إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

    مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

    - د. خلف محمّدالجراد -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

    مقدمة
    يتألف هذا الكتاب من دراسات اجتماعية واقتصادية، تشكل جزءاً من المشروع الفكري القومي الأكبر والأشمل، فهي تصب في تلك الدراسات والمؤلفات والندوات ذات التوجهات القومية، التي تنظر إلى الطاقات والقدرات العربية في تفاعلها وتكاملها من أجل تجاوز أوضاع التفتت وهدر الطاقات وتبديد الجهود، عبر جملة من البدائل الواقعية والعملية لوقف التحديات السلبية المضادة والاستعاضة عنها بإجراءات وتوجهات تعاونية -تكاملية، خصوصاً في الميادين الاجتماعية والاقتصادية.‏
    إنّ هذه الدراسات الاجتماعية والاقتصادية تطرح أسئلة مفتاحية كبيرة، تتفاوت أهميتها وتسلسلها، تبعاً لمشروعية طرحها من جهة، وتبعاً لكيفية الإجابة والتناول والمقاربة من جهة أخرى. عدا أنها تطرح حلولاً واستنتاجات وخيارات.‏
    ففي الدراسة الأولى نستعرض واقع الدراسات والبحوث الاجتماعية في الوطن العربي، محاولين الإجابة عن السؤال التالي: هل ننقل عن المشتغلين بعلم الاجتماع في الغرب، أم نطوّر نظرية جديدة في علم الاجتماع قادرة على خدمة مجتمعنا العربي في معركته ضد التخلف والتبعية؟‍ وما هي تصورات الاجتماعيين العرب ومساهماتهم النظرية والميدانية؟‍.. ومعوقات الإنتاج والإبداع في هذا الحقل المعرفي الهام؟‍!‏
    وأخيراً تصوّرنا لتجاوز الأزمة وتنمية الدراسات والبحوث الاجتماعية العربية.‏
    ويتضمن الكتاب تحليلاً لمرتكزات ما يسمى بالنظام الاقتصادي العالمي الجديد وملامحه العامة، لما لذلك من انعكاس على استيعاب أزماته وتناقضاته ومفرزاته على عملية التنمية الجارية في الوطن العربي، مع اقتراح مجموعة بدائل تستهدف التخلص من تبعات النظام الاقتصادي العالمي، وتمتين البنية التحتية في الوطن العربي، ضمن استراتيجية واسعة الأبعاد والشمولية.‏
    من ناحية أخرى يدرس الكتاب الوضع الديمغرافي في الوطن العربي، من حيث أنّ الإنسان هو القوة المنتجة الرئيسة وهو أساس كل تغيير اجتماعي- اقتصادي. كما يناقش مسألة الاستثمار الأمثل للقوى البشرية والاستفادة القصوى من طاقاتها وإمكانياتها الاقتصادية -الاجتماعية الهائلة، الأمر الذي يعزّز من قدراتنا الفعلية دفاعاً من مصالحنا القومية والوطنية تجاه العالم الخارجي والتكتلات الدولية المختلفة.‏
    وتدور دراسة أخرى حول تأثير البُنية الاجتماعية الاقتصادية على العملية التنموية في الوطن العربي. حيث تغوص في تحليل العوامل الداخلية للتخلف، التي نرى أنها ترتبط بطبيعة ومستويات القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية في المجتمع العربي. وبالتالي ماهية خصائص الأنماط الاجتماعية -الاقتصادية المسيطرة على الأسلوب الإنتاجي، وهي خصائص اقتصادية وتاريخية واجتماعية لها مفرزاتها الذهبية والأيديولوجية والنفسيّة.‏
    ويناقش الكتاب مسألة التكامل الاقتصادي العربي كطموح وعقبات. بدءاً باستعراض قرارات الجامعة العربية حول التكامل العربي من الخمسينيات واللجان والمجالس والاتفاقيات المنبثقة عنها. والانتقادات الموضوعية لهذه التجربة، التي لم تعط النتائج المرجوة. ونكرّس جزءاً هاماً من الدراسة لتحليل العقبات التي تعترض سبيل التكامل الاقتصادي العربي، وفي النهاية نقدّم تصوّراتنا المُستخلَصة من مؤلفات ودراسات الباحثين والاقتصاديين والاستراتيجيين العرب، بهدف تجاوز أوضاع النشاط القطري في المجال الاقتصادي، وتطوير العمل العربي المشترك، وتفعيل التكامل الاقتصادي العربي تبعاً لمصالحنا القومية الخاصة، وانسجاماً مع متطلبات التنمية الاجتماعية- الاقتصادية وروح العصر أيضاً.‏
    وأخيراً، نزجي شكرنا الجزيل لكل من قدّم لنا التشجيع لإصدار هذا العمل المتواضع، آملين أن يسهم بتشكيل وعي سوسيولوجي عربي يصبّ في إطار مجموعة هامّة من الدراسات الاجتماعية -الاقتصادية، التي لولا تحريضها ومعطياتها ونتائجها ما أبصر هذا الكتاب النورَ، فهو لم يكتب من فراغ ولم ينشأ من ابتداع ذهني خالص، وهذا شأن الإنتاج في ميدان الدراسات الإنسانية بوجه عام، راجين أن ترفده أعمالٌ جماعيّة في إطار عربي استراتيجي فعّال وشامل.‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

      الدراسة الأولى واقع الدراسات والبحوث الاجتماعية في الوطن العربي
      توطئة:‏
      إذا كان تعدّد المنطلقات النظرية ومناهج البحث في العلوم الاجتماعية الغربيّة، يمثّل نوعاً من الأزمة والفوضى العلمية (باعتراف أغلب المختصين)، فإن المشكلة أشدّ وطأة في البلدان النامية، ومنها وطننا العربي، حيث تجاوز الجدل بين المشتغلين في علم الاجتماع دائرة الاختيار بين علم الاجتماع الوضعي أو الإنساني أو الماركسي.. الخ، واتجه ليطرح بديلاً إضافياً يتمثّل في التطلّع نحو صياغة نظرية سوسيولوجية وطنية، لها طابعها المتميز الناتج عن خصوصية هذه المجتمعات. فلقد ثار جدلٌ طويل بين علماء الاجتماع حول هذه القضية، وطُرح التساؤل التالي: هل ننقل عن المشتغلين بعلم الاجتماع في الغرب أو الشرق، أم نطوّر نظرية جديدة في علم الاجتماع قادرة على خدمة البلدان النامية في معاركها ضد التخلف والفقر والتبعية؟!(1).‏
      ومن ناحية أخرى يؤكد أحد الباحثين الاجتماعيين العرب أن كثيراً من العرب المختصين في العلوم الاجتماعية يكرّسون أوقاتاً ثمينة وجهوداً طائلة لاثبات نظريات واتجاهات وُلدت وترعرعت في مجتمعات أخرى وفي ظروف مغايرة، فنراهم يتفانون في تدقيق بعض المصطلحات ويسلّطونها من أعلى على الأوضاع الاجتماعية العربيّة. والحال أنّ تلك المفاهيم وإنْ كانت طريفة في ذات نفسها وجديرة بالاهتمام والدرس والعناية، فإنّها أصلاً وليدة المجتمع المُصنّع الغربي واستخدامها باسم كونية المعرفة العلمية غير وارد وغير مشروع لأنها لم تأخذ بالحسبان كل الأوضاع الممكنة إنسانياً، ولكن بعضاً منها فقط، فنقْلها بتلك السرعة والبساطة إلى المجتمع العربي يكون حجر العثرة في مسيرة البحوث الاجتماعية العربيّة(2).‏
      والمُلاحظ أنّ السنوات الأخيرة شهدت ظهور عدد هام من الكتابات، التي تناقش مشروعية استخدام بعض المفاهيم والمصطلحات الاجتماعية الغربيّة. وهي ضرب من الشك المنهجي، القائم على إعادة النظر في الجهاز المعرفي الغربي، دون رفضه بصورة كليّة ونهائية، كما لا تنتهي إلى نسف النزعة الوضعية المؤسّسة له. وإنْ كانت تتساءل حول مفاهيم تُعدّ مركزية في النظريات الاجتماعية الغربية، مطالبة بتوسيع وتحريك وتطوير تلك المفاهيم والمقولات والمناهج، إنقاذاً للعلم والعقلانية والموضوعية من مخاطر الاختصار والهيمنة والاستلاب. وعموماً فإنّ أصحاب هذه النزعة لا يطالبون بقطيعة نهائية مع الغرب، من حيث أنه مصدر معرفة حقيقية ونسبية، وإنما يدعون إلى رفض الأطروحة التي تزعم أنّ الغرب مصدر المعرفة المطلقة.‏
      "فهي تدعو إلى التقويم النقدي للجهاز المفاهيمي الغربي، أي إلى إبراز حدوده المعرفية من جهة، وإلى قدراته الكشفية عند التقائه بالواقع اللاغربي من جهة ثانية"(3). وبالمقابل يدعو عدد من الباحثين الاجتماعيين العرب إلى التخلي عن التقوقع على الذات، لأنهم لا ينظرون إلى الجهاز المعرفي الغربي كإنتاج للتاريخ الغربي فقط، وإنما من حيث أنه حصيلة لإسهام الشعوب والثقافات والحضارات الإنسانية كلها. إنّ الاعتراف بالحضور الغربي في شكل ثقافة ذات بعد شمولي يحتّم علينا أن نستغل تلك الثقافة دون شعور بالذنب، دون شعور بالاستلاب، دون شعور باختلاف وحشي -وهمي. ويرى أصحاب هذه النظرة وجوب الإفادة القصوى من الجهاز المعرفي الغربي واستغلاله، واستيعابه كفكر عقلاني وتقدّمي بالمعنى الواسع للكلمة. وهو "يفرض نفسه على جهازنا العقلي، شئنا ذلك أم كرهنا. لقد أصبح يشكل الإطار المرجعي العام"(4). إنّ ما تقدم يقودنا إلى مزيد من التفصيل والتحليل لواقع الدراسات والبحوث الاجتماعية في الوطن العربي، وذلك انطلاقاً من معالجة النقاط التالية:‏
      أوّلاً- تصوّرات الاجتماعيين العرب ومساهماتهم:‏
      في دراسة إحصائية تهدف لمعرفة تصوّرات علماء الاجتماع العرب، وحجم إسهاماتهم النظرية والتجريبية والميدانية قامت بها جهينة العيسى والسيّد الحسيني تبيّن أنّ الغالبية العُظمى من المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي(82.4 بالمائة) أنجزت بالفعل خلال حياتها الأكاديمية بحثاً امبريقياً واحداً على الأقل في مقابل 17.6 بالمائة لم ينجزوا أي بحث امبيريقي. أمّا بالنسبة لاهتماماتهم الأكاديمية، فمن المُلاحظ أن علم اجتماع التنمية احتلّ المرتبة الأولى. في حين سجّل حوالي ربع أفراد العّينة الأولوية الثانية لعلم الاجتماع الصناعي. ويأتي بعد ذلك (أي في المرتبة الثالثة) علم الاجتماع الريفي والحضري. أمّا بقيّة فروع علم الاجتماع فقد نالت مراتب أقل وأدنى على ساحة "الخريطة الأكاديمية" لعلم الاجتماع في الوطن العربي(5).‏
      وقد حاول الباحثان (العيسى والحسيني) التعرّف إلى تصوّرات المشتغلين بعلم الاجتماع في الوطن العربي حول أهم النظريات الاجتماعية شيوعاً وانتشاراً. وتبيّن أنّ النظرية البنائية الوظيفية بشكليها التقليدي والمعدّل تمثّل النظرية الاجتماعية الشائعة في الوطن العربي. أمّا نظرية التفاعل الاجتماعي فتبدو أقلّ انتشاراً، وكذلك النظرية النفسيّة الاجتماعيّة. أمّا أقلّ النظريات الاجتماعية شيوعاً في الوطن العربي في نظر أفراد عيّنة البحث فهي النظرية الايكولوجيّة. ويعتقد 81.48 بالمائة من أفراد المجتمع البحث أنّ علم الاجتماع في الوطن العربي يخضع لسيطرة علم الاجتماع الغربي (أوروّبا الغربية وأمريكا). وفي مقابل ذلك وجدت الدراسة أنّ أقلّ من خُمس أفراد العيّنة بقليل (18.52بالمائة) يعتقد أنّ المادية التاريخية تمثّل واحدة من النظريات الاجتماعية الشائعة في الوطن العربي. وفي كل الأحوال لاحظت الدراسة أنّ أفراد مجتمع البحث يعبّرون عن تبعية علم الاجتماع في الوطن العربي للاتجاهين الفكريّين العالميين في الثمانينات (البنائية الوظيفيّة والماديّة التاريخيّة) اللّذين يمثّلان تعبيراً عن الخبرة التاريخية للمجتمعات الغربيّة(6).‏
      ومن ناحية أخرى، فإنه يسود اعتقادٌ بين الباحثين الاجتماعيّين والمُهتّمين بالعلوم الإنسانية والاجتماعية بأنّ علماء الاجتماع العرب لم يساهموا إلى الآن في فهم دقيق وبنّاء لمجتمعاتهم المحليّة وثقافاتها. وبالرغم من أنّ هذا الشعور يشير إلى نوع ضروري من النقد الذاتي، إلاّ أنه يعكس واقعاً حقيقياً، بصرف النظر عن أسبابه وظروفه وملابساته. ونستطيع اليوم أنْ نتفهم مقولات مُتداولة بشكل واسع، مثل "التبعية الفكرية"، و"الاغتراب الثقافي" و"القراءات غير النقديّة" لفكر "الآخر". ومعنى ذلك أنّ ثّمة وعياً متزايداً لدى علماء الاجتماع العرب بأنهم لم يساهموا حتى الآن فيما ينبغي عليهم المساهمة في فهم واقع المجتمعات العربيّة(7).‏
      والواقع أنّ علم الاجتماع العربي لم يَعُدْ مقصوراً على نُخبة مُثقفة موصولة بالغرب أو بالشرق (النُخبة السوسيولوجية)، في حين أنّ الواقع يُظهر إنه إذا كانت الترجمات السوسيولوجية تحتلّ الواجهة في المكتبة الاجتماعية العربية وفي الجامعات العربية، وإذا كان هناك اعتماد نسبي على الخبرات الأجنبية، فهناك في المقابل جهود عربية أكاديميّة وبحثية لوضع المصطلح العلمي الاجتماعي، ورصد التحوّلات الاجتماعية العربية رصداً علمياً ودقيقاً، وهناك توجّهات نحو إنشاء المعاهد العلمية الاجتماعيّة التطبيقية ونحو المختبرات الاجتماعية، كما أنّ هناك مجلاّت للعلوم الإنسانية عامة والعلوم الاجتماعية خاصّة.‏
      فالتقدم الاجتماعي الذي يقرع أبواب المجتمعات العربية، لا يتحدّاها من الخارج وحسب، بل يتحدّاها من الداخل أيضاً، لا سيما وأنّ الوعي القومي للعرب لا ينفصل عن وعيهم الحضاري، الثقافي، المعرفي، والإسلامي عمقاً. وهذا كلّه يجعلنا نشعر بالحاجة الماسّة إلى التسلّح العلمي بالمناهج والقوانين المجُرّبة والصحيحة(8).‏
      وقد لفت انتباه "ديل إيكلمان" أُستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة نيويورك التغيّرات الحاصلة في الدراسات الاجتماعية العربيّة إزاء النظريات والمناهج والمفاهيم الغربيّة قياساً لما كانت عليه منذ عقدين من الزمن. فلم تعد تلك الانتقادات المُعمّمة على كل ما يُنتج في الغرب مُتداولة بالشكل الذي كانت عليه في السابق. وبدلاً من التعميم أصبح الانتقاد ظرفياً وموجّهاً لدراسات بعينها أو لمقاربات نظرية مُحدّدة. بل على العكس، ظهر اهتمام مُجدّد بفهم الأبحاث الغربية في إطارها الأصلي، حتى وإنْ كانت خلفياتها غير مرغوب فيها(9).‏
      ولكن تبقى مسألة الصلة الواقعية بين العلوم الاجتماعية وقضايا الإنسان العربي إشكالية، سواء لجهة النتائج أو لجهة الأهمية والحيوية. ففي ندوة عُقدت بقسم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في جامعة الكويت (1984) أكّد الدكتور سعد الدين ابراهيم: "أنّ النمو النوعي في علم الاجتماع لم يتواءم مع جوانب النمو الأخرى في الوظيفة أو الدور الذي يمكن أن يقوم به علم الاجتماع في صياغة الحاضر وفي التمهيد للمستقبل العربي. إذ أنّ المتخصّصين لم يساهموا بالقدر الكافي أو بالدرجة المطلوبة في صياغة مشكلات المجتمع العربي المعاصر وتفسيرها، أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه المشكلات"(10).‏
      أمّا الدكتور عبد الباسط عبد المعطي، فإنه يرى أن القضايا التي يدرسها علم الاجتماع في البلدان العربية معظمها قضايا جزئية، ومنها قضايا مرتبطة بمشكلات اجتماعية غير سويّة من وجهة النظر المجتمعية والضبط الاجتماعي مثل الجريمة وانحراف الأحداث. أما الدراسات السوسيولوجية الحقيقية التي تتناول قضايا التجزئة والوحدة ومسألة التبعية، فهي محدودة جداً، وغالباً ما تتناول القضايا ذات الطابع السلبي أكثر من القضايا ذات الطابع البنائي التي تسهم في عملية التغيير والتخطيط في حين أنّنا بحاجة إلى بحوث حول متطلبات وشروط إقامة مجتمع بنائي أو إحداث تغيرات مُعيّنة في بُنية اجتماعية عربية لها واقع وظروف ولها ثقافة ولها خلفيّة(11).‏
      ويعتقد الدكتور سعد الدين إبراهيم أنه لم تظهر مساهمة علمية نظرية يُعتَدّ بها في الوطن العربي.. وربما كان السبب (وفق رأيه) يرجع إلى أن التطوير النظري لم يكن الهدف الأوّل للمشتغلين بهذا الميدان، بينما يزداد الاعتراف بإنتاج المفكرين العرب من الخارج أكثر من داخل الوطن العربي نفسه، خصوصاً أولئك الذي تتبنّاهم الدول الأجنبية، فيعاد تسويق أفكارهم إلى بلدانهم الأصليّة مثلما يتم تسويق الملابس والسلع الأخرى(12).‏
      ونحن لا نتفق في هذا السياق مع التقييم السلبي لمجمل "الفكر الشرقي"، والذي يرى أصحابه أنّ دراساتنا الاجتماعية ليست مفيدة، لأنها عبارة عن نقل غير دقيق وغير أمين للفكر الغربي وأنّه " وحتّى عندما يُوّجه النقد إلى الفكر الأجنبي في الوسط العلمي يُنقَل هذا النقد حرفياً، وهذا أُسمّية التبعيّة في النقل والنقد، وهو ما يخفي في الوقت نفسه الضعف المعرفي والضعف الفكري للمشتغلين بعلم الاجتماع في البلاد العربية"(13).‏
      الواقع إن وضع الدراسات والبحوث الاجتماعية عموماً ووضع علماء الاجتماع العرب على وجه الخصوص، هو امتداد لوضع الجامعة في الوطن العربي، التي لم ترتبط بعد مع المجتمع ارتباطاً عضوياً في نطاق التغيّرات الكميّة والكيفية. وذلك في جميع التخصّصات الإنسانية والعلمية، ما عدا التخصّصات المهنيّة كالطب والهندسة والمحاماة. بينما نجد أنّ ما يقوم به علماء الاجتماع والأنثربولوجيا في جامعات العالم الصناعي يختلف كثيراً عمّا يجري في مجتمعنا. فمثلاً في جامعات الغرب يقوم علماء الاجتماع بإجراء البحوث والدراسات حول قضايا مجتمعيّة كثيرة في مجال العمل والبطالة والجريمة والأمن الصناعي وتلوث البيئة وتعاطي المخدّرات.. الخ بتمويل من الحكومة أو المؤسّسات المدنيّة أو البلديات، وتُسند تلك الأبحاث والدراسات إلى عدد من ذوي الاختصاص، ثم تجري مناقشة النتائج في أوساط علمية لتفسير وتحليل أبرز مظاهر المشكلة والحلول المُقترحة، وبعد ذلك تُطرح علنياً وعلى نطاق جماهيري واسع، وبذلك يجري ربطٌ عمليّ بين الجامعة ومراكز البحث العلمي والمشكلات التي يبحث المجتمع عن حلول فعّالة لها. والأمر نفسه يحصل في مجالات أخرى كالصناعة والزراعة والتعليم وقضايا الأسرة والمعوقين وكبار السن.. الخ.‏
      أمّا بالنسبة إلى الوضع في الوطن العربي، فإنّ الدراسات الاجتماعيّة ما تزال أسيرة الصراعات والمجادلات الأيديولوجية "فحين نتكلم عن قضيّة اجتماعية مُعينة يجري تصنيف الآراء والأفكار المطروحة بأنها يمينّية أو يساريّة أو مع الإسلام أو ضدّ الإسلام.."(14).‏
      وبرغم إيماننا بأنّ الأيديولوجيا تُعَدّ من أهم معوقات تحقيق الموضوعية في العلوم الاجتماعية، إلا أننا نرى بالمقابل أنّ محاولات تجنّب الأيديولوجيا من الصعوبة بحيث تكاد أن تصل إلى طريق مسدود. فالأيديولوجيا هي أحد المتغيّرات الهامّة (شئنا ذلك أم لم نشأ) في النظرية الاجتماعية ومن العسير تجنّبها في دراسات علم الاجتماع والأنساق المعرفية المتفرّعة عنه، بدءاً باختيار الموضوع وانتهاء بمحاولات المناقشة والتفسير، وذلك لتمحور الدراسات والبحوث الاجتماعية حول الإنسان وقضاياه المجتمعيّة المختلفة، وهي قضايا تتّسم أيضاً بالنسبية، وترتبط بالقائم بالدراسة وهو الإنسان أيضاً، الذي تتباين رؤيته للأمور وتختلف أيديولوجيته ومعتقداته ومن ثم أحكامه. فالإنسان الباحث يظلّ أسير انتماءاته الاجتماعية والطبقية والقومية والسياسية والدينية والثقافية، وتظلّ محاولات تحرّره أملاً يراود هؤلاء الذين يرون أنّ تحقيق الموضوعية في علم الاجتماع رهنٌ بهذا التحرّر النسبي. ومن المحقّق أن بعض علماء الاجتماع الغربيّين مّمن ينتمون إلى جناح التوازن في علم الاجتماع قد اعترفوا بالدور الذي لعبته وما زالت تلعبه الأيديولوجية في علم الاجتماع، فها هو روبرت ميرتون R.MERTON يعترف بأنّ الولايات المتحدة وحدها تضمّ حوالي خمسة آلاف عالم اجتماع، ولكل واحد منهم علم اجتماع خاص به His own sociology" " وما هذا التعدّد -فيما يرى ميرتون -إلاّ نتيجة لتعدّد التصورات أو بالأحرى كنتيجة لتعدّد الأيديولوجيات(15).‏
      وهناك عدد من الباحثين الاجتماعيين، الذين يرون أنّ صراع الأيديولوجيات (الليبرالية -المُحافظة- الراديكالية..) قد ساعد على تطوير النظريات العلمية المتناسقة مع وجهات النظر الأيديولوجية المعنية وطوّر من قدراتها على التفسير والتنبؤ، ولكن من جهة أخرى يمكن القول أنّ التحليل السوسيولوجي المرتبط ارتباطاً أعمى بمنطلق أيديولوجي مُعيّن يُشكّل احتكاراً لقدرات عالم الاجتماع في التفسير وتطويع المعطيات النظرية والمنهجية لتتناسب مع موضوع البحث وخاصيّة الظاهرة(16).‏
      ومن ناحية أخرى يبدي بعض الدارسين الاجتماعيين والكُتاب العرب تشاؤماً كبيراً حول مستقبل الدراسات السوسيولوجية في الوطن العربي، نظراً لما يعتقدونه من تبعية مطلقة في كل شيء ينتجه الغرب بشقّيه الرأسمالي والماركسي، حيث أنّ مسألة "المرجعية العلمية" لم تجد لها حّلاً بعد. "فالبُنية المدرسيّة والجامعية المُعاصرة في الوطن العربي والعالم الثالث هي بُنية تُقلّد الغرب بشكل كاريكاتوري، ليس في المسار العام فقط، بل في التفاصيل أيضاً. ولأنّ الكتابات المدرسيّة هي كتابات تاريخية في الأساس، وعلم الاجتماع ببنيته الحالية هو علم غربي، فإنّ هذه الكتابات تأتي على صورة البحوث الغربية في هذا المجال(17).‏
      ولكنْ أين تكمن التبعية العربية في ميدان الدراسات والبحوث الاجتماعية، هل في النظرية، أم في المفاهيم، أم في الطرائق؟!‏
      الدكتور رضوان السّيد يجزم بأنّ تبعية الدراسات الاجتماعيّة العربيّة، خاصّة في المُصطلح والمجال والاستبيان والرؤية التحليليّة والشاملة للمجتمع. وهو يرى أنّ الامبريقيّين الغربيين وضعوا مصطلحات وطرائق للبحث الحقلي نابعة من مشكلاتهم هم، تلك التي تواجهها مجتمعاتهم أو تبدو فيها. فإذا كان استخدام الرؤية الغربية لدى المؤرخين الاجتماعيين العرب يخرج مجتمعاتنا واهتماماتنا الاجتماعية التاريخية من مجال الرؤية هذه، فإنّ تبعية الميدانيين مُصطلحاً وطرائق للطرائقيّين الغربيّين تجعل منطلقاتهم خطأ، ونتائجهم أقلّ دقّة ومصداقية(18).‏
      ويؤكد الدكتور السيّد أنّ الدراسات الميدانية التي تنطلق من مقولة الطبقات الاجتماعية أو تلك التي تنطلق من رؤية تجريبية أو نظرية غربيّة -لعلاقة السّلطة بالمجتمع -ليس بوسعها مهما وجدت جزئيات مؤيّدة أنْ تقدّم كثيراً مفيداً في مجال دراسة مكافحة الظواهر المرضيّة أو المتخلّفة(19).‏
      وتلقى النظرة السابقة رواجاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية العربية، التي تتحدّث دائماً عن التبعية الفكرية لمناهج الغربيين ونظرياتهم وطرائقهم. و"الاتّهام" الأساسي يتمثل في أنّنا "نكتب عن مجتمعاتنا من خلال ما يكتبه الآخرون في علم الاجتماع أو عن مجتمعاتهم، ونطبّق ما نستطيع تطبيقه على مجتمعاتنا، والمجتمع الذي لا ينتج صناعته وبضائعه وموادّه قلّ أنْ يستطيع إنتاج فكر لا يكون تلفيقياً أو توفيقياً، نأخذ بسهولة ويسر موادّنا ومصنوعاتنا ومنتوجاتنا الاستهلاكية، وذلك عينه هو ما يبدو أنّنا نفعله في الميدان الكتابي أو في ميدان الفكر والتفكير، نفضّل السهل، ونقع في الاستيراد وفي الاستهلاك والمضغ"(20)‏
      هذا ويعتقد الدكتور علي زيعور بأنّ تضارب التوجّهات (أو التّيارات) في دراساتنا الاجتماعية، لا يعود إلى تنوّع فكر الباحثين وغنى مناهجهم بل إلى الارتباط الفكري بين الباحث والمدرسة الأجنبية أو السلطة الغربية التي يتبعها بلده، لأننا -كما يقول- "لا ننتمي إلى مدرسة عربية محدّدة في علم الاجتماع أو في علم النفس الاجتماعي أو في الفلسفة، إننا نستهلك، إننا نأخذ المنهج والتوّجه دون أن ننصبّ على إنتاج المنهج المستقل والتوجّه النابع من واقعنا"(21).‏
      وقد غالى الدكتور زيعور في وصوفاته السلبية -النفسانيّة للدراسات الاجتماعية العربية، التي تنْظُمُها "التيارات الأميركية المنهج، حيث تجمع بيانات معطيات (في ميادين الفولكلور /خ.ج) لا تقودها نظرية وتؤدي إلى معرفة بلا وظيفة وعديمة المعنى"(22). بل وصل به الأمر إلى حدّ الإعلان: "إنّ علم الاجتماع الأميركي، في الكثرة الكثيرة من أبحاثه، يخدم السياسة الأميركية والنظام الأميركي، ويعمل ضدّ التطور بل وضدّ الإنسانية الساعية لرفع مستويات الإنسان"(23).‏
      ونحن بدورنا نرى عدم فائدة التبسيط الشديد للمواقف والاتجاهات والتيارات، وأنّ التعميم في الأوصاف والتقييمات السلبية يوقعنا في تكرار الأخطاء، والرفض المتبادل، وإطلاق الاتهامات المجانيّة، التي تبعدنا عن التدبّر الشامل والدراسات الميدانية للبنية الاجتماعية العربية، وصولاً إلى ملامح نظرية عامّة تحكم تطور مجتمعاتنا وتشكل إطاراً ينظم اتجاهاتها المستقبلية.‏
      ثانياً- معوقات التطور والإبداع في الدراسات الاجتماعية العربية:‏
      يختلف الباحثون والدارسون الاجتماعيون العرب في تشخيص العوامل والظروف المسبّبة لقلّة الدراسات والبحوث الاجتماعية المبتكرة والأصيلة في البلدان العربيّة. ويصنّفها بعضهم ضمن العوائق التالية(24):‏
      1-العائق النظري: ويتمثّل في الضعف النظري لدى الاجتماعيين العرب، حيث أنّ ما يعرفونه عن المدرسة الثقافية الأمريكية -مثلاً- ينبع من قراءات مختصرة ومطالعات سريعة، لمقالات ودراسات انتقائية مُعرّبة. وغالبيتهم لا يطّلعون على النصوص الأساسية (الأصليّة) للنظريات المطروحة، لذلك يواجهون صعوبات حقيقية في الحكم الموضوعي على تلك الآراء والتيارات والاتجاهات.‏
      2-العائق المنهجي: يلعب هذا العائق دوراً كبيراً في عرقلة تطوّر العلوم الاجتماعية في الوطن العربي. ويتجسّد في إهمال بعض الاختصاصات الهامة في دراسة مشكلاتنا الاجتماعية (كعلم الاجتماع البدوي والريفي وعلم الاجتماع الديني). كما يتمثّل في بعثرة الجهود المبذولة من الباحثين الاجتماعيين على امتداد الأرض العربية. ويمكن الموافقة هنا جزئياً على الرأي القائل إنّ دراساتنا الاجتماعية تعود إمّا إلى الاتجاه المادي الجدلي والتركيز على الصراعات، أو إلى الاتجاه البُنيوي والوظيفية، أو إلى الاتجاه الذي لا يتقيّد باتجاه ولا يلتزم بنظرية أو منهج، بقدر ما يوفّق ويلفّق عن وعي تارة أو تسهيلاً للدراسة وبدون وضوح تارات أخرى. فالخاصيّة الكبرى لعلم الاجتماع العربي أنّه لا ينتمي إلى اتجاه وحيد، أو إلى منهج معين، أو مدرسة اجتماعية بعينها.‏
      بكلمة أخرى، لا توجد مدرسة اجتماعية عربية، بل مجموعة واسعة من الدراسات في علم الاجتماع منها التجزيئي الإقليمي، ومنها الجهوي والمحلّى. وهي مدرسة متأثرة بالأيديولوجيات والتيارات الاجتماعية العالمية. "ويبقى فكرنا يدور في حلقة مفرغة: يأخذ من الأجنبي ويعزّز الأجنبي بذلك الأخذ. ومن هنا أيضاً، كسبب أو كنتيجة معاً، إنّ علم الاجتماع عندنا غير متميز بخصوصيات، ولا يحمل سمات الواقع وتطلّعات المجتمع.. وعلم الاجتماع العربي غير ملتصق بذلك الوجود ولا بمصيرنا، وأعمالنا تطبيقية لمناهج أجنبية، وأخذ ونقل وترجمة، إنها إعداد وليست عملاً نظرياً أو صناعة "أهل النظر" المتخصّصين المكرّسين"(25).‏
      وفي الإطار ذاته، يُلاحظ انقسام الباحثين الاجتماعيين العرب إلى فريقين: فريق يناقش الموضوعات المطروحة من منطلق النزعة الشمولية، وفريق آخر ينطلق منن خصوصيات الظواهر والفولكلور والعادات والأعراف المحلّية في البلدان العربية المختلفة. فالشموليون يرون أنّ المجتمع العربي ما يزال وحدة بالمعنى السوسيولوجي رغم تفاقم الاقليمية والقطرية، وتفاقم ظواهر التفتت والانقسام والتناحر، وكثرة الحدود والخلافات والصراعات والصدامات المباشرة وغير المباشرة والقيود على الحركة الاجتماعية.. الخ. أمّا الامبيريقيّون (الميدانيون/ التجريبيّون)، فإنّهم يتمسكون بالأبحاث الأنتروبولوجية والخصوصيات الفولكورية البادية على السطح. ويبدو الوطن العربي أمام ناظر الباحث الاجتماعي ذي النزعة التجزيئية جُزراً معزولة، تحكم كلاً منها قوانين تنتج ظواهر متباينة. رغم أن العرب ما يزالون أمّة واحدة في الثقافة والدين واللغة والتاريخ وأنماط المعيشة.‏
      لكن الانصاف يقتضي القول إنّ هذه الاشكالية لا تصدق على الاجتماعيين فقط، بل على الباحثين العرب في تخصّصات أخرى كثيرة.‏
      والواقع أنّه رغم ظهور بعض المحاولات التي كانت تهدف إلى إبراز نوع من النظرية الاجتماعية العربية (قسطنطين زريق، ساطع الحصري، عبد العزيز الدوري وغيرهم)، فإنّ من المسلّم به أنه -بخلاف نظرية ابن خلدون -لا توجد إلى الآن نظرية اجتماعية نوعية متكاملة عن المجتمع العربي، غير متشرّبة بالمسائل والأفكار والأطروحات الأيديولوجية.‏
      إنّ الارتباكات والاضطرابات والصراعات الحاصلة في الدراسات والمناهج البحثية الاجتماعية العربيّة، تعود -حسب تقدير بعض المختصين- لعوامل عدّة، في طليعتها(26):‏
      أ-التعميم والإطلاقية أو المواقف الحدّية كالمبالغة في عمومية المجتمع العربي من جهة، أو في خصوصية مجتمعات أقطاره من جهة أخرى.‏
      ب-فقدان الصلة بين التنظير والعمل الميداني الذي أدى إلى اتساع الفجوة بين المنّظرين والممارسين.‏
      جـ- اشكالية المنهج وغياب الموضوعية عن الكثير من التحليلات السوسيولوجية. وهو ارتباك يرتبط تارة ارتباطاً مباشراً بأنماط النظرية وتارة أخرى بنوعية الموضوعات المبحوثة. ويُعزى هذا الارتباك المنهجي لعوامل عدة، من بينها: ضعف مستوى التدريب الجامعي في المنطقة في مجالات تصميم البحوث واستعمالات المنهج وطرق البحث الكمية، ندرة الفرص المتاحة لعلماء الاجتماع والمتخّصصين لإجراء بحوث مسحية أو حقلية، ولجوء كثيرين منهم إلى استبدال ذلك النقص بتبنّي مناهج كيفية ونقدية في معظمها، بدائية تقنية البحوث الاجتماعية العربية وبخاصة في مجالات طرق تجميع البيانات وتنسيقها وتبويبها وتحليلها وكذلك في مجالات البحوث التطبيقية.‏
      ومن أهم المواقف تجاه إشكالية المنهج في البحث السوسيولوجي العربي، نشير إلى موقفين عريضين:‏
      الموقف الأول يحبّذ الاهتمام بالتنظير على حساب المنهج، ويرى البحث السوسيولوجي من منظور مناقشة ومقارنة وتوليف المواقف والمفاهيم الواردة في أفكار الروّاد.‏
      أما الموقف الثاني، فإنه يحبّذ الاهتمام بالمنهج على حساب النظرية، ويفضّل تقديم أعمال امبريقية كمية مُبسّطة معتمدة على الدراسات الميدانية والمسحيّة.‏
      على صعيد آخر حذّر بعضٌ من دعاة المحلية من استيراد منهجيات بحث غريبة عن المجتمع العربي ومن تطبيقها دون دراسة للأوضاع السائدة. وعبّروا عن ضرورة إعادة النظر في الأساليب المنهجية ومحاولة ابتداع وتطويع أدوات بحثية ومنهجية ملائمة لخصوصية الواقع العربي ومشكلاته (عزّت حجازي، سيكولوجية الإنسان المقهور).‏
      بينما يرى الفريق الآخر أنه لا ضرر من الإطلاع على المناهج العلمية المُستعملة في التحليل السوسيولوجي الغربي، وتمثّلها واستعمالها في الحالات المناسبة، وخصوصاً أنها قدمت الأسانيد القاطعة عن قدرتها على التفسير والتطور والتعبير.‏
      3-العائق الاجتماعي: حيث يشكو الاجتماعيون العرب من أن المؤسّسات التي يعملون في إطارها لا تشّجعهم على إثارة المشكلات الجديدة والموضوعات الخلافية. فالباحث في البلدان العربية يُصنّف ضمناً أو عُرفاً، الموضوعات إلى "حسّاسة" و"غير حسّاسة". وهو نهجٌ له دور فعّال على صعيد الانتاج السوسيولوجي في البلدان العربية.‏
      من تلك الموضوعات "الحسّاسة" يذكر الباحث فردريك معتوق، على سبيل المثال: المرأة ومشكلاتها؛ والدين والجماعات الدينية ودورها الفعلي، في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية. ثم إنّ الباحث الاجتماعي يفضّل عدم الخوض في مايسمّيه البعض حقول الألغام الاجتماعية.‏
      من هذا الموقف المستسلم، ومن هذه الاستقالة الصامتة والمعّممة تنبع المعالجات الهامشية لواقعنا الاجتماعي، لدرجة أنّ مطالعة بعض الروايات العربية الناجحة أو مشاهدة بعض الأفلام العربية الجريئة والواقعية، تعطينا فكرة أوسع عمّا يجري في الواقع الاجتماعي من الأبحاث والدراسات الاجتماعية(27).‏
      ويؤيّد هذه الرؤية الباحث الاجتماعي محمد حافظ دياب، الذي يؤكّد -في معرض دراسته للخطاب السوسيولوجي في الجزائر -أنّ الفعل السوسيولوجي في منطقتنا العربيّة يتخلّف أو يتأخر عن مجمل أفعال التغيير الاجتماعي الجارية فعلاً. بمعنّى آخر، إن تجارب التنمية وإجراءات تحديث البنية الاقتصادية، وصياغة أسس عمليّة لثقافة وطنية، وكل ما تثيره من ردود اجتماعية أسبق من الدراسات والبحوث السوسيولوجية. مثال ذلك، أنّ إعادة هيكلة المنشآت الصناعية التي تمّت في الفترة ما بين عامي 1982 و1985، قد استتبعتها أبحاث سوسيولوجية عديدة، وهو ما قد تبدو معه الممارسة السوسيولوجية كفّعالية تابعة. وما يزال سائداً الاتجاه القائل إنّ مهمة السوسيولوجيا هي الاقتصار على دراسة المعطيات الظاهرة والمباشرة، التي تتفادى الموقف الأصعب، القائم على إعادة هيكلة الواقع، واستخراج قوانينه ودينامياته، عبر تجاوز الظواهر والعلاقات المباشرة إلى البحث عن المحرّكات والعناصر الفاعلة في آلية حركية البُنية الاجتماعية -الاقتصادية. ويأخذ الباحثُ دياب على السوسيولوجيا المُطبقة في الجزائر هروبها من بحث مشكلات البُنية البيروقراطية واختلالاتها الوظيفية في المنشآت الانتاجية والخدمية، ومشكلات الهجرة الداخلية والخارجية، وقضايا بطالة الشباب، وآثار النظام الاقتصادي على البُنية الاجتماعية -الطبقية، ومظاهر الاستهلاك الترفي، وظاهرة المدّ الإسلامي (الأصولي). وكلّها موضوعات لم يستطع البحث السوسيولوجي في الجزائر أن يضعها في صلب اهتماماته بعد(28).‏
      4-العائق السياسي: يرى عددٌ كبير من الباحثين العرب أنّ المؤسّسات الرسمية، خصوصاً صاحبة القرار تنظر بحذر بالغ إلى ما يقوم به الباحثون الاجتماعيون من دراسات وغوص في أعماق المجتمع وأنساقه المختلفة. وهناك قطيعة واضحة بين أصحاب القرار والذين يمتلكون ناصية المعارف العلمية- الاجتماعية. وفي هذا السياق يقول الباحث الاجتماعي المعروف سيّد ياسين: "إنّ عملية اتخاذ القرار محتكرة في يد نخبة سياسية لا تؤمن بالمنهج العلمي الإيمان الكافي، وهذا أحد أسباب عدم فاعلية العلوم الاجتماعية في الوطن العربي"(29).‏
