ويطورها ويقتلنا بها. إن بقاءنا في دائرة الوعي بالحق والإحباط والمرارة والمعاناة والمقاومة الممكنة مع شعور بالهوية والخصوصية والانتماء والكرامة هو أفضل بكثير من تحويلنا إلى قطعان من الرقيق، من دون هوية أو قضية أو إحساس نوعي بالمرارة ولذة الكفاح ومشروعية بحلم التغيير والتحرير والتقدم.‏
          وإن "أنا" لا تحمل الأمة ومعاناتها وتطلعاتها، ولا تحمل إليها إلا التبشير بقطعة الزبدة على رغيف الذل والتبعية التامة، هي "أنا" مهزومة تقلد غالبها، ودليل الغريب للعدو ينشر غربانية اللون والظل وهو يلوح بِبُهَاق السنونو ويلوك هديل الحمام؛ إنه لا يحمل أمة ولا مشروعاً حضارياً لها، بل يشوه ذلك ويجهضه ويضع أغلال الأعداء وقيودَهم في أعناق أبناء شعبه وأيديهم، قصد ذلك أم لم يقصد، أدرك ذلك أم لم يدرك.‏
          س5: هل يمكن فصل الثقافي عن السياسي في معركة مقاومة التطبيع تلك، والتي هي ولا شك جزء لا يتجزأ من المواجهة الشاملة مع المشروع المعادي في بلادنا ولا يمكن فهمها خارج نطاق الاشتباك المستمر ضمن الصراع التناحري الدائر راهناً بين أمتنا وهذا المشروع؟‏
          ج5: أنا من القائلين برفض تبعية الثقافي للسياسي، وبضرورة استعادة أهل الثقافة لمصداقية الثقافي واستقلاليته ومبدئيته، على أرضية قيمية أخلاقية، قومية وإنسانية، ومن المنادين بتحرير الساحة الثقافية العربية من أشكال التبعية لمركزيات ثقافية أخرى -مع عدم إلغاء المثاقفة الواعية لأهدافها ولذاتها -وبتحريرها أيضاً من التبعية لخلافات الأقطار والأنظمة والحكام في الوطن العربي؛ وأرى أن إغلاق سوق الكلام العربي المفتوح، والذي تبيع وتشتري فيه أنظمة وجهات غير عربية، أحد أهم المداخل لاستعادة الرؤية السليمة والمحاكمة المنطقية.‏
          ولا يستطيع المثقفون العرب أن يحرروا ساحتهم من أشكال التبعية وأمراضها، إلا بالحوار على أرضية المشترك والمبدئي والأخلاقي وبتوسيع ذلك المشترك لتقوم جبهة ثقافية تحقق حضوراً وفاعلية في ساحة القرار السياسي، وفي المجال الاجتماعي الذي فقد الكثير من تأثير التواصل والتفاعل مع الثقافي جراء تسخير السياسي لهذا الأخير واستخدامه كيف شاء، وجراء استعداد المثقف للعب أكثر من دور تحت أكثر من قناع، مما أفقد الكلمة بعض تأثيرها وصدقيتها.‏
          والجبهة التي أدعو إلى تكوينها حدد توجهاتها وأهدافها الرئيسة ميثاق المثقفين العرب الذي أقره المؤتمر العام للأدباء والكتاب العرب -عمان أواخر عام 1992.‏
          وقد ركز الميثاق على حقيقة كون الصراع بين العرب والعدو الصهيوني، الذي يحتل أرضهم، هو صراع وجود وليس نزاعاً على حدود؛ ونص على رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني، ومقاومة التطبيع ورموزه والممارسين له والمروجين لذلك.‏
          وفي هذا الإطار تبدو رؤية الثقافي واضحة ومنسلخة عن اختيارات السياسي بل ومتعارضة معها، وتدرك حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الثقافي في ظل المتغيرات العربية والدولية، ومعطيات مؤتمر مدريد والمفاوضات المنبثقة عنه: ثنائية ومتعددة.‏
