إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الصداقة والتضامن عند هانس جورج غادامير

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الصداقة والتضامن عند هانس جورج غادامير

    الصداقة والتضامن عند هانس جورج غادامير
    ترجمة وتقديم زهير الخويلدي
    تثبت التجربة التاريخية للنوع الآدمي أن العلاقة بين الإنسان والآخر- فردا أو جماعة- تتراوح بين التقارب والتباغض وتشهد موجات من المد حينا والجزر أحيانا، وبالتالي فإن المنطق الطارئ هو التنازع والعداء وأن الناس في حياتهم اليومية كثيرا ما ينزعون نحو العدوان ويستبعدون المغاير ويستهجنون المباين ويبحثون عن النظير ويقتربون من الشبيه ويألفون المماثل.
    لكن في المقابل يظل المنطق المحبذ والمأمول هو التآنس والتوادد والابتعاد عن الفرقة والتعادي، ذلك أن المرء يرفض أن يعيش منعزلا ويسعى إلى أن يكسب أصدقاء ويرى الحاجة إلى التواصل مع الآخر أمرا هيكليا في وجود ه ولذلك يحتاج إلى الانفتاح مع العالم الخارجي وربط علاقات تضامن وتعاطف وتعاون مع الناس وإقامة صداقات مع شخصيات متعددة، فبماذا نفسر حاجة الإنسان إلى تجسيم مفهوم الصداقة على أرض الواقع؟ وماهي دلالات ومعان الصداقة؟ وهل هي تعبير عن حب عاطفي أم التزام بقيمة ثابتة؟ وما الفرق بين صداقة الأطفال وصداقة الكهول؟ وهل تحقق الصداقة التواصل بين الأنا والآخر أم أنها تمكن الإنسان من معرفة ذاته وتحقيق إنيته؟ لماذا ظلت الصداقة عملة نادرا في عصر العولمة؟ وكيف نفسر تفشي الذاتوية والأنانية وتراجع مشاعر التضامن والتعاضد بين الناس في العصر ما بعد الصناعي؟
    في هذا النص يحاول جورج هانس غادامير فيلسوف الهرمينوتيقا والإتيقا أن يجيب على هذه الإشكاليات وذلك بأن يحول مفهوم الصداقة إلى فكرة ناظمة لها قاعدة اجتماعية ومرتبطة بالتضامن مع بحثه في العوائق التي تعاني منها هذه القيم النبيلة والتي تدفع الناس إلى التضحية بها من أجل الفوز بالمنفعة وإرضاء بعض المآرب الشخصية الضيقة، زيادة على ذلك يراهن عليهما من أجل تحفيز وجود الكائن الآدمي في العالم وتدبير مدني للرابطة الاجتماعية ويبذل مجهودات كبيرة من أجل إنقاذهما من التهميش والنسيان، فما العلاقة القائمة والممكنة بين الصداقة والتضامن؟ فالي أيهما ينتصر غادامير؟ هل يؤثر الصداقة أم التضامن؟ ولمن الأسبقية يا ترى؟ وكيف يمكن أن نبني هوية اجتماعية عن طريق الربط التكاملي بين القيمتين معا؟
    النص المترجم:
    “ليس ثمة تقريبا فيلسوفا واحدا منذ القدم لم يترك لنا مذاهب أو خطابات أو كتابات عن الصداقة. لقد خصص أستاذ كل العارفين ،أرسطو ، في كل واحد من رسائله الإتيقية الثلاثة قسما مركزيا حول معنى الصداقة. أية مفارقة مع كانط، الشخص المحبوب والأستاذ الكبير للفكر الفلسفي، إذ لم يخصص سوى صفحة واحدة للصداقة في دروسه عن الأنثربولوجيا. صحيح أن ما أعلنه كان حقيقة ويدعو إلى التفكير ويمكن أن يُقرأ على النحو التالي:” الصديق الحقيقي هو أيضا نادر مثل التّم الأسود”.
    تدعونا كلمة كانط إلى التفكير في وظيفة الصداقة في مجتمعنا وفي غياب التضامن الطبيعي في مجتمع الكتلة في الزمن الذي يخصنا. عندئذ يكون من الفطنة أن نتذكر الإغريقيين. ويمكن أن يصير التوتر الموجود بين معاني الصداقة والتضامن منذ الآن معبرا جدا بحيث يشحذ فكرنا ويساعده على انجاز مهمته على أحسن وجه.
    لقد قال لي كارل ياسبرس، الذي سبقني في هايدلبورغ ،منذ 1930، أن عصرنا يتطلب مسؤولية مشتركة. لقد كان لفظا منذرا وقد صار رويدا رويدا حقيقة. في موضع آخر إنها حقيقة مرعبة أن هناك اليوم عدة عيادات حيث لا نحتفظ باسمها إلا بعد صبر، وإنما نحصل على رقمها. إن المسألة التي ينبغي أن نطرحها بجدية هي معرفة الكيفية التي تستمر بها الأشياء التي تحمل لنا السعادة وتتطور في أشكال جديدة من الحياة والتي ظهرت على اثر الثورة الصناعية. لا أملك الحدس الذي يسمح لي هنا للإعلان عن حِكًم كثيرة. لكن أريد مع ذلك أن أقدم بعض الملاحظات حول هذا التحول في الأشياء بالانطلاق من بعض الملاحظات التي ربما تساعدنا على التفكير. في كل الأحوال، لقد تبين لنا على التو بأن هناك حقيقة واحدة تغتني من التوترات بين مبحث الصداقة ومبحث التضامن.
    لقد مثل مفهوم الصداقة واحدا من المفاهيم التي تحتوي على كل ماهو نفيس بالنسبة إلينا. إن حد الفيليا philia في الإغريقية، تماما مثل حد الصداقة في لغتنا، يمتلك سلسلة من الدلالات. إن الصديق الحقيقي، هذا التِم الأسود عند كانط، هو بالفعل شيء نادر جدا. لكن استعمال الحد في الطيف الغني للّغة هو تردد جد مبتذل. إن اللّغة المتكلمة هي المستودع الحقيقي للتجربة الإنسانية مشكلةً بالنتيجة المادة الدائمة للفكر البشري.
    هكذا ربما نبذل مجهودات مضاعفة أكثر من القرون الماضية نحو تركيز انتباهنا على استعمالنا للغة والتفكير بواسطتها- لنتصور مثلا القرن18 حيث تم تطبيق أمر ما على أنه طقس حقيقي في الصداقة ووقع إظهاره بشكل أدبي- ونحو تركيز انتباهنا على استعمالنا للّغة والتفكير في اللغة. هكذا تكشف لنا اللغة بشكل إن جاز القول متضامن عن وجود توتر بين حدي الصداقة والتضامن. ورغم ذلك نحن نعلم من خلال نموذج الحياة الإغريقية حينما يتعلق المر بمسألة الصداقة كيف بقي تراثنا الإنسي خاضعا للنماذج الإغريقية. مَن منا لا يعرف الصداقة بين أخيل وباتروكل التي تقطع كل الإلياذة؟ كل واحد يعرف أيضا خطابات كاستور وبُولّيكس التي تذكرنا في سماء ليلي باللاإنفصال بين الأصدقاء.
    غير أن السؤال الذي يجب طرحه هو السؤال حول معرفة الصداقة الحقيقية ومعنى الصديق في عالم هو في نفس الوقت عالم المؤسسات المشتركة والضوابط الصلبة دائما، ولكنه أيضا عالم يكشف عن تنوع كبير جدا من النزاعات والانتظارات والتي تجعل الفعل المشترك ممكنا. نحن أنفسنا نعيش ،طبعا، في هذا العصر من المسؤولية المشتركة الذي سمح بميلاد عالم من الغرابة التكاملية بفضل أسلوبها الخاص في التنظيم. ينبغي في هذه الوضعية أن نتساءل عن الداعي الذي يحث على التضامن وما ينبغي أن يكون عليه هذا التضامن المعلن.
    إن فعل أعلن هنا هو ذو التباس مخصوص يدعونا إلى التأمل. وينبغي أن نعلن جهرة هنا عن شيء ما، ولكن أن يتضمن بالرغم من ذلك إلزاما بديهيا. انه من اللازم علينا أن نعترف أن ريبية كانط حول التِم الأسود لم يتم ابتداعها بكل تفاصيلها في عصره. إن الصديق الحقيقي وما يكونه وأن نعرف وفاء الصديق هو أمر يوجد متحققا في بنيتنا الاجتماعية بصورة نادرة جدا. بيد أنه يجب أن نعي الفعل الذي يجعلنا نعامل بنفس القدر الصداقة والتضامن ويسمح لنا أيضا بأن ندافع على هذه اللاإنفصالية.
    ينبغي أن نعترف أن التجمعات في حياة المجتمع الذي يخصنا تقود إلى أشكال من التضامن ومن ثمة إلى الزامات تكاملية. غير أن من جهة مقابلة ، هناك شيء آخر مثل الصداقة والتي لا نستطيع إلا أن نعيشها، لكن دون أن تكون لنا القدرة على تعريفها. إن الإغريقيين، الذين ذهبوا، نتذكر بالخصوص سقراط وأفلاطون وأرسطو، ولكي يتمكنوا من ابتداع تحديدات للمفاهيم سعوا علاوة على ذلك إلى عرض معنى الصداقة على فنهم في التمييز والتحديد الدقيق. يمكن أن نقرأ محاورة كاملة لأفلاطون حول هذا السؤال هي الليزيس lysis. إذ يتعلق الأمر بمقابلة بين سقراط وأزواج من الأطفال في ملعب رياضة بدنية، حيث كان محاطا بمرشديه وأصدقائه ومنافسيه مثلما جرت به العادة في النسق الإغريقي للتربية. عندئذ يسأل سقراط الأطفال عن معنى الصداقة:” أنتم أصدقاء جيدين، أليس كذلك؟ فمن هو الأكبر سنا منكم؟” – [ يجيبونه: ] “حسنا، سنتبارى هناك في الأسفل!” أي وقت ينفع إذا لم يوجد بعد سجل عمومي للحالة المدنية! وبعد ذلك يطلب منهم:”من منكم ينتسب إلى أفضل عائلة؟” يتفرق كلا المتزاحمين. وفي النهاية يطلب منهما:”من هو أجمل من بينكم؟”، يضطرب الاثنان ويستغرقان في الضحك.