      هناك إذاً أزمة ثقة بين العلوم الاجتماعية في البلدان العربيّة وبين المؤسّسات الرسمية، بعكس ما يحصل في الدول المتقّدمة صناعياً في العالم. والجدير ملاحظته أن سبب حذر القيّمين على الأمور السياسية، قد يعود إلى عدم اكتشافهم لأهمية الدراسات والبحوث الاجتماعية في ميدان التخطيط الاجتماعي والاقتصادي ودراسات الرأي العام وأساليب التوقّع والتنّبؤ والاستطلاعات الاجتماعية والسياسية والنفسية.. الخ. حيث أن العلوم الاجتماعية تظلّ سلاحاً مزدوجاً، يمكن أن يختار كل طرف يستخدمه ما يتناسب مع مصلحته أو توجهاته وتطلعاته.‏
      كما أنّه لا بّد من الإشارة إلى حصر موضوعات البحث والدراسات السياسية، أو بالأحرى موضوعات "علم الاجتماع السياسي" حتى داخل حدود المؤسّسة الجامعية نفسها. ومنها المسائل المتعلقة بطبيعة النُخَب الحاكمة والبيروقراطية وحجم الفساد في المؤسسات الرسمية(30)".‏
      وقد توقف عددٌ من الدارسين والمفكّرين والكتّاب العرب عند إشكالية العلاقة بين المثقفّين عموماً والباحثين الاجتماعيين بصفة خاصة والسلطات الرسمية. ونشير في هذا المنحى إلى ما تحدّث به الدكتور رضوان السيّد في أثناء تحليله "لمشكلات البحث الاجتماعي العربي"، حيث يقول: "إنّ السياسيّين العرب في غالبيتهم لا يميلون إلى الدارسين الاجتماعيين، ولا يشجّعون البحوث الاجتماعية بالوطن العربي، وفي ربط كراسي الدراسات الاجتماعية بالنفسّيات والفلسفيات في بلدان عربية متعدّدة. ومن المعروف أنّ الاجتماعي المعاصر شأنه في ذلك شأن الاقتصادي يعتمد على الاحصائيات والبيانات الكمّية التي تُصدرها مؤسّسات الدولة المتخصّصة. لكن هذه الإحصائيات والبيانات الكمية لا تظهر أو لا تُنشر في عدّة بلدان عربية لأسباب مختلفة، فتزيد عمل الدارس صعوبة وعُسراً خصوصاً مع فقدان الدعم أو القرار السياسي الضروريّين لإجراء مثل هذه البحوث"(31).‏
      والواقع أنّ المؤسّسات الرسميّة في الوطن العربي ما تزال تتجاهل الدور الحقيقي، الذي يمكن أن يلعبه علم الاجتماع في التأثير الإيجابي في التحولات الجارية في المجتمع. لكنْ من الملاحظ أن هناك محاولات للاستفادة من الفرص التي تقدّمها العلوم الاجتماعية (ولا سيّما علم النفس الاجتماعي أو سيكولوجيا الحشد) في ترسيخ الهيمنة والحفاظ على السيطرة، التي تتمتع بها النخبات الحاكمة، سواء في الميادين السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإعلاميّة.‏
      فالباحث الجزائري العياشي عنصر يرى أنّ أصعب ما يتعرّض له علم الاجتماع الجزائري اليوم، إنّما يتمثّل في سيطرة السلطة السياسية، التي سعت تحت شعار "تأسيس علم اجتماعي ملتزم بقضايا المجتمع" إلى بسط نفوذها على هذا الفرع الهام من فروع المعرفة. وقد قَبِلَ علمُ الاجتماع هذا الدور الامتثالي، مكتفياً بلعب دور الصدى للقراءات والإجراءات السياسيّة، وتبرير سيطرة القوى الاجتماعية التي بيدها الحكم. "لقد أدّى الخلط بين الالتزام والامتثالية إلى فقدان علم الاجتماع في الجزائر لكل مصداقية"(32).‏
      وإذا ما اتّجهنا صوب منطقة الخليج العربي، فإنّنا نعثر على أصداء المشكلات ذاتها، التي يثيرها الاجتماعيون العرب دائماً، حيث يُلاحظ "أنّ بعض الاجتماعيين الخليجيينّ مُستهلك للمعرفة السوسيولوجية أكثر من قدرته على تسخير المعرفة لفهم الواقع في الخليج العربي. كما أنّ مراكز البحوث لم تساهم بالقدر الكافي في طرح مشكلات المجتمعات الخليجية وقضاياها، ولم تساهم حتى الآن مساهمة حقيقية في بناء هذه المجتمعات.. وأنّ قصور البحوث الاجتماعية في منطقة الخليج العربي مرتبط بالتخلّف في المجتمع والنظرة العدائية للبحوث الاجتماعية بصفة عامة"(33).‏
      ومن خلال دراستها الاستقصائية- التحليلية للبحوث والمؤلفات والدراسات الاجتماعية لمجمل بلدان الخليج العربي على مدى عشر سسنوات (من 1980 إلى 1990) توصّلت الباحثة الاجتماعية/ الأستاذة جُهينة سلطان العيسى إلى أنّ البحث الاجتماعي، في المجتمع الخليجي، قد عجز عن إعطاء حركة المجتمع مفاهيم وتبريرات اجتماعية وسياسيّة بخاصة في الجوانب الآتية(34):‏
      1-لم يستطع البحث الاجتماعي تقديم تفسير للظواهر المستّجدة في المجتمع الناتجة عن التطور المادي المتمثّل في استخدام التقانة الغربية، والتطور الاقتصادي الناجم عن الطفرة المادية غير المقترنة بتغيّر إيجابي في السلوك الاجتماعي والثقافي والسياسي.‏
      2-عجز البحث الاجتماعي عن إعطاء تفسيرات لحالة الاغتراب التي يعانيها المواطن بصورة أبعدته عن أداء دور المواطنية المسؤولة.‏
      3-وقفَ البحث الاجتماعي عاجزاً عن تفسير الظواهر السلطوية، ووقوف المواطن موقف العاجز والمسيّر، والسكوت عن غياب الديمقراطية.‏
      4-لم يقم البحث الاجتماعي بدراسة القيم المستّجدة المنتشرة في المجتمع، وهي في أغلبها بعيدة عن قيم المجتمع الأصيلة.‏
      5-عجزَ الباحثون والدارسون عن الخروج من دائرة التخلف والقهر، المرتبطين بالتخلف الاجتماعي والقهر السياسي، الأمر الذي دفع دراساتهم إلى الابتعاد إلى المجالات الوصفية، واختيار المداهنة بين فلسفة العلم وفلسفة الدولة. وهو ما يؤهلهم، تحت كل التفسيرات، للخروج من دور المثقف والصفوة إلى أدوار أخرى.‏
      إضافة إلى مجموعة عقبات سياسية وثقافية وإدارية تحول دون تقدّم البحوث والدراسات الاجتماعية في الوطن العربي، منها: تبعية السوسولوجيا للسلطات الرسمية، التي تعمل لتلبية حاجات الدولة، وليس تبعاً لاستنتاجات علماء الاجتماع أو الواقع الاجتماعي، وقلّة الإمكانات المادية والفنية اللازمة للبحوث الاجتماعية؛ والقيود المفروضة على اختيار موضوعات البحث، وندرة المصادر الاحصائية الدقيقة الضرورية للبحث، وما يطرأ على هيئات البحوث من تغيّر دائم، وسوى ذلك من عقبات(35).‏
      ثالثاً- تصوّرات لتجاوز الأزمة وتطوير الدراسات الاجتماعية العربيّة:‏
      الواقع أنّ الاجتماعيّين العرب بسبب عدم اتفاقهم بخصوص مناهج البحث والنظريات الاجتماعية، وأيضاً بسبب الاختلافات الأيديولوجية والرؤى السياسية، لا يتفقون بالتالي على نوعية الأساليب والوسائل والممارسات، التي من شأنها إخراج الدراسات الاجتماعية العربية من جمودها الراهن. فالدكتور محمود عبد الفضيل يعتقد أنّ المخرج يكمن في إثراء وتطويع منهج المادّية التاريخية، وتطبيقه بصورة حيّة وخلاّقة لدراسة الأوضاع والعلاقات الطبقية في المجتمعات العربية. وفي الوقت نفسه يجب الاستفادة من اسهامات ومناهج التحليل التاريخي لدى ابن خلدون حول القبيلة والدولة والعصبية، وكذلك من منهج التحليل الاجتماعي لدى ماكس فيبر حول الدور الذي تحتله "جماعات المكانة"- المرتبطة بالبناء الفوقي للمجتمع -في البنيان الاجتماعي والطبقي للمجتمع، وما تحفل به كتابات التراث العربي والإسلامي عموماً(36).‏
      أمّا الدكتور حليم بركات، فإنه يقترح اعتماد المنهج الاجتماعي التحليلي المقارن والنقدي، الذي يشدّد على الدينامية والتناقض وتداخل الظواهر، وذلك من منظور عربي شامل(37). ومع أنّ أطروحة الدكتور بركات تُشدّد بالدرجة الأولى على الأهمية الكبرى للبُنى التحتية، إلا أنها لا تنظر إلى البنى الفوقية الثقافية بوصفها مجرّد نتيجة، بل كفعل أيضاً له مؤثراته على البنية التحتية. وهذا يعني أنّ الثقافة بما تتضّمنه من معتقدات ومبادئ وقيم ونظريات ومقولات وآراء ومفاهيم تتصل اتصالاً وثيقاً بالتناقضات الاجتماعية القائمة. والأهم من ذلك كلّه دراسة المجتمع العربي من منظور قومي التزاماً بقضاياه وفي سبيل تغيير الواقع. ولا بدّ من الاعتماد على علم اجتماع عربي يصرّ في آنٍ واحد على الالتزام وما يتّصل به من معتقدات وقيم ضرورية تقتضيها الموضوعية نفسها(38).‏
      ومن ناحيته يرى الدكتور عبد الوهاب بوحديبة أنّ الوطن العربي كسائر البلاد النامية، في حاجة إلى إبراز خصوصياته عن طريق البحث الميداني وعن طريق التنظير أكثر مّما هو في حاجة إلى تجاوز تلك الخصوصيات نحو معرفة في نهاية التجرّد كما تدعونا إلى ذلك البنويّة أو الماركسية. وعلينا ألاّ ننسى أنّ تأخّرنا هو تأخر أيضاً في التعرّف بدقّة على تفاصيل أحوالنا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية(39). لكنّ المنطلق الأساس لإنشاء "علم اجتماع عربي" (وفق رأي الدكتور بوحديبة): ينبغي أن يكون واقع المجتمعات العربية باعتبارها تكوّن وحدة متنوعة "أو إن شئنا تنوعاً في الوحدة"... وأن نرمي إلى مزيد من التعرّف على هذه الخصوصيات وأن نعتبر تجربة كل بلد كجزء من تجربة أوسع ينبغي التعرّف عليها ووضعها تحت تصرف أهل الذكر في البلاد وخاصة أصحاب القرار منهم(40).‏
      ويبقى علينا أن نفكك المنهاجيات المتّبعة في الدراسات الغريبة، "حتّى لا تطغى علينا النقدية المفرطة فلا نتقّبل ما يكتبونه عن مجتمعاتنا إلاّ بعين تُميّز بين الاتجاهات وتغربل بين "الحقائق".. ونكسب الامكانيات المنهاجية (الأخرى/ خ.ج) وذلك على شرط أن نحوّلها من "الخارج" إلى "الداخل" ومن "الداخل" إلى "الذاتي" وهذا يتطلّب نقد المفاهيم وتزكية المواقف وضبط الفرضيات وتدقيق الاستنتاجات(41).‏
      وإلى نتيجة مماثلة -تقريباً- يصل الدكتور رضوان السيّد، الذي يعتقد أنّ أفضل ردّ على "التبعية" التي تعاني منها الدراسات الاجتماعية العربية، يتمثّل في: "ضرورة قيام علم اجتماع عربي لا يهتم بالتمايز عن الغرب بقدر ما يهتم باستنباط مصطلح وطرائق قادرة على التصديّ لقراءة الظواهر الاجتماعية العربيّة واقتراح الحلول المناسبة لها. ومن هنا تأتي ضرورة تكوين جمعية للدارسين الاجتماعيين العرب على مستوى الوطن العربي تتجاوز اختلافات المدارس الاجتماعيّة الغربيّة للوصول إلى "تطبيقات عربيّة" لميدانية تنطلق من مشكلاتنا نحن؛ وإن لم يكن ضرورياً أنْ تنتهي بهذه المشكلات"(42).‏
      وعموماً لا بدّ من توحيد وتنسيق بين الجهود البحثّية والتنظيرية التي يقدّمها المختصّون الاجتماعيون في الوطن العربي، بحيث لا تبقى دراساتهم اقليمية أو جزئية أو مغلقة فاقدة الانفتاح والاتساع والشمولية. كما يجب أن تنفتح في الوقت ذاته على التيّارات الكبرى في الفكر الاجتماعي الإنساني المعاصر، عبر مواكبة فكريّة مستمرة وروح علميّة واعية.‏
      إنّ أغلب المشتغلين في حقل الدراسات والبحوث الاجتماعية في الوطن العربي يتفقون على ضرورة أن نفهم حضارتنا وواقعنا وأنفسنا، كما حاولنا فهم حضارة "الآخر" وحفظ مناهجه، واستخدام مصطلحاته العلمية والأيديولوجيّة والقيميّة في دراساتنا الأكاديمية ووسائل الإعلام المختلفة، وذلك بغية تحديد مواقف علمية -موضوعية واعية من "الأنا" و"الآخر". على أنْ ننطلق من النقاط والعموميات التالية"(43):‏
      1-لا توجد حضارة بلا تضاريس وتباينات وتناقضات أيديولوجية وفكرية واجتماعية. والحضارات والمجتمعات كلها اشتملت في معظم مراحلها التاريخية على عناصر عقلية وعاطفية، مادية وروحية، عناصر أصيلة -تراثية، وأخرى وافدة ومُستعارة ومُكيّفة، وإنْ تفاوتَ التركيز على هذا العامل أو ذاك، وعلى الكيفية التي تمتزج وتتصل بها هذه الأبعاد والعناصر والاتجاهات.‏
      2-إنّ العرب المعاصرين لا يعيشون في جزيرة منعزلة جغرافياً، كما أنّهم لا يعيشون خارج العصر ومتغيّراته ومتطلباته ومستحدثاته. لكن اختلاف التركيبة الاجتماعية العربية عن تلك التي بالغرب المعاصر يجعل مشكلات العصر وقضاياه تنعكس على مجتمعاتنا على شكل أفعال وظواهر وردود أفعال تختلف عن المجتمعات والتطلعات القومية. ومن مقولة "شرعية الاختلاف"- وهي مقولة غير قيمية- تبدو ضرورة الخروج من أشر التبعية في المصطلح والتحليل ومجالات الاهتمام. وليست هذه دعوة للانقطاع عن العالم، بل هي دعوة للدخول في العصر من خلال ثقافتنا المحلّية ومشكلاتنا الخاصّة. وهو ما عبّر عنه بعض الباحثين بمقولة "الاعتماد على الذات علمياً" أو "الممارسة العلمية المستقلّة" حيث تتطلب تنويعاً لمصادر المعرفة، والتعامل معها تعاملاً نقدياً واعياً ومستوعباً، وتحديد ما نريد من تراثنا الغني ومن تراث الشعوب الأخرى.‏
      3-إنّ معركة "الاستقلال العلمي" لا تُحسم داخل المؤسّسات العلمية والأكاديمية فقط، بل هي بحاجة إلى تضافر جهود وتنسيق عمليات وخطوات كثيرة على مستويات تعليميّة وإعلامية وثقافية وسياسيّة. وإذا سلّمنا بأهمية هذا المنطلق، فإنّ ثمّة آليّات تمهّد الطريق للتخلّص الجدّي من "التبعية" الفكرية، ومواجهة عناصرها ومفرداتها، ووضع اللبنات القويّة على طريق طويل يمهّد حقيقة لبناء ممارسة علمية عربيّة مأمولة، ولعلّ من بين الآليات والإجراءات العملية المثمرة الخطوات التالية:‏
      أ-التخطيط لإجراء دراسات وبحوث واقعية -ميدانيّة حول مظاهر وأشكال التبعية في الأنساق المعرفية المختلفة على أن تستوعب (هذه الدراسات والبحوث) الحالات والمؤسسات العلميّة العربيّة كافّة.‏
      ب- تحليل التاريخ الاجتماعي والتراث العربي بصورة منهجية منظمة، لمعرفة ثوابته ومتغيراته، وشروط النهوض ببعض أنساقه وأطروحاته الأصلية.‏
      ج- الاهتمام بالأعمال النقدية للتراث الفكري العالمي، على أن تكون مصادره متنوعة ومتعدّدة (من الشرق والغرب، من آسيا وافريقيا، من أمريكا شمالها وجنوبها)، وأن لا يكون التركيز فيه على سؤال "ماذا يوجد؟" كما درج عدد غير قليل من الباحثين عند التعامل مع تراث الآخر، ولكن استكمال التناول بأسئلة من نوع "كيف؟" و"لماذا"؟ و"لمن"؟.‏
      د- تشجيع ودعم الجمعيات العلمية الاجتماعية (على صعيد وطني وكذلك على مستوىً قومي) حتى تساعد في الارتقاء بالعلم، وتبادل الخبرات، وإقامة المؤتمرات والندوات العلمية لتطوير الدراسات والبحوث وتبادل الخبرات في معالجة المشكلات المطروحة. والتفكير (كهدف مأمول) بإقامة أكاديمية عربية للدراسات والبحوث الاجتماعية، لتحقيق أهداف ومرامي وصيغة الممارسة العلمية المستقلة، وتعبئة الطاقات والإمكانات البشرية العلمية العربية، على أن يتجاوز إنشاء هذه الأكاديمية النظرة القُطرية، وأن تتوفر سبل حماية تلك الجمعيات والعاملين فيها من "المضايقات" الفكرية والسياسية والمادية، التي تعوق التفرغ للعلم والإبداع. ويرتبط بذلك ضرورة إصدار المزيد من الدوريات المتخصّصة في العلوم الاجتماعية، لتغطية بلدان الوطن العربي كافة، والإسهام في إنضاج الوعي الأكاديمي الاجتماعي السليم، وتشجيع الباحثين الشباب لخوض معترك هذا الميدان الصعب.‏
      هـ-العمل على أن تكون موضوعات الأطروحات الاجتماعية للدارسين العرب في البلدان الأجنبية متعلّقة بمشكلاتنا الخاصّة، وأن تجري بمتابعة وتنسيق مع الجمعيات الاجتماعية في البلدان العربية، بحيث يجري الاستفادة من هذه الأطروحات والرسائل الجامعية في الوطن العربي ذاته.‏
      و-إنّ المدخل المعقول للتصدّي لأزمة الدراسات الاجتماعية العربية، لا بدّ أن ينطلق من رؤية الاجتماعي والسياسي في سياق مجتمعي مترابط، أي النظر إلى السياسي كجزء من الاجتماعي وليس كبُنية غربية أو مفروضة من خارج. والمدخل المناسب لفهم العامل السياسي، يمكن أن يكون مفهوم "الوظيفة الاجتماعية" أو"الدور" الاجتماعي لهذا العامل الهام والمؤثر جدّاً في واقع الوطن العربي. الأمر الذي يعني أهمية توجيه البحوث والدراسات الاجتماعية نحو القضايا "الساخنة" والحيوية في حياتنا الاجتماعية -السياسيّة الراهنة، سواء بالنسبة للمجتمع أو بالنسبة للسلطة والمؤسّسات الرسمية والتخطيطية والتشريعية والتنفيذية. وذلك من شأنه تأكيد مصداقية علم الاجتماع وواقعيّة. ولا بدّ من التركيز في الوقت ذاته على الدراسات الخاصّة بـ "استشراف المستقبل"، فهي مسألة استراتيجية لا يستغني عنها أي مجتمع مُعاصر، ومن شأنها تنمية "التخطيط الاجتماعي" على أسس علمية تنبؤية احصائية دقيقة، وبالتالي ربط العلم بالمجتمع وبالواقع والمستقبل.‏
      الهوامش :‏
      1-الدكتورة زينب شاهين، "الاتجاه الاثنوميتودولوجي في علم الاجتماع"، مجلة "الفكر العربي"، السنة السادسة، العددان السابع والثلاثون والثامن والثلاثون، كانون الثاني (يناير)- أيار (مايو)، 1985-ص292.‏
      2-عبد الوهاب بوحديبة، "تطوّر مناهج البحث في العلوم الاجتماعية"، مجلّة "عالم الفكر" (الكويت)، المجلد العشرون، العدد الأول، ابريل- مايو- يونيو 1989-ص23.‏
      3-الدكتور عبد الصمد الديالمي، "اشكالية الكتابة السوسيولوجية في المغرب"، مجلّة "المستقل العربي"، السنة السابعة، العدد السابع والستّون، أيلول (سبتمبر) 1984، ص31‏
      4-المصدر نفسه، ص33‏
      5-الدكتورة جهينة سلطان العيسى والدكتور السيّد الحسيني، "علم الاجتماع والواقع العربي: دراسة لتصورات علماء الاجتماع العرب"، مجلة "المستقبل العربي"، السنة الخامسة، العدد الواحد والأربعون، تموز (يوليو) 1982 ص38‏
      6-المصدر نفسه، ص40‏
      7-المصدر نفسه، ص47‏
      8-الدكتور خليل أحمد خليل، "تاريخية علم الاجتماع: اتجاهات وتطوّرات، مجلّة "الفكر العربي"، السنة الثالثة، العدد التاسع عشر، كانون الثاني -شباط (يناير- فبراير) 1981-ص56.‏
      9-ديل إيكلمان، "الكتابة الأنثروبولوجية عن الشرق الأوسط"، مجلة "المستقبل العربي"، السنة السابعة، العدد الثاني والسبعون، شباط (فبراير) 1985. ص125.‏
      10-مناقشات ندوة "علم الاجتماع وقضايا الإنسان العربي"، مجلّة "المستقبل العربي". السنة السابعة، العدد الثاني والسبعون، شباط (فبراير) 1985، ص125.‏
      11-المصدر نفسه، ص127‏
      12-المصدر نفسه، ص128‏
      13-المصدر نفسه، ص129‏
      14-انظر: عبد الباسط عبد المعطي، في المصدر نفسه، ص129‏
      15-نقلاً عن: الدكتور نبيل محمد توفيق السمالوطي، الأيديولوجيا وأزمة علم الاجتماع المعاصر: دراسة تحليلية للمشكلات النظرية والمنهجية (الاسكندرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975)، ص115.‏
      16-مصطفى ناجي، "علم الاجتماع في العالم العربي بين المحليّة والدولية"، "مجلّة العلوم الاجتماعية" (جامعة الكويت)، العدد الخامس عشر- الثاني لصيف 1987- ص185.‏
      17-رضوان السيّد، "مشكلات البحث الاجتماعي العربي"، مجلّة "الفكر العربي"، السنة السادسة، العددان السابع والثلاثون والثامن والثلاثون، كانون الثاني (يناير) -أيار (مايو) 1985- ص7-8.‏
      18-المصدر نفسه، ص8‏
      19-المصدر نفسه، ص8-9.‏
      20-الدكتور علي زيعور، "تيارات متعددة داخل المدرسة العربية في علم الاجتماع"، في المصدر السابق (الفكر العربي)، العددان 37-38 لعام 1985)، ص249.‏
      21-المصدر نفسه، ص235‏
      22-المصدر نفسه، ص250‏
      23-المصدر نفسه، ص250-251‏
      24-انظر: الدكتور فردريك معتوق، "علومنا الاجتماعيّة والمسألية المفقودة"، "الفكر العربي"، السنة السادسة، العددان 37-38، كانون الثاني (يناير) -أيار (مايو) 1985- ص264-268.‏
      25-الدكتور علي زيعور، "تيارات متعددة داخل المدرسة العربية في علم الاجتماع، في المصدر السابق، ص255-256.‏
      26-عالج هذه المسألة بالتفصيل الباحث الاجتماعي مصطفى ناجي في دراسته "علم الاجتماع في العالم العربي بين المحلية والدولية"، مصدر سبق ذكره في هذا البحث، ص182-183.‏
      27-فريدريك معتوق، "علومنا الاجتماعية والمسألية المفقودة"، في مصدر سبق ذكره في هذا البحث، ص266.‏
      28-محمد حافظ دياب، "علم الاجتماع في الجزائر: الهويّة والسؤال"، مجلّة "المستقبل العربي"، السنة الثانية عشرة، العدد مائة وأربعة وثلاثون، نيسان (ابريل) 1990، ص94‏
      29-نقلاً عن فردريك معتوق، "علومنا الاجتماعية والمسألية المفقودة"، في مصدر سبق ذكره، ص267.‏
      30-المصدر نفسه.‏
      31-الدكتور رضوان السيّد، "مشكلات البحث الاجتماعي العربي" المصدر السابق، ص7.‏
      32-العياشي عنصر، "أزمة أم غياب علم الاجتماع" في "المستقبل العربي"،السنة الثالثة عشرة، العدد مائة وسبعة وثلاثون، تموز (يوليو) 1990-ص41.‏
      33-جهينة سلطان العيسى، "البحوث الاجتماعية في الخليج العربي: رؤية نقدية"، مجلة "المستقبل العربي"، السنة الثالثة عشرة، العدد مائة وأربعة وأربعون، شباط (فبراير)، ص108-113.‏
      34-المصدر نفسه، ص115-117‏
      35-جهينة سلطان العيسى والسيّد الحسيني، "علم الاجتماع والواقع العربي: دراسة لتصورات علماء الاجتماع العرب"، مصدر ذكر سابقاً، ص28-51‏
      36-الدكتور محمود عبد الفضيل، التشكيلات الاجتماعية والتكوينات الطبقية في الوطن العربي: دراسة تحليلية لأهم التطورات والاتجاهات خلال الفترة 1945 -1985 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)، ص39.‏
      37-الدكتور حليم بركات، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثالثة، 1986)، ص29-32.‏
      38-المصدر نفسه، ص29-30‏
      39-الدكتور عبد الوهاب بوحديبة، "تطوّر مناهج البحث في العلوم الاجتماعية"، مجلّة "عالم الفكر"، المجد العشرون، العدد الأول، إبريل -مايو- يونيو 1989 ص23.‏
      40-المصدر نفسه، ص24-25‏
      41-المصدر نفسه، ص24‏
      42-الدكتور رضوان السيّد، "مشكلات البحث الاجتماعي العربي"، في مصدر سابق، ص9‏
      43-استناداً إلى دراسة الدكتور عبد الباسط عبد المعطي، "التبعية في العلم الاجتماعي: اشكالياتها، مظاهرها، آلياتها ومدخل التحرّر منها". مجلّة "الوحدة" السنة الرابعة، العدد الرابع والخمسون، حزيران (يونيو)، 1988، ص101-113.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

        الدراسة الثانية حقيقة النظام الاقتصادي العالمي الجديد
        مقدمة‏
        يتميز عالمنا المعاصر باتساع الطابع الكوني للحياة الاقتصادية والعلاقات التبادلية- التجارية، وبانعكاس المشكلات الدولية الكبرى على جوانب الحياة الوطنية (القطرية) وعلى الأوضاع الفردية للناس في أقاليم كثيرة من العالم. وفي سياق هذا الاندماج أو التأثير المتبادل، يهيمن على العلاقات الاقتصادية الدولية نظام أقرب ما يكون إلى التشكيلة الرأسمالية، بمستويات وأنماط متفاوتة وفق قربها أو بعدها عن مركز الرأسمالية العالمية. ويتطور هذا النظام وفق علاقة "المركز والأطراف". وكذلك انطلاقاً من منظومة نوعية من العلاقات والقوانين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، المنسجمة تماماً مع قوانين الرأسمالية ذات الأبعاد العالمية (المرحلة الامبريالية). فالمعروف أن الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وهي استمرار للخصائص الأساسية للرأسمالية، وتنطبق عليها القوانين الاقتصادية للرأسمالية المعروفة، ولكن يتخذ فعل هذه القوانين في ظل الامبريالية ملامح خاصة، أهمها: تشكل مجموعة "طغمة" رأسمالية -دولية تضم تحالفاً للشركات الاحتكارية متعدّدة الجنسية مع رؤوس الأموال العائدة لحكومات ذات هيمنة استعمارية عالمية. والسمة الثانية لتلك القوانين، تتمثل بتصدير الرساميل وتوظيفها في مناطق تابعة (في العالم الثالث بصورة خاصة). وفي هذه المرحلة تتشكل اتحادات دولية احتكارية من الرٍأسماليين (شركات وأفراد) والدول الإمبريالية، تقوم إما بتقاسم العالم وإما بالعمل جنباً إلى جنب ضمن مشاريع نهبية مشتركة. وأهم سمة للإمبريالية العالمية تتجلى في انجاز الاقتسام الجغرافي -السياسي والاقتصادي للعالم بين القوى الرأسمالية الأضخم، وتركيز التوظيفات الرأسمالية -الاحتكارية على نطاق إقليمي أو قاري أو عالمي (كما يحصل اليوم). وحلول الاحتكار مكان التنافس والتصارع هو السمة الأساسية للإمبريالية في نمطها الحالي، بحيث تقوم حفنة من الدول والتصارع هو السمة الأساسية للإمبريالية في نمطها الحالي، بحيث تقوم حفنة من الدول قد لا تتعدى أصابع اليد الواحدة بالتحكم في مصير الشعوب كلها.‏
        ولا بد من التأكيد بداية أن من الخطأ تماماً الفهم الأيديولوجي- السياسي المبسط للفظة "الإمبريالية"، لأن ذلك من شأنه قصر هذه الظاهرة الخطيرة على العلاقات بين البلدان الاستعمارية والبلدان التابعة المُسْتَعمَرة، في حين أن تلك العلاقات تشمل مُجمل النظام الرأسمالي القائم عالمياً، وهذه حقيقة لا يمكن التغاضي عنها.‏
        والحقيقة أن الحديث عن "النظام الاقتصادي العالمي الجديد" لا بد أن يفضي إلى الحديث عن نشاطات وارتباطات الدول والمنظمات، والشركات متعددة الجنسية، والتكتلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية- الرئيسة منها والفرعية، المكونة للعلاقات الدولية المعاصرة.‏
        في سياق العلاقات الدولية المشار إليها، يتزايد الاهتمام بفهم حقيقة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهو اهتمام مشروع وحتمي أيضاً. وهذا ما يستتبع بالضرورة حل إشكالية منهجية- نظرية تتمثل في تحديد معنى "النظام الاقتصادي العالمي الجديد" وجوهره، لما لهذا الأمر من انعكاس على استيعاب أزمات وتناقضات ومشكلات هذا النظام وطرق حلها من جهة، وعلى المصاعب والعراقيل، التي يفرزها هذا النظام على عملية التنمية الجارية (بتعثّر) في البلدان المتخلفة، من جهة أخرى.‏
        لكننا نفضل قبل الخوض في مفهوم النظام الاقتصادي العالمي الجديد، أن نتوقف عند نوعية العلاقة القائمة بين الاستعمار الجديد والنظام الاقتصادي العالمي.‏
        1-علاقة النظام الاقتصادي العالمي مع الاستعمار الجديد:‏
        ما دمنا متفقين حول العلاقة غير المتكافئة بين دول العالم الثالث والدول الصناعية المتطورة، أو بمعنى آخر -الدول الرأسمالية المتقدمة في إطار النظام الاقتصادي الدولي الراهن، فلا بد لنا من أن نناقش قضية الارتباط العضوي القائم حالياً بين الاستعمار الجديد والنظام الاقتصادي الدولي، المرتبط به بتفاعل جدلي، يتبادلان من خلال جملة من القوانين والصيرورات دور "السبب والنتيجة". فإذا كان الاستعمار الجديد (النيو كولونيالية Neocolonialism) يعني بشكل جوهري لجوء الدول الامبريالية إلى أساليب اقتصادية وعسكرية -سياسية جديدة تهدف إلى إخضاع البلدان المتحررة حديثاً للسيطرة الفعلية للإمبريالية، مع احتفاظها الفعلي بالجوهر الاستعماري (النهب والسيطرة)، فإن جوهر الاستعمار الجديد يتمثل في منع سير الدول النامية على طريق التقدم الاجتماعي والعلمي- التقني والثقافي، وإبقائها داخل النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي لضمان الاستمرار في استغلالها اقتصادياً ومالياً وسياسياً واستراتيجياً. ويضفي الاستعمار الجديد طابع الشرعية على سياساته عن طريق فرض أشكال مختلفة من المعاهدات والاتفاقا التعسفية على الدول النامية. ويعدّد واضعو موسوعة "الاقتصاد السياسي" (السوفيتية) جُملة أشكال من الاستعمار الجديد، منها: إقامة الحكومات والأنظمة السياسية التابعة، إشعال ودعم النشاط التخريبي ضد الحكومات "غير الملائمة"، إثارة الصراعات المحلية من عرقية وقومية وطائفية وقبلية، وكذلك الصراعات الاقليمية وحتى الدولية، من أجل أن تتاح لها (أي للامبريالية) الفرص المناسبة للتدخل في تلك النقاط، وفرض قراراتها وهيمنتها، وإقامة القواعد العسكرية تحت غطاء الشرعية الدولية. ومن أهم أساليب الاستعمار الجديد: 1-التوسع الاقتصادي والتغلغل عن طريق توظيف رؤوس الأموال والقروض بشروط مجحفة وما يسمى بـ "المساعدات المالية" 2-إغراق الأسواق العالمية بالصادرات التقنية -3-ربط النظم النقدية للبلدان النامية ضمن تقسيمات اقتصادية مغلقة، 4-ربط البورصات والعملات التبادلية بالنقد الامبريالي... الخ(1).‏
        وعموماً يرتبط النظام الاقتصادي العالمي الراهن بالاستعمار الجديد ارتباطاً مطلقاً، ولا سيما في المجالات المالية والتقنية والتجارية. وفي هذا الصدد يؤكد أغلب الخبراء المختصين: "أن النظام الاقتصادي العالمي الحالي، هو أبرز تجليات الاستعمار الجديد، بل أنّه الأساس المادي لهذا الاستعمار"(2).‏
        ويتفرع من النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي كل الأنظمة العالمية الأخرى، كالنظام النقدي الدولي، والنظام التجاري الدولي، والعلاقات الاقتصادية الدولية، والنظام الإعلامي الدولي، وحتى العلاقات السياسية والقانونية الدولية. وهي جميعها أنظمة وصيغ استغلالية ترسخت وتوطدت عبر مختلف الأساليب والارتباطات، التي من شأنها تأييد تبعية العالم الثالث للدول الرأسمالية، وتعزيز هيمنة المراكز الامبريالية على العالم والتحكم المطلق بمصيره. والواقع أن النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي هو من الشمول بحيث لا توجد دولة من الدول النامية خارج نطاق هيمنة هذا النظام والوقوع خارج تأثيراته المختلفة. وإذا شبهنا الدول الرأسمالية الغربية (المتروبولات السابقة) بمركز النظام الاقتصادي الدولي، فإن دول العالم الثالث، هي أطرافه المستغلة وريفه المهمل باستثناء ما يخدم النهب والاستغلال الواسعين من طرف المصالح الاحتكارية العالمية.‏
        وتمثل الشركات الاحتكارية العالمية أو الشركات المتعددة الجنسية قلب ذلك النظام الاستغلالي وشرايينه المغذية، الداعمة. فالشركات المذكورة هي أبرز آليات الاستعمار الجديد، التي تشرف على قيادة النظام الاقتصادي العالمي، وتحتكر التجارة الدولية والتقنيات الحديثة، وتتحكم في مصادر السيولة النقدية، وتسيطر على وسائل الاتصال والإعلام وتصنع الثقافة، بل أنها -كما يقول هربرت شيللر-: "تطوّع الشعوب وتتلاعب بالعقول.."(3).‏
        لقد استطاعت هذه الشركات الاحتكارية العملاقة بأساليبها المختلفة أن تحول اقتصادات العالم الثالث إلى فريسة سهلة لابتزاز أقصى الأرباح حيث بلغ اجمالي ما استنزفته في الربع الأخير من عقد الثمانينات 140 ألف مليون دولار(4).‏
        وتلجأ الشركات الاحتكارية الكبرى إلى اتباع كل الوسائل والحيل الشيطانية -القذرة بما فيها التزييف والافساد وتقديم الرشاوي الضخمة للزعماء ولجان التعاقد المالية -التجارية، كما أنّها تهندس الانقلابات وتموّل الحركات الانفصالية أو تشجعها، لكي تضمن لنفسها استمرار النهب الفظيع لموارد البلدان الأكثر تخلفاً (اقتصادياً وتقنياً)، وتؤمّن بهذه الأساليب المعقدة ترسيخ هيمنتها على الاقتصاد الدولي وما يتفرع عنه أو يرتبط به. إن امتلاك هذه الشركات للسيولة النقدية الجبارة، والقدرات التنظيمية العالية وللتقنيات الأكثر حداثة وإنتاجية وإغراء والخبرة بالأسواق المالية والتجارة الدولية وبالأوضاع الاجتماعية والتركيبة الاثنية والقومية والدينية والسياسية القائمة في بلدان العالم.. الخ- كل ذلك جعل منها قوة سياسية واقتصادية ودعائية -إعلامية تفوق قوة كثير من البلدان النامية، التي تعمل تلك الشركات على أراضيها ويُفْتَرض خضوعها (أي الشركات) لرقابة تلك الدول وتقيدها بأنظمتها واحترامها لسيادتها التامة على ثرواتها ومواردها. إلا أن ما يحصل يخالف ذلك تماماً، ونحن لسنا بصدد التوقف عند هذه المسألة الخطيرة فعلاً، حيث أن موضوع بحثنا هنا يدور حول مشكلة أخرى. ولكن ما نريد الإشارة إليه في هذا السياق هو الارتباط العضوي التام بين النظام الاقتصادي العالمي والاستعمار الجديد والشركات متعددة الجنسية أو عابرة القوميات. وهذا النموذج من الاتحادات الرأسمالية الدولية الاحتكارية يشكّل ظاهرة أمريكية مرتبطة تاريخياً وبنيوياً بالتنامي الهائل للقوة الأمريكية- اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وإعلامياً وعلمياً وتقنياً ودبلوماسياً. وحول هذه المسألة يقول بول سويزي: "إنّ الشركات المتعددة الجنسية هي من النتاجات ومن الشروط الضرورية للطريقة التي تطورت بها الامبريالية في المرحلة التاريخية المعاصرة. فهذه الشركات هي في الأساس أداة أمريكية تهدف إلى تعزيز هيمنة الولايات المتحدة على الدول الرأسمالية، وكذلك على المُستَعْمَرات والمْسْتَعَمرات الجديدة التابعة والواقعة في أطراف النظام الاقتصادي العالمي(5). وتشير كل الدلائل إلى استمرار وتصاعد القوة الاحتكارية لهذه الشركات وتزايد سيطرتها على النظام الاقتصادي العالمي، فقد أصبحت من الضخامة والشمولية بحيث أنها تحتكر اليوم 50% من إجمالي الأرصدة والاستثمارات الثابتة في العالم، بالإضافة إلى 50% من مجمل الإنتاج العالمي حالياً، كما أن التجارة الدولية هي اليوم تجارة داخلية فيما بين هذه الشركات(6).‏