          إن المشروع الصهيوني -العنصري، مشروع توسعي استيطاني يتنافى كلياً مع أي مشروع نهضوي عربي يحرص على أدنى درجة من احترام الحق والذات، وامتلاك مقومات القوة والحرية والتقدم. ولذلك فإن النفي المتبادل بين المشروعين حالة قائمة في الحاضر منسحبة على المستقبل، ولا يمكن التعايش بين المشروعين اللذين يلخصان في النهاية أو يجسدان ثنائيات متضادة: الجلاد والضحية، المحتل ومقاومة الاحتلال وصولاً إلى التحرير والاستقلال، العنصرية المستمدة من توهمات اعتقادية متضخمة يغذيها التلمود والبرنامج الصهيوني، والتسامح العربي- الإسلامي الذي يصل إلى حدود التساهل المفرط.‏
          إن معركة الاعتراف بـ "إسرائيل" ورفض تطبيع العلاقات معها، هي معركة الثقافي التي تتصادم مع معطيات وتوجهات سياسات عربية عديدة. وتكاد تكون في هذه المرحلة معركة الثقافي مع السياسي في بعض الأقطار العربية وبعض الحالات التي يتماهى فيها "ثقافي" مع سياسات تعترف بـ "اسرائيل" وتقيم معها معاهدات وتعمل على تطبيع العلاقات. ويتجرأ ذلك الثقافي، في الوقت ذاته، على الإدعاء بأنه خارج التوظيف السياسي، ويزعم أنه "الحرية"؛ بينما هو يغرد في قفص العنصرية والاستعمار محلَّى بأطواق التبعية والعبودية؟‏
          س6: في ظروف الهزيمة، ومراحل الأزمات يبرز الدور الخطر والمميز للجبهة الثقافية لذا نلاحظ الهجمة الشرسة على هذا المعقل المهم عبر بعض المنابر النفطية وحشد من كتبتها المتزايدة أعدادهم يومياً.‏
          كيف تنظرون إلى دور هذه الجبهة، في نطاق بلورة فكر مقاوم للتطبيع. وتأسيس وعي جديد مطابق لحاجات الأمة ومنسجم مع مشروعها النهضوي المنشود؟‏
          ج6: أزعم أن مقتطعات لا يستهان بها، من أموال الدول النفطية وعائدات النفط العربي توظف لإحداث خلخلة في البيئة القومية والقيمية والمبدئية والاعتقادية في المجتمع العربي، تحت مسميات وشعارات مغرية ومبهرجة وتصعب مقاومتها؛ وذلك لزلزلة قناعات ومواقف تتصل بثوابت العرب حيال قضيتهم المركزية من جهة، وحيال مقومات شخصيتهم الثقافية وتمايزهم من جهة أخرى.‏
          والهدف هو صرف النظر عن استثمارات النفط والسيطرة المباشرة عليه، وزعزعة الثقة بالذات وبالمستقبل وصولاً إلى اعتراف بـ "إسرائيل" وتسوية القضية الفلسطينية بشكل نهائي على حساب الفلسطينيين والعرب بشكل عام.‏
          وقد برز توجه لإنشاء مؤسسات إعلامية ضخمة وفاعلة، وتوفير الأموال والتقانة والحماية والانتشار لها، ويبدو أن ذلك يتم في ضوء العبر المستخلصة من حرب الخليج الثانية، وفي ضوء التوجهات الجديدة للغرب والصهيونية تجاه القومية العربية والإسلام؛ وهو ما عبر عنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مؤخراً حين أكد أن الإسلام والقومية العربية يأخذان مواقع الشيوعية المنهارة، حيث يشكلان "خطراً" على الغرب ويستدعي ذلك مواجهتهما وتوجيه قدرات الحلف لمحاربة خطرهما(؟!) وهو توجه يحتاج إلى مظلات واسعة، وإلى سماء لا يرى الذين تظللهم شمساً ولا نوراً في أفقها، ويخضعون لضخ نوعي من المعلومات والمعطيات والاتهامات تجعلهم يستشعرون الإحباط والدونية وانعدام الأمل في أنفسهم وثقافتهم وحضارتهم ومستقبلهم.‏