    هنا ندرك كيف أدى حوار ما إلى اهتزاز ما يمثل المعنى الخاص للصداقة والسبب الذي على أساسه يكون المرء صديق جيدا لأحد ما وما يشكل صديقا حقيقيا. لكن ماهو واضح أيضا أنه ينبغي أن نتفطن إلى أن الأطفال، الذين هم رفاق لمحاور سقراط، مازالوا غير قادرين على معرفة الصديق ماهو. إن ما يعرفونه هو بالأحرى الصداقة الخاصة بالأطفال. إن ما دفع الأطفال إذن إلى تجاوز بعضهم البعض هو التنافس المتبجح بكامله. لقد استفاقت فيهم لذة الفكر عند مقابلة سقراط وأنجزوا الخطوة الأولى في الحياة. لكن ألسنا قادرين منذ الآن على معرفة ماذا تفيد الصداقة؟
    انه ليس من العجب أن نرى السؤال الأول لسقراط يدور حول معرفة إن كانت الصداقة تتأسس على الفعل الذي يجتمع به الشبيه مع شبيهه ( (le semblable s’assemble au semblable . هذا الأمر يمكن أن يقنع الشباب لكن أيضا لا يمكنه من القيام به حقيقة. من جهة أخرى هم يرون بسرعة أن الأمر لا يستمر. وربما العكس نفسه يكون صحيحا: يرتكز اختيار الصديق غالبا على التباين الذي ينبع من الفعل الذي يجعلنا نكتشف في الآخر ماهو مفضلا ومحبوبا بالنسبة إلينا. أو ألا يتعلق الأمر أيضا وفي العموم بالبحث عن نموذج في العالم حيث يكون الأطفال في الغالب ممزقين بين الخير والشر وبين الحسن والقبح؟
    أن نعثر على نموذج ، ربما هذا هو الذي نود أن نجده في الصديق، مثل كل ما يبدو لنا ثمينا ويؤهلنا لنكون أصدقاء. لكن ما ينجم عنه هو أننا لا نستطيع أيضا أن نحصل على إجابة حقيقية مع هؤلاء الأطفال. إنهم ينتهون من ناحية أخرى إلى التأكد من أن كل محاولاتهم لا تكلل بالنجاح.
    إن ما يؤسس الصداقة هو أمر ما على غاية من السرية وليس ماهو ظاهر في واضح النهار. إن الحد الإغريقي الذي يقترحه سقراط في هذا السياق لايمكن ترجمته بحق هو حد الأيكوين Oikeion ، أي حد ماهو منزلي أو أليف. بكل تأكيد، قد يشكل الأيكوس البنية الأساسية للاقتصاد عند القدامى. إن الاقتصاد wirtschaft هو إذن اقتصاد المنزلhauswirtschaft . أضف إلى ذلك لا تبدو مواصلة التصنيع الناشئ عن الاقتصاد خالية من أية سبب، بالقياس إلى أننا نستطيع الحديث عن أمر ما مشابه لذلك. هذا الحد الذي للاقتصاد Ökonomie يحوز على الألفة الكافية بحيث تجعله يعبر عن كل ما يعطي الإحساس بأننا داخل البيت حيث كل شيء يصبح أليفا بالنسبة ألينا. ما يؤسس هذه الألفة ليس الشبيه الذي يجتمع مع شبيهه ويكون عندئذ ثمينا، أو أن واحدا من الأصدقاء، الذي منحه الآخر الإعجاب ، ينتبه إلى تباينه ووقاره وحبه . كل هذا لا يساوي شيئا، ولكن بماذا يتعلق الأمر إذن؟
    بكل تأكيد ،لكي نَعْرِفَهُ على ما كان عليه فكر أفلاطون يجب علينا ربما أن نتوجه نحو أشخاص متقدمين في السن مثلما صنع سقراط في النهاية. لكن ينبغي أن نمنح الأطفال رخصة. لأن لهم مدربين جيدين ونفسانيينpaidotribes وأساتذة في الجمباز. حينئذ ينبغي على سقراط أن يتوجه نحو أشخاص متقدمين في السن ربما من أجل أن يتعلم منهم معنى الصداقة الحقيقية.
    أنه من الممكن أن يكون أفلاطون في يوم من الأيام قد أباح لسقراط بأن يجري حوارا مع ألسيبياد. كان ألسيبياد اسما معروفا من طرف الجميع أخذا بعين الاعتبار حسنه وفكره، ولكنه قد لعب دورا جد مريب ودقيقا في المواجهات الحربية الكبرى بين أثينا واسبرطة. دائما ما نحوز عليه هو محاورة بهذا الاسم وقع ذكرها في المدونةcorpus الأفلاطونية. وحتى وان لم يقع تحريرها من قبل أفلاطون نفسه فإنها أنجزت بشكل يقيني من قبل واحد من المريدين المعاصرين له. في كل الأحوال انه يستحق انتباها أكثر حتى من السؤال الوحيد حول “أصالته”.
    عندئذ يظهر الليزيس، في قليل من المحاورة التي استحضرناها ، ألسيبياد هذا الذي لعب دورا في الحرب البيلوبونية ، مثل شاب صغير وهو بصدد محاورة سقراط. لنر كيف يواجه سقراط شابا متكونا بشكل جيد وممتلئا بالطموح وينتهي إلى الوقوع تحت تأثيره. وعندما يدخل في حوار معه يظهر صوت الشاب الصغير كصوت واقعي وطموح. وبالفعل، يصرح ألسيبياد:” آه، كل ما حكيتموه حول موضوع العدالة والشجاعة والثبات ليس سوى ثرثرة فارغة. وكل ما يبقى هو بلوغ السلطة.
    عندئذ يبدأ حوار بيداغوجي طويل من جانب سقراط الذي هو نفسه تأثره بشكل بالغ وجلي بقوة الجذب الهائلة لهذا الشاب الجميل الموهوب والواعد جدا. لكنه أيضا يقع تحت ضغط مخاطر كبيرة تتخفى في حماسة مثل هذا الطموح وفي هذه الإرادة في السلطة. إن الحوار الذي ينطلق بواحد حيث يقود سقراط شريكه رويدا رويدا إلى اكتشاف أن الصداقة والصداقة الحقيقة هي بكل تأكيد شيء لا يمكن أن نضعه على نفس الميزان مع كل المنافسات حول السلطة والنزاعات حول التأثير، والثروة وكل الأشياء التي يجد فيها المرء الشاب متعة عندما يحلم بها. كل هذا لا وزن له قبالة ما يمثله أصدقاء حقيقين وما تكونه الصداقة الحقيقية.
    إن الفلاسفة الإغريق قد عولوا على جودة استعدادهم كلها لكي يظهروا أن هناك بالفعل عدة أشكال من هذه الصداقة. ومثلما رأينا في البداية هناك صداقة الأطفال التي وقع تمثيلها بشكل جيد مع كل تنافس صلف وأيضا بكل خجلها الرقيق. إن الأشكال الأولى من صداقة الحب التي تمنحها لنا الحياة ترجع عند هذا المرء الشاب بنمو ممتلئ. هذا يوجد في كل المجتمعات حتى في تلك التي لم يقع تنظيمها مثل المجتمع الإغريقي. لكن في النهاية تولد الصداقة الأصيلة، أي صداقة العمر كله، من صداقات الحب هذه وبعد ذلك من صداقة المرء الكهل والمستقل.
    عندئذ يمكن أن نلمح منذ بداية التفكير في هذه الصداقة أن الأمر لا يتعلق هنا بمفهوم مجرد حيث يجب أن نميزه في كل أشكاله عن الأجناس الدنيا. إن الانطباع الأول الذي يمكن أن نحوز عليه عند أرسطو هو انطباع التمييز إذن بين الصداقة التي يمكن تأسيسها على السعادة المادية واللذة الحسية وبالتالي على الإحساس بالإعجاب الذي يبديه الأصدقاء لبعضهم البعض. ويمكن أن نميز أيضا الصداقة التي تتأسس على الفائدة والمصلحة وما يمكن أن نسميه أصدقاء الخدمة أو الحزب، وهو مفهوم واسع جدا للصداقة بحيث لا نستطيع التعويل عليه في سياقات مختلفة. كل هذا هو بوضوح تام شكل من الصداقة.
    بيد أنه توجد أيضا الصداقة الحقيقيةvraie والمكتملة. ان الأمر يتعلق بالصداقة الحقةveritable ، ففيما تتمثل وماذا نريد أن نقولنا عندما نصرح أنها تنكشف من الأويكيون L’oikeion ؟
    ما نعني بهذا هو فعل الإحساس بالوجود بالبيت حيث لا نستطيع حقا أن نقول ماهو. هذا ما نعنيه كلنا بالمفهوم الذي يدوي بصورة أكثر ارتفاعا وأكثر ألفة عندما نتحدث عن الإقامة في الذات chez soi وعن الجزء. ماذا يعني هذا بالضبط؟
    إن هذا لا يعني شيئا ما ينبغي علي أن أكتبه بالطول وبالعرض. بالنسبة إليكم، أنتم كل الذين تمثلون الفورتسهايم pforzheim ،إن مدينتكم هي أحسن المدن وما يحيط بها هو الأكثر جمالا. نحن نعلم كلنا أن الوطن يمتلك شيئا ضاربا في القدمimmémorial . انه شيء ما حيث لا نستطيع أن نتكلم عن السبب الذي يجعل هذا الأمر يؤثر قدر من النفس والسبب الذي يجمع قدر من الناس. لكن عندما نعرف أن كل من الجزء والأصل ينسجان رابطا ونوعا من الجماعة وشكلا أصيلا من التضامن فإن هذا هو من البداهة هنا بحيث لا يحتاج إلى التأكيد هنا بأننا متضامنين. ونحن لا نسعى ولا نريد البتة أن نعرف ما يفترضه هذا.