        لهذا، فإن المطالبة بإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد لا بدّ أن ترتبط بالكفاح الفعلي ضد أساليب وأشكال وأنظمة الاستعمار الجديد كافة. ذلك أن أغلبية بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بلدان تابعة للاقتصاد الرأسمالية العالمية، وتعاني من الاستعمار الجديد بصورة أو بأخرى. حيث أن مشاريعها الكبيرة والقسم الأعظم من ثرواتها الوطنية تقع في أيدي الاحتكارات الأجنبية، التي تحقق عبر هذا الأسلوب الاستغلالي "المتطور" أرباحاً هائلة على حساب البلدان النامية. ولا بدّ من الإشارة في هذا السياق إلى ما يسّمى بـ "المساعدات"، التي تقدمها الدول الرأسمالية إلى البلدان الفقيرة أو المفُقرة، وهي "مساعدات" تهدف أساساً إلى فرض معاهدات واتفاقات مع تلك البلدان لإحكام تبعيتها، وحفاظ الاحتكارات الأجنبية والدول الإمبريالية على مواقعها المؤثّرة، ولا سيّما في المجالين الاقتصادي والسياسي. ومن ثم اخضاع عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوجهات البلاد -السياسية والأيديولوجية- لسياسة تلك الاحتكارات، أي لسياسة الدول الإمبريالية الاستعمارية الجديدة، المسؤولة عن الخلل الخطير، الحاصل في مجمل العلاقات الدولية، المرتبطة مع البنية المختلة للنظام الاقتصادي العالمي، التي تكافح الشعوب لتغييرها وتعديلها، لتصبح متوازنة عادلة، متكافئة.‏
        2-مفهوم النظام الاقتصادي العالمي الجديد:‏
        يُطلَق اصطلاح النظام الاقتصادي العالمي الجديد على مجموعة المطالب العادلة، التي ترفعها البلاد النامية لإعادة بناء العلاقات الاقتصادية الدولية على أسس جديدة، أو "البيريسترويكا" في مجال الاقتصاد العالمي. وهذه الفكرة هي ثمرة للأوضاع المختلة في العلاقات الاقتصادية الدولية، التي أثمرت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والخطيرة في البلدان النامية، أو التي تتوهم أنها تنمو في ظل الخلل الهيكلي القائم في النظام الاقتصادي العالمي الحاضر. وتقوم فكرة "البيريسترويكا" في الاقتصاد الدولي على مبادئ المساواة واحترام سيادة الدول ضمن العلاقات الدولية -الاقتصادية والسياسية، وحق تقرير السيادة الوطنية التامة على موارد البلاد، والرقابة الفعالة لتلك الدول على ثرواتها ومقدراتها الاقتصادية المختلفة. ويدخل في إطار المطالب المذكورة: إلغاء ديون الدول الأكثر فقراً في العالم، وتخفيف الشروط المجحفة للقروض المقُدّمة، والفوائد الهائلة المترتبة على تلك القروض. وتطرح البلدان النامية مطلباً آخر، يتجلى في ترتيب نظام متطور لنقل التكنولوجيا المتقدّمة إليها، وضرورة تنفيذ إصلاحات جذرية في النظام النقدي الدولي وما يتفرّع عنه من مشكلات للدول النامية. ومن أهداف النظام الاقتصادي المأمول- منح البلدان النامية الحق السياسي والإداري والقانوني لفرض رقابتها التامة على جميع النشاطات، التي تمارسها الشركات متعدّدة الجنسية فوق أراضي البلدان المذكورة، بما في ذلك الحق في طرد الشركات الأجنبية- الاحتكارية وتأميمها. ومن مطالب الدول النامية في هذا المجال- ضرورة الحصول على حصة معقول من الأرباح الخيالية -الضخمة، التي تنهبها الشركات الرأسمالية نتيجة لمشاريعها المربحة للغاية، سواء بسبب رخص العمالة في البلدان النامية أو لتدني أسعار المواد الطبيعية (أو لكلا السببين عادة). وبسبب الشروط غير المتكافئة، التي تتضمنها العقود الموقّعة مع حكومات العالم الثالث، وبخاصة "الملاحق" السرية لتلك العقود(7).‏
        3-كفاح البلدان النامية لإقامة النظام الجديد:‏
        لا شك أن انحسار الاستعمار الأوروبي المباشر، وتزايد عدد الدول التي حصلت على استقلالها الوطني في العقود الخمسة الأخيرة من هذا القرن، وتنامي دورها في المحافل الدولية، قد حوّلها إلى كتلة شبه متفاهمة، إذ تعاني من المشكلات ذاتها ومن العدو نفسه، ولهذا التقت في كثير من المواقف والتوجهات والتطلعات إزاء القضايا الدولية وتجاه العلاقات الاقتصادية العالمية القائمة ذات السمات غير الحرّة وغير العادلة في ظل البنية الاقتصادية -العلمية والتقنية المختلة دولياً. ومن الطبيعي أن المرحلة الأولى من الاستقلال الوطني كانت مرحلة حماس شعبي ونهوض وطني عارم ترافق بجملة من الإجراءات، الهادفة لإقامة نوع من الاقتصاد الوطني المستقل نسبياً عن المتروبولات (الدول الاستعمارية) فتركزت جهود الدول حديثاً على تأميم ملكية الإدارات الاستعمارية الراحلة، وبناء مؤسسات اقتصادية وطنية بسيطة، ووضع اللبنات الأولى لملكية الدولة، وإقامة بعض أشكال الرقابة على رؤوس الأموال الأجنبية. وترافق ذلك كله بنشوء الأحزاب والمنظمات الجماهيرية، ذات الأهداف والتوجهات الوطنية التحررية والاشتراكية المعادية للإمبريالية والتبعية والاستغلال الداخلي والخارجي. وإذا كانت إجراءات التحرر الاقتصادي والثقافي والسياسي تتفاوت في جدواها ونجاحاتها من بلد إلى آخر تبعاً لظروف كفاحه الوطني ونوعية القوى التي تقوده وفق أوضاعه الاجتماعية والسياسية والثقافية، إلاّ أن تلك التحوّلات والقرارات والبرامج كانت تصب في هدف عام، يتمثل في السعي لترسيخ أسس الاستقلال الوطني لأبعد مدىً ممكن، ومحاولة تثبيت الشخصية الوطنية بأقل ما يمكن من الارتباطات بمراكز الهيمنة الرأسمالية- الاستعمارية الجديدة. وتنفيذاً لتلك المساعي استطاعت البلدان المستقلة حديثاً أن تجمع شتاتها وتؤطّر نفسها تنظيماً في مؤتمر "باندونغ" باندونيسيا في عام 1955. وقد اشتركت في هذا المؤتمر التأسيسي لدول عدم الانحياز تسع وعشرون دولة افريقيا وآسيوية، اتفقت جميعها على ضرورة التضامن والتعاون فيما بينها، لتعزيز نضالات شعوبها من أجل نيل الاستقلال وتصفية الاستعمار، والأهم من ذلك كله -من أجل تغيير طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة(8). وكانت هذه أول مساهمة مشتركة في فكرة تغيير العلاقات الدولية القائمة والنضال الجماعي من أجل بلوغها وكان مؤتمر "باندونغ" بمثابة المؤتمر التأسيسي لمجموعة "دول السبع والسبعين"، ومنظمة التضامن الآفرو- آسيوي، ومجموعة دول عدم الانحياز، التي تضم حالياً مئة وثلاثين بلداً، توحّدها التطلعات المشروعات المشتركة لتجاوز وضعية التبعية للغرب، وعدم الانخراط في المحاور والأحلاف العسكرية، والنضال الدائم للتخلص من حالة الارتهان والتبعية والهامشية في العلاقات الاقتصادية والسياسية غير السليمة، الناتجة أساساً عن الأوضاع غير المتكافئة في النظام الرأسمالي العالمي. وقد ترافق ذلك مع حدوث اضطرابات بنيوية عميقة في النظام الاقتصادي والنقدي العالمي في عقد الستينات، مما أثّر بشكل خطير في اقتصادات البلدان النامية، فتعمقت الفجوة الكبيرة القائمة بين الدول الصناعية (الرأسمالية) وبين الدول النامية، أو المتخلفة في المجالات الصناعية والعلمية والتقنية.. الخ. وقد أعطت هذه المستجدات المصداقية والمشروعية لتقوم المجموعة المتضررة (مجموعة الدول النامية أو دول الجنوب) بعقد مؤتمر نوعي يخصص لدراسة الخلل البنيوي، الذي يعاني منه النظام الاقتصادي العالمي الحالي. ويُعَدّ مؤتمر القاهرة المنعقد في عام 1963، والذي اشتركت فيه ست وثلاثون دولة افريقية وآسيوية وأمريكية لاتينية الخطوة الرسمية الأولى في طريق العمل المنظم للكفاح من أجل إعادة النظر في العلاقات الاقتصادية الدولية المختلة، واستجابت هيئة الأمم المتحدة لهذه الدعوات الملْحة، وعُقد اللقاء الأول لمنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (اليونكتاد) في جنيف سنة 1964. وقد تحولت هذه المنظمة الدولية ومنظمات متخصصة إلى منتديات عالمية لطرح أفكار ومفاهيم جديدة، تطالب بتطبيق المساواة التامة، وتحقيق الاستقلال الوطني الناجز وعدم الاكتفاء بالاستقلال الشكلي، المتمثل عادة في تأليف حكومة محلية ورفع العلم الوطني وحسب. لقد عملت المنظمة الدولية للتجارة والتنمية (يونكتاد) خلال العقود الثلاثة الماضية على إيجاد الحلول (أو بالأصح اقتراحها) لمشكلات التجارة والتنمية في العالم عن طريق الدراسات التحليلية والبحوث الميدانية، وعن طريق النقاش والحوار بين خبراء العالم، وكانت بالتالي منبعاً متجدداً للأفكار الجديدة، وساهمت بصورة قيّمة في إغناء الفكر الاقتصادي -السياسي بأطروحات علمية وحلول واقعية متطورة. وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة الخاطفة إلى مؤتمرات المنظمة الدولية للتجارة والتنمية (اليونكتاد)، التي عقدت في كل من نيودلهي 1968، وسانتياغو 1972، ونيروبي 1976، ومانيلا 1979، وبلغراد 1983، وأخيراً في جنيف سنة 1987. وقد تميزت هذه المرحلة بالتركيز على وضع برامج محددة وإقرار وثائق دولية كثيرة حول إقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد. كما خصصت مجموعة الدول غير المنحازة عدداً من مؤتمرات القمة لمناقشة القضايا الاقتصادية والتجارية الدولية. وكذلك ساهمت المجموعة المذكورة في دفع الأمم المتحدة كي تتبنى بصورة رسمية موضوع إقامة نظام اقتصادي دولي جديد. ولهذه الغاية عقدت الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة دورتين استثنائيتين (السادسة في عام 1974، والسابعة في عام 1975) لمناقشة مشكلات التنمية والتجارة الدولية، ولتداول المقترحات الكفيلة بإقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد. ويهمنا أن نشير هنا، إلى أنه قد صدر عن هاتين الدورتين ميثاق الأمم المتحدة بشأن الحقوق السياسية والاقتصادية لدول العالم، كما صدر عنهما الإعلان التالي: "التصميم الموحد على العمل من أجل إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، قائم على الانصاف والمساواة بين جميع الدول في السياق، وعلى ترابطها واشتراكها بمصالحها، وتعاملها بصرف النظر عن نظمها الاقتصادية والاجتماعية، ويكون من شأنه تصحيح التفاوت ومعالجة مظاهر الظلم القائمة، ويجعل من الممكن تصفية الهوّة المتسعة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية، ويؤمّن التنمية الاقتصادية والاجتماعية العاجلة، ويحقّق السلم والعدل للأجيال الحاضرة والمقبلة"(9).‏
        4-الحوار بين الشمال والجنوب لتصحيح النظام الاقتصادي العالمي:‏
        لقد أقرّ إعلانُ الأمم المتحدة لعام 1974 مبدأ المساواة في النظام الاقتصادي العالمي الجديد، والذي جاء فيه: "نحن نعلن عن قرارنا بالعمل على إقامة النظام العالمي على أساس من العدالة والمساواة والتكامل والمنفعة المشتركة والتعاون بين جميع الدول..."(10) لكنّ الواقع الفعلي لعالمنا اليوم يجسّد التباينات العميقة والمتصاعدة بين الدول الصناعية الغربية (الرأسمالية) المتطورة، أي دول الشمال وبين الدول النامية، دول الجنوب. وتشمل هذه التباينات الواسعة المجالات كلها، كالاقتصادية والاجتماعية والثقافية والديموغرافية والعلمية والتقنية.. الخ، وللتدليل على صحة ذلك، يكفي أن نورد بعض إحصائيات البنك الدولي في أواسط السبعينات، والتي تُظهر أن عدد سكان العالم بلغ في ذلك الوقت حوالي 4 مليارات نسمة، وأن الناتج الاجمالي العالمي قد وصل إلى ما يعادل 6000 مليار، تتوزع على النحو التالي:‏
        -مليار نسمة في 28 بلداً فقيراً كان ناتجهم القومي الاجمالي في حدود 130مليار دولار، أي بمعدل 130دولاراً للفرد الواحد سنوياً.‏
        -نصف مليار نسمة في 25 بلداً غنياً كان ناتجهم القومي الاجمالي في حدود 2876 مليار دولار، أي ما يعادل 6000 دولار للفرد الواحد سنوياً.‏
        -1.3 مليار نسمة في 40 بلداً كان ناتجهم القومي الاجمالي في حدود 500 مليار دولار، أي ما يعادل 375دولاراً للفرد الواحد سنوياً.‏
        -576 مليون نسمة في 59بلداً كان ناتجهم القومي الاجمالي في حدود 600 مليار دولار، أي ما يعادل 1000 دولار للفرد الواحد سنوياً.‏
        -650مليون نسمة في 30 بلداً كان ناتجهم القومي الاجمالي في حدود 2000 مليار دولار، أي ما يزيد عن 3000دولار للفرد الواحد سنوياً.‏
        وإذا تم تقسيم العالم إلى مجموعتين اقتصاديتين بناء على المعطيات السابقة، لتبين أن الدخل الوسطي للفرد بالنسبة للمجموعة الأكبر وتّعد حوالي 3مليارات نسمة في منتصف السبعينات هو في حدود 400دولار سنوياً، وأنّ الدخل الوسطي للفرد، بالنسبة لمجموعة الدول الصناعية وتعد حوالي 1 مليار نسمة، هو في حدود 6000دولار سنوياً.‏
        إن الفارق الاقتصادي بين المجموعتين هو بنسبة 1 إلى 15، وهو الفارق الذي أطلق عليه الاقتصاديون تسمية "الهوّة العالمية بين المداخيل". والواقع أن الهوة بين المداخيل تتسع باستمرار. فقد كان متوسط الدخل الفردي في البلاد الصناعية عام 1950 في حدود 2000 دولار سنوياً، فأصبح في حدود 6000دولار في عام 1975. بينما ارتفع الدخل الوسطي للفرد في البلاد النامية في الفترة نفسها من 175 دولاراً إلى 400دولار. وهذا يعني أن متوسط دخل الفرد في البلاد المتطورة كان أكثر بحوالي 11 مرة من مثيله في البلاد النامية في الخمسينات فأصبح 15 مرة أكثر منه في منتصف السبعينات(11).‏
        وقد أثبت النظام الاقتصادي العالمي بأن الإعلانات والبيانات المُدبّجة لم تؤدِ إلى تضييق الهوة القائمة والمتزايدة بين المجموعتين، وأنّ العلاقات الاقتصادية الدولية هي سبب ونتيجة للظلم والاستغلال والتبعية. لأن مبادئ وقوانين وأنماط التجارة العالمية غير المتكافئة كانت وما زالت تخدم أغراض الدول الإمبريالية مصالح الاحتكارات الكبرى، التابعة لها أو المشاركة معها. فمنذ مطلع الخمسينات وحتى انعقاد المؤتمر الأولى للتجارة والتنمية تعرضت البلاد النامية إلى مشكلات اقتصادية وتجارية ونقدية لا حصر لها، مثل: انخفاض قيمة صادراتها، تصاعد الحماية والقيود الغربية على الحاصلات التي تنتجها (البلدان النامية)، انخفاض مستوردات السوق الأوروبية المشتركة من المنتجات الأساسية التي تصدّرها البلدان النامية، ارتفاع أسعار المواد الزراعية وأسعار الخامات المعدنية بصورة متعمّدة، عدم مقدرة البلدان النامية على تغيير أنماط اقتصادها وأساليبها التجارية لتتكيف مع تقلبات الطلب العالمي، المحكوم بخطط البلدان الصناعية المتطورة والشركات الاحتكارية العالمية(12).‏
        وعلى الصعيد الدولي كانت الدول النامية تعمل على إثارة تلك المشكلات سعياً منها لتصحيح الاختلالات الهائلة الموجودة في النظام الاقتصادي الدولي السائد، والذي تهيمن من خلاله الدول الرأسمالية على مُقدّرات التجارة الدولية، ولكن دون أن تلقى آذاناً صاغية. ومنذ آب 1971 اتخذت الحكومة الأمريكية قراراتها الشهيرة بإلغاء إمكانية تحويل الدولار إلى ذهب، وبفرض ضريبة إضافية تقدر بحوالي 10% على المستوردات. أي أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعد ملتزمة بالنظام النقدي الذي وضعته الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. وبعبارة أخرى فإن "الحكومة الأمريكية لم تتقيد بالقانون الدولي، أي أنها قرّرت التخلّص من التزاماتها الدولية بصورة افرادية دون الرجوع إلى الدول الأخرى، التي التزمت معها بالاتفاقيات المذكورة"(13).‏
        ولهذا يمكن القول إنّ الاقتصاد العالمي يمرّ منذ آب 1971 بانهيار في نظامه النقدي. مما اضطر الدول النامية إلى تقديم مشروع إعلان للدورة الحادية عشرة لمجلس التجارة والتنمية توضح فيه موقفها من الأزمة النقدية الراهنة ومدى تأثر اقتصاداتها بها، وجاء في المشروع ما يلي: "إن البلاد النامية تشعر بقلق كبير من جراء الأزمة النقدية الراهنة ومن مظاهر البلبلة التي سادت النظام النقدي العالمي.. وقد زادت الإجراءات الفردية التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 15/8/1971 من المصاعب التي تواجهها. إن إيقاف العمل بتحويل الدولار، بالإضافة إلى إجراءات تعويم عملات الدول المتطورة، خلق حالة من الفوضى والقلق بالنسبة لاحتياطات البلاد النامية وبالنسبة لأرباحها من الصادرات.. إن مصالح البلاد النامية لا تقلّ أهمية عن مصالح البلاد المتطورة في ضمان وجود نظام نقدي عالمي مستقر. ولذا لا يجوز تقرير أسس مثل هذا النظام في نطاق عدد محدود من الدول المتقدمة وبمعزل عن الدول النامية.. إنّ النظام النقدي الحالي قد وُضع في الماضي لتأمين حاجات الدول المتطورة الغنية، ويجب عند إقرار النظام الجديد، أخذ المفهوم الديناميكي الأوسع للتجارة العالمية الشاملة بعين الاعتبار، وعلى أساس تقسيم العمل بين الدول المتطورة والدول النامية..."(14).‏
        وحرصاً من الدول النفطية على تقوية مركزها التفاوضي أمام الأخطار السالفة الذكر، اتفقت فيما بينها على عقد اجتماعات دورية لمتابعة تطورات الأزمة النقدية الدولية، والمسائل المرتبطة بأسعار صادراتها النفطية، وكذلك أسعار السلع والآليات والتجهيزات، المستوردة من الدول الصناعية، وكيفية المحافظة على قيمة احتياطاتها المالية في ضوء تخفيض العملات الغربية وتعويمها.‏
        قد أدّت حرب تشرين التي اشتعلت في تشرين الأول من سنة 1973 إلى فرض الحظر النفطي وإلى رفع أسعار النفط الخام من 3 دولارات للبرميل الواحد إلى 11 دولاراً. وللمرة الأولى بدأت الدول الصناعية تشعر بالأزمة، أزمة ارتفاع قيمة مستورداتها النفطية من جهة، وأزمة الطاقة من جهة أخرى.‏
        وأمام هذه الأخطار أسرعت الدول الصناعية إلى تلبية دعوة الرئيس الأمريكي لعقد اجتماع بتاريخ شباط 1974 لدراسة الأوضاع النفطية العالمية، ولتكتيل الدول المستهلكة للنفط ومواجهة الدول المصدرة للنفط. وكان البند الأساسي في ذلك الاجتماع يتركز حول تقييد الدول المنتجة بالكميات التي تحدّدها الدول الصناعية الكبرى، وتحديد أسعار شراء النفط وفق المصالح الغربية.‏
        وقد اضطرت الدول المستهلكة، وأكثريتها من عداد الدول العظمى، إلى المطالبة بإجراء مفاوضات ثنائية أو جماعية لتأمين حاجاتها النفطية. وتوحيد وجهات نظرها وإيجاد الحلول العملية للمشكلة، ولا سيّما من حيث التموّن بالطاقة على الأمد البعيد.‏
        ولا شكّ أن الشعوب على اختلاف مستويات تطوّرها الاقتصادي والعلمي والصناعي.. الخ، أدركت الحجم الكارثي للأزمة الاقتصادية الدولية وتوصلّت إلى الاستنتاج بأنّ الجهود العملية المشتركة والصادقة، هي وحدها الكفيلة بحل الأزمات الاقتصادية الدولية والسيطرة على ما يطرأ من مشكلات واضطرابات بيئية أو نقدية أو نفطية. وانطلاقاً من الخلل الحاصل في النظام الاقتصادي العالمي صرّح الأمين العام للأمم المتحدة في عام 1975 بالقول: "من الواضح أن النظام الدولي للعلاقات الاقتصادية والتجارة، الذي أُنشيء قبل ثلاثين عاماً غير ملائم اليوم لحاجات المجتمع الدولي في جملته. وكان هذا النظام مُتّهماً فيما مضى بأنه يسير سيراً حسناً لصالح الأغنياء وضدّ الفقراء. ولم يعُدْ بوسعنا الآن حتّى القول بأنه يعمل لصالح الأغنياء"(15).‏
        إذاً أحدثت عملية رفع أسعار النفط وما استتبعها من أزمة في تأمين الطاقة هزّة قويّة في الدول الصناعية، التي اضطرت للموافقة على عقد مؤتمر دولي لبحث شؤون الطاقة والمواد الأولية إضافة إلى المشاكل النقدية وديون الدول النامية، والضرورة القصوى لفتح الحوار الدائم والمباشر بين مجموعة الدول الصناعية. أي دول الشمال ومجموعة الدول النامية أي دول الجنوب.‏
        وعُقد الاجتماع التمهيدي بباريس في نيسان عام 1975 للتحضير "لمؤتمر التعاون الاقتصادي الدولي". وقد دعي إلى حضور المؤتمر ممثلو الدول المنتجة، وهي الجزائر والمملكة العربية السعودية وإيران وفنزويلا وممثلو الدول المستهلكة وهي الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية والبرازيل والهند بالإضافة إلى عدد من المنظمات الدولية.‏
        وبغية الإبقاء على النظام الاقتصادي العالمي بالشكل والمضمون الملائمين لها أصرّت الولايات المتحدة الأمريكية على بحث مشاكل الطاقة حصراً، بينما كانت الدول النامية تطالب ببحث الأزمة الاقتصادية والنقدية برمتها. وهكذا فقد دار الخلاف حول جدول الأعمال، وانهارت في الواقع المحادثات التمهيدية بين مندوبي المجموعتين المتعارضتين، الذين لم يتفقوا على النقاط التي يتوجب بحثها في المؤتمر المنوي عقده. ويمكن القول بأن الفشل حصل بسبب إصرار الدول الصناعية وعلى رأسها الولايات المتحدة على أن يقتصر المؤتمر على البحث في المشكلات المتعلقة بالطاقة، مع أن ممثلي الطرفين أكدوا في النهاية على أن الاتصالات ستستمر (عبر القنوات الدبلوماسية).‏
        ونتيجة للجهود الكبيرة التي بذلتها الحكومة الفرنسية لمواصلة الحوار بين الدول الصناعية والدول النامية انعقد "الاجتماع التمهيدي لمؤتمر التعاون الاقتصادي الدولي" في باريس بين 15و 17 تشرين الأول 1975، وأقرّ المقترحات الواردة في مذكرة الحكومة الفرنسية، وتحديد تاريخ اجتماع المؤتمر الوزاري الأول بتاريخ 16 كانون الأول 1975 بحضور 27 دولة معينّة، منها 19 دولة نامية و8 دول صناعية. كما حُدّدت موضوعات النقاش ومراحل الحوار ومستوياته والمدة التي سيستغرقها المؤتمر.‏
        ونحن بصدد الحديث عن الخلل القائم في هيكلية النظام الاقتصادي العالمي، لا بد أن نشير بصورة خاصة إلى النظرتين المتعارضتين، اللتين برزتا في ورقتي العمل المقترحتين من ممثلي الدول النامية وممثلي الولايات المتحدة الأمريكية في الاجتماع التحضيري المذكور. فقد ألحت الوثيقة التي تقدّمت بها المجموعة المُمَثّلة للدول النامية على بحث المسائل التالية:‏
        1-ضرورة بحث شروط العرض والطلب للطاقة وتطورهما، وكذلك حماية القوة الشرائية لموارد تصدير الطاقة.‏
        2-يتوجب بحث شروط وتطور العرض والطلب للمواد الأوليّة، انطلاقاً من حاجات التنمية في البلدان غير الصناعية، والتعاون معها لحماية موادها المُصَدّرة.‏
        3-لا بدّ من بحث شروط التبادل التجاري وتسريع عملية التصنيع ونقل التكنولوجيا وتطوير الزراعة والبُنى الهيكلية للتنمية ومشاكل التزوّد بالمنتجات الغذائية والأسمدة الكيماوية.‏
        4-ضرورة دراسة الأوجه المختلفة للمشكلات النقدية العالمية، ودراسة أوجه التعاون والتوظيفات المالية وحركة الرساميل والاستثمارات في البلدان الصناعية، نوالعمل على حماية قيمة الموجودات والودائع المالية.‏
        في حين أن ورقة العمل الأمريكية أكّدت على ضرورة دراسة اللجان المتخصصة للأمور التالية:‏
        1-ضرورة البحث المفصل لأسعار النفط وعلاقتها بالعرض والطلب على المدى البعيد، وتأمين تزويد الأسواق (الصناعية بالدرجة الأولى) بالنفط ومشتقاته بشكل دائم.‏
        2-بحث المشكلات الناجمة عن حالات العجز المُزمن في موازين مدفوعات البلدان النامية والمساعدات المالية، والقروض والاستثمارات الدولية والاتفاقات المتعلقة بالتكنولوجيا، وضمانات الرساميل الممكن استثمارها وتوظيفها في أسواق البلدان النامية للمساهمة في تسريع وتائر التنمية.‏
        3-وجوب بحث تحسين الانتاج الزراعي والغذائي من خلال زيادة القدرة الإنتاجية، والمساعدة الغذائية، وتحسين التنمية بتوسيع إمكانات التبادل التجاري بين البلدان الصناعية والبلدان النامية.‏
        4-يتوجب بحث المسائل المتعلقة بالانعكاسات المالية لأسعار الطاقة وشروط الاستثمارات الدولية، بما في ذلك استثمار الفوائض الناتجة عن مبيعات النفط، والانعكاسات المالية للاتفاقات المتعلقة بالمنتجات الأساسية واستقرار التصدير(16).‏
        ورغم مناورات الحكومة الأمريكية ومراوغاتها، الهادفة لكسب الوقت وإضعاف وحدة قرار الدول النامية وخلق تناقضات في مواقفها، انعقد المؤتمر على المستوى الوزاري بين 16-19 كانون الأول لعام 1975. وقد حضر المؤتمر، كما كان مُقرّراً، ممثلو سبع وعشرين دولة من الجانبين (الشمال والجنوب). وبعد الاجتماع الافتتاحي، الذي ألقى فيه الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان كلمة ترحيبية، أكدَ المجتمعون بأن المؤتمر سيكرس قسماً من مناقشاته لمعالجة المشكلات الاقتصادية الدولية، ولمناقشة السبل الكفيلة بدعم التعاون الاقتصادي الدولي مع مراعاة مصالح جميع الشعوب. وتشكلت بقرار من المؤتمر أربع لجان عمل متخصصة لمواصلة الحوار حول القضايا الأساسية، وهي: لجنة الطاقة، لجنة المواد الأولية والتجارة، لجنة التنمية، لجنة الشؤون المالية. ويهمنا التأكيد هنا على حقيقة أن التوصيات التي اتخذتها تلك اللجان بعد مناقشات مستفيضة دامت حوالي عامين، هي توصيات عامة لا تقيّد الدول الرأسمالية المتطورة بالتزامات محددة وعملية. والملاحظ أن التعهدات التي قدمها مندوبو الدول الصناعية تنحصر في مساعدة الدول النامية لحل الآني والعادل من مشكلاتها الضخمة، دون دراسة جدية لقضايا التنمية الفعلية الشاملة فيها. فالمعروف مثلاً أن البلدن النامية تعاني من ضخامة مديونياتها للبلدان الرأسمالية، ولهذا ألّح ممثلوها (ممثلو الدول النامية) على جملة من الإجراءات العملية المطلوب تنفيذها من قبل الدول الدائنة، مثل- تأجيل سداد الديوان التجارية لمدة 25 عاماً، وتقديم التسهيلات التي تُمكّن الدول النامية من دفع ديونها بإشراف صندوق النقد الدولي، واعتبار أن إعادة النظر في الديون يجب ألاّ تتضارب وتتناقض مع استراتيجيّة الدول للتنمية ومع الأهداف الاجتماعية والاقتصادية وأولويات خطط التنمية.‏
        ونظراً للدور الخطير الذي تقوم به الشركات المتعددة الجنسية في الخلل الهيكلي الحاصل في النظام الاقتصادي الدولي (نظام التابع والمتبوع)، فقد ألحت الدول النامية على ضرورة اعتماد نظام دولي للشركات المذكورة لا يتعارض مع مصالح البلدان النامية، وينسجم مع المبادئ التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في توصياتها الخاصة بإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، وباحترام حق كل دولة في ممارسة سيادتها الكاملة على ثرواتها ومواردها الطبيعة وأنشطتها الاقتصادية، وفي مراقبة نشاطات وتحركات الشركات الدولية العاملة على أرضها، واعتماد القواعد المناسبة لمكافحة الاستغلال على صعيد التجارة العالمية(17).‏
        وأخيراً وبعد أن انتهت اللجان الأربع من جلساتها الطويلة والمكثفة انعقد المؤتمر الوزاري الختامي فيما بين 30 أيار و2 حزيران من عام 1977، حيث أكّد جميع الأعضاء في الاجتماع الوزاري أنّ المؤتمر قد بحث عدداً من الأمور الهامة في المجالات الاقتصادية الخاصة بالطاقة والمواد الأولية والتنمية والشؤون المالية، وأكثرها على صلة مباشرة بالبلدان النامية، ولا سيّما أكثرها فقراً. واعترف المؤتمرون بأنه "كان على المؤتمر أن يهدف إلى إعداد مقترحات ملموسة وأكثر واقعية، وذلك ضمن إطار برنامج عام للتعاون الاقتصادي الدولي، الذي يجب أن يتضمن الاتفاقيات والقرارات والتعهدات والتوصيات اللازمة".‏
        كما اعترف البيان الختامي في نهاية أعمال المؤتمر بأنّ الأطراف المجتمعة لم تتوصل إلى أي اتفاق حول عدد من الأمور والإجراءات، منها، أن المؤتمر لم يتوصل إلى أي اتفاق حول عدد من الأمور الهامة في مجال الطاقة، كتحديد الأسعار وتثبيت القوة الشرائية لموارد تصدير الطاقة، والتراكمات النفطية، والمساعدات المالية المتعلقة بحل مشاكل المدفوعات الخارجية للبلاد المستوردة للنفط وحول متابعة المشاورات المتعلقة بمسائل الطاقة مستقبلاً.‏
        وكذلك لم يتوصل المؤتمر في مجال المواد الأولية والتبادل التجاري إلى أي اتفاق حول عدد من الأمور التي تهم الدول النامية، مثل: 1-تثبيت القوّة الشرائية لأسعار صادراتها، 2-الإجراءات المتعلقة بالنمو التعويضي، 3-مشاكل التحويل الصناعي المحلي والتنويع، 4-زيادة الاستثمارات في مجال المواد الأوليّة، 5-الوسائل الكفيلة بحماية مصالح البلدان النامية التي قد تتأثر سلبياً من تطبيق برنامج التكامل الاقتصادي- 6-العلاقة بين هذا البرنامج والنظام الاقتصادي العالمي الجديد، 7-شروط التزوّد بالمواد الأولية وغير ذلك من الأمور والمسائل الخاصة بتنظيم العمل في مجال المواد الأولية والتبادل التجاري.‏
        ولم يتوصل المؤتمر إلى أي اتفاق حول تسوية المشكلات المتعلقة بمديونية الدول النامية، وحول الدخول إلى أسواق الدول المُصنّعة وحول أوضاع الشركات المتعددة الجنسية. وكذلك حول إجراءات مكافحة التضخّم وموجودات البلدان النفطية من الأموال والاحتياطات النقدية.‏
        لقد أسفرت أعمال المؤتمر التي استمرت قرابة عامين عن تعارض واضح -إنْ لم نقل عن تصادم كبير- ما بين مصالح البلدان الرأسمالية المتقدمة ومصالح البلدان النامية، وعن تمسك كل طرف منهما بمواقفه الثابتة. ولهذا اعتبرت مجموعة الـ "19" (مجموعة الدول النامية) أنّ النتائج التي توصل إليها المؤتمر بقيت بعيدة عن الأهداف التي رسمها برنامج العمل الجماعي، وهو مرحلة من المراحل الأساسية في إقامة النظام الاقتصادي العالمي الجديد.‏
        وبعد هذا المؤتمر تمّ انعقاد عدد من مؤتمرات "الحوار بين الشمال والجنوب"، تحولت مع مرور الزمن إلى معارك كلامية ومناورات دبلوماسية ولجان بيروقراطية عقيمة. وأصيب هذا الحوار في فترة لاحقة بالجمود ووصل في نهاية المطاف إلى طريق مسدود. وقد ذهبت هدراً تلك الساعات الطويلة من المفاوضات المضنية، والمؤتمرات والندوات، التي شملت أربعة لقاءات على مستوى القمة واثني عشر مؤتمراً وزارياً ومثْلها من المؤتمرات التمهيدية والتحضيرية، وأكثر من 1020 اجتماعاً تضمنت أربعة عشر ألف جلسة عمل شارك فيها اثنان وخمسون ألف خبير ومفكر، بالإضافة إلى عمل يومي يقوم به عشرون ألف موظف تابعون لـ 110 منظمة وهيئة دولية، معنية بقضايا التنمية والمعونات الدولية(18).‏
        أمّا من الناحية العملية، فقد تحطمت الآمال التي عُقدت على حوار الشمال والجنوب، إذْ لم يؤدّ هذا الحوار، على الرغم من أهميته التاريخية والإعلامية، إلى تحقيق أي مطلب أساسي من المطالب العادلة والكثيرة لدول العالم الثالث. كما لم يتوصل الحوار إلى أي اتفاق عملي يتصدّى لمشاكل الجوع والفقر والموت الجماعي في كثير من بلدان آسيا وافريقيا، ولم يسهم في تقديم أية مساعدة واقعية -ملموسة للشعوب الفقيرة والمفقرة. وفشل بصورة بيّنة في إقرار أية صيغة لتجاوز الخلل البنيوي، الذي يُعاني منه النظام الاقتصادي العالمي الراهن. فالحوار الذي وعَّد في فترة الرعاية له، أكبر انجاز سياسي وإنساني في عصرنا الحاضر، يبدو أنه قد انتهى، في حين أن مشاكل الدول النامية ظلت باقية كما هي، والفجوة بين الشمال والجنوب ما زالت كبيرة وعظيمة، بل يمكن القول إنّ الوضع ازداد سوءاً منذ بدء الحوار بين الشمال والجنوب لإقامة أسس واقعية لنظام اقتصادي عالمي جديد.. وبهذا الصدد يقول جان سان جور: "إنّ إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد كان حتى هذا الوقت موضع كثير من الخُطب والمحاضرات وقليل من التنفيذ الفعلي.. أما الدول الصناعية الرئيسة والأكثر قدرة وحيوية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الغربية واليابان، فقد رفضت أي تساهل في المبادئ وفي الخطوط الأساسية للنظام الاقتصادي القائم. وهكذا فإن الأغلبية العظمى من الدول الصناعية لم تُدرك أنّ عليها أن تساهم قبل الدول النامية في التغييرات الحتمية الكبرى، التي لا بدّ من إجرائها في النظام الاقتصادي العالمي القائم..."(19).‏
