إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الأجنحة..محمد الماغوط

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الأجنحة..محمد الماغوط

    الأجنحة




    الأغنياء والفقراء، القضاة والمتهمون، الحراس واللصوص والمخمورون، كلهم يقولون لي: ماذا تفعل في هذا الوطن بعدأن ابيضّ شعرك تحت سمائه وانحنى ظهرك فوق أرصفته، ماذا تنتظر منه بعد أن تحدد فيه مستقبلك ومستقبل غيرك في السياسة، كما تحدد مستقبل محمد أمين في الفن؟ سافر إلى بلاد الله الواسعة، فقد لا تجد وقتاً في المستقبل لشراء حقيبة. وقد لا تجد يداً أواصبعاً في يدك لحمل تلك الحقيبة. وكلما عدت إلى بيتي في آخر الليل أجد على عتبته جواز السفر وتأشيرة الخروج ودفتر الصحة وبطاقة الطائرة وحبوب الدوخة.



    وأحزم حقائبي وأسافر. في الذهاب أتمنى أن يكون مقعدي في غرفة القيادةعلى ركبة الطيار أو المضيفة لأبتعد بأقصى سرعة عن هذا الوطن. وفي الإياب أتمنى أن يكون مقعدي في مقدمة الطائرة على غطاء المحرك لأعود بأقصى سرعة إلى هذاالوطن.



    آخر مرة كانت إلى تونس. أربعة آلاف كيلومتر فوق البحار والقارات وأنااحدق من نافذة الطائرة كما يحدق اليتيم في واجهات الحوانيت في الأعياد، كانت الغيوم هاربة من العرب، الأمواج هاربة من العرب، الأسماك هاربة من العرب، التلوث هاربا من العرب، العروبة هاربة من العرب. وبعد أسبوع كنت أهرول عائدا اليهم وحزام الأمان مازال حول خصري.



    وسألتني زوجتي بدهشة: ما الذي عاد بك بهذه السرعة؟ ألم تعجبك تونس؟


    قلت: انها الجنة بعينيها، شمس وبحروغابات.


    قالت: وماذا تريد أكثر من ذلك؟


    قلت: بصراحة، بلد لا يوجد فيه مشاكل لا أستطيع العيش فيه.


    قلت: مستغربة: مشاكل!


    قلت: نعم. بلد بدون أزمة سكن، أزمةمواصلات، أزمة غاز، وبدون شائعات ... لا فلان طار ولا فلان راح، لا أستطيع أن أقيم فيه أكثر من اسبوع. كما أنني بدون دخان مهرب ودعوسة رجلين في الباصات، ومسؤولين يخالفون شارات المرور، وشاحنات صاعدة هابطة وقت القيلولة تصب جهود الجماهير في أساس بناية أو شاليه لهؤلاء المسؤولين، وكل نشرة والثانية يا جماهير شعبنا، وفي هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا، لا أشعربأنني في بلدي وبين أهلي وأحبابي كمايقولون في كلماتهم الترحيبية. كل شيء عندهم في تونس هادىء كمراكز الامتحانات، وكلشيء واضح ومحدد حسب النظام والقانون، ولذلك فقدت أعصابي وصرت كالخليجي الذي اعتادالنوم طوال حياته على صوت المكيف. فما أن يتوقف عن العمل حتى يستيقظ ولا يعرف كيف ينام حتى يعود إلى العمل والهدير من جديد.



    ثم انني أحب هذا الوطن من محيطه إلى خليجه. فأينما كنت، ما ان اقرأ اسمه في جريدة، أو اسمعه في اذاعة حتى اتجمد كنهرسيبيري، كعريف في حضرة جنرال، انني احبه، قدروا ظروفي وعواطفي.


    فيه قرأت أول قصة لياسين رفاعية، وسمعت أول أغنية لفهد بلان، وقرأت أول افتتاحية ترد على كل المخططات الاجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق وتنتهي ببيتين للأصمعي. فيه سمعت لأول مرة اسم: قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية،حرف الاستنزاف، الكيلومتر 101، مرسيدس 220 امبريالية، استعمار انسبستر، ديبون،فيزون، بيار كاردان، جنرال الكتريك، جنرالسيلاسفيو؟



    وصرخت زوجتي بحدة: مشكلتك أنك تسخر من كل شيء في هذه المنطقة.


    فقلت لها: بالعكس، مشكلتي أنني احترم كل شيء فيها حتى قمامتها،بدليل، وأنا عائد في آخر الليل سقط عليّ كيس قمامة، فلم أحتج. ولم أنفضها حتى عن رأسي وثيابي، لأنني من طريقة سقوطها عليّ عرفت أنها زبالة مدعومة.


    قالت: حالتك خطيرة جدا. عليك بمراجعة طبيب.


    قلت: ان الدكتور كيسنجر لن يحل مشكلتي، وتصوري أيضاً ... صرت أبكي في أفلام حسن الامام، وأفرقع بأصابعي في حفلات سميرة توفيق.


    قالت: كم يؤلمني أن ارى شاعراً مثلك لا يجد ما يتحدث به في أواخرعمره غير حسن الامام وسميرة توفيق وأكياس القمامة. هل نسيت الشعر؟


    قلت: الشعر! كأنك تذكرينني بطفل فقدته ولا أعرف قبرا له.


    قالت: هل تثق بي؟


    قلت: كثقتي بكرايسكي.


    قالت: أيا كان رأيك فانت في حالة يرثى لها أيها العجوز الصغير. وعلاجك الوحيد هو الشعر. السفر الروحي على أجنحةالحلم والخيال.


    فقلت: ولكن كيف؟ وإلى أين؟



    ولما كانت زوجتي بطبيعتها حالمة وخيالية، فسرعان ما فتحت النافذة وحدقت في الأفق البعيد وقالت: الآن وليس غداً. انزع من رأسك كل السفاسف السياسية والمنغصات اليومية وتعال معي لنطر على أجنحةالحلم والخيال إلى العوالم التي سبقنا اليها رامبو وفيرلين وهايني وشلر ولوركا،لنطر بعيدا في عالم السحر والجمال حيث السماء الزرقاء والأمواج الحالمة والغاباتالعذراء.


    فقلت لها: حبيبتي، اذا ما استمرت الامور في المنطقة على هذا المنوال. تبادل شتائم ومؤتمرات وخطابات. فلن نطير أنا وأنت وغيرنا في نهاية الأمر الا إلى كامب ديفيد.
يعمل...
X