    التفكير الإغريقي المتقهقر في جميع مؤسساته حتى وان عرف شكل حياة عمومية وتجمعات ونزاعات وحروب أهلية ومواجهات عنيفة، لكن دائما وأبدا غزوات جديدة للنظام الديمقراطي، فانه قد انقاد هنا إلى التساؤل عن سر هذه الألفة البيتية للوطن وللصلة التي تشدها إليه والتي لا يمكن تفسيرها بكون المشابه يجتمع مع المشابه والمباين مع المباينdissemblable au dissemblable أو من خلال البحث عن نموذج. ماذا يعني هذا حقا؟
    هنا ينبغي لكي نفهمه أن نتأمل الفكر العظيم الذي وقع إظهاره في البدء من طرف أفلاطون قبل أن يتم استعادته من طرف أرسطو. وقد وقع التعبير عنه في كلمة والتي ربما تسبب لنا الهلع، مثلما هذا قد حدث بكل تأكيد مع الإغريقيين أنفسهم الذين تأثروا وهي الفيلوتيا philautia، ، حب الذات. لأن الأمر يتعلق بهذا هنا أي بالنظر إلى حب الذات على أنه الأساس الحقيقي وشرط كل إلزام ممكن تجاه الآخر ولكل إلزام تجاه عين الذات.
    ينبغي في هذا السياق قول بعض الشيء أيضا عن موضوع التضامن solidarité وما ينبغي تأكيده هو أنه غير موجود في العصر لا من حيث الاسم ولا من حيث الواقع. فماذا يعني بحق الفيلوتيا philautia؟
    إن حب الذات يمتلك طبيعيا وبالنسبة إلينا دلالة سلبية جدا. نراها في الكوميديا الإغريقية وأيضا في وثائق أخرى. لأن هذا يبدو أنه يمثل رذيلة بالنسبة إلى الناس، وفي اغلب الحيان هو هزلي جدا ولكن في نفس الوقت مخيف جدا، وهو لا يفكر إلا في نفسه وليس في غيره وفي وضعيته. إن أفلاطون هنا كانت له شجاعة القول ليعبر عنه في لغة تصلح ليس فقط له بل لنا ولكل العالم، كلا ، إن حب الذات الحقيقي هو شيء جد مختلف. يتمثل في الفعل الذي يجب دائما أن نكون متوافقين معه.
    ينبغي أن نكون دائما متوافقين مع أنفسنا إذا ما أردنا أن نربط صداقة مع شخص آخر أو محب بسيط وصديق أعمال أو مجرد زميل في الشغل. ان من لا يقدر على أن يكون في وفاق مع عين ذاته حيث كان يثبت أن الحياة العمومية مع الغير هي عائق وغرابة. لكن شيء واحد مضمون هو العودة إلى الذاتchez soi والبيت، انه مكان الحياة العمومية. هذا لا يعني البتة بأنه ثمة توافق على صعيد النزاعات والمصالح. ليس هذا بالضبط ما ينبغي أخذه بعين الحسبان وليس حتى ما ينبغي أن نرنو إلى تسميته منذ الوهلة الأولى عندما نتساءل: لماذا يكون واحد غاليا عندي؟ هل لأنه يتقاسم معي العديد من الأشياء التي تكون غالية بالنسبة إلي؟ هل لأنها أيضا مشابهة لي؟ كلا ، ليست وحدة الإقرار هي ما يهم. لنفكر أيضا في النماذج الكبرى للصداقة الإغريقية والذين كانوا أزواج من الأصدقاء تعاونوا على قتل الطغاة وقد لعبوا دورا جد معتبر في الحياة العمومية في أثينا في نفس الوقت بوصفهم صرحا ونموذجا ونذيرا. لنفكر أيضا في هذه الصداقات بين الشباب والذين يمكن أن نقول عنهم بالألمانية أنهم يشكلون قلبا واحدا وروحا واحدة. هنا يطلق الإغريق تسمية mia psychèعلى روح واحدة.
    هل يكون هذا هو الصداقة الحقيقية؟ كلا، ليست هذه أبدا. تتمثل الأطروحة المغامرة في القول بأننا في حاجة منذ البدء إلى صداقة مع ذواتنا عينها. إن هذا هو الضروري إذا ما أردنا أن نكون هناك بالنسبة إلى الآخر ومتصلين به حقيقة. مثل هذا كم هو بعيد عما يمكن أن نسميه اليوم إلزاما أو رابطا ضاغطا !
    انه هكذا أحب أنا نفسي أن أتبع هذه الخطوة الهامة التي وقع استكمالها من طرف الفكر الإغريقي والتي قادته إلى الفيلوتيا philauti . انه فعل فكر تم إبعاده كليا من العالم المحيط ولكنه يصارع في نفس الوقت بانفعال من أجل حريته وشكله في الحياة مثلما فعل الإغريق بالنسبة إلينا في هذا الحدث المقدر الذي هو الحروب الميدية médiques . إن أوروبا تظل هي أوروبا لأن هذا الشكل من التماسك المعاش بأصالة في الحياة الإغريقية يمتلك شيئا فريدا متعارضا مع المبارزة القادمة من الشرق.إنها ليست سوى تفكير في مسارح الوداع بين الأب والابن التي شهدتها إلى حد القرن الرابع والتي يمكن أن نشاهدها في متاحف الأركيولوجيا. لنبدأ في مشاهدة إلى أين سيقودنا هذاعوض أن نتابع هذا التفكير إلى الحد الأقصى. إننا نتساءل عما يعنيه أيكوس ، وان كان عودة حقيقية إلى الذات ومن ثمة صداقة حقيقية.
    لا نستطيع القول أن هذا يمتلك شيئا خاصا، شيء ما يعجبني جدا ويجعل منه بهذا الأمر صديقا لي. يجب في مجتمعنا أن نفكر بشكل طبيعي أيضا في الصداقة بين الرجل والمرأة على غرار ماهو موجود بين الأب والابن. ينبغي دائما أن نعترف أن زواج الصداقة والصداقة في الزواج هي واحدة من الامتحانات الكبيرة للحياة الإنسانية حيث الوجود المشتركêtre-ensemble والحدس التكاملي يتشكلان بالتصاق مع الاختلاف والغيرية والآخر وغيرية الآخر. هذا بالضبط ما رآه أفلاطون في الحوار مع ألسيبياد ولكن فقط عن طريق إخفاقه. إن مقابلة ألسيبياد لم تقد إلى نجاح دائم في الحياة. سقراط قام بإشارة مع كثير من الشعور بالغبن في خاتمة الحوار بقوله أن كل غرابة يشعر بها أيضا تطلعه على النقطة يظل فيها المرء الشاب مهتما بالسلطة والطموح. دائما كان سقراط يريد قيادته نحو الطريق الذي ينهيه قبل أن يكتب مثلما يعرف يقينا كل قارئ إغريقي. ففي ما يتمثل هذا الطريق؟ القصة مشهورة، سقراط قال: ينبغي علينا أن نتدرب على معرفة أنفسنا بأنفسنا. نحن نعرف الحكمة الشهيرة لمعبد دلف التي ما انفكت تذكر الإنسان بأن يعرف نفسه بنفسه. هذا يعني أن تعترف أنك لست سوى إنسان وليس مبعوثا من قبل العناية الإلهية أو كائن موهوبا بكاريزما خاصة تمنحك من هذا المنطلق أفضلية ونصر ونجاح بمعزل عن كل الالزامات الإنسانية. لاشيء من كل هذا.
    بيد أن مبحث الصداقة هو بشكل واضح الذي قاد أرسطو إلى إضافة ما يلي: من أجل نعرف أنفسنا في الآخر am Anderen) ) ويعرف الآخر أيضا نفسه فينا (an uns) . لا ينبغي أن يمتد هذا إلى التعامل مع الغير كمقولة فقط لأنه هو أيضا كائن. ينبغي أن يمتد هذا أيضا وبالتحديد إلى المعنى الذي نعترف فيه باختلاف الواحد عن الآخر، بصورة تسمح لنا أن نقول لو تحدثنا مثل دراوزن: “انه هكذا ينبغي عليك أن تكون لأنه هكذا أحبك”. باختصار هذه هي الصداقة الحقيقية. أرسطو يقول أن الأمر يتعلق بصداقة متأسسة على الفضيلة Arètè . لكن ماهي الفضيلة؟ في الواقع الفضيلة هي امتياز، حسب الترجمة التي تم اقتراحها من طرف فولفغان شادوالدت. ماهو الامتياز؟ لا يمكن الوصول إلى فهمه إلا بالتذكر بأن الأمر يتعلق باسم تفضيل. يعني أمر ما لا يمكن الاستمرار في تنميته. بكل تأكيد لا أحد يمتلك شيئا من هذا القبيل. والعمق الحقيقي لمعرفة الذات هذه يعود إلى الفعل الذي لا نعرف في أية نقطة نظل سجناء حبنا لأنفسنا،حتى وان بقينا نعتقد أننا أصدقاء أوفياء للآخر. لكن إذا كان التوافق الصحيح مع عين الذات هو نفسه الشرط الأولي للصداقة الصحيحة ففيم تتمثل إذن الصداقة؟ وعلى ماذا يتأسس الأويكيون L’oikeion؟
    الأويكيون L’oikeionيقدم نفسه في كل مرة وفي كل يوم بصورة مختلفة حسب تغير أشكال الصداقة، بتفهم الصداقة بين الأطفال وصداقة الحب وصداقة الشباب الأولى والصداقة المهنية والصداقة التي تنتج عن تأسيس مجتمع العائلة- حيث يمتزج الربح بالتنازل. ألا يتعلق الأمر بأجناس من المفهوم الكوني للحب؟ ليس الأمر كذلك. لقد طور الإغريق هنا فكرا له أهمية حاسمة، فكر التناسب والجماعة المتأسسة على التناسب. لقد حصل للمرة الأولى على أهمية من الطراز الأول في الأكاديمية وعند أرسطو، لكنه ذاع صيته بالخصوص عن طريق الدوغمائية المسيحية لأنه سمح لها بتصور الصلة بين المخلوق والخالق.