        لقد توقف الحوار بين الشمال والجنوب، دون أن يطرأ أيّ تغيير على طبيعة العلاقات غير المتكافئة بين هاتين المجموعتين، ودون أن تتقلّص الفجوة الهائلة التي تفصل بينهما في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والثقافية والصحيّة والعلمية والتكنولوجية. لأنّ النظام الاقتصادي العالمي الراهن ليس في حقيقته سوى الوجه الآخر للاستعمار الجديد. وإحدى السمات البارزة لهذا النظام، إنّه يضم شعوباً غنية ومتخمة بالغنى والقوة وشعوباً أخرى فقيرة بائسة أو مُفْقَرة بفعل ما تتعرض له من النهب والاستغلال والتبعية. فالفجوة الاقتصادية -التقنية والمعيشية آخذة بالاتساع والتضخم بين الدول الصناعية الرأسمالية وبين الدول النامية أو الفقيرة والمتخلفة في تلك النواحي. والأمر يرتبط بوضع مئات الملايين من البشر المهددين بالموت جوعاً، وآلاف الملايين، التي تعيش واقع الفقر والجهل والمرض في مدن العالم الثالث وقراه وأريافه. ويكفي للتدليل على صحة ما وصلنا إليه من استنتاج أن نشير إلى أن ثمانية من أصل كل عشرة من سكان الأرض لا يتمتعون مطلقاً بما حدث من تقدم مادي ومن رفاهية اجتماعية وحياتية في عالم اليوم(20). وتتضمن الأرقام المنشورة في هيئة الأمم المتحدة ذاتها وقائع رهيبة عن مظاهر التناقض والتباعد بين الدول الرأسمالية والدول النامية. حيث تشير تلك الأرقام إلى وجود ألف مليون نسمة من بينهم 300 مليون طفل يعيشون في حالة نقص تغذية ومجاعة مستديمة، كما أن 800 مليون في العالم الثالث فقراء بكل معايير الفقر التي تشمل انعدام المأوى، والرعاية الصحية، والخدمات الأولية الضرورية، والتعليم بالإضافة إلى انعدام الملّكية والمورد الاقتصادي والدخل المناسب. ولذلك فإن فقر الناس في العالم الثالث هو فقر مطلق، كما تزايد عدد الفقراء في هذا الجزء من العالم من مئتي مليون نسمة سنة 1960 إلى أربعمئة وخمسين مليون نسمة سنة 1970، ثم تضاعفت (مع استمرارية الحوار البيزنطي بين الشمال والجنوب) ليبلغ 800 مليون نسمة في عام 1980. ويتوقع المختصون أن يتجاوز عدد فقراء العالم الثالث ألف مليون نسمة في سنة 1990(21). أما إجمالي الناتج القومي لجميع الدول النامية فإنه لا يشكّل سوى 20% من إجمالي الناتج العالمي، ولا يبلغ أكثر من 50% من إجمالي الناتج القومي لدولة واحدة فقط من الدول الرأسمالية الكبرى، ألا وهي الولايات المتحدة الأمريكية. وإذا كان متوسط الدخل الفردي السنوي للمواطن الأمريكي =16185 دولاراً، فإنّ متوسط دخل الفرد السنوي في دول العالم الثالث لا يتجاوز 400دولار، بينما لا يصل هذا الدخل إلى أكثر من 50دولاراً للفرد سنوياً في الدول التي يطلق عليها اصطلاح "دول حزام البؤس"، والتي تضم حوالي 30 دولة، مثل: مالي وموزامبيق وأوغندا وتشاد والصومال وجيبوتي وأثيوبيا وغانا والنيجر وبنغلادش وكمبوديا ولاوس.. الخ. وهي أكثر دول العالم فقراً، ويعدّ فقرها مطلقاً حتّى بالنسبة لمعايير فقر العالم الثالث، ولذلك يطلق عليها في بعض الدراسات الاقتصادية اسم "دول العالم الرابع". ويجدر بالذكر أنه في العقدين الماضيين، أي في فترة الحوار بين الشمال والجنوب، لم تحقق أي دولة من هذه المجموعة (مجموعة حزام البؤس) أي نمو حقيقي، بل إنّ معظمها سجّلَ تراجعاً في المستويات السابقة المتدانّية أساساً. لدرجة أن بعض المختصين اعتبر أن متوسط دخل الفرد في هذه المجموعة الأخيرة يعادل الصفر(22).‏
        وما زال 60% من سكان الجنوب (الدول النامية) يعانون من الأميّة، التي تصل في بعض المناطق إلى حوالي 90% من سكان الجنوب (الدول النامية)، بالإضافة إلى ذلك فإنّ 90% من سكان تلك الدول لا يحصلون على العناية الصحية الكافية، حيث يوجد في المعدل طبيب واحد لكل 2300 نسمة، وفي أشد المناطق تخلّفاً هناك طبيب واحد لكل 59ألف نسمة، في حين يوجد في دول الشمال طبيب واحد لكل 380نسمة. وإذا كان 97% من سكان الدول الصناعية (الشمال) يحصلون على مياه نقيّة وصالحة للشرب فإن 50% من سكان الدول المتخلفة (الجنوب)، أي بحدود ألفي مليون نسمة، يظلّون إلى الآن محرومين من نعمة الحصول على ماء صالح للشرب. ونتيجة التلوث الشديد للمياه في مناطق كثيرة من بلدان العالم الثالث فإن خمسة وعشرين مليون طفل من أطفاله يموتون سنوياً من أمراض مائية، كما يُصاب 300مليون غيرهم بمرض البلهارسيا وحده، عدا أنّ حوالي 800مليون نسمة مهددين بالملاريا. وفي حين بلغ متوسط عمر الفرد في الولايات المتحدة الأمريكية 75سنة، فإن متوسط عمر الفرد في جمهورية مالي مثلاً لا يتجاوز 40عاماً، أي أن الفرد يعيش في الولايات المتحدة وسطياً لمدة 35 سنة أكثر من الفرد في مالي. كما يتكدس 250مليون من أبناء العالم الثالث في الأكواخ وفي بيوت من الصفيح، التي يتضاعف عدد القاطنين فيها بمعدل في الزيادة تتجاوز خمسة عشر مليون نسمة لكل سنة جديدة، ومن المتوقع أن يكون عدد سكان بيوت الصفيح والتنك والخرائب قد بلغ 500مليون نسمة في نهاية العام الفائت 1990(23).‏
        والحقيقة أنّه صدرت عن مؤتمرات التعاون الاقتصادي الدولي أو مؤتمرات الحوار بين الشمال والجنوب قرارات وتوصيات هامة في بعض المجالات الهادفة إلى معالجة أوضاع الدول النامية وإلى إيجاد الحلول المختلفة لمشاكلها. إلاّ أنّ هذه القرارات التي اتخذت على مختلف المستويات لم تقترن بالتنفيذ اللاّزم لتصل إلى الأهداف المرسومة لها. وبقيت بكل أسف مجرد تمنيات وأحلام.‏
        وعليه، فإننا من كل ما تقدم يمكن أن نستخلص بعض الحقائق والعبّر المتعلقة بكفاح الدول النامية من أجل نظام اقتصادي عالمي جديد.‏
        5-النتائج والدروس المستخلصة:‏
        أولاً- كان للحوار بين الشمال والجنوب أهداف عديدة ومتداخلة، من أهمها: إقامة نظام اقتصادي دولي جديد، قائم على الإنصاف والمساواة بين جميع الدول، وهو مبدأ لم يتحقق مطلقاً. ومن أهدافه الهامة أيضاً -إيجاد حلول عملية لتضييق الفجوة الاجتماعية والاقتصادية والحضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة في العالم. ورغم ذلك فإن التقديرات الأولية لبعض الاختصاصيين تشير إلى أنّ الفجوة المطلقة بين الشمال والجنوب لا تقلّ عن 60 سنة حضارية، بينما يصرّ خبراء غيرهم أنّ هذه الفجوة الحضارية هي من العمق بحيث أنّه حتى لو قُدّر للجنوب أن يُحقق معدلات هائلة وسريعة من النمو، وأصيب الشمال في المقابل بركود تنموي وحضاري شاملين، فإن الجنوب، بما في ذلك دولة الصناعية والنفطية، لن يتمكن خلال مئة سنة قادمة من تضييق الفجوة المطلقة الراهنة بين الشمال والجنوب.‏
        ثانياً- إنّنا نتفق مع الباحثين والمفكرين، الذين يرون عدم جدوى الحوار الجاري بين الشمال والجنوب، لأنّ الأساس الأول للحوار الصحيح والمفيد ليس متوفراً، ونقصد به -التكافؤ والتماثل في القدرات والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات والالتزام التام بتنفيذ التوصيات والقرارات. فالحوار بين الدول القويّة والدول الضعيفة -كما وصفه بعض الكتّاب -هو كالحوار بين الذئب والحمل، لأنّ مراكز التحكّم بالنظام الاقتصادي العالمي الممثلة بالدول الصناعية الرأسمالية، والأطراف المتحاورة معها والمتمثلة بالدول النامية غير متعادلة القوّة والتأثير والفاعلية، خاصة وأنّ المجموعة الثانية تعاني من آلية التبعية للمجموعة الأولى، إمّا بصورة مطلقة أو نسبية.‏
        ثالثاً- إنّ الوسيلة المهمة للتخلص من التخلف والتبعية لا تكمن في تقليد الخطوات والمراحل، التي قطعتها أوروبا وأمريكا أو حتى اليابان، ولا تكمن في فتح الاستثمارات للشركات الاحتكارية الكبرى والشركات متعددة الجنسية، وإنّما في فك الارتباط (بشكل مخطط ومنظّم ودقيق) مع النظام الرأسمالي العالمي، لأنه العلة الكبرى في الخلل القائم.‏
        رابعاً- العمل مقابل ذلك على بناء تنمية شاملة ومستقلة، من حيث استنادها على دراسة استراتيجية لكافة الامكانات والقدرات الذاتية المتوفرة. والتي تحتاج قبل أي شيء إلى حشد وإعادة توزيع وتنظيم عقلاني وتكامل فعلي، لتتم الاستفادة المطلوبة والمثُلى من الموارد والقدرات الذاتية، لأنّ ذلك من الشروط الهامة للتخلص من التبعية الحالية للاقتصاد الرأسمالي العالمي غير العادل.‏
        خامساً- لا بدّ من تكاتف وثيق وترابط عضوي عميق، وتنسيق استراتيجي واسع وشامل بين الدول والشعوب المُستضعفة المُسْتَغَلّة، أي شعوب العالم الثالث وحكوماته ومؤسساته الرسمية ومنظاته الجماهيرية وهيئاته العلمية، سواء على مستوى التجمّعات الاقليمية -الاقتصادية والثقافية والدفاعية.‏
        سادساً- العمل الجدّي على استخدام البلاد النامية لطاقاتها المتوفرة والكامنة، والتعاون فيما بينها على فرض توّجهاتها لإقامة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، وتدعيم تضامنها وتنسيق نشاطاتها ضدّ المحاولات والإجراءات العملية الامبريالية في ممارسة الضغوط وزرع الانقسامات بينها.‏
        سابعاً- بغية إيجاد موقف عربي متين وفاعل في النظام الاقتصادي الدولي القائم، لا بدّ من تعبئة الموارد المالية العربية، لاستخدامها بصورة عقلانية في أغراض انتاجية تخدم تمتين البنية التحتية في الوطن العربي وذلك ضمن خطة استراتيجية بعيدة المدى والشمولية، تستهدف إجراء التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعلمية.. الخ، اعتماداً على القدرات العربية الضخمة، ولا سيّما في المجالين البشري والمالي، ناهيك عن الاحتياطي الكبير في المعادن والمواد الأولية المختلفة. ولتحقيق هذه الأهداف لا بدّ من فك ارتباط البلدان الغنية مالياً مع أسواق الرأسمالية- الاستعمارية العالمية، والبحث الجدّي عن سُبل أكثر استقلالاً وإنتاجية لتوظيف تلك الأموال والأرصدة العربية الصخمة، وتحريكها على الساحة التنموية العربية، مع إعطائها الضمانات القانونية والسياسية والاقتصادية اللازمة. فالاندماج الاقتصادي والعلمي والثقافي على الصعيد العربي لا بدّ أن يُبنى على أسس واقعية متينة تأخذ بالحسبان الظروف الخاصة بكل قطر على حدة، وإمكانات هذا القطر على مستوى التجمع العربي -سواء البشرية أو المالية أو الاحتياطات في الثروات الباطنية وغيرها. بيد أنّه من أجل الوصول إلى هذه الأهداف والطموحات، لا بدّ من أن تتوفر جملة متكاملة من الشروط والعوامل، التي يتجاوز بحثها وتحليلها دراستنا هذه، والتي تتطلب أبحاثاً ودراسات متخصّصة، في نطاق أُطر ومسارات أوسع وأشمل.‏
        الهوامش :‏
        1-موسوعة "الاقتصاد السياسي" السوفيتية"، وضع مجموعة من العلماء بإشراف أ.م روميانتسيف، الجزء الثالث "موسكو: دار الموسوعة السوفيتية"، 1979 ص82-84 (بالروسية).‏
        2-م.يا. فولكوف وآخرون: الاستعمار الجديد -جوهره، وأشكاله، وأساليبه، موسكو، دار العلم، 1987، ص157 (بالروسية).‏
        3-هربرت. أ.شيللر: المتلاعبون بالعقول. سلسلة عالم المعرفة، رقم 106، الكويت 1986.‏
        4-فولكوف وآخرون: الاستعمار الجديد.. ص132 وما بعد.‏
        5-بول سويزي: "الشركات المتعددة الجنسية والمصارف"- في كتاب "من الاقتصاد القومي إلى الاقتصاد الكوني" لمايكل تانزر وآخرين. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981- ص123.‏
        6-سمير كرم: الشركات المتعددة الجنسية. بيروت: معهد الإنماء العربي، 1976 ص.ص 39-46.‏
        7-موسوعة "الاقتصاد السياسي" السوفيتية، الجزء الثالث، ص107‏
        8-عبد الوهاب الكيالي ومجموعة من المحررين: موسوعة السياسة. بيروت: المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، 1985، ج1، صص 221-222‏
        9-أ.ي دينكيفيتش وآخرون: استراتيجية التنمية الاجتماعية- الاقتصادية لبلدان آسيا المتحررة. موسكو: دار العلم، 1986، ص364 (بالروسية).‏
        10-المصدر نفسه.‏
        11-الدكتور عبد المنعم زنابيلي: الحوار بين الشمال والجنوب. دمشق منشورات وزارة الثقافة، 1981، ص16-17‏
        12-المصدر نفسه، ص22-24‏
        13-الدكتور عبد المنعم زنابيلي: الحوار بين الشمال والجنوب، ص28‏
        14-نقلاً عن المصدر نفسه، ص29‏
        15-انظر: العالم الثالث هل يستطيع البقاء؟ تأليف جاك لو، ترجمة عيسى عصفور. دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1985- ص84‏
        16-لمزيد من التفاصيل يمكن العودة إلى كتاب الدكتور عبد المنعم زنابيلي: الحوار بين الشمال والجنوب. دمشق منشورات وزارة الثقافة، 1981، وكذلك إلى مجموعة الدراسات التي وضعها أ.ي. دينكيفيتش وزملاؤه، يعنوان: استراتيجية التنمية الاجتماعية -الاقتصادية لبلدان آسيا المتحررة. موسكو: دار العلم، 1986 (بالروسية).‏
        17-المصدران السابقان.‏
        18-موريس غورينيه: العالم الثالث ثلاثة أرباع البشرية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982-ص148.‏
        19-جان سان جور: ضرورة التعاون بين الشمال والجنوب. بيروت ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982، ص46.‏
        20- موريس غورينيه: العالم الثالث ثلاثة أرباع البشرية. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2،1986.ص58.‏
        21-جاك لوب: العالم الثالث وتحديات البقاء "سلسلة عالم المعرفة، الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والآداب في الكويت، رقم 104- 1986، ص7‏
        22-الدكتور عبد الخالق عبد الله: العالم المعاصر والصراعات الدولية. سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 133، 1989- ص141.‏
        23-لمزيد من التفصيلات: انظر المصدر نفسه.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

          الدراسة الثالثة الوضع الديمغرافي ومشكلة التشغيل في الوطن العربي
          تتناول هذه الدراسة قضية هامة جداً لاستراتيجية بناء القوة العربية وتتعلق بمستقبل القوى البشرية المنتجة في الوطن العربي وتعبئتها بصورة عقلانية، تأخذ بالحسبان الوضع الديمغرافي القائم حالياً في منطقتنا وما يفرزه الآن ومستقبلاً من ظواهر ومشكلات، أبرزها مشكلة التشغيل الأمثل لتلك القوى والاستفادة القصوى من طاقاتها وإمكانياتها الاقتصادية -الاجتماعية الهائلة.‏
          ونقصد هنا بالوضع الديمغرافي -الحالة السكانية الراهنة في الوطن العربي، التي تتضمن بشكل خاص حجم السكان ومعدلات النمو الطبيعي لهم، وتوزّعهم قطرياً وإقليمياً وعُمْرّياً، ونسبة القوى العاملة إلى مجمل الكتلة السكانية، ونسبة المشتغلين إلى القوى القادرة على الإنتاج، وأثر تلك المؤشرات على استثمار الموارد المتوفرة وعلى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للوطن العربي. وهذا يعني أننا سنعالج في هذه الدراسة البناء الديمغرافي للوطن العربي مع التحولات الديمغرافية التي تجري في ذلك البناء الحيوي المتحركّ باستمرار. ونقصد بها التغيرات الحاصلة في معدل نمو السكان وكثافتهم وتنقلاتهم نتيجة للتحضّر السريع والهجرة وانتقال العمالة من الأقطار الأفقر إلى الأقطار الغنية.‏
          أمّا القوى العاملة فهي "ذلك الجزء من السكان الذي يمكن استغلاله في النشاط الاقتصادي، ويشمل جميع الأفراد الذين بلغوا السن التي يجوز فيها تشغيلهم "الذين تتراوح أعمارهم وفق التعريفات الدولية المعتمدة ما بين (15 و 16 سنة)، كما تشمل الأفراد الذين لا يعملون بصفة مؤقتة" (1).‏
          أولاً- الوضع الديمغرافي في الوطن العربي:‏
          لكي ندرك حساسية النمو السكاني المرتفع في الوطن العربي نجري مقارنة سريعة بين الأوضاع الديمغرافية لأوروبا في مرحلة ما قبل الثورة الصناعية الكبرى والمعدلات الحالية للزيادة السكانية السنوية في الوطن العربي. ففي انكلترا -على سبيل المثال- كانت معدلات الزيادة السكانية السنوية على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تتراوح ما بين 0.2-0.6% بالمئة، أما في فرنسا فقد كانت هذه المعدلات أقل من ذلك، إذ تراوحت ما بين 0.1-0.4% في السنة. بينما تبين الدراسات الخاصة بالتاريخ السكاني للوطن العربي، أنه إلى منتصف القرن التاسع عشر، -أي إلى بداية الاختراق الأوروبي المكثف- كان حجم السكان في الوطن العربي مستقراً عند 35 مليون نسمة. وهي حالة تعرف في الديمغرافيا باسم "التوازن التقليدي" (traditional equilibrium)، حيث ترتفع فيها معدلات المواليد ومعدلات الوفيات إلى أعلى درجاتها (حوالي 50 بالألف سنوياً لكل منهما)، وبالتالي يلغي أحدهما أثر الآخر إلى حد كبير ببقاء الحجم الكلي للسكان على حاله، ومع محاولات الإصلاح العربية التي ترافقت بالأخذ ببعض وسائل الطب، والصحة العامة الحديثة، انخفضت معدلات الوفيات مع بقاء معدلات المواليد على مستواها المرتفع، ونتج عن ذلك زيادة تدريجية متراكمة للسكان في هذه الأقطار. فمصر، على سبيل المثال، تضاعفَ عدد سكانها بين أوائل القرن التاسع عشر وأواخره (من 5 إلى 10 ملايين نسمة) - أي خلال مئة عام- وتضاعف مرة ثانية في الخمسين سنة التالية (من 10 ملايين إلى 20 مليوناً بين سنتي 1900 و 1950)، ثم تضاعف مرة ثالثة في الأعوام الثلاثين التالية (من 20 إلى 40 مليون نسمة بين عامي 1950 و 1980)، ويطلق على هذه الظاهرة السكانية في الأدبيات المختصة اسم "مرحلة التحول الديمغرافي"، التي تتصف عادة بالانخفاض المستمر للوفيات، مع بقاء معدل المواليد المرتفع على حاله، أو انخفاضه ببطء شديد... وبصورة عامة فإن الوطن العربي مازال في مرحلة التحول الديمغرافي التي تسود في الأقطار التي دخلت مبكراً طور التحضَّر (مثل مصر، تونس، المغرب، لبنان)، حيث لا يزال معدل الزيادة السنوية السكانية مرتفعاً بالمقاييس العالمية، إذ تكفي نسبة الزيادة الطبيعية السنوية بحدود 2.5 بالمئة لمضاعفة حجم السكان كل 28 عاماً. كما نجد أن المعدل الأعلى يسود في الأقطار التي دخلت مرحلة التحول الديمغرافي والتحضّر خلال نصف القرن الأخير (بلدان الجزيرة والخليج والسودان والصومال وموريتانيا) حيث تبلغ نسبة الزيادة السكانية السنوية 2.3 بالمئة، وهو أعلى المعدلات في العالم ويكفي لمضاعفة حجم السكان كل 22 عاماً. ويتبين من خلال تلك الدراسات أن سكان الوطن العربي كانوا يُقَدّرون في أوائل القرن العشرين بحوالي 38 مليوناً. ووصل عددهم في منتصف القرن (1950) إلى 77 مليوناً، ثم إلى 125 مليوناً في عام 1970، وإلى 182مليوناً عام 1985 (2). ويتوقع الخبراء أن يصل هذا العدد إلى 281.202 مليون عام 2000، ثم يقفز هذا الرقم إلى 446.026 مليون نسمة سنة 2025(3). أي أن العدد الإجمالي للسكان في الوطن العربي سيتضاعف تقريباً خلال 30 عاماً، في حين أن الوضع ذاته تطّلبَ مرور مئة سنة بالنسبة لانكلترا وفرنسا (من عام 1750-1850)، حيث تضاعف سكان هذين البلدين من 30 إلى 62 مليون نسمة (4). وتؤكد التوقّعات الموضوعة بحسب القوانين الديمغرافية، أن الأهمية النسبية لسكان الوطن العربي ستزداد من 3.9 بالمئة من مجموع سكان العالم سنة 1985، إلى 5.4 بالمئة سنة 2025 (5).‏
          وتكشف الإحصائيات العربية والدولية مجموع من الملامح والخصائص المميزة للوضع الديمغرافي في الوطن العربي، أهمها:‏
          أ- معدّلات النمو الطبيعية السريعة، حيث تبلغ وتائر الزيادة السكانية في معدل عالٍ، ليس بالنسبة للمجتمعات المتقدمة صناعياً (9بالألف) فحسب، وإنّما كذلك بالنسبة لكثير من دول العالم ، القريبة من ظروفها الاجتماعية والاقتصادية من واقع الوطن العربي (59 بالأف في الهند والصين) (12).‏
          د- المتوسّط العمري المنخفض، إذ تُبيِّن الدراسات الخاصة بمتوسط الحياة المتوقعة عند الولادة (life expectancy)، أنه كان في سنة 1985 حوالي 59 عاماً في المتوسط للوطن العربي إجمالاً، ويُعَدّ هذا المتوسط متدنياً مقارنة بمتوسط الحياة في الدول الغريبة المتقدمة الذي يتجاوز 75 سنة، و70 سنة في الاتحاد السوفياتي السابق (13).‏
          هـ- اختلال التوزّع السكاني، ويتجلى هذا الخلل سواء بين الأقطار العربية أم داخل كل قطر منها على حدة، وكذلك من حيث الحجم المطلق والكثافة السكانية في كل كيلو متر مربع. فبينما لم تتعدَّ هذه الكثافة أقل من شخصين لكل كيلو متر مربع في ليبيا، تصل هذه الكثافة إلى 290 شخصاً لكل كيلو متر مربع في لبنان. والواقع أن الكثافة الحقيقية أعلى من ذلك بكثير في كل من الأقطار العربية. إذ أن أكثر من 80 بالمئة من مساحة الوطن العربي، هي أراض غير مأهولة، فالمناطق المأهولة لاتتجاوز 2.5 مليون كيلو متر مربع من مجموع 13.6 مليون كيلو متر مربع. فإذا أخذنا مصر على سبيل المثال، نجد أن المأهول أو المعمور منها لا يتجاوز 4 بالمئة من مساحتها الكلية. لذلك ارتفعت الكثافة الحقيقية فيها من 250 شخصاً في الكيلو متر المربع المأهول عام 1900 إلى 500 شخص عام 1950 إلى 1150 شخصاً عام 1985. وما ينطبق على مصر يصدق على معظم الأقطار العربية بدرجات متفاوتة. ففي الكويت مثلاً، وصلت الكثافة الحقيقية عام 1985 إلى أكثر من 10000 شخص في الكيلو متر المربع المأهول، ومدينة الكويت (العاصمة) التي تضم حوالي 90 بالمئة من جملة سكان الكويت لا تشغل إلاّ أقل من 8% من مساحة هذا القطر. وهذا ما يعطي تفسيراً واقعياً لازدحام المدن والبلدان العربية، أو حتى اكتظاظها بالسكان، رغم ضخامة المساحة الإجمالية للوطن العربي. ويهمّنا أن نشيرَ في هذا المجال إلى أن إحدى نتائج اختلال توزّع السكان هي تزايد الضغوط على الأراضي الزراعية المحدودة (حالياً) في الوطن العربي. وقد كان ذلك أحد العوامل الرئيسة الطاردة للسكان من الأرياف إلى المدن العربية، سواء في داخل القطر الواحد أم عبر الحدود القطرية. والزيادة السكانية في الريف ذات المعدلات المرتفعة (أكثر من 3 بالمئة سنوياً) تعني إضافات بشرية كبيرة مؤهلة للهجرة إلى المدن التي تتميز عموماً بتنوع أنشطتها الاقتصادية، وتعدد مصادر الاستيعاب للقوى الساعية إلى كسب رزقها، ولهذا نجد أن المدن العربية تنمو من هذا المصدر (الهجرة من الأرياف والبوادي) بقدر ما تنمو الزيادة الطبيعية (أي الفرق بين معدلات المواليد ومعدلات الوفيات). فإذا كانت المدينة العربية تنمو بمعدل 2.5 بالمئة سنوياً من الزيادة الطبيعية، فهي تنمو أيضاً بمعدّل 2.5 بالمئة من الهجرة إليها، أي أن معدّل نموها الإجمالي من المصدرين يصل إلى 5 بالمئة سنوياً. فقد زاد إجمالي سكان الوطن العربي في العقود الأربعة الأخيرة حوالي 150 بالمئة (من 77 مليوناً عام 1950 إلى 94 مليوناً عام 1985، أي بنسبة 395 بالمئة (14). ومن أبرز ملامح الاختلال الديمغرافي في الوطن العربي النمو الحضري السريع، الذي يحدث في الغالب على صعيد المدن الكبيرة، التي يزداد معدل نمو سكانها بحوالي 5 إلى 6 بالمئة سنوياً. وبسبب الهجرة من بلدان عربية وأجنبية، يزداد النمو السكاني في مدن البلدان المنتجة للنفط بنسبة عالية تبلغ 18 بالمئة في مدينة الكويت و 15 بالمئة في الدوحة و 10 بالمئة في الرياض. وقد تضاعفت نسبة سكان بعض المدن الخليجية أربع مرات خلال ربع قرن فقط (1950-1974) وذلك في السعودية والكويت وقطر ودولة الإمارات العربية. ففي الكويت، مثلاً، ارتفعت هذه النسبة من 51 بالمئة عام 1950 إلى حوالي 90 بالمئة عام 1974. فقد كان عدد سكان مدينة الكويت حوالي 35 ألفاً في مطلع القرن العشرين، وارتفع إلى 60 ألفاً في الثلاثين ومئة ألف في الأربعينيات، وقفز إلى نصف مليون في الستينيات، ويتوقع أن يصبح حوالي خمسة ملايين في نهاية القرن (15).‏
          وللتدليل على ظاهرة النمو السريع لسكان المدن العربية، نشير هنا بصورة سريعة إلى تقديرات عدد سكان بعض المدن العربية الكبرى منذ منتصف القرن الحالي وحتى نهايته، فقد كان عدد سكان الاسكندرية مئة ألف نسمة في الخمسينيات، وارتفع بعد عشرين سنة فقط إلى الضعف (200000نسمة)، ويتوقع أن يبلغ في عام 2000 حوالي 7.200000ملايين. وكان عدد سكان القاهرة في الخمسينيات 2.500000مليون، وقفز إلى حوالي 6ملايين في السبعيّنيات، ويتوقع أن يقفز هذا العدد إلى 20.600000مليون في نهاية هذ1 القرن. وإذا كان عدد سكان مدينة بغداد يقل عن المليون في الخمسينيات (784000) فالمتوقع أن يصبح 12مليون نسمة في عام الألفين (16).‏
          وقد اتفق مجموعة من الباحثين المختصين على تقسيم الوطن العربي سكانياً إلى ثلاث مجموعات متفاوتة (بصورة سلبية) في هذا الجانب: المجموعة الأولى هي الأقطار المكتظة سكانياً والمتكدسة حضرياً في الوقت نفسه، وتشمل مصر والمغرب والجزائر وتونس. ونجد في هذه المجموعة أنَّ معدل الزيادة السكانية مساو أو يزيد على معدل التنمية الاقتصادية، وأن معدّل النمو الحضري من الهجرة يفوق بشكل ملحوظ قدرة المدن على استيعاب المهاجرين ونجاحهم في الاقتصادات الحديثة. والمجموعة الثانية هي الأقطار المخلخلة سكانياً والمتكدسة حضرياً، ومن أمثلتها العراق والسعودية وليبيا والسودان. وهي رغم أن اقتصادها ينمو أو هو قابل للنمو بسرعة، إلاّ أنَّ هذا النمو يصطدم بسقف معين لن يتجاوزه، بسبب نقص السكان المحليين القادرين على المساهمة في القطاعات الإنتاجية والخدمية الحديثة. ويضاعف من هذه المشكلة أنه رغم محدودية عدد السكان في الريف، حيث الحاجة إليهم ماسّة وفرص العمل الزراعي متوافرة، إلاّ أنهم ينجذبون للهجرة إلى المدينة، حيث لا حاجة حقيقية إليهم. أما المجموعة الثالثة، فهي مجموعة أقطار الخليج النفطية (باستثناء السعودية)، التي تتميز بتخلخل سكاني حاد وتكدّس حضري شديد. والمشكلة في هذه المجموعة ليست في تضخم حجم المدن، ولكنها تتمثل في ضآلة القاعدة السكانية الوطنية أصلاً. فالموارد المالية لهذه البلدان (خاصة منذ السبعينيات) أكبر من طاقة اقتصاداتها على الاستيعاب، وبرامجها التنموية أضخم مما تستطيع قوة العمل البشرية الوطنية أن تضطلع بها. ولأنّنا سنفرد حيّزاً مُعيناً في هذه الدراسة لمناقشة مشكلة تضخم العمالة الأجنبية في أقطار الخليج العربي، فإنّنا نكتفي حالياً بالإشارة إلى تضخم هذه العمالة في السنوات الأخيرة (بخاصة من شرق آسيا وجنوبها) بشكل يهدد الهوية القومية لبلدان الخليج العربي. فقد وصلت نسبة غير المواطنين وغير العرب (الآخرين) في بعضها، كدولة الإمارات العربية المتحدة، إلى أكثر من 60 بالمئة من إجمالي السكان (17).‏
          وما دمنا نتحدث عن الخلل في توزّع السكان في الوطن العربي، يجدر بنا التوقف عند أنماط النمو الحضري في هذه المنطقة، لما لذلك من علاقة مباشرة بموضوع هذا البحث. فرغم اشتراك كل أقطار الوطن العربي في مجموعة الخصائص الديمغرافية التي أشرنا إليها، إلاّ أنه تظل هناك بعض الاختلافات النوعية والكمية في تأثير ذلك كله على هياكلها الحضرية. وقد اتفق بعض الباحثين العربي على تصنيف الأقطار العربية إلا ثلاث مجموعات في هذا المجال هي: مجموعة الخصائص الديمغرافية التي أشرنا إليها، إلاّ أنه تظل هناك بعض الاختلافات النوعية والكمية في تأثير ذلك كله على هياكلها الحضرية. وقد اتفق بعض الباحثين العرب على تصنيف الأقطار العربية إلى ثلاث مجموعات في هذا المجال هي: مجموعة أقطار الحزام العربي الشمالي (المدن المليونية)، مجموعة أقطار الخليج (دولة المدينة)، ومجموعة الحزام العربي الجنوبي.‏
          ويمثل الجزء الشمالي من الوطن العربي، سواء في غرب آسيا أو شمال أفريقيا، مركز الثقل الحقيقي للسكان عموماً، ولسكان المدن العربية خصوصاً. وتضمّ هذه المجموعة تسعة أقطار عربية يعيش فيها حوالي 138 مليون شخص، أي ثلاثة أرباع سكان الوطن العربي في منتصف الثمانينات. وقد بدأت مرحلة "التحوّل الديمغرافي" في هذه المجموعة منذ مئة سنة، وبدأت معها ظاهرة التحضر الناتج عن الهجرة من الريف. ويتراوح مستوى الحضرية فيها بين 45 و 76 بالمئة في الوقت الحاضر، ولا تزال معدلات النمو المديني في صعود. وفي قمة هذه المجموعة نجد لبنان حيث يمثل سكان المدن فيه 76 بالمئة من جملة السكان، يليه كل من العراق والأردن وليبيا وتونس حيث يمثل سكان مدن كل منها حوالي ما بين 55 و 72 بالمئة من جملة السكان. أمّا مصر والمغرب والجزائر فتأتي بعد ذلك، حيث يمثّل سكّان المدن ما بين 45 و 50 بالمئة من مجموع السكان في كل منها. وأهم ما يميّز الظاهرة الحضرية في هذه المجموعة هو قدم مدنها وضخامتها. فجميع مدن الوطن العربي التي يزيد سكانها عن المليون، تقع ضمن هذه الأقطار التسعة: القاهرة، وبغداد، والإسكندرية، والدار البيضاء، والجزائر، ودمشق، وتونس، وبيروت. وبالمقابل نجد أن مجموعة أقطار الخليج العربي (الكويت، وقطر، والبحرين، والإمارات العربية المتحدة) هي أكثر أقطار الوطن العربية حضرية وتوطّناً في المدن. فنسبة سكان المدن في كل منها تترواح بين 80 بالمئة (الإمارات) و 93 بالمئة (الكويت)، مروراً بقَطَر 80 بالمئة (إحصائيات 1985). وهي نسب مرتفعة جداً بالقياس إلى معظم المجتمعات الغربية التي بدأت ثورتها السكانية والحضرية منذ قرنين من الزمن (مثل بريطانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة). لقد كان معدّل نمو المدن في دول الخليج في الستينيات حوالي 15 بالمئة سنوياً، وهو معدّل يكفي لمضاعفة سكان هذه المدن مرة كل خمس سنوات. وقد استمر هذا المعدل خلال عقد السبعينيات، بل وزاد في كل من الإمارات وقَطَر إلى ما يقارب من 18 بالمئة سنوياً.‏
          ومما يلفت النظر أنَّ هذه المجموعة هي آخر المجموعات العربية الثلاث دخولاً إلى مرحلة التحول السكاني (stage of demographic transition) وإلى ميدان الحضرية. فهي قد دخلت مرحلة التحوّل السكاني بعد أكثر من مئة سنة من أقطار الحزام العربي الشمالي (مصر، والمغرب، والجزائر، وتونس، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، والعراق). ولكن النمو السكاني في هذه المجموعة لا يتأتى من مصدر الزيادة الطبيعية (الفرق بين المواليد والوفيات) بقدر ما هو متأت من مصدر الهجرة إلى أقطار الخليج من كل أنحاء الوطن العربي وإيران وشبه القارة الهندية. وتُعَدّ الطفرة النفطية في هذه الأقطار في العقود الثلاثة الماضية المسؤول الأول عن النمو الهائل في سكان هذه الأقطار عموماً، وسكان مدنها خصوصاً، حيث أنّ أكثر من نصف سكان هذه الأقطار الأربعة من المهاجرين الذين لم يولدوا على أراضيها. والمُلاحظ بالنسبة للتوّزع السكاني في أقطار الخليج المذكورة أن معظمهم يتركز في مدينة واحدة، هي العاصمة، كما أسلفنا. ولهذا فقد أطلق بعض المختصين على كل من هذه الأقطار -"دولة المدينة" (city state). والسبب في هذه الصفة أن العواصم تضم الأغلبية المطلقة من السكّان. فمدينة الكويت تضم كما ذكرنا من قبل حوالي 90 بالمئة من جملة سكان الكويت الدولة. ومدينة الدوحة تضم أكثر من 75 بالمئة من مجموع سكان دولة قطر. والمنامة كانت تضم 65 بالمئة من مجموع سكان البحرين عام 1985. وكل إمارة في نطاق دولة الإمارات العربية المتحدة، هي في الواقع مدينة بلا أرياف حولها (مثل دبي والعين وأبو ظبي).‏
          ولكن أيّاً كانت الأهمية المالية والنفطية لأقطار الخليج، فإنها لاتمثل نسبة تُذكر من الحجم السكاني العربي. فسكان الدول الخليجية الأربع لا يتعدون أربعة ملايين شخص. ومن ناحية أخرى، فإنّ مجلس التعاون الخليجي- الذي يضم السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت والبحرين وعُمَان وقطر- لا يشكل سكانه (بما في ذلك العرب والأجانب) أكثر من 10 بالمئة من إجمالي سكان الوطن العربي، أي 19.334 مليون شخص من أصل 202.144 مليون نسمة (18).‏
          أمّا بالنسبة للمجموعة العربية الثالثة، التي اتُفق على تسميتها بمجموعة أقطار الحزام الجنوبي (المدن النامية)، فهي تشمل كلاً من موريتانيا، والسودان، والصومال، وجيبوتي، والسعودية، واليمن العربية، وعَمَان. وهي تقع جميعها في النصف الجنوبي من الوطن العربي. وهي أقلّ المجموعات الثلاث حضرية. رغم أنّ هذه الأقطار السبعة تضم أكثر من 25 بالمئة من جملة سكاني الوطن العربي، حيث لاتتجاوز نسبة سكان المدن فيها 38 بالمئة من إجمالي السكان، باستثناء السعودية (72 بالمئة)، التي قفز فيها مُعَدَّل الحضرية إلى أكثر من الضعف في الفترة من 1970 إلى 1985، وأقل الأقطار حضرية في هذه المجموعة الصومال واليمن الجنوبي حيث لا تزيد نسبة سكان المدن فيها عن 20 بالمئة من جملة السكان. كما أنّ هذه المجموعة كانت- وما تزال- تتسم بوجود تجمعات قبلية رعوية من البدو الرحّل، وبخاصة في موريتانيا والصومال والسودان والسعودية (19).‏
          وهكذا إذا استمرَّ النموّ الحضري على معدله الحالي البالغ 6 في المئة، فإن الوطن العربي سيصل مستوى من التحضر مقداره 70 بالمئة عند نهاية هذا القرن، وهذا يعني أنه ما إن يحلّ القرن الحادي والعشرون إلاّ وتكون المدن العربية الرئيسة قد ازدادت ضعفين أو ثلاثة أضعاف. ومن الطبيعي أن يولِّدَ هذا الخلل الديمغرافي سوء توازن، يتلخّص بالتركيز الشديد على تقديم الخدمات الضرورية والتسهيلات الثقافية والتعليمية ومختلف المرافق الصحية والسياحية وغيرها من الإمكانيات ضمن دائرة محدودة المساحة (العاصمة بالدرجة الأولى). ومن الأمور البارزة في ظاهرة التحضر السريع في الوطن العربي، يشير بعض الباحثين إلى عدم التوازن العِرْقي الذي ينعكس في النسبة العالية من غير المواطنين الذي يقيمون في هذه المدن. ويتجلّى ذلك بشكل خاص في منطقة الخليج. ففي بعض أقطارها، كدولة الإمارات العربية وقَطَر والكويت، ترتفع نسبة غير المواطنين حتى تصل 76 في المئة و 73 في المئة و 60 في المئة على الترتيب. ومن الواضح ما يترتب من أبعاد اجتماعية وسياسية نتيجة لمثل هذا النقص في التوازن العِرْقي (20).‏
