إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تركيا وقضايا السياسة الخارجية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تركيا وقضايا السياسة الخارجية

    تركيا وقضايا السياسة الخارجية

    -خورشــيد حسين دلي -

    دراسة

    - من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1999

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    تركيا وقضايا السياسة الخارجية

    تركيا وقضايا السياسة الخارجية

    -خورشــيد حسين دلي -

    دراسة

    - من منشورات اتحاد الكتاب العرب - 1999

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

      مقدمـــــــة
      لعقود خلت، سعت تركيا جاهدة إلى توطيد علاقاتها مع الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، في حين لم تهتم بمسألة إقامة علاقات مماثلة مع دول الجوار الجغرافي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط ولا سيما العربية منها.‏
      في بداية التسعينات، أي مع انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية اتجه النشاط الإقليمي للسياسة التركية نحو الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وذلك في إطار الترتيبات الإقليمية الجديدة والبحث عن الدور، وقد تزامن هذا التوجه مع تغيرات شهدها الداخل التركي.‏
      تبحث هذه الدراسة في اتجاهات السياسة التركية، وعلاقة هذه الاتجاهات بالخيارات السياسية لتركيا وكذلك بالجغرافية السياسية، التي هي جغرافية غير محددة وفق التقسيمات التي حددها علماء الجغرافية والسياسة، فتركيا جغرافياً موزعة بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقفقاس والبلقان.‏
      وترتكز الفرضية المركزية للدراسة على أن تركيا بلد مسلم مهم، ينبغي إقامة علاقة جيدة بينها وبين دول الجوار الجغرافي من خلال إيجاد حل للمشاكل الخلافية وبناء مصالح متوافقة والتوجه نحو التنمية والتطور خدمة للأمن والاستقرار، بدلاً من القطيعة والسلبية، وأجواء التوتر والشك والتناقض في المصالح.‏
      وقد اعتمدنا في الدراسة على المنهج التحليلي الاستشرافي في قراءة الأهداف التي تسعى إليها السياسة الخارجية التركية، والقضايا التي تشغل هذه السياسة والعقبات التي تعترضها في كل دائرة من الدوائر الجغرافية التي تشغل الفضاء التركي.‏
      وتهدف الدراسة إلى إمكانية فهم الدوافع والعوامل التي تتحكم بالسياسة التركية، تجاه الدوائر الجيوسياسية، وعلاقة كل دائرة وأثرها في الدوائر الأخرى، وتعود الدراسة في الأساس إلى عدد من الأسئلة التي تطرح حول خيارات تركيا وهويتها وسياساتها.‏
      تتناول الدراسة الفضاء الجغرافي- السياسي للتوجهات التركية سياسياً واقتصادياً وأمنياً في ظل التغيرات الدولية والإقليمية الجارية. وقد قسمت هذا الفضاء إلى دوائر أساسية: الدائرة الأوروبية- الأمريكية، الدائرة الإسلامية، الدائرة الإسرائيلية، الدائرة الآسيوية مع دراسة القضايا التي تشغل كل دائرة، وعلاقة كل ذلك بالمتغيرات الداخلية التي تجري في تركيا وتتضمن الخاتمة بعض الاستخلاصات والاحتمالات والآفاق المستقبلية للخيارات السياسية التركية.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

        مقدمـــــــة
        لعقود خلت، سعت تركيا جاهدة إلى توطيد علاقاتها مع الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً، في حين لم تهتم بمسألة إقامة علاقات مماثلة مع دول الجوار الجغرافي في آسيا الوسطى والشرق الأوسط ولا سيما العربية منها.‏
        في بداية التسعينات، أي مع انتهاء الحرب الباردة وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية اتجه النشاط الإقليمي للسياسة التركية نحو الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وذلك في إطار الترتيبات الإقليمية الجديدة والبحث عن الدور، وقد تزامن هذا التوجه مع تغيرات شهدها الداخل التركي.‏
        تبحث هذه الدراسة في اتجاهات السياسة التركية، وعلاقة هذه الاتجاهات بالخيارات السياسية لتركيا وكذلك بالجغرافية السياسية، التي هي جغرافية غير محددة وفق التقسيمات التي حددها علماء الجغرافية والسياسة، فتركيا جغرافياً موزعة بين أوروبا والشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقفقاس والبلقان.‏
        وترتكز الفرضية المركزية للدراسة على أن تركيا بلد مسلم مهم، ينبغي إقامة علاقة جيدة بينها وبين دول الجوار الجغرافي من خلال إيجاد حل للمشاكل الخلافية وبناء مصالح متوافقة والتوجه نحو التنمية والتطور خدمة للأمن والاستقرار، بدلاً من القطيعة والسلبية، وأجواء التوتر والشك والتناقض في المصالح.‏
        وقد اعتمدنا في الدراسة على المنهج التحليلي الاستشرافي في قراءة الأهداف التي تسعى إليها السياسة الخارجية التركية، والقضايا التي تشغل هذه السياسة والعقبات التي تعترضها في كل دائرة من الدوائر الجغرافية التي تشغل الفضاء التركي.‏
        وتهدف الدراسة إلى إمكانية فهم الدوافع والعوامل التي تتحكم بالسياسة التركية، تجاه الدوائر الجيوسياسية، وعلاقة كل دائرة وأثرها في الدوائر الأخرى، وتعود الدراسة في الأساس إلى عدد من الأسئلة التي تطرح حول خيارات تركيا وهويتها وسياساتها.‏
        تتناول الدراسة الفضاء الجغرافي- السياسي للتوجهات التركية سياسياً واقتصادياً وأمنياً في ظل التغيرات الدولية والإقليمية الجارية. وقد قسمت هذا الفضاء إلى دوائر أساسية: الدائرة الأوروبية- الأمريكية، الدائرة الإسلامية، الدائرة الإسرائيلية، الدائرة الآسيوية مع دراسة القضايا التي تشغل كل دائرة، وعلاقة كل ذلك بالمتغيرات الداخلية التي تجري في تركيا وتتضمن الخاتمة بعض الاستخلاصات والاحتمالات والآفاق المستقبلية للخيارات السياسية التركية.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

          الفصل الأول
          يبحث هذا الفصل في أثر المتغيرات الدولية والإقليمية على الجيو سياسة التركية، وأثر هذه المتغيرات على البنية السياسية التركية الداخلية وانعكاس ذلك على التوجهات السياسية التركية خارجياً.‏
          الفضاء التركي والمتغيرات الدولية‏
          أظهرت المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية التي انطلقت من مدريد، أظهرت هذه التغيرات مجتمعة فضاء تركيا في جغرافية تمتد من بحر الأدرياتيكي إلى حدود الصين مروراً بالبلقان والقفقاس غرباً وشمالاً وآسيا الوسطى وإيران شرقاً والمنطقة العربية جنوباً، ومع هذه المتغيرات وجدت تركيا نفسها في قلب دوائر جيوسياسية تتشكل من جديد أمنياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وبدا لها في الأفق إمكانية القيام بدور محور إقليمي في هذه المنطقة الممتدة في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا والمفتوحة على انتماءات حضارية وقومية متعددة ومختلفة.‏
          وهكذا تركيا التي حسمت في السابق خيارها الاستراتيجي لصالح الارتباط بالغرب بمؤسساته العسكرية والسياسية والاقتصادية واستنكفت عن ممارسة نشاط مكثف تجاه الدائرة الحضارية الإسلامية، اتجهت أثر التغيرات الجارية إلى انتهاج سياسة أكثر فعالية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان والقفقاس، وأضحت لاعباً أكثر حيوية في العلاقات السياسية بين دول المنطقة.‏
          فقد وضع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عن روسيا وكذلك جمهوريات البلقان والقفقاس تركيا أمام خيارات التفاعل مع هذه الجمهوريات وشعوبها خاصة أن معظم شعوب هذه الجمهوريات من أصول تركية. وبدا في الأفق الحديث عن "عالم تركي" يربط أتراك جمهوريات آسيا الوسطى والقفقاس والبلقان بتركيا يأخذ اهتماماً كبيراً في النشاط الإقليمي التركي.‏
          من ناحية ثانية، دفع مناخ التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، ومشروع إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي دفع بتركيا إلى التوجه بقوة نحو الشرق الأوسط أمنياً واقتصادياً وتجارياً ومائياً.‏
          وتقليدياً، بقيت تركيا مشدودة إلى أوروبا، سعياً إلى نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، واستراتيجياً عملت على توطيد علاقاتها أكثر فأكثر مع الولايات المتحدة خاصة من الناحية العسكرية، معتقدة أن دورها في الاستراتيجية الأطلسية والأمريكية بشكل خاص سيبقى مهماً وفعالاً وإن كان سيتحول من دور الشرطي في مراقبة حدود الاتحاد السوفياتي السابق إلى دور التصدي للتيارات القومية العربية في المنطقة وكذلك للتيارات الإسلامية المتشددة.‏
          وقد كان لـ تورغوت أوزال رئيس الحكومة خلال الفترة 1984- 1989 ومن ثم رئيس الجمهورية حتى وفاته سنة 1993 دور رئيسي في وضع هذه الاستراتيجية، إذ رأى ترابطاً وثيقاً بين استمرار نظرة الغرب إلى تركيا كحليف ثمين وبين توسيع دورها ونفوذها الإقليميين(1).‏
          وقد تزامنت هذه المتغيرات في السياسة الخارجية التركية مع تغيرات في الخلفية الداخلية لهذه السياسة، أبرزها وصول التيار الإسلامي إلى الواجهة السياسية التركية بعدما ظل ينظر إليه طوال العقود الماضية على أنه تيار هامشي لا وزن له في العملية السياسية التركية، ومع وصول هذا التيار إلى الواجهة السياسية التركية بدأت بعض الأوساط التركية تقول إن مكانة تركيا الحقيقية وخيارها السياسي يجب أن يرتبط بالدائرة الحضارية الإسلامية لا بالخيار "العلماني" الذي يسعى للارتباط النهائي بالغرب، وقد رسخ هذا الاعتقاد في الأوساط التركية أكثر فأكثر الرفض الأوروبي المستمر قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي ومشاكلها المزمنة مع اليونان.‏
          نظرياً، أدت هذه المتغيرات إلى بروز اتجاهين أساسيين في السياسة التركية:‏
          1- اتجاه "تقليدي علماني" تمثله الأحزاب العلمانية التي تحمل إرث أتاتورك على اختلاف مشاربها من اليسار إلى اليمين، ويعد الجيش نفسه الحامي الأساسي للعلمانية ولمبادئ أتاتورك، ويعتقد هذا الاتجاه أن تركيا دولة أوروبية ويجب "أوربتها" بشكل كامل، وإن التغيرات الجارية لن تغير من هذا الاعتقاد شيئاً سوى زيادة دور تركيا الأمني في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.‏
          2- اتجاه إسلامي، وتمثله الطرق الدينية والأحزاب الإسلامية، وفي مقدمتها حزب الرفاه الذي حله الجيش وتحول لاحقاً إلى حزب الفضيلة، ويعتقد هذا الاتجاه أنه لابد من الانفكاك التدريجي عن الغرب ومؤسساته والعودة التدريجية إلى الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية، وقد عبر نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه مراراً عن رغبته في إقامة "اتحاد للدول الإسلامية" يزيد من قوة هذه الدول في السياسة الدولية ويخلصها من الهيمنة الغربية.‏
          وهناك اتجاه ثالث ولكنه ضعيف تمثله بعض الأحزاب القومية، مثل الحركة القومية، وحزب الوحدة العظمى وبعض الأجنحة القومية داخل الأحزاب العلمانية وكذلك بعض أوساط حزب الفضيلة، وهؤلاء لهم نظرة توفيقية تجمع بين تصورات الاتجاه الأول والثاني.‏
          وفي الواقع، رغم اختلاف تصورات هذه الاتجاهات إلا أنها جميعاً تتفق على ضرورة زيادة الدور التركي إقليمياً.‏
          " انتقال مركز الزعامة"‏
          يعتقد الكثير من الأوساط التركية(2) أن المتغيرات الدولية والإقليمية والتحولات الجارية أدت إلى بروز معادلة جديدة في الجيوبوليتكا الإسلامية، مفادها انتقال مركز هذه الجيوبوليتكا إلى تركيا بدلاً من العالم العربي وإيران، وحسب هذه الأوساط فإن العالم العربي في ظل التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية وإدخال إسرائيل في البنية الجيوسياسية للمنطقة يتجه أكثر فأكثر إلى اتخاذ موقع طرفي إسلامياً وإقليمياً، كذلك إيران وبحكم وضع الشيعة كأقلية في العالم الإسلامي لن تحتل سوى محور ثانوي في جغرافية العالم الإسلامي وتحديداً في الجزء الشرقي منه، في حين تعتقد هذه الأوساط أن تركيا تملك في "النظام العالمي الجديد" كل العناصر الضرورية والاستراتيجية التي تجعلها تتبوأ وتتزعم المركزية في العالم الإسلامي، وبرأيهم فإن الجيوبوليتكا الإسلامية الجديدة تمتد من عتبة أوروبا الوسطى إلى سهوب آسيا وهضابها في محاذاة حدود الصين، ووفق هذه النظرة فإن تركيا هي البلد الإسلامي الوحيد الذي يملك بعداً أوروبياً وأورآسياً وإسلامياً.‏
          ويرى الخبير السياسي التركي/ سينجر ديفتش أوغلو/ أن تركيا تقع وسط بنية سياسية جغرافية على النحو التالي:‏
          - الاتحاد المسيحي الممتد من الأطلسي إلى الأورال الذي يشمل أيضاً روسيا وجورجيا وأرمينيا.‏
          - الجمهوريات التركية الجديدة التي ظهرت عقب تفكك الاتحاد السوفياتي.‏
          - الحزام الإسلامي الذي يشمل المشرق العربي وإيران وباكستان.‏
          ويعتقد أوغلو أنه سيكون لتركيا بحكم توسطها هذه الدوائر الثلاث إمكانية أن تؤدي دوراً سياسياً واقتصادياً مهماً جداً(3).‏
          هذه التغيرات والتحولات التي عصفت فيما يبدو ببعض ثوابت السياسة الخارجية التركية دفعت بدبلوماسيتها إلى تدعيم خيارها الاستراتيجي المرتبط بالغرب ببعض التوجهات والمنطلقات الإقليمية المستحدثة تجاه آسيا الوسطى والشرق الأوسط، فإضافة إلى أربكان بدأ بعض زعماء الأحزاب العلمانية مثل مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم وتانسوتشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم يتحدثون عن البعد الإسلامي لتركيا وأهمية هذا البعد في السياسة التركية. تقول تشيلر في خطاب لها في 16/9/1996: "إذا كانت تركيا تريد أن تواصل الادعاء بأنها جسر للسلام بين الشرق والغرب، فيجب أن تعرف أن إحدى قدميها هي في الشرق..... كانت تركيا بحاجة إلى تغيير اجتماعي كامل، وهذا كان يتطلب أن اغيّر تفكيري ورؤيتي..."(4) كذلك أشار يلماظ مرات عدة إلى هذا البعد في أعقاب قرار بروكسل بشأن رفض قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، والاستجابة التركية تجاه هذه المتغيرات والتحولات يمكن تحديدها بمستويين من الدوافع:‏
          الأول : مادي ملموس أساسه الثابت الجغرافي الذي يفرض الاهتمام بالبنية الإقليمية المحيطة سواء كمصدر تهديد محتمل للأمن القومي أو كمجال حيوي للحركة والنفوذ الإقليمي والدولي أو لتأمين علاقات اقتصادية مفيدة للصالح الوطني.‏

          الثاني : معنوي وجداني أساسه الشعور التركي المستتر أحياناً والظاهر في أحيان أخرى بوجود روابط فكرية وثقافية وحضارية في هذه الدوائر.‏
          والمستويان يقومان على جدلية تنطوي في نسيجها العام على عناصر من الجغرافية والتاريخ والدوافع الدينية والثقافية والمصالح الاقتصادية تحركها الطموحات(5).‏
          بعكس الاعتقادات السابقة يرى بعض الساسة والمفكرين الأتراك وحتى الأجانب(6) أن التغيرات الجارية وضعت تركيا أمام تحديات صعبة ومصيرية أصعبها تفجر مشاكل الداخل بشكل خطير خاصة المشكلة الكردية ذات التشعبات الكثيرة والمعقدة، وهؤلاء يتساءلون هل تركيا دولة أوروبية أم آسيوية، أم شرق أوسطية؟ ويتعلق هذا السؤال القلق بخيارات تركيا وهويتها، فرغم أن تركيا بلد له دور كبير في تاريخ العالم الإسلامي والإسلام إلا أن تركيا الجمهورية التي أسسها مصطفى علي فندي، كمال باشا الملقب بـ (أتاتورك أي أبو الأتراك) عام 1923 حظر فيها كل نشاط إسلامي بموجب الدستور، وقد سعى أتاتورك وخلفاؤه إلى اقتلاع الشعب التركي من هويته الإسلامية وانتمائه للحضارة الإسلامية(7)، ورغم الخيار الاستراتيجي، الذي رسمه أتاتورك لتركيا نحو الارتباط بالغرب إلا أن تركيا الإسلامية طبقاً لحقائق التاريخ والجغرافية والدين جعلت الغرب ينظر على الدوام إلى هويتها "العلمانية" كهوية غامضة ملتبسة ينبغي التعامل معها بحذر وإلى التعامل مع الخيار التركي هذا في إطار الدور الوظيفي لأمنه واستراتيجيته، في المقابل أدى الخيار الغربي لتركيا إلى نوع من السلبية والقطيعة بين تركيا والدول الإسلامية ولا سيما الجوار منها، فضلاً عن الخلافات بشأن عدد من القضايا كالمياه والأقليات والحدود والأمن إضافة إلى سوء الفهم المتبادل إزاء عدد من هذه القضايا، وقد زاد الأمر إشكالية انضمام تركيا إلى عدد من التجمعات الأمنية والاقتصادية والحضارية في وقت واحد، فتركيا عضو في الحلف الأطلسي والمجلس الأوروبي وتسعى إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ولكنها في الوقت نفسه عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، وتسعى إلى إقامة "الجامعة التركية أو العالم التركي" مع الجمهوريات ذات الأصول التركية في آسيا الوسطى وذلك على غرار بعض المنظمات القومية، كـ جامعة الدول العربية أو تلك الشبيهة بالاتحاد الأوروبي.‏
          في السياق ذاته، تركيا التي تقول إنها دولة علمانية في دستورها وقوانينها ونظام حياتها السياسي والإداري والاجتماعي تفخر في الوقت نفسه بأنها دولة إسلامية لها أمجاد عظيمة في التاريخ الإسلامي وليس سراً أن أربكان أكد مراراً رغبته في قيادة تركيا للعالم الإسلامي، وقد أدى جمع تركيا عضوية أكثر من منظمة متمثلة بين الشرق والغرب في وقت واحد إلى القول بأنها جسر واقعي بين حضارتين وثقافتين، بين أوروبا وآسيا، حيث الاتصالات والمواصلات الواسعة ولكن مثل هذا القول لا أساس له من النواحي السياسية والحضارية والمادية والفلسفية. فعلاقاتها مع الدول الإسلامية مرتبكة وغير مستقرة، كما أن علاقاتها مع الغرب مشوبة بالمزيد من الشك والحقد(8)، يضاف إلى ذلك الانقسامات في تركيا نفسها بين العلمانيين والإسلاميين". وجغرافياً: لا تنتمي تركيا إلى أية فئة جغرافية محددة، تبلغ مساحتها 780.567 كم2 منها 24.000 كم2 في أوروبا و 756.567 كم2 في آسيا ويبلغ طول حدودها 2753 كم: منها 877 كم مع سورية و 610 مع روسيا و 269 مع بلغاريا و 330 مع العراق و 454 كم مع إيران، ويبلغ طول سواحلها 8333 كم على البحر الأسود و 1577 كم على البحر المتوسط، و2705 كم على بحر إيجه و 172 كم على الدردنيل و 90 كم على البوسفور و 927 كم على بحر مرمرة، وتسيطر تركيا على المدخل المؤدي إلى البحر الأسود وعلى المدخل الشرقي للبحر المتوسط وهي تطل على آسيا وإفريقيا وأوروبا. "الإطلالة هنا ليست بالمعنى الجغرافي إنما بالمعنى الحيوي للموقع" كما هي ممر بحري وجوي وبري بين هذه القارات(9).‏
          هذه الجغرافية الحيوية التي تتوسط ثلاث قارات مهمة، والمفتوحة على انتماءات حضارية عدة ومختلفة جعلت تركيا على الدوام تعيش حالة جذب نحو هذه الدائرة الجغرافية المحيطة أو تلك وفقاً للمصالح والأمن وعوامل التاريخ والثقافة، وإلى بلورة خيارات جديدة تبعاً لهذه العوامل في ظل التغيرات الدولية والإقليمية الجارية باستمرار، وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات تطرح مسألة الهوية نفسها من جديد على تركيا على نحو هل تكمن هويتها في انتمائها إلى المجموعة الإسلامية أم إلى مجموعة الدول الأوروبية؟ الواضح أن السؤال يشير إلى وجود انقسامات بين الأتراك حول هذه المسألة وإن كان حجم التيار الذي يرى انتماءه إلى الدول الإسلامية في تزايد، وحسب استطلاع إجرته وكالة المعلومات الأميركية سنة 1996 فإن 47 في المئة من الأتراك يعتبرون تركيا جزءاً من المجموعة الإسلامية و 27 في المئة يعتبرونها جزءاً من أوروبا و 15 في المئة يقولون بالرأيين(10).‏
          إن طرح مسألة الهوية حالياً في تركيا له علاقة بالصراع العلني- الخفي بين التيارات الإسلامية والنخب "العلمانية" الحاكمة منذ عام 1923 والتي تصر على إنجاز هوية تركيا خارج محيط الدائرة الإسلامية أي في الارتباط بالغرب، وقد عمقت التحولات الجارية من أزمة الهوية في تركيا بين العلمانيين الذين يريدون ربط تركيا بالغرب باسم التحديث والعصرنة، وبين الإسلاميين الذين يرون في هذا التوجه المصطنع القضاء على هوية تركيا الإسلامية وثقافتها الروحية الأصلية ويحاولون إعادة الهوية القديمة المرتبطة بالدين(11).‏
          وعليه أضحت مسألة الهوية بين هذين الاتجاهين إشكالية سياسية وفلسفية واجتماعية فهي قضية تتعلق بالثقافة والقيم ونظام الحياة والعادات، وحتى الملبس والمأكل، وبالتالي ستبقى مسألة إنجاز الهوية مسألة قائمة ومستمرة تشغل الأتراك في ظل الانقسام وعدم القدرة على حسم التناقض بين الهوية الشرقية الإسلامية والهوية الغربية العلمانية، بين التيار العلماني الذي يسعى للارتباط بالغرب بمؤسساته السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية وبين التيار الإسلامي الرافض لهذا التيار ويريد الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

            الفصل الأول
            يبحث هذا الفصل في أثر المتغيرات الدولية والإقليمية على الجيو سياسة التركية، وأثر هذه المتغيرات على البنية السياسية التركية الداخلية وانعكاس ذلك على التوجهات السياسية التركية خارجياً.‏
            الفضاء التركي والمتغيرات الدولية‏
            أظهرت المتغيرات الدولية والإقليمية الجارية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية التي انطلقت من مدريد، أظهرت هذه التغيرات مجتمعة فضاء تركيا في جغرافية تمتد من بحر الأدرياتيكي إلى حدود الصين مروراً بالبلقان والقفقاس غرباً وشمالاً وآسيا الوسطى وإيران شرقاً والمنطقة العربية جنوباً، ومع هذه المتغيرات وجدت تركيا نفسها في قلب دوائر جيوسياسية تتشكل من جديد أمنياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وبدا لها في الأفق إمكانية القيام بدور محور إقليمي في هذه المنطقة الممتدة في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا والمفتوحة على انتماءات حضارية وقومية متعددة ومختلفة.‏
            وهكذا تركيا التي حسمت في السابق خيارها الاستراتيجي لصالح الارتباط بالغرب بمؤسساته العسكرية والسياسية والاقتصادية واستنكفت عن ممارسة نشاط مكثف تجاه الدائرة الحضارية الإسلامية، اتجهت أثر التغيرات الجارية إلى انتهاج سياسة أكثر فعالية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والبلقان والقفقاس، وأضحت لاعباً أكثر حيوية في العلاقات السياسية بين دول المنطقة.‏
            فقد وضع انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عن روسيا وكذلك جمهوريات البلقان والقفقاس تركيا أمام خيارات التفاعل مع هذه الجمهوريات وشعوبها خاصة أن معظم شعوب هذه الجمهوريات من أصول تركية. وبدا في الأفق الحديث عن "عالم تركي" يربط أتراك جمهوريات آسيا الوسطى والقفقاس والبلقان بتركيا يأخذ اهتماماً كبيراً في النشاط الإقليمي التركي.‏
            من ناحية ثانية، دفع مناخ التسوية السلمية للصراع العربي- الإسرائيلي، ومشروع إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي دفع بتركيا إلى التوجه بقوة نحو الشرق الأوسط أمنياً واقتصادياً وتجارياً ومائياً.‏
            وتقليدياً، بقيت تركيا مشدودة إلى أوروبا، سعياً إلى نيل عضوية الاتحاد الأوروبي، واستراتيجياً عملت على توطيد علاقاتها أكثر فأكثر مع الولايات المتحدة خاصة من الناحية العسكرية، معتقدة أن دورها في الاستراتيجية الأطلسية والأمريكية بشكل خاص سيبقى مهماً وفعالاً وإن كان سيتحول من دور الشرطي في مراقبة حدود الاتحاد السوفياتي السابق إلى دور التصدي للتيارات القومية العربية في المنطقة وكذلك للتيارات الإسلامية المتشددة.‏
            وقد كان لـ تورغوت أوزال رئيس الحكومة خلال الفترة 1984- 1989 ومن ثم رئيس الجمهورية حتى وفاته سنة 1993 دور رئيسي في وضع هذه الاستراتيجية، إذ رأى ترابطاً وثيقاً بين استمرار نظرة الغرب إلى تركيا كحليف ثمين وبين توسيع دورها ونفوذها الإقليميين(1).‏
            وقد تزامنت هذه المتغيرات في السياسة الخارجية التركية مع تغيرات في الخلفية الداخلية لهذه السياسة، أبرزها وصول التيار الإسلامي إلى الواجهة السياسية التركية بعدما ظل ينظر إليه طوال العقود الماضية على أنه تيار هامشي لا وزن له في العملية السياسية التركية، ومع وصول هذا التيار إلى الواجهة السياسية التركية بدأت بعض الأوساط التركية تقول إن مكانة تركيا الحقيقية وخيارها السياسي يجب أن يرتبط بالدائرة الحضارية الإسلامية لا بالخيار "العلماني" الذي يسعى للارتباط النهائي بالغرب، وقد رسخ هذا الاعتقاد في الأوساط التركية أكثر فأكثر الرفض الأوروبي المستمر قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي ومشاكلها المزمنة مع اليونان.‏
            نظرياً، أدت هذه المتغيرات إلى بروز اتجاهين أساسيين في السياسة التركية:‏
            1- اتجاه "تقليدي علماني" تمثله الأحزاب العلمانية التي تحمل إرث أتاتورك على اختلاف مشاربها من اليسار إلى اليمين، ويعد الجيش نفسه الحامي الأساسي للعلمانية ولمبادئ أتاتورك، ويعتقد هذا الاتجاه أن تركيا دولة أوروبية ويجب "أوربتها" بشكل كامل، وإن التغيرات الجارية لن تغير من هذا الاعتقاد شيئاً سوى زيادة دور تركيا الأمني في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.‏
            2- اتجاه إسلامي، وتمثله الطرق الدينية والأحزاب الإسلامية، وفي مقدمتها حزب الرفاه الذي حله الجيش وتحول لاحقاً إلى حزب الفضيلة، ويعتقد هذا الاتجاه أنه لابد من الانفكاك التدريجي عن الغرب ومؤسساته والعودة التدريجية إلى الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية، وقد عبر نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه مراراً عن رغبته في إقامة "اتحاد للدول الإسلامية" يزيد من قوة هذه الدول في السياسة الدولية ويخلصها من الهيمنة الغربية.‏
            وهناك اتجاه ثالث ولكنه ضعيف تمثله بعض الأحزاب القومية، مثل الحركة القومية، وحزب الوحدة العظمى وبعض الأجنحة القومية داخل الأحزاب العلمانية وكذلك بعض أوساط حزب الفضيلة، وهؤلاء لهم نظرة توفيقية تجمع بين تصورات الاتجاه الأول والثاني.‏
            وفي الواقع، رغم اختلاف تصورات هذه الاتجاهات إلا أنها جميعاً تتفق على ضرورة زيادة الدور التركي إقليمياً.‏
            " انتقال مركز الزعامة"‏
            يعتقد الكثير من الأوساط التركية(2) أن المتغيرات الدولية والإقليمية والتحولات الجارية أدت إلى بروز معادلة جديدة في الجيوبوليتكا الإسلامية، مفادها انتقال مركز هذه الجيوبوليتكا إلى تركيا بدلاً من العالم العربي وإيران، وحسب هذه الأوساط فإن العالم العربي في ظل التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية وإدخال إسرائيل في البنية الجيوسياسية للمنطقة يتجه أكثر فأكثر إلى اتخاذ موقع طرفي إسلامياً وإقليمياً، كذلك إيران وبحكم وضع الشيعة كأقلية في العالم الإسلامي لن تحتل سوى محور ثانوي في جغرافية العالم الإسلامي وتحديداً في الجزء الشرقي منه، في حين تعتقد هذه الأوساط أن تركيا تملك في "النظام العالمي الجديد" كل العناصر الضرورية والاستراتيجية التي تجعلها تتبوأ وتتزعم المركزية في العالم الإسلامي، وبرأيهم فإن الجيوبوليتكا الإسلامية الجديدة تمتد من عتبة أوروبا الوسطى إلى سهوب آسيا وهضابها في محاذاة حدود الصين، ووفق هذه النظرة فإن تركيا هي البلد الإسلامي الوحيد الذي يملك بعداً أوروبياً وأورآسياً وإسلامياً.‏
            ويرى الخبير السياسي التركي/ سينجر ديفتش أوغلو/ أن تركيا تقع وسط بنية سياسية جغرافية على النحو التالي:‏
            - الاتحاد المسيحي الممتد من الأطلسي إلى الأورال الذي يشمل أيضاً روسيا وجورجيا وأرمينيا.‏
            - الجمهوريات التركية الجديدة التي ظهرت عقب تفكك الاتحاد السوفياتي.‏
            - الحزام الإسلامي الذي يشمل المشرق العربي وإيران وباكستان.‏
            ويعتقد أوغلو أنه سيكون لتركيا بحكم توسطها هذه الدوائر الثلاث إمكانية أن تؤدي دوراً سياسياً واقتصادياً مهماً جداً(3).‏
            هذه التغيرات والتحولات التي عصفت فيما يبدو ببعض ثوابت السياسة الخارجية التركية دفعت بدبلوماسيتها إلى تدعيم خيارها الاستراتيجي المرتبط بالغرب ببعض التوجهات والمنطلقات الإقليمية المستحدثة تجاه آسيا الوسطى والشرق الأوسط، فإضافة إلى أربكان بدأ بعض زعماء الأحزاب العلمانية مثل مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم وتانسوتشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم يتحدثون عن البعد الإسلامي لتركيا وأهمية هذا البعد في السياسة التركية. تقول تشيلر في خطاب لها في 16/9/1996: "إذا كانت تركيا تريد أن تواصل الادعاء بأنها جسر للسلام بين الشرق والغرب، فيجب أن تعرف أن إحدى قدميها هي في الشرق..... كانت تركيا بحاجة إلى تغيير اجتماعي كامل، وهذا كان يتطلب أن اغيّر تفكيري ورؤيتي..."(4) كذلك أشار يلماظ مرات عدة إلى هذا البعد في أعقاب قرار بروكسل بشأن رفض قبول تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي، والاستجابة التركية تجاه هذه المتغيرات والتحولات يمكن تحديدها بمستويين من الدوافع:‏
            الأول : مادي ملموس أساسه الثابت الجغرافي الذي يفرض الاهتمام بالبنية الإقليمية المحيطة سواء كمصدر تهديد محتمل للأمن القومي أو كمجال حيوي للحركة والنفوذ الإقليمي والدولي أو لتأمين علاقات اقتصادية مفيدة للصالح الوطني.‏

            الثاني : معنوي وجداني أساسه الشعور التركي المستتر أحياناً والظاهر في أحيان أخرى بوجود روابط فكرية وثقافية وحضارية في هذه الدوائر.‏
            والمستويان يقومان على جدلية تنطوي في نسيجها العام على عناصر من الجغرافية والتاريخ والدوافع الدينية والثقافية والمصالح الاقتصادية تحركها الطموحات(5).‏
            بعكس الاعتقادات السابقة يرى بعض الساسة والمفكرين الأتراك وحتى الأجانب(6) أن التغيرات الجارية وضعت تركيا أمام تحديات صعبة ومصيرية أصعبها تفجر مشاكل الداخل بشكل خطير خاصة المشكلة الكردية ذات التشعبات الكثيرة والمعقدة، وهؤلاء يتساءلون هل تركيا دولة أوروبية أم آسيوية، أم شرق أوسطية؟ ويتعلق هذا السؤال القلق بخيارات تركيا وهويتها، فرغم أن تركيا بلد له دور كبير في تاريخ العالم الإسلامي والإسلام إلا أن تركيا الجمهورية التي أسسها مصطفى علي فندي، كمال باشا الملقب بـ (أتاتورك أي أبو الأتراك) عام 1923 حظر فيها كل نشاط إسلامي بموجب الدستور، وقد سعى أتاتورك وخلفاؤه إلى اقتلاع الشعب التركي من هويته الإسلامية وانتمائه للحضارة الإسلامية(7)، ورغم الخيار الاستراتيجي، الذي رسمه أتاتورك لتركيا نحو الارتباط بالغرب إلا أن تركيا الإسلامية طبقاً لحقائق التاريخ والجغرافية والدين جعلت الغرب ينظر على الدوام إلى هويتها "العلمانية" كهوية غامضة ملتبسة ينبغي التعامل معها بحذر وإلى التعامل مع الخيار التركي هذا في إطار الدور الوظيفي لأمنه واستراتيجيته، في المقابل أدى الخيار الغربي لتركيا إلى نوع من السلبية والقطيعة بين تركيا والدول الإسلامية ولا سيما الجوار منها، فضلاً عن الخلافات بشأن عدد من القضايا كالمياه والأقليات والحدود والأمن إضافة إلى سوء الفهم المتبادل إزاء عدد من هذه القضايا، وقد زاد الأمر إشكالية انضمام تركيا إلى عدد من التجمعات الأمنية والاقتصادية والحضارية في وقت واحد، فتركيا عضو في الحلف الأطلسي والمجلس الأوروبي وتسعى إلى عضوية الاتحاد الأوروبي ولكنها في الوقت نفسه عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، وتسعى إلى إقامة "الجامعة التركية أو العالم التركي" مع الجمهوريات ذات الأصول التركية في آسيا الوسطى وذلك على غرار بعض المنظمات القومية، كـ جامعة الدول العربية أو تلك الشبيهة بالاتحاد الأوروبي.‏
            في السياق ذاته، تركيا التي تقول إنها دولة علمانية في دستورها وقوانينها ونظام حياتها السياسي والإداري والاجتماعي تفخر في الوقت نفسه بأنها دولة إسلامية لها أمجاد عظيمة في التاريخ الإسلامي وليس سراً أن أربكان أكد مراراً رغبته في قيادة تركيا للعالم الإسلامي، وقد أدى جمع تركيا عضوية أكثر من منظمة متمثلة بين الشرق والغرب في وقت واحد إلى القول بأنها جسر واقعي بين حضارتين وثقافتين، بين أوروبا وآسيا، حيث الاتصالات والمواصلات الواسعة ولكن مثل هذا القول لا أساس له من النواحي السياسية والحضارية والمادية والفلسفية. فعلاقاتها مع الدول الإسلامية مرتبكة وغير مستقرة، كما أن علاقاتها مع الغرب مشوبة بالمزيد من الشك والحقد(8)، يضاف إلى ذلك الانقسامات في تركيا نفسها بين العلمانيين والإسلاميين". وجغرافياً: لا تنتمي تركيا إلى أية فئة جغرافية محددة، تبلغ مساحتها 780.567 كم2 منها 24.000 كم2 في أوروبا و 756.567 كم2 في آسيا ويبلغ طول حدودها 2753 كم: منها 877 كم مع سورية و 610 مع روسيا و 269 مع بلغاريا و 330 مع العراق و 454 كم مع إيران، ويبلغ طول سواحلها 8333 كم على البحر الأسود و 1577 كم على البحر المتوسط، و2705 كم على بحر إيجه و 172 كم على الدردنيل و 90 كم على البوسفور و 927 كم على بحر مرمرة، وتسيطر تركيا على المدخل المؤدي إلى البحر الأسود وعلى المدخل الشرقي للبحر المتوسط وهي تطل على آسيا وإفريقيا وأوروبا. "الإطلالة هنا ليست بالمعنى الجغرافي إنما بالمعنى الحيوي للموقع" كما هي ممر بحري وجوي وبري بين هذه القارات(9).‏
            هذه الجغرافية الحيوية التي تتوسط ثلاث قارات مهمة، والمفتوحة على انتماءات حضارية عدة ومختلفة جعلت تركيا على الدوام تعيش حالة جذب نحو هذه الدائرة الجغرافية المحيطة أو تلك وفقاً للمصالح والأمن وعوامل التاريخ والثقافة، وإلى بلورة خيارات جديدة تبعاً لهذه العوامل في ظل التغيرات الدولية والإقليمية الجارية باستمرار، وانطلاقاً من هذه النقطة بالذات تطرح مسألة الهوية نفسها من جديد على تركيا على نحو هل تكمن هويتها في انتمائها إلى المجموعة الإسلامية أم إلى مجموعة الدول الأوروبية؟ الواضح أن السؤال يشير إلى وجود انقسامات بين الأتراك حول هذه المسألة وإن كان حجم التيار الذي يرى انتماءه إلى الدول الإسلامية في تزايد، وحسب استطلاع إجرته وكالة المعلومات الأميركية سنة 1996 فإن 47 في المئة من الأتراك يعتبرون تركيا جزءاً من المجموعة الإسلامية و 27 في المئة يعتبرونها جزءاً من أوروبا و 15 في المئة يقولون بالرأيين(10).‏
            إن طرح مسألة الهوية حالياً في تركيا له علاقة بالصراع العلني- الخفي بين التيارات الإسلامية والنخب "العلمانية" الحاكمة منذ عام 1923 والتي تصر على إنجاز هوية تركيا خارج محيط الدائرة الإسلامية أي في الارتباط بالغرب، وقد عمقت التحولات الجارية من أزمة الهوية في تركيا بين العلمانيين الذين يريدون ربط تركيا بالغرب باسم التحديث والعصرنة، وبين الإسلاميين الذين يرون في هذا التوجه المصطنع القضاء على هوية تركيا الإسلامية وثقافتها الروحية الأصلية ويحاولون إعادة الهوية القديمة المرتبطة بالدين(11).‏
            وعليه أضحت مسألة الهوية بين هذين الاتجاهين إشكالية سياسية وفلسفية واجتماعية فهي قضية تتعلق بالثقافة والقيم ونظام الحياة والعادات، وحتى الملبس والمأكل، وبالتالي ستبقى مسألة إنجاز الهوية مسألة قائمة ومستمرة تشغل الأتراك في ظل الانقسام وعدم القدرة على حسم التناقض بين الهوية الشرقية الإسلامية والهوية الغربية العلمانية، بين التيار العلماني الذي يسعى للارتباط بالغرب بمؤسساته السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية وبين التيار الإسلامي الرافض لهذا التيار ويريد الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

