Announcement

Collapse
No announcement yet.

خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي ( ميشيل شودكيفيتش ) الدكتورة سعاد الحكيم

Collapse
X
 
  • Filter
  • Time
  • Show
Clear All
new posts

  • خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي ( ميشيل شودكيفيتش ) الدكتورة سعاد الحكيم

    ملحق للدراسة



    قراءة في دراسة الدكتورة سعاد الحكيم لـ:



    كتاب الأستاذ ميشيل شودكيفيتش

    «خاتم الأولياء: النبوة والولاية في مذهب ابن عربي»

    (باريس، 1986)


    مقدمة:
    من هو الولي؟ ما وظيفته في الكون؟ ولماذا بعد أن خَتَمَ الله- عزّ وجلّ – النبوة أوجدَ الأولياء؟ ألا يكفي وجود النبي (ص) في حياة الإنسان المسلِم؟ فما ضرورة وجود الولي؟ كل هذه الأسئلة يطرحها وجود الولي في مجتمعنا وجمعنا المسلِم، ونحن فيها حيارى. ويمكن تلخيص واقع الولاية بعوالم ثلاثة، نتوقف عندها فيما سيأتي.

    تكاثرت الأسئلة عن الولاية ومعناها وعن الولي وهويته.

    تظل الولاية سراً بين الولي وبين من ولاّه – سبحانه: يحتفظ بسرّ الولاية، يعيش عبوديته الخاصة، ويضنّ بهذه المعرفة على غير أهلها.
    الولي – في نظر السوى – هو إنسان بدنُه أرضي وروحُه سماوية، أباح جسمه لمن أراد مجالستَه، وحبيبُ قلبه في الفؤاد أنيسه. والولي هو إنسان أولاً وآخَراً، إنسان يشعر، يحب، وهو في أعلى درجات القرب يتقطّع قلبه على طفله المحموم. وشودكفيتش هو أول من ألقى الضوء على إنسانية الولي، إذ كل من سبقه من الدارسين اهتم بخوارق الولي وبمظاهر الألوهية المتجلية فيه، وجعله مفارقاً لعالم البشرية، وكأن كل شعور بشري هو نقص وعلائق وسقوط يجرح علوه ومقامه. ونحن نتابع هنا شودكفيتش في نظرته إلى إنسانية الولي: فالفرق كبير بين أن يرقى الإنسان بمشاعره وعواطفه من آفات البشرية إلى آفاق الإنسانية، وبين أن يفارقها بالكلية. فالولي، كما يؤكد شودكفيتش بحق في آخر كتابه، هو القريب من الله، القريب من الناس.
    إن الولي هو القريب من الله، القريب من الناس. وهذا القرب من الناس هو امتداد لقرب الأنبياء من الناس، على علو مكانتهم عند الله. – فالأنبياء – وهم السلالة المختارة من الجنس البشري – عاشت مع الناس، وظلت قريبة منهم، تحقِّق الوصل بين الأرض والسماء. فالنبي يكون من الناس قريباً، والولي يتابع هذا الدور، لأنه الوريث والنائب، يحمل أعباء شريعة النبي، ويعيش مع الناس قريباً منهم، ليحقِّق اتصال الأرض بالسماء، واتصال التابعين بالمتبوع. ويبيّن شودكفيتش أن الولي يؤكد النبوة، ويتابع دوره في البنية الدينية للمجتمع المؤمن.
    أما وظيفة التصوف فتكمن في أنه يساعد على ظهور الأولياء، وأنه السماء التي يرتفع فيها نجم هداية الأولياء. والصوفي يشعر بأن عليه أن يعطي صورة الولي، ويعكس جميع كمالات التقى للناس.
    وعلى الرغم من أن ابن عربي كان مسبوقاً بكتّاب وصوفية تناولوا موضوع الولاية، فهو أول من قدّم نظرية شاملة، وتتبّع صورها الموروثة من شخصيات أنبياء الأديان كافة: ولي موسوي، ولي عيسوي، ولي إبراهيمي، إلخ.
    الفصل الأول: اسم مشترك
    يبدأ الأستاذ شودكفيتش الفصل الأول بإيراد بعض رؤى منامية لابن عربي، يرى فيها الأنبياء (ع) بمفردهم أو هم وأتباعهم.