          وتلك المؤسسات تجهد لتعطيل الثقافي الواعي لأهدافه وانتمائه ولما يراد له، وجعله محكوماً برؤية سياسية محددة تخدم -مع الحفاظ على فضاء ملائم في القفص- البرنامج الموضوع، وتحويله إلى معطى إعلامي، وعصا يُضرب بها الآخرون.‏
          إنها جهود لتكوين جبهة تعطل إيجابية أية جبهة عربية تحرص على مبدئيات التحرير والحق، وترفض الانصياع للمشروع الأمريكي- "الإسرائيلي" الذي يحكم المنطقة ويريد أن يتحكم بها إلى مدى بعيد.‏
          س7: فلسطين: هي البوصلة والقضية المركزية للأمة العربية، هل تعتقد أنه يمكن لهذه الأمة صون مستقبلها، ومواصلة رسالتها الحضارية وتحقيق حلمها في "الاستقلال والوحدة والحرية والتقدم دونما حسم الصراع في فلسطين نهائياً لصالحها"؟ وعليه هل هناك للحلول الاستسلامية المطروحة حظ من النجاح أمام إرادتها الرافضة للخضوع، ووعيها للبرنامج المعادي المعبر عنه بأشكال متخلفة كما نلاحظ هذه الأيام؟‏
          وأين المثقف من كل ذلك؟‏
          ج7:: ستبقى كل مشاريع الأمة العربية معطلة أو مهددة، من دون حسم موضوع الصراع العربي -الصهيوني، وعلينا ألا نركن إطلاقاً لحقيقة ما نملك من قدرات وإمكانات ما دامت غير موظفة توظيفاً علمياً يحقق أهدافاً سياسية راسخة ترمي إلى امتلاك القدرة على التحرير.‏
          لا يكفي أبداً أن نرفض ونطمئن إلى أن رفضنا ثابت، بل علينا أن نتذكر كيف تحولت لاءات الخرطوم إلى أكثر من ألف نعم ابتداءً من قمة فاس، لأن تلك اللاءات لم تُشْفَع ببرنامج عمل قومي لبناء مقومات تحرير القرار والإرادة وامتلاك القوة التي تمكن من حماية الذات والمنجزات وتحقق الأهداف الثابتة والمشروعة.‏
          إننا بأمس الحاجة إلى إعادة قراءة واعية للعبر التي مرت، على أرضية مغايرة لما يراد له أن يكون أرضية كل وعي وتصرف وسلوك لنا، أعني أرضية الإحباط والهزيمة والاستسلام.‏
          إننا بحاجة إلى الوعي العميق، وإلى استخدام العلم وترجمة معطياته إلى تقانة، وإلى بناء الثقة والشخصية على معطيات العلم والحق والإيمان، وعلى أرضية الحرية ورفض التزييف والتخريف والتطويع الذي يوظف لتحقيقه دعاة التطبيع والواقعية الانهزامية، إننا بحاجة إلى أن نعي معنى وتبعات ومسؤوليات أن نرفض الاعتراف بـ "إسرائيل" وأن نرفض تطبيع العلاقات معها، وأن ننكر الدعوة والدعاية الضخمة اللتين لذلك التوجه. وأن نقبل التحدي ونُقبل عليه، وأن تكون لدينا مواقف ثقافية وسياسية تليق بالتضحيات والبطولات النوعية التي يقدمها الاستشهاديون النوعيون من أبناء شعبنا في فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.‏