              الفصل الثاني
              شكل الخيار الأوروبي- الغربي منذ عام 1923 خياراً وحيداً لا بديل عنه لدى النخبة الكمالية في تركيا.‏
              يبحث هذا الفصل في سياسة تركيا الهادفة إلى نيل العضوية الأوروبية وأسباب الرفض الأوروبي لعضويتها، كما يسلط الضوء على الخلافات التركية- اليونانية ومشكلة قبرص. إضافة إلى العلاقات التركية- الأمريكية.‏
              تركيا والدائرة الأوروبية- الأمريكية‏
              أولاً- تركيا وعضوية الاتحاد الأوروبي:‏
              في 3 آذار عام 1924 أعلن أتاتورك عن إلغاء الخلافة الإسلامية وقيام دولة علمانية تعتمد في دستورها القوانين الأوروبية(12)، ثم حل في العام نفسه منصب شيخ الإسلام وجميع الأجهزة المرتبطة به سواء كانت شرعية أم قضائية وألحق المدارس الدينية بوزارة مدنية كما أغلق جميع المحاكم الدينية وتوقف العمل بالقضاء الديني(13).‏
              ومع بداية عام 1926 ألغى أتاتورك العمل بالتقويم الهجري الإسلامي وبدأت تركيا العمل بالتقويم الميلادي، وفي عام 1928 أعلن عن إجراءات تقضي بإلغاء مادة "الإسلام دين الدولة التركية" وفي تموز من العام نفسه ألغى استخدام الحرف العربي في اللغة التركية وألزم استخدام الحرف اللاتيني وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة التركية وكذلك تلاوة الصلاة باللغة التركية(14) وفي عام 1935 جرى تبديل يوم العطلة الأسبوعية من يوم الجمعة الذي له قدسية في الدين الإسلامي إلى يوم الأحد(15)، وكان أتاتورك يعتقد أنه قادر على تبديل كل شيء من البناء المؤسسي للدولة إلى الملبس الخارجي لرجل الشارع، لذلك قرر إلغاء الطربوش العثماني والقلبق الشركسي والعمة الكردية واستبدلها بالقبعة الأوروبية(16).‏
              لقد أراد أتاتورك بناء دولة معصرنة على غرار الدول الأوروبية والنمط الغربي، منطلقاً في ذلك من أيديولوجيته التي تركزت على مبادئه الستة (الجمهورية- الوطنية التركية- الشعبية- الدولتية- الثورية- العلمانية)(17)، هادفاً إلى تحقيق قطيعة تاريخية مع الماضي الإسلامي سعياً إلى إبعاد تركيا عن المجموعة العربية والإسلامية (بوصفها متخلفة) وتحقيق الحضارة الغربية(18).‏
              وانسجاماً مع هذا النهج سعت تركيا إلى الاندماج في الغرب، وكثيراً ما تطلب الأمر إجراءات قسرية للتخلص من الرموز المعارضة، وعملت الحكومات التركية المتتالية على بناء المؤسسات الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المستوحاة من مجتمع الغرب، واتخذت الالتزامات المطلوبة في هذا الإطار إزاء الأحلاف العسكرية الغربية، فقد انضمت تركيا إلى الحلف الأطلسي في نيسان عام 1952 وإلى حلف بغداد عام 1955 والسنتو 1959 وكانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في عام 1949. وفي حزيران عام 1959 تقدمت تركيا بطلب العضوية إلى السوق الأوروبية المشتركة، ونجحت في عام 1963 في توقيع اتفاقية أنقرة للشراكة الاقتصادية مع أوروبا.‏
              وقد شجعت أوروبا تركيا على اتخاذ المزيد من الخطوات التي تؤهلها لعضوية الجماعة الأوروبية. كما أعطت أوروبا والغرب عموماً أهمية أمنية كبيرة لتركيا أثناء الحرب الباردة وذلك بسبب موقعها المجاور لحدود الاتحاد السوفياتي السابق. وفعلاً اتخذت تركيا مجموعة من الخطوات القانونية والاقتصادية والسياسية وحرصت على بعث هوية أوروبية باعتبار أن لها امتداداً في أوروبا يبرر هذه الهوية (3% من مساحة تركيا يقع في أوروبا و 97% في آسيا). معتقدة أن هذه الخطوات وبعث هذه الهوية ستؤهلها للعضوية الكاملة في الجماعة الأوروبية كعضو كامل الحقوق والواجبات. وقد أصبح نيل العضوية الأوروبية خياراً تركيا من منطلق أنها دولة أوروبية بالمعنى الشامل للأوروبية واعتقدت النخبة التركية أن ذلك ممكن باستكمال بعض شروط العضوية الناقصة اقتصادياً وديمقراطياً، وهذه قضية سوف تتكفل تركيا بتحقيقها مع مرور الوقت، بل وربما رأت هذه النخبة أن تركيا قد حققت شروط العضوية بالفعل(19)، وتقدمت تركيا بطلب العضوية الكاملة في الجماعة الأوروبية عام 1987 ولكن طلبها قوبل بالرفض إلا أن أوروبا لم تقل "لا" نهائية لجهة عدم قبول العضوية وبقيت مركز جذب سياسي واقتصادي وثقافي بالنسبة لتركيا التي سعت إلى توثيق علاقاتها مع العواصم الأوروبية وقد نجحت في عام 1995 في توقيع اتفاقية الوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، وتهدف الاتفاقية إلى إلغاء كامل للحقوق الجمركية والقيود الخاصة بالتحديد الكمي للسلع وعلى تطابق أسعار البضائع التركية والأوروبية. وكذلك إلى سياسات تفضيلية وإلى مقارنة وتقارب القوانين الجمركية. وترى الأوساط الإسلامية في تركيا ولا سيما حزب الرفاه المنحل أن التوصل إلى هذه الاتفاقية قبل أيام من الانتخابات العامة التي جرت في كانون الأول عام 1995 كان مقصوداً بدرجة أو بأخرى من الجانبين التركي والأوروبي، فهي جاءت كوسيلة لدعم الأحزاب العلمانية في مواجهة حزب الرفاه الذي فاز في هذه الانتخابات. وقد أجرت تركيا في العام نفسه جملة من التعديلات في المواد الخاصة باحترام حقوق الإنسان من خلال السماح للعمال والموظفين بالعمل السياسي وخفض سن الانتخاب إلى 18 سنة والسماح للمعتقلين بالمشاركة في الانتخابات وزيادة عدد أعضاء البرلمان من 450 عضواً إلى 550 عضواً إضافة إلى مجموعة من التعديلات الأخرى.‏
              هذه الخطوات مجتمعة لم تكن كافية في نظر الاتحاد الأوروبي لقبول عضوية تركيا وجاء قرار بروكسل السلبي في كانون الأول عام 1997 بشأن هذه العضوية صدمة كبيرة في الأوساط الحكومية التركية وكانت الصدمة مضاعفة لهذه الأوساط بسبب قبول طلب العضوية المقدم من جمهورية قبرص.‏
              وعلى الرغم من أن الرد التركي على قرار بروكسل كان سريعاً فقد أعلنت تركيا مقاطعتها لعدد كبير من اجتماعات المجالس الأوروبية التي هي عضو فيها، وهددت بضم شمال قبرص رسمياً إلى أراضيها واتهم عدد من الزعماء الأتراك بينهم مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم وتانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم الاتحاد الأوروبي بأنه تحول إلى "ناد مسيحي"، في المقابل صعد عدد من الدول الأوروبية لهجتها تجاه تركيا بالتزامن مع موجة عنف شنتها بعض الجماعات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية وخاصة في ألمانيا ضد الأتراك المقيمين في أوروبا، واشترط الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا في عضوية الاتحاد جملة من الشروط هي في العمق تبدو أسباباً قوية لرفض عضويتها في المدى المنظور ولعل أهم أسباب رفض هذه العضوية هي:‏
              1- الاختلاف الحضاري وتباينه: بالرغم من أن أوروبا لا تؤكد هذا السبب علناً إلا أن الاختلاف الحضاري بين تركيا وأوروبا يعد من أهم أسباب رفض تركيا في عضوية الاتحاد، فحتى الآن تقتصر عضوية الجماعة الأوروبية على دول أوروبية مسيحية إضافة إلى أن الجماعة الأوروبية تشكل تكتلاً لمجتمعات ذات قيم ثقافية وسياسية واجتماعية مشتركة ومختلفة عن تركيا، والكثير من الأوساط السياسية الأوروبية تعد تركيا بلداً غير أوروبي رغم أن جزءاً منها يقع داخل أوروبا.‏
              ورغم الخطوات التي اتخذتها تركيا حتى الآن فإن أوروبا تدرك أن تركيا في النهاية بلد مسلم ويشكل المسلمون فيها نحو 98 بالمئة من مجموع السكان البالغ 64 مليون نسمة، وفي ظل صعود التيار الإسلامي في تركيا باتت أوروبا تأخذ البعد الإسلامي في تركيا بعين الاعتبار في حين تريد أوروبا تأسيس اتحاد منسجم مع بنيتها دينياً وفكرياً واقتصادياً، وميثاق الاتحاد يؤكد على هذه المسألة. هل السبب نفسه يفسر رفض أوروبا لعضوية المغرب أيضاً؟ صحيح أن أوروبا قد تقبل بعض الدول في عضوية عدد من مؤسساتها لأسباب تحتمها عليها مصالحها الاقتصادية والسياسية الدولية لكن ذلك لا يعني القبول بإدماج الآخرين المختلفين حضارياً ودينياً وثقافياً في بُعدها وانتمائها الحضاريين وعلى سبيل المثال، لقد أضحى البرلمان الأوروبي وهو أعلى سلطة تشريعية في دول الاتحاد الأوروبي ينتخب على أساس مباشر في الدول الأعضاء ومن منطلق التحالفات الحزبية عبر هذه الدول جميعاً. فهل يمكن بسهولة تصور انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ثم اشتراك حزب له توجه إسلامي واضح (حزب الفضيلة مثلاً) في الانتخابات البرلمانية الأوروبية؟(20) وفي الواقع، يعد الاختلاف بين تركيا وأوروبا من أهم أسباب رفض الاتحاد الأوروبي تركيا في عضويته، فمسألة الاختلاف الحضاري بالنسبة للأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول الاتحاد تعد مسألة حاسمة، وتعتقد هذه الأحزاب أنه يجب على تركيا التفريق بين الرغبة الأوروبية في تطوير العلاقات معها وبين مسألة قبولها عضواً في الاتحاد. فقد جاء في البيان الذي صدر في نهاية لقاء الأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول الاتحاد في الرابع من آذار عام 1997 "أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي غير ممكن في المدى القريب ولا في المدى البعيد، نؤيد تعاوناً مكثفاً جداً مع تركيا ولكن مشروع أوروبا هو مشروع حضاري وهناك اختلاف حضاري بين تركيا وأوروبا"(21).‏
              2- الخلافات التركية- اليونانية: لقد كان للموقف اليوناني على الدوام دور رئيسي في عرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يحق لليونان وكذلك باقي الدول الأعضاء في الاتحاد بموجب ميثاق الاتحاد استخدام حق الفيتو ضد انضمام أي عضو جديد لا ترغب فيه، والفيتو اليوناني هنا يعود إلى الخلافات التركية- اليونانية المزمنة والعديدة (سنتحدث عنها لاحقاً) إذ تثير هذه الخلافات توتراً دائماً في العلاقات التركية- اليونانية والأوروبية وفي هذا السياق نجحت اليونان حتى الآن في تجميد العديد من المساعدات الأوروبية المخصصة لتركيا، كما ترفض اليونان الضغوط الأمريكية المطالبة بتغيير موقفها تجاه قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وقد أعلن رئيس الوزراء اليوناني كوستاس سيمييتس صراحة أثناء القمة الأوروبية التي عقدت في مدينة كارديف البريطانية في منتصف حزيران 1998 أنه رفض طلباً من الرئيس الأميركي بيل كلينتون يطالبه بضرورة تغيير موقف بلاده تجاه تركيا تسهيلاً لقبولها في عضوية الاتحاد الأوروبي(22).‏
              3- نقص الديمقراطية: ترى أوروبا أن سلوك أنقرة وعنفها ضد الأقليات القومية في الداخل وخاصة الأكراد وعدم اعترافها بخصوصية الشعب الكردي وهويته وكذلك قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وتدخل الجيش في الحياة السياسية، هذه القضايا في نظر أوروبا معايير سياسية ثقافية لقبول عضوية تركيا، وقد شكل سلوك أنقرة العسكري ضد الأكراد أحياناً كثيرة سبباً في توتر العلاقات مع العديد من الدول الأوروبية خاصة بين ألمانيا وتركيا.‏
              4- العامل الاقتصادي: يبلغ عدد سكان تركيا حالياً نحو 64 مليون نسمة ويتوقع أن يبلغ عام /2020/ مئة مليون، ومثل هذا العدد الضخم من السكان يثير قلق أوروبا وخوفها، وكذلك الوضع الاقتصادي التركي حيث بلغ العجز المالي 400% في الربع الأول من عام 1998.‏
              والمديونية العالية (80 مليار دولار عام 1997)(23) وتزايد البطالة وأوضاع الريف ومعدلات التزايد السكاني مقارنة مع الدول الأوروبية، كل ذلك يثير قلق أوروبا وخوفها من انسحاب هذه المشاكل وتبعاتها على الوضع السكاني والاقتصادي لأوروبا والإخلال بالبنية السكانية والاقتصادية لدولها في وقت تتصاعد فيه موجات اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا مطالبة بوضع حد لهجرة الأجانب وترحيلهم من أوروبا، حيث يعيش نحو مليوني تركي في ألمانيا وحدها. وفي الواقع رغم هذه الأسباب القوية لرفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي فإن النخبة السياسية التركية تعتقد أنه لا بديل عن خيار تركيا الأوروبي فهي ترى أن مجالات الجذب لتركيا خارج الاتحاد الأوروبي ضعيفة وتؤكد أن العدول عن هذا الخيار يعني إسقاط 200 سنة من تاريخ تركيا الحديث.‏
              ثانياً: النزاع التركي- اليوناني:‏
              تضارب البعد السياسي والحضاري:‏
              يتجاوز النزاع التركي- اليوناني في العمق المشكلات والأزمات الطارئة بين البلدين لأسباب تاريخية حضارية وأخرى سياسية وجغرافية يكاد يكون من المستحيل حصرها وتسويتها. فهو نزاع مقترن بتاريخ طويل من الصراعات المريرة والعدوان والحروب بين شعبين مختلفين في القيم والمعتقدات الحضارية، وكان بالنسبة لليونان يتمحور حول التخلص من الحكم الأجنبي واستعادة أرضه التاريخية وبالنسبة للأتراك كان حتى عام 1922 حكاية الهزائم والتراجعات.... وهذا النزاع يضفي حالياً طابع الحدة في مسيرة تشكل ميزان القوى في البلقان(24) وقد كان للشعار الذي رفعه أوزال في بداية التسعينات "العثمانية الجديدة" عاملاً في عودة شعار "ميغالوايديا- الفكرة العظيمة" في أثينا، وبالتالي في إيصال الحزب الاشتراكي اليوناني (باسوك) من جديد إلى السلطة الذي هو حامل راية الهيللينية. وعليه مع التغيرات والتحولات الجارية حضرت "العثمانية" و"الهيللينية" بقوة في سياسات أنقرة وأثينا، تجاه البلقان، لتكون الأبعاد التاريخية والحضارية والقومية الممزوجة بالمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية هي التي تفسر وتسيطر على الممارسات اليونانية والتركية معاً تجاه عدد كبير من القضايا والمشاكل الخلافية بين البلدين، وأضحت المشاكل القومية والمذهبية والدينية التي تفجرت عقب انهيار الاتحاد اليوغسلافي واشتدادها في البوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا وألبانيا وكوسوفو... الخ تخيم بظلالها على توجهات البلدين وتبعث في كل منهما العوامل التاريخية لخريطة النزاع، فاليونان تؤكد على الأرثوذكسية كعنصر من عناصر السياسة الخارجية وهو عملياً أدى إلى بروز نوع من التحالف السياسي الأرثوذكسي. اليوناني الروسي البلغاري الصربي في مواجهة تركيا مسلمة لها مشاكل عديدة مع دول الجوار الجغرافي وأهم مشاكل الخلاف بين تركيا واليونان.‏
              1- بحر إيجة‏
              ويعتبر من أقدم ملفات الخلاف بين اليونان وتركيا ومنشأه أن الاتفاقات والمعاهدات التي رسمت الحدود البحرية بينهما لم تستطع أن تكون مرجعية قانونية وسياسية لحل الخلاف رغم وجودهما في حلف واحد "الأطلسي" وأهم هذه الاتفاقات والمعاهدات:‏
              أ- معاهدة لوزان التي وقعت في 24 تموز 1932 وحددت الحدود التركية اليونانية.‏
              ب- اتفاق 4 كانون الثاني 1932 الموقع بين إيطاليا وتركيا ويحدد أوضاع مجموعة جزر الدوديكانيز (12 جزيرة).‏
              جـ- معاهدة باريس الموقعة في 10 شباط 1947 بين إيطاليا واليونان بشأن أرخبيل الدوديكانيز.‏
              د- اتفاق القانون البحري عام 1982 والذي يحدد عرض المياه الإقليمية لكل دولة بـ 12 ميلاً.‏
              وقد تفجر الخلاف اليوناني- التركي حول المياه الإقليمية بعدما صدق البرلمان اليوناني على الاتفاق الأخير في أيار 1995، حيث يسمح الاتفاق لأثينا ببسط سيطرتها على مياهها الإقليمية في بحر إيجة، وتعتقد أثينا بموجب هذه الاتفاقية أن أياً من الجزر /2800/ الموجودة في بحر إيجة يقع تحت سيطرتها وإذا مدت مياهها الإقليمية إلى اثني عشر ميلاً يصبح 72 في المئة (الآن 44 في المئة) من بحر إيجة تحت سيادتها مقابل 9 في المئة (الآن 8) لتركيا و 19 في المئة (الآن 48) مياهاً دولية، وبالتالي يتحول بحر إيجة من بحر مفتوح كما هو حاله الآن إلى بحيرة يونانية ويترتب على ذلك ما عدا الساحل الجنوبي إغلاق منفذ تركيا على البحر المتوسط(25) وعليه ترفض تركيا تطبيق القانون البحري لعام 1982 على مياه بحر إيجة وتعتقد أن لمياه هذا البحر أوضاعاً خاصة.‏
              وفي مواجهة الطموح اليوناني هذا ترفض تركيا الأمر بشدة وتهدد مؤسستها العسكرية بالخروج إلى الجزر في كل لحظة كتعبير عن التحدي والاستعداد للمواجهة العسكرية إذا مدت اليونان سيطرتها 12 ميلاً في بحر إيجة، وقد وصلت الأمور بين البلدين إلى حافة الحرب في تموز عام 1996 عندما أنزلت القوات التركية علماً يونانياً من فوق جزيرة إيميا في بحر إيجة.‏
              وارتباطاً بمساحة المياه الإقليمية يتحدد المجال الجوي وذلك وفقاً لاتفاقية شيكاغو 1954، وكذلك الجرف القاري وهذا يعني أن الأتراك سيقتصر مجالهم الجوي فوق بحر إيجة على ستة أميال كما أنهم سيحرمون من الاستفادة من الثروات الموجودة في هذه الجزر حيث كان موضوع التنقيب عن النفط في جزر بحر إيجة موضع خلاف شديد بين البلدين. ورغم أن اتفاقية سويسرا (بيرن عام 1976) نصت على وقف التنقيب عن النفط في هذه الجزر من قبل البلدين إلا أن اليونان استأنفت التنقيب عن النفط في إيجة من جديد ومنذ عام 1987 رغم مطالبة تركيا لها مراراً إما بوقف هذا النشاط أو الحصول على حقوق مماثلة.‏
              كذلك تأتي قضية تسليح بعض الجزر وإقامة القواعد العسكرية عليها ضمن بؤر النزاع المتجددة بين البلدين، وتتهم تركيا اليونان بإقامة قواعد عسكرية في 12 جزيرة معروفة باسم جزر "الدوديكانيز" بغية فرض سياسة الأمر الواقع في هذه الجزر في حين تتهم اليونان تركيا بتوسيع قاعدة مطار جزيرة "غوكجيه" الواقع شمالي بحر إيجه كي يصلح لهبوط القاذفات رغم أن اتفاقية باريس عام 1947 تحرم تسليح الجزر المذكورة واستخدامها لأغراض عسكرية.‏
              2- المسألة العرقية في البلقان:‏
              مع تفكك يوغسلافيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي برزت المسألة العرقية بحدة في البلقان وكان من آثار بروز تقاطع مصالح تركيا ومسلمي كرواتيا والبوسنة وألبانيا ومقدونيا وكوسوفو وأتراك بلغاريا في مواجهة تقاطع مصالح صربيا واليونان وروسيا وبلغاريا حيث يعيش في منطقة تراقيا الغربية الواقعة شمال شرقي اليونان على الحدود مع تركيا نحو /120/ ألف مسلم من أصل تركي، وتتهم تركيا السلطات اليونانية بمحاولة طمس الهوية الإسلامية والتركية لهذه الأقلية من خلال سياسة تهجيرهم من أراضيهم وطمس هويتهم وتغيير الأسماء وتقييد حركتهم ومنع انتخاب زعمائهم الدينيين وحرية التعليم والتملك في حين ترفض اليونان الاتهامات التركية وتعتبرها تدخلاً في شؤونها الداخلية وتؤكد على حرية الأتراك فيها بصفتهم مواطنين يونانيين(26). وفي مواجهات الاتهامات التركية هذه تطالب اليونان تركيا بمنح بطريركية الروم الأرثوذكس في استانبول وضعاً خاصاً والاعتراف بها كدولة مستقلة على غرار دولة الفاتيكان الكاثوليكية وتستند اليونان في طلبها هذا إلى أنه عندما فتح السلطان محمد الثاني استانبول أقر استمرار الوضع الديني القائم في المدينة ومنها حرية العبادة واستقلال المؤسسات الدينية لكن تركيا بدورها ترفض الطلب اليوناني وتعتبره مخالفاً لمعاهدة لوزان عام 1923 التي أقرت بتبعيتها للسيادة التركية.‏
              ورغم الخلفية التاريخية للنزاع التركي- اليوناني على البلقان إلا أنهما تتنافسان على إيجاد مدى اقتصادي وجيوسياسي في هذه المنطقة التي تتشكل من جديد أمنياً وسياسياً، وربما يتجسد هذا التنافس بنوع من التعاون الإقليمي من خلال إقامة منظمات إقليمية للتعاون الاقتصادي والمالي والتجاري بين دول البلقان وقد ظهرت ملامح مثل هذا التعاون في المؤتمر الأول لدول البلقان الذي عقد في جزيرة كريت في تشرين الثاني 1997 وقد حضره كل من تركيا واليونان وألبانيا ورومانيا ويوغسلافيا ومقدونيا والبوسنة.‏
              ثالثاً: المشكلة القبرصية:‏
              تعد المشكلة القبرصية واحدة من تلك المشكلات المعقدة والتي تنذر تطوراتها بتأزم خطير في العلاقات بين تركيا واليونان، وتعود جذور المشكلة إلى بداية القرن الحالي عندما انتقلت الجزيرة إلى السيادة البريطانية عام 1878 بموجب اتفاق خاص بين بريطانيا والدولة العثمانية بعد أن كانت تتبع للأخيرة منذ عام 1517 ثم تخلت تركيا عن كامل حقوقها في الجزيرة بموجب معاهدتي سيفر 1920 ولوزان عام 1923 وبقيت الجزيرة تحت السيطرة البريطانية حتى عام 1960 حين تم الإعلان عن استقلال قبرص وتعيين الأسقف مكاريويس أول رئيس لها إلا أن الجزيرة التي يشكل اليونانيون فيها نسبة 80 بالمئة من السكان والأتراك نحو 20 بالمئة ظلت موضع جذب وخلاف ونزاع بين تركيا واليونان لأسباب تتعلق بالدول الإقليمي لكل منهما.‏
              وتعقدت المشكلة أكثر عندما دخلت القوات العسكرية التركية عام 1974 الجزيرة واحتلت القسم الشمالي منها والذي تقدر مساحته بنحو 38 بالمئة من مساحة الجزيرة وتحتوي على 70 بالمئة من الموارد الطبيعية فيها، ويعود السبب المباشر لاجتياح القوات التركية الجزء الشمالي من قبرص إلى الانقلاب العسكري الذي حدث في الجزء الجنوبي منه عام 1974 بدعم وتوجيه من المجلس العسكري الذي كان يحكم أثينا آنذاك والدعوة لتوحيد قبرص مع اليونان. وقد أعلن القبارصة الأتراك في عام 1983 عن قيام "جمهورية شمالي قبرص التركية" ولم يعترف بها أحد سوى تركيا بل أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 541 الذي اعتبر الجمهورية الجديدة غير شرعية.‏
              ورغم المبادرات الدولية العديدة التي طرحت بهدف إيجاد حل سلمي للمشكلة (مبادرة الأمم المتحدة 1992 والتي عرفت باسم مبادرة "غالي" نسبة إلى الدكتور بطرس غالي، المبادرة الأميركية عام 1993 حيث يأمل المبعوث الأميركي ريتشارد هولبروك بتحقيق اتفاق للسلام في الجزيرة القبرصية على غرار اتفاق دايتون للسلام في البوسنة، المبادرة البريطانية التي طرحها وزير خارجيتها الأسبق مالكوم ريفكند وقد عرفت بـ "النقاط العشر")، إلا أن جميع هذه المبادرات والجهود التي بذلت اصطدمت بالأبعاد اليونانية والتركية للنزاع.‏
              ومؤخراً وبعد موافقة الاتحاد الأوروبي على قبول قبرص كمرشحة للانضمام إلى الاتحاد وصفقة الصواريخ الروسية أرض- جواس 300 التي اشترتها قبرص تعقدت المشكلة القبرصية أكثر فتركيا تعتقد أن قبول عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي نصر لليونان وضربة قصوى لها لأن ذلك يعني بقاء تركيا خارج الاتحاد ولذا وقعت تركيا معاهدة الإدماج مع جمهورية شمالي قبرص، وقد أعلنت عن إدماجها اقتصادياً بها. أي أن تركيا ستلجأ إلى إدماج هذه الجمهورية بشكل نهائي بها لقطع الطريق أمام المطالبة الأوروبية بإجلاء القوات التركية البالغ عددها نحو 40 ألف جندي من شمال الجزيرة في حال ضمت قبرص إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وجاءت أزمة الصواريخ الروسية إس 300 لتدفع الأجواء نحو المزيد من التصعيد حيث تؤكد أنقرة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما نشرت قبرص هذه الصواريخ على أراضيها وستحول دون ذلك حتى لو اقتضى الأمر توجيه ضربة عسكرية جديدة للجزيرة، وترى أن نشر هذه الصواريخ في قبرص يشكل تهديداً حقيقياً لأمنها لأن سرعة طيران هذه الصواريخ كبيرة جداً ويصل مداها إلى 150 كم حيث لا تبعد المنشآت العسكرية التركية في الجنوب سوى 100 كم عن قبرص اليونانية. فضلاً عن ذلك فإن هذه الصواريخ متحركة ولا تحتاج إلى قواعد ثابتة مما يسهل تحركها من مكان إلى آخر ويصعب تدميرها من قبل تركيا.‏
              وهكذا أضحت الجزيرة القبرصية عامل توتر ونزاع متجدد في العلاقات التركية- اليونانية وربما الأوروبية لاحقاً.‏
              رابعاً- العلاقة مع الولايات المتحدة‏
              اتسمت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بشيء من الثبات، إذ جمعت بينهما روابط متينة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ إعلان مبدأ ترومان وسياسة "الاحتواء" الأمريكية.‏
              وانطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور استراتيجي مفاده الاستفادة من الدور الجيوستراتيجي لتركيا في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، وقد أقيمت على الأراضي التركية قواعد عسكرية عدة ومحطات تنصت ورادار. فيما حظيت تركيا على الدوام بمساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة من الولايات المتحدة إلى درجة أن قواتها البرية تتلقى الحصة الكبرى من بين قوات الحلف الأطلسي، ورغم أن العلاقات بينهما مرت أحياناً بفترات توتر لا سيما في أعقاب تفجر الأزمة القبرصية عام 1974 إلا أنها كانت ترتقي دوماً إلى حالة أرقى وأمتن، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين في 10 كانون الثاني عام 1980 والتي أعطت دوراً متميزاً لتركيا على الصعيد العسكري والاستراتيجي في المنطقة(27). فهذه (الاتفاقية) جاءت عقب قيام الثورة الإسلامية في إيران والاجتياح السوفياتي لأفغانستان. كما أن تركيا استفادت من هذه الاتفاقية بالحصول على ترسانة عسكرية ضخمة من الدول الغربية، وزيادة المساعدات المخصصة لها. وقد وصلت المساعدات السنوية لها من الولايات المتحدة في عام 1985 إلى 934 مليون دولار بعد أن كانت عام 1980 بحدود 400 مليون دولار(28).‏

