إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

حول الكعبة الصوفية - قراءة في المبادئ الأساسية لتصوف الشيخ الأكبرابن عربي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حول الكعبة الصوفية - قراءة في المبادئ الأساسية لتصوف الشيخ الأكبرابن عربي

    قراءة في المبادئ الأساسية لتصوف الشيخ الأكبر


    قراءة في نص «حول الكعبة الصوفية»


    ختاماً لهذه الدراسة المتواضعة حول تصوف الشيخ الأكبر، فإن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي درجة وشكل التجربة الروحية التي يعلن عنها ظهور وشهود صورة كتلك التي جاء بها الحديث؟
    من الجدير ذكره، حسب شهادة الشيخ الأكبر (الفتوحات المكية، مجلد 2، ص325)، أنه قد تلقى قدراً كبيراً من ملَكة الخيال الشهودي هذه. يقول: «ولقد بلغت بي قوة الخيال أن كان حبي يجسد لي محبوباً من خارج لعيني كما كان يتجسد جبريل لرسول الله (ص) فلا أقدر أنظر إليه ويخاطبني وأصغي إليه وأفهم عنه. ولقد تركني أياماً لا أسيغ طعاماً، كلما قدمت لي مائدة يقف على حرفها وينظر إلي ويقول بلسان أسمعه بأذني: تأكل وأنت تشاهدني. فأمتنع عن الطعام ولا أجد جوعاً، وأمتلئ منه حتى سمنت وعبلت من نظري إليه، فقام لي مقام الغذاء. وكان أصحابي وأهل بيتي يعجبون من سمني مع عدم الغذاء لأني كنت أبقى الأيام الكثيرة لا أذوق ذواقاً ولا أجد جوعاً ولا عطشاً، لكنه كان لا يبرح نصب عيني في قيامي وقعودي وحركتي وسكوني».


