إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عفوية البوح بملامح إنسانية عند الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عفوية البوح بملامح إنسانية عند الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

    عفوية البوح بملامح إنسانية
    عند الشاعر الكبير
    (( عبد الرحمن الابنودى ))
    جمعها: محمد القدوسي
    _ منقول _

    الابنودى يتكلم( 4 )


    الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات
    فاطمة قنديل تنبأت بزواجي من نهال كمال
    ولها الفضل في حلّ مشاكلي مع المرأة
    جمعها: محمد القدوسي

    هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول «الأبنودي» المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.
    في البداية لم يبد «الأبنودي» متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.
    وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في «أبنود» قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».
    مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.



    في قصيدته المشهورة والكبيرة «يامنة» نسمع العمة يامنة (أو آمنة) تسأل ابن شقيقها عبد الرحمن: «لسه بتحكي لهم بحري حكاية «فاطنة وحراجي القط»؟» سؤال ربما تكون يامنة طرحته على الأبنودي فعلاً. لكن المؤكد أن أمه فاطمة قنديل سألته مرات. سؤال يحمل من «المشاكسة» بقدر ما يحمل من «المودة» وإجابته المتوقعة ليست نعم وليست لا لكنها التعبير عن «الشوق والتعليل» كما يقول المتنبي:
    وكثيرٌ من السؤال اشتياقٌ
    وكثيرٌ من رده تعليلُ
    الإجابة المتوقعة كلمات تحمل تأكيد الانتماء الى ناس الصعيد وهم غير «ناس بحري» الذين يحكي لهم الأبنودي حكايات الصعيد ويغني لهم أغانيه التي ترى فاطمة قنديل أنها أغانيها شخصيا. يقول الأبنودي: «كثيرا ما كانت أمي تمازحني بعد أن تسمع إحدى أغنياتي تبثها الإذاعة قائلة: «إدوك كام؟ خل بالك أنا أستحق نصف الأجر!».
    يقر الأبنودي بأنها كانت على حق فهو إتكأ في أغانٍ كثيرة على تراث الغناء الشعبي وكانت فاطمة قنديل أول مصادره وأهمها. كانت تردد «العديد» أي المراثي الشعبية المغناة، كما كانت تردد أغاني «التهنين» أي هدهدة الأطفال وغيرها من الأغاني المختلفة باختلاف مناسباتها. يقول الأبنودي: «كانت أغنية «قال لي الوداع» التي كتبتها للسيدة شادية تنتمي إلى فاطمة قنديل. استمعت إليها كثيرا وهي تردد «قال لي الوداع.. قال لي الوداع .. حط ايده في ايدي وقال لي.. الوداع قال لي».
    يتذكر الأبنودي الكثير من الأغاني التي سمع أمه ترددها في طفولته لتصبح جزءا من وعيه، كأنه «عجن بها». يقول: «ما سمعته من أمي شحنني بتجربة خرافية كانت دائماً لصيقة بالغناء، ذلك أنه في أبنود بعامّة يشكل علاقة فريدة مع الحياة، كالحر والبرد والظل والشمس والليل والنهار والجوع والشبع. لا يوجد فعل لا يصاحبه غناء في تلك القرية وفي بيتنا الفقير بالذات».
    يتذكر الأبنودي:


    راحت رجال العز والهيبة
    وجات رجال
    لا تختشي العيبة


    ترثي هذه الأغنية الكبار الراحلين وتشكو الزمن أيضا. أو يذكر فاطمة قنديل وهي تقول:


    شبهت رقبتها بنخلة في الصعيد
    إذا هبهبت لرياح بيزينها الجريد
    شبهت رقبتها بنخلة في العجب
    إذا هبهبت لرياح بيزينها الرطب


    أو وهي تردد شوقا للحج وزيارة الرسول صلى الله عليه وسلم:


    رايحة فين يا حاجة
    يا ام شال قطيفة؟
    رايحة أزور النبي
    والكعبة الشريفة.