          على المثقف أن يفكر جيداً بالذين ماتوا تحقيقاً لدعاوى الثقافة، والذين يموتون وسوف يموتون من أجل تحقيق أهداف رفعتها الكلمة ودعت إليها وذادت عنها.‏
          يحاول دعاة التطبيع ومن يناصرونهم، طلباً لشهادة حضارية من الغرب والصهيونية، ومن يزعق في أول ذلك الصف طلباً لشهرة وغنيمة؛ أن يوظفوا نتائج كل الهزائم ليكرسوا في شعبنا روح الهزيمة والاستسلام. إنهم يدلقون بؤسهم الروحي ليزيدوا مساحة البؤس الروحي التي يُراد لها أن تكتسح مجتمعنا وشبابنا وأملنا ومستقبلنا. ولذلك نحن نرفض ذلك الضباب الملوَّن ببهرجة حضارية، لأنه يرمي إلى إلغاء كل مقومات الإرادة والاختيار والقرار لدينا، ويريد أن يرهِبنا بتهم الإرهاب،منفذاً سياسة معلِّميهِ -غالبيهِ ومقلداً إياهم حيث يسمون المقاومة إرهاباً وتخريباً، والتمسك بالهوية والعقيدة والخصوصية والانتماء الذي لا يعجبهم، ظلامية وتطرفاً.‏
          إن المثقف العربي مدعو للاختيار، ومدعو إلى موقف، ومدعو إلى ممارسة الحرية بكل مسؤولياتها وأبعادها، بعيداً عن ضجيج الذين لم يقدموا للوطن في كل مواجهاته ومعاركه إلا تشفياً بالوطن وتجريحاً لأهله، ومن أجل أولئك الذين يعانون، ويضحون ويموتون ليبقى الوطن وليبقى منهم شيء يعطي الوطن لوناً وهوية وحضوراً فاعلاً في الحياة.‏

          أجرى الحوار: د. زهير غزاوي‏
          q‏

          - مجلة فتح ـ السنة الحادية عشرة ـ العدد 336 ـ السبت 18/3/1995 صـ 40 ـ 45‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            حوار مع مجلة : فلسطين المسلمة :
            صراعنا مع العدو صراع وجود لا صراع حدود‏
            الاتحاد لن يعترف بإسرائيل حتى لو اعترفت بها الدول العربية‏

            أثارت مسألة فصل الشاعر/أدونيس/ من عضوية اتحاد الكتاب العرب ردود أفعال عنيفة حيث هاجم القرار المدير العام لليونسكو، فضلاً عن عدد من المراكز الثقافية الأمريكية إضافة لعدد من الصحفيين والكتاب... وكل ذلك بحجة حرية الرأي والدفاع عن الاختلاف... وذهب البعض إلى تشبيه قرار الفصل بمحاولة اغتيال الأديب نجيب محفوظ... ونعت اتحاد الكتاب العرب"بالإرهاب" و"التطرف".‏
            عن هذه المواقف... وبالتالي عن حقيقة الصراع الثقافي مع العدو الصهيوني وموقف المثقفين العرب من التطبيع الثقافي والسياسي... وعن عملية السلام برمتها كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور علي عقلة عرسان رئيس اتحاد الكتاب العرب في سوريا.‏
            ? لماذا تم فصل أدونيس من اتحاد الكتاب العرب؟‏
            ** اتخذ المؤتمر العام لاتحاد الكتاب العرب، الذي عقد في دمشق في 27/1/1995م قراراً بإزالة صفة العضوية في الاتحاد عن الشاعر/علي أحمد سعيد إسبر/ "أدونيس" بعد مناقشة استمرت ما يقرب عن ساعتين، وشارك فيها أكثر من ثلاثة وثلاثين عضواً، وجاءت نتيجة التصويت: (90) عضواً مع إزالة صفة العضوية، و(15) ضد، و(20) امتناع عن التصويت، أما الأسباب فهي: مخالفة الشاعر أدونيس لأهداف الاتحاد