          ورغم أنّ هذه الدراسة لا تدور أساساً حول مشاكل النمو الحضري في الوطن العربي، إلاّ أننا أردنا الإشارة فقط إلى منعكسات هذا النمو السريع على اختلال التوزّع السكاني بين الأقطار العربية من جهة وضمن كل قطر من جهة أخرى، مؤكدين في هذا السياق على بدهية يعرفها الجميع، وهي أنه إذا استمرَّ المُعَدّل الحالي للنمو الحضري، فستضطر معظم الأقطار العربية (وبخاصة الأقطار التي بلغ التحضّر فيها 20 في المئة أوما يزيد) إلى إنفاق أموال أكثر على مدنها بالنسبة للفرد الواحد لكي تحافظ فقط على الأمور كما هي وتمنعها من التدني، ناهيك عن تحسينها. وإنّ أزمة المساكن التي تواجه عشرين مدينة من المدن العربية ما هي إلاّ إحدى العلائم المؤلمة لهذا المشكل. وإذا استمرت معدّلات التحضر الحالية كما هي، فعلى العالم العربي أن يبني عدداً من الوحدات السكنية في ربع القرن القدم يفوق العدد الذي بناه في كل تاريخه السابق (21). والحقيقة المستخلصة من ظاهرة النمو الحضري المفرط في الوطن العربي تتمثل في انعدام وجود سياسة استراتيجية واضحة للتوطين السكاني وتوزيع التجمعات البشرية، بصورة تكفل تحقيق التوازن في الإنتاج وتقديم الخدمات المطلوبة.‏
          ثانياً- أوضاع القوى العاملة في الوطن العربي ومشكلة التشغيل:‏
          إذا كانت القوّة العاملة في أي بلد تشمل جميع السكان القادرين على العمل والإنتاج، سواء الذين يعملون بالفعل، أو الذي سبق لهم أن مارسوا العمل ولكنهم لايعملون في الوقت الحاضر، أو الذين لا يعملون ولكنهم قادرون على العمل ويبحثون عنه (22)، فإنَّ ذلك يعني بلغة الأرقام والإحصاء، أنَّ عدد القوى العاملة في الوطن العربي حوالي 52 مليوناً (وفق إحصائيات عام 1985)، أي أنَّ نسبة القوى العاملة تشكل حوالي 27 بالمئة فقط من إجمالي عدد السكان في الوطن العربي.... والمقارنة مع نسب القوى العاملة على الصُعُد العالمية تبيّن الانخفاض الواضح في نسبة القوى العاملة العربية قياساً على الحجم الكلي للسكان. فبينما ترتفع هذه النسبة إلى حوالي 45 بالمئة على المستوى العالمي، تصل إلى حوالي 50 بالمئة في الدول المتقدمة (23).‏
          والأسباب الرئيسة لانخفاض قوة العمل العربية يمكن ترتيبها على النحو التالي:‏
          أ- النسبة العالية لعدد الأطفال والسكان المُعالين، إذ سبق لنا أن ذكرنا أن أكثر من 50 بالمئة من إجمالي سكان الوطن العربي هم دون سن العشرين. وهو ما يسمى في علم الاقتصاد بـ "معدّل الاعتمادية"، أي نسبة غير العاملين، أو المُعيلين (المنتجين فعلاً) في مجموع السكان. وهذا يعني بعبارة أخرى أنّ مقابل كل شخص يشارك عملياً في سوق العمل، يوجد ثلاثة أشخاص لا يعملون، وبالتالي فإنه يترتب على ذلك الشخص المنتج فعلاً إعالة ثلاثة أشخاص غيره.‏
          ب- الإسهام الضعيف لمشاركة المرأة العربية في العمل والإنتاج خارج المنزل، حيث لا تتجاوز نسبة من يعملن منهن خارج المنزل 15 بالمئة من كل الإناث فوق سن الخامسة عشرة (24)، علماً أنّ نسبة الإناث تعادل حوالي نصف مجمل السكان في الوطن العربي. وانخفاض نسبة الإناث العاملات يعود في رأي أغلب الدارسين والمختصين إلى أسباب كثيرة، أهمها: التقاليد والقيم التقليدية السائدة أو "السلفية الجديدة"، أو عدم إتاحة فرص التعليم والتدريب أو العمل أمام الراغبات منهن في دخول سوق العمل (25). بينما يرى الدكتور خليل أحمد خليل "أن انهيار الأنظمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في العهد العثماني والاستعماري أدّى إلى استعباد العرب عموماً، وإلى إنزال المرأة منزلة أداة اللهو والترفيه، ففرض عليها الحجاب والحذر والعزل عن الرجل" (26).‏
          وبما أن هدفنا لا ينصب في هذه الدراسة على مناقشة الاتجاهات والآراء التي تحلل عوامل المشاركة الاقتصادية للمرأة في المجتمع العربي، فإننا نكتفي هنا بالقول إنّه وفقاً للمعطيات السكانية ينبغي أن يعمل نصف السكان العرب البالغ عددهم حالياً أكثر من 200 مليون نسمة، فيما لو تهيأت الظروف المناسبة لعمل كل الأشخاص القادرين (من سن 15 إلى سن 65 عاماً) من الجنسين، أي بحدود 100 مليون عامل، أو 50 مليون عامل و 50مليون عاملة. وفي بحث لها بعنوان "المرأة والعمل في المشرق العربي" تذكر الدكتورة مارلين نصر أن حجم مجموع قوة العمل في المشرق العربي (في ثلاثة عشر قطراً) بلغ في آواخر السبعينيات 12.2 مليون شخص، ومن ضمنهم بلغت قوة العمل النسائية 2.4 مليون شخص، أي ما يمثّل 11.3 بالمئة من مجمل قوة العمل الإقليمية، حيث تنشط 60 بالمئة منهن في الزراعة و 40 بالمئة في نشاطات غير زراعية (27). ولاعطاء فكرة حول الضعف الكبير في مساهمة المرأة في قوة العمل المشرقية العربية تُجري الباحثة المذكورة مقارنة إحصائية بين مناطق مختلفة من العالم، يتبين من خلالها مدى تدني نسبة مشاركة المرأة العربية في الإنتاج القومي بالقياس إلى الدول والتجمعات الإقليمية والقاريّة الأخرى. ففي الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية تشكّل النساء العاملات حوالي 45 بالمئة من إجمالي القوى المشتغلة، وتبلغ هذه النسبة حوالي 37 بالمئة (من القوى المشتغلة) في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية. بل إنّ حصة نساء المشرق العربي في قوة العمل هي أيضاً أدنى بضعفين من حصة نساء أمريكا اللاتينية (حوالي 25 بالمئة)، وبثلاثة أضعاف من حصة النساء العاملات في جنوب شرق آسيا وأفريقيا السوداء (حوالي 33 بالمئة)، في حين لاتتجاوز حصة النساء أكثر من 11 بالمئة من مجموع القوى العاملة في المشرق العربي(28). والمعدّل الإقليمي البالغ (11 بالمئة) طبقاً لاستنتاجات الدكتورة مارلين نصر يخفي في الوقت ذاته تفاوتاً كبيراً بين أقطار تصل النسب النسائية فيها إلى خُمْس قوّة العمل الإجمالية، كالأردن ولبنان وسورية والعراق واليمن الجنوبي، وأقطار أخرى لا تتجاوز فيها تلك النسبة 5 بالمئة كأقطار النفط في الجزيرة والخليج العربي (السعودية، عُمان، دولة الإمارات، قطر). كما تورد الباحثة المذكورة بيانات حول نسبة النساء الناشطات اقتصادياً في أقطار المشرق العربي إلى مجموع النساء القادرات على العمل في المجتمع، أي جميع النساء البالغات خمسة عشر عاماً وما فوق، فتخلص إلى النتائج التالية:‏
          1- تمثّل النساء الناشطات اقتصادياً 10 بالمئة من مجموعة النساء القادرات على العمل كمعدّل وسطي. ويشير ذلك بوضوح إلى تدني مستوى النشاط الاقتصادي للمرأة العربية.‏
          2- سعة التفاوت بين الأقطار العربية بالنسبة لعمل المرأة، إذ تبلغ أعلى نسبة (في لبنان) ثمانية أضعاف ما عليه أدنى نسبة ( في السعودية) (29).‏
          وفي البحث ذاته تؤكد الدكتورة مارلين نصر أنّ مستوى النشاط الاقتصادي بين نساء الحضر هو المؤشر الأكثر دقة والأكثر دلالة عن وضع العمل النسائي الراهن وعن اتجاهاته في المستقبل، إذ يمكن من المعطيات المتوفرة في هذا المجال تحديد أربع درجات في مستوى النشاط النسائي الحضري في المشرق العربي: درجة أولى تضم مصر ولبنان والكويت حيث تعمل امرأة حضرية من اصل خَمْس، درجة ثانية وتضم سورية والعراق حيث تعمل امرأة حضرية من أصل ثمانٍ، درجة ثالثة تضم الأردن، وعلى الأرجح الآن البحرين حيث تعمل امرأة واحدة (مواطنة) من أصل سبع عشرة، ودرجة رابعة وأخيراً تضم السعودية ومعظم إمارات الخليج حيث تعمل امرأة (مواطنة) من أصل خمسين. ويبين هذا الترتيب أن وزن المرأة العاملة ضمن نساء القطاع المديني العربي (الذي ينمو حجمه باستمرار) يتراوح بين ثقل لا يستهان به وبتأثيراته الاجتماعية في أقطار الدرجة الأولى وبين هامشية مطلقة في أقطار الدرجة الرابعة (30).‏
          غير أنّنا مع موافقتنا على حقيقة تدني اشتراك المرأة العربية في العمل الاقتصادي بصورة عامة، إلاّ أننا نودّ أن نشير في الوقت ذاته إلى أن إسهام المرأة العربية في الأنشطة الاقتصادية والخدميّة أكبر مما تذكره الإحصائيات والتعدادات الرسمية، وخصوصاً في القطاع الزراعي والخدمات المنزلية. ونحن نتفق في هذا التحفظ مع ما أوردته الباحثة الدكتورة هدى زريق من إخفاق الإحصائيات العربية الرسمية في الوصول إلى قياس دقيق لمدى عمل المرأة العربية الفعلي، ويعود ذلك إلى سببين أساسيين:‏
          1- تبرز مشكلة تعريف العمل الاقتصادي المعتمد في تعداد السكان إجمالاً، فهذا التعريف يحصر العمل بذاك الذي يدخل في "حدود الإنتاج"، أي بالنشاط الموجه لإنتاج البضائع والخدمات الممكن تقويمها تسويقياً، والذي يحقق للمشترك فيه دخلاً بالمعنى العام. وبما أن معظم نشاطات المرأة العربية هي نشاطات منزلية، ومع أنها لاشك أعمال اقتصادية ولكنها تقع خارج "حدود الإنتاج" بالمعنى المعروف، لذلك لا تدخل في تعريف التعداد للنشاط الاقتصادي. ونعطي مثلاً على ذلك المرأة المرتبطة بعمل منتظم، فهي قد ترى أنّها لا تعمل أو قد تشعر بالخجل في أن تصرح عن عملها. ويميل عامل التعداد في هذه الحال إلى اعتبار المرأة غير ناشطة اقتصادياً، خصوصاً إذا كانت متزوجة، فلا يشدّد السؤال عن العمل الاقتصادي. وحتى إذا صرحت المرأة بأنها تقوم بعمل اقتصادي ولكن كان عملها جزئياً أو غير منتظم، أو كان يختار عامل التعداد الطريق السهلة فيعدّها غير ناشطة اقتصادياً ويسجلها في تلك الفئة كمتفرغة للعمل المنزلي.‏
          2- إنّ التعداد يخفق حتى في قياس عمل المرأة الذي يقع داخل "حدود الإنتاج"، وذلك لأن المنهج المتبع في جمع المعلومات لا يأخذ بالحسبان الطبيعة الخاصة لعمل المرأة في مجتمعنا وموقف المجتمع العام تجاه العمل. فلا شك أنّ التعداد يغطي بشكل واف عمل المرأة الموظفة بأجر القطاعات المهنية المنتظمة. ولكن الحقيقة هي أن عمل معظم النساء في منطقتنا لا يصنف في جداول الأعمال الوظيفية -المهنية المنظمة، بل أنه يتخذ أشكالاً أخرى، أهمها: العمل الجزئي، الاشتراك في أعمال الأسرة الاقتصادية، الخدمة في منازل الآخرين، العمل الموسمي، إضافة إلى أن بعض هذه الأعمال يصعب تصنيفه حسب أقسام المهن المعتمدة في التعداد (31).‏
          إنّ السياسة الاقتصادية التنموية السليمة تقضي بالتوجّه نحو توسيع مجالات العمل لاحتواء الموارد البشرية وبخاصة القادرة على الإنتاج من الرجال والنساء على حد سواء. وتتطلب هذه السياسة تنظيم إشراك المرأة في الإنتاج على أساس الدوام الجزئي المنظم والمجزي مادياً. كما يتطلب الأمر اتباع سياسة اجتماعية مدروسة تهدف إلى تقديم بعض الامتيازات للمرأة العاملة والخدمات الاجتماعية الضرورية، بغية مساعدتها للقيام بعملها الأسري الصحيح مثل إجازة طويلة للأمومة، وحضانات الأطفال، وإنقاص ساعات عملها الرسمية عن ساعات الرجل، لأنها تكرّس أضعافها في العمل المنزلي.‏
          جـ البطالة بصورة عامّة وأشكالها المختلفة، حيث تُظهر الإحصائيات أن الوطن العربي يعاني عموماً من ارتفاع "معدّل الاعتمادية"، الذي توقفنا عنده في فقرة سابقة، إذْ أشرنا في حينه إلى أنه مقابل كل شخص يشارك عملياً في سوق العمل، هناك ثلاثة أشخاص لا يشاركون، أي أن حوالي 75 بالمئة من مجمل سكان الوطن العربي لا يعملون (مقابل 27 بالمئة من القوى العاملة). فإذا حذفنا من العدد الإجمالي للسكان البالغ حوالي 200 مليون نسمة بنسبة 27 بالمئة، أي 52 مليون نسمة، وهو حجم القوى العاملة في الوطن العربي، يتبقّى لدينا 73 بالمئة من إجمالي السكان في الوطن العربي غير منتجين، يُطرح منه الأطفال والمسنون غير القادرين على الاشتغال (فوق سن 65) وذوو العاهات... الخ، فنستنتج من كل ذلك أنه يوجد حالياً أكثر من 50 مليون من المواطنين العرب القادرين جسدياً وعمرياً على الإنتاج ولكنهم غير منخرطين فيه. هذا وتشكل النساء النسبة العظمى من قوة الإنتاج غير المشتغلة، حيث أن نسبة النساء القادرات على الإنتاج (ما فوق سن الخامسة عشرة) ولا يعملن تبلغ حوالي 85 بالمئة منهن. إضافة إلى فئات الطلبة المتفرعة للتحصيل العلمي (في سن الإنتاج) والتي تتراوح نسبتها ما بين 29.5 بالمئة من مجموع الفئات خارج قوة العمل (32).‏
          ومن الملاحظ أنّ القوى العاملة العربية تتركز أساساً في قطاعي الزراعة والخدمات، إذ بلغ عدد القوى العاملة في الزراعة في الوطن العربي حوالي 21 مليوناً في عام 1985، أي بحدود 41 بالمئة من إجمالي القوى العاملة (33).‏
          ويتضح من الإحصائيات المنشورة وتقديرات الخبراء أن نسبة العاملين غير المهرة تشكل 44 بالمئة من مجموع القوى العاملة في الوطن العربي، مقابل 18 بالمئة من العاملين نصف المهرة، أمّا المهنيون فلا يزيدون عن 10 بالمئة والباقي من أنصاف المهنيين والعمال المهرة (34). وتُعَدّ إنتاجية العامل العربي منخفضة جداً بالقياس إلى الدول المتقدمة، ويتعلق ذلك بالأوضاع الراهنة للمؤسسات الإنتاجية العربية وعدم توافر الشروط الصحية المناسبة، وتخلّف نظام العمل القائم، وأوقات الهدر الكبيرة ضمن زمن العمل الرسمي، وتدنّي الأجور والرواتب، مما جعل العامل أو الموظف يضطر إلى مزاولة عمل آخر إلى جانب عمله في المؤسسات الإنتاجية. ناهيك عن هدر الوقت في قطع المسافة بين مكان العمل والبيت في كثير من الأحيان وصعوبة المواصلات وهدر زمن آخر في سعي العامل لتأمين خبز أسرته وبعض حاجاتها الأخرى (35). كما أن معظم الأيدي العاملة العربية الموظفة في المؤسسات الحكومية تتركز في قطاعات غير إنتاجية بالمعنى الاقتصادي للكلمة، حيث تتجه بشكل أساسي نحو الأعمال المكتبية والبيروقراطية والخدمية في أحسن الأحوال. بل أنّ أقطار الخليج العربي النفطية عرفت البطالة المقنعة وعرفت أيضاً ما أسماه الباحث أسامة عبد الرحمن بالبطالة المُرفّهة، الناتجة عن الاعتماد الكبير على العمالة الوافدة، وما صاحب هذه الاتكالية من إفراط في عدم الشعور بالمسؤولية واللامبالاة وعدم الاكتراث بالإنتاجية (36).‏
          ولابدّ من لفت الأنظار مجدداً إلى خطورة النتائج المترتبة على نزوح القوى القادرة على الإنتاج من الأرياف إلى المدن، حيث أنّ المشكلات المترتبة على سعة معدلات تزايد المدن العربية لا تؤثّر فقط في المراكز الحضرية المستقبلة التي تضطر إلى توفير أعمال مناسبة وخدمات معقولة وبناء المزيد من المرافق، وإنما تؤثر -وهذا هو الأهم- في الجهات الريفية المهجورة التي يجب أن تُشكِّل المصدر الرئيس للغذاء. ويعد العجز الغذائي الحالي في الوطن العربي من أبرز النتائج المترتبة على اختلال الهياكل الاقتصادية والسيول المتدفقة من الأرياف إلى المدن، ومن أبرز التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية للأمة العربية، بعد الاستيطان الصهيوني العنصري في فلسطين والأراضي العربية المحتلة. فمن تقرير لجامعة الدول العربية (صدر عام 1988)، يتبيّن أن الوطن العربي من أكثر مناطق العالم اعتماداً على المصادر الخارجية للغذاء. إذْ يقدر قيمة ما استوردته الأقطار العربية من الأغذية عام 1986 بحدود 14 مليار دولار (37). ويتضح من بعض الدراسات الاقتصادية العربية اختلال التوازن بين مُعدّل نمو الإنتاج الزراعي ومعدل الطلب الفعلي على المواد الغذائية خلال الفترة ما بين 1970-1985، حيث قدر معدل الطلب على المواد الغذائية في الفترة المذكورة بحوالي 6 بالمئة سنوياً، بينما لم يزد معدل نمو الإنتاج الزراعي على 2.5 بالمئة سنوياً في الفترة نفسها. وهذا ما أدّى بدوره إلى تزايد الأعباء المالية المخصصة لتغطية الفجوة الغذائية المتعاظمة سنة بعد أخرى عبر استيراد المواد الغذائية من خارج الوطن العربي، وبالتالي ازدياد التبعية الغذائية وما تجرّه من ضغوط سياسية خارجية من طرف البلدان المنتجة والمصدِّرة للحبوب على البلدان العربية المستوردة لها (38).‏
          ويبرز الخلل واضحاً من خلال توزيع القوى العاملة العربية وتوجهها إقليمياً وقطرياً. وقد تعرّض كثير من الباحثين العرب لمسألة هجرة القوى العاملة ومدى تأثيراتها على قضايا التنمية الاجتماعية والاقتصادية سواء بالنسبة لبلدان التصدير أم بالنسبة للبلدان المستقلة. وقد عالج أغلب الدارسين هذه القضية من منظور قومي يشمل الوطن العربي كله (39)، كما أجمعوا على تزايد معدل اعتماد دول الخليج النفطية على العمالة الأجنبية. حيث تشير الإحصائيات إلى "أن العمالة العربية كانت تشكل في عام 1970 حوالي 77 بالمئة من إجمالي العمالة الوافدة إلى تلك الأقطار، ثم تقلصت إلى 67 بالمئة سنة 1975، ووصلت إلى 57 بالمئة سنة 1980" (40). وبالنسبة إلى حجم القوى العاملة المواطنة فإن نسبتها إلى إجمالي القوى العاملة كانت 41.4 بالمئة سنة 1985، بينما تراوحت نسبة العمالة غير المواطنة من91.2 في السعودية (41). وتدل معظم الدراسات الإحصائية والتنبؤية أن حاجة البلدان النفطية (المستقلة للقوى العاملة) سوف تزداد من حيث الكم لتتجاوز عشرة ملايين عامل وافد في أوائل التسعينيات مقابل 6.2 مليون وافد سنة 1975 (42)، بالإضافة إلى تزايد الطلب باتجاه المهارات المتوسط والمهارات العليا من المهن والوظائف (43).‏
          وكدليل على فوضى تنقّل القوى العربية العاملة وعشوائية استيعابها المثمر، نشير إلى عدم وجود أرقام دقيقة عن الحركة الدينامية للقوى العاملة بين أقطار الوطن العربي، وإنْ كان المختصون يميلون إلى تقدير حجم هذه التنقلات بحدود خمسة ملايين (44). وأن أقطاراً مثل مصر واليمن والأردن صدرت 20 بالمئة من قوة العمل لديها، بل أن مصر كانت (بين 1980-1985) ثالث أكبر مصدر في العالم للعمالة بعد المكسيك والباكستان (وقبل الهند) (45).‏
          وعموماً يُلاحظ تزايد البطالة في القطاع الريفي العربي، الناتجة -كما أشرنا- عن اختلال التوازن بين ارتفاع معدّل النمو السكاني الذي لا يقابله ارتفاع مماثل في المساحات المزروعة، وبهذا تزداد نسبة عرض القوى العاملة الريفية نتيجة لنقص فرص العمل في المجال الزراعي. كما أن المعدلات الهائلة لتدفق المهاجرين على المدن العربية هي أسرع وأضخم من قدرة هذه المدن على استيعابهم ودمجهم في قطاعات الاقتصاد الحديثة، ومن ثم يتحول معظمهم إلى عاطلين عن العمل بصورة سافرة أو مُقنَّعة، وهو ما يجعل من هذه الملايين كتلة بشرية متعاظمة الحجم والتأثير، يطلق عليها المختصون -"البروليتاريا الرثّة". وهي فئات رغم هامشيتها في العملية الإنتاجية، إلاّ أنها ذات وزن كبير وخطير على بنية المدن العربية، ولا سيما من حيث الاستقرار السياسي والاجتماعي وارتفاع معدّلات الجريمة والعنف، بحيث أنه قد تتحول هذه الكتلة البشرية الهائلة الجائعة في لحظة سياسية -اقتصادية مُعيّنة إلى عبوة ناسفة تفجّر المدن بأكملها (46).‏
          ومن أبرز أوجه التناقض في واقع القوى العاملة العربية اتساع تيارات الهجرة من البلدان العربية إلى أوروبا والأمريكتين واستراليا في الوقت الذي تتزايد فيه حاجة أقطار عربية أخرى لتلك الأيدي العاملة. وتشير البيانات الغربية (رغم عدم تغطيتها لبلدان المهجر كافة) إلى أنّ عدد العرب المهاجرين هجرة دائمة إلى خارج الوطن العربي يُقدّر (بتحفظ) ما بين عامي 1975-1980 بحدود 180 ألف شخص في السنة، معظمهم من مصر، والأردن وفلسطين، ولبنان، وسورية. والسمة البارزة للهجرة العربية تتمثل في الارتفاع غير العادي في نسبة المهاجرين من ذوي الكفاءات العالية، حيث أظهرت بيانات الولايات المتحدة الأمريكية الخاصة بالهجرة الوافدة إليها، أنه في سنة 1977 بلغت نسبة "المهاجرين الوافدين" من فئتي المهنيين والإداريين 42 بالمئة من العراق و 40 بالمئة من الأردن والجمهورية العربية السورية، و 48 بالمئة من لبنان، و70 بالمئة من مصر (47). ويقدِّر أحد الباحثين العرب القوى الجزائرية العاملة في أوروبا بحوالي 728 ألف عامل في عام 1980. وهذا رقم يمثّل حوالي ثُلْث القوّة العاملة النشيطة في البلاد أو سُدْس عرض العمل (48). ويقدّر الباحث نفسه عدد الباحثين الذين تركوا المملكة المغربية في الفترة ما بين 1960 و 1971، حوالي 400 ألف مغربي (49). وقد كان عدد سكان هذا القطر (المغرب) الذين في سن العمل حوالي 7 ملايين نسمة في عام 1971، في حين أن الوظائف التي أتاحها الاقتصاد الوطني، بما فيه الزراعة، 60 بالمئة لمن هم في سن العمل أو 30 بالمئة من مجموع السكان. (50).‏
          والخلاصة، أنّه طبقاً لمعدّل الزيادة السكانية في الوطن العربي البالغ حوالي 3 بالمئة سنوياً، فإنّه من المتوقّع أن يتضاعف عدد السكان في الوطن العربي كل 25 سنة، بحيث أن يتضاعف عدد السكان في الوطن العربي كل 25سنة، بحيث أنّ المشكلة الغذائية ستتفاقم مع مرور الزمن، لأنّ هذه الزيادات العالية في عدد السكان لم تقترن كما رأينا بزيادة موازية في إنتاج الغذاء، مما يعني المزيد من الاعتماد على الخارج في هذه المسألة الحيوية. وإذا كانت التقديرات تشير إلى أنّ نسبة القوى المشتغلة في الوطن العربي قد بلغت 27 بالمئة فقط من إجمالي السكان، أو 52 مليون نسمة (في عام 1985)، فإنّ ذلك يؤكد في الوقت ذاته أنَّ حجم البطالة العربية يعادل من حيث النتيجة حجم القوة المُستوعبة في قطاعات الاقتصاد المختلفة، أي حوالي 50 مليون نسمة أيضاً. وإذا أخذنا بالحسبان ما تقدّم من أرقام ومعطيات وتوقعات اجتماعية -ديمغرافية، فإنّه يتوجب على الاقتصاد العربي بقطاعاته المختلفة أنْ يستوعب الإضافات الجديدة، التي تُقَدَّر بأكثر من مليوني عامل كل سنة حتى نهاية القرن الحالي.‏
          فالتنسيق الفعلي بين الأقطار العربية يمكن أنْ يحقق مزايا كثيرة جداً أهمها في هذا المجال:‏
          1- إمكانية تنويع اقتصادات هذه البلدان، وتخفيض السلبيات والمخاطر الناتجة عن التخصص في السلع والقطاعات المتماثلة.‏
          2- تنمية الإنتاج الزراعي العربي ورفع كفاءته الاقتصادية والإنتاجية، عبر استثمارات عربية واسعة للإمكانيات المتاحة، وبخاصة في مجالات استصلاح الأراضي واتباع وسائل الري والإنتاج الحديثة من خلال توافر الأموال الضرورية لذلك.‏
          3- زيادة فرص التوظيف الكامل، وذلك بتطبيق استراتيجية عربية متكاملة في مجال تحريك القوى العاملة وتوزيعها بين الأقطار العربية في ضوء الحاجات الإنتاجية، فبعض البلدان العربية تعاني من انتشار البطالة، بينما يعاني البعض الآخر من نقص الأيدي العاملة.‏
          4- ضمان حرية انتقال الأيدي العاملة العربية، وتوفير الفرص المدروسة (قومياً) لاستخدامها، وتشغيل القوى القادرة على الإنتاج، وإعادة توزيعها بشكل عقلاني مُبرمج بعد تدريبها وتطوير خبراتها الفنية. لأنّ حِدَّة المشكلات السكانية وإفرازاتها على الأصعدة القطرية أو الإقليمية يمكن أن تتلاشى نهائياً إذا ما عولجت على المستوى القومي.‏
          إنَّ المخاطر التي يؤكد عليها معظم الباحثين والمختصين والسياسيين العرب، تتمثل هنا في النمو السريع في حجم العمالة الأجنبية المتدفقة إلى أقطار الخليج العربي، بحيث فاقت في بعضها عدد السكان المحليين، وترافقت هذه الهجرة بتفضيل الأيدي العاملة الأجنبية على الأيدي العاملة العربية. فالمخاطر السياسية التي قد تنجم عن العمالة الأجنبية الوافدة إلى أقطار الخليج قد تُعرِّض عروبة تلك المنطقة إلى حالة التخلخل والتداعي والضعف وتعقيدات ونتائج سياسية لا حصر لها. أما الاعتماد على العمالة الأجنبية اقتصادياً وإنتاجياً، فإنّه يخلق مخاطر بعيدة المدى على العمالة المحلية والعربية، وذلك من خلال التأثير السلبي في المستوى النوعي والفني والمهني للعمالة الوطنية الناجم عن حالة الاتّكال والتبعية للعمالة الأجنبية، مقابل الاستغناء المتزايد عن القوى العاملة العربية.‏
          إنّ الدراسات العديدة، التي تناولت ظاهرة العمالة العربية الوافدة إلى الأقطار العربية ذات الوفرة التمويلية، تشير بشكل جلي إلى أن قوى العمل العربية لم تحظَ بأية معاملة تفضيلية في التشغيل والأجور قياساً إلى العمالة غير العربية الوافدة من البلدان الآسيوية وغيرها، بل أنَّ الأبحاث الميدانية تشير إلى عكس ذلك، إذْ يفضل أرباب الأعمال الخليجيون استخدام العمال الآسيويين على العمال العرب. والاستثناء الوحيد المُمَيّز في هذا الميدان تنتهجه الجماهيرية اللّيبية، التي تُفضِّل الأيدي العاملة العربية على الأجنبية بسبب سياستها الوحدوية، ونظرتها الاستراتيجية -القومية إلى مفهوم المُواطَنة، من حيث أنه يشمل كل مواطن عربي.‏
          ومن ناقلة القول أنّه لايمكن تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى المتعلقة بالأمن الغذائي العربي، والاكتفاء الذاتي، وتوزيع القوى البشرية المنتجة بصورة عقلانية، والاستغلال الأمثل للثروات الطبيعية البشرية والسكّانية من منظور قُطري منفرد أو حتّى إقليمي وحسب، بل لابد من تعاون إقليمي وقومي وثيق. أي لابد من تنسيق الجهود والخطط داخل البلدان الأعضاء في كل تجمع إقليمي، وقومياً بحيث يشمل الوطن العربي بأقطاره كافة الأمر الذي يعزِّز من قدراتنا الفعلية دفاعاً عن مصالحنا الحاضرة والمستقبلية تجاه العالم الخارجي والتكتلات الدولية المختلفة.‏
          الهوامش:‏
          1- الدكتور أحمد زكي بدوي: معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية بيروت، مكتبة لبنان، 1977 ص237.‏
          2- الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرون: المجتمع والدولة في الوطن العربي، مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية 1988 ص 202 وما بعد.‏
          3- انظر الجدول رقم (1) من المؤشرات الديمغرافية الأساسية لأقطار الوطن العربي ضمن الملف الإحصائي المنشور في "المستقبل العربي"، السنة 11، العدد 11، أيار/مايو، 1988، ص195.‏
          4- نقلاً عن:‏
          bairochp.revolution industrielle et develloppe ment. 1984.p.33.145.‏
          5- انظر الملف الإحصائي لمجلة "المستقبل العربي"، العدد المشار إليه سابقاً، ص 192-200.‏
          6-المصدر نفسه، الجدول رقم (3) ص 197.‏
          7- الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرون: المجتمع والدولة في الوطن العربي، ص 205.‏
          8- د. فالنيني، أ.كفاشا: أسس الديمغرافية. موسكو، دار الفكر، 1989، ص160 (بالروسية).‏
          9- الجدول رقم (1) للمؤشرات الديمغرافية الأساسية لأقطار الوطن العربي ضمن الملف الإحصائي لمجلة "المستقبل العربي"، المصدر المشار إليه سابقاً، ص 195.‏
          10- المصدر نفسه.‏
          11- المصدر نفسه.‏
          12- فالنيني، وكفاشا، أسس الديمغرافية، ص93.‏
          13- المصدر نفسه، ص 111.‏
          14- نقلاً عن كتاب "المجتمع العربي المعاصر- بحث استطلاعي اجتماعي". الطبعة الثالث". بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1986. ص 92.‏
          16- المصدر نفسه، ص 93.‏
          17- الدكتور سعد إبراهيم وآخرون: المجتمع والدولة في الوطن العربي، ص 208، ص209.‏
          18- الجدول رقم (1) للمؤشرات الإحصائية الأساسية للتجمعات الإقليمية العربية، و "المستقبل العربي"، العدد المشار إليه سابقاً ص 179.‏
          19- لقد استقينا الأرقام و المعطيات المعلقة بتصنيف الأقطار العربية إلى مجموعات وفق هياكلها الحضرية من الدراسات المتكاملة لكل من الدكاترة: سعد الدين إبراهيم، غسان سلامة، عبد الباقي الهرماسي، خلدون النقيب، المُصَّنفة في كتاب "المجتمع والدولة في الوطن العربي" المشار إليه سابقاً، ص208-220.‏
          20- الدكتور سمير خلف: بعض المظاهر البارزة في التحضر في العالم العربي. في مجلة "الفكر العربي"، السنة السابعة، العدد 43، أيلول/سبتمبر، 1986، ص 147.‏
          21- المصدر نفسه، ص 149.‏
          22- الدكتور محمد عاطف غيث: قاموس علم الاجتماع القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979/ ص 265.‏
          23- الدكتور فوزي حليم رزق: أهمية التنسيق بين الأقطار العربية لمواجهة مشكلة الأمن الغذائي العربي. في مجلة "المستقبل العربي"، السنة الرابعة عشرة، العدد 147، أيار/ مايو، 1991، ص 84.‏
          24- انظر الملف الإحصائي للتجمعات الإقليمية العربية. في مجلة "المستقبل العربي"، السنة الثانية عشرة، العدد 123، أيار/ مايو، 1989.‏
          25- الدكتور سعد الدين إبراهيم وآخرون، المجتمع والدولة في الوطن العربي، ص 206.‏
          26- الدكتور خليل أحمد خليل: المرأة العربية وقضايا التغيير -بحث اجتماعي في تاريخ القهر النسائي. بيروت، دار الطليعة، 1982، ص74.‏
          27- الدكتور مارلين نصر: المرأة والعمل في المشرق العربي -الحجم الإجمالي والنسبي لقوة العمل النسائية. في مجلة "الوحدة" السنة الأولى، العدد 9 حزيران/يونيو، 1985، ص 30.‏
          28- المصدر نفسه.‏
          29- المصدر نفسه، ص34.‏
          30- المصدر نفسه.‏
          31-الدكتورة هدى زريق: نحو تدعيم عمل المرأة الاقتصادي في الوطن العربي. في مجلة "المستقبل العربي"، السنة الخامسة، العدد 48، شباط/فبراير، 1983، ص96-100.‏
          32- الدكتور محمد صفوح الأخرس: الشباب العربي والأطر المجتمعة -دراسة في التحديات ومواجهة المشكلات. في "الفكر العربي"، السنة الثامنة، العدد 47، آب/أغسطس، 1987، ص34.‏
          33-الدكتور فوزي حليم رزق: أهمية التنسيق بين الأقطار العربية.... المصدر نفسه، ص 84.‏
          34-الدكتور اسحق يعقوب القطب: السياسات التنموية الريفية في البلاد العربية. في "المستقبل العربي"، السنة الثانية عشرة، العدد 131، كانون الثاني/ يناير 1990، ص61.‏
          35- اسماعيل الملحم: إنتاجية العمل والشخصية المنتجة. في "الوحدة"، السنة السادسة، العدد 68، أيار/مايو، 1990، ص 87.‏
          36- أسامة عبد الرحمن: دور العمالة المواطنة في بعض أقطار الخليج العربي النفطية في "المستقبل العربي"، السنة الثانية عشرة، العدد 68، كانوا الأول/ديسمبر، 1989، ص117.‏
          37- جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، الإقليمية العربية وتحديات التنمية والأمن القومي والغذائي. في المستقبل العربي"، السنة الثانية عشرة، العدد 132، شباط/فبراير، 1990، ص101.‏
          39-لمزيد من التفصيلات حول هذه المسألة يمكن العودة إلى بحث الدكتور هنري عزام: نتائج واحتمالات انتقال الأيدي العاملة في الأقطار المستوردة والأقطار المُصدَّرة في "المستقبل العربي"، 9 السنة الثالثة، العدد 23، كانوا الثاني/يناير، 1981، ص35.‏
          40- جورج القصيفي: نحو سياسة تنمية القوى العاملة المواطنة في مجلس مجلس التعاون الخليجي. في "المستقبل العربي"، السنة الحادية عشرة، العدد 114، آب/أغسطس، 1988، ص63.‏
          41- لمزيد من التفصيلات يمكن الرجوع إلى دراسة الدكتورين اسماعيل سراج الدين ومحسن يوسف: تعظيم المنافع لتنقلات العمالة العربية. في "المستقبل العربي"، السنة السابعة، 63، أيار/ مايو 1984، ص75.‏
          43- المصدر نفسه، ص 75-76.‏
          44- نادر فرجاني: رُحّل في أرض العرب، عن الهجرة للعمل في الوطن العربي، سلسة الثقافة القومية، 13 بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،1987،ص32.‏
          45- الدكتور نبيل شعث: تحدّيات المستقبل وقضاياه في مجاله التدريب وتنمية القوى البشرية العربية. في "المستقبل العربي"، السنة الحادية عشر. العدد 116، تشرين الأول/أكتوبر، 1988، ص 67-78.‏
          46- عالجنا مشكلة هذه الفئات الاجتماعية في دراستنا، "البروليتاريا الرثّة في العالم الثالث"، التي نشرت في "دراسات عربية"، السنة التاسعة عشرة، العدد 5، آذار/مارس، 1983، ص 91-101.‏
          47-الدكتور محمد صفوح الأخرس: الشباب العربي والأطر المجتمعية، مصدر سابق، ص 34.‏
          48-محمد إبراهيم منصور: السكّان وقوّة العمالة والبطالة في المغرب العربي. في "المستقبل العربي"، السنة الثالثة عشرة، العدد 154، آذار/مارس، 1991، ص 131-133.‏
          49- المصدر نفسه، ص 138.‏
          50- المصدر نفسه، ص 139.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

            الدراسة الرابعة تأثير البُنية الاجتماعية -الاقتصادية على العملية التنموية في العالم الثالث والوطن العربي.