    يقول الأبنودي: «أمي هي الشجرة المظللة التي أدين لها بعبد الرحمن الأبنودي كله». باختصار، إن خصوصية عبد الرحمن الأبنودي واختلافه عن الناس مستمدة من خصوصية هذه السيدة المختلفة عن الناس صبراً وتجربةً. يقول: «كانت أمي سجلاً حافلاً لكل أشعار القرية وغنائها وبكائياتها وطقوسها».


    بنت أبيها


    يقول الأبنودي: «إحتلّت أمي مكانة مميزة في قريتنا. من أجلها أنّث ناس أبنود القنديل ليمنحوها اسم أبيها الذي كان رجلا مهابا محبوباً مباشرة بعد تأنيث الاسم ونادرا ما كانوا يقولون فاطمة قنديل بل كانوا يفضلون أن ينادوها بـ«قنديلة» (...)».
    قلت له: «في قريتي وأنا من بحري يجري تأنيث اسم الأب لإطلاقه على ابنته إن كانت وحيدة وفي قريتنا امرأة كنا نناديها «شبلة» مؤنث «شبل» وهو اسم أبيها وأخرى كان اسمها «كل» وأعتقد أن أصله لفظ «غل» التركي، الذي ينطق بالجيم القاهرية، ومعناه «الورد». لكن يبدو أن أهل القرية لم يستسيغوا أن يطلقوا هذا الاسم الغامض بالنسبة إليهم في صيغة مذكرة على امرأة وكان الحل أن أنثوه لتصبح «كلة» (...)».
    يقول الأبنودي: «هذا كله كوم و«قنديلة» كوم آخر. إن الأمهات في الصعيد هن حافظات الحضارة في شكل عام. الرجال يذهبون إلى أعمالهم وتبقى الأمهات لتربية الأبناء. كانت «قنديلة» نسيجا وحدها بين الأمهات. كانت بالنسبة لهم كما كانوا هم بالنسبة لأولادهم. مثلا عندما كن يجتمعن لصناعة الخبز، كانت تحدد هي مواعيد خطوات الخبز ومقادير المواد المستخدمة. كانت مرجعهن في كل شيء، لهذا نشأت عارفا قدر المرأة ومحترما لها. لم أعتبرها أبدا مناسبة ولا موضوعا للشعور بالخجل. أنا من الذين حلوا مشاكلهم مع المرأة، خلافا لبعض المثقفين. علاقتي بها هي علاقة صداقة وأخوة».


    قميص النبي


    عن الطقوس التي كانت تمارسها «فاطمة قنديل» يقول الأبنودي: «تنتمي أمي إلى جد هو «الشيخ سعيد» يعتبره ناس «أبنود» وليا من أولياء الله الصالحين، ويتبركون بمقامه وقبته وهو مقام يقع في «أبنود الغربية» حيث أصول «قنديل» التي تنتمي إليها «قنديلة». وكانت أمي تعتبر جدنا هذا هو السبيل السهل لقضاء الحوائج، كما كانت تعتقد أن أي نجاح نحققه في الحياة إنما تحقق ببركته، لهذا كان عليَّ دائما أن أرد الجميل للشيخ سعيد كلما وفقت في شيء. ورد الجميل يكون بإقامة ليلة، لا يهم أن أحضرها، تستعدّ لها فاطمة قنديل هي وحبيباتها قبل أيام تطبخ فيها وتذبح وتخبز وتدعو الجيران والأهل. أهم ما يحدث فيها هو أن تستدعي «الشيخ شعلان» من قنا لينشد مع بطانته مدائحه النبوية، مثل ملحمة «قميص النبي»:


    المزاد ومين يزود
    ده قميص طه نبينا
    اللي سره ماشي بينا
    القميص يا اهل المدينة
    مفتاح الجنة المؤكد
    رد «عمران» قال انا أدفع
    في قميصه تلتميه (ثلاثمائة)