    إن التناسب يسمح بالفعل بالتفكير المشترك في ما لا يقارنincomparable بإدراجه رغم كل شيء ضمن ما يقارنcomparable . إن هذا هو الذي يكمله دائما التناسب.هكذا يعلمنا رؤية الصداقة بين الأطفال على أنها ليست فقط هذه المباراة حيث يبحث الواحد منا على إظهار قدرته على شيء ما للآخر. كلا، إنها لا تتضمن سلفا شيء ما من الجماعة والتكامل حاضرا بشكل فعلي في كل مباراة. بالقياس إلى ذلك هذه المباراة هي سلفا مباراة في الصداقة لكنها لن تصبح مع ذلك صداقة حقيقية إلا عندما تبدأ في تشكيل جماعة طوال العمر كله، وهي طبعا مازالت غير موجودة على صعيد صداقة الأطفال. كل واحد يعرف هنا السرعة التي نتصارع بواسطتها ونتصالح عندما تظهر جماعات جديدة.
    هناك بعد ذلك صداقة المراهقة والتي تنتهي بانبثاق صداقة العمر كله. دون شك تحوز صداقة العمر كله دائما على شيء لا يمكن بلوغهinatteignable ، في نفس عنوان الأصالة والحقيقة والحميمي والكمال وفي النهاية الخير الأسمىBien . هذه البنية موجودة بطريقة حسنة في مجالات أخرى. استحضر مثال الصحة. انه مثال كان قد ذكره أرسطو سابقا وقال بشأنه ما يلي: إن الصحة ليست التغذية ولا الحمرة الخاصة للوجه ، وهي لم تكن البتة الإنسان في مجموعه. فماهي الصحة إذن؟
    كل هذا يبقي أيضا ملغزا، لكن كل هذا يجد في الصحة نقطة تظافر. إن هذا هو ما ننظر إليه عندما نتحدث عن الصحة، لكن لا أحد يمكنه أن يقول لنا على ماذا تتأسس. إن المعايير النمطية [ التي نقيس الحالة الصحية اليوم بواسطتها ] ليست سوى مؤشرات اتفاقية من نظام اصطناعي. إن الصحة نفسها تند عن كل ملاحظة. وهنالك عدة أشياء هي على هذا المنوال. لقد رأى الإغريق تحديدا أن الوجود في حد ذاته، هذا المفهوم الميتافيزيقي الأساسي، لا يمكن أن يكون مفهوما بوصفه نوع أعلى يمكن أن يفترق [ إلى عدة أجناس]. لو أردنا أن نقول فإن الوجود هو بالأحرى شيء ما يمكن أن يظهر في وضوح اللحظة مع لمعان شديد يعلن عن نفسه في نظرة الحالم بالمسافات البعيدة للديمومة أو للأبدية.
    هكذا ليس ثمة أدنى شك من أن الصداقة الحقيقية تحوز بتدقيق بالغ على الخصوصي الذي يُذَكّر به بشكل ما كل واحد منا الآخر عن درجة تطابقه مع النموذج المثالي حتى وان كان هذا المثال ربما يصلح له فقط في القياس داخليا. لنتجه لحظة واحدة نحو بؤسنا الخاص. ماذا يمكن أن يعني كل هذا بالنسبة إلى مجتمع أصبح نكرة ، وعلى ماذا تدل ضرورة وجود كتلة معقلنة أكثر فأكثر والتي تشكل ،يقينا، جزء من الحساب رغم كل ما أحدثته من تحريف، والتي بدونها لن يكون هناك اقتصاد كوكبي؟ ألسنا محرومين عندئذ بشدة من كثير من الأشياء الجوهرية التي يمكن أن تساعدنا على أن نتعارف أكثر؟
    نحن نعلن أننا متضامنين مع أمر ما أو نشعر إننا متضامنين. انه منذ اللحظة التي أعود فيها إلي روح الأشياء الراجعة بالنظر تحديدا إلى تجربتي الخاصة في الحياة وأنا متيقن من أن المتقدم منكم في العمر قد عاش أمرا ما مشابها: أفكر لاسيما في الطريقة التي أيقظت بها القنابل أثناء الحرب تضامنا ما. فجأة يستيقظ الجار ،هذا الغريب الذي ظل بالفعل مجهولا في شروط الحياة لمدننا، على وجود جديد.
    على هذا النحو يدفع البؤس، وبالخصوص البؤس الذي يهم الجميع، إلى الإسهام في انبثاق إمكانات غير مشكوك فيها للإحساس بالتضامن وبالفعل التضامني. لكن الأشياء في هذه الوضعية لا تمر مثلما يمكن أن يوحي به حد التضامن بالنسبة إلينا اليوم. ماذا نريد أن نقول بصدق عندما نتحدث هنا عن التضامن؟
    من الطبيعي أن يوجد وراء العبارة الحد اللاتيني solidum ، الذي يلعب أيضا دورا عندما نتحدث عن التخفيض. يريد الحد أن يقول هنا أن ماهو هام في التخفيض لن نحصل عليه من النقود المزيفة . بل من العملة الثابتة. يبحث الحد إذن عن التعبير عن رابط صلب وموثوق وبالتحديد في الوضعيات حيث الفارق في المصالح وشروط الحياة يمكنها أن تدفعنا إلى إتباع مصالحنا الخاصة وإبعاد الوجود الأحسن للآخر إلى المستوى الأدني.
    إن حد التضامن يكشف إذن عن حقل سيميائي ملتبس جدا. وفي كل الأحوال هناك في التضامن الذي نعلنه، بحرية أو تحت الضغط، ، تخلي عن امتيازات ومصالح مباشرة جدا. إننا نكون في التضامن مستعدين إلى التنازل عن شيء ما في بعض الجوانب وبعض اللحظات وفي سبيل غايات محددة. اننا ندرك على التو الصالح والطالح في مجتمعنا. وعندما أتحدث عن الالتباس فإن ذلك ليس دون سبب معقول. وإذا كانت ديمقراطيتنا التمثيلية تسبب لنا اليوم الكثير من الهموم فإن ذلك مرده نقص في التضامن عند الناخب.
    نحن نحوز على أسباب جيدة لكي نعترف بأن التنظيمات السياسية كما هي ينبغي أن تساعد على الوعي بالتضامن وأن تظهر أيضا تحريضا مخصوصا عليه. على سبيل المثال نفكر في التربية الحزبية التي يصعب أن نحافظ عليها في وضعيات متعددة من الحياة السياسية حيث نكون على وجهة نظر مغايرة للأغلبية في الحزب الذي يخصنا. لكن مبدأ الديمقراطية يستوجب على الأقل أن تظل هناك إمكانية للفعل المشترك في حدود معينة والذي ينبغي أن نسعى إلى القيام بها. لنفكر أيضا في الإحساس بالاحترام تجاه الترتيبات في قواعد السير على الطرقات والتي تحصد عواقب الإخلال بها على الفور. أحب أن أؤكد فقط أن كل انتباهنا يجب أن يكون منصبا حول شيء واحد: التضامن الأصيل يجب أن يصير موضوع وعي وعلى هذا النحو فقط وليس بغيره يمكن أن ينتج العديد من الثمار.
    لنأخذ بعين الاعتبار مثال التعادليةGerichtsbarkeit . لقد تفننا في مهاجمتها في السابق وربما لن يكون دائما ولكنها لا تمتلك بالكثير أو القليل صلاحية ضاغطة. لقد قدمت لنا ايطاليا منذ زمان مثالا. انه من الضروري أن نحسن النظر إلى أن التضامن الأصيل يتطلب أفرادا جاهزين للمهنة وللدفاع. وإلا فأن الطبقة السياسية تظل هي نفسها معزولة برمتها. ينبغي أيضا أن تدفعنا دلالة اللفظ إلى التفكير في المجال الحربي وفي وفاء الجندي الذي يقتضي منا في حالة الحرب تضامنا أثناء الحياة وأثناء الموت. هكذا أيضا وقع استعادة فكرة التخفيض في الحد وفي حياة الجندي. ليس هناك أدنى شك أن هناك شيئا ما جماعي بين الناس يجعل من الصحبة أمرا ينبغي أن يستمر.
    واقع أننا لسنا منتوجات التطور هو الذي يجعل كل القرارات خاضعة التسجيل الغريزي المسبق وهو الذي يشبه حالة الطيور التي تحلق في فترة الحضانة في جميع الاتجاهات دون كلل من أجل أن تأكل صغارها. نحن بني الإنسان ملزمين أكثر بمواجهة حتمية الاختيار ونوجد بفعل هذا الواقع المعروض أمام إمكانية القيام بالاختيار السيئ. كنت أتمنى أن أتمكن من التماس عبقرية اللغة من أجل توضيح حد التضامن ولهذا السبب اتخذت قرارا بترجمة المفهوم الإغريقي للفيليا philia. أعتقد أن هذا المعنى حول التضامن يمتلك تاريخا قبليا طويلا يسير جنبا إلى جنب مع مجتمع الكتلة. والحق أن الأمر يتعلق بكلمة جديدة كليا والتي لم يمر أكثر من قرن على وجودها. لكن هذا بالتحديد الذي يجعل منها أيضا شيئا لامعا.
    إن ما يشير إليه التضامن هنا هو الرضا في إطار الحب، الذي هو بكل تأكيد أمر محدود مثل كل شيء، لكنه لا يتطلب سوى استثمار إرادتنا الطيبة كلها. إنها واجبات هامة مطروحة علينا سواء تمثلت في أن نكون في وفاق مع عين ذواتنا أو أن نبقي في وفاق مع الآخر. ليس ثمة قوة طبيعية يمكنها أن تقوم بها لنا. لهذا فإن الأمر يحتاج إلى معرفة الذات ومعرفة النماذج التي يمكن أن نتعلمها باقتدار.”
    المرجع:
    H-G. Gadamer, esquisses herméneutiques, essais et conférences, traduction Jean Grondin, éditions VRIN, Paris , 2004.