المعلنة في المرسوم التشريعي القاضي بإحداثه، ولميثاق المثقفين العرب الذي أقر في نهاية عام 1992م، والذي ينص على أن "الصراع العربي- الصهيوني صراع وجود مع وجود، ولم يكن يوماً ولن يكون أبداً نزاعاً على حدود بين العرب والكيان الصهيوني الدخيل المفروض عليهم، ويتحدد موقف المثقفين من السياسات والتيارات الفكرية والثقافية والاجتماعية في ضوء موقفها من ذلك الصراع ونظرتها إليه، وينسحب هذا الرأي والموقف على كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني وكيانه في فلسطين المحتلة، وعلى دعاة التطبيع ورموزه وممارسيه والمروجين له"، وقد جاءت مخالفة أدونيس بدعوته للتطبيع مع العدو على أرضية الاعتراف به، وتجلى ذلك في كلمته التي ألقاها في غرناطة، ومشاركته في ذلك الملتقى الذي كرس للاحتفال بتنفيذ اتفاقية(أوسلو) وافتتحه كل من شيمون بيريس وياسر عرفات، وحضره مثقفون عرب وصهاينة وأوروبيون وهدف إلى تطبيع العلاقات مع العدو الصهيوني، ولا سيما الثقافية منها، وتوظيف الثقافي في خدمة السياسي، بل وفي خدمة سياسة معينة تملي على العرب استسلاماً في صيغة مشروع سلام تضع شروطه ومواصفاته القوة المحتلة في فلسطين، وتساعد في فرضه وترويجه الولايات المتحدة الأمريكية، وليس للعرب فيه إلا القبول.‏
            واتحاد الكتاب العرب يرفض الاعتراف بإسرائيل حتى لو اعترفت بها الدول العربية جميعها، كما يرفض أي شكل من أشكال تطبيع العلاقات معها، ويعمل على إبقاء قضية التحرير حية والذاكرة الشعبية عامرة بتاريخ تلك القضية، ويرى أن الثقافة هي الحصن الأخير للدفاع عن حقوق الأمة وأرضها وثوابتها، ولذلك فإنه يؤمن بضرورة ترك الباب مفتوحاً أمام الأجيال القادمة لتمارس حقها في التحرير على أرضية الحق والعدل اللذين تدعمهما قوة.‏
            * كيف نفسر هذا الهجوم الشرس على موقف اتحاد الكتاب العرب من هذه المسألة؟‏
            ** إنه أحد مظاهر الهجوم المستمر على أمتنا، الذي استشرى في هذا العقد الأخير تحت ذرائع وأسباب متعددة، وغالباً ما كانت قوى الداخل تُستخدم رؤوس حراب للهجوم، إنهم لا يريدون أن يرفض أحد مشاريع التسوية والتصفية، ولا يريدون أن يقف أحد بوجه الترامي المستمر على أعتاب الكيان الصهيوني، ولا أن يقول أحد لا لأي شيء تفرضه الولايات المتحدة الأمريكية على المنطقة؛ ويتم ذلك بأشكال مختلفة، إنهم يرفعون في وجهنا لوائح التخويف ويمارسون التشويه لموقفنا، ويقومون بالهجوم حتى لا يكون صفهم في موقع المهاجَم، وتلك من وسائل الدفاع المعروفة. وأنا أظن أن كثيراً من التوهم الذي بنى عليه كتاب نحترم آراءهم، قائم على عدم إطلاع دقيق على ملابسات الموضوع..‏
            * يقول البعض بضرورة احترام حق الآخر في الاختلاف..؟‏