    كان «الشيخ شعلان» كفيفاً ضامراً خفيف الروح ينقر على نقارته. أما أمي فـ«تأخذها الجلالة» وهي تردد «الله حي». حين كنت أراها في ليلة الدروشة هذه أشعر بأن هناك حاجزا بيننا أو كأنها ليست أمي التي أعرفها. تلبس في تلك الليلة جلبابا يلبسه رجال الصعيد وتمسك في يدها مسبحة طويلة وتجلس على كنبة (أريكة) وحدها ومن حولها ينشد المنشدون ويذكر الذاكرون».
    يضيف الأبنودي: «كانت أمي أيضا تعني بـ«توب» الشيخ سعيد وهو الكسوة التي توضع فوق الصندوق الذي يحمله جمل مخصوص ويسير به في الاحتفالات الدينية، نائباً عن مقام الشيخ سعيد، كأنه «مندوبه».»


    رعب الحمام


    ومن طقوس «فاطمة قنديل» أيضا ذلك الطقس الذي كانت تمارسه لطرد «عين الحسود» إن أصابت طيور الحمام التي تربيها. يقول الأبنودي: «الحمام هو ثروة المرأة الصعيدية السرية وهي تعتمد في شراء ما تحتاج إليه على ثمن ما تبيعه من أفراخه، لهذا يشكل توقف الحمام «المحسود» عن وضع البيض كارثة كبيرة تستدعي التدخل الحاسم، فتواجه «فاطمة قنديل» عين الحسود عبر طقس مرعب تختار له يوم الخميس بالذات حيث تلبسني جلبابا أبيض وتلبس هي جلبابا رجاليا ونصعد معا إلى «بنية» الحمام. فجأة تطلق بخورها ذا الرائحة المرعبة التي لا تحتمل فيفزع الحمام وأفزع أنا أكثر منه ويدور الحمام الفزع حولنا يلطمنا بأجنحته، بينما تردد هي تلك «الصيحة» التي لا تطلقها نساء الصعيد إلا عند موت عزيز لهن «بوووه» وبين صيحة وأخرى تردد مقاطع أغنيتها أو رقيتها:


    باطلق شيح
    للحمام اللي كان مليح
    باطلق عدس
    للحمام اللي اتنَفَس (أي أصابته نفس أو عين حسود)
    وقبل أن تغادر بنية الحمام تقول:
    طالعة زمقانة (غاضبة)
    من البنية الخربانة


    يتابع: «كان الحمام بعد هذا الطقس المفزع يعود للبيض والتفريخ مرة أخرى وهي مسألة تحتاج إلى تفسير علمي، تماما كذلك «العلاج» الذي كنت أداوي به العصافير في قنا، عندما كانت تجتمع في الغرفة وأغلق الشباك عليها لأصطادها. أحيانا كان الشباك يقفل على جسد عصفور فيسقط على الأرض مرتعشا لا يقوى على الحراك. هنا كنت أحضر «الهاون» النحاسي وأقلبه فوقه، كما يقلب الكوب، ثم أدق بكل قوتي فوق قاعدة الهاون بيده الثقيلة ليصدر عنه طنين عال يستمر طويلا وأكرر الضرب عدة مرات ثم أرفع الهاون، فإذا بالعصفور يطير كأنه لم يكن يعاني من شيء!»