              ورغم أن بعضهم توقع اضمحلال أهمية تركيا ودورها في الاستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي إلا أن التوقعات لم تكن صحيحة تماماً، ففي إطار المتغيرات الدولية وإعادة الولايات المتحدة رسم استراتيجيتها العالمية برز دور تركيا كبلد مفتاح بحكم موقعه الجيوسياسي الحيوي بين آسيا وأوروبا، قادر على القيام بأدوار مؤثرة في البلقان وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط في مواجهة خصوم واشنطن، ومازاد من أهمية تركيا ظهور مصادر جديدة للطاقة أي النفط والغاز بكميات كبيرة في دول حوض بحر قزون التي تربطها بتركيا علاقات تاريخية وقومية وثقافية عميقة الجذور، حيث تأمل الولايات المتحدة أن تقتدي هذه الدول بالنموذج التركي العلماني وليس بالصيغة الإيرانية للراديكالية الإسلامية، ويؤكد تقرير استراتيجية الأمن القومي الصادر عام 1997 "أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في إحدى أكثر مناطق العالم حساسية تخدم على نحو جيد بوجود دولة تركية ديمقراطية، علمانية مستقرة، ذات توجه غربي"‏
              مقابل التصور الأمريكي هذا، وخاصة بعد قرار بروكسل السلبي بشأن قبول طلب تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي تحرص تركيا على توطيد علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أكثر فأكثر بغية الحصول على مساعدتها في مواجهة المشكلات المختلفة وللضغط على العواصم الأوروبية للتخفيف من حدة معارضتها لدخول تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي كثير من الأحيان تتحرك تركيا والولايات المتحدة بصورة مشتركة في أكثر من قضية ومحور سواء في الشرق الأوسط أي توطيد التحالف العسكري التركي الإسرائيلي أو في البلقان أي بشأن قضية كوسوفو وقبلها البوسنة والهرسك. أو في آسيا الوسطى بخصوص النفط ومشاريعه إضافة إلى قضية كاراباخ المتنازع عليه بين أزربيجان وأرمينيا.‏
              ولعل ما يعكر صفو العلاقات التركية الأمريكية أحياناً تلك التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين الأمريكيين فيما يتعلق بحقوق الإنسان والأسلوب الدموي الذي تنتهجه المؤسسة العسكرية التركية ضد أكراد تركيا، علماً بأن واشنطن تتجاهل عن عمد أوضاع الأكراد في تركيا على مذبح الاعتبارات الاستراتيجية، فيما تنسق في الوقت ذاته مع أنقرة بشأن أوضاع أكراد العراق، سواء في إطارات قوات الحماية الدولية المتمركزة في جنوبي شرق تركيا أو في إطار رعاية المصالحة بين الأطراف الكردية المتنازعة في شمالي العراق.‏
              وفي الواقع العلاقات التركية الأمريكية هي علاقات استراتيجية محورية مرشحة للمزيد من التطور بسبب أهمية كل طرف للآخر في تحقيق تطلعاته حيث تتقاطع المصالح والمواقف بشأن العديد من القضايا الحيوية في العالم.‏
              في نهاية هذا الفصل يمكن القول إن مسيرة تركيا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي محفوفة بالعقبات لأسباب تركية تتعلق بالهوية والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد وعدد السكان، وكذلك لأسباب أوروبية مماثلة ومهما تكن فإن النخبة التركية الحاكمة "العلمانية" تعتقد أنه لا بديل عن الخيار الأوروبي لأن إسقاط هذا الخيار يعني إسقاط تاريخ تركيا الحديث وترى أن الزمن كفيل بإزالة تلك العقبات. هل ينبغي القول على تركيا أن تُميز بين قبول عضويتها في الحلف الأطلسي مبكراً وبين طموحها إلى اكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي؟ فكون تركيا تصلح تماماً لمهمات الحلف الأطلسي لا يؤهلها بالضرورة كي تكون ذات فائدة مماثلة للاتحاد الأوروبي لأن الشروط المطلوبة لكل من الدورين والموقعين تختلف اختلافاً كلياً.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                الفصل الثاني
                شكل الخيار الأوروبي- الغربي منذ عام 1923 خياراً وحيداً لا بديل عنه لدى النخبة الكمالية في تركيا.‏
                يبحث هذا الفصل في سياسة تركيا الهادفة إلى نيل العضوية الأوروبية وأسباب الرفض الأوروبي لعضويتها، كما يسلط الضوء على الخلافات التركية- اليونانية ومشكلة قبرص. إضافة إلى العلاقات التركية- الأمريكية.‏
                تركيا والدائرة الأوروبية- الأمريكية‏
                أولاً- تركيا وعضوية الاتحاد الأوروبي:‏
                في 3 آذار عام 1924 أعلن أتاتورك عن إلغاء الخلافة الإسلامية وقيام دولة علمانية تعتمد في دستورها القوانين الأوروبية(12)، ثم حل في العام نفسه منصب شيخ الإسلام وجميع الأجهزة المرتبطة به سواء كانت شرعية أم قضائية وألحق المدارس الدينية بوزارة مدنية كما أغلق جميع المحاكم الدينية وتوقف العمل بالقضاء الديني(13).‏
                ومع بداية عام 1926 ألغى أتاتورك العمل بالتقويم الهجري الإسلامي وبدأت تركيا العمل بالتقويم الميلادي، وفي عام 1928 أعلن عن إجراءات تقضي بإلغاء مادة "الإسلام دين الدولة التركية" وفي تموز من العام نفسه ألغى استخدام الحرف العربي في اللغة التركية وألزم استخدام الحرف اللاتيني وأمر بترجمة القرآن إلى اللغة التركية وكذلك تلاوة الصلاة باللغة التركية(14) وفي عام 1935 جرى تبديل يوم العطلة الأسبوعية من يوم الجمعة الذي له قدسية في الدين الإسلامي إلى يوم الأحد(15)، وكان أتاتورك يعتقد أنه قادر على تبديل كل شيء من البناء المؤسسي للدولة إلى الملبس الخارجي لرجل الشارع، لذلك قرر إلغاء الطربوش العثماني والقلبق الشركسي والعمة الكردية واستبدلها بالقبعة الأوروبية(16).‏
                لقد أراد أتاتورك بناء دولة معصرنة على غرار الدول الأوروبية والنمط الغربي، منطلقاً في ذلك من أيديولوجيته التي تركزت على مبادئه الستة (الجمهورية- الوطنية التركية- الشعبية- الدولتية- الثورية- العلمانية)(17)، هادفاً إلى تحقيق قطيعة تاريخية مع الماضي الإسلامي سعياً إلى إبعاد تركيا عن المجموعة العربية والإسلامية (بوصفها متخلفة) وتحقيق الحضارة الغربية(18).‏
                وانسجاماً مع هذا النهج سعت تركيا إلى الاندماج في الغرب، وكثيراً ما تطلب الأمر إجراءات قسرية للتخلص من الرموز المعارضة، وعملت الحكومات التركية المتتالية على بناء المؤسسات الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المستوحاة من مجتمع الغرب، واتخذت الالتزامات المطلوبة في هذا الإطار إزاء الأحلاف العسكرية الغربية، فقد انضمت تركيا إلى الحلف الأطلسي في نيسان عام 1952 وإلى حلف بغداد عام 1955 والسنتو 1959 وكانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل في عام 1949. وفي حزيران عام 1959 تقدمت تركيا بطلب العضوية إلى السوق الأوروبية المشتركة، ونجحت في عام 1963 في توقيع اتفاقية أنقرة للشراكة الاقتصادية مع أوروبا.‏
                وقد شجعت أوروبا تركيا على اتخاذ المزيد من الخطوات التي تؤهلها لعضوية الجماعة الأوروبية. كما أعطت أوروبا والغرب عموماً أهمية أمنية كبيرة لتركيا أثناء الحرب الباردة وذلك بسبب موقعها المجاور لحدود الاتحاد السوفياتي السابق. وفعلاً اتخذت تركيا مجموعة من الخطوات القانونية والاقتصادية والسياسية وحرصت على بعث هوية أوروبية باعتبار أن لها امتداداً في أوروبا يبرر هذه الهوية (3% من مساحة تركيا يقع في أوروبا و 97% في آسيا). معتقدة أن هذه الخطوات وبعث هذه الهوية ستؤهلها للعضوية الكاملة في الجماعة الأوروبية كعضو كامل الحقوق والواجبات. وقد أصبح نيل العضوية الأوروبية خياراً تركيا من منطلق أنها دولة أوروبية بالمعنى الشامل للأوروبية واعتقدت النخبة التركية أن ذلك ممكن باستكمال بعض شروط العضوية الناقصة اقتصادياً وديمقراطياً، وهذه قضية سوف تتكفل تركيا بتحقيقها مع مرور الوقت، بل وربما رأت هذه النخبة أن تركيا قد حققت شروط العضوية بالفعل(19)، وتقدمت تركيا بطلب العضوية الكاملة في الجماعة الأوروبية عام 1987 ولكن طلبها قوبل بالرفض إلا أن أوروبا لم تقل "لا" نهائية لجهة عدم قبول العضوية وبقيت مركز جذب سياسي واقتصادي وثقافي بالنسبة لتركيا التي سعت إلى توثيق علاقاتها مع العواصم الأوروبية وقد نجحت في عام 1995 في توقيع اتفاقية الوحدة الجمركية مع الاتحاد الأوروبي، وتهدف الاتفاقية إلى إلغاء كامل للحقوق الجمركية والقيود الخاصة بالتحديد الكمي للسلع وعلى تطابق أسعار البضائع التركية والأوروبية. وكذلك إلى سياسات تفضيلية وإلى مقارنة وتقارب القوانين الجمركية. وترى الأوساط الإسلامية في تركيا ولا سيما حزب الرفاه المنحل أن التوصل إلى هذه الاتفاقية قبل أيام من الانتخابات العامة التي جرت في كانون الأول عام 1995 كان مقصوداً بدرجة أو بأخرى من الجانبين التركي والأوروبي، فهي جاءت كوسيلة لدعم الأحزاب العلمانية في مواجهة حزب الرفاه الذي فاز في هذه الانتخابات. وقد أجرت تركيا في العام نفسه جملة من التعديلات في المواد الخاصة باحترام حقوق الإنسان من خلال السماح للعمال والموظفين بالعمل السياسي وخفض سن الانتخاب إلى 18 سنة والسماح للمعتقلين بالمشاركة في الانتخابات وزيادة عدد أعضاء البرلمان من 450 عضواً إلى 550 عضواً إضافة إلى مجموعة من التعديلات الأخرى.‏
                هذه الخطوات مجتمعة لم تكن كافية في نظر الاتحاد الأوروبي لقبول عضوية تركيا وجاء قرار بروكسل السلبي في كانون الأول عام 1997 بشأن هذه العضوية صدمة كبيرة في الأوساط الحكومية التركية وكانت الصدمة مضاعفة لهذه الأوساط بسبب قبول طلب العضوية المقدم من جمهورية قبرص.‏
                وعلى الرغم من أن الرد التركي على قرار بروكسل كان سريعاً فقد أعلنت تركيا مقاطعتها لعدد كبير من اجتماعات المجالس الأوروبية التي هي عضو فيها، وهددت بضم شمال قبرص رسمياً إلى أراضيها واتهم عدد من الزعماء الأتراك بينهم مسعود يلماظ زعيم حزب الوطن الأم وتانسو تشيلر زعيمة حزب الطريق المستقيم الاتحاد الأوروبي بأنه تحول إلى "ناد مسيحي"، في المقابل صعد عدد من الدول الأوروبية لهجتها تجاه تركيا بالتزامن مع موجة عنف شنتها بعض الجماعات اليمينية المتطرفة في عدد من الدول الأوروبية وخاصة في ألمانيا ضد الأتراك المقيمين في أوروبا، واشترط الاتحاد الأوروبي لقبول تركيا في عضوية الاتحاد جملة من الشروط هي في العمق تبدو أسباباً قوية لرفض عضويتها في المدى المنظور ولعل أهم أسباب رفض هذه العضوية هي:‏
                1- الاختلاف الحضاري وتباينه: بالرغم من أن أوروبا لا تؤكد هذا السبب علناً إلا أن الاختلاف الحضاري بين تركيا وأوروبا يعد من أهم أسباب رفض تركيا في عضوية الاتحاد، فحتى الآن تقتصر عضوية الجماعة الأوروبية على دول أوروبية مسيحية إضافة إلى أن الجماعة الأوروبية تشكل تكتلاً لمجتمعات ذات قيم ثقافية وسياسية واجتماعية مشتركة ومختلفة عن تركيا، والكثير من الأوساط السياسية الأوروبية تعد تركيا بلداً غير أوروبي رغم أن جزءاً منها يقع داخل أوروبا.‏
                ورغم الخطوات التي اتخذتها تركيا حتى الآن فإن أوروبا تدرك أن تركيا في النهاية بلد مسلم ويشكل المسلمون فيها نحو 98 بالمئة من مجموع السكان البالغ 64 مليون نسمة، وفي ظل صعود التيار الإسلامي في تركيا باتت أوروبا تأخذ البعد الإسلامي في تركيا بعين الاعتبار في حين تريد أوروبا تأسيس اتحاد منسجم مع بنيتها دينياً وفكرياً واقتصادياً، وميثاق الاتحاد يؤكد على هذه المسألة. هل السبب نفسه يفسر رفض أوروبا لعضوية المغرب أيضاً؟ صحيح أن أوروبا قد تقبل بعض الدول في عضوية عدد من مؤسساتها لأسباب تحتمها عليها مصالحها الاقتصادية والسياسية الدولية لكن ذلك لا يعني القبول بإدماج الآخرين المختلفين حضارياً ودينياً وثقافياً في بُعدها وانتمائها الحضاريين وعلى سبيل المثال، لقد أضحى البرلمان الأوروبي وهو أعلى سلطة تشريعية في دول الاتحاد الأوروبي ينتخب على أساس مباشر في الدول الأعضاء ومن منطلق التحالفات الحزبية عبر هذه الدول جميعاً. فهل يمكن بسهولة تصور انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ثم اشتراك حزب له توجه إسلامي واضح (حزب الفضيلة مثلاً) في الانتخابات البرلمانية الأوروبية؟(20) وفي الواقع، يعد الاختلاف بين تركيا وأوروبا من أهم أسباب رفض الاتحاد الأوروبي تركيا في عضويته، فمسألة الاختلاف الحضاري بالنسبة للأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول الاتحاد تعد مسألة حاسمة، وتعتقد هذه الأحزاب أنه يجب على تركيا التفريق بين الرغبة الأوروبية في تطوير العلاقات معها وبين مسألة قبولها عضواً في الاتحاد. فقد جاء في البيان الذي صدر في نهاية لقاء الأحزاب الديمقراطية المسيحية في دول الاتحاد في الرابع من آذار عام 1997 "أن انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي غير ممكن في المدى القريب ولا في المدى البعيد، نؤيد تعاوناً مكثفاً جداً مع تركيا ولكن مشروع أوروبا هو مشروع حضاري وهناك اختلاف حضاري بين تركيا وأوروبا"(21).‏
                2- الخلافات التركية- اليونانية: لقد كان للموقف اليوناني على الدوام دور رئيسي في عرقلة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، إذ يحق لليونان وكذلك باقي الدول الأعضاء في الاتحاد بموجب ميثاق الاتحاد استخدام حق الفيتو ضد انضمام أي عضو جديد لا ترغب فيه، والفيتو اليوناني هنا يعود إلى الخلافات التركية- اليونانية المزمنة والعديدة (سنتحدث عنها لاحقاً) إذ تثير هذه الخلافات توتراً دائماً في العلاقات التركية- اليونانية والأوروبية وفي هذا السياق نجحت اليونان حتى الآن في تجميد العديد من المساعدات الأوروبية المخصصة لتركيا، كما ترفض اليونان الضغوط الأمريكية المطالبة بتغيير موقفها تجاه قبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، وقد أعلن رئيس الوزراء اليوناني كوستاس سيمييتس صراحة أثناء القمة الأوروبية التي عقدت في مدينة كارديف البريطانية في منتصف حزيران 1998 أنه رفض طلباً من الرئيس الأميركي بيل كلينتون يطالبه بضرورة تغيير موقف بلاده تجاه تركيا تسهيلاً لقبولها في عضوية الاتحاد الأوروبي(22).‏
                3- نقص الديمقراطية: ترى أوروبا أن سلوك أنقرة وعنفها ضد الأقليات القومية في الداخل وخاصة الأكراد وعدم اعترافها بخصوصية الشعب الكردي وهويته وكذلك قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية وتدخل الجيش في الحياة السياسية، هذه القضايا في نظر أوروبا معايير سياسية ثقافية لقبول عضوية تركيا، وقد شكل سلوك أنقرة العسكري ضد الأكراد أحياناً كثيرة سبباً في توتر العلاقات مع العديد من الدول الأوروبية خاصة بين ألمانيا وتركيا.‏
                4- العامل الاقتصادي: يبلغ عدد سكان تركيا حالياً نحو 64 مليون نسمة ويتوقع أن يبلغ عام /2020/ مئة مليون، ومثل هذا العدد الضخم من السكان يثير قلق أوروبا وخوفها، وكذلك الوضع الاقتصادي التركي حيث بلغ العجز المالي 400% في الربع الأول من عام 1998.‏
                والمديونية العالية (80 مليار دولار عام 1997)(23) وتزايد البطالة وأوضاع الريف ومعدلات التزايد السكاني مقارنة مع الدول الأوروبية، كل ذلك يثير قلق أوروبا وخوفها من انسحاب هذه المشاكل وتبعاتها على الوضع السكاني والاقتصادي لأوروبا والإخلال بالبنية السكانية والاقتصادية لدولها في وقت تتصاعد فيه موجات اليمين المتطرف في معظم دول أوروبا مطالبة بوضع حد لهجرة الأجانب وترحيلهم من أوروبا، حيث يعيش نحو مليوني تركي في ألمانيا وحدها. وفي الواقع رغم هذه الأسباب القوية لرفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي فإن النخبة السياسية التركية تعتقد أنه لا بديل عن خيار تركيا الأوروبي فهي ترى أن مجالات الجذب لتركيا خارج الاتحاد الأوروبي ضعيفة وتؤكد أن العدول عن هذا الخيار يعني إسقاط 200 سنة من تاريخ تركيا الحديث.‏
                ثانياً: النزاع التركي- اليوناني:‏
                تضارب البعد السياسي والحضاري:‏
                يتجاوز النزاع التركي- اليوناني في العمق المشكلات والأزمات الطارئة بين البلدين لأسباب تاريخية حضارية وأخرى سياسية وجغرافية يكاد يكون من المستحيل حصرها وتسويتها. فهو نزاع مقترن بتاريخ طويل من الصراعات المريرة والعدوان والحروب بين شعبين مختلفين في القيم والمعتقدات الحضارية، وكان بالنسبة لليونان يتمحور حول التخلص من الحكم الأجنبي واستعادة أرضه التاريخية وبالنسبة للأتراك كان حتى عام 1922 حكاية الهزائم والتراجعات.... وهذا النزاع يضفي حالياً طابع الحدة في مسيرة تشكل ميزان القوى في البلقان(24) وقد كان للشعار الذي رفعه أوزال في بداية التسعينات "العثمانية الجديدة" عاملاً في عودة شعار "ميغالوايديا- الفكرة العظيمة" في أثينا، وبالتالي في إيصال الحزب الاشتراكي اليوناني (باسوك) من جديد إلى السلطة الذي هو حامل راية الهيللينية. وعليه مع التغيرات والتحولات الجارية حضرت "العثمانية" و"الهيللينية" بقوة في سياسات أنقرة وأثينا، تجاه البلقان، لتكون الأبعاد التاريخية والحضارية والقومية الممزوجة بالمصالح السياسية والاقتصادية والأمنية هي التي تفسر وتسيطر على الممارسات اليونانية والتركية معاً تجاه عدد كبير من القضايا والمشاكل الخلافية بين البلدين، وأضحت المشاكل القومية والمذهبية والدينية التي تفجرت عقب انهيار الاتحاد اليوغسلافي واشتدادها في البوسنة والهرسك وكرواتيا ومقدونيا وألبانيا وكوسوفو... الخ تخيم بظلالها على توجهات البلدين وتبعث في كل منهما العوامل التاريخية لخريطة النزاع، فاليونان تؤكد على الأرثوذكسية كعنصر من عناصر السياسة الخارجية وهو عملياً أدى إلى بروز نوع من التحالف السياسي الأرثوذكسي. اليوناني الروسي البلغاري الصربي في مواجهة تركيا مسلمة لها مشاكل عديدة مع دول الجوار الجغرافي وأهم مشاكل الخلاف بين تركيا واليونان.‏
                1- بحر إيجة‏
                ويعتبر من أقدم ملفات الخلاف بين اليونان وتركيا ومنشأه أن الاتفاقات والمعاهدات التي رسمت الحدود البحرية بينهما لم تستطع أن تكون مرجعية قانونية وسياسية لحل الخلاف رغم وجودهما في حلف واحد "الأطلسي" وأهم هذه الاتفاقات والمعاهدات:‏
                أ- معاهدة لوزان التي وقعت في 24 تموز 1932 وحددت الحدود التركية اليونانية.‏
                ب- اتفاق 4 كانون الثاني 1932 الموقع بين إيطاليا وتركيا ويحدد أوضاع مجموعة جزر الدوديكانيز (12 جزيرة).‏
                جـ- معاهدة باريس الموقعة في 10 شباط 1947 بين إيطاليا واليونان بشأن أرخبيل الدوديكانيز.‏
                د- اتفاق القانون البحري عام 1982 والذي يحدد عرض المياه الإقليمية لكل دولة بـ 12 ميلاً.‏
                وقد تفجر الخلاف اليوناني- التركي حول المياه الإقليمية بعدما صدق البرلمان اليوناني على الاتفاق الأخير في أيار 1995، حيث يسمح الاتفاق لأثينا ببسط سيطرتها على مياهها الإقليمية في بحر إيجة، وتعتقد أثينا بموجب هذه الاتفاقية أن أياً من الجزر /2800/ الموجودة في بحر إيجة يقع تحت سيطرتها وإذا مدت مياهها الإقليمية إلى اثني عشر ميلاً يصبح 72 في المئة (الآن 44 في المئة) من بحر إيجة تحت سيادتها مقابل 9 في المئة (الآن 8) لتركيا و 19 في المئة (الآن 48) مياهاً دولية، وبالتالي يتحول بحر إيجة من بحر مفتوح كما هو حاله الآن إلى بحيرة يونانية ويترتب على ذلك ما عدا الساحل الجنوبي إغلاق منفذ تركيا على البحر المتوسط(25) وعليه ترفض تركيا تطبيق القانون البحري لعام 1982 على مياه بحر إيجة وتعتقد أن لمياه هذا البحر أوضاعاً خاصة.‏
                وفي مواجهة الطموح اليوناني هذا ترفض تركيا الأمر بشدة وتهدد مؤسستها العسكرية بالخروج إلى الجزر في كل لحظة كتعبير عن التحدي والاستعداد للمواجهة العسكرية إذا مدت اليونان سيطرتها 12 ميلاً في بحر إيجة، وقد وصلت الأمور بين البلدين إلى حافة الحرب في تموز عام 1996 عندما أنزلت القوات التركية علماً يونانياً من فوق جزيرة إيميا في بحر إيجة.‏
                وارتباطاً بمساحة المياه الإقليمية يتحدد المجال الجوي وذلك وفقاً لاتفاقية شيكاغو 1954، وكذلك الجرف القاري وهذا يعني أن الأتراك سيقتصر مجالهم الجوي فوق بحر إيجة على ستة أميال كما أنهم سيحرمون من الاستفادة من الثروات الموجودة في هذه الجزر حيث كان موضوع التنقيب عن النفط في جزر بحر إيجة موضع خلاف شديد بين البلدين. ورغم أن اتفاقية سويسرا (بيرن عام 1976) نصت على وقف التنقيب عن النفط في هذه الجزر من قبل البلدين إلا أن اليونان استأنفت التنقيب عن النفط في إيجة من جديد ومنذ عام 1987 رغم مطالبة تركيا لها مراراً إما بوقف هذا النشاط أو الحصول على حقوق مماثلة.‏
                كذلك تأتي قضية تسليح بعض الجزر وإقامة القواعد العسكرية عليها ضمن بؤر النزاع المتجددة بين البلدين، وتتهم تركيا اليونان بإقامة قواعد عسكرية في 12 جزيرة معروفة باسم جزر "الدوديكانيز" بغية فرض سياسة الأمر الواقع في هذه الجزر في حين تتهم اليونان تركيا بتوسيع قاعدة مطار جزيرة "غوكجيه" الواقع شمالي بحر إيجه كي يصلح لهبوط القاذفات رغم أن اتفاقية باريس عام 1947 تحرم تسليح الجزر المذكورة واستخدامها لأغراض عسكرية.‏
                2- المسألة العرقية في البلقان:‏
                مع تفكك يوغسلافيا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي برزت المسألة العرقية بحدة في البلقان وكان من آثار بروز تقاطع مصالح تركيا ومسلمي كرواتيا والبوسنة وألبانيا ومقدونيا وكوسوفو وأتراك بلغاريا في مواجهة تقاطع مصالح صربيا واليونان وروسيا وبلغاريا حيث يعيش في منطقة تراقيا الغربية الواقعة شمال شرقي اليونان على الحدود مع تركيا نحو /120/ ألف مسلم من أصل تركي، وتتهم تركيا السلطات اليونانية بمحاولة طمس الهوية الإسلامية والتركية لهذه الأقلية من خلال سياسة تهجيرهم من أراضيهم وطمس هويتهم وتغيير الأسماء وتقييد حركتهم ومنع انتخاب زعمائهم الدينيين وحرية التعليم والتملك في حين ترفض اليونان الاتهامات التركية وتعتبرها تدخلاً في شؤونها الداخلية وتؤكد على حرية الأتراك فيها بصفتهم مواطنين يونانيين(26). وفي مواجهات الاتهامات التركية هذه تطالب اليونان تركيا بمنح بطريركية الروم الأرثوذكس في استانبول وضعاً خاصاً والاعتراف بها كدولة مستقلة على غرار دولة الفاتيكان الكاثوليكية وتستند اليونان في طلبها هذا إلى أنه عندما فتح السلطان محمد الثاني استانبول أقر استمرار الوضع الديني القائم في المدينة ومنها حرية العبادة واستقلال المؤسسات الدينية لكن تركيا بدورها ترفض الطلب اليوناني وتعتبره مخالفاً لمعاهدة لوزان عام 1923 التي أقرت بتبعيتها للسيادة التركية.‏
                ورغم الخلفية التاريخية للنزاع التركي- اليوناني على البلقان إلا أنهما تتنافسان على إيجاد مدى اقتصادي وجيوسياسي في هذه المنطقة التي تتشكل من جديد أمنياً وسياسياً، وربما يتجسد هذا التنافس بنوع من التعاون الإقليمي من خلال إقامة منظمات إقليمية للتعاون الاقتصادي والمالي والتجاري بين دول البلقان وقد ظهرت ملامح مثل هذا التعاون في المؤتمر الأول لدول البلقان الذي عقد في جزيرة كريت في تشرين الثاني 1997 وقد حضره كل من تركيا واليونان وألبانيا ورومانيا ويوغسلافيا ومقدونيا والبوسنة.‏
                ثالثاً: المشكلة القبرصية:‏
                تعد المشكلة القبرصية واحدة من تلك المشكلات المعقدة والتي تنذر تطوراتها بتأزم خطير في العلاقات بين تركيا واليونان، وتعود جذور المشكلة إلى بداية القرن الحالي عندما انتقلت الجزيرة إلى السيادة البريطانية عام 1878 بموجب اتفاق خاص بين بريطانيا والدولة العثمانية بعد أن كانت تتبع للأخيرة منذ عام 1517 ثم تخلت تركيا عن كامل حقوقها في الجزيرة بموجب معاهدتي سيفر 1920 ولوزان عام 1923 وبقيت الجزيرة تحت السيطرة البريطانية حتى عام 1960 حين تم الإعلان عن استقلال قبرص وتعيين الأسقف مكاريويس أول رئيس لها إلا أن الجزيرة التي يشكل اليونانيون فيها نسبة 80 بالمئة من السكان والأتراك نحو 20 بالمئة ظلت موضع جذب وخلاف ونزاع بين تركيا واليونان لأسباب تتعلق بالدول الإقليمي لكل منهما.‏
                وتعقدت المشكلة أكثر عندما دخلت القوات العسكرية التركية عام 1974 الجزيرة واحتلت القسم الشمالي منها والذي تقدر مساحته بنحو 38 بالمئة من مساحة الجزيرة وتحتوي على 70 بالمئة من الموارد الطبيعية فيها، ويعود السبب المباشر لاجتياح القوات التركية الجزء الشمالي من قبرص إلى الانقلاب العسكري الذي حدث في الجزء الجنوبي منه عام 1974 بدعم وتوجيه من المجلس العسكري الذي كان يحكم أثينا آنذاك والدعوة لتوحيد قبرص مع اليونان. وقد أعلن القبارصة الأتراك في عام 1983 عن قيام "جمهورية شمالي قبرص التركية" ولم يعترف بها أحد سوى تركيا بل أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 541 الذي اعتبر الجمهورية الجديدة غير شرعية.‏
                ورغم المبادرات الدولية العديدة التي طرحت بهدف إيجاد حل سلمي للمشكلة (مبادرة الأمم المتحدة 1992 والتي عرفت باسم مبادرة "غالي" نسبة إلى الدكتور بطرس غالي، المبادرة الأميركية عام 1993 حيث يأمل المبعوث الأميركي ريتشارد هولبروك بتحقيق اتفاق للسلام في الجزيرة القبرصية على غرار اتفاق دايتون للسلام في البوسنة، المبادرة البريطانية التي طرحها وزير خارجيتها الأسبق مالكوم ريفكند وقد عرفت بـ "النقاط العشر")، إلا أن جميع هذه المبادرات والجهود التي بذلت اصطدمت بالأبعاد اليونانية والتركية للنزاع.‏
                ومؤخراً وبعد موافقة الاتحاد الأوروبي على قبول قبرص كمرشحة للانضمام إلى الاتحاد وصفقة الصواريخ الروسية أرض- جواس 300 التي اشترتها قبرص تعقدت المشكلة القبرصية أكثر فتركيا تعتقد أن قبول عضوية قبرص في الاتحاد الأوروبي نصر لليونان وضربة قصوى لها لأن ذلك يعني بقاء تركيا خارج الاتحاد ولذا وقعت تركيا معاهدة الإدماج مع جمهورية شمالي قبرص، وقد أعلنت عن إدماجها اقتصادياً بها. أي أن تركيا ستلجأ إلى إدماج هذه الجمهورية بشكل نهائي بها لقطع الطريق أمام المطالبة الأوروبية بإجلاء القوات التركية البالغ عددها نحو 40 ألف جندي من شمال الجزيرة في حال ضمت قبرص إلى عضوية الاتحاد الأوروبي وجاءت أزمة الصواريخ الروسية إس 300 لتدفع الأجواء نحو المزيد من التصعيد حيث تؤكد أنقرة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إذا ما نشرت قبرص هذه الصواريخ على أراضيها وستحول دون ذلك حتى لو اقتضى الأمر توجيه ضربة عسكرية جديدة للجزيرة، وترى أن نشر هذه الصواريخ في قبرص يشكل تهديداً حقيقياً لأمنها لأن سرعة طيران هذه الصواريخ كبيرة جداً ويصل مداها إلى 150 كم حيث لا تبعد المنشآت العسكرية التركية في الجنوب سوى 100 كم عن قبرص اليونانية. فضلاً عن ذلك فإن هذه الصواريخ متحركة ولا تحتاج إلى قواعد ثابتة مما يسهل تحركها من مكان إلى آخر ويصعب تدميرها من قبل تركيا.‏
                وهكذا أضحت الجزيرة القبرصية عامل توتر ونزاع متجدد في العلاقات التركية- اليونانية وربما الأوروبية لاحقاً.‏
                رابعاً- العلاقة مع الولايات المتحدة‏
                اتسمت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بشيء من الثبات، إذ جمعت بينهما روابط متينة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي منذ إعلان مبدأ ترومان وسياسة "الاحتواء" الأمريكية.‏
                وانطلقت الولايات المتحدة في علاقاتها مع تركيا من تصور استراتيجي مفاده الاستفادة من الدور الجيوستراتيجي لتركيا في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق، وقد أقيمت على الأراضي التركية قواعد عسكرية عدة ومحطات تنصت ورادار. فيما حظيت تركيا على الدوام بمساعدات اقتصادية وعسكرية ضخمة من الولايات المتحدة إلى درجة أن قواتها البرية تتلقى الحصة الكبرى من بين قوات الحلف الأطلسي، ورغم أن العلاقات بينهما مرت أحياناً بفترات توتر لا سيما في أعقاب تفجر الأزمة القبرصية عام 1974 إلا أنها كانت ترتقي دوماً إلى حالة أرقى وأمتن، خاصة بعد توقيع اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين في 10 كانون الثاني عام 1980 والتي أعطت دوراً متميزاً لتركيا على الصعيد العسكري والاستراتيجي في المنطقة(27). فهذه (الاتفاقية) جاءت عقب قيام الثورة الإسلامية في إيران والاجتياح السوفياتي لأفغانستان. كما أن تركيا استفادت من هذه الاتفاقية بالحصول على ترسانة عسكرية ضخمة من الدول الغربية، وزيادة المساعدات المخصصة لها. وقد وصلت المساعدات السنوية لها من الولايات المتحدة في عام 1985 إلى 934 مليون دولار بعد أن كانت عام 1980 بحدود 400 مليون دولار(28).‏