    يقول هنري كوربان[7]: «هذا الاستهلال، الذي يُعتبَر استهلالاً فقط لأنه منتهى تجربة روحانية بكاملها، يقدم نفسه باعتباره حواراً ذا صفاء خارق في الحد بين الوعي وما يتجاوز الوعي، بين الأنا البشرية ونظيرها الإلهي. وحين كان ابن عربي يقوم بطوافه حول الكعبة، فإذ هو يلاقي الحجر الأسود، ذلك الكيان العجيب الذي يتعرف عليه للتو والذي يسميه "باهت، الفتى الفائت، المتكلم الصامت، الذي ليس بحي ولا مائت، المركب البسيط، المحاط المحيط"، وغيرها الكثير من الأوصاف المتراكمة (باستعادات وإشراقات كيميائية) لتعيين توافق الأضداد. وفي هذه اللحظة، راود الشاهد التردد: "وعلمت أن الطواف بالبيت كالصلاة على الجنازة"، "انظر إلى البيت قبل الفوت". ورأى الشاهد فجأة كعبة الحجر تصبح كائناً حياً. فعلم المنزلة الروحانية لذلك الفتى الذي قال فيه فيما يذكره في الفتوحات المكية، مجلد1، ص47، حيث يفضي إلى إعلان الفتى عمن يكون، فيكلمه الشيخ في عالم المثال والأجسام اللطيفة: "قبلت يمينه ومسحت من عرق الوحي جبينه، وقلت له انظر من طالب مجالستك، وراغب في مؤانستك. فأشار إلي إيماءً ولغزاً أنه فُطِرَ على ألا يكلم أحداً إلا رمزاً، وأن رمزي إذا علمته وتحققته وفهمته علمت أنه لا تدركه فصاحة الفصحاء، ونطقه لا تبلغه بلاغة البلغاء. فقلت له يا أيها البشير وهذا خير كثير، فعرفني باصطلاحك وأوقفني على كيفية حركات مفتاحك، فإني أريد مسامرتك وأحب مصاهرتك فإن عندك الكفؤ والنظير وهو النازل بذاتك والأمير. ولولا ذلك ما كانت لك حقيقة ظاهرة، ما تطلعت إليه وجوه ناظره. فأشار فعلمت، وجلي حقيقة جماله فهيمت، فسقط في يدي، وغلبني في الحين علي. فلما أفقت من الغشية، وأرعدت فرائصي من الخشية، علم أن العلم قد حصل، وألقى عصا سيره ونزل، فتلا حاله علي ما جاءت به الأنبياء، وتنزلت به الملائكة الأمناء. إنما يخشى الله من عباده العلماء. فجعلها دليلاً، واتخذها إلى معرفة العلم الحاصل به سبيلاً. فقلت له أطلعني على بعض أسرارك حتى أكون من جملة أحبارك، فقال انظر في تفاصيل نشأتي وفي ترتيب هيأتي تجد ما سألتني عنه في مرقوما، فإني لا أكون مكلماً ولا كليماً، فليس علمي بسواي، وليست ذاتي مغايرة لأسمائي. فأنا العلم والمعلوم والعليم، وأنا الحكمة والمحكم والحكيم».
    يتابع هنري كوربان: «وهكذا يتكشف الوجود الذي هو الذات المتعالية للمتصوف، ونظيره الإلهي، ولا يتردد المتصوف في التعرف عليه، ففي خلال مسعاه حين كان يواجه سر الحق سمع هذا الأمر: "فانظر إلى الملك معك طائفاً". فعلم لذلك أن الكعبة الصوفية قَلْبُ الوجود. فقد قيل له: "وبيتي الذي وسعني قَلبُك المقصود". فسر الحق ليس غير كعبة القلب وحول القلب يطوف الطائف الروحاني».
    كما يذكر هنري كوربان في كتابه «الأرض السماوية والجسد البعثي» في الصفحة 67 وما يليها، بأن الفتى يفصح في شخصيته عن وجود ما تم حدسه في رمز العمود البارز للبيت الصوفي – وهو أي، العمود البارز إحدى رؤى الشيخ الأكبر - المؤول المدرك للأسرار الإلهية. إنه الروح، والروح القدس، والملك جبريل لدى المتصوف، والحجر الأسود المنبثق من الكعبة (الذي يغدو حجراً أبيض» ما أن يتم التعرف عليه). إنه الاسم الإلهي، والعين الثابتة للمتصوف، وهذا ما يلاحظه الجيلاني أيضاً.
    يعود هنري كوربان في حديثه عن سر ذلك الفتى فيقول: «ثم أمره الفتى :"طف على أثري". ثم إننا نسمع حواراً غير مشهود يعز موضوعه على العبارة الإنسانية».
    ويقول كوربان: «والحكاية التي يحكيها الشهودي لمحاوره وبأمر منه هي حكاية مسعاه، أي باختصار حكاية التجربة الباطنية التي ينبثق عنها الحدس الأساس للحكمة الصوفية لدى ابن عربي. وهذا المسعى هو ما يمثله الطواف حول كعبة "القلب" أي حول سر الحق».
    وهكذا: «تصبح شعيرة الطواف إذن مثل الحد الأقصى لـ "صلاة الحق" التي تشكل التجلي ذاته، أي ظهور الحق للخلق في صورة يتجلى فيها بنفسه في ذلك الموجود، وفي ذاته يظهر ذلك الموجود إلى نفسه. إن الحل موجود، فقد أمر الفتى المتصوف: "ادخل معي كعبة الحجر"، الكعبة المغلقة التي لا يدخلها أحد: وهكذا فإن متأول السر لم يعد يكتفي بترجمته. فلما عرفنا من هو، أدخله إليها: "فدخلت معه بيت الحجر في الحال، وألقى يده على صدري وقال: أنا السابع في مرحلة الإحاطة بالكون، وبأسرار وجود العين والأين،...الخ».
    وفي تعليقه حول دعوته «ادخل معي كعبة الحجر»، يقول: «هو البيت المتعالي عن الحجاب والستر، وهو مدخل العارفين، وفيه راحة الطائفين، فدخلت معه بيت الحجر في الحال».
    «وبعد أن كشف له الفتى عمن هو باعتباره (أنا السابع...)، كشف له عن سر إيجاده وجلوسه على العرش في الأزل، وعلينا القول بأنه الملك الذي هو القلم الأعلى وقد نزل بذاته من منازله العلى لينفث فيه معرفة النفس ومعرفة الآخَر».
    أخيراً وليس آخراً، يختتم هنري كوربان فصله هذا، فيقول: «الحق لا يُلاقَى ولا يُرى. فهو البيت، وسر القلب حيث يدخل المتصوف بعد أن يحقق في نفسه الإنسان الكامل باعتباره كوناً أصغر، فيلاقي "صورة الحق"... و"البيت" هو محل التجلي، والقلب الذي ينشئ حوار المحبوب والمحب، ولهذا فإن هذا الحوار هو صلاة الحق... إنه تناظر اللامتناهي مع المتناهي، والكلية الإلهية مع عالم الإنسان الكامل، والحقيقة المتزامنة لمفارقة الرفض الإلهي: "لن تراني" مع التوكيد النبوي: "رأيت ربي في صورة شاب أمرد..."».
    يختتم هنري كوربان بأبيات شعر لأحد كبار شعراء بلاد فارس يقول فيها:
    «إذا ما نزل سيف غضبك علي بألم الموت
    ستجد نفسي فيه الطمأنينة
    وإذا ما أمرتني بكأس السم
    ستجعله روحي شرابها
    وحين سأنهض يوم البعث
    من غبار قبري
    سيكون عطر حبك
    عالقاً برداء روحي
    فحتى لو رفضت حبي
    ستمنحني رؤية وجهك
    إذ كان جليس أسراري»
يعمل...
X