    والولي هو «على قَدَم» نبي، يتبعه في العلم والعمل والحال. وهذه الرؤى يؤيدها كلامُ تلميذه صدر الدين القونوي، الذي كان يقول إنه في طاقة أستاذه أن يجتمع بروح من يشاء من الأولياء السابقين الراحلين: وهذا كتاب التجليات لابن عربي شاهدٌ على مثل هذه اللقاءات.
    يخصِّص شودكفيتش هذا الفصل لبحث معنى «ولي».
    الولاية هي الولاء لله، وبالمعنى الثاني، الولي هو الذي يتولى أموراً، ويأخذ على عاتقه شريعة. مثلاً، الولي المحمدي لا يعطي شريعة، ولكن يأخذ على عاتقه الشريعة المحمدية، وهكذا دواليك.
    والولي كذلك هو اسم مشترك بين الله وبين الإنسان: فـ «الولي» هو أحد الأسماء الإلهية، وهو أيضاً اسم يُطلَق على الإنسان: {الله ولي المؤمنين} (آل عمران 68)، {الله ولي الذين آمنوا يُخرجِهم من الظلمات إلى النور} (البقرة 257)، {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (يونس 62).
    الفصل الثاني: من يراك يراني
    يستعرض هنا شودكفيتش تاريخ فكرة الولاية. فكثيراً ما كان ابن عربي يؤكّد على قضية النصرة في الولاية، ويرى أن الولي والأولياء هم الذين تولاّهم الله ينصرتهم، تولاّهم في محاربتهم أعداءهم الأربعة: النفس، والهوى، والدنيا، والشيطان.

    وبحسب الهجويري، يرجع وجود الولي والولاية في اللغة الصوفية إلى الحكيم الترمذي (القرن التاسع الميلادي) الذي توالَت كتبه حاملة اسمها: علم الأولياء، ختم الأولياء، سيرة الأولياء. فالترمذي يُعَدُّ أول صوفي بيَّن معالِم الولاية وطرح مشاكلها ومسائلها.
    يفرِّق الترمذي بين طريقين للولاية: طريق الصدق والجهد والعبادة، وطريق المنّة والوَهْب والعبودية، وهذا الطريقان، على تداخلهما، يشيران إلى مرتبتين من مراتب الحياة الروحية، أي مرتبتين من مراتب الولاية: مرتبة «ولي حق الله» ومرتبة «ولي الله حقاً». الولاية الأولى يحصِّلها السالك بسيره في الطريق الأول، وهو ممارسة الصدق، فالصدق أول خطوة في الولاية، وهو يفرض الأداء الكامل لكل الفروض الداخلية والخارجية المترتبة عن العهود الإلهية، صدق العهود مع الله، وباختصار صدق العبادة. والولاية الثانية ينالها المؤمن بالوَهْب والمنّة الإلهية، وتتصف بصدق العبودية.
    إن عبارة «حق الله» على المخلوقات توهِم بحقّ المخلوقات على الخالق. لذلك فإن «ولي حق الله» هو الذي تظهر ولايته في خدمته للحقوق الإلهية، وهي: أداء الفروض، حفظ الجوارح، الصبر على الشهوات، التوكل في الرزق. يعطي ليأخذ: يعطي صدق العبادة، فيمنُّ الله عليه ويعطيه طريقاً أعلى في الولاية، ويرقى إلى أن يكون «ولي الله حقاً»، يجاهد المؤمن نفسه في عبادة الله، فتتوالى عليه أنوار العطاءات الربانية. فإن لم يقف عندها خلّصه الله – عزّ وجلّ – لعبوديته، وحرّره من كل شيء، ورقّاه في درجات الولاية، وأنزلَه محلّ قُربه. وهذا الولي، وإن كان لا يطلب المعاوضة بالخدمة، إلا أن عبوديته المطلقة هي مساحة أعماقه التي تحررت من كل شيء وامتلأت بالحضور الإلهي. لذلك نجد أن أهم صفات الولاية الصادقة عند الترمذي هي تنزّل السكينة على الولي، أي الحضور الإلهي.
    وينتقل شودكفيتش إلى السؤال الذي يُطرَح في كل نظرية روحية في الإسلام: ما هي العلاقة بين الولي وبين النبي أو الرسول؟ هذا الموضوع بالذات – وقد أشار إليه الترمذي في رسالة بدء الشأن – هو الذي أثار عليه ثورة الفقهاء. يرى الترمذي أن نبوّة الأنبياء ورسالة الرسل لهما نهاية وحدّ في هذه الدنيا، وتتوافق نهايتهما مع نهاية العالَم ورجوع مخلوقاته إلى خالقها في يوم الفصل العظيم. وعلى العكس من ذلك، تستمر صفة الولاية أبدية. وهذا ما يفسر أن «الولي» هو أحد الأسماء الإلهية. وهذا الكلام لا يعني أن الولي «أفضل» من النبي أو الرسول، ولكن صفة الولاية في شخص الرسول أو النبي نفسه تستمر أبدية، على حين فعل رسالته أو نبوّته ينتهيان بانتهاء العالَم.
    وبعد أن عرض شودكفيتش للولاية عند الحكيم الترمذي، يتساءل عن معنى «ختم الأولياء» الذي عنوَنَ به كتابه. ذلك أن الإشارات التي تلامحَت عند الترمذي، أمثال قوله إن ختم الأولياء هو «حجة الله على الأولياء» أو أنه «سيد الأولياء» و«حكيم الحكماء». ويبقى أن الحكيم الترمذي أورد مجموعة أسئلة كانت تحدياً للمدّعين، تحدياً لمن يتكلم كالأولياء وليس منهم. هذه الأسئلة المائة والسبعة والخمسون ظلت تنتظِر دون جواب زمن ابن عربي الذي واجه التحدي وأجاب في الفتوحات عن الأسئلة جميعها. وأهم هذه الأسئلة: كم عدد منازل الأولياء؟ أين منازل أهل القُربة؟ من الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد (ص) خاتم النبوة؟ ما سبب الخاتم وما معناه؟ أين مقام الأنبياء من الأولياء؟ ما سكينة الأولياء؟ الخ.
    في الحقيقة هنالك مصطلحين يستعملهما القشيري في تفسيره للقرآن (في «لطائف الإشارات») فنراه يفرّق بين «معصوم» و«محفوظ»: عصمة النبي تكمن في أنه لا يجد في نفسه الرغبة في معصية، أما الولي فإنه ليس في ملجأ من الإغراء، ويمكن أن يضعف أحياناً أمام الغواية، ولكن المنّة الإلهية تحفظه من الإصرار على الخطأ.
    الفصل الثالث: دائرة الولاية
    في هذا الفصل سوف يحدد شودكفيتش تدريجياً طبيعة الولاية عند ابن عربي ودورها وأشكالها. ويبدأ بأن يلفت النظر إلى أن مذهب ابن عربي في الولاية مضمّن تحت أسماء كثيرة – إلى جانب اسم الولي – أهمها: «العارِف»، «المحقِّق»، «الملامي»، «الوريث»، «الصوفي»، «العبد»، «الرجل».
    ويلحظ شودكفيتش أن ترتيب الفصول المتعلقة بالأنبياء لا يتبع التوالي التاريخي: فالفصل المخصّص لعيسى يسبق المخصّص لسليمان الذي، بدوره يسبق الفصل المخصّص لداود (عليهم السلام). ويلحظ أن شخصيتين من هذه الشخصيات السبع والعشرين – وهما شيث وخالد بن سنان – لم ترِدا في القرآن، على حين أن نبيّيْن مذكورين في القرآن – هما ذو الكفل وأليسع – غائبان عن كتاب ابن عربي. ويلحظ أيضاً أن لقمان، الذي يعطي اسمه لأحد الفصوص، هو في الواقع – قرآنياً – حكيم أكثر منه نبي.