    الشطة السوداني


    هل تذكر أول عقاب تلقيته من فاطمة قنديل؟
    يرد الأبنودي: «نعم. لا أدري من أين جاءت «فاطمة قنديل» بتلك القسوة يومها، فهي امرأة رقيقة محبة، علمتني وعلمت غيري ما هي العاطفة. لكنها في ذلك اليوم كانت على غير عادتها وهي تقول لي: «تعال يا عبد الرحمن يا حبيبي، أنا عايزاك»، ولما اقتربت منها قالت: «افتح فمك»، فاعتقدت أنها كالعادة سوف تحشوه بالحمص أو السمسم، لكنني فوجئت بها تدفع ملء كفها من الشطة السوداني الحمراء الحامية فيه وأجارك الله مما حدث لي ظللت لمدة ثلاثة أيام أتعذب، أتلوى وأصرخ من النار التي كانت تتقطع في فمي وفي أمعائي بعدما وصلت الشطة إليها».
    يتابع الأبنودي: «كنت أشعر بالعطش وكلما شربت الماء زادت حدة الالتهاب واشتعلت النار أكثر، لكن أمي ظلت بعيدة كأنني لست ابنها الذي قاتلت لتبقيه على قيد الحياة، بل إنها منعت إخوتي من التعاطف معي أو الاقتراب مني ولم تقل لي إنها تعاقبني على الكذب إلا بعد مضي يومين من هذا العذاب. لا أذكر موضوع الكذبة، لكنني أذكر أنني كذبت في أمر تافه وتحرت «فاطمة قنديل» عن صحة ما قلته لها وحين عرفت أنني كذبت عليها حاسبتني وأنزلت بي عقابها الرهيب. كانت أول «علقة» أنالها في حياتي ومازال طعم «الشطة» في حلقي إلى الآن. تعلمت أن الكذب سلوك يعادل في قبحه الأذى والعذاب اللذين نالا مني. المدهش هو: كيف تقتحم هذه المرأة البسيطة الأمية منطقة العقاب القاسية على طفلها الذي لم يتجاوز السابعة أو الثامنة؟ كيف احتملت أمومتها ورهافتها أن تعاقبني، أنا الابن الذي أحبته ورعته ولم تفكر في النصح والحديث عن الحلال والحرام والعيب والواجب؟».
    يؤكد الأبنودي: «منذ يومها تعلمت ألا أكذب، حتى لا أجد طعم الشطة الكريه في حلقي ومغصها القاتل في أمعائي. أنا أسخر كثيرا الآن من طرق التربية الحديثة وتركيزها على الحوار..الخ ولا أظن أنها مفيدة في علاج السلوكيات غير الصحيحة كالكذب، الذي أنصح الجميع بالعودة إلى الشطة السوداني لتخليص أطفالهم منه!».


    ابنتك نهال كمال


    كانت فاطمة قنديل أول من تنبأ بأن ولدها عبد الرحمن سيتزوج مذيعة التلفزيون اللامعة نهال كمال التي رزق منها بابنتيه آية ونور. يقول الأبنودي: كانت تقول لي: «والله يا ولدي ستكون زوجتك» فأقول لها مندهشا: «كيف تقولين هذا وهي تكتب لي قائلة «ابنتك نهال كمال»؟ فترد: «والله يا ولدي الزواج ما له علاقة بمثل هذه الأمور «الجواز ده قسمة ربنا ونصيبه». ودارت الأيام، لأتأكد من بعد نظر «فاطمة قنديل» فقد تزوجت نهال كمال فعلا»!
    يضيف الأبنودي: «حين مرضت أمي رحمها الله وكان عمرها 72 عاما، هاتفت صديقي د.سمير فياض وكان مديرا لـ«مبرة محمد علي» بمصر القديمة، فقال لي: «أحضرها إلى المستشفى فورا». ساعتها اعتقدت أن سبب هذه الـ«فورا» هو أن الطبيب استشعر من حديثي خطورة حالتها، لكنني عرفت في ما بعد أنه كان مستعجلا على رؤية «فاطمة قنديل» التي حكيت سيرتها في كل مكان حتى صارت أشهر مني. وهكذا دخلت أمي المستشفى، لتبيت ليلتها الأولى في غرفة خاصة حجزتها لها في «الدرجة الأولى». في صباح اليوم التالي حين ذهبت لأزورها وجدت عينيها محمرتين والغضب يفور داخلها، ففزعت أن يكون مكروه قد ألم بها أو أساء إليها أحد ولو عن غير قصد. سألتها: «مالك يا أمي؟ فقالت إنها حزينة لأنها قضت الليل وحدها وأكدت أنها لن تحتمل هذا الوضع، فهي لا تطيق الحياة إلا وسط الناس ودمعت عيناها، فلم أحتمل. طلبت «د. سمير فياض» الذي سألها متعجبا: يعني عايزة تروحي فين؟» فقالت بحسم: «مطرح ما يكون الناس». لم تجد كل استنكاراته وشروحاته وتحذيراته من الإزعاج الذي يمكن أن يقابلها في العنبر وحين قلت لها إنني لن أستطيع أن أزورها في العنبر وهي وسط المريضات الأخريات، قالت، في ما يدل على أنها رتبت الأمر: «ابقى ابعت لي وانا أطلع لك في «الجنينة» زي ما شفتهم وهم بيعملوا وأنا طالة من الشباك أمس». بالفعل نزلت أمي إلى «عنبر الحريم» وفي صباح اليوم التالي صحوت على مكالمة غاضبة من فياض وحين ذهبت خائفا اكتشفت سر الغضب، فقد قامت أمي بتوليد نزيلتين في العنبر. امرأتان جاءتا المستشفى لتلدا وحين داهمهما «الطلق» في الليل ولم يجدا طبيبا في المستشفى، قامت أمي بـ«عمل الواجب» فولدت وحممت الطفلين وقطعت الحبل السري وربطت مكانه. وحين اكتشف الأطباء في الصباح ما فعلته غضبوا واعتبروا أنها تعدت على اختصاصهم. وقال لي الدكتور مش تقول إنها «داية»، أي قابلة؟ وأكدت له أنها ليست داية ولا هي مارست هذه المهنة في حياتها. لكنه راح يؤكد أن المهارة التي تم بها الأمر لا يمكن أن تتوفر إلا لطبيب أو داية. أما هي، فقالت لي وهي تضحك: «لو لم يعرفوا أنني أم «عبد الرحمن الأبنودي» لطردوني من المستشفى!»»
    هذه هي فاطمة قنديل أم الأبنودي ومعلمته وملهمته وملاكه الحارس، ولعلكم تلاحظون من الصورة التي تجمعهما كم يشبهها وهو شبه يؤكد الأبنودي أنه لم يكن تاما. فهي كانت بيضاء كأنه ينفي عنها «تهمة» لونه الأسمر. هذه فاطمة قنديل التي ستجدونها في كل صورة أم وزوجة محبة رسمها الأبنودي في شعره، وأشهرهن «فاطمة ـ أو فاطنة ـ أحمد عبد الغفار» زوجة «حراجي القط» في ديوانه المشهور.
    هذه فاطمة قنديل، بداية الشعر وأصل الغناء في حياة الأبنودي.