                ورغم أن بعضهم توقع اضمحلال أهمية تركيا ودورها في الاستراتيجية الأمريكية بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي إلا أن التوقعات لم تكن صحيحة تماماً، ففي إطار المتغيرات الدولية وإعادة الولايات المتحدة رسم استراتيجيتها العالمية برز دور تركيا كبلد مفتاح بحكم موقعه الجيوسياسي الحيوي بين آسيا وأوروبا، قادر على القيام بأدوار مؤثرة في البلقان وآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط في مواجهة خصوم واشنطن، ومازاد من أهمية تركيا ظهور مصادر جديدة للطاقة أي النفط والغاز بكميات كبيرة في دول حوض بحر قزون التي تربطها بتركيا علاقات تاريخية وقومية وثقافية عميقة الجذور، حيث تأمل الولايات المتحدة أن تقتدي هذه الدول بالنموذج التركي العلماني وليس بالصيغة الإيرانية للراديكالية الإسلامية، ويؤكد تقرير استراتيجية الأمن القومي الصادر عام 1997 "أن المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في إحدى أكثر مناطق العالم حساسية تخدم على نحو جيد بوجود دولة تركية ديمقراطية، علمانية مستقرة، ذات توجه غربي"‏
                مقابل التصور الأمريكي هذا، وخاصة بعد قرار بروكسل السلبي بشأن قبول طلب تركيا في عضوية الاتحاد الأوروبي تحرص تركيا على توطيد علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة أكثر فأكثر بغية الحصول على مساعدتها في مواجهة المشكلات المختلفة وللضغط على العواصم الأوروبية للتخفيف من حدة معارضتها لدخول تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي كثير من الأحيان تتحرك تركيا والولايات المتحدة بصورة مشتركة في أكثر من قضية ومحور سواء في الشرق الأوسط أي توطيد التحالف العسكري التركي الإسرائيلي أو في البلقان أي بشأن قضية كوسوفو وقبلها البوسنة والهرسك. أو في آسيا الوسطى بخصوص النفط ومشاريعه إضافة إلى قضية كاراباخ المتنازع عليه بين أزربيجان وأرمينيا.‏
                ولعل ما يعكر صفو العلاقات التركية الأمريكية أحياناً تلك التصريحات الصادرة عن بعض المسؤولين الأمريكيين فيما يتعلق بحقوق الإنسان والأسلوب الدموي الذي تنتهجه المؤسسة العسكرية التركية ضد أكراد تركيا، علماً بأن واشنطن تتجاهل عن عمد أوضاع الأكراد في تركيا على مذبح الاعتبارات الاستراتيجية، فيما تنسق في الوقت ذاته مع أنقرة بشأن أوضاع أكراد العراق، سواء في إطارات قوات الحماية الدولية المتمركزة في جنوبي شرق تركيا أو في إطار رعاية المصالحة بين الأطراف الكردية المتنازعة في شمالي العراق.‏
                وفي الواقع العلاقات التركية الأمريكية هي علاقات استراتيجية محورية مرشحة للمزيد من التطور بسبب أهمية كل طرف للآخر في تحقيق تطلعاته حيث تتقاطع المصالح والمواقف بشأن العديد من القضايا الحيوية في العالم.‏
                في نهاية هذا الفصل يمكن القول إن مسيرة تركيا لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي محفوفة بالعقبات لأسباب تركية تتعلق بالهوية والجغرافيا والتاريخ والاقتصاد وعدد السكان، وكذلك لأسباب أوروبية مماثلة ومهما تكن فإن النخبة التركية الحاكمة "العلمانية" تعتقد أنه لا بديل عن الخيار الأوروبي لأن إسقاط هذا الخيار يعني إسقاط تاريخ تركيا الحديث وترى أن الزمن كفيل بإزالة تلك العقبات. هل ينبغي القول على تركيا أن تُميز بين قبول عضويتها في الحلف الأطلسي مبكراً وبين طموحها إلى اكتساب عضوية الاتحاد الأوروبي؟ فكون تركيا تصلح تماماً لمهمات الحلف الأطلسي لا يؤهلها بالضرورة كي تكون ذات فائدة مماثلة للاتحاد الأوروبي لأن الشروط المطلوبة لكل من الدورين والموقعين تختلف اختلافاً كلياً.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                  الفصل الثالث
                  منذ تأسيس الجمهورية التركية لم تعط تركيا أهمية كافية لإقامة علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي إلا أنه مع المتغيرات الدولية تسعى تركيا إلى إقامة علاقات متوازنة مع الدول الإسلامية.‏
                  يبحث هذا الفصل في السياسة التركية تجاه الدول الإسلامية. ويحرص على تقديم رؤية واقعية للقضايا الخلافية بين تركيا وجيرانها العرب، خاصة في ظل دخول إسرائيل عنصراً جديداً في السياسة التركية الإقليمية.‏
                  تركيا والدائرة الإسلامية‏
                  أولاً- تركيا والعالم العربي‏
                  رغم أن الأتراك والعرب عاشوا معاً مدة تزيد عن أربعة قرون في ظل دولة واحدة هي الدولة العثمانية، ورغم المصالح المشتركة التي تربطهم في العصر الحديث بحكم الجوار الجغرافي وعوامل الثقافة والدين والتاريخ، إلا أن العلاقات التركية- العربية ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى كانت تشوبها القلق والسلبية والشك، وكانت الرؤية المتبادلة بين الأتراك والعرب في مقدمة العوامل التي أدت إلى انغلاق كل طرف عن الآخر، إلى حد جهل كل طرف بالآخر(29).‏
                  فالأتراك يعتقدون أن العرب تآمروا في الحرب العالمية الأولى مع القوى الاستعمارية لتفكيك الإمبراطورية العثمانية وأدى ذلك في النهاية إلى وقوع العرب أنفسهم تحت الهيمنة الغربية، في المقابل يعتقد العرب ولا سيما في المشرق العربي أن الوجود العثماني (التركي) في الوطن العربي كان استعماراً تحت شعار الدين الأمر الذي مهد الطريق حضارياً وتقنياً للاستعمار الأوروبي. أي أن الخبرة التاريخية للعلاقات بين الجانبين مغلفة بالمرارة كما أنها وقعت فريسة تفسيرات تاريخية متناقضة(30) وحسب الجنرال التركي المتقاعد شادي إرغوفنتش فإن البلاد العربية مازالت بعيدة عن تركيا. وتركيا مازالت غير مهتمة بالبلاد العربية(31).‏
                  في البعد السياسي التاريخي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى انطلقت النخب التركية الحاكمة في سياساتها تجاه الدول العربية من أنها تقدم نموذجاً سياسياً طورته خصيصاً ليناسب التطور السياسي والعقائدي والاقتصادي في المنطقة العربية، وقد تحكم بالنظرة التركية تجاه الدول العربية خيار تركيا الاستراتيجي المرتبط بالغرب، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في 28 آذار عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها عام 1950، وفي إطار دورها في الأحلاف العسكرية (الأطلسي 1952- بغداد 1955- السنتو 1959) كثيراً ما مارست تركيا سياسة تجاه الدول العربية قوامها التوتر والضغط، كما حدث عام 1957 عندما حشدت قواتها العسكرية على الحدود السورية الشمالية في أعقاب المطالبة الواسعة في سورية بالوحدة مع مصر، وتكررت هذه المواقف في أثناء إنزال القوات الأمريكية في لبنان بنقل هذه القوات من قاعدة إنجرليك التركية مباشرة وكذلك وقفت إلى جانب فرنسا ضد الجزائر في الأمم المتحدة عام 1958(32) في حين لم تنظر تركيا إلى مسألة إقامة علاقات إيجابية مع الدول العربية سواء في إطار المصالح الإقليمية أو الانتماء الحضاري إلا مع بروز عاملين:‏
                  1-الأزمة القبرصية بعد عام 1974 حيث وجدت تركيا نفسها في عزلة دولية في صراعها مع اليونان في الجزيرة بعدما وقفت معظم الدول الغربية إلى جانب اليونان.‏
                  2-بروز دور النفط في السبعينات وتأثيره على السياسة الدولية وقد تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية كانت تركيا تشهدها.‏
                  في نهاية الستينات تميزت السياسة التركية تجاه الدائرة العربية والإسلامية بعدة سمات أهمها:‏
                  1- عدم التدخل في النزاعات العربية، وكذلك في الصراعات الإقليمية كالحرب العراقية الإيرانية.‏
                  2- التوجه نحو إقامة علاقات إقليمية متوازية مع الدول العربية على غرار علاقاتها مع إسرائيل وإيران.‏
                  وكانت سورية الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة إذ أنها لا تعترف بالسيادة التركية على لواء اسكندرون (هتاي) الذي سلبته تركيا بالاتفاق مع فرنسا عام 1939(33).‏
                  3- تأييد المواقف الفلسطينية خاصة بعد حرب 1967 في قضية الصراع مع إسرائيل من خلال التأكيد على ضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية وبخاصة القرار 242، واتباع سياسة إيجابية في هذا السياق بعد انضمامها لعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1976.‏
                  ورغم هذا التطور في السياسة التركية تجاه العالم العربي إلا أن العلاقات التركية- العربية بشكل عام ظلت في دائرة الشك والسلبية ويعود الأمر بالدرجة الأولى إلى أن البعد الغربي ظل حاضراً بقوة في سياسات تركيا الأمنية العسكرية والاقتصادية الأمر الذي جعل الطرف العربي ينظر إلى هذه السياسة بعين الشك والحذر والقلق.‏
                  إلا أن هذه المعادلة تعرضت للاهتزاز مع اهتزاز موقع تركيا في الاستراتيجية الغربية، أثر انهيار الاتحاد السوفياتي. وحرب الخليج الحدث الأساس الذي مهد الطريق لسياسة تركية أكثر فعالية في العالم العربي، حيث تخلت تركيا عن سياستها الانكفائية والحذرة في الشرق الأوسط لصالح القيام بدور إقليمي أكثر فعالية.‏
                  وقد عبر الرئيس أوزال عن التوجه المستقبلي لبلاده أثناء حرب الخليج بالقول: "بعد انتهاء هذه الحرب لن يعود الشرق الأوسط إلى ما كان عليه إذا ما أخذنا في الاعتبار كل الحقائق التاريخية في المنطقة، فقد يكون بإمكاننا جلب السلام إلى المنطقة وأرى أن على القوة الأخرى من خارج المنطقة أن تسهل لنا هذه المهمة... نحن مستعدون لتنفيذ كل المشاريع التي تعيد بناء المنطقة اقتصادياً مثل مشاريع تنمية الموارد المائية بما فيها طريق إيصال مياه الأنهار التركية إلى شبه الجزيرة العربية في خطوط أنابيب تسير جنباً إلى جنب مع أنابيب النفط والغاز...... سيعتمد هذا التعاون الاقتصادي على إنشاء صندوق نقد من شأنه تسهيل عملية التنمية الاقتصادية، ويمكن إنشاء هذا الصندوق بالاعتماد على نسبة مئوية معينة من الفوائد النفطية إلى جانب مساهمات من الدول العربية الغنية"(34).‏
                  ويمكن القول إن السياسة التركية في التسعينات تجاه العالم العربي والإسلامي انطلقت من قضايا ومسائل محددة أهمها:‏
                  1-إن انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي حوّل دور تركيا كرأس حربة أطلسية في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق إلى دور أكثر أهمية وشمولية وتعقيداً في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط نحو التطلع إلى دور دولة إقليمية محورية تتوسط هذه الأقاليم الجغرافية المهمة.‏
                  2-إن حرب الخليج الثانية بظروفها والنتائج التي أفرزتها جعلت تركيا عنصراً أساسياً وجزءاً لا يتجزأ من لعبة الأمم في الشرق الأوسط وذلك من خلال عوامل المياه والنفط والأمن والأقليات القومية، خاصة الأقلية الكردية منها في شمال العراق ونشوء نواة كيان كردي فيه يمس مباشرة الوضع الجيوأمني لتركيا.‏
                  3-إن بدء مفاوضات التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل واعتراف معظم الدول العربية بدولة إسرائيل واحتمالات التوصل إلى اتفاق سلام بين سورية ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة ثانية يتيح لتركيا تجاوز الكثير من الحذر والحساسيات في علاقاتها الشرق أوسطية وبخاصة العربية منها التي تعتقد أن تركيا متحيزة لإسرائيل.‏
                  4-إن النظام الشرق أوسطي الجديد المحتمل، هو نظام محكوم بالغلبة الإسرائيلية وبكونه امتداداً للنظام العالمي الجديد المحكوم بالسيطرة الأميركية، وبالتالي فإن حجم الدور التركي في النظام الشرق الأوسطي الجديد محكوم إلى حد بعيد بالاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية(35)، ومحكوم أيضاً بمدى تدعيم تركيا علاقاتها مع إسرائيل وأمريكا خصوصاً على الأصعدة الأمنية والعسكرية والاستراتيجية.‏
                  5-تركيا بدورها شهدت تغييرات متسارعة في الداخل أهمها صعود التيار الإسلامي إلى الواجهة السياسية التركية، ويحظى بتأييد جماهيري كبير ويحتل المرتبة الأولى في الانتخابات البلدية والنيابية التي جرت في أعوام 1995- 1996، وهذا العامل المستجد في الداخل التركي لابد أن يكون له اعتبار ووزن في السياسة الخارجية التركية حيث يعمل التيار الإسلامي جاهداً للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية.‏
                  وتمثل التسعينات عهد تحول في علاقات تركيا بالشرق الأوسط والغرب، في إدراك تركيا أنها تبتعد أكثر فأكثر عن أوروبا سياسياً مقابل الإحساس بإعادة اكتشاف ذاتها ضمن دائرة تشمل البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وإيران والعالم العربي وباتت فئات واسعة من النخبة الفكرية والسياسية والعسكرية في المجتمع التركي ترى أن الاتجاه نحو المنطقة العربية لا يجب أن يقتصر على ما تحدده الاستراتيجية الغربية لأن ذلك يضعف الدور التركي ولا يقويه ويجعله دوراً تابعاً وعميلاً(36).‏
                  وانطلاقاً من مسائل الأمن اتجهت تركيا بعد حرب الخليج إلى القيام بدور مؤثر في رسم تفاعلات المنطقة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وقد شهدت العلاقات التركية مع عدد من الدول العربية الخليجية والمغاربية ومصر والأردن تطورات إيجابية في مجالات التجارة والنقل والرساميل والصناعات والمشاريع الاقتصادية في حين شهدت العلاقات التركية- السورية والتركية- العراقية توتراً متزايداً بسبب مشاكل قديمة متجددة فرضها الثابت الجغرافي والحدود المشتركة والاتفاقات الدولية التي رسمت الحدود بين هذه الدول بعد الحرب العالمية الأولى.‏
                  1- المياه:‏
                  لعل قضية الخلاف السوري العراقي- التركي على مياه نهري الفرات ودجلة من أكثر القضايا مدعاة للإثارة والتوتر بين تركيا وجارتيها العربيتين (سورية والعراق)، خاصة بعد أن أضحت المياه ثروة مطلوبة لا يمكن تجاهل نقصها مع ازدياد الحاجة إليها في المجالات المختلفة، وأساس المشكلة هنا عدم وجود قواعد قانونية واضحة وملزمة يرجع إليها لتسوية النزاع رغم وجود أربع اتفاقيات دولية لاقتسام مياه النهرين. وهذه المعاهدات هي:‏
                  1-المعاهدة الفرنسية- البريطانية في 13/12/1920 حول استخدام مياه دجلة والفرات.‏
                  ونصت هذه المعاهدة على تشكيل لجنة مشتركة مع تركيا وسورية (فرنسا) والعراق (بريطانيا) لمعالجة المشكلات الخاصة بمياه النهرين، وبخاصة في حال بناء منشآت هندسية في أعاليهما.‏
                  2-معاهدة لوزان في 24/7/1932 التي تلزم في المادة /9/ بوجوب أخطار كل من سورية والعراق كلما رغبت تركيا في القيام بأعمال إنشائية على دجلة والفرات.‏
                  3-معاهدة حلب في 3/5/1930 بين تركيا وفرنسا وبريطانيا، ونصت على أن لسورية وتركيا حقوقاً متساوية بالانتفاع من مياه دجلة بوصفه نهراً مشتركاً.‏
                  4-معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين تركيا والعراق في 9/3/1946 والتي تنص على ضرورة التعاون المشترك بينهما في ما يختص بالمياه الدولية المشتركة(37).‏
                  5-اتفاقية الصداقة وحسن الجوار (أنقرة 30/5/1926) بين سورية (أي فرنسا) وتركيا بشأن تأمين المياه التي تُسقى من نهر قُويق الذي ينبع من تركيا ويروي مدينة حلب.‏
                  6-بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني (أنقرة 25/12/1980) بين العراق وتركيا، ثم انضمت إليه سورية في عام 1983 وينص على تشكيل لجنة فنية مشتركة لدراسة مواضيع المياه المشتركة وخاصة الفرات ودجلة (38).‏
                  ورغم اللقاءات الثنائية السورية- التركية والعراقية- التركية. وكذلك 16 اجتماعاً للجنة الثلاثية السورية- العراقية- التركية التي شكلت عام 1982 إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اتفاقية بشأن الحصة النهائية لكل دولة من مياه النهرين، ولعل الإنجاز الوحيد الذي تحقق في هذا المجال كان البروتوكول السوري- التركي عام 1987 والذي تعهدت تركيا بموجبه بتمرير حد أدنى من مياه نهر الفرات بمقدار 500م3 في الثانية.‏
                  سورية والعراق تعتبران دجلة والفرات نهرين دوليين وتؤكدان أن المشاركة فيهما حق تاريخي من حقوقهما إلى جانب موقفهما في دعم مفهوم شمولية المياه الدولية، حيث ينبغي التوحيد بين المنبع والمجرى والمصب كخط مائي متكامل لا يجوز الفصل بين أجزائه وذلك وفق ما نصت عليه مبادئ هلسنكي عام 1966 بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية(39)، وتطالب سورية والعراق بالتوصل إلى اتفاقية نهائية بشأن مياه نهر الفرات وتشكيل لجنة دولية للنهر على غرار لجان أنهار الدانوب والكونغو، والكف عن الاستخدام الأحادي للمياه في إقامة المشاريع المائية، في حين تعتبر تركيا دجلة والفرات نهرين تركيين عابرين للحدود وتدّعي أن لهما حوضاً واحداً وحق امتلاكها لهما. بالتالي حق استخدام مياه النهرين حتى النقطة التي تعبران فيها حدودها، وحسب وجهة نظرها هذه لا يحق لأحد أن يقرر كيفية استخدام مياه النهرين لأن في ذلك مساً لسيادتها عليهما(40)، وجاءت الاتفاقية الدولية الجديدة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/5/1997 برقم 869/51/a بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لمصلحة سورية والعراق إلا أن تركيا رفضت هذه الاتفاقية بهدف الإبقاء على الوضع الحالي للنهرين كي تتمكن دون أي قيود من مواصلة مشروع غاب.‏
                  وفي الأعوام الأخيرة اتجهت تركيا إلى ربط المياه بمسألة الأمن وأحياناً بالنفط! وإلى استخدام المياه كسلاح ضد سورية التي تتهمها تركيا بدعم حزب العمال الكردستاني pkk الذي يخوض حرباً مسلحة ضد الدولة التركية منذ عام 1984. وقد ازدادت مشكلة المياه تعقيداً في ضوء توجه تركيا إلى بناء مشاريع مائية ضخمة في وقت تعاني المنطقة من نقص في المياه وتحذر مراكز الدراسات الاستراتيجية من حدوث صراعات وحروب مياه محتملة في الشرق الأوسط، وفي ارتباطه بمسألة المياه يحتل مشروع غاب موقعاً مركزياً في رسم علاقات تركية مع كل من سورية والعراق.‏
                  مشروع غاب gap:‏
                  يتألف مشرع الـ غاب من 22 سداً و 19 محطة للطاقة الكهربائية ومشروعات أخرى متنوعة في قطاعات الزراعة والصناعة والمواصلات والري والاتصالات، والغاب من حيث المساحة هو أضخم مشروع في العالم ويشمل ثماني محافظات وعند إتمامه تقارب مساحة الزراعة المروية من خلاله 8.5 مليون هكتار أي نحو 19 بالمئة من مساحة الأراضي المروية في تركيا. وتوفير 106 مليون فرصة عمل(41) جديدة في هذه المناطق ذات الأكثرية الكردية(42).‏
                  ومن أهم سدود مشروع الغاب، سد أتاتورك: وقد دشن هذا السد في تموز 1992 بحضور رؤساء وممثلي 29 دولة إضافة إلى نحو مئة دبلوماسي، يقع السد على نهر الفرات على بعد 24 كلم من مدينة بوزوفا، وهو يعد الثالث في العالم من حيث حجم قاعدته 84.5 مليون م2، والثامن من حيث الارتفاع 190م والخامس عشر من حيث حجم المياه في بحيرة السد، والثامن عشر من حيث حجم إنتاج الطاقة الكهربائية، وفي حال امتلاء السد ستبلغ كمية المياه المخزنة 48.7 مليون م3 والارتفاع الأقصى لمنسوب المياه 162م بعرض 15 متراً أي ما مجموعه 882 ألف هكتار(43).‏
                  وإلى جانب سد أتاتورك هناك سدود أخرى عديدة تنفذها تركيا اعتماداً على مياه نهري دجلة والفرات منها: بريجيك، قره قايا، قرقميش، غازي عينتاب، كيبان، ودجلة الخ.‏
                  تعتقد تركيا أنها بتنفيذها لمشروع الغاب فإنها ستصبح دولة متحكمة بالأمن المائي والغذائي لدول المنطقة، فضلاً عن استخدام المياه كثروة وطنية يمكن مبادلتها بالنفط أو كسلاح لتحقيق مطالب أمنية، ففي حفل تدشين سد أتاتورك هدد الرئيس التركي سليمان ديميريل الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء قائلاً: "إن مياه الفرات ودجلة تركية ومصادر هذه المياه هي موارد تركية كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراق وسورية، نحن لا نقول لسورية والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية ولا يحق لهما القول إنهما تشاركاننا مواردنا المائية. إنها مسألة سيادة. إن هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل ما نريد(44) وقد كرر ديميريل أقواله هذه مع افتتاح كل مشروع مائي جديد. ومشروع غاب الذي يهدف في الأساس إلى تحقيق التنمية في جنوبي شرقي تركيا فضلاً عن البعد الكردي فيه (تعتقد بعض الأوساط التركية أن مسألة العنف في جنوبي شرقي تركيا سببه التخلف وغياب التنمية) فإن هذا المشروع سيلحق أضراراً بالغة بالزراعة والصناعة والكهرباء والأراضي في سورية والعراق، وتقدر المصادر السورية أن كمية المياه التي ستتدفق إلى سورية بعد استكمال الغاب ستنخفض بمقدار 40 بالمئة. وإلى العراق بنسبة 80 بالمئة(45).‏
                  ويتسبب هذا النقص بأضرار بالغة في مجالات الكهرباء والصناعة والاستخدام البشري وكذلك بأضرار مضاعفة بالأراضي الزراعية كتزايد نسبة الملوحة والتصحر والتلوث خاصة في ضوء التأكيدات السورية على أن جزء من هذه المياه ملوثة. وقد اعترف مسؤول في شركة شل النفطية فرع تركيا بقيام الشركة بضخ نحو نصف مليون برميل من المياه الإنتاجية الملوثة بالنفط والمذيبات وغيرها من المواد الكيميائية وطرحها في حوض المياه الجوفية في ميديات بجنوب شرق تركيا على محاذاة الحدود السورية- العراقية مما أصاب احتياطات مياه الشرب بالتلوث(46).‏
                  مشروع مياه أنابيب السلام‏
                  أعلنت تركيا عن هذا المشروع في حزيران عام 1987، ويهدف المشروع إلى تزويد دول الشرق الأوسط من فائض مياه نهري (سيحان وجيحان) التركيين. في البداية طرحت تركيا تصوراً أولياً للمشروع يقوم على إيصال المياه إلى سورية والأردن وإسرائيل وبعض دول الخليج إلا أن الرفض العربي وخاصة السوري لإيصال المياه إلى إسرائيل من خلال أنبوب عبر أراضيها دفع بتركيا إلى مراجعة هذا التصور واستبداله بمشروع أوسع. ويتألف المشروع من خطين، الأول: تركيا- حلب- حماه- حمص- دمشق- عمان- المدينة المنورة- ينبع- مكة- جدة- ويبلغ إجمالي طول الخط نحو 2650 كيلو متر.‏
                  أما الخط الثاني فيتألف من: تركيا- الكويت- الجبيل- المنامة- الدوحة- أبو ظبي- دبي- عجمان- رأس الخيمة- مسقط ويبلغ طول الخط الإجمالي نحو 2900 كيلو متر. وأما كلفة المشروع الإجمالي فتبلغ نحو 21 مليار دولار، وبطاقة 6 مليون متر مكعب يومياً. (الخط الأول 305 والخط الثاني 2.5 م3 من المياه).‏
                  وتكلفة الحصول على المتر المكعب من المياه يتراوح بين (0.84 إلى 1.07 دولار) وتهدف تركيا من وراء المشروع إلى جني عائدات مالية تقدر بنحو ملياري دولار سنوياً(47).‏
                  وقد رفضت الدول العربية مشروع مياه أنابيب السلام التركي لأسباب عدة أهمها:‏
                  1- الخوف من أن يصبح أمنهم المائي بيد تركيا ولا تستبعد الدول العربية أن تلجأ تركيا إلى قطع هذه المياه في الظرف الأمني أو استخدامه كسلاح لبلوغ الدور الإقليمي الذي تنشده.‏
                  2- التكاليف الباهظة للمشروع والسعر المرتفع للمياه.‏
                  وفي الواقع لا تقتصر أبعاد المشاريع المائية التركية هذه على الجوانب الاقتصادية والتنموية، إنما لها أبعاد أخرى أمنية فهي إذ تستخدم سلاح المياه، تهدد الأمن القومي العربي من خلال ضربها قوام الخطط التنموية في كل من سورية والعراق. وكذلك تأثير العلاقة الإسرائيلية- التركية في المسلك التركي حيال أزمة الفرات واستخدام تلك العلاقة والأزمة للضغط على سورية في المرحلة الراهنة من المفاوضات الخاصة بالمسار السوري- الإسرائيلي ومن بين الأدلة على ذلك التأثير تصريح السفير الإسرائيلي في واشنطن 19/1/1996 بأن هناك بعداً تركياً للسلام مع سورية وأن تركيا ذات أهمية بالنسبة إلى موارد المياه في المنطقة(48)، كما تسعى تركيا في إطار لجنة المياه ضمن المفاوضات متعددة الأطراف وكذلك في إطار المؤتمرات الاقتصادية الإقليمية- الشرق أوسطية إلى إشراك إسرائيل والولايات المتحدة في المبادرات التي تطلقها بخصوص المشروعات المائية، وقد برز هذا الاتجاه بشكل واضح في مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشروعات المستقبل" الذي انعقد في استانبول في 29- 30 أيلول عام 1997 وتهدف تركيا من وراء ذلك إلى جذب استثمارات أجنبية لتمويل مشروع (غاب) والاستفادة من الخبرات الإسرائيلية والأمريكية المتطورة في مجالات الزراعة والري والهندسة الوراثية.‏
                  وفي ظل السلبية التي تظلّل العلاقات التركية- السورية العراقية فإن ملف المياه سيظل مفتوحاً ومرشحاً للمزيد من التفاقم في ظل السياسة المائية التركية التي تتجاهل الحقوق السورية والعراقية في مياه نهري دجلة والفرات وتتهرب من التوقيع على اتفاق بشأن الحصة النهائية لكل طرف من المياه وتعمل على تنفيذ مشاريعها المائية الضخمة غير آبهة بالاعتراضات العربية في سبيل أن تتحكم بالأمن المائي وربما الغذائي لجيرانها العرب في القرن المقبل.‏
                  2- قضيتا لواء اسكندرونة والموصل:‏
                  لا تزال مشكلة لواء اسكندرون إحدى المشاكل القائمة بين سورية وتركيا والتي تطفو إلى السطح من وقت إلى آخر، وتلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين، وترجع مشكلة لواء اسكندرونة إلى 20/10/1921 عندما أقرت فرنسا وتركيا في اتفاقية أنقرة لتخطيط الحدود بين سورية وتركيا بإقامة نظام إداري خاص لمنطقة اللواء علماً أن فرنسا كانت أقرت في وثيقة رسمية عام 1920 بتبعية اللواء لسورية. وشكلت اتفاقية أنقرة مدخلاً لقيام تركيا بتوسيع حدود النظام الإداري الخاص، وتقديم التسهيلات للأتراك منها جعل اللغة التركية لغة رسمية في اللواء وتضخيم الوجود السكاني التركي فيه، وفي إطار خطة لفصل اللواء عن سورية وضمه إلى تركيا عقدت الأخيرة سلسلة من الاتفاقيات مع فرنسا منها اتفاقية أنقرة للصداقة وحسن الجوار في 30/5/1926، واتفاقية أخرى للغرض نفسه في 22/6/1926، وفي عام 1938 أجرت تركيا بالتنسيق مع فرنسا انتخابات في اللواء زورت نتائجها وبموجبها حققت الأقلية التركية أغلبية في المجلس الأعلى لإدارة اللواء، وقد فاز الأتراك بـ 22 مقعداً والعرب السوريون بـ 18 مقعداً، وفي العام نفسه اجتاحت القوات التركية اللواء دون أن تتحرك فرنسا (الدولة المنتدبة على سورية) ضد الاجتياح التركي. وهكذا تآمرت فرنسا وتركيا على سلخ اللواء عن سورية فقد وقع البلدان في 23/6/1939 اتفاق الضم الذي أدخل اللواء بموجبه في السيادة التركية وأصبح يعرف باسم "هاتاي"(49).‏
                  سورية لم تقبل بضم اللواء إلى تركيا ولا تعتبر قضية اللواء انتهت، فحتى الآن لا يزال موقع اسكندرون يظهر على الطوابع والخرائط السورية. إلا أن ظروف الصراع مع إسرائيل وعدم رغبة سورية في تشتيت جهودها وتوسيع جبهات المعركة جعلها تؤجل هذا الملف. وإذا ما توصلت سورية إلى اتفاق سلام مع إسرائيل فإنه يتوقع أن تبدأ سورية بفتح ملف اللواء مع تركيا(50).‏
                  وفي مؤتمر نظمه معهد السلام الأمريكي في واشنطن عام 1994 وشارك فيه خبراء من سورية وتركيا والولايات المتحدة أعلن السوريون المشاركون في المؤتمر عن رغبتهم في تجديد المطالبة بلواء اسكندرونة عن طريق الأمم المتحدة وقد أبدت تركيا ردوداً غاضبة تجاه الإعلان السوري هذا. بل أعلنت تركيا أن سورية تحتل مناطق حدودية تقدر بنحو خمسين كيلو متراً على طول الحدود بين البلدين(51) وخلال الأزمة السورية التركية الأخيرة عادت قضية لواء اسكندرونة لتطرح نفسها كقضية خلافية بين البلدين وقد طلبت تركيا من سورية التوقف عن المطالبة بحقوقها في اللواء. وفي 19/10/1998 وجه الرئيس التركي سليمان ديمريل خطاباً من لواء اسكندرونة حذر فيه سورية من أي مطالبة باللواء، وذكرت مصادر تركية آنذاك أن تركيا تسعى إلى الحصول على تعهد سوري باعتراف بالسيادة التركية على لواء اسكندرونة(52).‏
                  أما بالنسبة لمشكلة الموصل فعلى الرغم من مرور 70 سنة على توقيع تركيا اتفاقية بشأن تبعية الموصل للسيادة العراقية إلا أنها مازالت موضع جذب لأنقرة في اتجاه اعتبارها منطقة انتزعت منها. فمع انهيار العراق إثر حرب الخليج الثانية بدأت بعض الأوساط التركية تتحدث عن مصالح حيوية لتركيا في شمال العراق. ورغم نفي أنقرة الرسمي وجود أطماع تركية في هذه المنطقة إلا أن جملة سلوكيات أنقرة والتصريحات الغامضة للمسؤولين الأتراك بشأنها تؤكد غير ذلك، ففي 6 تموز 1994 كشفت صحيفة (حريت) التركية عن خطة كان أعدها الرئيس التركي الراحل أوزال لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: عربية وكردية وتركمانية، وحسب هذه الخطة يمكن تأسيس فيدرالية تركية مع الدويلة الكردية والتركمانية أي ضم منطقة الموصل وكركوك الغنية بالنفط، كما أن الحزب القومي التركي المتطرف يتمحور أحد مطالبه حول ضم شمال العراق إلى تركيا باعتباره جزءاً من تركيا اقتطع منها تحت الضغط البريطاني لذا يؤكد ضرورة استعادته.‏
                  وقد طالب الرئيس التركي سليمان ديميريل صراحة في 3/5/1995 بإعادة ترسيم الحدود بين تركيا والعراق، و(استرداد) إقليم الموصل(53)، ولوحظ بعد حرب الخليج الثانية اتساع حدة نطاق العمليات العسكرية التركية في شمال العراق. ومنها عملية فولاذ 1997 في الفترة من 14/5/1997 إلى 21/6/1997 حيث وصلت القوات التركية في يومها العاشر إلى مشارف الموصل، فضلاً عن أن هذه العمليات وما تبعها من عمليات كعملية "فجر" في أيلول عام 1997 كانت مقدمة لإعلان المنطقة الأمنية التركية في شمال العراق في 22/10/1997 على امتداد الحدود العراقية التركية ولعل هذا السلوك دفع بالكثيرين إلى التساؤل هل رماد حرب الخليج الثانية وانهيار العراق أنضجا المطالبة التركية بشمال العراق، تلك المطالبة التي لم تتوقف منذ مؤتمر فرساي عام 1919؟‏
                  ثانياً- المشكلة الكردية:‏
                  تعد المشكلة الكردية واحدة من تلك المشكلات المتشعبة والمعقدة في الشرق الأوسط، لأسباب جغرافية تتعلق بتوزع الأكراد بين ثلاث دول كبيرة في المنطقة في العراق وإيران وتركيا. مع وجود أعداد منهم في سورية ولبنان وأرمينيا وأذربيجان. وكذلك لأسباب أمنية، فالمشكلة الكردية لا تخص الأكراد وحدهم بل تخص الدول والشعوب التي يعيش الأكراد بينهم تاريخياً، وقد تحولت المشكلة الكردية من مشكلة محلية إلى مشكلة إقليمية تهم العراق وسورية، وإيران وتركيا، كما أضحت لها أبعاد غربية، كأولوية أمنية غربية (أمريكية) في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد رعاية واشنطن لاتفاق المصالحة الأخير بين مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني وجلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، وقد تحفظت أنقرة تجاه الاتفاق المذكور ورأت فيه نواة لقيام دولة كردية في كردستان العراق. ورغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد السكان الأكراد، إلا أن الإحصائيات على تباينها تشير إلى أن عددهم يبلغ نحو 20 إلى 30 مليون نسمة وبذلك يشكلون أكبر أقلية قومية محرومة من كيان خاص بهم. وأكبر نسبة للأكراد هي في تركيا، وتشير المصادر الكردية إلى أن عددهم في تركيا يتراوح بين 16 و 18 مليون نسمة في حين تشير المصادر المحايدة إلى أن عددهم يتراوح بين 10 و 12 مليوناً فيما تقول المصادر التركية الرسمية أن عددهم لا يتجاوز ستة ملايين (54)، وتبلغ نسبة مساحة كردستان تركيا نحو ربع المساحة الإجمالية لتركيا ومعظم الأكراد في تركيا يسكنون ثلاثة عشرة ولاية في جنوب شرق الأناضول ويعيش نحو مليون كردي في غرب الأناضول إما هجروا قسراً أو هاجروا طلباً للعمل والرزق(55).‏
                  ورغم أن مشكلة تقرير مصير الشعب الكردي في تركيا أثيرت في اتفاقية سيفر 1920 بين تركيا والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، حيث نصت البنود 62 و 63 و 64 من الاتفاقية المذكورة على إقامة كيان قومي كردي في جنوب شرق تركيا، يحصل الشعب الكردي -حسب الاتفاقية- بعد خمس سنوات من قيام هذا الكيان على استقلاله، بموجب استفتاء تشرف عليه عصبة الأمم، إلا أن الزعيم التركي أتاتورك نجح في إبدال بنود اتفاقية سيفر المذكورة بمعاهدة لوزان عام 1923 التي تجاهلت الحقوق القومية الكردية المنصوصة في اتفاقية سيفر(56).‏
                  ومنذ ذلك الوقت حاولت تركيا وما زالت إنكار الهوية القومية للشعب الكردي في تركيا بشتى الوسائل السياسية والقانونية والأمنية وقد سمتهم بـ"أتراك الجبال" إلا أنه وعقب حرب الخليج وانحسار السلطة المركزية العراقية عن شمال العراق وجدت تركيا نفسها متورطة في المسألة الكردية بعد أن قفزت هذه المسألة إلى واجهة الأحداث التركية في الداخل والخارج وأضحت مدرجة في جدول أعمال السياسة الداخلية والخارجية التركية. ففي الداخل تصاعدت حدة عمليات حزب العمال الكردستاني pkk الذي يخوض حرباً دموية ضد الدولة التركية منذ آب عام 1984، وقد وصلت ضحايا هذه الحرب من الجانبين إلى نحو ثلاثين ألف قتيل وفي الخارج أسفرت التطورات اللاحقة لحرب الخليج عن ظهور نواة دويلة كردية في شمال العراق حيث تخشى تركيا من انسحاب آثار هذه الدويلة مستقبلاً على أكراد تركيا.‏
                  ورغم أن تركيا شاركت في "قوات الحماية الدولية" التي تركزت في قاعدة انجرليك التركية في عام 1991 بهدف حماية أكراد العراق من هجمات محتملة ضدهم من قبل نظام صدام حسين، وحرصت تركيا على تبني سياسة أكثر مرونة وانفتاحاً من قبل إزاء الأكراد في مناطقها الجنوبية- الشرقية، فقد أقر البرلمان التركي 1991 مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" الذي نص على إلغاء القانون رقم 2932 الصادر عام 1982 بشأن حظر الحديث باللغة الكردية، وإلغاء المواد 141- 142- 163 من القانون الجنائي المتعلق بالجرائم الأيديولوجية، والمقصود بذلك إنشاء أو الانتماء إلى عضوية أحزاب دينية أو يسارية(57)، إلا أن هذه السياسة لم تؤد إلى نتائج مرضية فقد تفاقمت المشكلة الكردية في الداخل التركي أكثر فأكثر ووسعت المشكلة دائرة الانقسام بين الأحزاب التركية والجيش، وأرخت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وباتت الحرب ضد حزب العمال الكردستاني تكلف الخزينة التركية سنوياً نحو /10/ مليارات دولار(58).‏
                  خارجياً أدت هذه المشكلة إلى مزيد من التوتر في العلاقات مع سوريا وإيران حيث تتهم تركيا هاتين الدولتين بدعم حزب العمال الكردستاني في حربه ضد الدولة التركية، كما أن الاجتياحات العسكرية التركية المتكررة لشمال العراق بهدف ضرب مواقع الحزب المذكور وتوجه أنقرة إلى إقامة منطقة أمنية في شمال العراق على امتداد الحدود العراقية- التركية أدى إلى التوتر في العلاقات التركية مع سورية بالدرجة الأولى والعراق وإيران بالدرجة الثانية خاصة بعد أن ربطت أنقرة بين مشكلة الأمن "الإرهاب" والتوصل إلى اتفاقية مع سورية والعراق بشأن مياه نهري دجلة والفرات وكذلك توطيد علاقاتها العسكرية مع إسرائيل من خلال عقد سلسلة اتفاقيات عسكرية معها، وجاءت الأزمة التركية السورية الأخيرة في تشرين الأول عام 1998 والتي انتهت بتوقيع اتفاقية أضنة بين البلدين في التاسع والعشرين من الشهر نفسه ومن ثم اختطاف تركيا لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في منتصف شباط 1999 من العاصمة الكينية نيروبي وما تبع ذلك من ردات فعل كردية غاضبة داخل تركيا وكذلك في العواصم الأوروبية والآسيوية ضد المصالح التركية إضافة إلى مطالبة دولية واسعة بإيجاد حل سلمي للمشكلة الكردية في تركيا، هذه الأمور وغيرها أظهرت عمق المشكلة الكردية في تركيا وارتباطها بالسياسة الخارجية لتركيا وعلاقاتها الإقليمية والدولية.‏
                  وفي الواقع أضحت هذه المشكلة ملفاً دائم التوتر في العلاقات التركية الخارجية ليس مع سورية والعراق وإيران فحسب بل مع أرمينيا وروسيا واليونان وقبرص وألمانيا وهولندا إضافة إلى عدد من الدول الأوروبية الأخرى. حيث تصر أنقرة على القول إن المشكلة هي من صنع الخارج وإنها مشكلة "إرهاب" في حين أنها في جوهرها مشكلة تركية داخلية مزمنة يعود تاريخها لأكثر من ثلاثة قرون عندما كانت ولايات كردستان داخل الدولة العثمانية تتمتع بأشكال من الحكم المحلي والذاتي(59) فيما تنكر الحكومات التركية المتتالية منذ 1923 وحتى الآن هذه المشكلة.‏
                  والسياسة التركية تجاه المشكلة الكردية تبدو متناقضة، ففي الوقت الذي لا تعترف فيه تركيا بوجود مشكلة كردية في تركيا وتتبع ضدهم أشد الأساليب العسكرية في الداخل، تقوم بدور الحماية لأكراد العراق وتقيم مع الفصائل الكردية في شمال العراق أشكالاً من التعاون الأمني والسياسي، وترعى جهود الوساطة السلمية بين الفصيلين الكرديين المتحاربين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني.‏
                  وتهدف تركيا من وراء هذه السياسة أولاً: تحييد أكراد العراق إزاء المشكلة الكردية في تركيا، بل وتجيير هؤلاء ضد حزب العمال الكردستاني خاصة في ضوء الخلافات العميقة بين هذا الحزب والحزب الديمقراطي الكردستاني، وثانياً: استخدام الورقة الكردية كعامل ضغط ضد جيرانها الجنوبيين للقيام بدور إقليمي. ولكن الثابت في السياسة الخارجية التركية أن أنقرة ترفض قيام دولة كردية مستقلة في العراق وتلتقي توجهاتها هذه مع توجهات إيران والعراق وسورية في رفض قيام دولة مستقلة للأكراد، ومن هنا تكرر تركيا مبادئ سياستها تجاه العراق القائمة على تمسك تركيا بوحدة أراضي العراق وسيادته. ومعارضتها أية محاولة لإقامة دولة كردية في شمال العراق(60).‏
                  الأبعاد الكردية في السياسة التركية تجاه سورية والعراق أضحت قوية، وبسببها تتعرض العلاقات التركية السورية إلى توتر مستمر، فتركيا تتهم سورية بدعم حزب العمال الكردستاني ويطلق مسؤولوها في العديد من المناسبات التهديدات ضد سورية في حين تنفي سورية الاتهامات التركية وتبدي المرونة والهدوء تجاه التهديدات والتصريحات الاستفزازية للعديد من المسؤولين الأتراك.‏
                  ورغم المحاولات المتبادلة من الجانبين لتسوية الخلافات وتصحيح الأجواء وبدء مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، وكان آخرها زيارة معاون وزير الخارجية السوري عدنان عمران إلى أنقرة في تموز 1998 إلا أن هذه المحاولة وغيرها من المحاولات السابقة لم تنجح في تصحيح الأجواء السلبية بين البلدين. خاصة في ظل إصرار تركيا على ربط موضوع المياه بمشكلة "الإرهاب" وتوطيد تحالفها العسكري مع إسرائيل، وكانت سورية وتركيا وقعتا اتفاقات في عامي 1992- 1993 بشأن أمن الحدود بين البلدين(61) وفي الواقع ستظل المشكلة الكردية حاضرة في السياسة التركية تجاه دول الجوار العربي (سورية والعراق) ما بقيت هذه المشكلة دون حل، وبتقديري مهما ذهبت تركيا في إنكار هذه المشكلة الداخلية فإن ذلك لن يكون حلاً لها على المدى المنظور، وما لم تتجه تركيا إلى التعاطي الإيجابي مع مشكلتها الكردية، والاستمرار في محاولة تصديرها إلى الخارج فإن هذه المشكلة سوف تسبب المزيد من التدهور في علاقات تركيا مع دول الجوار الجغرافي فضلاً عن أنها ستظل عقبة كبيرة تمنعها من القيام بدور إقليمي سواء تجاه الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى وحتى أوروبا.‏
                  ثالثاً- العلاقة مع إيران‏
                  يمكن وصف العلاقات التركية الإيرانية بأنها "ليست حميمة ولا عدائية" ويعود ذلك إلى الحساسية الفائقة التي تحكم العلاقات بينهما، لأسباب تاريخية تتعلق بالنظرة المتبادلة إزاء الصراع "العثماني- الصفوي"، وأسباب معاصرة تتعلق بالأيديولوجية السياسية للبلدين والتنافس بينهما على النفوذ في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، إضافة إلى القضايا الأمنية المشتركة عبر الحدود.‏
                  منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تعتقد "تركيا العلمانية" أن "إيران الراديكالية" تشكل خطراً على نظامها العلماني وترى أن صعود التيار الإسلامي في تركيا سببه -بهذا القدر أو ذاك- إيران التي تمارس جهوداً لتصدير الثورة إلى تركيا. في المقابل، ترى إيران أن الحكومة التركية التي تحارب الإسلام والنشاط الإسلامي في تركيا باسم "حماية المبادئ العلمانية للدولة التركية" وكذلك علاقة تركيا المتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى علاقتها الوثيقة مع إسرائيل والتي تتوطد يوماً بعد آخر وترتقي إلى مستوى الحلف، ترى طهران أن مجمل السياسة التركية هذه تشكل تحدياً لسياستها الخارجية.‏
                  في الوقت نفسه، تتقاسم أنقرة وطهران الهموم الأمنية المشتركة عبر الحدود، فالاتفاق الأمني الموقع بين البلدين في أيلول عام 1992 لم يحقق الثقة الكاملة بشأن المسائل الأمنية. وأنقرة تتهم طهران بتقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني وللإسلاميين في تركيا، فيما طهران تتهم أنقرة بتقديم الدعم لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية.‏
                  اقتصادياً مع انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عن روسيا برز عنصر جديد في العلاقات التركية- الإيرانية، وقد تمثل هذا العنصر في المنافسة على ربط هذه الجمهوريات اقتصادياً بمشاريعها الاستراتيجية خاصة في مجال مشاريع النفط والغاز.‏
                  أما بالنسبة لباقي الدول الإسلامية: دول الخليج العربي ودول المغرب العربي ومصر ونيجيريا وباكستان وأندونيسيا وماليزيا.. الخ. فلا تكاد تكون هناك مشكلة سياسية بالمعنى الخلافي بين تركيا وهذه الدول. إنما تسعى تركيا إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع هذه الدول وتأسيس مجموعات اقتصادية معها كمجموعة الدول الثمانية: تركيا، مصر، باكستان، إيران، بنغلادش، نيجيريا، ماليزيا، وأندونيسيا. والتي تأسست عام 1997 وقد عقد المؤتمر الأول لرؤساء المجموعة في استانبول في حزيران 1997 وتحرص تركيا على تصدير منتجاتها وخاصة المواد الغذائية وبعض الآليات ومؤخراً الأسلحة إلى هذه الدول واستيراد المواد الأولية منها لا سيما النفط والغاز.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                    الفصل الثالث
                    منذ تأسيس الجمهورية التركية لم تعط تركيا أهمية كافية لإقامة علاقات إيجابية مع العالم الإسلامي إلا أنه مع المتغيرات الدولية تسعى تركيا إلى إقامة علاقات متوازنة مع الدول الإسلامية.‏
                    يبحث هذا الفصل في السياسة التركية تجاه الدول الإسلامية. ويحرص على تقديم رؤية واقعية للقضايا الخلافية بين تركيا وجيرانها العرب، خاصة في ظل دخول إسرائيل عنصراً جديداً في السياسة التركية الإقليمية.‏
                    تركيا والدائرة الإسلامية‏
                    أولاً- تركيا والعالم العربي‏
                    رغم أن الأتراك والعرب عاشوا معاً مدة تزيد عن أربعة قرون في ظل دولة واحدة هي الدولة العثمانية، ورغم المصالح المشتركة التي تربطهم في العصر الحديث بحكم الجوار الجغرافي وعوامل الثقافة والدين والتاريخ، إلا أن العلاقات التركية- العربية ومنذ نهاية الحرب العالمية الأولى كانت تشوبها القلق والسلبية والشك، وكانت الرؤية المتبادلة بين الأتراك والعرب في مقدمة العوامل التي أدت إلى انغلاق كل طرف عن الآخر، إلى حد جهل كل طرف بالآخر(29).‏
                    فالأتراك يعتقدون أن العرب تآمروا في الحرب العالمية الأولى مع القوى الاستعمارية لتفكيك الإمبراطورية العثمانية وأدى ذلك في النهاية إلى وقوع العرب أنفسهم تحت الهيمنة الغربية، في المقابل يعتقد العرب ولا سيما في المشرق العربي أن الوجود العثماني (التركي) في الوطن العربي كان استعماراً تحت شعار الدين الأمر الذي مهد الطريق حضارياً وتقنياً للاستعمار الأوروبي. أي أن الخبرة التاريخية للعلاقات بين الجانبين مغلفة بالمرارة كما أنها وقعت فريسة تفسيرات تاريخية متناقضة(30) وحسب الجنرال التركي المتقاعد شادي إرغوفنتش فإن البلاد العربية مازالت بعيدة عن تركيا. وتركيا مازالت غير مهتمة بالبلاد العربية(31).‏
                    في البعد السياسي التاريخي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى انطلقت النخب التركية الحاكمة في سياساتها تجاه الدول العربية من أنها تقدم نموذجاً سياسياً طورته خصيصاً ليناسب التطور السياسي والعقائدي والاقتصادي في المنطقة العربية، وقد تحكم بالنظرة التركية تجاه الدول العربية خيار تركيا الاستراتيجي المرتبط بالغرب، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في 28 آذار عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها عام 1950، وفي إطار دورها في الأحلاف العسكرية (الأطلسي 1952- بغداد 1955- السنتو 1959) كثيراً ما مارست تركيا سياسة تجاه الدول العربية قوامها التوتر والضغط، كما حدث عام 1957 عندما حشدت قواتها العسكرية على الحدود السورية الشمالية في أعقاب المطالبة الواسعة في سورية بالوحدة مع مصر، وتكررت هذه المواقف في أثناء إنزال القوات الأمريكية في لبنان بنقل هذه القوات من قاعدة إنجرليك التركية مباشرة وكذلك وقفت إلى جانب فرنسا ضد الجزائر في الأمم المتحدة عام 1958(32) في حين لم تنظر تركيا إلى مسألة إقامة علاقات إيجابية مع الدول العربية سواء في إطار المصالح الإقليمية أو الانتماء الحضاري إلا مع بروز عاملين:‏
                    1-الأزمة القبرصية بعد عام 1974 حيث وجدت تركيا نفسها في عزلة دولية في صراعها مع اليونان في الجزيرة بعدما وقفت معظم الدول الغربية إلى جانب اليونان.‏
                    2-بروز دور النفط في السبعينات وتأثيره على السياسة الدولية وقد تزامن ذلك مع أزمة اقتصادية كانت تركيا تشهدها.‏
                    في نهاية الستينات تميزت السياسة التركية تجاه الدائرة العربية والإسلامية بعدة سمات أهمها:‏
                    1- عدم التدخل في النزاعات العربية، وكذلك في الصراعات الإقليمية كالحرب العراقية الإيرانية.‏
                    2- التوجه نحو إقامة علاقات إقليمية متوازية مع الدول العربية على غرار علاقاتها مع إسرائيل وإيران.‏
                    وكانت سورية الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة إذ أنها لا تعترف بالسيادة التركية على لواء اسكندرون (هتاي) الذي سلبته تركيا بالاتفاق مع فرنسا عام 1939(33).‏
                    3- تأييد المواقف الفلسطينية خاصة بعد حرب 1967 في قضية الصراع مع إسرائيل من خلال التأكيد على ضرورة تطبيق قرارات الشرعية الدولية وبخاصة القرار 242، واتباع سياسة إيجابية في هذا السياق بعد انضمامها لعضوية منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1976.‏
                    ورغم هذا التطور في السياسة التركية تجاه العالم العربي إلا أن العلاقات التركية- العربية بشكل عام ظلت في دائرة الشك والسلبية ويعود الأمر بالدرجة الأولى إلى أن البعد الغربي ظل حاضراً بقوة في سياسات تركيا الأمنية العسكرية والاقتصادية الأمر الذي جعل الطرف العربي ينظر إلى هذه السياسة بعين الشك والحذر والقلق.‏
                    إلا أن هذه المعادلة تعرضت للاهتزاز مع اهتزاز موقع تركيا في الاستراتيجية الغربية، أثر انهيار الاتحاد السوفياتي. وحرب الخليج الحدث الأساس الذي مهد الطريق لسياسة تركية أكثر فعالية في العالم العربي، حيث تخلت تركيا عن سياستها الانكفائية والحذرة في الشرق الأوسط لصالح القيام بدور إقليمي أكثر فعالية.‏
                    وقد عبر الرئيس أوزال عن التوجه المستقبلي لبلاده أثناء حرب الخليج بالقول: "بعد انتهاء هذه الحرب لن يعود الشرق الأوسط إلى ما كان عليه إذا ما أخذنا في الاعتبار كل الحقائق التاريخية في المنطقة، فقد يكون بإمكاننا جلب السلام إلى المنطقة وأرى أن على القوة الأخرى من خارج المنطقة أن تسهل لنا هذه المهمة... نحن مستعدون لتنفيذ كل المشاريع التي تعيد بناء المنطقة اقتصادياً مثل مشاريع تنمية الموارد المائية بما فيها طريق إيصال مياه الأنهار التركية إلى شبه الجزيرة العربية في خطوط أنابيب تسير جنباً إلى جنب مع أنابيب النفط والغاز...... سيعتمد هذا التعاون الاقتصادي على إنشاء صندوق نقد من شأنه تسهيل عملية التنمية الاقتصادية، ويمكن إنشاء هذا الصندوق بالاعتماد على نسبة مئوية معينة من الفوائد النفطية إلى جانب مساهمات من الدول العربية الغنية"(34).‏
                    ويمكن القول إن السياسة التركية في التسعينات تجاه العالم العربي والإسلامي انطلقت من قضايا ومسائل محددة أهمها:‏
                    1-إن انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي حوّل دور تركيا كرأس حربة أطلسية في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق إلى دور أكثر أهمية وشمولية وتعقيداً في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط نحو التطلع إلى دور دولة إقليمية محورية تتوسط هذه الأقاليم الجغرافية المهمة.‏
                    2-إن حرب الخليج الثانية بظروفها والنتائج التي أفرزتها جعلت تركيا عنصراً أساسياً وجزءاً لا يتجزأ من لعبة الأمم في الشرق الأوسط وذلك من خلال عوامل المياه والنفط والأمن والأقليات القومية، خاصة الأقلية الكردية منها في شمال العراق ونشوء نواة كيان كردي فيه يمس مباشرة الوضع الجيوأمني لتركيا.‏
                    3-إن بدء مفاوضات التسوية السلمية بين العرب وإسرائيل واعتراف معظم الدول العربية بدولة إسرائيل واحتمالات التوصل إلى اتفاق سلام بين سورية ولبنان من جهة وإسرائيل من جهة ثانية يتيح لتركيا تجاوز الكثير من الحذر والحساسيات في علاقاتها الشرق أوسطية وبخاصة العربية منها التي تعتقد أن تركيا متحيزة لإسرائيل.‏
                    4-إن النظام الشرق أوسطي الجديد المحتمل، هو نظام محكوم بالغلبة الإسرائيلية وبكونه امتداداً للنظام العالمي الجديد المحكوم بالسيطرة الأميركية، وبالتالي فإن حجم الدور التركي في النظام الشرق الأوسطي الجديد محكوم إلى حد بعيد بالاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية(35)، ومحكوم أيضاً بمدى تدعيم تركيا علاقاتها مع إسرائيل وأمريكا خصوصاً على الأصعدة الأمنية والعسكرية والاستراتيجية.‏
                    5-تركيا بدورها شهدت تغييرات متسارعة في الداخل أهمها صعود التيار الإسلامي إلى الواجهة السياسية التركية، ويحظى بتأييد جماهيري كبير ويحتل المرتبة الأولى في الانتخابات البلدية والنيابية التي جرت في أعوام 1995- 1996، وهذا العامل المستجد في الداخل التركي لابد أن يكون له اعتبار ووزن في السياسة الخارجية التركية حيث يعمل التيار الإسلامي جاهداً للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية.‏
                    وتمثل التسعينات عهد تحول في علاقات تركيا بالشرق الأوسط والغرب، في إدراك تركيا أنها تبتعد أكثر فأكثر عن أوروبا سياسياً مقابل الإحساس بإعادة اكتشاف ذاتها ضمن دائرة تشمل البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وإيران والعالم العربي وباتت فئات واسعة من النخبة الفكرية والسياسية والعسكرية في المجتمع التركي ترى أن الاتجاه نحو المنطقة العربية لا يجب أن يقتصر على ما تحدده الاستراتيجية الغربية لأن ذلك يضعف الدور التركي ولا يقويه ويجعله دوراً تابعاً وعميلاً(36).‏
                    وانطلاقاً من مسائل الأمن اتجهت تركيا بعد حرب الخليج إلى القيام بدور مؤثر في رسم تفاعلات المنطقة في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية، وقد شهدت العلاقات التركية مع عدد من الدول العربية الخليجية والمغاربية ومصر والأردن تطورات إيجابية في مجالات التجارة والنقل والرساميل والصناعات والمشاريع الاقتصادية في حين شهدت العلاقات التركية- السورية والتركية- العراقية توتراً متزايداً بسبب مشاكل قديمة متجددة فرضها الثابت الجغرافي والحدود المشتركة والاتفاقات الدولية التي رسمت الحدود بين هذه الدول بعد الحرب العالمية الأولى.‏
                    1- المياه:‏
                    لعل قضية الخلاف السوري العراقي- التركي على مياه نهري الفرات ودجلة من أكثر القضايا مدعاة للإثارة والتوتر بين تركيا وجارتيها العربيتين (سورية والعراق)، خاصة بعد أن أضحت المياه ثروة مطلوبة لا يمكن تجاهل نقصها مع ازدياد الحاجة إليها في المجالات المختلفة، وأساس المشكلة هنا عدم وجود قواعد قانونية واضحة وملزمة يرجع إليها لتسوية النزاع رغم وجود أربع اتفاقيات دولية لاقتسام مياه النهرين. وهذه المعاهدات هي:‏
                    1-المعاهدة الفرنسية- البريطانية في 13/12/1920 حول استخدام مياه دجلة والفرات.‏
                    ونصت هذه المعاهدة على تشكيل لجنة مشتركة مع تركيا وسورية (فرنسا) والعراق (بريطانيا) لمعالجة المشكلات الخاصة بمياه النهرين، وبخاصة في حال بناء منشآت هندسية في أعاليهما.‏
                    2-معاهدة لوزان في 24/7/1932 التي تلزم في المادة /9/ بوجوب أخطار كل من سورية والعراق كلما رغبت تركيا في القيام بأعمال إنشائية على دجلة والفرات.‏
                    3-معاهدة حلب في 3/5/1930 بين تركيا وفرنسا وبريطانيا، ونصت على أن لسورية وتركيا حقوقاً متساوية بالانتفاع من مياه دجلة بوصفه نهراً مشتركاً.‏
                    4-معاهدة الصداقة وحسن الجوار بين تركيا والعراق في 9/3/1946 والتي تنص على ضرورة التعاون المشترك بينهما في ما يختص بالمياه الدولية المشتركة(37).‏
                    5-اتفاقية الصداقة وحسن الجوار (أنقرة 30/5/1926) بين سورية (أي فرنسا) وتركيا بشأن تأمين المياه التي تُسقى من نهر قُويق الذي ينبع من تركيا ويروي مدينة حلب.‏
                    6-بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني (أنقرة 25/12/1980) بين العراق وتركيا، ثم انضمت إليه سورية في عام 1983 وينص على تشكيل لجنة فنية مشتركة لدراسة مواضيع المياه المشتركة وخاصة الفرات ودجلة (38).‏
                    ورغم اللقاءات الثنائية السورية- التركية والعراقية- التركية. وكذلك 16 اجتماعاً للجنة الثلاثية السورية- العراقية- التركية التي شكلت عام 1982 إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اتفاقية بشأن الحصة النهائية لكل دولة من مياه النهرين، ولعل الإنجاز الوحيد الذي تحقق في هذا المجال كان البروتوكول السوري- التركي عام 1987 والذي تعهدت تركيا بموجبه بتمرير حد أدنى من مياه نهر الفرات بمقدار 500م3 في الثانية.‏
                    سورية والعراق تعتبران دجلة والفرات نهرين دوليين وتؤكدان أن المشاركة فيهما حق تاريخي من حقوقهما إلى جانب موقفهما في دعم مفهوم شمولية المياه الدولية، حيث ينبغي التوحيد بين المنبع والمجرى والمصب كخط مائي متكامل لا يجوز الفصل بين أجزائه وذلك وفق ما نصت عليه مبادئ هلسنكي عام 1966 بشأن استخدام مياه الأنهار الدولية(39)، وتطالب سورية والعراق بالتوصل إلى اتفاقية نهائية بشأن مياه نهر الفرات وتشكيل لجنة دولية للنهر على غرار لجان أنهار الدانوب والكونغو، والكف عن الاستخدام الأحادي للمياه في إقامة المشاريع المائية، في حين تعتبر تركيا دجلة والفرات نهرين تركيين عابرين للحدود وتدّعي أن لهما حوضاً واحداً وحق امتلاكها لهما. بالتالي حق استخدام مياه النهرين حتى النقطة التي تعبران فيها حدودها، وحسب وجهة نظرها هذه لا يحق لأحد أن يقرر كيفية استخدام مياه النهرين لأن في ذلك مساً لسيادتها عليهما(40)، وجاءت الاتفاقية الدولية الجديدة التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21/5/1997 برقم 869/51/a بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية لمصلحة سورية والعراق إلا أن تركيا رفضت هذه الاتفاقية بهدف الإبقاء على الوضع الحالي للنهرين كي تتمكن دون أي قيود من مواصلة مشروع غاب.‏
                    وفي الأعوام الأخيرة اتجهت تركيا إلى ربط المياه بمسألة الأمن وأحياناً بالنفط! وإلى استخدام المياه كسلاح ضد سورية التي تتهمها تركيا بدعم حزب العمال الكردستاني pkk الذي يخوض حرباً مسلحة ضد الدولة التركية منذ عام 1984. وقد ازدادت مشكلة المياه تعقيداً في ضوء توجه تركيا إلى بناء مشاريع مائية ضخمة في وقت تعاني المنطقة من نقص في المياه وتحذر مراكز الدراسات الاستراتيجية من حدوث صراعات وحروب مياه محتملة في الشرق الأوسط، وفي ارتباطه بمسألة المياه يحتل مشروع غاب موقعاً مركزياً في رسم علاقات تركية مع كل من سورية والعراق.‏
                    مشروع غاب gap:‏
                    يتألف مشرع الـ غاب من 22 سداً و 19 محطة للطاقة الكهربائية ومشروعات أخرى متنوعة في قطاعات الزراعة والصناعة والمواصلات والري والاتصالات، والغاب من حيث المساحة هو أضخم مشروع في العالم ويشمل ثماني محافظات وعند إتمامه تقارب مساحة الزراعة المروية من خلاله 8.5 مليون هكتار أي نحو 19 بالمئة من مساحة الأراضي المروية في تركيا. وتوفير 106 مليون فرصة عمل(41) جديدة في هذه المناطق ذات الأكثرية الكردية(42).‏
                    ومن أهم سدود مشروع الغاب، سد أتاتورك: وقد دشن هذا السد في تموز 1992 بحضور رؤساء وممثلي 29 دولة إضافة إلى نحو مئة دبلوماسي، يقع السد على نهر الفرات على بعد 24 كلم من مدينة بوزوفا، وهو يعد الثالث في العالم من حيث حجم قاعدته 84.5 مليون م2، والثامن من حيث الارتفاع 190م والخامس عشر من حيث حجم المياه في بحيرة السد، والثامن عشر من حيث حجم إنتاج الطاقة الكهربائية، وفي حال امتلاء السد ستبلغ كمية المياه المخزنة 48.7 مليون م3 والارتفاع الأقصى لمنسوب المياه 162م بعرض 15 متراً أي ما مجموعه 882 ألف هكتار(43).‏
                    وإلى جانب سد أتاتورك هناك سدود أخرى عديدة تنفذها تركيا اعتماداً على مياه نهري دجلة والفرات منها: بريجيك، قره قايا، قرقميش، غازي عينتاب، كيبان، ودجلة الخ.‏
                    تعتقد تركيا أنها بتنفيذها لمشروع الغاب فإنها ستصبح دولة متحكمة بالأمن المائي والغذائي لدول المنطقة، فضلاً عن استخدام المياه كثروة وطنية يمكن مبادلتها بالنفط أو كسلاح لتحقيق مطالب أمنية، ففي حفل تدشين سد أتاتورك هدد الرئيس التركي سليمان ديميريل الذي كان آنذاك رئيساً للوزراء قائلاً: "إن مياه الفرات ودجلة تركية ومصادر هذه المياه هي موارد تركية كما أن آبار النفط تعود ملكيتها إلى العراق وسورية، نحن لا نقول لسورية والعراق إننا نشاركهما مواردهما النفطية ولا يحق لهما القول إنهما تشاركاننا مواردنا المائية. إنها مسألة سيادة. إن هذه أرضنا ولنا الحق في أن نفعل ما نريد(44) وقد كرر ديميريل أقواله هذه مع افتتاح كل مشروع مائي جديد. ومشروع غاب الذي يهدف في الأساس إلى تحقيق التنمية في جنوبي شرقي تركيا فضلاً عن البعد الكردي فيه (تعتقد بعض الأوساط التركية أن مسألة العنف في جنوبي شرقي تركيا سببه التخلف وغياب التنمية) فإن هذا المشروع سيلحق أضراراً بالغة بالزراعة والصناعة والكهرباء والأراضي في سورية والعراق، وتقدر المصادر السورية أن كمية المياه التي ستتدفق إلى سورية بعد استكمال الغاب ستنخفض بمقدار 40 بالمئة. وإلى العراق بنسبة 80 بالمئة(45).‏
                    ويتسبب هذا النقص بأضرار بالغة في مجالات الكهرباء والصناعة والاستخدام البشري وكذلك بأضرار مضاعفة بالأراضي الزراعية كتزايد نسبة الملوحة والتصحر والتلوث خاصة في ضوء التأكيدات السورية على أن جزء من هذه المياه ملوثة. وقد اعترف مسؤول في شركة شل النفطية فرع تركيا بقيام الشركة بضخ نحو نصف مليون برميل من المياه الإنتاجية الملوثة بالنفط والمذيبات وغيرها من المواد الكيميائية وطرحها في حوض المياه الجوفية في ميديات بجنوب شرق تركيا على محاذاة الحدود السورية- العراقية مما أصاب احتياطات مياه الشرب بالتلوث(46).‏
                    مشروع مياه أنابيب السلام‏
                    أعلنت تركيا عن هذا المشروع في حزيران عام 1987، ويهدف المشروع إلى تزويد دول الشرق الأوسط من فائض مياه نهري (سيحان وجيحان) التركيين. في البداية طرحت تركيا تصوراً أولياً للمشروع يقوم على إيصال المياه إلى سورية والأردن وإسرائيل وبعض دول الخليج إلا أن الرفض العربي وخاصة السوري لإيصال المياه إلى إسرائيل من خلال أنبوب عبر أراضيها دفع بتركيا إلى مراجعة هذا التصور واستبداله بمشروع أوسع. ويتألف المشروع من خطين، الأول: تركيا- حلب- حماه- حمص- دمشق- عمان- المدينة المنورة- ينبع- مكة- جدة- ويبلغ إجمالي طول الخط نحو 2650 كيلو متر.‏
                    أما الخط الثاني فيتألف من: تركيا- الكويت- الجبيل- المنامة- الدوحة- أبو ظبي- دبي- عجمان- رأس الخيمة- مسقط ويبلغ طول الخط الإجمالي نحو 2900 كيلو متر. وأما كلفة المشروع الإجمالي فتبلغ نحو 21 مليار دولار، وبطاقة 6 مليون متر مكعب يومياً. (الخط الأول 305 والخط الثاني 2.5 م3 من المياه).‏
                    وتكلفة الحصول على المتر المكعب من المياه يتراوح بين (0.84 إلى 1.07 دولار) وتهدف تركيا من وراء المشروع إلى جني عائدات مالية تقدر بنحو ملياري دولار سنوياً(47).‏
                    وقد رفضت الدول العربية مشروع مياه أنابيب السلام التركي لأسباب عدة أهمها:‏
                    1- الخوف من أن يصبح أمنهم المائي بيد تركيا ولا تستبعد الدول العربية أن تلجأ تركيا إلى قطع هذه المياه في الظرف الأمني أو استخدامه كسلاح لبلوغ الدور الإقليمي الذي تنشده.‏
                    2- التكاليف الباهظة للمشروع والسعر المرتفع للمياه.‏
                    وفي الواقع لا تقتصر أبعاد المشاريع المائية التركية هذه على الجوانب الاقتصادية والتنموية، إنما لها أبعاد أخرى أمنية فهي إذ تستخدم سلاح المياه، تهدد الأمن القومي العربي من خلال ضربها قوام الخطط التنموية في كل من سورية والعراق. وكذلك تأثير العلاقة الإسرائيلية- التركية في المسلك التركي حيال أزمة الفرات واستخدام تلك العلاقة والأزمة للضغط على سورية في المرحلة الراهنة من المفاوضات الخاصة بالمسار السوري- الإسرائيلي ومن بين الأدلة على ذلك التأثير تصريح السفير الإسرائيلي في واشنطن 19/1/1996 بأن هناك بعداً تركياً للسلام مع سورية وأن تركيا ذات أهمية بالنسبة إلى موارد المياه في المنطقة(48)، كما تسعى تركيا في إطار لجنة المياه ضمن المفاوضات متعددة الأطراف وكذلك في إطار المؤتمرات الاقتصادية الإقليمية- الشرق أوسطية إلى إشراك إسرائيل والولايات المتحدة في المبادرات التي تطلقها بخصوص المشروعات المائية، وقد برز هذا الاتجاه بشكل واضح في مؤتمر "مياه العالم: تمويل مشروعات المستقبل" الذي انعقد في استانبول في 29- 30 أيلول عام 1997 وتهدف تركيا من وراء ذلك إلى جذب استثمارات أجنبية لتمويل مشروع (غاب) والاستفادة من الخبرات الإسرائيلية والأمريكية المتطورة في مجالات الزراعة والري والهندسة الوراثية.‏
                    وفي ظل السلبية التي تظلّل العلاقات التركية- السورية العراقية فإن ملف المياه سيظل مفتوحاً ومرشحاً للمزيد من التفاقم في ظل السياسة المائية التركية التي تتجاهل الحقوق السورية والعراقية في مياه نهري دجلة والفرات وتتهرب من التوقيع على اتفاق بشأن الحصة النهائية لكل طرف من المياه وتعمل على تنفيذ مشاريعها المائية الضخمة غير آبهة بالاعتراضات العربية في سبيل أن تتحكم بالأمن المائي وربما الغذائي لجيرانها العرب في القرن المقبل.‏
                    2- قضيتا لواء اسكندرونة والموصل:‏
                    لا تزال مشكلة لواء اسكندرون إحدى المشاكل القائمة بين سورية وتركيا والتي تطفو إلى السطح من وقت إلى آخر، وتلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين، وترجع مشكلة لواء اسكندرونة إلى 20/10/1921 عندما أقرت فرنسا وتركيا في اتفاقية أنقرة لتخطيط الحدود بين سورية وتركيا بإقامة نظام إداري خاص لمنطقة اللواء علماً أن فرنسا كانت أقرت في وثيقة رسمية عام 1920 بتبعية اللواء لسورية. وشكلت اتفاقية أنقرة مدخلاً لقيام تركيا بتوسيع حدود النظام الإداري الخاص، وتقديم التسهيلات للأتراك منها جعل اللغة التركية لغة رسمية في اللواء وتضخيم الوجود السكاني التركي فيه، وفي إطار خطة لفصل اللواء عن سورية وضمه إلى تركيا عقدت الأخيرة سلسلة من الاتفاقيات مع فرنسا منها اتفاقية أنقرة للصداقة وحسن الجوار في 30/5/1926، واتفاقية أخرى للغرض نفسه في 22/6/1926، وفي عام 1938 أجرت تركيا بالتنسيق مع فرنسا انتخابات في اللواء زورت نتائجها وبموجبها حققت الأقلية التركية أغلبية في المجلس الأعلى لإدارة اللواء، وقد فاز الأتراك بـ 22 مقعداً والعرب السوريون بـ 18 مقعداً، وفي العام نفسه اجتاحت القوات التركية اللواء دون أن تتحرك فرنسا (الدولة المنتدبة على سورية) ضد الاجتياح التركي. وهكذا تآمرت فرنسا وتركيا على سلخ اللواء عن سورية فقد وقع البلدان في 23/6/1939 اتفاق الضم الذي أدخل اللواء بموجبه في السيادة التركية وأصبح يعرف باسم "هاتاي"(49).‏
                    سورية لم تقبل بضم اللواء إلى تركيا ولا تعتبر قضية اللواء انتهت، فحتى الآن لا يزال موقع اسكندرون يظهر على الطوابع والخرائط السورية. إلا أن ظروف الصراع مع إسرائيل وعدم رغبة سورية في تشتيت جهودها وتوسيع جبهات المعركة جعلها تؤجل هذا الملف. وإذا ما توصلت سورية إلى اتفاق سلام مع إسرائيل فإنه يتوقع أن تبدأ سورية بفتح ملف اللواء مع تركيا(50).‏
                    وفي مؤتمر نظمه معهد السلام الأمريكي في واشنطن عام 1994 وشارك فيه خبراء من سورية وتركيا والولايات المتحدة أعلن السوريون المشاركون في المؤتمر عن رغبتهم في تجديد المطالبة بلواء اسكندرونة عن طريق الأمم المتحدة وقد أبدت تركيا ردوداً غاضبة تجاه الإعلان السوري هذا. بل أعلنت تركيا أن سورية تحتل مناطق حدودية تقدر بنحو خمسين كيلو متراً على طول الحدود بين البلدين(51) وخلال الأزمة السورية التركية الأخيرة عادت قضية لواء اسكندرونة لتطرح نفسها كقضية خلافية بين البلدين وقد طلبت تركيا من سورية التوقف عن المطالبة بحقوقها في اللواء. وفي 19/10/1998 وجه الرئيس التركي سليمان ديمريل خطاباً من لواء اسكندرونة حذر فيه سورية من أي مطالبة باللواء، وذكرت مصادر تركية آنذاك أن تركيا تسعى إلى الحصول على تعهد سوري باعتراف بالسيادة التركية على لواء اسكندرونة(52).‏
                    أما بالنسبة لمشكلة الموصل فعلى الرغم من مرور 70 سنة على توقيع تركيا اتفاقية بشأن تبعية الموصل للسيادة العراقية إلا أنها مازالت موضع جذب لأنقرة في اتجاه اعتبارها منطقة انتزعت منها. فمع انهيار العراق إثر حرب الخليج الثانية بدأت بعض الأوساط التركية تتحدث عن مصالح حيوية لتركيا في شمال العراق. ورغم نفي أنقرة الرسمي وجود أطماع تركية في هذه المنطقة إلا أن جملة سلوكيات أنقرة والتصريحات الغامضة للمسؤولين الأتراك بشأنها تؤكد غير ذلك، ففي 6 تموز 1994 كشفت صحيفة (حريت) التركية عن خطة كان أعدها الرئيس التركي الراحل أوزال لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: عربية وكردية وتركمانية، وحسب هذه الخطة يمكن تأسيس فيدرالية تركية مع الدويلة الكردية والتركمانية أي ضم منطقة الموصل وكركوك الغنية بالنفط، كما أن الحزب القومي التركي المتطرف يتمحور أحد مطالبه حول ضم شمال العراق إلى تركيا باعتباره جزءاً من تركيا اقتطع منها تحت الضغط البريطاني لذا يؤكد ضرورة استعادته.‏
                    وقد طالب الرئيس التركي سليمان ديميريل صراحة في 3/5/1995 بإعادة ترسيم الحدود بين تركيا والعراق، و(استرداد) إقليم الموصل(53)، ولوحظ بعد حرب الخليج الثانية اتساع حدة نطاق العمليات العسكرية التركية في شمال العراق. ومنها عملية فولاذ 1997 في الفترة من 14/5/1997 إلى 21/6/1997 حيث وصلت القوات التركية في يومها العاشر إلى مشارف الموصل، فضلاً عن أن هذه العمليات وما تبعها من عمليات كعملية "فجر" في أيلول عام 1997 كانت مقدمة لإعلان المنطقة الأمنية التركية في شمال العراق في 22/10/1997 على امتداد الحدود العراقية التركية ولعل هذا السلوك دفع بالكثيرين إلى التساؤل هل رماد حرب الخليج الثانية وانهيار العراق أنضجا المطالبة التركية بشمال العراق، تلك المطالبة التي لم تتوقف منذ مؤتمر فرساي عام 1919؟‏
                    ثانياً- المشكلة الكردية:‏
                    تعد المشكلة الكردية واحدة من تلك المشكلات المتشعبة والمعقدة في الشرق الأوسط، لأسباب جغرافية تتعلق بتوزع الأكراد بين ثلاث دول كبيرة في المنطقة في العراق وإيران وتركيا. مع وجود أعداد منهم في سورية ولبنان وأرمينيا وأذربيجان. وكذلك لأسباب أمنية، فالمشكلة الكردية لا تخص الأكراد وحدهم بل تخص الدول والشعوب التي يعيش الأكراد بينهم تاريخياً، وقد تحولت المشكلة الكردية من مشكلة محلية إلى مشكلة إقليمية تهم العراق وسورية، وإيران وتركيا، كما أضحت لها أبعاد غربية، كأولوية أمنية غربية (أمريكية) في منطقة الشرق الأوسط خاصة بعد رعاية واشنطن لاتفاق المصالحة الأخير بين مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني وجلال الطالباني زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني، وقد تحفظت أنقرة تجاه الاتفاق المذكور ورأت فيه نواة لقيام دولة كردية في كردستان العراق. ورغم أنه لا توجد إحصائيات دقيقة حول عدد السكان الأكراد، إلا أن الإحصائيات على تباينها تشير إلى أن عددهم يبلغ نحو 20 إلى 30 مليون نسمة وبذلك يشكلون أكبر أقلية قومية محرومة من كيان خاص بهم. وأكبر نسبة للأكراد هي في تركيا، وتشير المصادر الكردية إلى أن عددهم في تركيا يتراوح بين 16 و 18 مليون نسمة في حين تشير المصادر المحايدة إلى أن عددهم يتراوح بين 10 و 12 مليوناً فيما تقول المصادر التركية الرسمية أن عددهم لا يتجاوز ستة ملايين (54)، وتبلغ نسبة مساحة كردستان تركيا نحو ربع المساحة الإجمالية لتركيا ومعظم الأكراد في تركيا يسكنون ثلاثة عشرة ولاية في جنوب شرق الأناضول ويعيش نحو مليون كردي في غرب الأناضول إما هجروا قسراً أو هاجروا طلباً للعمل والرزق(55).‏
                    ورغم أن مشكلة تقرير مصير الشعب الكردي في تركيا أثيرت في اتفاقية سيفر 1920 بين تركيا والحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، حيث نصت البنود 62 و 63 و 64 من الاتفاقية المذكورة على إقامة كيان قومي كردي في جنوب شرق تركيا، يحصل الشعب الكردي -حسب الاتفاقية- بعد خمس سنوات من قيام هذا الكيان على استقلاله، بموجب استفتاء تشرف عليه عصبة الأمم، إلا أن الزعيم التركي أتاتورك نجح في إبدال بنود اتفاقية سيفر المذكورة بمعاهدة لوزان عام 1923 التي تجاهلت الحقوق القومية الكردية المنصوصة في اتفاقية سيفر(56).‏
                    ومنذ ذلك الوقت حاولت تركيا وما زالت إنكار الهوية القومية للشعب الكردي في تركيا بشتى الوسائل السياسية والقانونية والأمنية وقد سمتهم بـ"أتراك الجبال" إلا أنه وعقب حرب الخليج وانحسار السلطة المركزية العراقية عن شمال العراق وجدت تركيا نفسها متورطة في المسألة الكردية بعد أن قفزت هذه المسألة إلى واجهة الأحداث التركية في الداخل والخارج وأضحت مدرجة في جدول أعمال السياسة الداخلية والخارجية التركية. ففي الداخل تصاعدت حدة عمليات حزب العمال الكردستاني pkk الذي يخوض حرباً دموية ضد الدولة التركية منذ آب عام 1984، وقد وصلت ضحايا هذه الحرب من الجانبين إلى نحو ثلاثين ألف قتيل وفي الخارج أسفرت التطورات اللاحقة لحرب الخليج عن ظهور نواة دويلة كردية في شمال العراق حيث تخشى تركيا من انسحاب آثار هذه الدويلة مستقبلاً على أكراد تركيا.‏
                    ورغم أن تركيا شاركت في "قوات الحماية الدولية" التي تركزت في قاعدة انجرليك التركية في عام 1991 بهدف حماية أكراد العراق من هجمات محتملة ضدهم من قبل نظام صدام حسين، وحرصت تركيا على تبني سياسة أكثر مرونة وانفتاحاً من قبل إزاء الأكراد في مناطقها الجنوبية- الشرقية، فقد أقر البرلمان التركي 1991 مشروع قانون "مكافحة الإرهاب" الذي نص على إلغاء القانون رقم 2932 الصادر عام 1982 بشأن حظر الحديث باللغة الكردية، وإلغاء المواد 141- 142- 163 من القانون الجنائي المتعلق بالجرائم الأيديولوجية، والمقصود بذلك إنشاء أو الانتماء إلى عضوية أحزاب دينية أو يسارية(57)، إلا أن هذه السياسة لم تؤد إلى نتائج مرضية فقد تفاقمت المشكلة الكردية في الداخل التركي أكثر فأكثر ووسعت المشكلة دائرة الانقسام بين الأحزاب التركية والجيش، وأرخت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وباتت الحرب ضد حزب العمال الكردستاني تكلف الخزينة التركية سنوياً نحو /10/ مليارات دولار(58).‏
                    خارجياً أدت هذه المشكلة إلى مزيد من التوتر في العلاقات مع سوريا وإيران حيث تتهم تركيا هاتين الدولتين بدعم حزب العمال الكردستاني في حربه ضد الدولة التركية، كما أن الاجتياحات العسكرية التركية المتكررة لشمال العراق بهدف ضرب مواقع الحزب المذكور وتوجه أنقرة إلى إقامة منطقة أمنية في شمال العراق على امتداد الحدود العراقية- التركية أدى إلى التوتر في العلاقات التركية مع سورية بالدرجة الأولى والعراق وإيران بالدرجة الثانية خاصة بعد أن ربطت أنقرة بين مشكلة الأمن "الإرهاب" والتوصل إلى اتفاقية مع سورية والعراق بشأن مياه نهري دجلة والفرات وكذلك توطيد علاقاتها العسكرية مع إسرائيل من خلال عقد سلسلة اتفاقيات عسكرية معها، وجاءت الأزمة التركية السورية الأخيرة في تشرين الأول عام 1998 والتي انتهت بتوقيع اتفاقية أضنة بين البلدين في التاسع والعشرين من الشهر نفسه ومن ثم اختطاف تركيا لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في منتصف شباط 1999 من العاصمة الكينية نيروبي وما تبع ذلك من ردات فعل كردية غاضبة داخل تركيا وكذلك في العواصم الأوروبية والآسيوية ضد المصالح التركية إضافة إلى مطالبة دولية واسعة بإيجاد حل سلمي للمشكلة الكردية في تركيا، هذه الأمور وغيرها أظهرت عمق المشكلة الكردية في تركيا وارتباطها بالسياسة الخارجية لتركيا وعلاقاتها الإقليمية والدولية.‏
                    وفي الواقع أضحت هذه المشكلة ملفاً دائم التوتر في العلاقات التركية الخارجية ليس مع سورية والعراق وإيران فحسب بل مع أرمينيا وروسيا واليونان وقبرص وألمانيا وهولندا إضافة إلى عدد من الدول الأوروبية الأخرى. حيث تصر أنقرة على القول إن المشكلة هي من صنع الخارج وإنها مشكلة "إرهاب" في حين أنها في جوهرها مشكلة تركية داخلية مزمنة يعود تاريخها لأكثر من ثلاثة قرون عندما كانت ولايات كردستان داخل الدولة العثمانية تتمتع بأشكال من الحكم المحلي والذاتي(59) فيما تنكر الحكومات التركية المتتالية منذ 1923 وحتى الآن هذه المشكلة.‏
                    والسياسة التركية تجاه المشكلة الكردية تبدو متناقضة، ففي الوقت الذي لا تعترف فيه تركيا بوجود مشكلة كردية في تركيا وتتبع ضدهم أشد الأساليب العسكرية في الداخل، تقوم بدور الحماية لأكراد العراق وتقيم مع الفصائل الكردية في شمال العراق أشكالاً من التعاون الأمني والسياسي، وترعى جهود الوساطة السلمية بين الفصيلين الكرديين المتحاربين الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني.‏
                    وتهدف تركيا من وراء هذه السياسة أولاً: تحييد أكراد العراق إزاء المشكلة الكردية في تركيا، بل وتجيير هؤلاء ضد حزب العمال الكردستاني خاصة في ضوء الخلافات العميقة بين هذا الحزب والحزب الديمقراطي الكردستاني، وثانياً: استخدام الورقة الكردية كعامل ضغط ضد جيرانها الجنوبيين للقيام بدور إقليمي. ولكن الثابت في السياسة الخارجية التركية أن أنقرة ترفض قيام دولة كردية مستقلة في العراق وتلتقي توجهاتها هذه مع توجهات إيران والعراق وسورية في رفض قيام دولة مستقلة للأكراد، ومن هنا تكرر تركيا مبادئ سياستها تجاه العراق القائمة على تمسك تركيا بوحدة أراضي العراق وسيادته. ومعارضتها أية محاولة لإقامة دولة كردية في شمال العراق(60).‏
                    الأبعاد الكردية في السياسة التركية تجاه سورية والعراق أضحت قوية، وبسببها تتعرض العلاقات التركية السورية إلى توتر مستمر، فتركيا تتهم سورية بدعم حزب العمال الكردستاني ويطلق مسؤولوها في العديد من المناسبات التهديدات ضد سورية في حين تنفي سورية الاتهامات التركية وتبدي المرونة والهدوء تجاه التهديدات والتصريحات الاستفزازية للعديد من المسؤولين الأتراك.‏
                    ورغم المحاولات المتبادلة من الجانبين لتسوية الخلافات وتصحيح الأجواء وبدء مرحلة جديدة في العلاقات بين البلدين، وكان آخرها زيارة معاون وزير الخارجية السوري عدنان عمران إلى أنقرة في تموز 1998 إلا أن هذه المحاولة وغيرها من المحاولات السابقة لم تنجح في تصحيح الأجواء السلبية بين البلدين. خاصة في ظل إصرار تركيا على ربط موضوع المياه بمشكلة "الإرهاب" وتوطيد تحالفها العسكري مع إسرائيل، وكانت سورية وتركيا وقعتا اتفاقات في عامي 1992- 1993 بشأن أمن الحدود بين البلدين(61) وفي الواقع ستظل المشكلة الكردية حاضرة في السياسة التركية تجاه دول الجوار العربي (سورية والعراق) ما بقيت هذه المشكلة دون حل، وبتقديري مهما ذهبت تركيا في إنكار هذه المشكلة الداخلية فإن ذلك لن يكون حلاً لها على المدى المنظور، وما لم تتجه تركيا إلى التعاطي الإيجابي مع مشكلتها الكردية، والاستمرار في محاولة تصديرها إلى الخارج فإن هذه المشكلة سوف تسبب المزيد من التدهور في علاقات تركيا مع دول الجوار الجغرافي فضلاً عن أنها ستظل عقبة كبيرة تمنعها من القيام بدور إقليمي سواء تجاه الشرق الأوسط أو آسيا الوسطى وحتى أوروبا.‏
                    ثالثاً- العلاقة مع إيران‏
                    يمكن وصف العلاقات التركية الإيرانية بأنها "ليست حميمة ولا عدائية" ويعود ذلك إلى الحساسية الفائقة التي تحكم العلاقات بينهما، لأسباب تاريخية تتعلق بالنظرة المتبادلة إزاء الصراع "العثماني- الصفوي"، وأسباب معاصرة تتعلق بالأيديولوجية السياسية للبلدين والتنافس بينهما على النفوذ في آسيا الوسطى والشرق الأوسط، إضافة إلى القضايا الأمنية المشتركة عبر الحدود.‏
                    منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 تعتقد "تركيا العلمانية" أن "إيران الراديكالية" تشكل خطراً على نظامها العلماني وترى أن صعود التيار الإسلامي في تركيا سببه -بهذا القدر أو ذاك- إيران التي تمارس جهوداً لتصدير الثورة إلى تركيا. في المقابل، ترى إيران أن الحكومة التركية التي تحارب الإسلام والنشاط الإسلامي في تركيا باسم "حماية المبادئ العلمانية للدولة التركية" وكذلك علاقة تركيا المتميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية إضافة إلى علاقتها الوثيقة مع إسرائيل والتي تتوطد يوماً بعد آخر وترتقي إلى مستوى الحلف، ترى طهران أن مجمل السياسة التركية هذه تشكل تحدياً لسياستها الخارجية.‏
                    في الوقت نفسه، تتقاسم أنقرة وطهران الهموم الأمنية المشتركة عبر الحدود، فالاتفاق الأمني الموقع بين البلدين في أيلول عام 1992 لم يحقق الثقة الكاملة بشأن المسائل الأمنية. وأنقرة تتهم طهران بتقديم الدعم لحزب العمال الكردستاني وللإسلاميين في تركيا، فيما طهران تتهم أنقرة بتقديم الدعم لمنظمة مجاهدي خلق الإيرانية.‏
                    اقتصادياً مع انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى عن روسيا برز عنصر جديد في العلاقات التركية- الإيرانية، وقد تمثل هذا العنصر في المنافسة على ربط هذه الجمهوريات اقتصادياً بمشاريعها الاستراتيجية خاصة في مجال مشاريع النفط والغاز.‏
                    أما بالنسبة لباقي الدول الإسلامية: دول الخليج العربي ودول المغرب العربي ومصر ونيجيريا وباكستان وأندونيسيا وماليزيا.. الخ. فلا تكاد تكون هناك مشكلة سياسية بالمعنى الخلافي بين تركيا وهذه الدول. إنما تسعى تركيا إلى تطوير علاقاتها الاقتصادية مع هذه الدول وتأسيس مجموعات اقتصادية معها كمجموعة الدول الثمانية: تركيا، مصر، باكستان، إيران، بنغلادش، نيجيريا، ماليزيا، وأندونيسيا. والتي تأسست عام 1997 وقد عقد المؤتمر الأول لرؤساء المجموعة في استانبول في حزيران 1997 وتحرص تركيا على تصدير منتجاتها وخاصة المواد الغذائية وبعض الآليات ومؤخراً الأسلحة إلى هذه الدول واستيراد المواد الأولية منها لا سيما النفط والغاز.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                      الفصل الرابع
                      تركيا والدائرة الاسرائيلية‏
                      تميزت العلاقات التركية- الإسرائيلية منذ البداية بالتحسن المستمر في كافة المجالات، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في آذار عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها عام 1950 ، ورغم أن العلاقات بينهما مرت ببعض المحطات التي شهدت فيها تراجعاً شكلياً في مجال التمثيل السياسي كما في عام 1956 على أثر تعرض مصر للعدوان الثلاثي وعام 1980 على أثر إعلان إسرائيل القدس عاصمة أبدية لها. إلا أن العلاقات بين البلدين ظلت متينة وقوية، ومنذ مطلع التسعينات تشهد هذه العلاقات المزيد من التحسن في المجالات والصعد المختلفة، ويعمل البلدان على تطوير علاقاتهما تجاه التكامل في منطقة الشرق الأوسط على أساس أنهما الحليفان الاستراتيجيان للولايات المتحدة في المنطقة، وقد تطور الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي الذي تم توقيعه في شباط عام 1996 إلى حلف عسكري يحمل العديد من المخاطر الأمنية على دول المنطقة لا سيما سورية، فالاتفاق يسمح للطيران الحربي الإسرائيلي باستخدام الأجواء والقواعد التركية. هذا الاتفاق الذي لا سابق له في الشرق الأوسط أعطى لإسرائيل قدرة استطلاعية هائلة في سبر أجواء المنطقة وجمع المعلومات عن بلدانها، وكانت المناورات التركية- الإسرائيلية- الأمريكية التي جرت في بداية عام 1998 قبالة الشواطئ السورية على بعد لا يزيد عن مئة كيلومتر تحت عنوان "الحورية الواثقة" إحدى نتائج هذا الاتفاق.‏
                      - مظاهر وأبعاد العلاقة‏
                      رغم أن التعاون العسكري التركي- الإسرائيلي يثير الخوف والقلق لدى الدول العربية والإسلامية من عودة سياسة الأحلاف العسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط، فإن تركيا لا تعطي للرفض العربي والإسلامي أهمية وتتجه أكثر فأكثر إلى توطيد علاقاتها العسكرية مع إسرائيل وفي مختلف الصعد، ومن أبرز مظاهر هذا التعاون في السنوات الأخيرة:‏
                      1- الزيارات المتبادلة والمكثفة لكبار المسؤولين العسكريين والسياسيين بين البلدين على مستوى وزراء الدفاع وهيئة الأركان والاستخبارات ومدراء الأقسام ورؤساء الحكومة. وقد جرت العادة في كل زيارة أن يتم الإعلان عن التوصل إلى اتفاقات عسكرية جديدة بين البلدين وبعضها سرية مع تصريحات بأن هذه الاتفاقيات ليست موجهة ضد أحد.‏
                      2- توقيع العديد من الاتفاقات العسكرية الهامة في مجال صناعة الأسلحة. فمنذ توقيع اتفاق شباط عام 1996 تم التوصل إلى 16 اتفاقية جديدة في مجال التعاون العسكري، أبرزها الاتفاق على إنتاج صواريخ متوسطة المدى 500 كم ذات قدرة توجيه عالية في ضرب الأهداف المتنوعة، وشراء تركيا لدبابات إسرائيلية من نوع ميركافا 3 للحلول محل الدبابات التركية أم 60 ويبلغ عدد دبابات هذه الصفقة 800 دبابة قتالية بقيمة 4.5 مليون دولار ويقضي الاتفاق بتصنيع هذه الدبابات في تركيا. وكذلك توقيع اتفاقية بقيمة 600 مليون دولار لتحديث 54 طائرة مقاتلة تركية من نوع فانتوم أف 4 في إسرائيل، واتفاق إنتاج مشترك لصواريخ أور- بوباي- 11 تعمل على طائرات اف 16 واف 4 وقد اشترت تركيا 200 صاروخ من نوع بوباي- 1 عام 1997 من إسرائيل(62).‏
                      3- تطوير التعاون بين البلدين في المجالات الأمنية والاستخبارات وتبادل المعلومات حيث أقامت إسرائيل بالاتفاق مع تركيا مراكز استخباراتية في جنوب شرق تركيا وكذلك في شمال العراق ومنها مشترك مع الولايات المتحدة تحت اسم وحدة 200 مهمتها جمع المعلومات عن البلدان المجاورة (سورية، العراق، إيران) وذلك باستخدام معدات خاصة بالجاسوسية الإلكترونية مقابل تزويد إسرائيل تركيا بمعدات وأجهزة رصد وشبكات رادارية متطورة لتجهيز المنطقة الأمنية التي أعلنتها في شمال العراق(63).‏
                      4- تحديث الجيش التركي حيث وضعت تركيا خطة عسكرية وميزانية ضخمة قدرها 150 مليار دولار لتحديث قواتها العسكرية البالغ عددها نحو 850 ألف عنصر(64) على مراحل وتعتزم تركيا بناء مفاعل نووي في خليج أكويو (جنوب شرقي تركيا) وهو ضمن عشرة مفاعلات نووية تنوي تركيا بناءها بحلول العام 2020(65).‏
                      ولعل توجه تركيا إلى تعزيز مؤسساتها العسكرية بهذا الشكل الضخم لا يستهدف الحركة الكردية المسلحة في الداخل فقط وإنما يندرج في إطار أدوار أمنية تجاه دول الجوار.‏
                      وإلى جانب التعاون العسكري الوثيق بين تركيا وإسرائيل تشهد العلاقات الاقتصادية بينهما تطوراً كبيراً، حيث تقررَّ إقامة سوق حرة مشتركة بين البلدين في العام ألفين، وكانت تركيا عقدت اتفاقية ثنائية لبيع مياه نهر مانوجات إلى إسرائيل عبر خليج أنطاكيا(66)، كما تستعين أنقرة بالخبرة الإسرائيلية في مشروع الغاب خاصة في مجال الأساليب الحديثة للري والهندسة الوراثية.‏
                      من جهة ثانية، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة لافتة للنظر في تركيا، وهي ظاهرة بروز دور الجالية اليهودية في مختلف مرافق الدولة التركية لاسيما في مجالات التجارة والإعلام والصناعة، ورغم أن التاريخ الفعلي لهذه الجالية يعود إلى عام 1492 عام سقوط غرناطة وذلك عندما نظمت إسبانيا حملة كبيرة لتهجير اليهود من إسبانيا إلى الدولة العثمانية، وهؤلاء معظمهم كانوا من أصحاب مهن المعرفة والعلم وذوي الخبرة في صناعة السلاح، إلا أنهم كانوا يحرصون على الدوام على إخفاء أسمائهم ونفوذهم ونشاطاتهم وسط بحر إسلامي، ومنذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 وقيام دولة إسرائيل في عام 1948 بدأت هذه الجالية تظهر إلى العلن شيئاً فشيئاً حتى أضحت في التسعينات قوة لا يستهان بها في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية التركية.‏
                      ورغم انخفاض عدد اليهود في تركيا من مئة ألف عام 1923 إلى 20 ألفاً فقط في عام 1992، وقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل في الخمسينات والستينات من هذا القرن(67)، فإن هؤلاء يسيطرون على صناعات النسيج والسيارات والألبسة الجاهزة والإعلان والإعلام والكيمياء في تركيا وتجارة الاستيراد والتصدير، وتقول الإحصائيات أن الجاليات اليهودية تملك في استانبول نحو 3400 مكتب استيراد وتصدير من أصل 3800 مكتب، وفي هذا الإطار برزت أسماء هامة في أوساط الجالية اليهودية وفي مقدمتهم جاك قمحي وإسحاق الاتون والبيربيلين وإيرول اقصوي وعزيز قارح، وهؤلاء أسسوا العشرات من الجمعيات والمنظمات المختلفة وقد باتت نشاطاتهم على رأس قائمة أخبار المجتمع والاقتصاد في الصحافة التركية، وقد كان جاك قمحي على علاقة وثيقة بكل من الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال والإسرائيلي حاييم هرتزوغ وبفضل علاقاته هذه لعب دوراً هاماً في تحسين العلاقات التركية- الإسرائيلية ولعل أكبر حدثين في تاريخ الجالية اليهودية في تركيا هما:‏
                      1- تأسيس مركز العام 500 في بداية التسعينات المستوحى اسمه من ذكرى مرور 500 عام على هجرة اليهود من إسبانيا إلى تركيا، وقد أسس المركز رجل الأعمال اليهودي الكبير جاك قمحي ومن أهم أهداف المركز رعاية مصالح الجالية اليهودية التركية وتنظيم شؤونهم وأوضاعهم وعلاقاتهم داخل الحكومة التركية.‏
                      2- إنشاء محطة تلفزيون show. T. V بعد حرب الخليج الثانية مباشرة وهي محطة تلفزيونية يشرف عليها رجال المال والأعمال واليهود في تركيا وخارجها ومنهم جاك قمحي وإيرول اقصوي وجيهان قوماندريت وأحمد منير أريتغون ومعظم برامج هذه المحطة تهتم بمواضيع الإثارة السياسية والأفلام الجنسية والخلاعية والإباحية والعنف بهدف إحداث المزيد من التخريب وإفساد الذوق العام(68).‏
                      مخاطر تطور العلاقة على المنطقة العربية‏
                      العلاقة التركية- الإسرائيلية أضحى لها مسار أمني سلبي على الأمن القومي العربي خاصة وأن إسرائيل تسعى إلى التأثير على التوجهات الخارجية للسياسة التركية من خلال المؤسسة العسكرية، سياسة الضغط على الدول العربية لإجبارها على تقديم التنازلات في عملية التسوية العربية الإسرائيلية، والواقع رغم القلق العربي من مسار تطور العلاقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل نظراً لآثارها الأمنية على الدول العربية في المدى المنظور، إلا أن تركيا تؤكد عزمها على توطيد هذه العلاقة مع إسرائيل نحو التكامل في الدور الإقليمي وفي إطار سعيهما إلى إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي في المنطقة تقومان فيه بدور المحور ويعتقد الدكتور هيثم كيلاني أن تركيا تجهز نفسها للالتفات إلى الدائرة العربية التي تشكل ميداناً للمصالح والمنافع الاقتصادية والمالية والاستثمارية والتجارية(69)، حيث تتحرك تركيا على مستويات الأمن والاقتصاد والمياه والمواصلات، وقد عادت تركيا مؤخراً لتطرح من جديد مشروع إنشاء منظمة أمن وتعاون شرق أوسطية فضلاً عن هدف تركيا القيام بدور محوري في الشرق الأوسط فإنها تهدف من وراء هذا الحلف إلى تقوية موقفها تجاه أوروبا بعد رفض الاتحاد الأوروبي عضويتها في الاتحاد وكذلك للحصول على دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة اللوبين اليوناني والأرمني كما تطمح إلى الدخول إلى المؤسسات المالية العالمية الكبيرة التي هي أشبه بنادٍ دولي مفتاحه في يد رجال المال اليهود في العالم، في حين تهدف إسرائيل من وراء علاقتها مع تركيا إضافة إلى تطويق سورية من الخلف كما صرح بذلك شمعون بيريز عقب توقيع الاتفاقية العسكرية التركية- الإسرائيلية، وممارسة الضغوط عليها، والقيام بدور أمني تجاه سورية والعراق وإيران، إضافة إلى ذلك فإنها تطمح إلى استخدام تركيا كجسر للوصول إلى الجمهوريات الآسيوية التي استقلت عن روسيا والتي يصفها الرئيس الإسرائيلي وايزمن بالمنطقة الضخمة حيث الثروات النفطية والغازية والموارد المختلفة الضخمة.‏
                      - ردود الفعل‏
                      تخشى الدول العربية والإسلامية وكذلك اليونان وأرمينيا من مسار تطور العلاقات العسكرية التركية والإسرائيلية والتي بلغت مستوى "الحلف" كما تخشى هذه الدول من البعد الإسرائيلي والأمريكي في السياسة الخارجية التركية.‏
                      وتعتقد هذه الدول ولا سيما سورية بأن الاتفاق العسكري التركي الإسرائيلي في 23/2/1996 يشكل مقدمة لفرض ترتيبات أمنية إقليمية في منطقة الشرق الأوسط. خاصة في ظل توقف عملية السلام بفعل السياسة المتشددة لحكومة بنيامين نتنياهو ورفض هذه الحكومة لمرجعية مؤتمر مدريد وصيغة الأرض مقابل السلام، فيما تحاول تركيا التقليل من المضامين الاستراتيجية، للاتفاق وتقول: أنه لا يشكل تحالفاً عسكرياً، وأنه ليس موجهاً ضد أي ظرف ثالث، إلا أن الثابت هو أن هناك مجموعة من الأهداف الاستراتيجية تسعى تركيا إلى تحقيقها وفي المقدمة منها: جعل تركيا الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة، دولة مصنعة للسلاح، تقوم بتصدير الأسلحة بأنواعها إلى دول المنطقة ومنها الدول العربية. وكذلك أن تتقاسم وإسرائيل مسؤولية وضع الترتيبات الأمنية للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، وذلك على قاعدة تحالفهما الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.‏
                      الدول العربية وخاصة سورية تعتبر أن هذا الاتفاق خطر على الأمن القومي العربي وعملت سورية على حشد دعم عربي ضد التحالف التركي الإسرائيلي وضد سلوك أنقرة بشأن المياه وشمال العراق. كما أن سورية عملت على توطيد علاقاتها مع إيران وبدرجة أقل مع اليونان وأرمينيا كخطوات "كابحة" أو "موازنة" لتطور التحالف التركي الإسرائيلي. وقد اتهمت تركيا سورية خلال الأزمة الأخيرة بينهما بالوقوف وراء الحملة المعارضة لها في العالم العربي بشأن تحالفها مع إسرائيل.‏
                      إيران أيضاً، تعارض الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي وتعتبره تهديداً لأمنها، خاصة وأن الاتفاق يفتح المجال الجوي التركي أمام السلاح الجوي الإسرائيلي مما يعني إمكان إسرائيل القيام بتوجيه ضربة عسكرية لإيران ومنشآتها العسكرية ولم يستبعد عدد من المسؤولين الإسرائيليين القيام بمثل هذه الضربات ضد إيران على غرار ما فعلته إسرائيل ضد العراق عندما ضربت المفاعل النووي العراقي عام 1981.‏
                      اليونان وأرمينيا تبديان قلقهما إزاء الاتفاق العسكري التركي الإسرائيلي وقلقهما ينبع بالدرجة الأولى من خلافاتهما مع تركيا بشأن عدة قضايا وخلافات مزمنة.‏
                      بشكل عام شكل الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي متغيراً قلقاً في علاقات تركيا مع دول الجوار ولا سيما العربية، وتعتقد الدول العربية أن هذا الاتفاق يثير المخاوف في المنطقة من العودة إلى سياسة الأحلاف العسكرية، كما أنه يحول دون إقامة علاقات إيجابية بين تركيا والدول العربية خاصة في ظل توقف عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                        الفصل الرابع
                        تركيا والدائرة الاسرائيلية‏
                        تميزت العلاقات التركية- الإسرائيلية منذ البداية بالتحسن المستمر في كافة المجالات، فقد كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في آذار عام 1949 وأقامت علاقات دبلوماسية معها عام 1950 ، ورغم أن العلاقات بينهما مرت ببعض المحطات التي شهدت فيها تراجعاً شكلياً في مجال التمثيل السياسي كما في عام 1956 على أثر تعرض مصر للعدوان الثلاثي وعام 1980 على أثر إعلان إسرائيل القدس عاصمة أبدية لها. إلا أن العلاقات بين البلدين ظلت متينة وقوية، ومنذ مطلع التسعينات تشهد هذه العلاقات المزيد من التحسن في المجالات والصعد المختلفة، ويعمل البلدان على تطوير علاقاتهما تجاه التكامل في منطقة الشرق الأوسط على أساس أنهما الحليفان الاستراتيجيان للولايات المتحدة في المنطقة، وقد تطور الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي الذي تم توقيعه في شباط عام 1996 إلى حلف عسكري يحمل العديد من المخاطر الأمنية على دول المنطقة لا سيما سورية، فالاتفاق يسمح للطيران الحربي الإسرائيلي باستخدام الأجواء والقواعد التركية. هذا الاتفاق الذي لا سابق له في الشرق الأوسط أعطى لإسرائيل قدرة استطلاعية هائلة في سبر أجواء المنطقة وجمع المعلومات عن بلدانها، وكانت المناورات التركية- الإسرائيلية- الأمريكية التي جرت في بداية عام 1998 قبالة الشواطئ السورية على بعد لا يزيد عن مئة كيلومتر تحت عنوان "الحورية الواثقة" إحدى نتائج هذا الاتفاق.‏
                        - مظاهر وأبعاد العلاقة‏
                        رغم أن التعاون العسكري التركي- الإسرائيلي يثير الخوف والقلق لدى الدول العربية والإسلامية من عودة سياسة الأحلاف العسكرية إلى منطقة الشرق الأوسط، فإن تركيا لا تعطي للرفض العربي والإسلامي أهمية وتتجه أكثر فأكثر إلى توطيد علاقاتها العسكرية مع إسرائيل وفي مختلف الصعد، ومن أبرز مظاهر هذا التعاون في السنوات الأخيرة:‏
                        1- الزيارات المتبادلة والمكثفة لكبار المسؤولين العسكريين والسياسيين بين البلدين على مستوى وزراء الدفاع وهيئة الأركان والاستخبارات ومدراء الأقسام ورؤساء الحكومة. وقد جرت العادة في كل زيارة أن يتم الإعلان عن التوصل إلى اتفاقات عسكرية جديدة بين البلدين وبعضها سرية مع تصريحات بأن هذه الاتفاقيات ليست موجهة ضد أحد.‏
                        2- توقيع العديد من الاتفاقات العسكرية الهامة في مجال صناعة الأسلحة. فمنذ توقيع اتفاق شباط عام 1996 تم التوصل إلى 16 اتفاقية جديدة في مجال التعاون العسكري، أبرزها الاتفاق على إنتاج صواريخ متوسطة المدى 500 كم ذات قدرة توجيه عالية في ضرب الأهداف المتنوعة، وشراء تركيا لدبابات إسرائيلية من نوع ميركافا 3 للحلول محل الدبابات التركية أم 60 ويبلغ عدد دبابات هذه الصفقة 800 دبابة قتالية بقيمة 4.5 مليون دولار ويقضي الاتفاق بتصنيع هذه الدبابات في تركيا. وكذلك توقيع اتفاقية بقيمة 600 مليون دولار لتحديث 54 طائرة مقاتلة تركية من نوع فانتوم أف 4 في إسرائيل، واتفاق إنتاج مشترك لصواريخ أور- بوباي- 11 تعمل على طائرات اف 16 واف 4 وقد اشترت تركيا 200 صاروخ من نوع بوباي- 1 عام 1997 من إسرائيل(62).‏
                        3- تطوير التعاون بين البلدين في المجالات الأمنية والاستخبارات وتبادل المعلومات حيث أقامت إسرائيل بالاتفاق مع تركيا مراكز استخباراتية في جنوب شرق تركيا وكذلك في شمال العراق ومنها مشترك مع الولايات المتحدة تحت اسم وحدة 200 مهمتها جمع المعلومات عن البلدان المجاورة (سورية، العراق، إيران) وذلك باستخدام معدات خاصة بالجاسوسية الإلكترونية مقابل تزويد إسرائيل تركيا بمعدات وأجهزة رصد وشبكات رادارية متطورة لتجهيز المنطقة الأمنية التي أعلنتها في شمال العراق(63).‏
                        4- تحديث الجيش التركي حيث وضعت تركيا خطة عسكرية وميزانية ضخمة قدرها 150 مليار دولار لتحديث قواتها العسكرية البالغ عددها نحو 850 ألف عنصر(64) على مراحل وتعتزم تركيا بناء مفاعل نووي في خليج أكويو (جنوب شرقي تركيا) وهو ضمن عشرة مفاعلات نووية تنوي تركيا بناءها بحلول العام 2020(65).‏
                        ولعل توجه تركيا إلى تعزيز مؤسساتها العسكرية بهذا الشكل الضخم لا يستهدف الحركة الكردية المسلحة في الداخل فقط وإنما يندرج في إطار أدوار أمنية تجاه دول الجوار.‏
                        وإلى جانب التعاون العسكري الوثيق بين تركيا وإسرائيل تشهد العلاقات الاقتصادية بينهما تطوراً كبيراً، حيث تقررَّ إقامة سوق حرة مشتركة بين البلدين في العام ألفين، وكانت تركيا عقدت اتفاقية ثنائية لبيع مياه نهر مانوجات إلى إسرائيل عبر خليج أنطاكيا(66)، كما تستعين أنقرة بالخبرة الإسرائيلية في مشروع الغاب خاصة في مجال الأساليب الحديثة للري والهندسة الوراثية.‏
                        من جهة ثانية، برزت في السنوات الأخيرة ظاهرة لافتة للنظر في تركيا، وهي ظاهرة بروز دور الجالية اليهودية في مختلف مرافق الدولة التركية لاسيما في مجالات التجارة والإعلام والصناعة، ورغم أن التاريخ الفعلي لهذه الجالية يعود إلى عام 1492 عام سقوط غرناطة وذلك عندما نظمت إسبانيا حملة كبيرة لتهجير اليهود من إسبانيا إلى الدولة العثمانية، وهؤلاء معظمهم كانوا من أصحاب مهن المعرفة والعلم وذوي الخبرة في صناعة السلاح، إلا أنهم كانوا يحرصون على الدوام على إخفاء أسمائهم ونفوذهم ونشاطاتهم وسط بحر إسلامي، ومنذ تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 وقيام دولة إسرائيل في عام 1948 بدأت هذه الجالية تظهر إلى العلن شيئاً فشيئاً حتى أضحت في التسعينات قوة لا يستهان بها في الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية التركية.‏
                        ورغم انخفاض عدد اليهود في تركيا من مئة ألف عام 1923 إلى 20 ألفاً فقط في عام 1992، وقد هاجر معظمهم إلى إسرائيل في الخمسينات والستينات من هذا القرن(67)، فإن هؤلاء يسيطرون على صناعات النسيج والسيارات والألبسة الجاهزة والإعلان والإعلام والكيمياء في تركيا وتجارة الاستيراد والتصدير، وتقول الإحصائيات أن الجاليات اليهودية تملك في استانبول نحو 3400 مكتب استيراد وتصدير من أصل 3800 مكتب، وفي هذا الإطار برزت أسماء هامة في أوساط الجالية اليهودية وفي مقدمتهم جاك قمحي وإسحاق الاتون والبيربيلين وإيرول اقصوي وعزيز قارح، وهؤلاء أسسوا العشرات من الجمعيات والمنظمات المختلفة وقد باتت نشاطاتهم على رأس قائمة أخبار المجتمع والاقتصاد في الصحافة التركية، وقد كان جاك قمحي على علاقة وثيقة بكل من الرئيس التركي الراحل تورغوت أوزال والإسرائيلي حاييم هرتزوغ وبفضل علاقاته هذه لعب دوراً هاماً في تحسين العلاقات التركية- الإسرائيلية ولعل أكبر حدثين في تاريخ الجالية اليهودية في تركيا هما:‏
                        1- تأسيس مركز العام 500 في بداية التسعينات المستوحى اسمه من ذكرى مرور 500 عام على هجرة اليهود من إسبانيا إلى تركيا، وقد أسس المركز رجل الأعمال اليهودي الكبير جاك قمحي ومن أهم أهداف المركز رعاية مصالح الجالية اليهودية التركية وتنظيم شؤونهم وأوضاعهم وعلاقاتهم داخل الحكومة التركية.‏
                        2- إنشاء محطة تلفزيون show. T. V بعد حرب الخليج الثانية مباشرة وهي محطة تلفزيونية يشرف عليها رجال المال والأعمال واليهود في تركيا وخارجها ومنهم جاك قمحي وإيرول اقصوي وجيهان قوماندريت وأحمد منير أريتغون ومعظم برامج هذه المحطة تهتم بمواضيع الإثارة السياسية والأفلام الجنسية والخلاعية والإباحية والعنف بهدف إحداث المزيد من التخريب وإفساد الذوق العام(68).‏
                        مخاطر تطور العلاقة على المنطقة العربية‏
                        العلاقة التركية- الإسرائيلية أضحى لها مسار أمني سلبي على الأمن القومي العربي خاصة وأن إسرائيل تسعى إلى التأثير على التوجهات الخارجية للسياسة التركية من خلال المؤسسة العسكرية، سياسة الضغط على الدول العربية لإجبارها على تقديم التنازلات في عملية التسوية العربية الإسرائيلية، والواقع رغم القلق العربي من مسار تطور العلاقات العسكرية بين تركيا وإسرائيل نظراً لآثارها الأمنية على الدول العربية في المدى المنظور، إلا أن تركيا تؤكد عزمها على توطيد هذه العلاقة مع إسرائيل نحو التكامل في الدور الإقليمي وفي إطار سعيهما إلى إقامة نظام إقليمي شرق أوسطي في المنطقة تقومان فيه بدور المحور ويعتقد الدكتور هيثم كيلاني أن تركيا تجهز نفسها للالتفات إلى الدائرة العربية التي تشكل ميداناً للمصالح والمنافع الاقتصادية والمالية والاستثمارية والتجارية(69)، حيث تتحرك تركيا على مستويات الأمن والاقتصاد والمياه والمواصلات، وقد عادت تركيا مؤخراً لتطرح من جديد مشروع إنشاء منظمة أمن وتعاون شرق أوسطية فضلاً عن هدف تركيا القيام بدور محوري في الشرق الأوسط فإنها تهدف من وراء هذا الحلف إلى تقوية موقفها تجاه أوروبا بعد رفض الاتحاد الأوروبي عضويتها في الاتحاد وكذلك للحصول على دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة في مواجهة اللوبين اليوناني والأرمني كما تطمح إلى الدخول إلى المؤسسات المالية العالمية الكبيرة التي هي أشبه بنادٍ دولي مفتاحه في يد رجال المال اليهود في العالم، في حين تهدف إسرائيل من وراء علاقتها مع تركيا إضافة إلى تطويق سورية من الخلف كما صرح بذلك شمعون بيريز عقب توقيع الاتفاقية العسكرية التركية- الإسرائيلية، وممارسة الضغوط عليها، والقيام بدور أمني تجاه سورية والعراق وإيران، إضافة إلى ذلك فإنها تطمح إلى استخدام تركيا كجسر للوصول إلى الجمهوريات الآسيوية التي استقلت عن روسيا والتي يصفها الرئيس الإسرائيلي وايزمن بالمنطقة الضخمة حيث الثروات النفطية والغازية والموارد المختلفة الضخمة.‏
                        - ردود الفعل‏
                        تخشى الدول العربية والإسلامية وكذلك اليونان وأرمينيا من مسار تطور العلاقات العسكرية التركية والإسرائيلية والتي بلغت مستوى "الحلف" كما تخشى هذه الدول من البعد الإسرائيلي والأمريكي في السياسة الخارجية التركية.‏
                        وتعتقد هذه الدول ولا سيما سورية بأن الاتفاق العسكري التركي الإسرائيلي في 23/2/1996 يشكل مقدمة لفرض ترتيبات أمنية إقليمية في منطقة الشرق الأوسط. خاصة في ظل توقف عملية السلام بفعل السياسة المتشددة لحكومة بنيامين نتنياهو ورفض هذه الحكومة لمرجعية مؤتمر مدريد وصيغة الأرض مقابل السلام، فيما تحاول تركيا التقليل من المضامين الاستراتيجية، للاتفاق وتقول: أنه لا يشكل تحالفاً عسكرياً، وأنه ليس موجهاً ضد أي ظرف ثالث، إلا أن الثابت هو أن هناك مجموعة من الأهداف الاستراتيجية تسعى تركيا إلى تحقيقها وفي المقدمة منها: جعل تركيا الدولة الأقوى عسكرياً في المنطقة، دولة مصنعة للسلاح، تقوم بتصدير الأسلحة بأنواعها إلى دول المنطقة ومنها الدول العربية. وكذلك أن تتقاسم وإسرائيل مسؤولية وضع الترتيبات الأمنية للنظام الإقليمي الشرق أوسطي، وذلك على قاعدة تحالفهما الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.‏
                        الدول العربية وخاصة سورية تعتبر أن هذا الاتفاق خطر على الأمن القومي العربي وعملت سورية على حشد دعم عربي ضد التحالف التركي الإسرائيلي وضد سلوك أنقرة بشأن المياه وشمال العراق. كما أن سورية عملت على توطيد علاقاتها مع إيران وبدرجة أقل مع اليونان وأرمينيا كخطوات "كابحة" أو "موازنة" لتطور التحالف التركي الإسرائيلي. وقد اتهمت تركيا سورية خلال الأزمة الأخيرة بينهما بالوقوف وراء الحملة المعارضة لها في العالم العربي بشأن تحالفها مع إسرائيل.‏
                        إيران أيضاً، تعارض الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي وتعتبره تهديداً لأمنها، خاصة وأن الاتفاق يفتح المجال الجوي التركي أمام السلاح الجوي الإسرائيلي مما يعني إمكان إسرائيل القيام بتوجيه ضربة عسكرية لإيران ومنشآتها العسكرية ولم يستبعد عدد من المسؤولين الإسرائيليين القيام بمثل هذه الضربات ضد إيران على غرار ما فعلته إسرائيل ضد العراق عندما ضربت المفاعل النووي العراقي عام 1981.‏
                        اليونان وأرمينيا تبديان قلقهما إزاء الاتفاق العسكري التركي الإسرائيلي وقلقهما ينبع بالدرجة الأولى من خلافاتهما مع تركيا بشأن عدة قضايا وخلافات مزمنة.‏
                        بشكل عام شكل الاتفاق العسكري التركي- الإسرائيلي متغيراً قلقاً في علاقات تركيا مع دول الجوار ولا سيما العربية، وتعتقد الدول العربية أن هذا الاتفاق يثير المخاوف في المنطقة من العودة إلى سياسة الأحلاف العسكرية، كما أنه يحول دون إقامة علاقات إيجابية بين تركيا والدول العربية خاصة في ظل توقف عملية السلام في منطقة الشرق الأوسط.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                          الفصل الخامس
                          تنتمي مجتمعات العديد من جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي إلى المجموعة التركية التي تجمعها مع تركيا "الرابطة الطورانية" وتعتقد تركيا أنه بإمكانها حالياً القيام بدور الدولة الإقليمية الكبرى حيال هذه الجمهوريات.‏
                          يبحث هذا الفصل في السياسة التركية تجاه دول آسيا الوسطى والطموح إلى إقامة رابطة إقليمية مع هذه الجمهوريات ذات الأصول التركية، كما يعرض العقبات والتحديات التي تواجهها تركيا لتحقيق طموحها هذا.‏
                          تركيا ودائرة آسيا الوسطى والقفقاس‏
                          أولاً- الطموح إلى إقامة "العالم التركي"‏
                          أدى انهيار الاتحاد السوفياتي السابق واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى في مطلع التسعينات إلى بروز "عالم تركي"، شكل محور جذب اقتصادي وعرقي وسياسي بالنسبة لتركيا التي تربطها صلات تاريخية عرقية ودينية بشعوب هذه الجمهوريات، وقد أدى زوال الضغط الناجم عن وجود دولة الاتحاد السوفياتي وظهور فراغ في هذه المنطقة الجغرافية الغنية بالموارد الهائلة إلى ظهور طموح تركي نحو إقامة روابط اقتصادية وسياسية مع هذه الجمهوريات وإقامة "مجلس العالم التركي أو الجامعة التركية" على غرار المنظمات القومية أو الاقتصادية كالجامعة العربية والاتحاد الأوروبي. في سبيل ذلك حرصت تركيا على إظهار نفسها بمظهر الشقيق الأكبر لهذه الجمهوريات خاصة وإن خمساً من أصل ست جمهوريات هي ذات أصول عرقية تركية، وتربطها بتركيا لغة مشتركة وهي: أذربيجان (في القفقاس) وتركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان. أما الجمهورية السادسة، طاجكستان، فتنتمي إلى الثقافة الإيرانية ويتكلم أبناؤها اللغة الفارسية(70) كما حرصت تركيا على تقديم نفسها لهذه الجمهوريات على أنها تمثل النموذج العلماني الليبرالي الذي يصلح الاقتداء به من جهة ويخلصهم من آثار المرحلة السوفيتية السابقة والتي تعرضت فيها ثقافتهم الروحية إلى الكبت والإهمال والتجاهل من جهة ثانية.‏
                          وقد تحركت تركيا تجاه هذه الجمهوريات على مستويات عدة: إقليمياً: عبر توسيع منظمة التعاون الاقتصادي (ايكو eco) فقد ضمت إلى عضويتها في شباط عام 1992 كلاً من أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجكستان وقرغيريا فيما منحت كازاخستان صفة مراقب، ويذكر أن منظمة eco تأسست عام 1960 وتضم كلاً من تركيا وإيران وباكستان وتسعى المنظمة لتكون إطاراً للتعاون الإقليمي بين دولها الأعضاء في مجالات التجارة والمصارف والاستثمار وإقامة مناطق تجارية حرة. وكذلك في بعض مجالات الصناعة والطاقة والاتصالات والنقل.‏
                          وعلى غرار منظمة eco بذلت تركيا جهوداً حثيثة لإقامة منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود عام 1992 والتي تضم إلى جانب تركيا كلاً من بلغاريا وروسيا ورومانيا وجورجيا ومولدافيا وإرمينيا وأذربيجان وهي منظمة تسعى للقيام بمهام مشابهة لمنظمة eco.‏
                          وعلى المستوى الثنائي بادرت تركيا إلى الاعتراف بالجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وإقامة العلاقات معها فور إعلانها الاستقلال عن روسيا، وبعد جهود دبلوماسية وزيارات قام بها كبار المسؤولين الأتراك واتفاقيات ثنائية مع معظم هذه الجمهوريات نجحت تركيا في عقد أول قمة لهذه الجمهوريات في أنقرة يومي 30 و 31 تشرين الأول 1992، ثم القمة الثانية في استانبول عام 1994 والثالثة في بشكيك 1996 والرابعة في طشقند.‏
                          وقد حدد الرئيس التركي أوزال في القمة الأولى تصوراً لإقامة "العالم التركي" عبر إعادة الروابط العرقية والثقافية والسياسية بين هذه الجمهوريات من خلال خطة اقتصادية شاملة في مجالات التجارة والمواصلات والجمارك والنفط والاستثمارات واللغة، حيث تطمح تركيا إلى الاستفادة الكبيرة من الموارد الهائلة لهذه المنطقة لاسيما النفط والغاز هذا من جهة، ومن جهة ثانية لتقوية دورها ونفوذها الإقليميين في هذه المنطقة الجغرافية المهمة في مواجهة النفوذين الروسي والإيراني حيث البعد الشيعي لإيران والأرثوذكسي لروسيا. ومن جهة ثالثة لتقوية مواقفها وأهمية دورها تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يرفض حتى الآن قبول تركيا في عضوية الاتحاد وكذلك تجاه الغرب عموماً بعد أن قلت أهمية الدور التركي في الحلف الأطلسي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، والعوامل التي تدفع تركيا إلى توثيق روابطها بالجمهوريات التركية كثيرة، أهمها: وحدة العرق واللغة والدين وملء الفراغ والتطلع إلى القيام بدور إقليمي، وقد تجسد هذا التوجه في أحد صوره في أحياء الرابطة الطورانية تلك الرابطة التي تربط أتراك آسيا الوسطى بأتراك الأناضول، وخاصة أن منطقة آسيا الوسطى كانت واقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية (التركية) طيلة القرنين الخامس عشر والسادس عشر. إلا أن النخبة التركية الحاكمة حذرة تجاه هذه المسألة الحساسة كي لا تتهم بالعنصرية وبالانقلاب على العلمانية لأن من شأن ذلك زيادة المصاعب في العلاقات مع أوروبا، لذا تحرص تركية الحالية بزعامة الرئيس سليمان ديميريل على إبراز العلاقة مع هذه الجمهوريات في إطار المسؤولية ونظام القيم والتوازن المشترك مع روسيا، بخلاف الرئيس أوزال الذي كان يركز على "التاريخ المشترك والروابط الثقافية والعرقية العميقة"(71).‏
                          وفي سبيل تحقيق طموحاتها تجاه آسيا الوسطى قامت تركيا بخطوات اقتصادية وثقافية وسياسية تجاه هذه الجمهوريات بغية إعادة الروابط معها وتوطيد العلاقات في شتى المجالات تمهيداً لعلاقات أوثق من التعاون الثنائي والإقليمي.‏
                          ففي المجال الثقافي والإعلامي:‏
                          نجحت تركيا في آذار 1993 في التوصل مع أوزبكستان وتركمنستان وكازاخستان وقرغيزيا وأذربيجان إلى وضع أبجدية واحدة مشتركة أطلق عليها "الأبجدية التركية المشتركة" هي الأبجدية اللاتينية المعتمدة حالياً في تركيا منذ العام 1928(72).‏
                          - إعداد معاجم لغوية باللهجات التركية بهدف توحيد المصطلحات والرموز وإيفاد مدرسين للغة التركية إلى هذه الجمهوريات بأعداد كبيرة.‏
                          - إيفاد واستقدام وتبادل البعثات العلمية والتعليمية مع هذه الدول.‏
                          - إقامة محطات تلفزيونية لبث برامج تركية خاصة بهذه الجمهوريات(73).‏
                          - إمداد هذه الجمهوريات بأعداد كبيرة من الآلات الكاتبة والكمبيوترات واحتياجات تأسيس المطابع بالحروف اللاتينية.‏
                          وتعمل تركيا على اتخاذ المزيد من الخطوات الثقافية والإعلامية في هذا المجال منها إحداث مراكز أبحاث للعالم التركي مهمته دراسة جوانب التاريخ والأدب والجغرافيا والتراث واللغة والفن وعلم الاجتماع في جمهوريات "العالم التركي"، وفي المجال الاقتصادي والاتصالات: ربطت تركيا شبكتها الهاتفية بشبكات هذه الجمهوريات(74) ووقعت تركيا مجموعة من الاتفاقيات الثنائية مع هذه الجمهوريات في مجالات التجارة والنقل والمواصلات والجمارك. واتفاقيات أخرى في مجالات إقامة مشاريع صناعية ونفطية وزراعية، كذلك تقديم القروض الميسرة لهذه الجمهوريات وتخصيص مبالغ للاستثمار والبحث عن الجدوى الاقتصادية للتعاون المالي والمصرفي. وفي السنوات الأخيرة دخلت تركيا في منافسة شديدة مع روسيا وكذلك شركات النفط العالمية من أجل الفوز بنقل نفط بحر قزوين عبر أراضيها انطلاقاً من ميناء باكو الأذربيجاني ليصدر إلى أوروبا عبر ميناء جيحان التركي في خليج الإسكندرون على البحر المتوسط بدلاً من روسيا التي تطمح هي الأخرى إلى نقل نفط قزوين من خلال ميناء نوفوراسيك الروسي على البحر الأسود. وفي المجال السياسي: اعترفت تركيا رسمياً باستقلال هذه الجمهوريات في أيلول عام 1991، وقامت بتعديل هيكلية وزارة الخارجية بحيث أصبح لها أمانتان عامتان إحداهما مخصصة لشؤون العالم التركي(75). ومهمتها متابعة العلاقات والإشراف على السفارات التركية في عواصم هذه الجمهوريات وعلى القنصليات في المراكز السياسية "للجمهوريات التركية" ذات الحكم الذاتي. وكذلك وقعت تركيا معاهدة دفاع مشترك مع أذربيجان كما وقعت مجموعة من الاتفاقيات العسكرية مع عدد من هذه الجمهوريات تشمل تبادل البعثات العسكرية ومجالات التدريب.‏
                          ثانياً- العقبات والتحديات‏
                          رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها وتبذلها تركيا على كافة المستويات والصعد وفي شتى المجالات إلا أن هذه الجهود لم تثمر حتى الآن عن وقائع ملموسة تمهد الطريق أمام الطموحات التركية الاقتصادية والأمنية والسياسية في آسيا الوسطى والقفقاس بحيث تصبح دولة إقليمية تتمتع بموقع الدولة المحورية في هذه المنطقة الهامة والحساسة والغنية، والسياسة التركية تجاه هذه الجمهوريات تصطدم بمجموعة من العقبات والتحديات المحلية والإقليمية والدولية الصعبة.‏
                          وأهم العقبات المحلية:‏
                          1- عقبات تتعلق بالإمكانيات الذاتية لتركيا، فتركيا تفتقر إلى الإمكانيات المالية والاستثمارية والعلمية والتكنولوجية والمعرفية اللازمة للقيام بدور إقليمي كبير تجاه هذه الجمهوريات التي مازالت تعاني من بنى قديمة متخلفة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والزراعية حيث لا تزال الفروقات شاسعة بين المدن والريف، وهناك عقبات تركية أخرى تتعلق بالبنيان السياسي التركي والأيديولوجية الكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك) هذه الأيدلوجية التي لا تزال تهيمن على عقلية النخبة التركية الحاكمة تمنع هذه النخبة من التفكير خارج الخيار الأوروبي. إلا في إطار الدور الوظيفي لهذا الخيار نفسه.‏
                          2- وهناك أسباب تتعلق بهذه الجمهوريات نفسها أهمها وجود خوف لدى عدد منها من تصورات تركية مركزية تجاههم، قد تؤدي إلى سيطرة أنقرة بالمعنى الإقليمي على هذه الجمهوريات، خاصة كازاخستان حيث يكرر رئيسها نور سلطان نزار باييف عقب كل قمة "لمجموعة الدول التركية" قائلاً: "إن تركيا تريد العودة بنا إلى النموذج السوفياتي" و"إلى قاعدة الأخ الكبير"(76) كما أن كل من كازاخستان وأوزبكستان ترغبان القيام بدور في منطقة آسيا الوسطى ومحيطها نظراً لثقلهما الاقتصادي والسكاني والتقني، ومن الأسباب الخاصة بهذه الجمهوريات أيضاً وجود نسبة كبيرة نسبياً من السكان لا يتحدثون التركية بل الروسية (في كازاخستان نسبة التحدث بالروسية 45%)(77) فضلاً عن أن الثقافة الروحية في عدد من هذه الجمهوريات وبخاصة طاجكستان هي أقرب إلى الفارسية كما أنه يوجد نسبة غير قليلة من الشيعة في مناطق عدة من آسيا الوسطى.‏
                          أما على الصعيد الخارجي فيمكن التوقف عند العقبات التالية:‏