    ويفيدنا كتاب فصوص الحكم أيضاً في استخلاص بنية الولاية الصوفية ومعرفة تنوع شخصيات الأولياء، وذلك من خلال الأنماط الروحية التي يُبرزها كل فص من الفصوص. ففي كل فص من الفصوص نجد نمطاً روحياً يتحدّد بالتقاء وجه من وجوه الحكمة الإلهية مع القابل الإنساني الذي يحويها ويُفرَض عليها، بالتالي، شروطه الإنسانية. كل نمط روحي هو التقاء المطلق الإلهي، أي الحكمة الإلهية، بالمقيّد الإنساني، أي بالكلمة.
    ثم ينتقل شودكفيتش إلى بيان الظروف التي دفعت ابن عربي إلى نشر فصوص الحكم. فابن عربي، مع أنه ليس برسول ولا بنبي، إلا أنه «وارث» يكتب إملاء إلهياً.
    وفي الفصل المتعلق بعُزَير، يعطي ابن عربي نصوصاً وإشارات هامة إلى علاقة النبوة بالولاية، يقول: «اعلم أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم تنقطع. أما نبوءة التشريع والرسالة فمنقطعة. وفي محمد (ص) قد انقطعت، فلا نبي بعده: يعني مشترعاً أو مشرّعاً له، ولا رسول، وهو المشرّع. وهذا الحديث قَصَم ظهور أولياء الله لأنه يتضمّن انقطاع ذوق العبودية الكاملة التامة».
    وباختصار فالأولياء هم ورثة الأنبياء.
    ومن الجدير بالذكر أن النبوة والولاية تشتركان في ثلاثة أشياء: العلم، والفعل بالهمة، ورؤية عالم الخيال بالحس، وتختلفان في الخطاب الإلهي. ولعله من أهم نصوص ابن عربي في هذا المجال هو عشرة فصول متتابعة من الفتوحات (152-162)، حيث يرسم دوائر الولاية والنبوة والرسالة، ويبيّن العلاقة فيما بينها، ويُنهي هذا المبحث بفصل عن «مقام القُربة» الذي يمثل كمال الولاية وأعلى مراتبها.
    وهكذا تتحدد طبيعة الولاية عند ابن عربي على أنها قُربة، ويتحدد شكلها بفعل الوراثة الموجود بين الولي الوارث والنبي الموروث. ولكن كل ولي وارث لنبي فإنه لا يرثه مباشرة، وإنما من حيث الحقيقة المحمدية. لذلك كل ولي هو ولي محمدي في شكل من الأشكال. وهذا ما دفع شودكفيتش إلى التوقف عند «الحقيقة المحمدية» ومكانتها الوجودية في الفصل التالي.
    الفصل الرابع: الحقيقة المحمدية
    كل وارث من نبي من الأنبياء هو دائماً وارث من محمد (ص). ويقول ابن عربي في الفتوحات إن:
    «كل الأنبياء الذين تقدموا في الزمان على محمد (ص) هم نوّابه في عالَم الخلق، وهو لا يزال روحاً مجرداً ونوراً مسوّى. قيل له: متى كنت نبياً؟ فقال: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. إلى أن وصل زمانُ ظهور جسده المطهَّر (ص)، فلم يبق حكم لنائب من نوابه».