    كاتب فلسفي
    وطني علمني ان حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء
    وطني علمني ان التاريخ البشري بدون حب عويل ونكاح في الصحراءhttp://www.wahitalibdaa.com/image.ph...ine=1272034613

  • #2
    الصداقة والتضامن عند هانس جورج غادامير

    الصداقة والتضامن عند هانس جورج غادامير
    ترجمة وتقديم زهير الخويلدي
    تثبت التجربة التاريخية للنوع الآدمي أن العلاقة بين الإنسان والآخر- فردا أو جماعة- تتراوح بين التقارب والتباغض وتشهد موجات من المد حينا والجزر أحيانا، وبالتالي فإن المنطق الطارئ هو التنازع والعداء وأن الناس في حياتهم اليومية كثيرا ما ينزعون نحو العدوان ويستبعدون المغاير ويستهجنون المباين ويبحثون عن النظير ويقتربون من الشبيه ويألفون المماثل.
    لكن في المقابل يظل المنطق المحبذ والمأمول هو التآنس والتوادد والابتعاد عن الفرقة والتعادي، ذلك أن المرء يرفض أن يعيش منعزلا ويسعى إلى أن يكسب أصدقاء ويرى الحاجة إلى التواصل مع الآخر أمرا هيكليا في وجود ه ولذلك يحتاج إلى الانفتاح مع العالم الخارجي وربط علاقات تضامن وتعاطف وتعاون مع الناس وإقامة صداقات مع شخصيات متعددة، فبماذا نفسر حاجة الإنسان إلى تجسيم مفهوم الصداقة على أرض الواقع؟ وماهي دلالات ومعان الصداقة؟ وهل هي تعبير عن حب عاطفي أم التزام بقيمة ثابتة؟ وما الفرق بين صداقة الأطفال وصداقة الكهول؟ وهل تحقق الصداقة التواصل بين الأنا والآخر أم أنها تمكن الإنسان من معرفة ذاته وتحقيق إنيته؟ لماذا ظلت الصداقة عملة نادرا في عصر العولمة؟ وكيف نفسر تفشي الذاتوية والأنانية وتراجع مشاعر التضامن والتعاضد بين الناس في العصر ما بعد الصناعي؟
    في هذا النص يحاول جورج هانس غادامير فيلسوف الهرمينوتيقا والإتيقا أن يجيب على هذه الإشكاليات وذلك بأن يحول مفهوم الصداقة إلى فكرة ناظمة لها قاعدة اجتماعية ومرتبطة بالتضامن مع بحثه في العوائق التي تعاني منها هذه القيم النبيلة والتي تدفع الناس إلى التضحية بها من أجل الفوز بالمنفعة وإرضاء بعض المآرب الشخصية الضيقة، زيادة على ذلك يراهن عليهما من أجل تحفيز وجود الكائن الآدمي في العالم وتدبير مدني للرابطة الاجتماعية ويبذل مجهودات كبيرة من أجل إنقاذهما من التهميش والنسيان، فما العلاقة القائمة والممكنة بين الصداقة والتضامن؟ فالي أيهما ينتصر غادامير؟ هل يؤثر الصداقة أم التضامن؟ ولمن الأسبقية يا ترى؟ وكيف يمكن أن نبني هوية اجتماعية عن طريق الربط التكاملي بين القيمتين معا؟
    النص المترجم:
    “ليس ثمة تقريبا فيلسوفا واحدا منذ القدم لم يترك لنا مذاهب أو خطابات أو كتابات عن الصداقة. لقد خصص أستاذ كل العارفين ،أرسطو ، في كل واحد من رسائله الإتيقية الثلاثة قسما مركزيا حول معنى الصداقة. أية مفارقة مع كانط، الشخص المحبوب والأستاذ الكبير للفكر الفلسفي، إذ لم يخصص سوى صفحة واحدة للصداقة في دروسه عن الأنثربولوجيا. صحيح أن ما أعلنه كان حقيقة ويدعو إلى التفكير ويمكن أن يُقرأ على النحو التالي:” الصديق الحقيقي هو أيضا نادر مثل التّم الأسود”.
    تدعونا كلمة كانط إلى التفكير في وظيفة الصداقة في مجتمعنا وفي غياب التضامن الطبيعي في مجتمع الكتلة في الزمن الذي يخصنا. عندئذ يكون من الفطنة أن نتذكر الإغريقيين. ويمكن أن يصير التوتر الموجود بين معاني الصداقة والتضامن منذ الآن معبرا جدا بحيث يشحذ فكرنا ويساعده على انجاز مهمته على أحسن وجه.
    لقد قال لي كارل ياسبرس، الذي سبقني في هايدلبورغ ،منذ 1930، أن عصرنا يتطلب مسؤولية مشتركة. لقد كان لفظا منذرا وقد صار رويدا رويدا حقيقة. في موضع آخر إنها حقيقة مرعبة أن هناك اليوم عدة عيادات حيث لا نحتفظ باسمها إلا بعد صبر، وإنما نحصل على رقمها. إن المسألة التي ينبغي أن نطرحها بجدية هي معرفة الكيفية التي تستمر بها الأشياء التي تحمل لنا السعادة وتتطور في أشكال جديدة من الحياة والتي ظهرت على اثر الثورة الصناعية. لا أملك الحدس الذي يسمح لي هنا للإعلان عن حِكًم كثيرة. لكن أريد مع ذلك أن أقدم بعض الملاحظات حول هذا التحول في الأشياء بالانطلاق من بعض الملاحظات التي ربما تساعدنا على التفكير. في كل الأحوال، لقد تبين لنا على التو بأن هناك حقيقة واحدة تغتني من التوترات بين مبحث الصداقة ومبحث التضامن.
    لقد مثل مفهوم الصداقة واحدا من المفاهيم التي تحتوي على كل ماهو نفيس بالنسبة إلينا. إن حد الفيليا philia في الإغريقية، تماما مثل حد الصداقة في لغتنا، يمتلك سلسلة من الدلالات. إن الصديق الحقيقي، هذا التِم الأسود عند كانط، هو بالفعل شيء نادر جدا. لكن استعمال الحد في الطيف الغني للّغة هو تردد جد مبتذل. إن اللّغة المتكلمة هي المستودع الحقيقي للتجربة الإنسانية مشكلةً بالنتيجة المادة الدائمة للفكر البشري.
    هكذا ربما نبذل مجهودات مضاعفة أكثر من القرون الماضية نحو تركيز انتباهنا على استعمالنا للغة والتفكير بواسطتها- لنتصور مثلا القرن18 حيث تم تطبيق أمر ما على أنه طقس حقيقي في الصداقة ووقع إظهاره بشكل أدبي- ونحو تركيز انتباهنا على استعمالنا للّغة والتفكير في اللغة. هكذا تكشف لنا اللغة بشكل إن جاز القول متضامن عن وجود توتر بين حدي الصداقة والتضامن. ورغم ذلك نحن نعلم من خلال نموذج الحياة الإغريقية حينما يتعلق المر بمسألة الصداقة كيف بقي تراثنا الإنسي خاضعا للنماذج الإغريقية. مَن منا لا يعرف الصداقة بين أخيل وباتروكل التي تقطع كل الإلياذة؟ كل واحد يعرف أيضا خطابات كاستور وبُولّيكس التي تذكرنا في سماء ليلي باللاإنفصال بين الأصدقاء.
    غير أن السؤال الذي يجب طرحه هو السؤال حول معرفة الصداقة الحقيقية ومعنى الصديق في عالم هو في نفس الوقت عالم المؤسسات المشتركة والضوابط الصلبة دائما، ولكنه أيضا عالم يكشف عن تنوع كبير جدا من النزاعات والانتظارات والتي تجعل الفعل المشترك ممكنا. نحن أنفسنا نعيش ،طبعا، في هذا العصر من المسؤولية المشتركة الذي سمح بميلاد عالم من الغرابة التكاملية بفضل أسلوبها الخاص في التنظيم. ينبغي في هذه الوضعية أن نتساءل عن الداعي الذي يحث على التضامن وما ينبغي أن يكون عليه هذا التضامن المعلن.
    إن فعل أعلن هنا هو ذو التباس مخصوص يدعونا إلى التأمل. وينبغي أن نعلن جهرة هنا عن شيء ما، ولكن أن يتضمن بالرغم من ذلك إلزاما بديهيا. انه من اللازم علينا أن نعترف أن ريبية كانط حول التِم الأسود لم يتم ابتداعها بكل تفاصيلها في عصره. إن الصديق الحقيقي وما يكونه وأن نعرف وفاء الصديق هو أمر يوجد متحققا في بنيتنا الاجتماعية بصورة نادرة جدا. بيد أنه يجب أن نعي الفعل الذي يجعلنا نعامل بنفس القدر الصداقة والتضامن ويسمح لنا أيضا بأن ندافع على هذه اللاإنفصالية.
    ينبغي أن نعترف أن التجمعات في حياة المجتمع الذي يخصنا تقود إلى أشكال من التضامن ومن ثمة إلى الزامات تكاملية. غير أن من جهة مقابلة ، هناك شيء آخر مثل الصداقة والتي لا نستطيع إلا أن نعيشها، لكن دون أن تكون لنا القدرة على تعريفها. إن الإغريقيين، الذين ذهبوا، نتذكر بالخصوص سقراط وأفلاطون وأرسطو، ولكي يتمكنوا من ابتداع تحديدات للمفاهيم سعوا علاوة على ذلك إلى عرض معنى الصداقة على فنهم في التمييز والتحديد الدقيق. يمكن أن نقرأ محاورة كاملة لأفلاطون حول هذا السؤال هي الليزيس lysis. إذ يتعلق الأمر بمقابلة بين سقراط وأزواج من الأطفال في ملعب رياضة بدنية، حيث كان محاطا بمرشديه وأصدقائه ومنافسيه مثلما جرت به العادة في النسق الإغريقي للتربية. عندئذ يسأل سقراط الأطفال عن معنى الصداقة:” أنتم أصدقاء جيدين، أليس كذلك؟ فمن هو الأكبر سنا منكم؟” – [ يجيبونه: ] “حسنا، سنتبارى هناك في الأسفل!” أي وقت ينفع إذا لم يوجد بعد سجل عمومي للحالة المدنية! وبعد ذلك يطلب منهم:”من منكم ينتسب إلى أفضل عائلة؟” يتفرق كلا المتزاحمين. وفي النهاية يطلب منهما:”من هو أجمل من بينكم؟”، يضطرب الاثنان ويستغرقان في الضحك.