                          البعد الروسي:‏
                          - وجود روسيا كقوة أورآسية وأوروبية ضخمة لا تزال تهيمن على هذه الجمهوريات في العديد من المجالات تشكل تحدياً كبيراً أمام الطموح التركي تجاه آسيا الوسطى، فهذه الجمهوريات تجمعها بروسيا العديد من المنظمات الإقليمية كمنظمة الكومنولث التي تضم كل ورثة الاتحاد السوفياتي السابق ما عدا دول البلطيق الثلاث، ومنظمة الاتحاد السلافي التي تضم إلى جانب روسيا وهذه الجمهوريات روسيا البيضاء وأوكرانيا وهدف هذه المنظمات الإقليمية ملء الفراغ الذي ظهر في هذه الجمهوريات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة وللرد على المحاولات التركية والإيرانية الساعية إلى دور إقليمي من جهة ثانية، فضلاً عن هذا هناك صراع روسي- تركي مرير على مد أنابيب النفط من هذه المنطقة عبر أراضي كل منهما لتصديرها من ميناء نوفوراسيك الروسي على البحر الأسود أو جيحان التركي عبر البحر المتوسط. كذلك وجود تحالف روسي أرميني غير معلن في مواجهة التحالف التركي- الأذربيجاني المعلن في هذه المنطقة. وأساساً قضايا الخلاف بين روسيا وتركيا تاريخية وكثيرة تمتد إلى المياه الدافئة والحلف الأطلسي، فحتى الأمس القريب كانت تركيا تلعب دور الشرطي في الحلف الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي كما أن البعد الإسلامي في السياسة التركية يقابله بعد أرثوذكسي في السياسة الروسية تجاه منطقة آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز، حيث هناك ملامح تحالف روسي صربي بلغاري يوناني لمحاصرة تركيا، فالبعد الروسي بمضامينه المتعددة يشكل التحدي الأكبر لتركيا في آسيا الوسطى.‏