    ثم يبيّن شودكفيتش أن عبارة «الحقيقة المحمدية» تجد جذورها القرآنية في عبارة النور المحمدي، المستوحاة من قوله تعالى: {سراجاً منيراً}(46:33). وإن فكرة «النور المحمدي» لها أصول في كتب السيرة، نجدها فيما يُروَى عن النور الذي كان بين عيني والده عبد الله، ورأته سيدةٌ عشية زواجه بآمِنة، وفارقه عندما رأته ثانية صبيحة اليوم التالي. إنه نور النبوّة المنتقِل في الأصلاب والأرحام.
    ويشير شودكفيتش إلى الصوفيين الذين أكدوا أسبقية النور المحمدي في الظهور على كافة المخلوقات، كجعفر الصادق وسهل التستري والحكيم الترمذي والحلاج، وإلى ارتباط الحقيقة المحمدية بعبارة مفهوم الإنسان الكامل، الذي هو هدف كل حياة روحية وغاية كل تعريف للولاية.
    والوارث غير المحمدي يرى الناسُ ولايتَه بما يظهر على ظاهره من علامات كالكرامات والخوارق. وعلى العكس، فإن الوارث المحمدي يجهله الناس، ولا يعرفه إلا النخبة، لأن خوارق الطبيعة لا تظهر على ظاهره، وإنما تتنزل في قلبه على هيئة علوم وأحوال روحية.

    الفصل الخامس: وَرَثَة الأنبياء
    ينطلِق ابن عربي من أن محمداً (ص) يحوي كلية الصور النبوية، ويحوي شخصه، بالتالي، كل المزايا المخصوصة التي لكل واحد من الأنبياء. ففي شخص النبي (ص) تجتمع صفات الأنبياء كافة، يرِث من الحقيقة المحمدية الوجه الخاص بالنبي الموروث. فمن الأولياء من يرث وجه عيسى من الحقيقة المحمدية، فيُطلَق عليه عيسوي، ومنهم من يرث وجه موسى من الحقيقة المحمدية، ويُطلَق عليه اسم «موسوي»، وهذا «إبراهيمي»، وذاك «هودي»، وغيرهم.