    وإلى بداية أخرى وحكاية جديدة في الحلقة المقبلة.


    وامى.. والليل مليل
    طعم الزاد القليل
    بترفرف.. قبل ترحل
    جناح بريشات حزانى
    وسددت ديونها
    وشرت كفن الدفانه
    تقف للموت يوماتي:
    «ما جاش ابن الجبانه»
    أشد ف توبها يمي
    تنهر كإني عيل
    القلب اللي تحجر
    قوَّال.. بطَّل يموِّل
    لا الحزن عاد يبكِّي
    ولا الأحلام تنوِّل
    أمي ـ ست البلابل ـ
    بتقول: «العمر طوِّل
    يا زمن كفايه حوِّل
    يا زمن برده يقرنص
    وما حسبناش حسابه»
    لو زارت أمي همي
    بتطرد الكتابة


    الأبنودي ـ الكتابة


    مقطع 2


    قولي يا فاطنة للي بنقول له
    واللي ما بنقوللوش
    الدنيا مش عيش بس ولا قروش
    ولا غطيان وفروش
    قولي يا فاطنة للكل
    إن احنا كنا هبل
    وضيعنا العمر فاشوش
    ح تقولي عليا اتجنيت والا عييت
    ويا ريتني ما رحت الداهية اللي مسميينها اسوان
    ولا كنت طلعت من البيت
    لا يا فاطنة
    اللي بيقول القول ده..
    هو حراجي إياه..
    بس اللي قلب راسي يا فاطنة مش سهل
    طب وحياة اولادي
    ساعات اصحى في الليل
    عيني تتمط يا فاطنة وأرقبكم بين النجم


    الأبنودي ـ جوابات الاوسطى حراجي
    القط العامل في السد العالي إلى زوجته
    فاطنة أحمد عبد الغفار في جبلاية الفار





    ناس أبنود وأرضها
يعمل...
X