                          البعد الإيراني:‏
                          إيران شأنها شأن تركيا تبحث عن دور إقليمي في هذه الجمهوريات لأسباب ودوافع لا تقل أهمية عن الأسباب والدوافع التركية. وتعمل إيران للاستفادة القصوى من هذه الجمهوريات عسكرياً لا سيما في مجال استقدام الخبرات والتكنولوجية العسكرية، وتسعى إلى إقامة سوق إسلامية مشتركة مع هذه الجمهوريات وعلى تنشيط دورها في منطقة بحر قزوين التي تضم بالإضافة إليها كل من روسيا وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان وفي إطار الخطوات العملية افتتحت إيران في أيار 1996 خطاً للسكك الحديدية يربطها بآسيا الوسطى (خط الحرير) يهدف إلى تسهيل نقل البضائع والتجارة بين إيران وهذه الجمهوريات، أما ثقافياً فقد نشأت منظمة اللغة الفارسية مع طاجكستان. وشأن إيران شأن روسيا من حيث الخلافات وتعدد مواطن النزاع مع تركيا، بل إن مخاوف إيران إزاء الدور التركي في هذه الجمهوريات أقوى وذلك لسببين:‏
                          1- وجود نسبة كبيرة من الأذريين في إيران يقدر عددهم بـ12 مليون وهؤلاء يتواصلون مع أبناء جلدتهم داخل أذربيجان ومعظمهم من الشيعة، ومثل هذا الوضع يثير الخوف المستقبلي لدى إيران لأنه إن أصبحت تركيا دولة إقليمية قوية فقد تشجع الأذريين في إيران على المطالبة بالانفصال والانضمام إلى أذربيجان.‏
                          2- الدور التركي في هذه المنطقة يحظى بدعم الولايات المتحدة وإسرائيل ونسبياً أوروبا لأسباب تتعلق بالنموذج التركي العلماني الليبرالي لمواجهة المد الإيراني في هذه الجمهوريات من جهة ولمصالحها الخاصة من جهة ثانية. ومثل هذا البعد يشكل تحدياً للسياسة الإيرانية وثوابتها السياسية الخارجية. وفي مواجهة ذلك تسعى إيران لتفعيل دورها ونفوذها في هذه الجمهوريات اقتصادياً وثقافياً وسياسياً في مواجهة الدور التركي وقد أصبح الدور الإيراني في هذه الجمهوريات ينظر إليه بعين التحدي بالنسبة لتركيا.‏