    وابن عربي نفسه يروي أن أستاذه أبا العباس العريبي أصبح عيسوياً في آخر حياته، وأنه هو نفسه – ابن عربي – على العكس، كان عيسوياً في البداية، ثم أضحى موسوياً، ثم أمسى هودياً، ثم ورث على التوالي من كل الأنبياء، وفي آخر المقام من محمد (ص) بنفسه.
    وهكذا يتكون من مزايا كل نبي ومعجزاته نمطُ شخصيته، تظهر صورتُها على الولي الوارِث. فالولي العيسوي، مثلاً، تأتي كراماتُه على صورة معجزات عيسى، فتراه يمشي على الماء، ويشفي المريض، ويُبرئ الأعمى. ويشير شودكفيتش إلى شخصيات معروفة في الوسَط الصوفي، ويؤكد أنها كانت عيسوية الولاية، كالحلاج وعين القضاة الحمداني، مريد أحمد الغزالي، وعبد الله أحرار والشيخ العلوي، كما يشير إلى أحمد البدوي موسوي. هذا وفي استطاعة العارف، إن تمرّس في أحوال الولي، أن يكتشف الطابع النبوي الذي يطبع ظاهره. ولا تتعدد الأنماط الروحية للولاية الموروثة عن النبوة إلى ما لا نهاية، بل يحصر ابن عربي صورها الرئيسة في كتاب فصوص الحكم بفصوله السبعة والعشرين.
    الفصل السادس: الأوتاد الأربعة
    بعد أن درس شودكفيتش في الفصول السابِقَة طبيعة الولاية وهوية الولي وأنماط شخصيات الأولياء، ينتقِل هنا من الطرح النمطي للولاية إلى الطرح الجغرافي، حيث يحتل كل ولي مركزاً جغرافياً من الأرض، بحسب مرتبته من الولاية: لكل ولي منزل، مركز جغرافي يحتله، ومنه يباشِر وظيفته وولايته. ويبدأ شودكفيتش بتلمّس منازل الأولياء في النصوص السابقة لابن عربي، ويجد حديثاً شريفاً عند السيوطي، عن أبي هريرة يشير إلى سبعة يحفظ الله بهم سكان الأرض.

    وفيما يتعلق بموضوع مراكز الأولياء الذين يمثلون قوى «الكون الفاعل»، لعل النص الأكمل هو ما نجده في بداية الجزء الثاني من الفتوحات، وهذا النص هو ما سيتخذه شودكفيتش دليله في طريق تحديد عالَم الأولياء. يبدأ ابن عربي الفصل بتحديد أفضلية مقام الرسول على النوع الإنساني عامة. ثم يمثل الدين بالبيت القائم بقيام أركانه الأربعة، وأركان البيت الأربعة هي: «الرسالة» و«النبوة» و«الولاية» و«الإيمان».
    يقول ابن عربي بأنه بعد وفاة محمد (ص) أبقى الله – عز وجل – من الرسل أحياء بأجسادهم في هذه الدار الدنيا ثلاثة وهم: إدريس والياس وعيسى. إدريس بقي حياً بجسده، وأسكنه الله السماء الرابعة، والسموات السبع هن من الدار الدنيا، تبقى ببقائها وتفنى صورتُها بفنائها، لأن الدار الأخرى تُبدّل فيها السموات والأرض. أما الياس وعيسى فقد بقيا في الأرض. وهذه الشخصيات الثلاث مُجمَع على رسالتهم. أما الخضر وهو الرابع فهو «من المُختلَف فيه»، كما يقول ابن عربي: «عند غيرنا لا عندنا. فهؤلاء الرسل الأربعة باقون بأجسامهم في الدار الدنيا. فكلهم أوتاد، واثنان منهم الإمامان، وواحد منهم القطب، الذي هو موضع نظر الحق من العالَم. إذن واحد من هؤلاء الأربعة، الذين هم إدريس وعيسى والياس والخضر، هو القطب. وهو أحد أركان بيت الدين، وهو ركن الحجر الأسود، واثنان منهما هما الإمامان، وأربعتهم هم الأوتاد. فبالواحد يحفظ الله الإيمان، وبالثاني يحفظ الله الولاية، وبالثالث يحفظ الله النبوة، وبالرابع يحفظ الله الرسالة، وبالمجموع يحفظ الله الدين الحنيف. ولكل واحد من هؤلاء الأربعة من هذه الأمة في كل زمان شخص ولي على قلبه مع وجوده، هو نائبه».
    ثم يتابِع شودكفيتش ابن عربي في تصويره لجغرافية العالَم الروحي، ويتتبّع توزيع الأدوار بين هؤلاء الأنبياء الأربعة: فإدريس هو القطب، والإمامان هما عيسى والياس، والوتد الرابع هو الخضر.
    الفصل السابع: الدرجة العليا من الولاية
    بعد الكلام على الأوتاد الأربعة التي سبَقَ تفصيلها في الفصل السابِق، يتابع شودكفيتش ابن عربي في الكلام عن الأبدال، وهم سبعة، لا يزيدون ولا ينقصون، يحفظ الله تعالى بهم الأقاليم السبعة (= الأقاليم المناخية السبعة)، وكل بدل «على قدم» نبي: الأول على قدم إبراهيم، والثاني على قدم موسى، والثالث على قدم هارون، والرابع على قدم إدريس، والخامس على قدم يوسف، والسادس على قدم عيسى، والسابع على قدم آدم. كما أن هناك، كل ولي من الأوتاد الأربعة ينوب عن النبي الحي بجسمه، وهنا كل بدل من الأبدال السبعة على قدم نبي من الأنبياء السبعة، سكان السموات السبع.
    ثم يأتي بعد الأبدال، النقباء، وهم اثنا عشر نقيباً في كل زمان، لا يزيدون ولا ينقصون، على عدد بروج الفلك، كل نقيب بخاصية كل برج. وبعد النقباء يأتي النجباء، وهم ثمانية، ثم الحواريون وهو واحد في كل زمان، ثم الرجبيون، وهم أربعون شخصاً في كل زمان. ثم يتكلم على الأفراد، المساوين للقطب في المرتبة والخارجين عن نظره، ثم على الملامية، حتى يصل إلى أعلى درجات الولاية، وهي مقام القُربة عند ابن عربي.