            ** نحن أيضاً لم نقل غير هذا في ميثاق المثقفين العرب، فلماذا لا يحترمون حقنا في الاختلاف مع موقف الداعين إلى الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني لأرضنا وإلى تطبيع العلاقات معه، إن من حقنا أن نعلن اختلافنا مع الآخرين، وإذا كانت تجمعنا معهم مؤسسة ذات أهداف، فمن حقنا أن نمارس حريتنا ضمن القانون، ومن واجبنا أن نطبق قوانيننا وأنظمتنا ومواثيقنا على الأعضاء الذين يتساوون في الحقوق والواجبات وتختلف أقدارهم ومراتبهم ومكانتهم الإبداعية. لا يوجد أحد فوق القانون والنظام والحق والوطن.‏
            * شبه البعض بين فصل أدونيس ومحاولة اغتيال الأديب العربي نجيب محفوظ؟‏
            ** إنني لأعجب كل العجب مما يذهبون هذا المذهب، أليس الإرهاب المحض هو ذلك الذي يمارسونه من خلال حملات منظمة تقف وراءها منابر ومؤسسات معروفة، ليمنعوا شرائح من المثقفين من التعبير عن الرأي والموقف الذي يرون، دفاعاً عن وطنهم وحقوقهم وثوابتهم المبدئية؟‏
            وبصراحة لم أر أكثر بؤساً من محاولة الربط بين إزالة صفة العضوية عن أدونيس وطعن نجيب محفوظ، ولا أكثر تعسفاً من هكذا مقارنة، ولكنني أكاد أتبين الدوافع التي تكمن وراء إطلاق هذه الأحكام، إنه استعداء عالمي، وتهييج إعلامي، ومحاولة لربط الكتاب الذين يرفضون الاعتراف بالعدو الصهيوني ويرفضون تطبيع العلاقات معه بالتطرف والإرهاب والأصولية، ويصفهم بالظلامية ليخيفهم ويقمعهم ويسكتهم، وهذا أسلوب تستقى دروسه من الصهيونية، ومن الاستعمار الغربي.. أسلوب عرفناه جيداً من أمريكا منذ فيتنام إلى يومنا هذا..‏
            * في تصريح للشاعر/أدونيس/ قال أنه يقبل سلاماً ناقصاً أو يفضله، على تحرير يأتي به الأصوليون. ما قولك؟‏
            ** لا أرى أن هذا الكلام يختلف في مضمونه ومرماه عما يقول به حلف شمال الأطلسي، وأمينه العام اليوم، وما يركض به في مشارق الأرض ومغاربها/ شيمون بيريس واسحق رابين/، إذ يقولون بالخطر الأصولي الإسلامي على الغرب، وبأن تهديد الإسلام السياسي حل اليوم محل التهديد الشيوعي الذي انهار... أليس هذا من أبرز أشكال التلفيق والتشويه والقمع والإرهاب في الوقت ذاته!! ولماذا يكون العرب إرهابيين والمسلمون إرهابيين عندما يطالبون بتحرير أرضهم، وعندما يقاتلون تحت المشروعية الدولية بالمقاومة ضد الاحتلال، وعندما يرفضون الاعتراف بشرعية الاحتلال الصهيوني، ويستمرون في المقاومة لرفض اغتصاب الأرض والإبادة المنظمة للجنس التي تتم ضدهم ببطء وصمت و"احترام" إعلامي من الكبار؟! لا يوجد سوى تفسير واحد للإرهاب وهو ذلك الذي يمارَس ضدنا على جميع الجبهات من فلسطين المحتلة إلى جنوب لبنان إلى دار اتحاد الكتاب العرب بدمشق، إلى ضمائرنا وأعماق أعماق قناعاتنا.‏
            وأؤكد هنا من جديد أننا نرفض"إسرائيل" ونرفض دعوة"العقلاء والحكماء" للاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها، ولسنا حين نفعل ذلك، إرهابيين أو متطرفين، أو أصوليين حسب المفهوم المشوه الذي تروجه الصهيونية والغرب الاستعماري للأصولية... وتذكروا أن الأصولية- العنصرية- التلمودية المتحجرة هي التي تمارس وجوداً عسكرياً ودموياً واستعمارياً في فلسطين والجولان وجنوب لبنان، تلك التي هي أرضنا وتحمل هويتنا عبر التاريخ، الهوية العضوية مع الأرض والزمن وأشكال الحياة والعمران، وليست الهوية التركيبية"للمنطقة" التي يقول بها دعاة الشرق أوسطية والتطبيع والتطويع والتركيع باسم"الحضارة" و"الحداثة" وما سوى ذلك.‏