    هنا ندرك كيف أدى حوار ما إلى اهتزاز ما يمثل المعنى الخاص للصداقة والسبب الذي على أساسه يكون المرء صديق جيدا لأحد ما وما يشكل صديقا حقيقيا. لكن ماهو واضح أيضا أنه ينبغي أن نتفطن إلى أن الأطفال، الذين هم رفاق لمحاور سقراط، مازالوا غير قادرين على معرفة الصديق ماهو. إن ما يعرفونه هو بالأحرى الصداقة الخاصة بالأطفال. إن ما دفع الأطفال إذن إلى تجاوز بعضهم البعض هو التنافس المتبجح بكامله. لقد استفاقت فيهم لذة الفكر عند مقابلة سقراط وأنجزوا الخطوة الأولى في الحياة. لكن ألسنا قادرين منذ الآن على معرفة ماذا تفيد الصداقة؟
    انه ليس من العجب أن نرى السؤال الأول لسقراط يدور حول معرفة إن كانت الصداقة تتأسس على الفعل الذي يجتمع به الشبيه مع شبيهه ( (le semblable s’assemble au semblable . هذا الأمر يمكن أن يقنع الشباب لكن أيضا لا يمكنه من القيام به حقيقة. من جهة أخرى هم يرون بسرعة أن الأمر لا يستمر. وربما العكس نفسه يكون صحيحا: يرتكز اختيار الصديق غالبا على التباين الذي ينبع من الفعل الذي يجعلنا نكتشف في الآخر ماهو مفضلا ومحبوبا بالنسبة إلينا. أو ألا يتعلق الأمر أيضا وفي العموم بالبحث عن نموذج في العالم حيث يكون الأطفال في الغالب ممزقين بين الخير والشر وبين الحسن والقبح؟
    أن نعثر على نموذج ، ربما هذا هو الذي نود أن نجده في الصديق، مثل كل ما يبدو لنا ثمينا ويؤهلنا لنكون أصدقاء. لكن ما ينجم عنه هو أننا لا نستطيع أيضا أن نحصل على إجابة حقيقية مع هؤلاء الأطفال. إنهم ينتهون من ناحية أخرى إلى التأكد من أن كل محاولاتهم لا تكلل بالنجاح.
    إن ما يؤسس الصداقة هو أمر ما على غاية من السرية وليس ماهو ظاهر في واضح النهار. إن الحد الإغريقي الذي يقترحه سقراط في هذا السياق لايمكن ترجمته بحق هو حد الأيكوين Oikeion ، أي حد ماهو منزلي أو أليف. بكل تأكيد، قد يشكل الأيكوس البنية الأساسية للاقتصاد عند القدامى. إن الاقتصاد wirtschaft هو إذن اقتصاد المنزلhauswirtschaft . أضف إلى ذلك لا تبدو مواصلة التصنيع الناشئ عن الاقتصاد خالية من أية سبب، بالقياس إلى أننا نستطيع الحديث عن أمر ما مشابه لذلك. هذا الحد الذي للاقتصاد Ökonomie يحوز على الألفة الكافية بحيث تجعله يعبر عن كل ما يعطي الإحساس بأننا داخل البيت حيث كل شيء يصبح أليفا بالنسبة ألينا. ما يؤسس هذه الألفة ليس الشبيه الذي يجتمع مع شبيهه ويكون عندئذ ثمينا، أو أن واحدا من الأصدقاء، الذي منحه الآخر الإعجاب ، ينتبه إلى تباينه ووقاره وحبه . كل هذا لا يساوي شيئا، ولكن بماذا يتعلق الأمر إذن؟
    بكل تأكيد ،لكي نَعْرِفَهُ على ما كان عليه فكر أفلاطون يجب علينا ربما أن نتوجه نحو أشخاص متقدمين في السن مثلما صنع سقراط في النهاية. لكن ينبغي أن نمنح الأطفال رخصة. لأن لهم مدربين جيدين ونفسانيينpaidotribes وأساتذة في الجمباز. حينئذ ينبغي على سقراط أن يتوجه نحو أشخاص متقدمين في السن ربما من أجل أن يتعلم منهم معنى الصداقة الحقيقية.
    أنه من الممكن أن يكون أفلاطون في يوم من الأيام قد أباح لسقراط بأن يجري حوارا مع ألسيبياد. كان ألسيبياد اسما معروفا من طرف الجميع أخذا بعين الاعتبار حسنه وفكره، ولكنه قد لعب دورا جد مريب ودقيقا في المواجهات الحربية الكبرى بين أثينا واسبرطة. دائما ما نحوز عليه هو محاورة بهذا الاسم وقع ذكرها في المدونةcorpus الأفلاطونية. وحتى وان لم يقع تحريرها من قبل أفلاطون نفسه فإنها أنجزت بشكل يقيني من قبل واحد من المريدين المعاصرين له. في كل الأحوال انه يستحق انتباها أكثر حتى من السؤال الوحيد حول “أصالته”.
    عندئذ يظهر الليزيس، في قليل من المحاورة التي استحضرناها ، ألسيبياد هذا الذي لعب دورا في الحرب البيلوبونية ، مثل شاب صغير وهو بصدد محاورة سقراط. لنر كيف يواجه سقراط شابا متكونا بشكل جيد وممتلئا بالطموح وينتهي إلى الوقوع تحت تأثيره. وعندما يدخل في حوار معه يظهر صوت الشاب الصغير كصوت واقعي وطموح. وبالفعل، يصرح ألسيبياد:” آه، كل ما حكيتموه حول موضوع العدالة والشجاعة والثبات ليس سوى ثرثرة فارغة. وكل ما يبقى هو بلوغ السلطة.
    عندئذ يبدأ حوار بيداغوجي طويل من جانب سقراط الذي هو نفسه تأثره بشكل بالغ وجلي بقوة الجذب الهائلة لهذا الشاب الجميل الموهوب والواعد جدا. لكنه أيضا يقع تحت ضغط مخاطر كبيرة تتخفى في حماسة مثل هذا الطموح وفي هذه الإرادة في السلطة. إن الحوار الذي ينطلق بواحد حيث يقود سقراط شريكه رويدا رويدا إلى اكتشاف أن الصداقة والصداقة الحقيقة هي بكل تأكيد شيء لا يمكن أن نضعه على نفس الميزان مع كل المنافسات حول السلطة والنزاعات حول التأثير، والثروة وكل الأشياء التي يجد فيها المرء الشاب متعة عندما يحلم بها. كل هذا لا وزن له قبالة ما يمثله أصدقاء حقيقين وما تكونه الصداقة الحقيقية.
    إن الفلاسفة الإغريق قد عولوا على جودة استعدادهم كلها لكي يظهروا أن هناك بالفعل عدة أشكال من هذه الصداقة. ومثلما رأينا في البداية هناك صداقة الأطفال التي وقع تمثيلها بشكل جيد مع كل تنافس صلف وأيضا بكل خجلها الرقيق. إن الأشكال الأولى من صداقة الحب التي تمنحها لنا الحياة ترجع عند هذا المرء الشاب بنمو ممتلئ. هذا يوجد في كل المجتمعات حتى في تلك التي لم يقع تنظيمها مثل المجتمع الإغريقي. لكن في النهاية تولد الصداقة الأصيلة، أي صداقة العمر كله، من صداقات الحب هذه وبعد ذلك من صداقة المرء الكهل والمستقل.
    عندئذ يمكن أن نلمح منذ بداية التفكير في هذه الصداقة أن الأمر لا يتعلق هنا بمفهوم مجرد حيث يجب أن نميزه في كل أشكاله عن الأجناس الدنيا. إن الانطباع الأول الذي يمكن أن نحوز عليه عند أرسطو هو انطباع التمييز إذن بين الصداقة التي يمكن تأسيسها على السعادة المادية واللذة الحسية وبالتالي على الإحساس بالإعجاب الذي يبديه الأصدقاء لبعضهم البعض. ويمكن أن نميز أيضا الصداقة التي تتأسس على الفائدة والمصلحة وما يمكن أن نسميه أصدقاء الخدمة أو الحزب، وهو مفهوم واسع جدا للصداقة بحيث لا نستطيع التعويل عليه في سياقات مختلفة. كل هذا هو بوضوح تام شكل من الصداقة.
    بيد أنه توجد أيضا الصداقة الحقيقيةvraie والمكتملة. ان الأمر يتعلق بالصداقة الحقةveritable ، ففيما تتمثل وماذا نريد أن نقولنا عندما نصرح أنها تنكشف من الأويكيون L’oikeion ؟
    ما نعني بهذا هو فعل الإحساس بالوجود بالبيت حيث لا نستطيع حقا أن نقول ماهو. هذا ما نعنيه كلنا بالمفهوم الذي يدوي بصورة أكثر ارتفاعا وأكثر ألفة عندما نتحدث عن الإقامة في الذات chez soi وعن الجزء. ماذا يعني هذا بالضبط؟
    إن هذا لا يعني شيئا ما ينبغي علي أن أكتبه بالطول وبالعرض. بالنسبة إليكم، أنتم كل الذين تمثلون الفورتسهايم pforzheim ،إن مدينتكم هي أحسن المدن وما يحيط بها هو الأكثر جمالا. نحن نعلم كلنا أن الوطن يمتلك شيئا ضاربا في القدمimmémorial . انه شيء ما حيث لا نستطيع أن نتكلم عن السبب الذي يجعل هذا الأمر يؤثر قدر من النفس والسبب الذي يجمع قدر من الناس. لكن عندما نعرف أن كل من الجزء والأصل ينسجان رابطا ونوعا من الجماعة وشكلا أصيلا من التضامن فإن هذا هو من البداهة هنا بحيث لا يحتاج إلى التأكيد هنا بأننا متضامنين. ونحن لا نسعى ولا نريد البتة أن نعرف ما يفترضه هذا.