                          رغم هذه العوامل المحددة للتنافس الإيراني- التركي في آسيا الوسطى فإن مسار التنافس بينهما بدأ يأخذ في السنوات الأخيرة طابع التعاون في مجال إقامة مشاريع البنية التحتية لا سيما في مجال النفط والغاز والاتصالات والمواصلات، فالمصلحة المشتركة تقتضي التعاون وليس المجابهة.‏

                          الضغوط الغربية:‏
                          الغرب نفسه (أمريكا، أوروبا، إسرائيل، مع تباين دور كل طرف من هذه الأطراف ونظرته إلى دور تركيا في آسيا الوسطى) لا يحبذ دوراً تركياً قوياً في آسيا الوسطى يصل إلى مستوى دولة إقليمية محورية، صحيح أن الغرب يشجع الدور التركي في المنطقة لمنافسة النموذج الإيراني الإسلامي المتشدد كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين والأوروبيين وتأكيدهم على النموذج التركي العلماني الليبرالي كنموذج صالح للاقتداء به من قبل الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى.‏
                          نعم الغرب يشجع الدور التركي في هذه المنطقة، الدور الذي يقف في وجه النموذج الإيراني المتشدد وفي وجه العودة الروسية إلى هذه المنطقة، وكذلك الدور الذي يقوم بمهام الجسر بين الغرب وهذه الجمهوريات إلا أنه يرفض الدور التركي في هذه الجمهوريات إلى درجة قيام "مجلس العالم التركي" لأن ذلك يعني الانقلاب على "العلمانية" والعودة إلى السياسة القومية الضيقة أي "الطورانية". كذلك يرفض دور الدولة الإقليمية المحورية القوية في هذه المنطقة لأن ذلك يشكل خطراً على المصالح الغربية وقد يؤثر على التوجهات السياسية التركية الاستراتيجية في الانفكاك عن الغرب والعودة إلى الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية والقيام بدور فعال في هذه الدائرة بما يشكل انقلاباً في موازين القوى والهياكل الإقليمية والدولية لخارطة القوى في البلقان وأوروبا والشرق الأوسط.‏
                          وعليه فإن الغرب حريص كل الحرص على بقاء الدور التركي في آسيا الوسطى محدوداً بحدود الدور الوظيفي في استراتيجيته الدولية.‏

                          الخلاصة والخاتمة‏
                          عقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية تعرضت ثوابت السياسة الخارجية التركية للاهتزاز. فبعد أن حسمت تركيا خيارها الاستراتيجي لصالح الارتباط بالغرب وانكفأت عن أي توجه للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية. عادت تركيا من جديد واكتشفت أنها ليست دولة أوروبية فقط بل دولة شرق أوسطية وآسيوية وبلقانية وقفقاسية، وبدت لها خريطة تركية جديدة تمتد من البحر الأدريارتيكي إلى حدود الصين، ومع هذه التحولات شهدت تركيا تغييرات سياسية في الداخل تجسدت في وصول التيار الإسلامي ممثلاً بحزب الرفاه "الفضيلة لاحقاً" إلى الواجهة السياسية التركية. وقد أضحى هذا التيار عاملاً مهماً في الخلفية السياسية الداخلية للسياسة الخارجية التركية.‏
                          ومع هذه المتغيرات وجدت تركيا نفسها أمام مسألة الخيارات التي ترتبط بها مسألة الهوية ويمكن القول إن تركيا في المرحلة الراهنة تجد نفسها أمام خيارات ثلاثة:‏
                          1- الخيار القديم- الجديد الساعي إلى الاندماج في الغرب الأوروبي سياسياً وأمنياً واقتصادياً.‏
                          2- الخيار الشرق أوسطي، حيث تعتقد تركيا أنها ستكون دولة محورية إلى جانب إسرائيل في النظام الإقليمي للشرق الأوسط وذلك بسبب موقعها الجغرافي وامتلاكها موارد المياه.‏
                          3- خيار العالم التركي أي خيار التوجه إلى إقامة شكل من أشكال الترابط مع الجمهوريات الإسلامية ذوات الأصول التركية في آسيا الوسطى كـ"مجلس العالم التركي أو جامعة الدول التركية أو فيدرالية العالم التركي" على غرار المنظمات الإقليمية في العالم".‏
                          رغم هذه الخيارات الثلاثة لتركيا، إلا أن النخبة التركية "العلمانية" الحاكمة لا تعتقد أن هناك خياراً لتركيا خارج الخيار الأوروبي، وإن كانت ترى ضرورة التحرك الإقليمي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، في حين يرى التيار الإسلامي أن الخيار الأوروبي يجب الاستفادة منه ولكنه ليس الخيار النهائي، ويرى ضرورة ترسيخ التحولات اللازمة للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية كخيار وهوية. وفي الواقع هذه الخيارات ليست منفصلة بعضها عن بعض وكل خيار يتأثر بالآخر تفاعلاً لجهة الموقع والدور وارتباطاً بالقضايا الإقليمية المحيطة بالسياسة الخارجية التركية.‏
                          فالاتحاد الأوروبي الذي لا يقول "لا" نهائية كما لا يقول "نعم" لجهة قبول تركيا في عضوية الاتحاد يدفع بتركيا إلى الشرق الأوسط. إلا أن تعثر عملية السلم العربية- الإسرائيلية وكذلك الخلافات التركية مع دول الجوار العربي بشأن المياه والأقليات والأمن، إضافة إلى قضايا أخرى كل ذلك يؤخر السعي التركي إلى الشرق الأوسطية ويدفع بها إلى دائرة آسيا الوسطى مع نقص الإمكانيات وغياب البنية السياسية الحضارية المطلوبة لإقامة أشكال من التجمعات مع الجمهوريات التركية الإسلامية في هذه الدائرة إضافة إلى العقبات والتحديات المحلية والإقليمية التي تحد من دورها في آسيا الوسطى. كل ذلك يدفع بها من جديد لإعادة تقييم خياراتها السياسية. ومع إعادة التقييم تطرح مسألة الهوية نفسها على تركيا من أعمق الأبواب وأعقدها.‏
                          وفي ظل تفاقم أخطار المشكلة الكردية على الداخل التركي وتحول هذه المشكلة إلى ملف دائم التوتر في العلاقات مع دول الجوار وأوروبا وكذلك عجز الأيديولوجية الكمالية الرسمية للدولة عن التعامل مع التيار الإسلامي وإصرار المؤسسة العسكرية التركية على إقصاء كل نشاط لهذا التيار فضلاً عن رفضه الهوية الإسلامية لتركيا، هذه القضايا وغيرها تدفع بتركيا إلى الانشغال بقضاياها الداخلية كقضايا أولية حساسة مدرجة على جدول أعمالها باستمرار وهي التي تحدد إلى حد كبير علاقات تركيا مع معظم دول الجوار بشكل سلبي أو ايجابي، وتزداد الصورة سوداوية أكثر إذا أدركنا أن علاقات تركيا مع معظم دول الجوار سلبية تتراوح بين العداء والتوتر والقلق والخلافات وغياب الثقة. فمشاكلها مع اليونان أضحت مزمنة، وسياساتها المائية والأمنية تجاه دول الجوار العربي وإيران تشكل مصدر قلق وتوتر وخوف دائم لهذه الدول، وسياستها في آسيا الوسطى تلقى المزيد من التحدي الروسي والأرميني، إضافة إلى ذلك فإن الباب الأوروبي كما يبدو، سيظل مغلقاً أمامها لأسباب أوروبية بالدرجة الأولى وليست تركية كما يتصور البعض.‏