            تمهيد: مشكلة الدراسة ومعوقات البحث:‏
            درج معظم المختصين في القضايا الاجتماعية والاقتصادية للبلدان النامية، على الاستناد إلى نقطة محورية- ارتكازية تعزو مشكلات التأخر وتخلّف القوى الإنتاجية، وعلاقات الإنتاج في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى الاستعمار بشكليه القديم والجديد. ورغم أن هذا المنطلق يعد صحيحاً إلى حد كبير، إلا أنّه لايتضمن الإجابة التامة أو الإحاطة الشاملة الكافية بالمسائل والتعقيدات، التي تعاني منها تلك الدول. فالواقع يؤكد أن الاستعمار ليس كل شيء، إذ أن العوامل الداخلية تظل الشرط الحاسم في كل تغير اقتصادي، أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي... الخ. وعلم اجتماع التنمية التكاملي ينطلق من دراسة أية ظاهرة اجتماعية على أساس كلي -شمولي يحيط بعوامل نشأتها وبما يربطها بغيرها من الظواهر، واتجاهات تطورها المتوقعة، وبما أن الأساس العلمي الصحيح لفهم مسيرة أي مجتمع يقتضي وعي طبيعة البنية التحتية له، فإن ذلك يحتم علينا دراسة واستقصاء علاقات الإنتاج السائدة في هذا المجتمع وطابع ومستوى القوى المنتجة فيه.وهذا يعني تفحص البنية الاجتماعية -الاقتصادية، التي تشكل النواة الجوهرية لأي مجتمع في العالم. ومن هنا تنبع الأهمية المنهجية الكبيرة لتفسير آلية العلاقة المتبادلة بين الأنماط الاقتصادية المختلفة على نطاق البلدان النامية ككل، ومسألة الصراع أو التعايش بين التشكيلات الاجتماعية -الاقتصادية على الصعيد العالمي.‏
            وفي ضوء ما تقدم يمكننا القول، إن آلية التفاعل المتبادل بين عدة أنماط اقتصادية وتشكيلات اجتماعية تصبح واضحة، إذا ما تمت معرفة التأثيرات المتبادلة بين الظروف الداخلية والخارجية، التي تنتهي عادة بسيطرة نمط إنتاجي معين في نهاية المطاف.‏
            وعليه، فإننا نعلن منذ البدء عن اتفاقنا مع الباحثين الذين يؤكدون "أن دراسة الدول النامية تتطلب إقامة نظرية بديلة عن تلك النظريات الغربية التي لم تعد تستطيع الصمود أمام واقع هذه الدول. ومن الضروري أن تستند هذه النظرية إلى فهم عميق للعناصر البنائية للتنمية، أي فهم عميق لوجود عالم متقدم جنباً إلى جنب عالم متخلف" (1).‏
            ونحن في دارستنا هذه ننطلق من الفرضية التالية: إن الفهم العلمي السليم لأسباب تعثر الخطط والبرامج التنموية في بلدان العالم الثالث، يجب أن تستند إلى استقصاء مشكلات البنية الاجتماعية -الاقصادية المُهيمنة في تلك البلدان، والقائمة بدورها على الاقتصاد ذي الأنماط المتعددة.‏
            إن تعقّد هذه المشكلة ناتج أساساً عن واقعة، أنه في ظروف تعايش وتفاعل تشكيلات اجتماعية مختلفة (على الصعيد العالمي)، وتعايش وتفاعل أنماط اقتصادية مختلفة (على الصعيد المحلي -القطري) تتشابك جملة ظواهر وأنظمة وأنساق اجتماعية -اقتصادية، سياسية -ثقافية، وكنتيجة منطقية لذلك يحصل تشابك شديد في مهام التنمية المأمولة، ولهذا التشابك الواسع لا يمكن تنفيذ البرامج والخطط المقررة دون مصاعب وتعثرات وإخفاقات.‏
            وفي هذا الإطار أيضاً، فإن النظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الغربية تستطيع أن تؤدي بنا إلى استنتاجات صادقة إذا ما طبقناها على العالم الغربي، ولكنها لن تقودنا إلى استنتاجات صادقة إذا ما طبقناها -كما هي -على الدول النامية، ذلك أن الاتجاهات والنظم السائدة في الدول الأخيرة تتخذ طابعاً معيناً يصعب معه إجراء تحليلات اقتصادية واجتماعية وسياسية من النوع السائد في الدول المتقدمة (الصناعية). لذلك يتعين إعادة صياغة كثير من المفاهيم والنظريات الغربية على نحو يلائم واقع الدول النامية. وأهم هذه المفاهيم في رأينا ما يتعلق بالبنية الاجتماعية -الاقتصادية لدول العالم الثالث.‏
            وقد كتبت آلاف الدراسات والمقالات والكتب والأبحاث حول العامل الخارجي في ظاهرة تخلف دول العالم الثالث، أي عامل الاستعمار والتبعية والارتباط بالنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، الذي يضمن للدول الرأسمالية الصناعية المتطورة مضاعفة احتكاراتها عن طريق استغلال الدول النامية والإبقاء على أوضاعها الراهنة، أي أن تظل مورداً أساساً للمواد الخام، وأن تظل السوق الرئيسة المستهلكة لمنتجات الدول الصناعية... الخ، في حين إنّ قلة فقط من الدراسات الجادة غاصت في العامل الداخلي للتخلف، المرتبط بطبيعة البنى الاجتماعية -الاقتصادية لدول العالم الثالث، أي تحليل طبيعة ومستويات القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية في تلك الدول، والتي لا يمكن إجراء تغييرات اجتماعية -اقتصادية وثقافية وعلمية حقيقية دون تحليلها وفهم جوهرها وآلية عملها ودينامية تأثيراتها (2).‏
            ويتجلى تعقيد المشكلة المطروحة بألوان مختلفة، لسنا بصدد التوقف عند تفصيلاتها، مكتفين بالإشارة إلى أن أبرز خلفيات تعثر الوصول إلى تحليلات واقعية- موضوعية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلدان النامية يعود إلى هيمنة المواقف الأيديولوجية -السياسية إزاء النظريات والأفكار المطروحة، وقد ناقش كثير من الباحثين العرب هذه النقطة، مؤكدين على ظاهرة بارزة تتمثل في سعي "القوى الاجتماعية" التي بيدها السلطة السياسية إلى فرض نفوذها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على مؤسسات إنتاج المعرفة ونشرها، لأن تلك السيطرة تحقق إدماج هذه المؤسسات في مشروع النظام القائم وجعلها أدوات لا غنى عنها في كسب الشرعية من جهة، وتزويد النظام بكفاءات ضرورية لتحقيق أهدافه في مختلف المستويات، اقتصادية وسياسية وعقيدية" (3).‏
            والعامل الثاني، الذي يشكل حاجزاً رئيساً أمام الدراسات والبحوث الاجتماعية الناجحة، هو انغلاق ميادين ومؤسسات كثيرة في مجتمعاتنا أمام البحوث الميدانية والتحليلات والمتابعات العلمية. إذ إن تلك المجالات تعد مقدسة وينظر إلى البحث فيها على أنه تدنيس وخرق للحرمات "لأنه يكشف فيها مظاهر الخداع والتمويه" (4). والأمثلة على ذلك عديدة منها: قضايا الاختلال في سير النظام الاجتماعي، السلطة وآليات السيطرة التي تمارسها طبقات أو شرائح اجتماعية معينة، مؤسسات الحكم وأجهزتها المختلفة، العلاقات والسلوك الجنسي، قضايا العقيدة والممارسة الدينية، موقع الدين في المجتمع ودوره والحركات التي تستخدمه في شعاراتها واستيعابها للجماهير، الجماعات الهامشية أو المهمشة.... الخ.‏
            أما العامل الأكثر تأثيرا‌ً على الدراسات والبحوث الاجتماعية العميقة، فإنه يتجلى في موضوع تلك الدراسات، أي في البنية الاجتماعية المعقدة في دول الثالث ذاتها. فالمعروف أن البنية الاجتماعية -الاقتصادية لبلدان العالم الثالث تحمل في داخلها مزيجاً مركباً يمثل تقريباً كل العلاقات الاجتماعية والتكوينات الاقتصادية التي عرفتها البشرية على مر العصور والأزمنة. وبكلمات أخرى، يعد التركيب الاجتماعي والاقتصادي لتلك البلدان من جهة، والحراك الاجتماعي المتسارع من جهة ثانية عاملاً مؤثراً إلى أبعد الحدود بالنسبة للدارسين الاجتماعيين، ويرتب عليهم مزيداً من المسؤوليات والحذر والدقة في إطلاق التعميمات والاستنتاجات.‏
            ونظراً للأهمية الشديدة للعامل الأخير، فإننا نود التوسع في دراسته، خاصة وأنه يشكل المنطلق المنهجي والمحور الذي نرتكز عليه في بحثنا هذا.آملين أن نكرس دراسات أخرى لبقية العوامل المؤثرة في منجزات ونتائج البحوث الاجتماعية الخاصة بالبلدان النامية.‏
            أولاً: مفهوم البنية الاجتماعية:‏
            البنية أو البناء بشكل عام STRUCTURE هي علاقة كامنة ومستقرة نسبياً بين العناصر، أو الأجزاء، أو النماذج التي ينطوي عليها كل "منظم وموحد" (5). ويعرف الدكتور أحمد زكي بدوي واضع "معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية" البناء بأنه "الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة، بحيث تكون كل ظاهرة تابعة للظواهر الأخرى، ومتعلقة بها، وبعابرة أخرى هو تنظيم دائم نسبياً تسير أجزاؤه في طرق مرسومة ويتحدد نمطه بنوع من النشاط الذي يتخذه" (6).‏
            ويؤكد الدكتور جميل صليبا المفهوم ذاته، حيث يقول: أن للبنية معنى خاصاً وهو إطلاقها على الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة، بحيث تكون كل ظاهرة منها تابعة للظواهر الأخرى، ومتعلقة بها (7).‏
            ويُستنتج من التعريفات السابقة ارتباط مفهوم البناء أو البنية (أو البنيان) بمسألة الثبات النسبي برغم التغير المستمر والحراك الظاهر لأجزائه، ولا يتغير ذلك البناء عموماً إلا عندما تطرأ على الكل طفرة كيفية (نوعية، جذرية). ومن جهة أخرى فإن عناصر الكل تعتمد بشكل أساسي على بنائه، ويكون لها دور متميز كيفياً عليها أن تقوم به بالاستناد إلى نمط ونسق ترابطها وتنظيمها، ولهذا فإن المعرفة الكاملة بالكل تعني معرفة بنائه العضوي باعتباره إدراك تعقيد العلاقات بكاملها بين أجزاء الكل. فمفهوم "البنية" يظهر في المقام الأول؛ جانب الثابت والاستقرار، الذي بفضله يحافظ الموضوع على كيفيته أثناء تغير عناصر غير جوهرية في معطيات الظروف الداخلية أو الخارجية. فالمنظومة العامة تبقى ما بقيت البنية، وتهلك، أو تزول كلياً، أو تتبدل جوهرياً، حين تنحل البنية أو تتغير نوعيتها الأساسية المميزة.‏
            هذا من ناحية مفهوم "البنية" أو "البناء" بصورة عامة، أما "البنية الاجتماعية" SOCIAL STRUCTURE أو "البناء الاجتماعي" فهو اصطلاح ينطوي على مقاربات ومعان مختلفة وافتراضات متنوعة، فقد استخدم سبنسر وغيره من علماء الاجتماع المعاصرين هذا المصطلح للإشارة إلى نوع من الترتيب بين مجموعة نظم يعتمد بعضها على بعض، وتعدّ وحدات البناء الاجتماعي هي ذاتها بناءات فرعية، والافتراض الأساسي هنا هو أن التكامل أو بقاء الكل يتوقف على العلاقات بين الأجزاء وأدائها لوظائفها.‏
            وعلى العكس من هذا التصور العام للبناء الاجتماعي، هناك التصور الذي قدمه علماء الاجتماع التحليليون (أو علم الاجتماع الصوري) مثل فون ويزه VON WIESE، وبيكر، H.BECKER، وهيلر E.T. HILLER، ومؤداه أن البناء الاجتماعي هو: (أ) ترتيب للأوضاع أو المراكز أو (ب) شبكة من العلاقات بين الأشخاص والقوى الفاعلة، وهكذا يتكون بناء المجتمع أو تنظيمه من مراكز مثل المهن والطبقات والتوزيع العمري والجنسي. ويقترب تصور فيرث FIRTH من ذلك، حيث يرى أن "البناء الاجتماعي الذي يدرسه علماء الأنثروبولوجيا يتضمن علاقات أساسية تنشأ عن النسق الطبقي وعضوية الجماعات الدائمة، مثل القبائل والعشائر والطوائف، ومراحل العمر والسن أو الجماعات السرية. الخ، وثمة علاقات أخرى ترجع إلى الأوضاع التي يشغلها الناس في النسق القرابي" (8).‏
            وجدير بالذكر أن المماثلة العضوية التي قدمها هربرت سبنسر بين المجتمع والكائن العضوي قد أسهمت في نشر وترويج مصطلح البناء الاجتماعي، أما التساؤلات الخاصة بالبناء فتشمل: (أ) كيف نشأ البناء الاجتماعي وحقق تكامله؟ (ب) ما هي مكونات البناء ووحداته الأساسية؟ (جـ) كيف يحدث التكامل بين هذه الوحدات؟ ومن المعروف أن مفهوم البناء الاجتماعي في الاستخدامات السوسيولوجية يطبّق على الجماعات الصغيرة والمجتمعات الكلية بآن معاً.‏
            ويحتل مصطلح "البناء الاجتماعي"، أهمية مركزية في المدخل الوظيفي -البنائي في الأنثربولوجيا الاجتماعية البريطانية، وغالباً ما يستخدم في الأنثربولوجيا عامة كمرادف "للتنظيم الاجتماعي"، كما يستخدم بصفة خاصة في تحليل نظم القرابة والنظم السياسية والقانونية في المجتمعات الأصلية (غير الصناعية). إلا أن ريموند فيرث FIRTH يميز بين البناء الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي على أساس أنّ التنظيم الاجتماعي يشير إلى الاختيارات والقرارات المتضمنة في العلاقات الاجتماعية الواقعية، بينما يشير البناء الاجتماعي إلى العلاقات الاجتماعية الجوهرية التي تعطي المجتمع صورته الأساسية، المحددة لمجريات الفعل الاجتماعي. أما فورتس FORTES فيرى أن المصطلح ينطبق على كل الترتيبات المنظمة للكليات المتميزة، كالنظم والجماعات والمواقف والعمليات والأوضاع الاجتماعية (9).‏
            وبعبارة أخرى، فإن البناء الاجتماعي هو النمط الناظم لجماعة ما، ويتضمن مجموع العلاقات الموجودة بين أعضاء الجماعة، وبعضهم مع بعض، وبينهم وبين الجماعة نفسها. أو هو إطار المجتمع كعلاقة منظمة بين الوحدات الاجتماعية المختلفة: التجمعات القائمة على القرابة، والجنس والسن، والمصلحة المشتركة، والمكانة والمنزلة، والمهنة الواحدة، والعلاقات الإنتاجية المشتركة، والانتماءات السياسية والقومية والعرقية وغير ذلك من العلاقات للبناء الاجتماعي.‏
            ثانياً- البنية الاقتصادية والبنية التحتية (القاعدة الاقتصادية):‏
            تشكل العلاقات الإنتاجية، التي يكوّنها الناس فيما بينهم خلال عملية الإنتاج القاعدة المادية (أو الأساس المادي)، التي ينتصب فوقها البنيان (البناء) الفوقي، المكون من العلاقات الأيديولوجية والآراء والمؤسسات التي تؤثر بدورها على القاعدة الاقتصادية، وإذا كانت علاقات الإنتاج تشكل جوهر البنية الاقتصادية لمجتمع ما، فإن البنية الاقتصادية لا تنفصل بالطبع عن نمط الإنتاج رغم عدم التطابق بينهما.‏
            ومن جهة أخرى، فإن البنية الاقتصادية لا تتكون من مجموع علاقات الإنتاج فقط، بل تتكون أيضاً من تكويناتها الخاصة التي هي نتيجة لعلاقات الإنتاج الأساسية، وفي التشكيلات الاجتماعية المعروفة، فإن علاقات الإنتاج الأساسية المعلقة بملكية وسائل الإنتاج تحدد بدورها طبيعة وسمات الطبقة (أو الطبقات) المسيطرة.‏
            ومفهوم البنية الاقتصادية هو حقيقة واقعية، ولكنها ليست ثابتة أو جامدة، بل تتطور بتطور القوى المنتجة في المجتمع.‏
            وعندما يجري التركيز على مصطلح "القاعدة الاقتصادية" فالمقصود بذلك البناء الاقتصادي (أو البنيان الاقتصادي) منظوراً له في علاقته بالبنية الفوقية.‏
            وهكذا يعود مفهوم القاعدة إلى مفهوم الأساس. وتبدو التشكيلة الاقتصادية -في ضوء ذلك- كبناء من مستويات عدة (مختلفة). وإن لكل بنية اجتماعية -اقتصادية قاعدتها الخاصة والتي تحدد سماتها الأساسية، وهذا ما نود التركيز عليه في هذه الدراسة.‏
            ونحن نعتقد أن التعمق في تحليل هذه المقولات السوسيولوجية- الاقتصادية، من شأنه أن يقدم المفاتيح العامة لفهم التطور الاجتماعي -الاقتصادي والتاريخي لبلدان العالم الثالث، وربما لصياغة وبلورة نظام من القوانين والتفسيرات العلمية لصيرورات التطور في تلك البلدان.‏
            ولكن من ناحية أخرى، فإن البنية الاجتماعية المعقدة لتلك المجتمعات تزيد من صعوبة دراسة جوهرها وتعيين طابع التحولات القائمة والعناصر الفاعلة بشكل علمي ودقيق، بعيداً عن المواقف السياسية، والأيديولوجية المسبقة. فالملاحظ بالنسبة لمعظم الدراسات المكرسة لتحليل وتوصيف البنى الاجتماعية والاقتصادية لبلدان العالم الثالث، غياب تصنيف موحد عام متفق عليه للأنماط الاجتماعية -الاقتصادية القائمة هنا. وعلى سبيل المثال، فإن العالم البولوني المعروف ي.كليير، يميز بين نمطين للاقتصاد السلعي الصغير (في المدينة والريف) ونمطين رأسماليين (أجنبي ومحلي). في حين أن الاقتصادي الروسي س. تولبانوف في دراسته للاقتصاد السياسي للبلدان النامية يؤكد على وجود نمط إنتاجي واحد للاقتصاد السلعي الصغير، ونمطين رأسماليين، أحدهما محلي والآخر أجنبي.‏
            ودون الخوض في المسائل النظرية الخلافية حول عدد الأنماط الاقتصادية وتسمياتها وتفرعاتها، نشير في هذا الإطار إلى أن التركيب الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلدان هو حاصل جمعي لأنماط اقتصادية مختلفة، مع عدم تمتع أي من هذه الأنماط القائمة بالسيطرة على الأسلوب الإنتاجي في المجتمع النامي. وكل نمط اقتصادي يحتوي على شكل محدد لملكية وسائل الإنتاج: ملكية مشاعية عامة، ملكية إقطاعية، ملكية خاصة صغيرة، ملكية رأسمالية (أجنبية أو محلية)، ملكية الدولة... الخ(10).‏
            وانطلاقاً من أشكال الملكية والأساليب الإنتاجية الاستثمارية، يمكن تصنيف الأنماط الاجتماعية -الاقتصادية التالية في بلدان العالم الثالث:‏
            1-الاقتصاد العيني وأنواعه: مشاعي أو قبلي، إقطاعي، شبه إقطاعي.. الخ.‏
            2- النمط السلعي الصغير: في المدينة أو الريف.‏
            3- النمط الرأسمالي المحلي: أي الاقتصاد الرأسمالي لأصحاب المشروعات المحليين: توجد في هذا النمط قطاعات مختلفة كالرأسمالية الوطنية الصغيرة، والرأسمالية الخاصة المتطورة القريبة من الطراز الغربي المتعارف عليه.‏
            4- نمط الرأسمال الأجنبي: أي الاقتصاد والمنشآت التابعة للرأسمالية العالمية وللاحتكارات الدولية ولا سيما للشركات متعددة الجنسيات.‏
            5- نمط رأسمالية الدولة، السائرة في طريق الاقتصاد الليبرالي والتطور الرأسمالي.‏
            6- نمط رأسمالية الدولة، التي تعتمد على احتكار التجارة الخارجية والمواد الأساسية في التجارة الداخلية، أو ما يطلق عليه نمط "الاتجاه الاشتراكي".‏
            7- بالإضافة للأنماط المذكورة، توجد في العالم الثالث أشكال انتقالية (هامشية) تمثل خليطاً أو حالة هلامية غير متبلورة من ناحية نمط الإنتاج وأساليب الاستثمار وشكل الملكية (11).‏
            ولدى تحليل البنية الاقتصادية لمجتمعات العالم الثالث، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة قطاعات أساسية: تقليدي وأجنبي متطور ومحلي تابع وضعيف نسبياً. وقد ظهر تقسيم اقتصاد هذه البلدان إلى تقليدي وأجنبي في عصر الاستعمار (الكولونيالية)، وعكس ذلك التقسيم دور البلدان النامية كمورد للخامات وسوق تتبع اقتصادات البلدان المستعمرة (المتروبولات).‏
            وتشكل ملكية الاحتكارات الأجنبية عصب القطاع الأجنبي، المعتمد أساساً على تصدير الخامات الأولية، كما يتميز هذا القطاع بتطور العلاقات البضاعية -النقدية، وأما عملية الإنتاج الجارية في هذا القطاع، فإنها تتم بصورة رئيسة على أساس العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وقد حصلت القوى المنتجة الموظفة في هذا القطاع على تطوير سريع وتحديث لا بأس به، نظراً لأهمية ذلك بالنسبة للاحتكارات العالمية.‏
            وأما القطاع التقليدي فهو قائم على أسلوب الاقتصاد العيني، حيث تسيطر فيه العلاقات ما قبل الرأسمالية، ويمتلك هذا القطاع أكثر أشكال القوى الإنتاجية بدائية وتخلفاً، ومن هنا يتفق أغلبية الخبراء والمختصين بشؤون اقتصادات البلدان النامية على معاناة هذا القطاع بالذات من النتائج التي ترتبت على ما سمي بالتحديث الاقتصادي والمالي والبنيوي في تلك البلدان، وفي هذا السياق يؤكد الباحث الاقتصادي البريطاني المعروف هـ. مينيت: أن أخطر النتائج التي ترتبت على الطراز الحديث عن السياسات النقدية والمالية توجد في تفاقم الازدواجية الاقتصادية بين القطاع الصناعي الحديث والقطاع التقليدي الكثير، من نقص رؤوس الأموال وارتفاع معدلات الفائدة، وذلك بسبب المخاطر الكبيرة وتكاليف إقراض النقود، وبالمفرق، لطبقات صغار المقترضين. ولكن هذا العائق قد تفاقم الآن بسبب سياسات الحكومة (في دول العالم الثالث/ خ.ج) لتعزيز التصنيع المحلي. لقد كان لهذه السياسات تأثيرها لتأمين رأس المال النادر، وموارد القطع الأجنبي، والخدمات الاقتصادية العامة، بشروط مواتية جداً للوحدات الاقتصادية الأكبر حجماً في القطاع الحديث وبشروط سيئة للوحدات الاقتصادية الصغيرة في القطاع التقليدي (12).‏
            والحقيقة الواضحة للجميع أن الطابع العام للبلدان النامية (باستثناء أقطار الجزيرة والخليج العربي) يتجلى في غلبة الطابع الزراعي على سكان تلك البلدان، المتسم بالتخلف والبدائية، وضعف المستوى التكنولوجي للعمليات الزراعية، واعتمادها على الجهد العضلي للإنسان وعلى الظروف الطبيعية المتقلبة، وهذه سمة بارزة وعامة ومنتشرة تميز تلك البلدان عن البلدان الرأسمالية التي قطعت شوطاً كبيراً على طريق التقدم. ويشرح مؤلفو كتاب "التركيب الطبقي في البلدان النامية" أساليب هذه الظاهرة العامة فيقولون: "إن أساليب احتلال الزراعة لهذا المركز الكبير في توزيع العاملين من السكان في البلدان الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية، تكمن بالدرجة الأولى طبعاً في التخلف الاقتصادي لهذه البلدان وفي المستوى المنخفض لإنتاجية العمل فيها"(13).‏
            وما دمنا نتحدث عن القطاع التقليدي، فإننا يجب أن نشير إلى حقيقة أنه لدى الغالبية العظمى من البلدان النامية قطاعاً ضخماً من العاملين في الصناعات الصغيرة والحرف التقليدية. وما زال الإنتاج الصغير يلعب حتى الآن دوراً كبيراً في اقتصاد تلك البلدان، وسوف يستمر في ذلك زمناً طويلاً في المستقبل. فهو يلبي حاجة السكان لعدد كبير من السلع التي لا تنتجها المصانع الكبيرة أو لا تنتجها بكميات كافية، كما أنه يؤمن العمل لملايين الناس. والملاحظ أن نمو الصناعات الكبيرة الحديثة واتساع المدن من شأنه أن يؤدي إلى تحطيم الإنتاج اليدوي والحرفي الذي لم يعد بإمكانه أن يشبع احتياجات هذه الأعداد الضخمة المتركزة في المدينة بالسرعة المطلوبة، عدا عن تخلف إمكانياته الاقتصادية في نقل احتياجاته أو منتجاته مسافة بعيدة.‏
            ولو نظرنا الآن إلى نسبة ذلك القطاع إلى بقية قطاعات النشاط الاقتصادي في البلدان النامية لوجدنا أن الحرفيين وصغار الكسبة (التجار الصغار) يشكلون الفئة الأكبر عدداً في مدن البلدان المذكورة. ففي القارة الأفريقية يتألف نصف سكان المدن أو أكثرهم من أصحاب الحرف اليدوية، وأصحاب الحوانيت الصغار والباعة المتجولين وغيرهم من هذه الفئات، وقد تنخفض هذه النسبة إلى حد ما في بلاد أمريكا اللاتينية وآسيا الأكثر تطوراً، ولكنها تبقى كبيرة رغم ذلك(14).‏
            ويرجع ارتفاع نسبة صغار الحرفيين والتجار في تركيب سكان مدن البلدان النامية إلى أنه يغلب على اقتصاد هذه البلدان (في المدن) نمط الإنتاج السلعي الصغير والأشكال الدنيا من الإنتاج الرأسمالي مع ما يلازمها من علاقات سوق قديمة وتقليدية. والمؤكد أن النمو السريع في الصناعات الحديثة الممكنة سيؤدي إلى تدمير قطاع الصناعات الصغيرة والحرف اليدوية والتقليدية وإفقاره وإغلاق السوق في وجهه. وقد تجد حكومات البلدان النامية نفسها عاجزة عن اتخاذ إجراءات اقتصادية عملية فعالة لإيقاف هذا الدمار الذي يحلق بهذا القطاع الضخم. وعشية حصول بلدان العالم الثالث على استقلالها السياسي كانت العلاقات الاقتصادية بين هذه القطاعات معدومة تقريباً، فالقطاع الأجنبي ظل شديد الارتباط العضوي باقتصاد البلدان المستعمرة (المتروبولات)، وارتبط فيما بعد بصورة رئيسة بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، لذا بقي جسماً غريباً في اقتصاد البلدان النامية، وأما القطاع التقليدي، فقد كان يسيطر على معظم نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، التي بقيت دون تغيرات جوهرية لعدة قرون.‏
            إن وجود الاقتصاد متعدد الأنماط يعتبر المؤشر الرئيس للمرحلة الانتقالية، التي تمر بها دول العالم الثالث منذ فترة تاريخية طويلة، حيث أن الاقتصاد متعدد الأنماط المسيطر في تلك الدول ظهر نتيجة لتزاوج عوامل خارجية وداخلية كثيرة، وضعت في حقيقة الأمر البذور الأولية لإمكانية انتهاج طرق مختلفة في عملية التطور الأحق. وإن تطور هذه الأنماط وفناء قسم منها... الخ، لا يجري بصورة فوضوية -عشوائية ودونما ضوابط موضوعية (داخلية وخارجية). لأن النمط هو وجود تاريخي محدد لأسلوب إنتاجي ما. وهذا يعني بوضوح تام أن نمطاً اقتصادياً معيناً لا يستطيع الظهور أو الاختفاء حيثما وكيفما اتفق.‏
            إن ولادة أنماط اقتصادية جديدة تعني ظهور المراحل التاريخية الأولى لأساليب إنتاجية جديدة، و هي تجري وفق قوانين داخلية أو عناصر ذات منطق معيّن، تتحكم في أسباب تطورها اللاحق أو في عوامل تراجعها ومن ثم فنائها، مع ملاحظة وجود أنماط متضادة وأخرى متكاتفة، أنماط تجاوزها العصر، وأخرى تعد بذوراً جنينية للتطور والنمو في أحشاء المجتمع المتخلف، لكونها تمثل النزوع لسيطرة تشكيلة اقتصادية -اجتماعية أكثر تقدماً ودينامية وعصرية.‏
            وطبقاً لرأي مجموعة من الباحثين السوسيولوجيين والاقتصاديين المتخصصين بشؤون العالم الثالث، وفي مقدمتهم العالم الروسي ألكسي ليفكوفسكي، فإن الأنماط ليست مجرد أجزاء وشرائح مقطوعة من أساليب إنتاجية متعارضة ضمن نظام اقتصادي معين، وإنما هي تجسيد لمقاطع عريضة من علاقات إنتاجية، تتصارع فيما بينها من جهة، وتتجه نحو الانسجام والتلاحم العضوي مع بعضها من جهة أخرى... بحيث تشكل نوعاً من التعددية الاقتصادية الثابتة (15). بل إن السمة الجوهرية للبنية الاجتماعية لدول العالم الثالث، أنّها متعددة الأنماط (16).‏
            والواقع أن ثبات تعددية الأنماط يعطي تصوراً أقرب للحقيقة في ما يخص أوضاع البنية الاجتماعية -الاقتصادية للمجتمعات النامية، حيث لم يتمكن أي من الأنماط القائمة من السيطرة الحاسمة على الأنماط الأخرى فتصبح خاضعة له تماماً. طالما بقيت هذه الحالة الانتقالية- التعايشية هي المسيطرة، تبقى البنية الاجتماعية- الاقتصادية انتقالية أيضاً، وبالتالي يظل الطابع الأساسي للاقتصاد طابعاً انتقالياً.‏
            أما الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى فهو مرتبط بوجود وتصادم عدة أنماط (بين نمطين على أقل تقدير) وكذلك بين ممثلي مجموعة من الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية، التي تدعم كل منها هذا النمط أو ذاك، وترتبط مصالحها المادية والاجتماعية والسياسية بهذا الأسلوب الإنتاجي أو ذاك.‏
            وقد لاحظ المنظِّر الفرنسي شارل بتلهايم CHARLES BETTELHEIM وجود نمط شبه عام من الانتقال في الوقت الحاضر، يتمثل بالانتقال من اقتصاد كولونيالي مباشر إلى المرحلة ما بعد الكولونيالية. وفي هذا الانتقال لا تزول أشكال الاستغلال القديمة ولا تلغى السيطرة السابقة بل تتعدل فقط، وبالنسبة إلى النمط ما بعد الكولونيالي فيمكن أن يتجلى عبر اتجاهين:‏
            أولهما: هو تغير أشكال السيطرة دون تغير جوهرها أو طبيعتها الأساسية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك، الاقتصاد الهندي حيث تستخدم البرجوازية الهندية رأسمالية الدولة لإحكام سيطرتها الطبقية، دون الخروج فعلاً من قبضة الرأسمال الأجنبي بحكم القيود التي يفرضها النظام نفسه على تطوير الاقتصاد الهندي.‏
            ثانيهما: تلك الوضعية، المتمثلة بنوع شبه عام من التوازن بين القوى الاجتماعية والطبقية السياسية المتصارعة. وهو توازن قد يصل إلى حد ظهور تحالفات طبقية- اجتماعية -سياسية، علنية أو خفية، مباشرة أو غير مباشرة تفرز بدورها عناصر محددة في عملية تطور البنية الاجتماعية -الاقتصادية للبلاد. ويطلق الأستاذ بتلهايم على هذه الحالة شبه العامة في دول العالم الثالث اصطلاح "الوضع الانتقالي" وأهم سماته على الصعيد الاقتصادي -انعدام النمو الاقتصادي بالمعنى الجوهري لمصطلح النمو.‏
            ويستنتج بلتهايم من كل ما سبق أن "الوضع الانتقالي" يشهد عموماً فترة التوطيد الاجتماعي لنمط إنتاجي معين على حساب الأنماط الأخرى. إلا أن الفترة الأولى من ذلك التوطيد تتسم بخاصية عدم الانتصار للنمط الجديد، ولكنها تعقب زعزعة سيطرته بعد التحرر من النظام الكولونيالي (17).‏
            ومن ناحية أخرى، يرى الباحث الدكتور عبد العزيز عبد اللطيف الزيدان أن "الطابع المختلط (MIXED) للأنظمة وللبنية الحقيقية هو ليس سمة داخلية لمختلف الاقتصادات الوطنية فقط، بل هو وإلى درجة أكبر طابع يسم الاقتصاد العالمي. حيث أن تطور قوى الإنتاج في كل بلد مشروط بعلاقات الإنتاج العالمية ويمكن ملاحظة تلك الحقيقة على وجه الخصوص في الأقطار الخاضعة للإمبريالية كما يمكن ملاحظتها أيضاً في الأقطار السائدة" (18).‏
            أما الباحث الروسي م. براغينسكي، فإنه انطلاقاً من تجربة بلدان أفريقيا الاستوائية، يعتقد أنه لايمكن الحديث عن نمط اقتصادي مسيطر، ولكن من الأفضل التحدث عن الاتجاهات التطورية الغالبة في هذا المجتمع أو ذاك، تبعاً للأوساط الحاكمة (19).‏
            والحقيقة أنّ مسالة "من سيريح المعركة" ذات علاقة جدلية بنتائج الصراع بين تلك الأنماط، وطبعاً بين الفئات والشرائح الاجتماعية والتراكيب السياسية التي تمثلها. وفي مجتمع يسود فيه الاقتصاد متعدد الأنماط، يلاحظ أن بنيته (الاجتماعية -الاقتصادية) تحمل في أحشائها عدة "ممكنات" و "احتمالات" مختلفة للتطور المستقبلي. وأما "كيف" سيصبح أحد هذه الاتجاهات المحتملة هو المنتصر ويتحول من حالة "الإمكان" إلى وضعية "التحقق" الفعلي -التاريخي، فذلك يبقى مرهوناً بجملة عوامل داخلية وخارجية لها دورها الفعال والحاسم في تطور المجتمع المعني.‏
            لذا فإن مقولة "تعددية الأنماط" تتصف بمضمون موضوعي من حيث الاستقلال عن حسابات الناس ومواقفهم الأيديولوجية، إذ تعكس واقعاً تاريخياً محدداً، لكنه قابل للمعرفة والإدراك وللتطور والتغيير أيضاً. وفي الوقت نفسه يجب الاعتراف أن ما يعيق الاقتراب من تحليل جوهر هذه الظاهرة الاجتماعية - الاقتصادية المعقدة (ظاهرة تعدد الأنماط) تحليلاً موضوعياً ناجحاً، هو التدخل العظيم والتشابك الواسع بين أنماط مختلفة تخضع لقوانين داخلية- بنيوية متباينة إلى حد كبير من حيث فاعليتها وأشكال تجسدها وانتشارها.‏
            وإننا لنعتقد أن المنهج الصحيح في دراسة هذه الظاهرة الصعبة، يجب أن ينطلق من النقطتين التاليتين:‏
            1- الفرز (النظري التجريدي) لكل نمط على حدة، ومعرفة العلاقات التي ترتبط بأقرب أسلوب للإنتاج.‏
            2- محاولة استجلاء القوانين الموضوعية الخاصة بكل نمط، ومن ثم معرفة العلاقات التفاعلية بين تلك القوانين، والنتائج التي يمكن حدوثها احتمالياً في ضوء ذلك.‏
            ومن أجل التفريق بين مقولة "النمط الاجتماعي- الاقتصادي" والمقولات التي تقترب منها أو تتقاطع معها، مثل "أسلوب الإنتاج" و "التشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية"، لابد من التأكيد أن النمط الاقتصادي هو عبارة عن تجسيد محدد لبعض صفات أسلوب إنتاجي معين، وبمعنى آخر، إنّه إذا كان أسلوب الإنتاج يعد ظاهرة اجتماعية- اقتصادية في حالة "نضوج"، فإن النمط هو أشبه بمرحلة "الطفولة" أو قد يكون مرحلة "الشيخوخة" بالنسبة لأسلوب إنتاجي بدأ بالهيمنة المطلقة في علاقات الإنتاج كاسحاً من طريقه "بقايا" و "رواسب" أنماط إنتاجية شائخة آيلة إلى الزوال والفناء. وعندما يشتد أسلوب الإنتاج الجديد بصورة تامة، وحين ينتصر بشكل حاسم على بقايا الأنماط الاجتماعية -الاقتصادية المتداعية والمنهزمة، وعندما تتمكن الطبقة (أو الطبقات) والفئات والشرائح التي تمثله من استلام زمام السلطة السياسية ومراكز القرار الأساسية، عندئذ فقط تبرز للعيان تشكيلة اجتماعية- اقتصادية تنطبق عليها قوانين موضوعية معروفة.‏
            فالنمط الاقتصادي، الذي يتحول بالتدريج إلى السيطرة، يخرج بصورة متزايدة من دائرة تأثير نتائج علاقاته التاريخية السابقة بالشكيلات الأكثر تخلفاً (ولاسيما على صعيد الاقتصاد العالمي). وإن تعاظم ونمو ونضوج هذا النمط سيثير بالتأكيد مقاومة التشكيلات والأنماط التي يجري الانتصار عليها وتجاوزها، وكلما تعاظمت ضرورة تقوية دور هذا النمط دون غيره، اشتدت مقاومة ممثليه الطبقيين، والاجتماعيين والسياسيين في البنية الفوقية بصورة أشد وأقوى.‏
            إن النمط الاقتصادي الذي يتغلب على الأنماط الأخرى، ويبرز فوق أنقاضها يتعرض بدوره لنوع من التغير في محاولة للتكيف من خلال صراعه مع الأنماط الأخرى، وسيأخذ شكله النهائي بنتيجة انتصاره الحاسم والنهائي على بقية الأنماط، وقد يكون ذلك بالاستفادة من أسلوب الإنتاج المهيمن على العلاقات الإنتاجية- الاقتصادية العالمية.‏
            وعلى أساس البنية التحتية المتكونة مجدداً لابد أن تنهض بنية فوقية ملائمة لها، أو قد تدخلان كما يحصل في معظم الدول النامية في وضعية التأثير المتبادل والتفاعل العضوي من أجل توكيد سيطرة تشكيلة اجتماعية- اقتصادية متكاملة العناصر على كل مرافق الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأيديولوجية، وتبعاً لترسيخ الركائز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية "السلطوية، المؤسساتية) للنمط الاقتصادي الجديد، تبدأ البنية الفوقية باكتساب أهمية عملية متزايدة وتمارس تأثيراً أعمق في حياة المجتمع الداخلة وفي علاقاته الخارجية أيضاً.‏
            وفي الصراع ما بين الأنماط (الاقتصادية- الاجتماعية) المختلفة، وتحت التأثير المباشر للنمط الاقتصادي الجديد المسيطر يتشكل نموذج معين لأسلوب إنتاجي تتبلور ملامحه شيئاً فشيئاً، هو حصيلة جمع حيوي تفاعلي يصهر القوى الإنتاجية الناهضة مع علاقات الإنتاج الجديدة ليتحدا في كل واحد منسجم ومتناغم. وسيكون الانتصار النهائي كما تبين حركة المجتمعات التاريخية إلى جانب العلاقات الاقتصادية- الاجتماعية الأكثر دينامية وإنتاجية وتحفيزاً للمبادرة والإسراع في الانسجام مع الواقع وروح العصر وحركة التاريخ.‏
            ومما يتقدم يمكن التمييز بين مقولتين "النمط الاقتصادي" و "التشكيلة الاجتماعية -الاقتصادية". فنمط الانتاج هو نمط الحصول على وسائل العيش، والمنافع المادية الضرورية، لإشباع الحاجات الاجتماعية، ويأخذ كما أسلفنا القول- شكلاً مركباً، من القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج، التي تعطي المجتمع حالة محددة، في كل مرحلة من مراحل تطوره. ونمط الإنتاج يدل عموماً على الطريقة التي تنتج بها سلعة ما، لإشباع حاجة اجتماعية معينة. ويشير بذلك إلى العلاقات الموضوعية الناشئة بين الأفراد في أثناء الإنتاج الاجتماعي لتلبية احتياجاتهم المادية، ولهذا يعد نمط الإنتاج ظاهرة اجتماعية من حيث انعكاساته المجتمعية، ويتضمن في الوقت نفسه القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج. حيث إنه دون توفر القوى الإنتاجية يستحيل الإنتاج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وبالمقابل فإن خاصية علاقات الإنتاج هي التي تحدد طريقة الإنتاج، لذا يمكن اختزال نمط الإنتاج إلى وجهه التقني فقط كما يفعل بعض منظري الثورة الصناعية والأتمتة، الذين يعملون على تشويه هذا المفهوم أو إسقاطه نهائياً.‏