    التفكير الإغريقي المتقهقر في جميع مؤسساته حتى وان عرف شكل حياة عمومية وتجمعات ونزاعات وحروب أهلية ومواجهات عنيفة، لكن دائما وأبدا غزوات جديدة للنظام الديمقراطي، فانه قد انقاد هنا إلى التساؤل عن سر هذه الألفة البيتية للوطن وللصلة التي تشدها إليه والتي لا يمكن تفسيرها بكون المشابه يجتمع مع المشابه والمباين مع المباينdissemblable au dissemblable أو من خلال البحث عن نموذج. ماذا يعني هذا حقا؟
    هنا ينبغي لكي نفهمه أن نتأمل الفكر العظيم الذي وقع إظهاره في البدء من طرف أفلاطون قبل أن يتم استعادته من طرف أرسطو. وقد وقع التعبير عنه في كلمة والتي ربما تسبب لنا الهلع، مثلما هذا قد حدث بكل تأكيد مع الإغريقيين أنفسهم الذين تأثروا وهي الفيلوتيا philautia، ، حب الذات. لأن الأمر يتعلق بهذا هنا أي بالنظر إلى حب الذات على أنه الأساس الحقيقي وشرط كل إلزام ممكن تجاه الآخر ولكل إلزام تجاه عين الذات.
    ينبغي في هذا السياق قول بعض الشيء أيضا عن موضوع التضامن solidarité وما ينبغي تأكيده هو أنه غير موجود في العصر لا من حيث الاسم ولا من حيث الواقع. فماذا يعني بحق الفيلوتيا philautia؟
    إن حب الذات يمتلك طبيعيا وبالنسبة إلينا دلالة سلبية جدا. نراها في الكوميديا الإغريقية وأيضا في وثائق أخرى. لأن هذا يبدو أنه يمثل رذيلة بالنسبة إلى الناس، وفي اغلب الحيان هو هزلي جدا ولكن في نفس الوقت مخيف جدا، وهو لا يفكر إلا في نفسه وليس في غيره وفي وضعيته. إن أفلاطون هنا كانت له شجاعة القول ليعبر عنه في لغة تصلح ليس فقط له بل لنا ولكل العالم، كلا ، إن حب الذات الحقيقي هو شيء جد مختلف. يتمثل في الفعل الذي يجب دائما أن نكون متوافقين معه.
    ينبغي أن نكون دائما متوافقين مع أنفسنا إذا ما أردنا أن نربط صداقة مع شخص آخر أو محب بسيط وصديق أعمال أو مجرد زميل في الشغل. ان من لا يقدر على أن يكون في وفاق مع عين ذاته حيث كان يثبت أن الحياة العمومية مع الغير هي عائق وغرابة. لكن شيء واحد مضمون هو العودة إلى الذاتchez soi والبيت، انه مكان الحياة العمومية. هذا لا يعني البتة بأنه ثمة توافق على صعيد النزاعات والمصالح. ليس هذا بالضبط ما ينبغي أخذه بعين الحسبان وليس حتى ما ينبغي أن نرنو إلى تسميته منذ الوهلة الأولى عندما نتساءل: لماذا يكون واحد غاليا عندي؟ هل لأنه يتقاسم معي العديد من الأشياء التي تكون غالية بالنسبة إلي؟ هل لأنها أيضا مشابهة لي؟ كلا ، ليست وحدة الإقرار هي ما يهم. لنفكر أيضا في النماذج الكبرى للصداقة الإغريقية والذين كانوا أزواج من الأصدقاء تعاونوا على قتل الطغاة وقد لعبوا دورا جد معتبر في الحياة العمومية في أثينا في نفس الوقت بوصفهم صرحا ونموذجا ونذيرا. لنفكر أيضا في هذه الصداقات بين الشباب والذين يمكن أن نقول عنهم بالألمانية أنهم يشكلون قلبا واحدا وروحا واحدة. هنا يطلق الإغريق تسمية mia psychèعلى روح واحدة.
    هل يكون هذا هو الصداقة الحقيقية؟ كلا، ليست هذه أبدا. تتمثل الأطروحة المغامرة في القول بأننا في حاجة منذ البدء إلى صداقة مع ذواتنا عينها. إن هذا هو الضروري إذا ما أردنا أن نكون هناك بالنسبة إلى الآخر ومتصلين به حقيقة. مثل هذا كم هو بعيد عما يمكن أن نسميه اليوم إلزاما أو رابطا ضاغطا !
    انه هكذا أحب أنا نفسي أن أتبع هذه الخطوة الهامة التي وقع استكمالها من طرف الفكر الإغريقي والتي قادته إلى الفيلوتيا philauti . انه فعل فكر تم إبعاده كليا من العالم المحيط ولكنه يصارع في نفس الوقت بانفعال من أجل حريته وشكله في الحياة مثلما فعل الإغريق بالنسبة إلينا في هذا الحدث المقدر الذي هو الحروب الميدية médiques . إن أوروبا تظل هي أوروبا لأن هذا الشكل من التماسك المعاش بأصالة في الحياة الإغريقية يمتلك شيئا فريدا متعارضا مع المبارزة القادمة من الشرق.إنها ليست سوى تفكير في مسارح الوداع بين الأب والابن التي شهدتها إلى حد القرن الرابع والتي يمكن أن نشاهدها في متاحف الأركيولوجيا. لنبدأ في مشاهدة إلى أين سيقودنا هذاعوض أن نتابع هذا التفكير إلى الحد الأقصى. إننا نتساءل عما يعنيه أيكوس ، وان كان عودة حقيقية إلى الذات ومن ثمة صداقة حقيقية.
    لا نستطيع القول أن هذا يمتلك شيئا خاصا، شيء ما يعجبني جدا ويجعل منه بهذا الأمر صديقا لي. يجب في مجتمعنا أن نفكر بشكل طبيعي أيضا في الصداقة بين الرجل والمرأة على غرار ماهو موجود بين الأب والابن. ينبغي دائما أن نعترف أن زواج الصداقة والصداقة في الزواج هي واحدة من الامتحانات الكبيرة للحياة الإنسانية حيث الوجود المشتركêtre-ensemble والحدس التكاملي يتشكلان بالتصاق مع الاختلاف والغيرية والآخر وغيرية الآخر. هذا بالضبط ما رآه أفلاطون في الحوار مع ألسيبياد ولكن فقط عن طريق إخفاقه. إن مقابلة ألسيبياد لم تقد إلى نجاح دائم في الحياة. سقراط قام بإشارة مع كثير من الشعور بالغبن في خاتمة الحوار بقوله أن كل غرابة يشعر بها أيضا تطلعه على النقطة يظل فيها المرء الشاب مهتما بالسلطة والطموح. دائما كان سقراط يريد قيادته نحو الطريق الذي ينهيه قبل أن يكتب مثلما يعرف يقينا كل قارئ إغريقي. ففي ما يتمثل هذا الطريق؟ القصة مشهورة، سقراط قال: ينبغي علينا أن نتدرب على معرفة أنفسنا بأنفسنا. نحن نعرف الحكمة الشهيرة لمعبد دلف التي ما انفكت تذكر الإنسان بأن يعرف نفسه بنفسه. هذا يعني أن تعترف أنك لست سوى إنسان وليس مبعوثا من قبل العناية الإلهية أو كائن موهوبا بكاريزما خاصة تمنحك من هذا المنطلق أفضلية ونصر ونجاح بمعزل عن كل الالزامات الإنسانية. لاشيء من كل هذا.
    بيد أن مبحث الصداقة هو بشكل واضح الذي قاد أرسطو إلى إضافة ما يلي: من أجل نعرف أنفسنا في الآخر am Anderen) ) ويعرف الآخر أيضا نفسه فينا (an uns) . لا ينبغي أن يمتد هذا إلى التعامل مع الغير كمقولة فقط لأنه هو أيضا كائن. ينبغي أن يمتد هذا أيضا وبالتحديد إلى المعنى الذي نعترف فيه باختلاف الواحد عن الآخر، بصورة تسمح لنا أن نقول لو تحدثنا مثل دراوزن: “انه هكذا ينبغي عليك أن تكون لأنه هكذا أحبك”. باختصار هذه هي الصداقة الحقيقية. أرسطو يقول أن الأمر يتعلق بصداقة متأسسة على الفضيلة Arètè . لكن ماهي الفضيلة؟ في الواقع الفضيلة هي امتياز، حسب الترجمة التي تم اقتراحها من طرف فولفغان شادوالدت. ماهو الامتياز؟ لا يمكن الوصول إلى فهمه إلا بالتذكر بأن الأمر يتعلق باسم تفضيل. يعني أمر ما لا يمكن الاستمرار في تنميته. بكل تأكيد لا أحد يمتلك شيئا من هذا القبيل. والعمق الحقيقي لمعرفة الذات هذه يعود إلى الفعل الذي لا نعرف في أية نقطة نظل سجناء حبنا لأنفسنا،حتى وان بقينا نعتقد أننا أصدقاء أوفياء للآخر. لكن إذا كان التوافق الصحيح مع عين الذات هو نفسه الشرط الأولي للصداقة الصحيحة ففيم تتمثل إذن الصداقة؟ وعلى ماذا يتأسس الأويكيون L’oikeion؟
    الأويكيون L’oikeionيقدم نفسه في كل مرة وفي كل يوم بصورة مختلفة حسب تغير أشكال الصداقة، بتفهم الصداقة بين الأطفال وصداقة الحب وصداقة الشباب الأولى والصداقة المهنية والصداقة التي تنتج عن تأسيس مجتمع العائلة- حيث يمتزج الربح بالتنازل. ألا يتعلق الأمر بأجناس من المفهوم الكوني للحب؟ ليس الأمر كذلك. لقد طور الإغريق هنا فكرا له أهمية حاسمة، فكر التناسب والجماعة المتأسسة على التناسب. لقد حصل للمرة الأولى على أهمية من الطراز الأول في الأكاديمية وعند أرسطو، لكنه ذاع صيته بالخصوص عن طريق الدوغمائية المسيحية لأنه سمح لها بتصور الصلة بين المخلوق والخالق.