    الفصل الثامن: الأختام الثلاثة
    إن عبارة «ختم الولاية» لم تَرِد في قرآن أو حديث؛ ولكن لما كان العلماء هم الأولياء عند ابن عربي، وهم وَرَثَة الأنبياء، ولما كانت النبوة خُتِمت بشخص سيدنا محمد (ص)، ينشأ عن ذلك أن تُختَم الولاية بشخص الختم. والسؤال رقم (13) في أسئلة الترمذي، يقول: ومَن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد (ص) خاتم النبوة؟ يقول ابن عربي في الجواب: «الختم ختمان: ختم يختم الله به الولاية، وختم يختم الله به الولاية المحمدية. فأما ختم الولاية على الإطلاق فهو عيسى، فهو الولي بالنبوة المطلقة في زمان هذه الأمة. وقد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة، فينزل في آخر الزمان وارثاً خاتماً، لا ولي بعد بنبوة مطلقة».

    ثم ينتقِل شودكفيتش للكلام على ختم ثالث يشارك ختمي الولاية المحمدية والولاية العامة في عنوان هذا الفصل: «الأختام الثلاثة». والخاتم أو «الختم الثالِث» لم يذكره ابن عربي إلا مرة واحدة، وهو «ختم الأولاد». يقول ابن عربي: «على قدم شيث يكون آخر مولود من هذا النوع الإنساني، وهو حامل أسراره، وليس بعده ولد في هذا النوع. فهو خاتم الأولاد. وتولد مع أخت له فتخرج قبله، ويخرج بعدها، يكون رأسه عند رجليها. ويكون مولده في الصين، ولغته لغة أهل بلده. ويسري العقم في الرجال والنساء، ويكثر النكاح من غير ولادة. هذا الخاتم يدعو الناس إلى الله فلا يُجاب. فإذا قَبَضَه الله تعالى وقَبَضَ مؤمني زمانه، بقي من بقي مثل البهائم، ولا يُحلُّون حلالاً، ولا يحرِّمون حراماً، يتصرفون بحكم الطبيعة شهوة مجردة عن العقل والشرع. وعلى هؤلاء الناس تقوم الساعة».
    وأرى هنا، استناداً إلى هذا النص الوحيد الذي نمتلكه عن «خاتم الأولاد» والذي تضاربت حوله الشروح، فرأى بعضهم أنه هو خاتم الولاية العامة، الذي قيل عنه إنه عيسى، ورأى بعضهم الآخَر أنه مجرد ولد يولد في آخر الزمان.
    الفصل التاسع: ختم الولاية المحمدية
    أحياناً يقول ابن عربي إنه التقى بشخص في فاس، هو ختم الولاية المحمدية، وأحياناً أخرى يقول عن نفسه إنه هو ختم الولاية المحمدية، ويورد مبشِّرات تهادت إليه في رؤية منامية، ويؤكِّد، بعد وصوله إلى المشرق، أنه هو ختم الولاية المحمدية.