            * يرى البعض أن مقاومة التطبيع -ولا سيما الثقافي- ليس إلا محاولة للابتعاد عن المشكلة الأساسية وهي التطبيع السياسي؟‏
            ** لقد بينا في مؤتمراتنا وكتاباتنا أننا ضد الاعتراف بالعدو الصهيوني وضد ما يبنى على ذلك الاعتراف من تطبيع للعلاقات في أي مجال، وهذا يتضمن موقفاً واضحاً وصريحاً مما يتم على الساحة السياسية العربية كلها، في زمن التراجع والمتغيرات التي أتت لصالح العدو الصهيوني ابتداءً من قمة فاس وانتهاءً بما نتج وما قد ينتج عن مؤتمر مدريد؛ فالمفاوضات ستؤدي- في حال نجاحها- إلى اعتراف والاعتراف إلى تطبيع، ونحن نرفض الاعتراف والتطبيع كما نرفض المماحكات اللفظية، والشكلانية التي تريد أن تزجنا في تفحص تفاصيل النتائج بينما لا نقبل بالمقدمات.‏
            ويحاول أدونيس ومن يوافقه أو يقتبس منه آراءه أن يُدخلوا في روعنا، وبأسلوب لا ينقصه التعالي، أن التطبيع ومقاومة التطبيع -لا سيما الثقافي، وهم الذين فرقوا لا نحن- ألهية للمثقفين، وفي ظل ذلك الطرح بالذات يمارَس"التطبيع الثقافي" الذي يرمي إلى أن يجعل من وجودنا كله، كمثقفين، مجرد ألهية؟! فهل في هذا احترام للعقل وإعمالٌ للوعي، واحترام للأخ الشريك في الشرط الإنساني والمصير الإنساني؟ ولا نقول: القومي- الثقافي- الأخلاقي... الخ؟‏
            وأريد هنا أن أشير إلى أن القضية لم تعد -وربما لم تكن أصلاً- قضية إزالة صفة العضوية في اتحاد الكتاب العرب عن أدونيس -تلك العضوية التي نحترمها ولا يرى آخرون رأينا بحكم تمسكهم بفردية فوق المؤسسات والوطن والمجتمع المدني... بل هي قضية التطبيع وموقف الرافضين له، ومحاولة حصار أولئك قبل أن يكونوا جبهتهم ويكون لهم شأنهم، وقبل أن تحين استحقاقات معينة قد يشاغبون عليها.‏
            * هل تتوقع أن يحصل/أدونيس/ على جائزة نوبل هذا العام؟‏
            ** لا أستبعد ذلك، على أنني لا أريد أن أدخل في هذا الأمر، كل ما أعرفه، من متابعات سابقة، أن نوبل محكومة إلى حد بعيد برضا الحركة الصهيونية، وسدنة المركزية الثقافية الغربية.‏
            * المسألة أساساً هي السلام مع العدو الصهيوني، فما هو موقفكم من هذا الأمر بالتحديد؟‏
            ** "مسألة السلام" في منطقتنا العربية، وما يتصل منها بفلسطين المحتلة تحديداً، لا تدخل في باب السلام المستقر الدائم العادل الشامل كما نفهمه، السلام لا يكرهه أحد، ولا يكف عن التعلق به أحد، ولا سيما منا نحن الجيل الذي دمرته الحروب، وحاصرته الأزمات، وعرف همجية العدوان ووحشية العنصرية والصهيونية. ما يقوم في منطقتنا العربية بين الكيان الصهيوني المزروع بقوة القهر والاغتصاب على أرضية اقتلاع شعب من أرضه وإحلال