            أما التشكيلة الاقتصادية -الاجتماعية، فهي مقولة تدل على مرحلة معينة من تطور المجتمع، وتظهر التشكيلة على أرضية أسلوب إنتاجي معين، وهي تتحدد بالمستوى الذي بلغته القوى المنتجة في السيطرة على الطبيعة، التي تشكل بدورها العنصر المحرك وراء نمط العلاقات الإنتاجية في المجتمع. وتتسم التشكيلة ببنية طبقية- اجتماعية معينة وبخصوصيات في الصراع الطبقي، ويتفق المؤرخون على أنه تعاقبت في تاريخ المجتمع البشري حتى الآن التشكيلات التالية، أو عرفت جنباً إلى جنب: المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاع، الرأسمالية، وعليه فإن التشكيلة هي عضوية اجتماعية- اقتصادية متكاملة، لها قوانينها في الولادة والترعرع والازدهار والانهيار. وتكتسب تلك القوانين عمومية (شاملة للتشكيلات) درسها المختصون وحللوا عناصرها، مستخلصين سماتها العامة على مستوى العالم، ويمكن العودة إلى تلك الأبحاث والدراسات للوقوف على جوهر قوانين التشيكلات. ولكن يهمنا في هذا البحث التركيز على المفاهيم والتفريق بينها، مع التأكيد في الوقت ذاته على أطروحة أجمع عليها المهتمون والمختصون، وهي أن التشكيلة لا تتوارى عن المسرح قبل أن تتطور كافة القوى المنتجة التي تفتح آفاقاً كافية لنموها، أما العلاقات الإنتاجية الجديدة، الأكثر تطوراً وحيوية، فإنها لا تظهر إلا بعد أن تنضج ظروف وجودها المادية في أحشاء المجتمع نفسه، وقد أثبتت الأحداث الجارية في السنوات القليلة المنصرمة (في أوروبا الشرقية- دول المنظومة الاشتراكية) والتي مازلنا نعيش وقائعها، أنه ليس بوسع المجتمعات البشرية أن تقفز فوق الأطوار الطبيعية في مسيرتها، فتتجاوز أو تلغي (أو تحرق) هذه التشكيلة الاقتصادية- الاجتماعية أو تلك، وإن جرت محاولات من هذا القبيل، فإنها ستظل في نطاق البنية الفوقية (العلاقات الأيديولوجية والآراء والمؤسسات والدعاية)، وسرعان ما تنهار تحت ضربات العوامل الداخلية والخارجية، ولا سيما العوامل الاقتصادية- التحتية والعوامل القومية والدينية والعالمية المختلفة.‏
            ونود هنا أن نشير كذلك إلى خطأ منهجي آخر، يتمثل في التأكيد بأن النمط الاقتصادي يتمتع ببنية فوقية مستقلة، لأن مثل هذا المنطلق الخاطئ يقود بالنتيجة إلى التأكيد على وجود عدة أساليب إنتاجية وعدة تشكيلات اجتماعية- اقتصادية في إطار مجتمع واحد، وبالمقابل وجود عدة أبنية فوقية مستقلة في المجتمع نفسه، وذلك أمر غير واقعي، مع الإشارة في الوقت ذاته إلى وجود اتجاهات أيديولوجية وسياسية متضاربة تعكس المصالح المختلفة لفئات المجتمع وطبقاته وشرائحه، ولكنها لا تشكل نظماً بنائية فوقية مستقلة عن بعضها تماماً، كما لو أنها في عدة مجتمعات.‏
            ومما تقدم نستنتج أن النمط الاقتصادي هو نموذج معين من علاقات الإنتاج، بينما يمثل أسلوب الإنتاج تفاعلاً حيوياً بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية في المجتمع، في حين أنّ التشكيلة الاجتماعية تمثل جسماً متكاملاً وعضوية حية في حالة تفاعل دائم بين عناصرها المختلفة.... إنها مجموعة متلاحمة مركبة من أسلوب إنتاجي أساسي وبنائه الفوقي، تعبر عن محتوى نوعي لمجتمع معين، أو أنها تقوم على أساس وجود أسلوبين للإنتاج على الأقل، في علاقات مشتركة مع أبنيتها الخاصة. وأحد أساليب الإنتاج هذه يكون دائماً مسيطراً والآخر يكون خاضعاً له.‏
            ثالثاً- التنمية الاجتماعية في بنية متعددة الأنماط:‏
            يقتضي مفهوم "التنمية الاجتماعية" استحضاراً لمعاني "النمو"، "التطور"، "التفاعل"، و "التغير"، وبالتالي تجاوزاً لمقولات السكون والثبات والرسوخ وهو لذلك يرتبط بشكل وثيق بحقل التغير الاجتماعي، ولا سيما بجانبه التحليلي الذي يسعى إلى دراسة التنظيم الاجتماعي (البناء الاجتماعي) من خلال وظيفته وتراتب أجزائه المختلفة، وانسجامه الداخلي، وانقساماته، وحركته وتغيراته، عبر بناء نموذج نظري يسمح باحتواء الأجزاء والمؤثرات الفرعية. وهو ما يعرف بنظرية الحركية الاجتماعية أو الحراك الاجتماعي Mobilite social التي تؤمن بكون الظاهرة الاجتماعية هي محصلة لكل المحددات الداخلية سواء ما تعلق منها بالأسباب أو العلاقات أو الارتباطات والقوانين، ومن خلال ذلك تسعى لبناء أفكار عامة حول الكيفيات، أو الأسباب التي تنتج التغيرات الاجتماعية.‏
            لقد كان لثقل الاتجاهات الميكانيكية والتطورية (النشوئية- الارتقائية) أثر واضح في تحنيط الفعل الاجتماعي بكل مظاهره داخل التفسير الأحادي، سعياً منها إلى تفسير الظاهرة الاجتماعية بالقوانين الحتمية، المختزلة لكل أبعاد التفاعل والاختلاف، خصوصاً ما يتعلق بصراع الطبقات، ومآل هذا الصراع.‏
            وهو ما دفع لبروز مجموعة من الاجتهادات والاتجاهات السوسيولوجية، التي حاولت بناء أنساق نظرية دقيقة لاحتواء الواقع الاجتماعي بكل تفاصيله وحركياته. واعتبرت كمؤشرات دالة على إمكانية بناء نظريات سوسيولوجية جديدة تقوم على مفاهيم: الدينامية الاجتماعية وسوسيولوجية التحولات وسوسيولوجية القطائع وسيوسيولوجية الحركية الاجتماعية، إضافة إلى مفهوم التنمية الاجتماعية، وصولاً إلى سوسيولوجيا التنمية. ويتجلى الطابع المشترك لهذه البحوث والدراسات في تأكيدها على الخاصية الذاتية والداخلية لعناصر القوى الإنتاجية وعلاقاته الاجتماعية وعناصر البنية الاجتماعية الداخلية ووظائفها وإمكانيات تطورها، وتغيرها وصولاً إلى أرقى مستويات النمو والتقدم والازدهار.‏
            وبداية لابد من التمييز بين النمو الاجتماعي والتنمية الاجتماعية. إذا أن النمو الاجتماعي يتضمن عمليات التغير الاجتماعي الذي يلحق بالبناء الاجتماعي عن طريق التطور الطبيعي والتحول التدريجي. في حين أن التنمية الاجتماعية بمفهومها العريض هي جملة الجهود التي تبذل لإحداث سلسلة من التغيرات الوظيفية والهيكلية اللازمة لنمو المجتمع، وذلك بزيادة قدرة أفراده على استغلال الطاقة المتاحة إلى أقصى حد ممكن لتحقيق أكبر قدر من الحرية والرفاهية لهؤلاء الأفراد بأسرع من معدل النمو الطبيعي (20).‏
            فالتنمية الاجتماعية social development لايمكن أن تحصل إلا بعملية واعية مدروسة ومنسقة لأجل السيطرة الاقتصادية والاجتماعية والعملية واعية على الموارد المحلية وتسخيرها لخدمة التطور. بهذا الصدد يقول البرتيني: "ينبغي لهذه السيطرة أن تكون قبل كل شيء حصيلة إرادة وطنية فلا يمكن للتنمية أن تفرض من الخارج، أو تحقق بواسطته لأنها في الأساس تغيير عميق في العمل والوجود والتفكير. إن التعاون الدولي يمكن أن يسهل مهمة مكونات العالم الثالث ولكنه لن يغنيها عن العمل. ومن خلال هذا المنظور، فإن كل بلد مدعو إلى أن يختط طريقه بنفسه، لذا لسنا هنا بصدد إعطاء وصفات للتنمية" (21).‏
            وهكذا نفهم التنمية كعملية تغير شامل في إطار اجتماعي معين. أي أننا لا نقصر مفهوم التنمية على النمو الاقتصادي مطلقاً، وإنما يشمل بشكل جوهري على تغيرات كبرى في البناء الاجتماعي- الاقتصادي القائم، فالتنمية- كما يقول الدكتور محمد الجوهري: "تنطوي على توظيف جهود الكل من أجل صالح الكل، خاصة القطاعات والفئات الاجتماعية التي حرمت في السابق من فرص النمو والتقدم" (22)، وذلك في إطار ثلاثة مستويات للتعبئة داخل العملية التنموية، هي:‏
            (أ) المستوى الأول وهو المستوى التكنولوجي، ويتمثل في تغيير أساليب الإنتاج، والنقل، والاتصال، والتوزيع، وذلك بهدف الوصول إلى علاقة أكثر ملاءمة بين التكلفة والعائد.‏
            (ب) المستوى الثاني وهو المستوى الاقتصادي، ويتمثل في التوصل إلى طرق أكثر إنتاجية وأكثر كفاءة في مجالات التنظيم، والتخطيط، وتوزيع العائد.‏
            (جـ) المستوى الثالث والأخير هو المستوى الاجتماعي، وهو يتشعب بدوره إلى النقاط الفرعية الثلاث التالية:‏
            1- تحريك النظام الاجتماعي وتعبئته بصفة عامة، بما في ذلك توسيع مجالات العلاقات والوعي والمسؤولية، والتغيرات التي تطرأ على وظائف الكيان الاجتماعي وبنائه، وخلق وحدات اجتماعية أكبر حجماً وأكثر تعقيداً ترتكز على أساس التكامل الداخلي الفعال، وعلى أساس النمو في أعداد السكان.‏
            2- الحراك الأفقي أو الجغرافي (أي المكاني)، الذي يتمثل في هجرة العناصر السكانية المختلفة وانتقالها من مكان إلى مكان آخر.‏
            3- الحراك الرأسي، أي الانتقال من طبقة اجتماعية إلى أخرى أعلى أو أسفل في السلم الاجتماعي، وكذلك تغير العوامل المؤثرة على البناء الطبقي (مثل: توزيع القوى، والهيبة، والتعليم، والملكية، والدخل... الخ) (23).‏
            ومن المؤكد أن المستويات الثلاثة لعملية التنمية ترتبط ببعضها في تفاعل وتأثيرات متبادلة، حيث أن الخبراء يعدون المستوى التكنولوجي أيسرها جميعاً في التنفيذ. ( ولكنه أقلها جميعاً أهمية- نسبياً)، في حين أن أصعبها جميعاً في التحقيق هو التغير التنموي على الصعيد الاجتماعي. ذلك أن الموارد التكنولوجية والمالية (سواء كانت محلية أو أجنبية) لا يمكن أن تكون لها أي فاعلية إلا حيثما يوجد الاستعداد وتوجد القدرة على توظيفها توظيفاً رشيداً من قبل الأفراد والجماعات والأنظمة التي تتلقى المعونات وتستفيد منها فعلاً في العملية التنموية.‏
            ولكن بما أنه لا توجد في الفكر الاقتصادي نموذج واحد للتنمية، فإنه تبعاً لذلك- حققت مجتمعات بشرية مختلفة تنميتها الاقتصادية -الاجتماعية بطرق مختلفة وفي ظروف اقتصادية وثقافية وتاريخية متباينة. وإذا كانت قد وجدت بعض القواسم المشتركة بين تلك التجارب التنموية الناجحة، إلا أن تلك العوامل أو القواسم لا تشكل في حد ذاتها نظرية متكاملة للتنمية، مما أدى ويؤدي إلى ظهور نظريات مختلفة، يركز كل منها على جانب من العملية التنموية دون غيره.‏
            أما نحن فيهمنا التأكيد هنا أن التنمية لا يمكن إحداثها إلا عندما تتهيأ لها التربة الداخلية الملائمة، كنتيجة لمؤثرات وعناصر داخلية مجتمعية أو إقليمية، وبالتالي فإن التنمية الحقيقية لا يمكن استيرادها من أسواق البلدان المتطورة، وإن توهم البعض خلاف ذلك. وإنما هي تنشأ وتترعرع في بنية المجتمع الداخلي، وإن تفاعلت مع الخارج، أما إذا حصل العكس -وهذا ما يحدث للأسف في أغلبية بلدان العالم الثالث- فإنه سرعان ما يتحول الجهد التنموي إلى جهد استيرادي ضخم يؤدي بشكل منطقي إلى دخول هذه الدول في حلقة التبعية التقنية والفنية للأسواق العالمية المتطورة.‏
            في هذا السياق نفهم قضية التنمية، لأن موضوع التنمية شائك ومعقد، وذو خلفيات وجوانب مختلفة، خصوصاً وأن للمواقف الأيديولوجية دوراً هاماً في تحديد مفهوم أو الهدف العام للتنمية المراد تحقيقها، في مجتمع متخلف وتابع، ولهذا اختلفت التصورات حول التنمية من بلد إلى آخر، ومن جماعة فكرية إلى أخرى، ومن مرحلة تاريخية إلى أخرى، تبعاً للتطورات التي شهدتها البلدان المختلفة، وتبعاً لتوجهاتها السياسية والاجتماعية والفكرية ونتيجة حتمية لفشل التجارب التنموية صيغة (أو خطة) بعد أخرى. ولعل السبب في ذلك، هو أنها تناولت قضايا تقنية، في المجال الاقتصادي -الاجتماعي، وانطلقت من عزل البنية الأيديولوجية -السياسية، والبنية الاجتماعية، والظروف العالمية المحيطة عن البنية الاجتماعية -الاقتصادية المحلية، وهي الأساس المعول عليه فعلاً في نجاح أية تجربة تنموية أو فشلها.‏
            ولكن لكي تكون الفكرة أكثر وضوحاً لا بد من الإشارة إلى الاختلاف الجوهري بين البرجوازيات المتكونة في البلدان التابعة (دول العالم الثالث) والبرجوازيات التي تكونت في الدول الأوروبية من حيث طبيعة هذا التكون التاريخي، وبالتالي من ناحية المسار الذي سلكته كل منهما في تطورها، وأثر ذلك على تطور البلاد بأكملها، فأغلبية البرجوازيات المكونة في الدول التابعة ولدت وترعرعت في رحم التغلغل الاستعماري ذاته ومن خلال العلاقة البنيوية التي ربطتها منذ فجر التغلغل الاستعماري بالبنية البرجوازية الغربية.‏
            وإذا أردنا التوسع في هذه الأطروحة، فإننا يمكن أن نقول: إن البنية الاجتماعية السائدة في بلدان العالم التابع بحكم سيطرة البرجوازيات الكولونيالية عليها، هي بنية للتشكيلة الاجتماعية- الاقتصادية الأم، أي التشكيلة الاقتصادية -الرأسمالية العالمية. وهي تبعية تخضع لعمليات تجديد وتطوير وتحديث في أشكالها وأساليبها تبعاً للتطورات التي تتعرض لها البنية الكبرى -الأم، الممثلة بالنظام الاقتصادي الدولي.‏
            ويبقى إذاً الحديث عن أية تنمية في دول العالم الثالث ليس له معنى حقيقي سوى كسر ذلك الإطار الخاطئ الذي يحكم مفاهيم التنمية، وزيادة الدخل الفردي، وعدد ساعات العمل، ومستوى استهلاك المواطن من السعرات الحرارية، وعدد الأطباء، والمدارس.. الخ. لأنه بدون إدراك جوهر البنية الاجتماعية- الاقتصادية، التي يجري داخلها التطور والتغير يظل الحديث عن الاستقلال والتنمية مجرد كلام.‏
            ولهذا، فإن الباحث الموضوعي لا يسعه إلا الاتفاق مع الرأي القائل إن التخلف البنيوي (في البنية الاجتماعية) ليس أكثر مشاكل عصرنا الاجتماعية والسياسية أهمية وخطورة فحسب، بل هو كذلك أخطر مشكلة بالنسبة لجميع العصور، مشكلة لا يمكن أن تحل إلا عبر تغييرات عميقة في البنيات الاقتصادية والاجتماعية(24).‏
            إن إشكالية تخلف البنية الاجتماعية -الاقتصادية لها طابع شمولي يتصل بتداخل كل العناصر المكونة للتشكيلة الاجتماعية، وهي العناصر الاقتصادية والسياسية والفكرية والاجتماعية والذهنية، والأيديولوجية. فالتخلف هو أولاً وقبل كل شيء وضع تاريخي مرت به دول العالم في مراحل مختلفة ساهم في تسهيل الاستعمار، كما لعب الاستعمار دوراً أساسياً في ترسيخه وفق ما كان هذا الترسيخ يخدم آلية النهب والاستغلال الأقصى لطاقات وموارد المجتمعات التابعة، والتي أدت في النهاية إلى اندماج أو دمج المجتمعات المذكورة بكل مكوناتها البشرية والاقتصادية (والثقافية إلى حد كبير أيضاً) في إطار الاقتصاد العالمي، وإلى إخضاع حركية إنتاج اقتصادياتها لمقتضيات توزيع العمل الدولي استناداً على البواعث والأهداف المرسومة من التشكيلات المركزية الكبرى.‏
            وهكذا يحق لنا التأكيد مجدداً، أن دراسة عوامل فشل التنمية لا يمكن أن تكون موضوعية وجادة ومفيدة دون تحليل البنية الاجتماعية -الاقتصادية للمجتمعات المتخلفة.‏
            رابعاً- الوطن العربي نموذجاً:‏
            في دراسته الهامة حول "التبعية البنيوية، محاولة لفهم حركة التطور الاجتماعي- الاقتصادي للبنيات العربية المعاصرة"، يؤكد الدكتور أمير اسكندر أن ظاهر التبعية في البلاد المتخلفة- ومنها الأقطار العربية- أصبحت الإشكالية المحورية التي تتطلب التأمل الجدي والتفكير العميق أكثر من أي وقت مضى. حتى أن هذا المشكل غزا جميع الميادين واتخذ شكلاً بنيوياً(25).‏
            وإذا كنا نتفق على أن التبعية تنتج التخلف، فإننا يجب أن نعي أن التبعية هي دينامية داخلية وخارجية بآن واحد، تتكيف بمقتضاها الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات التابعة وفقاً لحاجات المراكز الرأسمالية المتقدمة. حيث أن التحالف بين رأس المال الأجنبي -على سبيل المثال- وبين الفئات المحلية المسيطرة يساعد على إبقاء أساليب الإنتاج التقليدية، كما يؤدي إلى التأثير على التكوين الطبقي في البلاد المتخلفة بشكل يساعد على إهدار ذلك الجزء من الفائض الذي تحصل عليه العناصر الداخلية في الاستهلاك الترفي. لذلك فإن المصادر التي ستوجه للتنمية ستتقلص بكثرة، ومن ناحية أخرى فإن تأثير تضاعف الاستثمار سوف يكون محدوداً لأن السلع الرأسمالية تشترى من الخارج، وسوف يؤدي هذا إلى الركود الاقتصادي(26).‏
            لقد عرف الوطن العربي في عهد الاستعمار ليس التجزئة فحسب، بل عرف كذلك الفقر والجهل والتخلف والانحدار، وذلك من خلال استنزاف قواه الذاتية في هجمات واجتياحات خارجية استمرت حتى الخضوع لسيطرة الاحتلال العثماني الذي هيمن عليه أكثر من أربعة قرون، وترافق عصر انحطاطه مع عصر النهضة الأوروبية، كما ترافق انهيار طبقته التجارية مع نمو الطبقة التجارية الأوروبية، وهي الطبقة التي ستسمح لها البنية الداخلية لمجتمعاتها بأن تتطور نحو الرأسمالية في الوقت الذي لم تسمح فيه طبيعة البنية الداخلية للوطن العربي الموحد حينذاك أن تتجاوز حدودها التاريخية(27).‏

            وفي الوقت الذي حاول فيه العالم العربي الممزق أن يتخطى تخلفه وانحطاطه، كانت أوروبا قد اتجهت نحو مرحلتها الاستعمارية. وعندما بدأ الوطن العربي بفتح عينيه فإنه لم ير سوى أسطول بونابرت يدق أبوابه، إنها لحظة فاصلة بين تاريخين، بين عصرين، وسواء على مستوى بنيته التحتية أو الفوقية، فإن الوطن العربي لم يتطور بعد ذلك بقواه الإنتاجية- ما عدا لحظات قصيرة واستثنائية- إلا في الإطار الذي رسمته وحددته له القوى الاستعمارية، ومن بعدها قوى الإمبريالية وإلى المدى الذي حددتاه له، وسيكون ذلك هو المؤشر الأول لفهم السمات العامة لتطور بنيته الاجتماعية(28).‏
            إن عملية التغلغل الاستعماري في البنيات الاجتماعية العربية هي التي أحدثت نمطاً جديداً متميزاً من علاقات الإنتاج، ترتب عليه منذ تلك اللحظة خضوع هذه البنيات الاجتماعية العربية في طبيعة وقوانين وآفاق تطورها لمسيرة البنيات الاجتماعية الاستعمارية ثم الإمبريالية، وبتعبير آخر خضوع هذه البنيات الاجتماعية العربية لما يصيب البنيات الاجتماعية الاستعمارية والإمبريالية من تطورات وتغيرات داخلية أو دولية. إن هذا الخضوع هو جوهر التبعية أو هو التبعية نفسها(29).‏
            ومن هنا فإن التخلف البنيوي هو الظاهرة التاريخية والموضوعية التي جعلت البنية الاقتصادية بنية ذيلية تحدد أولويات المبادرات الاستثمارية داخلها، وفق طلب الأسواق الخارجية(30).‏
            وهكذا يتضح أن التبعية والتخلف سمتان أساسيتان تمتاز بهما البنية الاجتماعية الاقتصادية العربية منذ بداية هذا القرن إلى الآن، هما ظاهرتان مرتبطتان مع بعضهما بصورة متفاعلة، بحيث تغذي كل واحدة الأخرى وتنعشها، ولو أنه يبدو أن التخلف البنيوي هو أصل التبعية، فتأخر القوى المنتجة العربية وتعدد الأنماط الإنتاجية ما قبل الرأسمالية وتفتتها هي الأساس في تدهور الأوضاع الاقتصادية -العلمية العربية الراهنة. وبذلك تحولت الاقتصادات العربية إلى اقتصادات ذيلية تعتمد بالأساس على الاستيراد الخارجي. وقد كان من نتائج تمركز نموذج التراكم والتبعية أن تم فرض نموذج تمويلي على الاقتصادات العربية يعتمد أساساً على الموارد الخارجية، بحيث أصبح مصدر الاستثمارات مرتبطاً بموارد الصادرات النفطية أو الزراعية أو المعدنية بالنسبة للدول التي تمتاز بوفرة في ميزان أدائها الخارجي، في حين اضطرت الدول التي تشكو من العجز في أداءاتها إلى تمويل استثماراتها من القروض والمساعدات الخارجية.‏
            لقد أدت هذه العوامل إلى الاعتماد على مصادر التمويل الخارجي التي تلعب دوراً استراتيجياً في عمليات الاستثمار، كما أدت إلى تقليص دور المجهود الإنتاجي الداخلي، ولم تساعد على البحث الجاد في تعبئة الفائض الوطني وتحريك قدراته المتشعبة والمتناثرة بآن معاً. وبهذا الصدد يقول الدكتور فتح الله ولعلو: "تقمصت الإقليمية والطائفية والعشائرية الإطار المادي الذي صاحب تنمية الرأسمالية المحيطة. وكان من نتائج تكدس الثروات في يد أقليات اجتماعية مرتبطة بالقطاع الخاص أو القطاع العام وبسرعة كبيرة وغير طبيعية، شيوع النفقات غير المنتجة وتبذير الموارد الوطنية في الاستهلاكات الساقطة دون أي اعتبار لمخاطر هذه المظاهر على التوازنات الاجتماعية حالياً وعلى تفقير الأمة العربية مستقبلاً من إمكانياتها المادية"(31).‏
            وإذا سلمنا بأن القضاء على التبعية الاقتصادية يتطلب تنفيذ الشروط الثلاثة التالية وهي:‏
            1-يجب أن يكون هيكل الإنتاج عاملاً مساعداً على النمو وملبياً حاجات الاقتصاد الوطني.‏
            2-يجب أن يكون تنويع وتوزيع التجارة الخارجية لبلد ما بدرجة معينة بحيث يكون عاملاً مساعداً على النمو أيضاً.‏
            3-إن عملية التنمية وإدارتها يجب أن تكون بيد الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في التطور.‏
            فإننا في الواقع "نرى أن الدول العربية إن لم تكن تفتقر لهذه الشروط الثلاثة فهي تفتقر بالتأكيد إلى أحدها نظراً لأنها تعاني من مشكلة التبعية الاقتصادية واعتماد اقتصادها على النفط الخام"(32).‏
            وعموماً فإن تنفيذ خطط التنمية وبرامج التصنيع في الدول العربية يواجه عدداً من المشاكل أهمها:‏
            أ-النقص في الكوادر التقنية والاختصاصيين.‏
            ب-اعتماد الاقتصاد الوطني اعتماداً كلياً على النفط وارتباطه به.‏
            جـ-النقص في الهياكل الأساسية الاقتصادية والاجتماعية.‏
            د- التبعية الاقتصادية نتيجة لهيمنة الدول الرأسمالية على التجارة الخارجية.‏
            هـ-عدم استخدامها لعوائد النفط الاستخدام الأمثل وضياع القسم الأكبر منها نتيجة لإيداعه في البنوك الغربية والدول الرأسمالية(33).‏
            وحتى في الأقطار العربية التي طرحت مفاهيم التنمية ضمن شعارات اشتراكية، تبين في نهاية الأمر أن المستفيد الأكبر من وراء تطبيقاتها علاقات الإنتاج الرأسمالية، وإن ضربت الرأسمالية العربية الموالية للغرب في بدايات إعلان "التحولات الاشتراكية". ففي معرض حديثه عن التنمية المصرية أيام عبد الناصر يشير الباحث خيري عزيز إلى إقدام قطاع الدولة على المخاطرة في المشاريع آجلة الربح، التي لم يجسر القطاع الخاص على الاضطلاع بها، وأوكل إلى القطاع الأخير الأعمال التي كان ربحها محسوباً ومضموناً مقدماً. ولقد سخر رأس المال العام لتوفير امتيازات ومكاسب ضخمة لفئة البرجوازية البيروقراطية والتكنوقراطية التي احتلت مواقع القيادة في مؤسسات الدولة الرئيسة والتي استقطعت لنفسها قدراً متزايداً من الفائض الاقتصادي لا يتناسب بحال من الأحوال مع ما تقدمه من خدمات، ومع تزايد عدد خطط التنمية نمت القاعدة الاجتماعية لهذه الفئة بحيث ضمت جماعات مهنية متباينة -كالبيروقراطيين والتكنوقراط من ضباط الجيش وموظفي جهاز الدولة والقطاع العام والمثقفين، أولئك الذين استغلوا الإمكانيات المتوافرة، في تطوير المجالات غير الإنتاجية، والخدمات، مما أدى إلى تضخيم الجهاز الإداري الذي قبعت في قمته أعداد مطردة النمو من هذه البرجوازية البيروقراطية التي لعبت السلطة السياسية والإدارية دور رأس المال بالنسبة لها باعتبارها وسيلة استقطاع جزء كبير من الفائض الاقتصادي، بل سبيل مضمون إلى تحقيق تراكم رأسمالي أتاح لهذه الفئة أن تشارك القطاع الخاص بحيث نشأ تداخل بين مصالحه وبين البرجوازية البيروقراطية سواء عن طريق مشاريع مشتركة، أو خاصة، أو بواسطة الصفقات والاتفاقات غير المعلنة وغير المشروعة(34).‏
            والنتائج ذاتها حصلت في الأقطار العربية الأخرى التي اتبعت المنهج نفسه، فالرأسمال الحكومي وإن نجح في بداية الأمر في تحقيق معدلات مرتفعة نسبياً في مجالات التنمية والتصنيع إلا أنه سرعان ما اتضح عجزه عن الاستمرار، حيث واصل قانون الإفقار المتزايد للجماهير عمله في الوقت الذي ازداد فيه ثراء الفئات المالكة الكبيرة والمتوسطة، فقد انفردت هذه القوى بالسلطة في غيبة رقابة الجماهير العاملة وفي ظروف افتقدت فيها المنظمات السياسية الشعبية المعبرة عن مصالح الفئات الاجتماعية الأخرى.‏
            وقد أسفرت معظم خطط التنمية العربية -من حيث النتيجة النهائية -عن اختلافات هيكلية بزيادة الأهمية النسبية لقطاع الخدمات بالنسبة للقطاعين الزراعي والصناعي، وهو من الأسباب الرئيسة لزيادة الطلب الاستهلاكي والضغوط التضخمية، كذلك أسفرت تلك الخطط عن ارتفاع معدلات الاستهلاك، مما أدى إلى انخفاض الطاقة الادخارية، بالإضافة إلى تنامي فائض العاملين في قطاع الخدمات والإدارة الحكومية وشركاتها البيروقراطية غير المنتجة عملياً. وشهدت المؤسسات الكبرى والوظائف العليا تبذيراً وإسرافاً هائلين فكانت الأموال تهدر هنا كضريبة تتحملها الفئات المنتجة وتضاف على أسعار السلع الشعبية وميزانية الدول لتحقيق الاستقرار للسلطة وأجهزتها دون الحصول على مقابل من الإنتاج، وأدت السياسات المتبعة إلى حدوث اختلال بين الادخار والاستثمار فلجأت معظم الحكومات العربية (باستثناء النفطية) إلى تمويل العجز من القروض الخارجية، أما الزيادات المضافة إلى معدلات الرواتب والأجور فكانت دائماً طفيفة هزيلة يستحوذ عليها مباشرة التجار والضرائب المتعاظمة والرسوم المالية المتلاحقة، مما يعني "أن هذا الاختيار للتنمية القائم على رأسمالية الدولة الوطنية قد أدى بعد سنوات من تطبيقه إلى زيادة إفقار الأغلبية في جانب، وثراء قلة من جانب آخر"(35).‏
            وتحت شعارات "التنمية الاشتراكية" في ظل القطاع العام أو "الاشتراكي" ورأسمالية الدولة، تفشت "ظواهر كالرشوة والاختلاس والسرقة والنهب، والسلب، بصورة لم يسبق لها مثيل، كلّ يحاول أن ينال شيئاً مما تحت يديه. فمال الدولة سائب- بلا رقيب أو حسيب- فأصبح لصوص الدولة أشد هولاً من قُطاع الطرق"(36).‏
            وهكذا تجمعت طبقة جديدة، من داخل القطاع العام (قائد العملية التنموية) وخارجه، طبقة لا تبالي بشيء من أجل الإثراء الفاحش، وبأسرع الطرق وأسهلها، وانضم إليها طابور كبار تجار المخدرات والسوق السوداء، وأصحاب دور المتعة والدعارة وبيوت القمار، وأصحاب الأقلام المأجورة والضمائر الفاسدة التي باتت مأجورة لكل من يدفع الثمن.. وارتدى الجميع طيلسانات أرجوانية، طرزوا حواشيها بشعارات الاشتراكية، المنسوجة من خيوط البلاتين والذهب والفضة، كلّ حسب قدرته"(37).‏
            ولذا فإن المشكلة الكبرى التي واجهت الأقطار العربية المتصفة بهيمنة القطاع العام (الحكومي)، هي أنه في الوقت الذي يحتاج فيه المجتمع أشد الاحتياج إلى تنمية صناعية وزراعية وثقافية على نطاق واسع وفعال، وفي الوقت الذي كانت الحاجة ماسة فيه لأن يلعب الدور المهيمن في النشاط الرأسمالي المحلي برجوازية زراعية وصناعية نشيطة ومنتجة فعلاً، فإن الذي يلعب هذا الدور هو البرجوازية التجارية الطفيلية والربوية. وهذا ما يتناقض إلى حد كبير مع الأوضاع التي جرت في البلدان الأوروبية المتقدمة واليابان، حيث قامت وتقوم البرجوازيات الصناعية والزراعية والمالية بتنظيم حجم هائل من الإنتاج المادي الصناعي والزراعي، والمنتجات المادية والتقنيات شديدة الاتساع والتنوع والنفع، والتي يمكن تداولها في الأسواق المحلية والعالمية.‏
            أما البرجوازية التجارية العربية فقد نشأت عملياً على هامش الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية، وهي تعيش وتنمو من خلال الاتجار في منتجات الرأسمالية العالمية، واستغلال مواقعها الاحتكارية في الأسواق المحلية. وعندما نطلق على هذه الفئات صفة "الطفيلية" فإن ذلك يعود إلى أنها "لا تقوم في الأساس على تطوير الإنتاج المادي، بقدر ما تقوم على الخدمات وبالذات على التجارة، كما أنها غير معنية في الأساس بتطوير الاقتصاد القومي، وتأمين التحولات الاجتماعية الضرورية، حتى في ظل اقتصاد رأسمالي، كما أنها ضعيفة الجذور القومية، قوية الوشائج الخارجية وأقرب ما تكون إلى التبعية لرأس المال الأجنبي(38). هذا بالإضافة إلى أن البرجوازية الوطنية في الأقطار العربية ضعيفة من الناحية النوعية والاقتصادية وحتى العددية. فلقد كان الرأسماليون في الأقطار العربية، التي شهدت تحولات اقتصادية -رأسمالية في مرحلة ما بعد الأربعينات من هذا القرن مثل مصر وسورية والعراق يوظفون أموالهم في المجالات التي تدر أرباحاً كبيرة دون المجازفة اقتصادياً وتجارياً بإقامة منشآت إنتاجية -صناعية برؤوس أموال ضخمة. ولم يحاولوا مطلقاً البحث عن الثروات الطبيعية في أقطارهم، أو بناء صناعات أساسية استخراجية أو معدنية، صناعات كان يمكن لها بالفعل أن تسير بالبلاد في طريق الخلاص من التخلص والتبعية.‏
            وتقدم اقتصادات الوطن العربي حقائق ثابتة عن المستوى المتخلف للقوى المنتجة فيها، وعن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية ذات التطور الضعيف والمتسمة بالتبعية والمصحوبة بعلاقات إنتاج ما قبل الرأسمالية. ويتجلى كل ذلك في البنية المشوهة للاقتصاد الوطني والمجتمع في كل من هذه البلدان، وفي معدلات النمو المتدنية في الزراعة والصناعة، وفي إنتاجية العمل، وفي عجز متعاظم لدى القسم الأكبر من هذه البلدان عن إشباع حاجات السكان للمواد الغذائية وسلع الاستهلاك الأخرى، واضطرارها إلى زيادة مستورداتها السنوية من مختلف السلع الاستهلاكية، وبخاصة الغذائية منها، ويبرز العجز أيضاً في إمكانية أغلبها على توفير الاستثمارات الكافية لتحقيق التنمية الوطنية الشاملة.‏
            وبناء عليه، فإننا إذا كنا نتفق مع تعريف الدكتور علي الكواري بأن "التنمية الاقتصادية -الاجتماعية الشاملة عملية مجتمعية واعية ومواجهة إيجاد تحولات هيكلية تؤدي إلى تكوين قاعدة وإطلاق طاقة إنتاجية ذاتية، يتحقق بموجبها تزايد منتظم في متوسط إنتاجية الفرد وقدرات المجتمع ضمن إطار من العلاقات الاجتماعية يؤكد الارتباط بين المكافأة والجهد، ويعمق متطلبات المشاركة مستهدفاً توفير الاحتياجات الأساسية وموفراً لضمانات الأمن الفردي والاجتماعي والقومي"(39)، فإن الدراسات والتقارير الإحصائية تؤكد جميعها دون استثناء أن الفجوة الغذائية تتسع بمرور الزمن، ولم تحقق خطط التنمية أمن الأقطار أو الوطن العربي الغذائي والاجتماعي وحتى المائي. كما أن "الأمن الفردي والقطري والقومي مستباح رغم كثرة اتفاقاته، والتغني به، وهدر الموارد في الصرف على أجهزة الأمن ونفقات التسلح. فمن ارتفاع معدلات الجريمة الموثق منها وغير الموثق، إلى الصراع الاجتماعي والسياسي والطائفي والديني والعرقي وحتى الحروب الأهلية، إلى صراع الحدود بين الأقطار العربية والذي يتطور بين الحين والآخر إلى نزعات مسلحة، وإلى استباحة الأمن العربي، ونماذجه كثيرة.."(40).‏
            ففي تقديمه لأبحاث ندوة "التنمية المستقلة في الوطن العربي"، التي شارك فيها ستة عشر مختصاً عربياً وتبناها مركز دراسات الوحدة العربية، يذكر نادر فرجاني، أن تلك الندوة اتسمت بقدر من المعاناة يفوق الحد المعتاد في المنتديات العربية الجادة. ويعود ذلك إلى ثلاثة عوامل: أولها: كان الإحساس بتسارع التردي في التنمية على المستويين القطري والقومي في السنوات الأخيرة، وثانيها: سيادة التوقعات باستمرار هذا التردي في المستقبل المنظور، وثالثها: كان خفوت الأمل في توافر البنى الاجتماعية والسياسية القادرة على تحمل نطفة الخلاص وأن تنميها، وتنمو بها، على درب التنمية المستقلة في الوطن العربي(41).‏

            وبالرغم من المظاهر الإيجابية، التي نتجت عن وجود النفط في المنطقة العربية (الخليج العربي بصفة خاصة)، والأهمية المتزايدة التي تحظى بها المنطقة يوماً بعد يوم، نتيجة لزيادة الانفاق على مشاريع التنمية في ميادين التربية والتعليم، والطرق والمواصلات والاتصالات والخدمات الصحية والاجتماعية.. الخ، إلا أن المجتمع العربي -النفطي يتعرض في الوقت ذاته إلى بعض المظاهر السلبية، مثل زيادة الاعتماد الكبير والمستمر على العمالة الأجنبية، والإسراف المتزايد في استهلاك الكثير من الكماليات، ومحاولة الكثير أيضاً اللجوء إلى بعض ألوان من الأعمال السهلة التي تدر ربحاً وفيراً، دون أن تتطلب جهداً كبيراً. ويهمنا في نطاق هذه الدراسة الإشارة بشكل خاص إلى تميز هيكل المجتمع النفطي بازدواجية البنية الاقتصادية -الاجتماعية. فمن ناحية نجد هياكل ومؤسسات اجتماعية تقليدية، مع تأكيد على الذاتية الثقافية والخاصة منها، ومن ناحية أخرى نرى هياكل ومؤسسات اقتصادية وتقنية عصرية وإمكانيات مالية ضخمة، مما ينتج عنه تصادم بين مستحدثات الدول الصناعية المتقدمة، وبين الهياكل التقليدية، التي لا تزال مهيمنة في المجتمع العربي الخليجي، ومراوحة في تنفيذ مشاريع التنمية واستراتيجية التكامل بين تلك الأقطار.‏

            خامساً- خلاصة واستنتاجات:‏
            لقد ركزنا في هذه الدراسة على طرح فرضية منهجية أساسية، وهي أن ما تحتاج إليه المجتمعات النامية، كالأقطار العربية، هو تغيير هيكلي -بنيوي لطبيعة ومستوى القوى الإنتاجية، ونمط العلاقات الإنتاجية السائدة في تلك الأقطار، كشرط هام لتجاوز التخلف والوصول إلى مرحلة الاستفادة المثلى من مشاريع التنمية بجوانبها وميادينها المختلفة، والاعتماد الكبير والأساسي على الذات. ففي خريف 1974، وتحت الرعاية المشتركة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، وحكومة المكسيك، عقدت ندوة "أنماط استخدام الموارد واستراتيجيات البيئة والتنمية" في مدينة كوكويوك المكسيكية، وانتهت الندوة بإعلان عُرف "بإعلان كوكويوك"، الذي شدد على حق البلدان في انتهاج طرق مختلفة للتنمية، حسب أوضاعها التاريخية والثقافية والاجتماعية وما إلى ذلك من أوضاع أخرى، وعبر عن الاعتقاد بأنه "ينبغي أن يكون من بين الاستراتيجيات الأساسية للتنمية تحقيق الاعتماد الذاتي الوطني المتزايد"، ويراد بذلك "الثقة بالنفس، والاعتماد في المقام الأول على الموارد الذاتية، البشرية منها والطبيعية، والقدرة على تحديد الأهداف واتخاذ القرارات بصورة مستقلة"(42).‏
            وهذا يعني، أنه لكي نفهم آلية فشل المشاريع والبرامج التنموية، فإنه لا بد من دراسة تاريخية -اجتماعية واقتصادية للعناصر المكونة للبنية الاجتماعية- الاقتصادية في كل مجتمع على حدة. فالاعتماد الأساسي على الذات، يؤكد مجدداً صحة الأطروحة القائلة بضرورة تحليل التاريخ الاقتصادي لتشكل قوى الإنتاج والأنماط الإنتاجية في البلدان السائرة على طريق التنمية الحقيقية- المستقلة.‏
            وتبعاً لتلك الفرضية، توصل بعض الباحثين العرب إلى ضرورة البحث عن "تفسير للتخلف في خصائص التشكيلات الاجتماعية العربية" بدءاً من القرن السادس عشر للميلاد (قرن الهيمنة العثمانية) إلى يومنا هذا(43). وقد عمق الباحث الدكتور /محمد السيد سعيد هذه الأطروحة بوضعه فرضيتين تتصلان بالبيئة التي أحاطت بالاقتصادات العربية في القرون الثلاثة للسيطرة العثمانية على المنطقة العربية، ويمكن إيجازها في الآتي:‏
            أ-كان للوضع المستعمر للتشكيلات العربية أثر قوي في تعميق الميول الركودية الكامنة في طبيعة العلاقات الاجتماعية القائمة بنموذجها المصري والشامي، وردع الميل نحو الغير التطوري أينما وحيثما تحقق.‏
            ب-وقد كان أحد النتاجات الثانوية لهذا الوضع المستعمر أن تم بذر البذور الأولى لعلاقات التبعية بين الاقتصادات العربية والمراكز الرأسمالية الأوروبية، وقد كان من شأن البزوغ الأول لعلاقات التبعية هذه أن أصبحت هناك ميول هيكلية نحو تحديد هامش ضيق نسبياً لنمو الاقتصادات العربية في نطاق التخصص الزراعي في تقسيم العمل الدولي(44).‏
            وهذه الحقيقة البيّنة لا تتعارض، بطبيعة الحال مع حقيقة هيمنة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية على الصعيد العالمي. فالقوانين الاقتصادية الموضوعية للرأسمالية هي السائدة حالياً، وهي المتحكمة في مجمل العملية الاقتصادية الدولية. وهذا يعني أن القوانين الخاصة بتطور قوى الإنتاج وأساليب الاستهلاك والتوزيع والتبادل غير المتكافئ والمزاحمة والاحتكار والمركز والأطراف.. الخ، هي القوانين الاقتصادية الموضوعية، التي تسود العلاقات الاقتصادية -الاجتماعية والسياسية وتميزها على المستويين الدولي والداخلي (لكل بلد من البلدان). ولكن ذلك لا يلغي البتة، وجود قوانين اقتصادية -اجتماعية موضوعية أخرى تعود لبقايا أنماط إنتاجية أخرى ما قبل رأسمالية، لا تزال قائمة وتلعب دورها المؤثر، بمستويات متباينة، في اقتصادات وحياة الغالبية العظمى من شعوب بلدان العالم الثالث، ومنها البلدان العربية. وهي بذلك تحدُّ بمستويات متفاوتة أيضاً، من قوة فعل القوانين الاقتصادية للرأسمالية (العالمية) وتأثيرها في درجات تطورها الداخلي -الذاتي، تبعاً لمستويات تطورها الاقتصادي والخصائص الوطنية والقومية والتاريخية والحضارية المميزة لها.‏