                          سياسة الدول العربية تجاه تركيا وإن تبدو متباينة من دولة إلى أخرى إلا أن الإطار العام لهذه السياسة تؤكد على أهمية إقامة علاقات إيجابية مع تركيا انطلاقاً من التراث الحضاري المشترك للعرب والأتراك، وضرورة إقامة مصالح إقليمية مشتركة بحكم الجوار الجغرافي والأمن المشترك.‏
                          وتعتقد الدول العربية أن سوء التفاهم والفتور في العلاقات التركية العربية يمكن إزالتهما عبر حلول تدريجية للمشكلات الخلافية: كالمياه والأقليات والحدود والأمن.. الخ. إلا أن العقبة التي تحول دون تحقيق ذلك تتمثل في السياسة التركية تجاه العالم العربي. فهذه السياسة يحكمها بُعد أمريكي- إسرائيلي يهدف إلى فرض ترتيبات أمنية محدودة في المنطقة. كما أن السياسة التركية بشأن المشكلات الخلافية مع دول الجوار العربي (سورية- العربي) تتسم إما بنوع من اللامبالاة عبر التهرب من التوصل إلى اتفاقيات نهائية بشأن المياه، أو بنوع من التهديد والاستفزاز.‏
                          وفي ظل هذه العلاقات السلبية والعقبات والتحديات التي تعترض إنجاز خياراتها السياسية وتفاقم المشاكل الداخلية تحرص تركيا أكثر فأكثر على بقاء علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وثيقة وعلى توطيد علاقاتها مع إسرائيل، لتقوية دورها في مواجهة التحديات التي قد تعصف بها، ولكن من يجزم أن إسرائيل نفسها ليست لها حسابات مع تركيا؟ وفي السياق ذاته هل هناك ثوابت محددة في الاستراتيجية الأميركية تجاه تركيا ودورها؟ ولكن من يجزم بأن هذه الثوابت لن تتغير إذا ما تحقق السلام العربي- الإسرائيلي فعلاً، وشهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية مرحلة مغايرة لما هي عليه الآن؟ والحديث عن تطبيع العلاقات الأمريكية- الإيرانية بدأ يأخذ منحى عملياً مع مرحلة الرئيس محمد خاتمي.‏
                          مع وجود هذه المشاكل والعقبات والتحديات، المحلية والإقليمية والدولية لا تبدو الجيوسياسية التاريخية لتركيا طموحاً عقلانياً دولاتياً، وفي ظل غياب البنيان السياسي الحضاري والإمكانات اللازمة لدور الدولة الإقليمية المحورية يصبح الخوف واقعاً من أن تكون الطموحات التركية الكبرى هي أقرب إلى "الخيال الجامح" وقد يصبح هذا الخوف حقيقة إذا ما انسحبت الجيوسياسية الإقليمية بآثارها على الداخل التركي بما قد يؤدي إلى الحديث عن "سيفر جديد".‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                            الفصل الخامس
                            تنتمي مجتمعات العديد من جمهوريات آسيا الوسطى التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي إلى المجموعة التركية التي تجمعها مع تركيا "الرابطة الطورانية" وتعتقد تركيا أنه بإمكانها حالياً القيام بدور الدولة الإقليمية الكبرى حيال هذه الجمهوريات.‏
                            يبحث هذا الفصل في السياسة التركية تجاه دول آسيا الوسطى والطموح إلى إقامة رابطة إقليمية مع هذه الجمهوريات ذات الأصول التركية، كما يعرض العقبات والتحديات التي تواجهها تركيا لتحقيق طموحها هذا.‏
                            تركيا ودائرة آسيا الوسطى والقفقاس‏
                            أولاً- الطموح إلى إقامة "العالم التركي"‏
                            أدى انهيار الاتحاد السوفياتي السابق واستقلال الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى في مطلع التسعينات إلى بروز "عالم تركي"، شكل محور جذب اقتصادي وعرقي وسياسي بالنسبة لتركيا التي تربطها صلات تاريخية عرقية ودينية بشعوب هذه الجمهوريات، وقد أدى زوال الضغط الناجم عن وجود دولة الاتحاد السوفياتي وظهور فراغ في هذه المنطقة الجغرافية الغنية بالموارد الهائلة إلى ظهور طموح تركي نحو إقامة روابط اقتصادية وسياسية مع هذه الجمهوريات وإقامة "مجلس العالم التركي أو الجامعة التركية" على غرار المنظمات القومية أو الاقتصادية كالجامعة العربية والاتحاد الأوروبي. في سبيل ذلك حرصت تركيا على إظهار نفسها بمظهر الشقيق الأكبر لهذه الجمهوريات خاصة وإن خمساً من أصل ست جمهوريات هي ذات أصول عرقية تركية، وتربطها بتركيا لغة مشتركة وهي: أذربيجان (في القفقاس) وتركمانستان وكازاخستان وأوزبكستان وقرغيزستان. أما الجمهورية السادسة، طاجكستان، فتنتمي إلى الثقافة الإيرانية ويتكلم أبناؤها اللغة الفارسية(70) كما حرصت تركيا على تقديم نفسها لهذه الجمهوريات على أنها تمثل النموذج العلماني الليبرالي الذي يصلح الاقتداء به من جهة ويخلصهم من آثار المرحلة السوفيتية السابقة والتي تعرضت فيها ثقافتهم الروحية إلى الكبت والإهمال والتجاهل من جهة ثانية.‏
                            وقد تحركت تركيا تجاه هذه الجمهوريات على مستويات عدة: إقليمياً: عبر توسيع منظمة التعاون الاقتصادي (ايكو eco) فقد ضمت إلى عضويتها في شباط عام 1992 كلاً من أذربيجان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجكستان وقرغيريا فيما منحت كازاخستان صفة مراقب، ويذكر أن منظمة eco تأسست عام 1960 وتضم كلاً من تركيا وإيران وباكستان وتسعى المنظمة لتكون إطاراً للتعاون الإقليمي بين دولها الأعضاء في مجالات التجارة والمصارف والاستثمار وإقامة مناطق تجارية حرة. وكذلك في بعض مجالات الصناعة والطاقة والاتصالات والنقل.‏
                            وعلى غرار منظمة eco بذلت تركيا جهوداً حثيثة لإقامة منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود عام 1992 والتي تضم إلى جانب تركيا كلاً من بلغاريا وروسيا ورومانيا وجورجيا ومولدافيا وإرمينيا وأذربيجان وهي منظمة تسعى للقيام بمهام مشابهة لمنظمة eco.‏
                            وعلى المستوى الثنائي بادرت تركيا إلى الاعتراف بالجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى وإقامة العلاقات معها فور إعلانها الاستقلال عن روسيا، وبعد جهود دبلوماسية وزيارات قام بها كبار المسؤولين الأتراك واتفاقيات ثنائية مع معظم هذه الجمهوريات نجحت تركيا في عقد أول قمة لهذه الجمهوريات في أنقرة يومي 30 و 31 تشرين الأول 1992، ثم القمة الثانية في استانبول عام 1994 والثالثة في بشكيك 1996 والرابعة في طشقند.‏
                            وقد حدد الرئيس التركي أوزال في القمة الأولى تصوراً لإقامة "العالم التركي" عبر إعادة الروابط العرقية والثقافية والسياسية بين هذه الجمهوريات من خلال خطة اقتصادية شاملة في مجالات التجارة والمواصلات والجمارك والنفط والاستثمارات واللغة، حيث تطمح تركيا إلى الاستفادة الكبيرة من الموارد الهائلة لهذه المنطقة لاسيما النفط والغاز هذا من جهة، ومن جهة ثانية لتقوية دورها ونفوذها الإقليميين في هذه المنطقة الجغرافية المهمة في مواجهة النفوذين الروسي والإيراني حيث البعد الشيعي لإيران والأرثوذكسي لروسيا. ومن جهة ثالثة لتقوية مواقفها وأهمية دورها تجاه الاتحاد الأوروبي الذي يرفض حتى الآن قبول تركيا في عضوية الاتحاد وكذلك تجاه الغرب عموماً بعد أن قلت أهمية الدور التركي في الحلف الأطلسي عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، والعوامل التي تدفع تركيا إلى توثيق روابطها بالجمهوريات التركية كثيرة، أهمها: وحدة العرق واللغة والدين وملء الفراغ والتطلع إلى القيام بدور إقليمي، وقد تجسد هذا التوجه في أحد صوره في أحياء الرابطة الطورانية تلك الرابطة التي تربط أتراك آسيا الوسطى بأتراك الأناضول، وخاصة أن منطقة آسيا الوسطى كانت واقعة تحت سيطرة الدولة العثمانية (التركية) طيلة القرنين الخامس عشر والسادس عشر. إلا أن النخبة التركية الحاكمة حذرة تجاه هذه المسألة الحساسة كي لا تتهم بالعنصرية وبالانقلاب على العلمانية لأن من شأن ذلك زيادة المصاعب في العلاقات مع أوروبا، لذا تحرص تركية الحالية بزعامة الرئيس سليمان ديميريل على إبراز العلاقة مع هذه الجمهوريات في إطار المسؤولية ونظام القيم والتوازن المشترك مع روسيا، بخلاف الرئيس أوزال الذي كان يركز على "التاريخ المشترك والروابط الثقافية والعرقية العميقة"(71).‏
                            وفي سبيل تحقيق طموحاتها تجاه آسيا الوسطى قامت تركيا بخطوات اقتصادية وثقافية وسياسية تجاه هذه الجمهوريات بغية إعادة الروابط معها وتوطيد العلاقات في شتى المجالات تمهيداً لعلاقات أوثق من التعاون الثنائي والإقليمي.‏
                            ففي المجال الثقافي والإعلامي:‏
                            نجحت تركيا في آذار 1993 في التوصل مع أوزبكستان وتركمنستان وكازاخستان وقرغيزيا وأذربيجان إلى وضع أبجدية واحدة مشتركة أطلق عليها "الأبجدية التركية المشتركة" هي الأبجدية اللاتينية المعتمدة حالياً في تركيا منذ العام 1928(72).‏
                            - إعداد معاجم لغوية باللهجات التركية بهدف توحيد المصطلحات والرموز وإيفاد مدرسين للغة التركية إلى هذه الجمهوريات بأعداد كبيرة.‏
                            - إيفاد واستقدام وتبادل البعثات العلمية والتعليمية مع هذه الدول.‏
                            - إقامة محطات تلفزيونية لبث برامج تركية خاصة بهذه الجمهوريات(73).‏
                            - إمداد هذه الجمهوريات بأعداد كبيرة من الآلات الكاتبة والكمبيوترات واحتياجات تأسيس المطابع بالحروف اللاتينية.‏
                            وتعمل تركيا على اتخاذ المزيد من الخطوات الثقافية والإعلامية في هذا المجال منها إحداث مراكز أبحاث للعالم التركي مهمته دراسة جوانب التاريخ والأدب والجغرافيا والتراث واللغة والفن وعلم الاجتماع في جمهوريات "العالم التركي"، وفي المجال الاقتصادي والاتصالات: ربطت تركيا شبكتها الهاتفية بشبكات هذه الجمهوريات(74) ووقعت تركيا مجموعة من الاتفاقيات الثنائية مع هذه الجمهوريات في مجالات التجارة والنقل والمواصلات والجمارك. واتفاقيات أخرى في مجالات إقامة مشاريع صناعية ونفطية وزراعية، كذلك تقديم القروض الميسرة لهذه الجمهوريات وتخصيص مبالغ للاستثمار والبحث عن الجدوى الاقتصادية للتعاون المالي والمصرفي. وفي السنوات الأخيرة دخلت تركيا في منافسة شديدة مع روسيا وكذلك شركات النفط العالمية من أجل الفوز بنقل نفط بحر قزوين عبر أراضيها انطلاقاً من ميناء باكو الأذربيجاني ليصدر إلى أوروبا عبر ميناء جيحان التركي في خليج الإسكندرون على البحر المتوسط بدلاً من روسيا التي تطمح هي الأخرى إلى نقل نفط قزوين من خلال ميناء نوفوراسيك الروسي على البحر الأسود. وفي المجال السياسي: اعترفت تركيا رسمياً باستقلال هذه الجمهوريات في أيلول عام 1991، وقامت بتعديل هيكلية وزارة الخارجية بحيث أصبح لها أمانتان عامتان إحداهما مخصصة لشؤون العالم التركي(75). ومهمتها متابعة العلاقات والإشراف على السفارات التركية في عواصم هذه الجمهوريات وعلى القنصليات في المراكز السياسية "للجمهوريات التركية" ذات الحكم الذاتي. وكذلك وقعت تركيا معاهدة دفاع مشترك مع أذربيجان كما وقعت مجموعة من الاتفاقيات العسكرية مع عدد من هذه الجمهوريات تشمل تبادل البعثات العسكرية ومجالات التدريب.‏
                            ثانياً- العقبات والتحديات‏
                            رغم الجهود الحثيثة التي بذلتها وتبذلها تركيا على كافة المستويات والصعد وفي شتى المجالات إلا أن هذه الجهود لم تثمر حتى الآن عن وقائع ملموسة تمهد الطريق أمام الطموحات التركية الاقتصادية والأمنية والسياسية في آسيا الوسطى والقفقاس بحيث تصبح دولة إقليمية تتمتع بموقع الدولة المحورية في هذه المنطقة الهامة والحساسة والغنية، والسياسة التركية تجاه هذه الجمهوريات تصطدم بمجموعة من العقبات والتحديات المحلية والإقليمية والدولية الصعبة.‏
                            وأهم العقبات المحلية:‏
                            1- عقبات تتعلق بالإمكانيات الذاتية لتركيا، فتركيا تفتقر إلى الإمكانيات المالية والاستثمارية والعلمية والتكنولوجية والمعرفية اللازمة للقيام بدور إقليمي كبير تجاه هذه الجمهوريات التي مازالت تعاني من بنى قديمة متخلفة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والزراعية حيث لا تزال الفروقات شاسعة بين المدن والريف، وهناك عقبات تركية أخرى تتعلق بالبنيان السياسي التركي والأيديولوجية الكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك) هذه الأيدلوجية التي لا تزال تهيمن على عقلية النخبة التركية الحاكمة تمنع هذه النخبة من التفكير خارج الخيار الأوروبي. إلا في إطار الدور الوظيفي لهذا الخيار نفسه.‏
                            2- وهناك أسباب تتعلق بهذه الجمهوريات نفسها أهمها وجود خوف لدى عدد منها من تصورات تركية مركزية تجاههم، قد تؤدي إلى سيطرة أنقرة بالمعنى الإقليمي على هذه الجمهوريات، خاصة كازاخستان حيث يكرر رئيسها نور سلطان نزار باييف عقب كل قمة "لمجموعة الدول التركية" قائلاً: "إن تركيا تريد العودة بنا إلى النموذج السوفياتي" و"إلى قاعدة الأخ الكبير"(76) كما أن كل من كازاخستان وأوزبكستان ترغبان القيام بدور في منطقة آسيا الوسطى ومحيطها نظراً لثقلهما الاقتصادي والسكاني والتقني، ومن الأسباب الخاصة بهذه الجمهوريات أيضاً وجود نسبة كبيرة نسبياً من السكان لا يتحدثون التركية بل الروسية (في كازاخستان نسبة التحدث بالروسية 45%)(77) فضلاً عن أن الثقافة الروحية في عدد من هذه الجمهوريات وبخاصة طاجكستان هي أقرب إلى الفارسية كما أنه يوجد نسبة غير قليلة من الشيعة في مناطق عدة من آسيا الوسطى.‏
                            أما على الصعيد الخارجي فيمكن التوقف عند العقبات التالية:‏



                            البعد الروسي:‏
                            - وجود روسيا كقوة أورآسية وأوروبية ضخمة لا تزال تهيمن على هذه الجمهوريات في العديد من المجالات تشكل تحدياً كبيراً أمام الطموح التركي تجاه آسيا الوسطى، فهذه الجمهوريات تجمعها بروسيا العديد من المنظمات الإقليمية كمنظمة الكومنولث التي تضم كل ورثة الاتحاد السوفياتي السابق ما عدا دول البلطيق الثلاث، ومنظمة الاتحاد السلافي التي تضم إلى جانب روسيا وهذه الجمهوريات روسيا البيضاء وأوكرانيا وهدف هذه المنظمات الإقليمية ملء الفراغ الذي ظهر في هذه الجمهوريات في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي من جهة وللرد على المحاولات التركية والإيرانية الساعية إلى دور إقليمي من جهة ثانية، فضلاً عن هذا هناك صراع روسي- تركي مرير على مد أنابيب النفط من هذه المنطقة عبر أراضي كل منهما لتصديرها من ميناء نوفوراسيك الروسي على البحر الأسود أو جيحان التركي عبر البحر المتوسط. كذلك وجود تحالف روسي أرميني غير معلن في مواجهة التحالف التركي- الأذربيجاني المعلن في هذه المنطقة. وأساساً قضايا الخلاف بين روسيا وتركيا تاريخية وكثيرة تمتد إلى المياه الدافئة والحلف الأطلسي، فحتى الأمس القريب كانت تركيا تلعب دور الشرطي في الحلف الأطلسي ضد الاتحاد السوفياتي كما أن البعد الإسلامي في السياسة التركية يقابله بعد أرثوذكسي في السياسة الروسية تجاه منطقة آسيا الوسطى والبلقان والقوقاز، حيث هناك ملامح تحالف روسي صربي بلغاري يوناني لمحاصرة تركيا، فالبعد الروسي بمضامينه المتعددة يشكل التحدي الأكبر لتركيا في آسيا الوسطى.‏



                            البعد الإيراني:‏
                            إيران شأنها شأن تركيا تبحث عن دور إقليمي في هذه الجمهوريات لأسباب ودوافع لا تقل أهمية عن الأسباب والدوافع التركية. وتعمل إيران للاستفادة القصوى من هذه الجمهوريات عسكرياً لا سيما في مجال استقدام الخبرات والتكنولوجية العسكرية، وتسعى إلى إقامة سوق إسلامية مشتركة مع هذه الجمهوريات وعلى تنشيط دورها في منطقة بحر قزوين التي تضم بالإضافة إليها كل من روسيا وأذربيجان وتركمانستان وكازاخستان وفي إطار الخطوات العملية افتتحت إيران في أيار 1996 خطاً للسكك الحديدية يربطها بآسيا الوسطى (خط الحرير) يهدف إلى تسهيل نقل البضائع والتجارة بين إيران وهذه الجمهوريات، أما ثقافياً فقد نشأت منظمة اللغة الفارسية مع طاجكستان. وشأن إيران شأن روسيا من حيث الخلافات وتعدد مواطن النزاع مع تركيا، بل إن مخاوف إيران إزاء الدور التركي في هذه الجمهوريات أقوى وذلك لسببين:‏
                            1- وجود نسبة كبيرة من الأذريين في إيران يقدر عددهم بـ12 مليون وهؤلاء يتواصلون مع أبناء جلدتهم داخل أذربيجان ومعظمهم من الشيعة، ومثل هذا الوضع يثير الخوف المستقبلي لدى إيران لأنه إن أصبحت تركيا دولة إقليمية قوية فقد تشجع الأذريين في إيران على المطالبة بالانفصال والانضمام إلى أذربيجان.‏
                            2- الدور التركي في هذه المنطقة يحظى بدعم الولايات المتحدة وإسرائيل ونسبياً أوروبا لأسباب تتعلق بالنموذج التركي العلماني الليبرالي لمواجهة المد الإيراني في هذه الجمهوريات من جهة ولمصالحها الخاصة من جهة ثانية. ومثل هذا البعد يشكل تحدياً للسياسة الإيرانية وثوابتها السياسية الخارجية. وفي مواجهة ذلك تسعى إيران لتفعيل دورها ونفوذها في هذه الجمهوريات اقتصادياً وثقافياً وسياسياً في مواجهة الدور التركي وقد أصبح الدور الإيراني في هذه الجمهوريات ينظر إليه بعين التحدي بالنسبة لتركيا.‏


                            رغم هذه العوامل المحددة للتنافس الإيراني- التركي في آسيا الوسطى فإن مسار التنافس بينهما بدأ يأخذ في السنوات الأخيرة طابع التعاون في مجال إقامة مشاريع البنية التحتية لا سيما في مجال النفط والغاز والاتصالات والمواصلات، فالمصلحة المشتركة تقتضي التعاون وليس المجابهة.‏

                            الضغوط الغربية:‏
                            الغرب نفسه (أمريكا، أوروبا، إسرائيل، مع تباين دور كل طرف من هذه الأطراف ونظرته إلى دور تركيا في آسيا الوسطى) لا يحبذ دوراً تركياً قوياً في آسيا الوسطى يصل إلى مستوى دولة إقليمية محورية، صحيح أن الغرب يشجع الدور التركي في المنطقة لمنافسة النموذج الإيراني الإسلامي المتشدد كما صرح بذلك العديد من المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين والأوروبيين وتأكيدهم على النموذج التركي العلماني الليبرالي كنموذج صالح للاقتداء به من قبل الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى.‏
                            نعم الغرب يشجع الدور التركي في هذه المنطقة، الدور الذي يقف في وجه النموذج الإيراني المتشدد وفي وجه العودة الروسية إلى هذه المنطقة، وكذلك الدور الذي يقوم بمهام الجسر بين الغرب وهذه الجمهوريات إلا أنه يرفض الدور التركي في هذه الجمهوريات إلى درجة قيام "مجلس العالم التركي" لأن ذلك يعني الانقلاب على "العلمانية" والعودة إلى السياسة القومية الضيقة أي "الطورانية". كذلك يرفض دور الدولة الإقليمية المحورية القوية في هذه المنطقة لأن ذلك يشكل خطراً على المصالح الغربية وقد يؤثر على التوجهات السياسية التركية الاستراتيجية في الانفكاك عن الغرب والعودة إلى الارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية والقيام بدور فعال في هذه الدائرة بما يشكل انقلاباً في موازين القوى والهياكل الإقليمية والدولية لخارطة القوى في البلقان وأوروبا والشرق الأوسط.‏
                            وعليه فإن الغرب حريص كل الحرص على بقاء الدور التركي في آسيا الوسطى محدوداً بحدود الدور الوظيفي في استراتيجيته الدولية.‏

                            الخلاصة والخاتمة‏
                            عقب انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج وعملية التسوية السلمية العربية- الإسرائيلية تعرضت ثوابت السياسة الخارجية التركية للاهتزاز. فبعد أن حسمت تركيا خيارها الاستراتيجي لصالح الارتباط بالغرب وانكفأت عن أي توجه للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية. عادت تركيا من جديد واكتشفت أنها ليست دولة أوروبية فقط بل دولة شرق أوسطية وآسيوية وبلقانية وقفقاسية، وبدت لها خريطة تركية جديدة تمتد من البحر الأدريارتيكي إلى حدود الصين، ومع هذه التحولات شهدت تركيا تغييرات سياسية في الداخل تجسدت في وصول التيار الإسلامي ممثلاً بحزب الرفاه "الفضيلة لاحقاً" إلى الواجهة السياسية التركية. وقد أضحى هذا التيار عاملاً مهماً في الخلفية السياسية الداخلية للسياسة الخارجية التركية.‏
                            ومع هذه المتغيرات وجدت تركيا نفسها أمام مسألة الخيارات التي ترتبط بها مسألة الهوية ويمكن القول إن تركيا في المرحلة الراهنة تجد نفسها أمام خيارات ثلاثة:‏
                            1- الخيار القديم- الجديد الساعي إلى الاندماج في الغرب الأوروبي سياسياً وأمنياً واقتصادياً.‏
                            2- الخيار الشرق أوسطي، حيث تعتقد تركيا أنها ستكون دولة محورية إلى جانب إسرائيل في النظام الإقليمي للشرق الأوسط وذلك بسبب موقعها الجغرافي وامتلاكها موارد المياه.‏
                            3- خيار العالم التركي أي خيار التوجه إلى إقامة شكل من أشكال الترابط مع الجمهوريات الإسلامية ذوات الأصول التركية في آسيا الوسطى كـ"مجلس العالم التركي أو جامعة الدول التركية أو فيدرالية العالم التركي" على غرار المنظمات الإقليمية في العالم".‏
                            رغم هذه الخيارات الثلاثة لتركيا، إلا أن النخبة التركية "العلمانية" الحاكمة لا تعتقد أن هناك خياراً لتركيا خارج الخيار الأوروبي، وإن كانت ترى ضرورة التحرك الإقليمي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، في حين يرى التيار الإسلامي أن الخيار الأوروبي يجب الاستفادة منه ولكنه ليس الخيار النهائي، ويرى ضرورة ترسيخ التحولات اللازمة للارتباط بالدائرة الحضارية الإسلامية كخيار وهوية. وفي الواقع هذه الخيارات ليست منفصلة بعضها عن بعض وكل خيار يتأثر بالآخر تفاعلاً لجهة الموقع والدور وارتباطاً بالقضايا الإقليمية المحيطة بالسياسة الخارجية التركية.‏
                            فالاتحاد الأوروبي الذي لا يقول "لا" نهائية كما لا يقول "نعم" لجهة قبول تركيا في عضوية الاتحاد يدفع بتركيا إلى الشرق الأوسط. إلا أن تعثر عملية السلم العربية- الإسرائيلية وكذلك الخلافات التركية مع دول الجوار العربي بشأن المياه والأقليات والأمن، إضافة إلى قضايا أخرى كل ذلك يؤخر السعي التركي إلى الشرق الأوسطية ويدفع بها إلى دائرة آسيا الوسطى مع نقص الإمكانيات وغياب البنية السياسية الحضارية المطلوبة لإقامة أشكال من التجمعات مع الجمهوريات التركية الإسلامية في هذه الدائرة إضافة إلى العقبات والتحديات المحلية والإقليمية التي تحد من دورها في آسيا الوسطى. كل ذلك يدفع بها من جديد لإعادة تقييم خياراتها السياسية. ومع إعادة التقييم تطرح مسألة الهوية نفسها على تركيا من أعمق الأبواب وأعقدها.‏
                            وفي ظل تفاقم أخطار المشكلة الكردية على الداخل التركي وتحول هذه المشكلة إلى ملف دائم التوتر في العلاقات مع دول الجوار وأوروبا وكذلك عجز الأيديولوجية الكمالية الرسمية للدولة عن التعامل مع التيار الإسلامي وإصرار المؤسسة العسكرية التركية على إقصاء كل نشاط لهذا التيار فضلاً عن رفضه الهوية الإسلامية لتركيا، هذه القضايا وغيرها تدفع بتركيا إلى الانشغال بقضاياها الداخلية كقضايا أولية حساسة مدرجة على جدول أعمالها باستمرار وهي التي تحدد إلى حد كبير علاقات تركيا مع معظم دول الجوار بشكل سلبي أو ايجابي، وتزداد الصورة سوداوية أكثر إذا أدركنا أن علاقات تركيا مع معظم دول الجوار سلبية تتراوح بين العداء والتوتر والقلق والخلافات وغياب الثقة. فمشاكلها مع اليونان أضحت مزمنة، وسياساتها المائية والأمنية تجاه دول الجوار العربي وإيران تشكل مصدر قلق وتوتر وخوف دائم لهذه الدول، وسياستها في آسيا الوسطى تلقى المزيد من التحدي الروسي والأرميني، إضافة إلى ذلك فإن الباب الأوروبي كما يبدو، سيظل مغلقاً أمامها لأسباب أوروبية بالدرجة الأولى وليست تركية كما يتصور البعض.‏

                            سياسة الدول العربية تجاه تركيا وإن تبدو متباينة من دولة إلى أخرى إلا أن الإطار العام لهذه السياسة تؤكد على أهمية إقامة علاقات إيجابية مع تركيا انطلاقاً من التراث الحضاري المشترك للعرب والأتراك، وضرورة إقامة مصالح إقليمية مشتركة بحكم الجوار الجغرافي والأمن المشترك.‏
                            وتعتقد الدول العربية أن سوء التفاهم والفتور في العلاقات التركية العربية يمكن إزالتهما عبر حلول تدريجية للمشكلات الخلافية: كالمياه والأقليات والحدود والأمن.. الخ. إلا أن العقبة التي تحول دون تحقيق ذلك تتمثل في السياسة التركية تجاه العالم العربي. فهذه السياسة يحكمها بُعد أمريكي- إسرائيلي يهدف إلى فرض ترتيبات أمنية محدودة في المنطقة. كما أن السياسة التركية بشأن المشكلات الخلافية مع دول الجوار العربي (سورية- العربي) تتسم إما بنوع من اللامبالاة عبر التهرب من التوصل إلى اتفاقيات نهائية بشأن المياه، أو بنوع من التهديد والاستفزاز.‏
                            وفي ظل هذه العلاقات السلبية والعقبات والتحديات التي تعترض إنجاز خياراتها السياسية وتفاقم المشاكل الداخلية تحرص تركيا أكثر فأكثر على بقاء علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وثيقة وعلى توطيد علاقاتها مع إسرائيل، لتقوية دورها في مواجهة التحديات التي قد تعصف بها، ولكن من يجزم أن إسرائيل نفسها ليست لها حسابات مع تركيا؟ وفي السياق ذاته هل هناك ثوابت محددة في الاستراتيجية الأميركية تجاه تركيا ودورها؟ ولكن من يجزم بأن هذه الثوابت لن تتغير إذا ما تحقق السلام العربي- الإسرائيلي فعلاً، وشهدت العلاقات الأمريكية الإيرانية مرحلة مغايرة لما هي عليه الآن؟ والحديث عن تطبيع العلاقات الأمريكية- الإيرانية بدأ يأخذ منحى عملياً مع مرحلة الرئيس محمد خاتمي.‏
                            مع وجود هذه المشاكل والعقبات والتحديات، المحلية والإقليمية والدولية لا تبدو الجيوسياسية التاريخية لتركيا طموحاً عقلانياً دولاتياً، وفي ظل غياب البنيان السياسي الحضاري والإمكانات اللازمة لدور الدولة الإقليمية المحورية يصبح الخوف واقعاً من أن تكون الطموحات التركية الكبرى هي أقرب إلى "الخيال الجامح" وقد يصبح هذا الخوف حقيقة إذا ما انسحبت الجيوسياسية الإقليمية بآثارها على الداخل التركي بما قد يؤدي إلى الحديث عن "سيفر جديد".‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: تركيا وقضايا السياسة الخارجية

                              المراجع:
                              1- صبري سياري، تركيا والشرق الأوسط في التسعينات، الدراسات الفلسطينية- العدد 31 صيف 1997 تصدر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية- بيروت. ص22‏
                              2- يعد الرئيس التركي تورغوت أوزال من أبرز منظري هذا الاتجاه، راجع: جنكيز تشاندرا، تحولات الجيوبوليتكا الإسلامية وانتقال دور الزعامة المركزية، شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق- بيروت، العدد 33 أيلول 1994 ص30- 39 كذلك: محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول، قلق الهوية وصراع الخيارات، لندن، رياض الريس للكتب والنشر 1997 ص22- 54.‏
                              3- محمد نور الدين، دوائر تركيا الثلاث شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق- بيروت العدد 11/1992 ص75‏
                              4- محمد نور الدين، قبعة وعمامة. مدخل إلى الحركات الإسلامية في تركيا بيروت، دار النهار، نيسان 1997 ص9‏
                              5- محمد خالد الأزعر، دوائر التحرك الإقليمي للسياسة التركية، شؤون عربية، تصدر عن جامعة الدول العربية- القاهرة العدد /74/ 1993 ص130.‏
                              6- راجع فيليب روبنس، تركيا والشرق الأوسط ترجمة ميخائيل نجم خوري، قبرص، دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث (سنة النشر غير موجودة) ص7- 35‏
                              7- راجع، مصطفى الزين، أتاتورك وخلفاؤه، بيروت دار الكلمة للنشر، 1982- ص15- 214‏
                              8- فيليب روبنس- المرجع السابق ص21‏
                              9- عايدة العلي سري الدين، العرب والفرات بين تركيا وإسرائيل بيروت، دار الآفاق الجديدة 1997 ص19‏
                              10- Turks shift towand islamistonientation, Staunch secule arism, opinion Analysis, U. S. In Formation Aqency, Washington, 12 september 1996‏
                              نقلاً عن صبري سياري، المرجع السابق ص41.‏
                              11- د. صلاح سالم زرنوقة، التعليم الحديث في تركيا، السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام- القاهرة، العدد 131 يناير 1998 ص176- 182‏
                              12- راجع، مصطفى زين، أتاتورك وخلفاؤه، بيروت المصدر السابق ص97‏
                              13- الدكتور سيّار الجميل، العرب والأتراك، الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة. مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1997- ص151‏
                              14- مصطفى الزين، المرجع السابق ص227‏
                              15- الدكتور سيّار الجميل، المرجع السابق ص154‏
                              16- مصطفى الزين، المرجع السابق ص220‏
                              17- الدكتور سيّار الجميل، المرجع السابق ص118- 119‏
                              18- المرجع نفسه ص121‏
                              19- محمد خالد الأزعر، المرجع السابق ص133‏
                              20- محمد خليفة "صحوة الإسلام في تركيا كما يراه الإعلام العربي، مستقبل العالم الإسلامي العدد 3 صيف 1991 ص167- 179 نقلاً عن محمود خالد الأزعر المرجع السابق ص125‏
                              21- صحيفة ميللييت التركية 5/3/1997 نقلاً عن محمد نور الدين، تركيا الجمهورية الحائرة- مركز الدراسات الاستراتيجية والتوثيق- بيروت 1998 ص44‏
                              22- الحياة اللندنية 18 حزيران 1998 العدد 12889‏
                              23- أحمد خليل الضبع، الاقتصاد التركي مسيرة محفوفة بالمخاطر، السياسة الدولية، العدد 131- 1998 ص202- 206‏
                              24- نبيل حيدري، تركيا دراسة في السياسة الخارجية منذ عام 1945 دمشق، دار صبرا للطباعة والنشر 1981- ص128‏
                              25- محمد نور الدين مشكلة بحر إيجة بين اليونان وتركيا، شؤون تركية، مركز الدراسات الاستراتيجية والتوثيق- بيروت، العدد 14 شباط 1995 ص35‏
                              26- محمد نور الدين، تركيا واليونان الملف القديم المتجدد شؤون تركية العدد 13 خريف 1994 ص16‏
                              27- نبيل حيدري، تركيا دراسة في السياسة الخارجية منذ عام 1945 دمشق، دار صبرا للطباعة والنشر 1981- ص165‏
                              28- المصدر نفسه ص168‏
                              29- هيثم الكيلاني، تركيا والعرب دراسة في العلاقات العربية التركية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية- سلسلة الدراسات الاستراتيجية، العدد 6 ص7‏
                              30- وليام هيل، العوامل الاقتصادية في العلاقات- التركية- العربية المستقبل العربي، العدد 45 نوفمبر 1982 ص70- 84‏
                              31- شادي أرغوفنتش، الأمن التركي والشرق الأوسط الدراسات الفلسطينية، العدد 26 ربيع 1996 ص 97- 105‏
                              32- محمد السماك، بالاشتراك مع خالد زيادة، ميشال نوفل، محمد نور الدين، العرب والأتراك في عالم متغير، بيروت مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1993 ص81‏
                              33- صبري سياري، المرجع السابق ص29‏
                              34- مقال نشره أوزال في جريدة الشرق الأوسط اللندنية في 17/12/1991 نقلاً عن مصطفى بن عبد الحميد ثابت، العلاقات العربية- التركية بعد حرب الخليج: الطموحات الإقليمية والخيار الاستراتيجي الأطلسي، الفكر الاستراتيجي العربي العدد 41 تموز 1992 ص107- 121‏
                              35- راجع، محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحور، ص233- 244‏
                              36- محمد خليفة، تركيا وأزمة الخليج، مستقبل العالم الإسلامي العدد 2 ربيع 1991 ص131- 140‏
                              37- راجع عايدة العلي سري الدين، مرجع سابق ص42- 43‏
                              38- علي جمالو، ثرثرة فوق الفرات، كتاب نشر على حلقات في جريدة السفير اللبنانية، الحلقات الأولى والثانية والثالثة 26- 27- 28/2/1996‏
                              39- أحمد الرشيدي، (ندوة) تركيا والأمن القومي العربي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، العدد 169/ 1992 ص119‏
                              40- محمد نور الدين، عاصفة في مياه الـ غاب GAP شؤون تركية، العدد 11/1994 ص44‏
                              41- المصدر السابق نفسه ص45‏
                              42- عوني عبد الرحمن السبعاوي، إسرائيل ومشاريع المياه التركية، مستقبل الجوار المائي العربي سلسلة مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإسلامية الاستراتيجية، سلسلة الدراسات الاستراتيجية، العدد 10 ص16‏
                              43- محمد نور الدين مشروع "غاب" الأبعاد المحلية والإقليمية شؤون الأوسط، مركز الدراسات الاستراتيجية والتوثيق، بيروت، العدد 15/1993 ص67‏
                              44- د. نبيل السمان، المياه وسلام الشرق الأوسط، دمشق، دار النشر غير موجود، عام 1997 ص74‏
                              45- عايدة العلي سري الدين مصدر سبق ذكره ص99‏
                              46- الحياة اللندنية 26/3/1996‏
                              47- تفصيلات عن مشروع مياه أنابيب السلام، راجع عوني عبد الرحمن السبعاوي، مرجع سبق ذكره، أيضاً محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول- مرجع سبق ذكره 139- 177‏

                              48- هيثم الكيلاني، تركيا والعرب مصدر سبق ذكره حتى 68- 69‏
                              49- محمد علي زرقة، قضية لواء الأسكندرونة (وثائق وشروح)- بيروت- دار العروبة، 1993- ص471- 475- الجزء الأول.‏
                              50- د. سليمان المدني، تركيا اليهودية، دمشق دار الأنوار 1998 ص220‏
                              51- د. سليمان المدني- المرجع السابق ص224‏
                              52- الحياة 6 تشرين الثاني 1998‏
                              53- جلال معوض- عملية صنع القرار في تركيا والعلاقات العربية- التركية، المستقبل العربي- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، العدد 227/ 1998 ص40‏
                              54- راجع منذر الموصلي عرب وأكراد، رؤية عربية للقضية الكردية، دمشق، دار العلم، الطبعة الثانية 1991 ص67- 81‏
                              كذلك، جوناثان راندل، أمة في شقاق دروب كردستان كما سلكتها- ترجمة، فادي حمود، بيروت، دار النهار 1997 ص22‏
                              55- د. حامد محمود عيسى، المشكلة الكردية في الشرق الأوسط، القاهرة، مكتبة مدبولي، 1992 ص372- 373‏
                              56- خورشيد دلي، القضية الكردية، مجلة العلوم الاجتماعية مجلس النشر العلمي، جامعة الكويت، المجلد الثاني والعشرون العدد 1-2 ربيع/ صيف 1994 ص202- 210‏
                              57- جلال عبد الله معوض، تركيا والأمن القومي العربي، السياسة المائية والأقليات المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، العدد 160/ 1994/ ص92- 124‏
                              58- درية عوني (حلقة نقاشية) عملية صنع القرار في تركيا والعلاقات العربية- التركية، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، العدد 227/ 1998 ص41‏
                              59- راجع، محمد أمين زكي، تاريخ الدول والإمارات الكردية في العهد الإسلامي، تعريب: محمد علي عوني، 1945 مكان ودار النشر غير موجودين ص276- 436‏
                              60- هيثم الكيلاني، تركيا والعرب، مرجع سابق ص60- 61‏
                              61- محمد نور الدين، تركيا وسوريا، اتفاقات أمنية، شؤون تركية العدد 10/ شتاء 1994/ ص30- 31- 32‏
                              62- خورشيد دلي، المناورات التركية- الإسرائيلية في المتوسط، مجلة الأوج، العدد /7/ 1998‏
                              63- المرجع نفسه‏
                              64- يحدد كتاب الميزان العسكري لعام 1997- 1998 والذي يصدره سنوياً المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلندن IISS حجم القوات التركية بـ 639 ألف جندي، والقوات الاحتياطية 379 ألف جندي. ويضاف إلى هذا العدد "قوات حماة القرى" والتي يقدر عددها بـ 190 ألف عنصر وهي عبارة عن قوات شبه عسكرية شكلتها تركيا في عام 1987 لمحاربة حزب العمال الكردستاني. ومعظم أفراد هذه القوات من الأكراد.‏
                              65- الحياة اللندنية 11/5/1998‏
                              66- محمد نور الدين، مياه "مانافغات" إلى إسرائيل، شؤون تركية العدد 13/ خريف 1994 ص47- 48‏
                              67- مأمون كيوان، اليهود في الشرق الأوسط، عمان، الأهلية للنشر والتوزيع، 1996 ص148- 152‏
                              أيضاً محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول، قلق الهوية وصراع الخيارات ص177- 203‏
                              68- محمد نور الدين، اليهود في تركيا: أرقام ومعطيات شؤون تركية العدد2 تشرين الثاني 1992 ص37- 45‏
                              69- هيثم الكيلاني، الأمن القومي العربي في إطار العلاقات العربية- الإقليمية، شؤون عربية، العدد/80/ كانون الأول 1994 ص130‏
                              70- محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول، مصدر سبق ذكره ص204‏
                              71- المرجع نفسه ص 210- 214‏
                              72- المرجع نفسه ص227‏
                              73- جاسر الشاهد، السياسة التركية تجاه جمهوريات آسيا، السياسة الدولية العدد 131 يناير 1998 حتى 199‏
                              74- المرجع نفسه ص198‏
                              75- محمد نور الدين المرجع السابق ص211‏
                              76- محمد نور الدين القمة التركية الأولى: ارتجال وانقسام، شؤون تركية، العدد الثالث تشرين الثاني 1992 ص31‏
                              77- المرجع نفسه ص32.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X