    وتلامذة ابن عربي كذلك يؤكدون أنه هو نفسه خاتم الولاية المحمدية. ويكثر الجدل حول شخص الختم. ويخرج الأستاذ شودكفيتش من هذا المأزق بالالتفات إلى مفهوم «النيابة» عند ابن عربي، ويُثبِت أن شخص خاتم الولاية المحمدية هو ابن عربي، يما يحويه من وظائف الختم، وأن كل طائفة ادّعَت لوليّها مقام الختم فهي إنما ترى فيه «نائب» الختم المحمدي، ترى على صفحة ولايته «القمرية» انعكاس صفات ولاية الختم «الشمسية».
    الفصل العاشر وهو الأخير: السلم المزدوج
    يلخّص شودكفيتش في مطلع هذا الفصل، وفي فقرة واحدة، خلاصة نظرة ابن عربي إلى الولاية، ويرى أنها انتظمَت على مفاهيم ثلاثة: الوراثة، النيابة، القُربة. فالوراثة لأحد الأنماط النبوية في معرفة الله – عز وجل – تفسِّر أشكال الولاية وسبب وجودها على أنماط متنوعة، والنيابة، التي هي نيابة الولي في وظيفة، ترجع في الواقع إلى الحقيقة المحمدية وتفسِّر مهمات الولاية ووظائفها؛ وأخيراً القُربة، وهي حقيقة الولاية ومعناها.

    السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: كيف نصبح أولياء؟ الولاية، قبل كل شيء، هي تجربة فردية ومجهود شخصي؛ وهي دائماً غير مسبوقة بمثال. وهذا ما يؤكد عليه ابن عربي دائماً: فلا تتكرر تجربة أبداً، ولا يسلك سالكٌ أبداً طريق سالكٍ آخر، ولا يمر سالكان بطريق واحد. غير أن هذه الفردية في الطرُق الموصلة إلى القُرب والولاية لا تمنع من وجود أنماط طرائقية، يجمع كل نمط منها مقاماته ومخاطره. وهذا ما يبرِّر وجود الشيخ المرشد المربّي، أي «المعلم الروحي» الخبير بأنماط طرائق المجاهدات. ومن ناحية ثانية، يظهر المعراج النبوي على أنه القدوة والمثال لكل طريق؛ وكل عروج وترقّ يطمح إلى تقرّب وولاية يرقى في هذه المعارج. وهذا ما سيتّضِح، كما يقول شودكفيتش، عند بحث مقامات القُرب عند ابن عربي.
    بكلام آخر: الولي الكامل هو الواصل إلى الحق، الراجع إلى الخلق.
    يبدأ شودكفيتش ببيان الطريق للسالك، منذ بداياته، كما فصّله ابن عربي في رسالة الأنوار.
    وأول ما يبدأ به ابن عربي هو تعريف السالِك بأمَّهات المَواطن، أي يعرّفه من أين جاء، وأين هو، وإلى أين يذهب، حتى يعرف السالك ما يقتضيه كل موطن، فيستعد لمعاملة الموطن الذي هو فيه بما يتناسب ويليق. ويقول ابن عربي للسالك منبّهاً: «ينبغي لك أن تعرف ما يريده الحق منك في ذلك الموطن، فتُبادِر إليه من غير تثبيط ولا كلفة. والمَواطن ترجع إلى ستة: الأول هو موطن {ألست بربكم}؛ والموطن الثاني هو الدنيا التي نحن الآن فيها؛ والثالث هو عالَم البرزخ الذي نصير إليه بعد الموت الأصغر، أي الموت السلوكي، والموت الأكبر، أي موت البدن وانتقاله؛ والموطن الرابع هو أرض الحشر؛ والموطن الخامس هو الجنة والنار؛ والسادس هو موطن الكثيب خارج الجنة، وهو تلّ من مسك أبيض تكون الخلائق عليه عند رؤية الحق سبحانه وتعالى».
    وبيان ابن عربي لهذه المواطن الستة التي ينزلها كل كائن تساهم – على ما يقول شودكفيتش – في تنبيه السالك إلى مخاطر الطريق الصوفي. فكلّ عاقل، كما يقول ابن عربي، عليه أن يعلم أن السفر مبني على المشقة والمحن والبلايا والأخطار والأهوال، وأنه من المحال أن يتنعّم المسافر أو يستريح أو يلتذ، وأن عليه أيضاً أن لا يستعجل المشاهدة والفتح، بل يعمل على تحصيل العلم، لأن الوقت في هذه الدنيا يجب أن يخصَّص لتحصيل العلوم الروحية، استعداداً ليوم البعث، حيث يتجلّى الله – عزّ وجلّ – فيه لكل إنسان في صورة عقيدته.
    وبعد أن يشرح ابن عربي للسالك المَواطن، وينبّهه على المخاطِر وعدم طلب المشاهدة، ويدعوه للالتفات إلى العلم، يعطيه بعض القواعد التطبيقية التي تساعده في طريقه إلى الله. يقول له: «لابد لك من العزلة عن الناس وإيثار الخلوة على الصحبة. فإنه على قدر بُعدك من الخلق يكون قربك من الحق، ظاهراً وباطناً. وأول ما يجب عليك طلبُ العلم الذي تقيم به طهارتك وصلاتك وصيامك وتقواك، وما يفرض عليك طلبُه خاصة، لا تزيد على ذلك شيئاً – وهذا هو أول باب الطريق والسلوك. ويأتي بعده العمل به، ثم الورع، ثم الزهد، ثم التوكل. وفي أول حال من أحوال التوكل يصبح يحصل لك أربع كرامات، هي الدليل على حصولك أو درجة في التوكل، وهي: طي الأرض، والمشي على الماء، واختراق الهواء، والأكل من الكون. ثم، بعد ذلك، تتوالى عليك المقامات والأحوال والكرامات والتنزّلات إلى الموت».
    ويرافق ابن عربي السالك معه على طريق الحضرة: فإن حقّق شروط الخلوة، وتحفّظ من الخيالات الفاسدة، واشتغل بذكر الله، وراعى اعتدال المزاج، وفرّق بين الواردات الروحانية الملكية والواردات الروحانية النارية الشيطانية، وحفظ عقيدته في الله عند دخوله الخلوة بأن الله {ليس كمثله شيء}، ولم يطلب من الخلوة من الله سواه، ولم يعلق وَلَهُ الهمَّة بغيره – إذا حقق السالك ذلك كلَّه فإن الله – عزّ وجلّ – يبتليه بأشياء يفتنه فيها، فعليه أن لا يقف مع شيء. ومن الأشياء التي يعرضها الله على السالِك ابتلاء أن يكشف له عن العالم الحسّي الغائب عنه، فلا تحجبه الجدران والظلمات عمّا يفعله الخلق في بيوتهم، ثم ينتقل من الكشف الحسي إلى الكشف الخيالي، وتتنزّل عليه المعاني العقلية بالصور الحسية، ثم تُكشَف له أسرار الأحجار المعدنية، فيعرف سر كل حجر وخاصّيته في المضارّ والمنافع، ويُكشَف له عن النباتات، وتناديه كلّ عشبة بما تحمله من خواص المضار والمنافع، ويُرفَع له عن الحيوانات، فتسلِّم عليه وتعرِّفه بما تحمله من الخواص. وهكذا كلُّ عالَم يعرِّف السالك بحمده وتسبيحه.
    إن العارِج في الفتوحات لا يصل إلى السماء الأولى إلا بعد أن يتحلّل ويترك مركّبات تكوينه: يترك ماءه وترابه وناره وهواءه. كذلك هنا، أول ما يُكشَف له عن عوالم المعادن والنبات والحيوان؛ فإن لم يجتزها، ووقف مع أيّ عالَم منها، فإنه يُقطَع عليه الطريق. فاجتياز العوالم ومفاتنها في رسالة الأنوار يقابل تحلّل السالك من مركّبات تكوينه في الفتوحات. ويتابع شودكفيتش المداخلة بين الفتوحات وبين رسالة الأنوار، كشفاً بكشف، وسماء بسماء، حتى ينتهي إلى نهاية العروج الإنساني. وهنا الإنسان، في نهاية معراجه، لا يبقى منه إلا السرّ الإلهي الذي لا يتحلّل ولا ينقسِم – هذا السرُّ المنفوخ منذ بداية الخليقة في طينة آدَم.
    وكما تحلّل السالك من أثوابه كافة قبل عروجه، فترك ماءه وترابه وناره وهواءه، حتى بقي سراً إلهياَ صرفاً غير ممزوج، نراه، عند رجوعه، يلبس أثوابه، واحداً واحداً، «يتركّب» حتى يعود إلى العالَم المركّب. ولكن التحليل والتركيب هما سلم مزدوج، يصعد فيه السالِك بدرجات وينزل بدرجات مقابلة، كأنها هي وليست هي. ويعود السالِك، يرجع الولي، من الوصول كأنه هو.
    فالولاية على حد ما يعرّف بها شودكفيتش مراراً في هذا الكتاب، هي قُرب، ولكنه قرب مزدوج: قرب من الله، وقرب من الناس. فإذا كان «الإنسان الكامل» شجرة أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء، والحقيقة المحمدية «برزخاً» بين الحق والخلق، فالولي وريث يجمع الأعلى والأسفل.
    أخيراً وليس آخراً: نهاية الأولياء ليسَت إلا اسم آخر لنهاية العالَم.
Working...
X