آخر بدلاً عنه هو تواطؤ القوة السائدة، ثم ملاحقة ذلك الشعب وكل القوى التي تناصره لإبادة الحق والدعم والهوية والذاكرة والتاريخ؛ لا تنطبق عليه القوانين الطبيعية بين الدول والشعوب المتجاورة التي قد تختلف على مصالح وقضايا، وقد تتحارب، ولا سبيل لحل صراعاتها إلا بالسلام الذي يعيد الأمور بينها إلى ما كانت عليه قبل الصراع والحرب، ويعيدها إلى طبيعتها التي كانت سائدة. أما في حالة الكيان العنصري الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويطرد شعبها منها، ويتوسع على حساب الأقطار العربية الأخرى ليحقق مشروعه"التوراتي" "إسرائيل رباتي" فلا تنطبق عليها الحالات الطبيعية بين الشعوب والدول، إذ لا جوار لإسرائيل مع العرب لأنها لم تكن من تاريخهم ولا من تاريخ المنطقة: دولة ذات حق وتاريخ وسيادة ووجود؟‍ وهي بالتالي قامت على حساب شعب آخر ما زال قائماً مقاتلاً مقاوماً بالحجر والسكين واللحم والعظم ليستعيد حقه المشروع، فكيف نسمي ما تفرضه القوة على ذلك الشعب"سلاماً"؟ أو كيف نقبل بما يسمى"السلام" الذي يلغي وجوده وسيادته ويسلب أرضه ويهدده باستمرار؟‏
            إن ما يجري ليس"مسألة سلام" بل مسألة تصفية لشعب وحقوق وتاريخ وذاكرة، ما يجري فرض لحل بالقوة بعدما فرضت"دولة" بالقوة، فهل نقبل"سلام الاستسلام" حل القوة القاهرة؟! ذلك سؤال مطروح علينا في كل لحظة، وهل إذا رفضنا هذا النوع من الحلول يمكننا أن نوفر حلولاً ملائمة أو بديلة وموفقة تحقق الأهداف؟ إننا-على الصعيد السياسي- لا نملك القوة التي تمكننا من التحرير الفعلي الآني، وعلى صعيد الإمكانات والإرادة والقرار الشعبي، لا يمكننا أن نقبل واقع الهزيمة، ولا نستطيع أن نقر بأن فلسطين سُرقت منا وانتهى الأمر، ولا بد من أن نشارك في تسويغ تاريخ جديد للمنطقة ونلقنه الأجيال القادمة، ونقيم عليه أسس المستقبل.‏
            إذن نختار ما يبقي حقنا حياً، وذاكرتنا مليئة به وبمعطياته، وأجيال متشربة لواجبها وتاريخها، ونعد لهم ما استطعنا من قوة، ونفتح الباب أمام المستقبل الذي لا يبنى على استسلام الإرادة وهزيمة الأعماق والآمال وحتى الأحلام.‏
            إن اختيارنا يذهب إلى إبقاء القضية الفلسطينية حية بكل الوسائل، ونرفض الاستسلام للهيمنة النووية أو"السلام النووي" الذي يفرض علينا تحت اسم السلام.‏
            * هل من كلمة أخيرة؟‏
            ** أريد القول إننا بحاجة ماسة إلى إعادة نظر جذرية بكثير مما ثبت واستقر وران عليه الماء، وبكثير من حقائق الإعلام، وحقائق فترة الحرب الباردة؛ لأنها ليست حقائق على الإطلاق. ونحن بأمس الحاجة إلى إعادة النظر بترتيبات وبدهيات ومسلمات لإعادة ترتيب البيت الثقافي العربي، الذي يحتاج، على أية حال، إلى إعادة ترتيب.‏
            حاوره في دمشق غياث ناصر‏

            مجلة : فلسطين المسلمة ـ نيسان " إبريل " 1995 صـ 55،56‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق

            يعمل...
            X