    إن التناسب يسمح بالفعل بالتفكير المشترك في ما لا يقارنincomparable بإدراجه رغم كل شيء ضمن ما يقارنcomparable . إن هذا هو الذي يكمله دائما التناسب.هكذا يعلمنا رؤية الصداقة بين الأطفال على أنها ليست فقط هذه المباراة حيث يبحث الواحد منا على إظهار قدرته على شيء ما للآخر. كلا، إنها لا تتضمن سلفا شيء ما من الجماعة والتكامل حاضرا بشكل فعلي في كل مباراة. بالقياس إلى ذلك هذه المباراة هي سلفا مباراة في الصداقة لكنها لن تصبح مع ذلك صداقة حقيقية إلا عندما تبدأ في تشكيل جماعة طوال العمر كله، وهي طبعا مازالت غير موجودة على صعيد صداقة الأطفال. كل واحد يعرف هنا السرعة التي نتصارع بواسطتها ونتصالح عندما تظهر جماعات جديدة.
    هناك بعد ذلك صداقة المراهقة والتي تنتهي بانبثاق صداقة العمر كله. دون شك تحوز صداقة العمر كله دائما على شيء لا يمكن بلوغهinatteignable ، في نفس عنوان الأصالة والحقيقة والحميمي والكمال وفي النهاية الخير الأسمىBien . هذه البنية موجودة بطريقة حسنة في مجالات أخرى. استحضر مثال الصحة. انه مثال كان قد ذكره أرسطو سابقا وقال بشأنه ما يلي: إن الصحة ليست التغذية ولا الحمرة الخاصة للوجه ، وهي لم تكن البتة الإنسان في مجموعه. فماهي الصحة إذن؟
    كل هذا يبقي أيضا ملغزا، لكن كل هذا يجد في الصحة نقطة تظافر. إن هذا هو ما ننظر إليه عندما نتحدث عن الصحة، لكن لا أحد يمكنه أن يقول لنا على ماذا تتأسس. إن المعايير النمطية [ التي نقيس الحالة الصحية اليوم بواسطتها ] ليست سوى مؤشرات اتفاقية من نظام اصطناعي. إن الصحة نفسها تند عن كل ملاحظة. وهنالك عدة أشياء هي على هذا المنوال. لقد رأى الإغريق تحديدا أن الوجود في حد ذاته، هذا المفهوم الميتافيزيقي الأساسي، لا يمكن أن يكون مفهوما بوصفه نوع أعلى يمكن أن يفترق [ إلى عدة أجناس]. لو أردنا أن نقول فإن الوجود هو بالأحرى شيء ما يمكن أن يظهر في وضوح اللحظة مع لمعان شديد يعلن عن نفسه في نظرة الحالم بالمسافات البعيدة للديمومة أو للأبدية.
    هكذا ليس ثمة أدنى شك من أن الصداقة الحقيقية تحوز بتدقيق بالغ على الخصوصي الذي يُذَكّر به بشكل ما كل واحد منا الآخر عن درجة تطابقه مع النموذج المثالي حتى وان كان هذا المثال ربما يصلح له فقط في القياس داخليا. لنتجه لحظة واحدة نحو بؤسنا الخاص. ماذا يمكن أن يعني كل هذا بالنسبة إلى مجتمع أصبح نكرة ، وعلى ماذا تدل ضرورة وجود كتلة معقلنة أكثر فأكثر والتي تشكل ،يقينا، جزء من الحساب رغم كل ما أحدثته من تحريف، والتي بدونها لن يكون هناك اقتصاد كوكبي؟ ألسنا محرومين عندئذ بشدة من كثير من الأشياء الجوهرية التي يمكن أن تساعدنا على أن نتعارف أكثر؟
    نحن نعلن أننا متضامنين مع أمر ما أو نشعر إننا متضامنين. انه منذ اللحظة التي أعود فيها إلي روح الأشياء الراجعة بالنظر تحديدا إلى تجربتي الخاصة في الحياة وأنا متيقن من أن المتقدم منكم في العمر قد عاش أمرا ما مشابها: أفكر لاسيما في الطريقة التي أيقظت بها القنابل أثناء الحرب تضامنا ما. فجأة يستيقظ الجار ،هذا الغريب الذي ظل بالفعل مجهولا في شروط الحياة لمدننا، على وجود جديد.
    على هذا النحو يدفع البؤس، وبالخصوص البؤس الذي يهم الجميع، إلى الإسهام في انبثاق إمكانات غير مشكوك فيها للإحساس بالتضامن وبالفعل التضامني. لكن الأشياء في هذه الوضعية لا تمر مثلما يمكن أن يوحي به حد التضامن بالنسبة إلينا اليوم. ماذا نريد أن نقول بصدق عندما نتحدث هنا عن التضامن؟
    من الطبيعي أن يوجد وراء العبارة الحد اللاتيني solidum ، الذي يلعب أيضا دورا عندما نتحدث عن التخفيض. يريد الحد أن يقول هنا أن ماهو هام في التخفيض لن نحصل عليه من النقود المزيفة . بل من العملة الثابتة. يبحث الحد إذن عن التعبير عن رابط صلب وموثوق وبالتحديد في الوضعيات حيث الفارق في المصالح وشروط الحياة يمكنها أن تدفعنا إلى إتباع مصالحنا الخاصة وإبعاد الوجود الأحسن للآخر إلى المستوى الأدني.
    إن حد التضامن يكشف إذن عن حقل سيميائي ملتبس جدا. وفي كل الأحوال هناك في التضامن الذي نعلنه، بحرية أو تحت الضغط، ، تخلي عن امتيازات ومصالح مباشرة جدا. إننا نكون في التضامن مستعدين إلى التنازل عن شيء ما في بعض الجوانب وبعض اللحظات وفي سبيل غايات محددة. اننا ندرك على التو الصالح والطالح في مجتمعنا. وعندما أتحدث عن الالتباس فإن ذلك ليس دون سبب معقول. وإذا كانت ديمقراطيتنا التمثيلية تسبب لنا اليوم الكثير من الهموم فإن ذلك مرده نقص في التضامن عند الناخب.
    نحن نحوز على أسباب جيدة لكي نعترف بأن التنظيمات السياسية كما هي ينبغي أن تساعد على الوعي بالتضامن وأن تظهر أيضا تحريضا مخصوصا عليه. على سبيل المثال نفكر في التربية الحزبية التي يصعب أن نحافظ عليها في وضعيات متعددة من الحياة السياسية حيث نكون على وجهة نظر مغايرة للأغلبية في الحزب الذي يخصنا. لكن مبدأ الديمقراطية يستوجب على الأقل أن تظل هناك إمكانية للفعل المشترك في حدود معينة والذي ينبغي أن نسعى إلى القيام بها. لنفكر أيضا في الإحساس بالاحترام تجاه الترتيبات في قواعد السير على الطرقات والتي تحصد عواقب الإخلال بها على الفور. أحب أن أؤكد فقط أن كل انتباهنا يجب أن يكون منصبا حول شيء واحد: التضامن الأصيل يجب أن يصير موضوع وعي وعلى هذا النحو فقط وليس بغيره يمكن أن ينتج العديد من الثمار.
    لنأخذ بعين الاعتبار مثال التعادليةGerichtsbarkeit . لقد تفننا في مهاجمتها في السابق وربما لن يكون دائما ولكنها لا تمتلك بالكثير أو القليل صلاحية ضاغطة. لقد قدمت لنا ايطاليا منذ زمان مثالا. انه من الضروري أن نحسن النظر إلى أن التضامن الأصيل يتطلب أفرادا جاهزين للمهنة وللدفاع. وإلا فأن الطبقة السياسية تظل هي نفسها معزولة برمتها. ينبغي أيضا أن تدفعنا دلالة اللفظ إلى التفكير في المجال الحربي وفي وفاء الجندي الذي يقتضي منا في حالة الحرب تضامنا أثناء الحياة وأثناء الموت. هكذا أيضا وقع استعادة فكرة التخفيض في الحد وفي حياة الجندي. ليس هناك أدنى شك أن هناك شيئا ما جماعي بين الناس يجعل من الصحبة أمرا ينبغي أن يستمر.
    واقع أننا لسنا منتوجات التطور هو الذي يجعل كل القرارات خاضعة التسجيل الغريزي المسبق وهو الذي يشبه حالة الطيور التي تحلق في فترة الحضانة في جميع الاتجاهات دون كلل من أجل أن تأكل صغارها. نحن بني الإنسان ملزمين أكثر بمواجهة حتمية الاختيار ونوجد بفعل هذا الواقع المعروض أمام إمكانية القيام بالاختيار السيئ. كنت أتمنى أن أتمكن من التماس عبقرية اللغة من أجل توضيح حد التضامن ولهذا السبب اتخذت قرارا بترجمة المفهوم الإغريقي للفيليا philia. أعتقد أن هذا المعنى حول التضامن يمتلك تاريخا قبليا طويلا يسير جنبا إلى جنب مع مجتمع الكتلة. والحق أن الأمر يتعلق بكلمة جديدة كليا والتي لم يمر أكثر من قرن على وجودها. لكن هذا بالتحديد الذي يجعل منها أيضا شيئا لامعا.
    إن ما يشير إليه التضامن هنا هو الرضا في إطار الحب، الذي هو بكل تأكيد أمر محدود مثل كل شيء، لكنه لا يتطلب سوى استثمار إرادتنا الطيبة كلها. إنها واجبات هامة مطروحة علينا سواء تمثلت في أن نكون في وفاق مع عين ذواتنا أو أن نبقي في وفاق مع الآخر. ليس ثمة قوة طبيعية يمكنها أن تقوم بها لنا. لهذا فإن الأمر يحتاج إلى معرفة الذات ومعرفة النماذج التي يمكن أن نتعلمها باقتدار.”
    المرجع:
    H-G. Gadamer, esquisses herméneutiques, essais et conférences, traduction Jean Grondin, éditions VRIN, Paris , 2004.
    كاتب فلسفي
    وطني علمني ان حروف التاريخ مزورة حين تكون بدون دماء
    وطني علمني ان التاريخ البشري بدون حب عويل ونكاح في الصحراءhttp://www.wahitalibdaa.com/image.ph...ine=1272034613

    تعليق

    يعمل...
    X