            أما خطط التنمية العربية، فهي تعاني من مشاكل واسعة تتعلق بعدم التوافق والترابط بين البرامج القطاعية، وغياب التخطيط التشابكي بين القطاعات، وعدم التوازن بين متطلبات الإنماء الاقتصادي والإنماء الاجتماعي، وعدم توافر قاعدة تحتية من القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الدينامية- العصرية، التي من شأنها مواكبة التوجهات التنموية وإنجاح خططها، الرامية إلى التغيير البنيوي اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، إضافة إلى اختفاء البُعد القومي في معظم الخطط التنموية القطرية، مما أدى كله إلى عجز هذه الخطط في تحقيق التنمية الاقتصادية -الاجتماعية الشاملة والمتكاملة، لأن غياب الهياكل الاقتصادية- الاجتماعية المتطورة (على الصعيدين الإقليمي والعربي، ناهيك عن المحلي- القطري)، سيجعل عمليات التنمية المنفذة جزئية وفوقية ومحدودة النتائج والتأثيرات فعلاً، فالمهم -من وجهة نظرنا- هو إحداث تغيير سريع وجوهري في البنى الاقتصادية -الاجتماعية متعددة الأنماط، والتي تشكل عائقاً موضوعياً كبيراً أمام التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الذي تسعى إليه الأمة العربية. وقد أشار إلى هذه الحقيقة التقرير الصادر عن الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي بقوله: "إن دول المجلس بالمقارنة بالدول النامية تعتبر دولاً غنية بسيولتها النسبية، فقيرة بهياكلها الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فهي تواجه تحدياً كبيراً وصعباً إلى جانب التحديات الأخرى من حيث أن مصدر سيولتها النقدية غير متجدد وعليها أن تحدث تطوراً سريعاً في البنية الأساسية والاقتصادية والاجتماعية قبل نضوب مصدرها التمويلي الوحيد وهو النفط"(45).‏
            فالأهداف الخاصة بالتنمية الشاملة كمدخل طبيعي للتكامل الاقتصادي العربي تكمن أساساً في تغير الهياكل الاجتماعية -الاقتصادية، والتخلص المدروس من أنماط الإنتاج المتخلفة داخل كل تجمع إقليمي، وتنويع قاعدة الإنتاج لرفع الكفاءة الإنتاجية للموارد الطبيعية والبشرية والمادية المتيسرة بهدف الإسراع بخطوات التنمية الشاملة، وتصحيح الاختلافات الهيكلية الراهنة، وصولاً إلى رفع مستوى المعيشة وتحقيق الرفاهية والازدهار على الصُعد كافة. وليس من الضروري أن تكون مشاريع التنمية العربية مماثلة أو مطابقة لما يجري في بعض بلدان العالم الثالث، أو مماثلة لما جرى في الدول الصناعية المتقدمة، حيث أن الظروف التاريخية والبنى الاقتصادية والاجتماعية، التي تميز الأقطار العربية تجعلها في حالة فريدة تسمح لها بأن تصوغ إطارات تحديثية تلائم أوضاعها الخاصة. وحتى تنجح عمليات التنمية الشاملة في أقطار الوطن العربي، لا بد من أن تكون ضمن إطار استراتيجي واضح، يأخذ بالحسبان الأوضاع التاريخية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لبلدان كل مجموعة إقليمية على حدة، مع الحفاظ -في الوقت نفسه- على البُعد القومي الشامل لتلك الخطط والمشاريع. فالتنمية، كما يقول الدكتور /جاسم خالد السعدون: "ليست تنمية اقتصادية فقط ولكنها نقلة حضارية، اقتصادية، اجتماعية تضمن استمرار حالة التقدم الاقتصادية فقط ولكنها نقلة حضارية، اقتصادية، اجتماعية تضمن استمرار حالة التقدم الذاتي بفعل تغيير إرادي واع. والتنمية مشاركة عادلة في الأعباء والمزايا ومشاركة فاعلة في سلطة اتخاذ القرار وحرية في الرأي والبحث وإطلاق القدرات دون عقاب أو تعسف أو خوف. والتنمية لا يمكن أن تكون قطرية للغالبية العظمى من الأقطار العربية، ومرحلياً -على الأقل- يُفترض أن تكون نتاج برامج التنمية القطرية في اتجاه مزيد من الاندماج العربي وليس العكس"(46).‏
            وأخيراً، فإننا من منظور سوسيولوجي -تكاملي نؤكد أن فشل برامج التنمية وما أفرزته من مشكلات في بلدان العالم الثالث، إنما يعود بشكل مباشر أو غير مباشر إلى الهياكل الاجتماعية -الاقتصادية التقليدية والأنماط الإنتاجية- البدائية، المدعومة بتقاليد اجتماعية راسخة بالمعنى الواسع للكلمة، ولهذا، فإنه من الخطأ البالغ تماماً عدم الإحاطة بهذه الجوانب الأساسية في الدراسات والأبحاث الخاصة بقضايا التنمية الاجتماعية في تلك البلدان.‏
            الهوامش:‏
            1-انظر: الدكاترة/ السيد محمد الحسيني، محمد علي محمد، علياء شكري، محمد الجواهري، دراسات في التنمية الاجتماعية، دار المعارف بمصر، ط3 1977-ص145‏
            2-في أطروحتنا لنيل الدكتوراه درسنا بتوسع المنهجية -الفلسفية لـ "قوانين تطور القوى المنتجة وعلاقات الانتاج وخصائص ظهورها في البلدان النامية"، رسالة غير منشورة نوقشت بجامعة لينينغراد سنة 1980 (بالروسية).‏
            3-العياشي عنصر، "أزمة أم غياب علم الاجتماع"، "المستقبل العربي"، السنة الثالثة عشرة"، العدد 137 (تموز/ يوليو 1990) ص40‏
            4-المصدر نفسه ، ص41‏
            5-الدكتور /محمد عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1979-ص475.‏
            6-الدكتور /أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية (انجليزي- فرنسي- عربي)، بيروت، مكتبة لبنان، 1987، ص412‏
            7-الدكتور جميل صليبا، المعجم الفلسفي، لبنان، بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1978- الجزء الأول، ص218‏
            8-انظر: Firth : Elemints and Social Organization .London .. 1951.P.32..‏
            9-نقلاً عن الدكتور عاطف غيث، قاموس علم الاجتماع، ص444‏
            10-عالجنا هذه المسألة في دراستنا الموسومة "عقدة التخلف أو الاقتصاد متعدد الأنماط"، "دراسات عربية" السنة السابعة عشرة، (تشرين الأول/ أكتوبر 1981)، ص74-81، والتي نعتمد عليها في معالجتنا الراهنة لمفهوم "الاقتصاد متعدد الأنماط".‏
            11-لمزيد من التفصيلات نحيل القارئ إلى: س. تولبانوف، أبحاث في الاقتصاد السياسي للبلدان النامية، موسكو 1969(بالروسية)، أ. ليفكوفسكي، البنية الاجتماعية للبلدان النامية، موسكو 1978 (بالروسية).‏
            12-هـ. مينيت Menet. H، اقتصاديات الأقطار النامية، ترجمة ميشيل عيلبوني، وزارة الثقافة السورية، سلسلة الفكر الاقتصادي رقم 3، دمشق 1987 ص96-97‏
            13-ف.ل. تياغوننكو، ك.م. فارنستوف، م.ف. دانيلوفتش وآخرون، التركيب الطبقي للبلدان النامية، ترجمة الدكتور /داود حيدو ومصطفى دباس، منشورات وزارة الثقافة السورية، ط2، دمشق، 1974، ص15-16.‏
            14-اليكسي ليفكوفسكي، البنية الاجتماعية للبلدان النامية، موسكو 1978، ص13 (بالروسية).‏
            15-المصدر نفسه، ص17‏
            16-بيريوبراجنسكي، أرنست ماندل، شارل بتلهايم وآخرون، مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية، مقالة "مشكلات الاقتصاد الانتقالي" لبتلهايم، ترجمة فواز طرابلسي، بيروت، دار الطليعة، ط2، شباط، 1971، ص242-301‏
            17-الدكتور عبد العزيز عبد اللطيف الزيدان، "إشكالية التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية والانتقالية (مدخل في منهج التحليل)، "دراسات عربية"، السنة الخامسة والعشرون"، العدد 6 (نيسان/ ابريل، 1989)، ص92.‏
            18-مجلة "آسيا اليوم"، العدد الرابع لسنة 1979، موسكو، ص26 (بالروسية).‏
            19-الدكتور /أحمد زكي بدوي، معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية، ص384‏
            20-ج.م البرتيني، التخلف والتنمية في العالم الثالث، بيروت، دار الحقيقة، 1980-ص138.‏
            21-الدكتور/ محمد الجوهري، مقدمة في علم اجتماع التنمية، ط2 دار الكتاب للتوزيع، 1979- ص166‏
            22-المصدر نفسه، ص166-167‏
            23-ج.م البرتيني، التخلف والتنمية في العالم الثالث، ص20‏
            24-الدكتور /أمير اسكندر، "التبعية البنيوية، محاولة لفهم حركة التطور الاجتماعي -الاقتصادي للبُنيات العربية المعاصرة"، مجلة "المنار"، السنة الأولى العدد 3 (آذار /مارس 1985)، ص68.‏
            25-انظر: د. ابراهيم سعد الدين، "حول مقولة التبعية الاقتصادية العربية، "المستقبل العربي" السنة الثانية، العدد 17 (تموز/ يوليو 1980)، ص7‏
            26- انظر: د. ابراهيم سعد الدين، " حول مقولة التبعية والتنمية الاقتصادية العربية"، " المستقبل العربي"، السنة الثانية، العدد 17( تموز/ يوليو 1980)، ص7.‏
            27-د. أمير اسكندر، المصدر السابق، ص70‏
            28-المصدر نفسه‏
            29-المصدر نفسه.‏
            30-انظر: د. فتح الله ولعلّو، الاقتصاد العربي والمجموعة الأوروبية، الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1982، ص264.‏
            31-المصدر نفسه، ص269‏
            32-الدكتور/ مصطفى العبد الله، "حدود التنمية في أقطار الوطن العربي"، "دراسات عربية"، السنة الخامسة والعشرون، العدد 1 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1988)، ص97.‏
            33-المصدر نفسه، ص89‏
            34-خيري عزيز، "الاستنتاجات العملية للمفهوم الماركسي للتنمية في مصر"، "دراسات عربية"، السنة السابعة عشرة، العدد 7، (أيار/ مايو 1981)، ص66-67‏
            35-المصدر نفسه.‏
            36-فخري لبيب، تنمية لا رأسمالية أم رأسمالية دولة"، الطليعة، عدد كانون الثاني/ يناير، 1976-ص99‏
            37-المصدر نفسه.‏
            38-الدكتور /فؤاد مرسي، "سيطرة علاقات الانتاج الرأسمالية"، "الطليعة" عدد كانون الأول/ ديسمبر 1975، ص112.‏
            39-الدكتور/ علي خليفة الكواري، "نحو فهم أفضل للتنمية باعتبارها عملية حضارية"، في حسين عادل (وآخرون)، التنمية العربية: الواقع الراهن والمستقبل، سلسلة كتب المستقبل العربي، (6)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1984، ص70.‏
            40-جاسم خالد السعدون، "دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية"، "المستقبل العربي"، السنة الحادية عشرة، العدد 120 (شباط/ فبراير 1989)، ص76.‏
            41-نقلاً عن المصدر نفسه، ص77‏
            42-الدكتور /السيد عبد المطلب غانم، "إدارة التنمية المستقلة: أبعاد وتخوم جديدة"، "المستقبل العربي"، السنة العاشرة، العدد 106 (كانون الأول /ديسمبر 1987)، ص51‏
            43-ناقش هذه الإشكالية بالتفصيل الدكتور /محمد السيد سعيد في، "نظرية التبعية وتفسير تخلف الاقتصاديات العربية"، "المستقبل العربي، السنة السادسة، العدد 62- (نيسان/ ابريل 1984)، ص27-52.‏
            44-المصدر نفسه، ص50-51‏
            45-مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأمانة العامة، مجلس التعاون لدول الخليج العربية: نظامه وهيكله التنظيمي وانجازاته، الرياض، الأمانة العامة، 1987- ص137‏
            46-جاسم خالد السعدون، "دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية"، "المستقبل العربي"، السنة الحادية عشرة، العدد 120، (شباط/ فبراير 1989)، ص73‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: مُعضلات التجزئة والتأخّر وآفاق التكامل والتطـوّر

              الدراسة الخامسة التكامل الاقتصادي العربي طموح وعقبات
              مقدمة:‏
              من المتفق عليه أننا نعيش اليوم في عالم تتلاشى فيه المسافات، وتتزايد وتتشابك وتتعقد فيه العلاقات بين الدول والتجمعات في عصر الوحدات الكبيرة الأكفأ والأقوى. وقد أصبح من سمات العصر، قيام وحدات سياسية كبيرة وتكتلات اقتصادية وسياسية ضخمة، تتحرك في العلاقات الدولية بقوة وفعالية وتأثير أكبر.‏
              إن الوطن العربي يشكل وحدة اقتصادية واحدة بحكم وضعه الجغرافي وتكامل انتاجه، لأن أجزاءه جميعاً متصلة فيما بينها، وهو يكاد يكون وحدة تكوينية شبه متجانسة موقعاً وتركيباً ومناخاً ونباتاً. كما يشغل حيزاً جغرافياً ممتازاً، سواء من حيث إشرافه على ثلاثة بحار هامة هي البحر المتوسط والبحر الأحمر والخليج العربي، أو من حيث توسطه عند ملتقى قارات العالم القديم الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا، فأصبح جسراً بين هذه القارات، ومعبراً للتجارة العالمية وطريقاً للمواصلات. ويشغل رقعة عظيمة الاتساع ما بين الخليج العربي والمحيط الأطلسي.‏
              لقد أصبح التنسيق بين مختلف البلدان العربية من الأهمية الفائقة بمكان، حيث لا تستطيع هذه البلدان مواجهة متطلبات التنمية الاقتصادية من دون جهود مضنية، كما يصعب القيام بها وإنجازها بنجاح وسرعة بصورة منفردة اعتماداً على القدرات الذاتية القطرية. إذ أن حل مشكلات هذه البلدان يقابله عقبات وموانع كثيرة، منها انخفاض مستويات الانتاجية في جميع ميادين النشاط الاقتصادي تقريباً، وعدم توافر الموارد الطبيعية والمالية في كثير من البلدان العربية، وبطء النمو، وضعف الصادرات مع الاعتماد الهائل على الاستيراد، ووجود تكتلات اقتصادية كبرى وقوية بين الدول الصناعية.. الخ. لذلك أصبح التعاون الاقتصادي العربي قضية مصيرية فعلاً.‏
              تهدف هذه الدراسة إلى تقديم لمحة عن الأسس العامة والشروط الضرورية للتكامل الاقتصادي ثم تحليل تجربة التكامل الاقتصادي العربي من أوائل الستينيات إلى بداية العقد التاسع من القرن الحالي، ورسم الملامح العامة للعمل الاقتصادي العربي المشترك (إيجابياته وسلبياته)، والتوقف عند تجربة التجمعات الإقليمية العربية (مجلس التعاون لدول الخليج العربية واتحاد المغرب العربي)، من حيث أنها أحداث محاولات التكامل العربي، وعرض الاتجاهات المختلفة بخصوص التجمعات المذكورة. ونفرد في الدراسة حيزاً كبيراً لبحث العقبات والعوائق، التي برزت في طريق التكامل الاقتصادي العربي المنشود، حيث صنفت الدراسة تلك العوائق إلى مجموعتين، هما: العوائق الاقتصادية والعوائق السياسية، وتتفرعان بدورهما إلى عدد من المشكلات والمظاهر والعصوبات. وفي ختام الدراسة نقدم جملة من المقترحات التي يمكن أن تسهم في تفعيل التكامل الاقتصادي العربي.‏

              أولاً -الأسس العامة للتكامل الاقتصادي:‏
              يتمثل التكامل الاقتصادي بسلسلة عمليات متعاقبة يفضي كل منها إلى حالة معينة من حالات التكامل، التي يمكن أن تقوم بين مجموعة من الكيانات الاقتصادية ويكمن جوهر العمليات التكاملية في تعبيرها عن تكتل حقيقي، ينشأ قصداً بين مجموعة أقطار آخذة بالتكامل. وحالات التكامل هذه لا تنجح إلا بوجود مقومات مادية، هي بمثابة أسس يقوم عليها بنيان التكامل. ومن بين القواعد والشروط، التي لا بد من توافرها لتحقيق التكامل: وجود فوائض ونواقص في الموارد والمقومات الاقتصادية لدى أطراف التكامل، أن تقوم الأطراف المعننية بحماية تكاملها من المنافسات الأجنبية بإقامة سياج جمركي وغير ذلك من الإجراءات القانونية، أن تكون المسيرة التكاملية بين مجموعة من الدول المتمتعة بسيادتها الوطنية التامة على مواردها الاقتصادية وعلى صعيد علاقاتها بأطراف أخرى، وأن توزع التكاليف والتبعات وكذلك الفوائد بالتساوي ورضا الأطراف كلها(1).‏
              ويلح بعض علماء الاقتصاد على مجموعة من السياسات والإجراءات، التي من شأن تطبيقها إيصال العملية التكاملية إلى أهدافها المرسومة، وفي مقدمة تلك التحركات: إزالة الحواجز الجمركية وتوحيد تعرفاتها وقوانينها، حرية انتقال قوى الإنتاج المادية والبشرية بين الدول الأعضاء، تنسيق السياسات الاقتصادية وصولاً إلى توحيدها، بحيث تفضي إلى التكامل التام، ومن ثم إلى أعلى أشكال الاندماج الاقتصادي(2).‏
              ثانياً- تجربة التكامل الاقتصادي العربي:‏
              شهدت خمسينيات هذا القرن اتجاهاً قوياً نحو التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية. ففي ظل الجامعة العربية وفي إطار معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي (1950) تم إنشاء "المجلس الاقتصادي العربي" للنهوض باقتصادات البلاد العربية واستثمار مرافقها الطبيعية وتسهيل تبادل المنتجات الوطنية الزراعية والصناعية. وقد أقر المجلس عدداً من الاتفاقات بهذا الخصوص، ففي عام 1953 وقعت الدول العربية "اتفاقية تسهيل التبادل التجاري وتنظيم تجارة الترانزيت". وفي أواخر الخمسينيات أعدت اللجنة الاقتصادية للوزراء العرب مشروعاً كاملاً للتعاون الاقتصادي انبثق منه "مجلس الوحدة الاقتصادية العربية" الذي أقرته اتفاقية حزيران/ يونيو 1962. وبهذا الصدد يرى الدكتور محمد محمود الإمام (وزير التخطيط المصري سابقاً) أن سنة 1960 كانت فاصلة في مسيرة التكامل الاقتصادي العربي، ففيها:‏
              أ-اكتسب المجلس الاقتصادي العربي كياناً ذاتياً ساعد على اتساع نطاق عضويته وعلى امتداد أعماله إلى محاور جديدة للعمل.‏
              ب-أنشيء مجلس مؤقت للوحدة الاقتصادية عكف على إعداد الدراسات اللازمة لتنفيذ المرحلة الأولى منها.‏
              جـ- تقرر إنشاء مكتب فني دائم لأغراض توجيه الاقتصاد العربي ضمن جهاز مجلس الوحدة.‏
              د-تقرر التوجه نحو التنسيق القطاعي، بدءاً بقطاعي الصناعة والتجارة.‏
              هـ-في تلك السنة بدأ نشاط تخطيطي انمائي في كثير من الأقطار العربية، شهد بداية فكرة التخطيط الشامل، الذي حل محل برامج استثمارية جزئية جرى العمل بموجبها خلال الخمسينيات(3).‏
              وتعد "اتفاقية الوحدة الاقتصادية" من أهم الاتفاقات التي أبرمت في نطاق الجامعة العربية. وقد بدأ التفكير بعقد هذه الاتفاقية من سنة 1956، ثم ظل المشروع قيد المناقشات والتداول عدة سنوات (إلى عام 1962) قبل أن يوقع ممثلو سبع دول عربية عليه. وفي عام 1964 فقط أقرت الاتفاقية، التي نصت على ضمان حرية التنقل لعناصر الانتاج (الأشخاص، الرساميل، وحرية الإقامة والعمل)، وعلى جعل الدول الأعضاء منطقة جمركية واحدة، وتوحيد سياسات الاستيراد والتصدير وأنظمة النقل والترانزيت وتنسيق السياسات الاقتصادية (المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة الداخلية) والنقدية والمالية. ومن جهة أخرى، تعهدت الأطراف الموقعة "بأن لا تصدر في أراضيها أية قوانين أو أنظمة أو قرارات إدارية تتعارض في حكمتها مع هذا الاتفاق أو ملاحقه"(4).‏
              ومن أجل تحقيق أهداف اتفاقية الوحدة الاقتصادية تم إنشاء "السوق العربية المشتركة" (آب 1964)، التي لم يترتب على قيامها النتائج المرجوة، بسبب الصفة غير التكاملية لهياكل إنتاج الأقطار الأعضاء، وعدم قيام الدول بتنفيذ ما التزمت به، وبعمل مجلس الوحدة الاقتصادية العربية على أن تدخل جميع الدول الأعضاء في اتفاقية الوحدة الاقتصادية في السوق العربية المشتركة، التي ما زالت حتى الآن مقتصرة على أربع دول فقط (سورية ومصر، والعراق، والأردن)، كما يعمل أيضاً على أن تستكمل هذه الدول مقومات السوق المشتركة بمعناها الفني الكامل.‏
              من الوسائل التي اتبعها مجلس الوحدة الاقتصادية باتجاه التنسيق والتكامل الاقتصادي إنشاء الاتحادات النوعية والشركات المشتركة كمدخلين للتكامل الإنتاجي. وفي مجال الزراعة والغذاء تم إنشاء اتحادات لمنتجي الأسماك والصناعات الغذائية وللسكر، والشركة العربية لتنمية الثروة الحيوانية. كما قام بعدد من الدراسات الهادفة إلى تكريس التعاون العربي لعل أهمها برنامج مراحل وصيغ التنسيق والتكامل الزراعي.‏
              على أن العمل العربي المشترك خطا خطوة مهمة في الاتجاه المؤسسي والتمويلي بإنشاء "الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي" الذي صدر قرار الجامعة العربية بإقامته في عام 1968. حيث قضت اتفاقية الصندوق "بمنح الأفضلية في منح القروض والمساعدات للمشروعات العربية المشتركة والمشروعات الاقتصادية الحيوية للكيان العربي"(5).‏
              وفي عام 1970 أنشئت "المنظمة العربية للتنمية الزراعية"، وكان إنشاؤها يستند إلى: إدراك البلدان العربية للمكانة التي تحتلها الزراعة في البنيان الاقتصادي العربي.. وبأن الموارد الزراعية في البلدان العربية لم تستغل استغلالاً كاملاً.. وعلى تشابه الظروف والمشكلات الزراعية.. وعلى أهمية التنسيق بين خطط التنمية الزراعية للوصول إلى التكامل الزراعي بين الأقطار العربية.. الخ.‏
              وفي عام 1976 وقع 13 بلداً عربياً على اتفاقية إنشاء "الهيئة العامة للاستثمار والإنماء الزراعي" وعلى النظام الأساسي لها والاتفاق الخاص بنشاط الهيئة في السودان (لمدة عشر سنوات). وهو أول برنامج عربي تتكامل فيه المدخلات المختلفة التي تتطلبها التنمية الزراعية وأنواع التمويل الميسر والتجاري الاستثماري التي تتطلبها عناصر البرنامج المختلفة.‏
              وفي عمّان أقر مؤتمر القمة العربية المنعقد في عام 1980 ميثاق العمل الاقتصادي القومي العربي، الذي تضمن، بين أمور أخرى، "التزاماً بمبادئ التكامل الاقتصادي القومي والاعتماد الجماعي على الذات"... و"تحييد العمل الاقتصادي المشترك عن الخلافات العربية وإبعاده عن الهزات والخلافات السياسية الطارئة".. والتكفل "بمبدأ التعامل التفضيلي الكامل للسلع والخدمات وعناصر الإنتاج ذات الهوية العربية المؤكدة إنتاجاً وملكية وإدارة وعملاً".. و"منح المعاملة التفضيلية التامة للمشروعات العربية المشتركة ذات الطبيعة الإنتاجية والتكاملية"(6).‏
              وقد أقر المؤتمر "استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك"، التي من أهدافها تحقيق "التكامل الاقتصادي على درب الوحدة العربية.. والارتباط العضوي الاقتصادي، لا سيما الإنتاجي منه.. وإقامة نظام اقتصادي عربي جديد يتسم بالتكامل المحقق للتنمية الشاملة، ويمثل نمطاً من تقسيم العمل داخل الوطن العربي"(7).‏
              ومن الاتفاقيات الهامة التي أقرها مؤتمر عمان "الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الأقطار العربية"، التي تستهدف "تعزيز التنمية الشاملة والتكامل الاقتصادي العربي.. وتوفير مناخ ملائم للاستثمار، لتحريك الموارد الاقتصادية العربية، في ميدان الاستثمار العربي المشترك.. وتسهيل انتقال رؤوس الأموال العربية وتوظيفها داخل الدول العربية"(8).. مع توفير الضمانات الكافية للحفاظ على حقوق المستثمرين في أموالهم، وحرية الانتقال والإقامة والاستثمار في أي إقليم عربي.. الخ.‏
              ونود الإشارة هنا إلى مجموعة من المؤسسات الانمائية القومية، التي بلغ رأسمالها حوالي 13 مليار دولار في نهاية عام 1989. وأولى هذه المؤسسات "الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي" (مقره الكويت)، الذي أنشيء في عام 1967، وتشارك في عضويته كل البلدان العربية. وقد تضاعف رأسماله عدة مرات حتى بلغ نحو خمسة مليارات دولار في نهاية 1989. وتقتصر عملياته على البلدان العربية التي تحتاج إلى الدعم المالي والفني، ويقدم قروضاً ميسرة لدعم المشاريع التنموية في القطاعات الاقتصادية المختلفة. وهناك أيضاً مؤسستان أخريان يمكن ادراجهما من الناحية العملية ضمن هذه المجموعة، وإن كانت الصفة الدولية تنطبق عليهما أكثر من القومية، وهما "البنك الإسلامي للتنمية" (مقره جدة) الذي يبلغ رأسماله نحو 2500 مليون دولار، و"صندوق الأوبك للتنمية الدولية" (مقره فيينا/ النمسا) برأسمال قدره 3500 مليون دولار. وتستمد كلتا المؤسستين أكثر من 50 بالمئة من مواردهما من البلدان العربية، ويغطي نشاطهما البلدان العربية جميعاً إضافة إلى دول أخرى غير عربية. أما "المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في افريقيا" (ومقره الخرطوم" فهو مؤسسة قومية أنشأتها البلدان العربية برأسمال قدره 2500 مليون دولار، لتمويل مشاريع التنمية في الدول الافريقية. ومن المؤسسات القومية المالية الهامة "صندوق النقد العربي" الذي يبلغ رأسماله نحو مليار دولار، وهو مؤسسة تهدف إلى دعم موازين مدفوعات البلدان العربية أعضاء حصراً. حيث يفترض أن يقوم بدور المصرف المركزي العربي، الذي يماثل ما يقوم به من دور "صندوق النقد الدولي" بواشنطن.‏
              وقد أنشأ مجلس التعاون لدول الخليج العربي في عام 1992م "برنامج مجلس التعاون لدعم جهود التنمية الاقتصادية في الدول العربية" برأسمال قدره عشرة مليارات دولار أمريكي"(9).‏
              وتعد قروض الصناديق المشار إليها إضافة إلى ما تقدمه الصناديق العربية الوطنية الأخرى (مثل الصندوق الكويتي وصندوق أبو ظبي والصندوق السعودي وغيرها) أكثر يسراً من غالبية القروض الانمائية أو التجارية التي تحصل عليها الدول العربية من الدول الصناعية. وقد شمل النشاط الاقراضي لهذه المؤسسات في الوطن العربي 19 بلداً عربياً، حيث قدمت نحو ألف قرض بقيمة إجمالية قدرها 18 مليار دولار منذ بداية نشاطها.‏
              وقد ساهمت هذه الصناديق في دعم اتجاهات التكامل الاقتصادي العربي وجهوده، إذ مول "الصندوق العربي للإنماء" نحو 22 مشروعاً عربياً مشتركاً شملت 15قطراً عربياً(10).‏
              إلا أن ما يلفت النظر هو الفارق الكبير والبون الشاسع بين مستوى الطموحات التي عبرت عنها سلسلة القرارات والهيئات العربية المشتركة ومستوى المنجزات المتحققة. وفي ظل الاخفاق في تحقيق الأهداف المرسومة لعملية التكامل الاقتصادي العربي، واستمرار التحديات المتمثلة في التناقضات الهيكلية وسيادة الأنماط التنموية القطرية، والثنائية، إضافة إلى المستجدات والمشاكل ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والأمنية في الوطن العربي، وقد يكون ذلك كله بسبب طموح الأهداف التي تضمنتها تلك المقررات والوثائق، وهو طموح لم يأخذ بالاعتبار حقائق الواقع المعقد وتشابك العلاقات، والمصالح وردود الأفعال في الظروف الحالية للوطن العربي، والتي لم تختلف كثيراً منذ نصف قرن تقريباً.‏
              لقد وجهت إلى جهود التكامل الاقتصادي العربي مجموعة من الانتقادات والملاحظات التي يمكن إجمالها ضمن الأفكار والسياقات التالية:‏
              1-إن أول تجسيد عربي رسمي لرغبة البلدان العربية في تنسيق اقتصاداتها وتكاملها تمثل -كما أسلفنا- باتفاقية الوحدة الاقتصادية وقيام مجلسها. ولا شك أن المبادئ التي سعت إليها هذه الاتفاقية، تصلح لأن تكون في حال التطبيق أساساً كافياً لسوق مشتركة تتطور في إطارها عملية التنسيق والتكامل في جانبها التبادلي بصورة مباشرة وشاملة، وصولاً إلى مستويات من الاعتماد الذاتي الجماعي في التنمية والإنتاج والاستثمار.‏
              لكن مجلس الوحدة الاقتصادية لم يتمكن من إقامة "السوق العربية المشتركة". إذ لم يتم توفير الأدوات والوسائل المؤسسية اللازمة من أجل وضع تلك المبادئ والتوجهات والقرارات موضع التطبيق، من حيث تكوين الهيئات التنفيذية والإشرافية والوصائية والمحاسبية، ومن حيث إيجاد الصيغ العملية والواقعية، التي يتحقق من خلالها مشاركة عادلة في المنافع وفي المخاطر والتبعات، الأمر الذي يتطلب إقامة نظام مؤسسي دائم لمعالجة الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن ذلك، ولحسم النزاعات والخلافات التي تنشأ عن تضارب المصالح(11).‏
              2-صحيح أنه أقيم عدد كبير من المؤسسات العربية المشتركة، سواء مؤسسات التمويل الانمائي أو شركات وهيئات الاستثمار أو المؤسسات الفنية.. الخ، إلا أن الإمكانيات والقدرات التي رصدت لها لا تتناسب مع الحاجات الضخمة، التي تتطلبها قضية الجهود التكاملية كمرتكز من شأنه تأمين تفاعل القدرات العربية وتوزيعها بشكل يخدم أهداف الأمن الاقتصادي العربي الشامل. وعلى الرغم من تعاظم كمية التوصيات والقرارات الخاصة بالاستثمارات المشتركة في الميادين الاقتصادية الأساسية، إلا أن الانجازات الفعلية بقيت إلى الآن محصورة في نطاق ضيق. إذ ما زالت مقتصرة على مجالات مضمونة أو شبه مضمونة.‏
              3-على صعيد التجارة العربية البينية، التي يفترض أن تجسد عملية التكامل الاقتصادي بين الأقطار العربية، والرامية إلى إزالة الحواجز الجمركية والوصول إلى مستوى الاكتفاء الذاتي قومياً، وبالتالي التحرر من وطأة التبعية للخارج، فإن المؤشرات الثابتة والإحصاءات الرسمية المنشورة عن التبادل التجاري العربي تبين أن مستوى التكامل بين الاقتصادات العربية ما زال متواضعاً للغاية. والواقع أنه حتى بعد القمة العربية المنعقدة بعد عام 1980م، والتي كرست بشكل رئيس لمناقشة المواضيع الاقتصادية ووضعت "تصوراً جماعياً عربياً جديداً للعلاقات الاقتصادية العربية في المستقبل، مبنياً على الخبرة المتراكمة خلال خمس وثلاثين سنة خلت"(12)، والتي وضعت "استراتيجية شاملة للعمل الاقتصادي العربي المشترك".. فإن التجارة العربية البينية ما زالت تواجه انخفاضاً متعاظماً سواء في قيمتها المطلقة أو في نصيبها في مجمل التجارة العربية الخارجية. حيث "كان نصيبها خلال الفترة الواقعة ما بين 1980م و1986م أقل من 8% ولم يتجاوز 8.27% بالنسبة للصادرات العربية البينية، و 6.7 بالنسبة للواردات البينية خلال تلك الفترة"(13).‏
              ومن جهة أخرى فقد أفادت النشرة الشهرية الصادرة عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن الاستثمارات العربية البينية خلال عام 1993 تراجعت بنسبة 36.3 بالمئة، إذ قدرت في العام المذكور بنحو 308.1 مليون دولار مقابل 483.8 مليون دولار عام 1992(4).‏
              4-أما بشأن انتقال رؤوس الأموال الخاصة بين الأقطار العربية وتأثير ذلك في التكامل الاقتصادي العربي، فإنه قد حصل على امتداد عقد الستينيات وما تلاه، أن انسابت مقادير وفيرة، غير معروفة الحجوم، من رؤوس الأموال العربية الخاصة باتجاه لبنان لتجد لنفسها توظيفات استثمارية مجزية من خلال السوق المالية في بيروت، حيث تتوافر حرية التداول والتوظيفات دون قيود. وبعد أن تعاظمت كميات رؤوس الأموال العربية إثر تصاعد إيرادات النفط، تكونت في بعض الأقطار العربية أسواق مالية تعمل في هذا الاتجاه (أهمها في السعودية والكويت والإمارات)، خصوصاً لاستدراج رؤوس الأموال وتوظيفها في الأسواق العربية (الأردن وتونس ومصر) والعالمية. لكن حجم الأموال المستثمرة في البلدان العربية تبقى أقل بكثير مما هو متداول وموظف في الأسواق العالمية. فقد بينت إحدى الدراسات الصادرة عن المؤسسة العربية لضمان الاستثمار أن رؤوس الأموال العربية الخاصة التي انتقلت من أقطارها واستقرت للاستثمار في أقطار عربية أخرى، كانت حوالي 327 مليون دولار إلى غاية عام 1985. وكان مجموع الودائع المصرفية الخارجية للقطاع الخاص (من غير المصارف) لبعض الأقطار العربية غير الخليجية، قد تزايد هو الآخر من حوالي 9 مليارات دولار عام 1981 إلى 17 مليار دولار عام 1987. ولذا فإن رؤوس أموال القطاع الخاص في الخارج تكون قد بلغت 179 مليار دولار(15).‏
              ورغم ضآلة رؤوس الأموال العربية المستثمرة في داخل الوطن العربي، فإن علاقتها الفعلية بالتكامل الاقتصادي هي علاقة ضعيفة التأثير والفاعلية، حيث تتركز في الاستثمارات العقارية (في لبنان ومصر والمغرب)، وفي المجالات السياحية.‏
              ولا يبدو من المتوقع لهذه الرساميل العربية المغتربة أن تبدأ "رحلة العودة" نحو الوطن العربي إلا بعد أن يبرهن المستقبل أن المناخ الاستثماري العربي، كما يراه القطاع الخاص، قد صار أكثر جدوى وأكثر أمناً من نظيره في الخارج، أي أن ذلك رهن بحصول "تحولات" ذات فاعلية كافية لتحسين هذا "المناخ العربي" الاستثماري. ويبدو أن الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية (المشار إليها قبلاً) قد حاولت تلافي كل العوائق والمصاعب والمتاعب التي يشكو منها المستثمرون العرب، عدا تلك التي ليس في الوسع تلافيها أساساً، مثل الأمور المتعلقة بحالات عدم الاستقرار السياسي في البلد المضيف، والتوترات المفاجئة التي تتسم بها العلاقات السياسية العربية، الأمر الذي يعقبه عادة إغلاق الحدود وقطع الطرق ووقف التعامل على الصعد كافة، وفي طليعتها المشاريع الاقتصادية الخاصة أو حتى المشتركة.‏
              5-أما بخصوص انتقال القوى العاملة بين الأقطار العربية، فإنه من الناحية النظرية يمكن القول إن حركة انتقال القوى البشرية المنتجة أو القادرة على الإنتاج، تمثل شكلاً من أشكال التكامل الاقتصادي العربي في مجال تبادل الموارد والطاقات البشرية، إذا كان يجري وفق خطة تكاملية شاملة وطويلة المدى، ووفق شروط وأحكام وترتيبات ناظمة لحرية انتقال تلك القوى لمصلحة قومية واضحة الأبعاد والغايات. لكن الأبحاث والدراسات والتحليلات المكرسة لمناقشة ظاهرة انتقال القوى العاملة العربية، وتدفقها باتجاه أقطار معينة تظهر أن ذلك لم يحصل في ظل أوضاع تكاملية مدروسة ومتفق عليها بصورة دقيقة بين بلدان الإرسال وبلدان الاستقبال. كما أنه من الملاحظ ازدياد تدفق العمالة الوافدة الأجنبية -خصوصاً الآسيوية- على الدول العربية.‏
              ويرى الدكتور نادر فرجاني أن أهم الأسباب، المؤدية لزيادة استخدام العمالة الآسيوية هو اعتبارات تعظيم الربح في القطاع الخاص، وهو القطاع الأساسي في التشغيل. فلما كان القطاع الخاص ساعياً إلى تحقيق أكبر ربح ممكن، فإنه لا يتقيد بضرورة إيجاد مستخدميه للغة العربية، كما هو الحال في القطاع الحكومي، ولا بالالتزام بالأولويات القانونية التي تشعر الحكومات بدرجة التزام أكثر في تطبيقها، فقد فضل دائماً العمالة الآسيوية من شبه القارة الهندية. إذ أن الوافد منها على استعداد لقبول أجور أقل وتحمل ظروف عمل أقسى وأوضاع معيشية أسوأ من العامل العربي. وقد تدعم استخدام العمالية الآسيوية بالرغم من أن تحقق مصلحة صاحب العمل الفرد هنا متناقض مع مصلحة المجتمع التي يضر بها تكوين جاليات أجنبية كبيرة.‏
              وربما بدا من المنطقي على مستوى المجتمع أن استخدام أيد عاملة أجنبية من فئات متعددة يمثل وضعاً أكثر راحة وأقل جلباً للمتاعب من استخدام الأيدي العاملة العربية التي قد تنزع للاستقرار والتأثير في المجتمع. إذ أن احتمال اندماج الآسيويين في البلاد أقل بكثير من العرب الوافدين الذين قد يتمكنون بحكم الثقافة المشتركة واللغة والتاريخ والعادات والدين من التداخل في مجريات الحياة العادية والاجتماعية والسياسية أيضاً، وقد تتعرض الدولة المضيفة لضغوط قد يصعب تجاهلها من البلدان العربية التي لها جاليات عمالية كبيرة(17).‏
              ويبدو أن سوق العمالة العربية تكتنفها أوجه قصور مختلفة تحرمها سمة التكامل تتمثل في الآتي:‏
              -عدم وجود تنظيمات فعالة لتوريد العمالة من البلاد العربية المصدرة لقوة العمل.‏
              -نقص العمالة الماهرة على مستوى الوطن العربي ككل. فلا يوجد فائض في العمالة الماهرة في الدول المصدرة للعمالة. وقد أدى الطلب على هذا النوع من العمالة في الدول العربية الخليجية -مثلاً- إلى ارتفاع أجورها في بلد المنشأ بشكل واضح.‏
              وهناك نوعية من العمالة الماهرة باتت مطلوبة في البلدان العربية الخليجية ولا تتوافر أصلاً في البلدان العربية غير النفطية، ويعود هذا إلى استخدام تقنيات متقدمة في البلدان العربية الخليجية غير متوافرة في البلدان العربية الأخرى.‏
              أما بالنسبة لأسلوب مجمعات العمل، والعمالة المرتبطة به، فيتمثل في التزام الشركات المنفذة بتوفير العمالة اللازمة للمشروع ومستلزماتها الأخرى طوال فترة تنفيذه، وفي الغالب تقيم العمالة الوافدة في معسكرات منعزلة قريبة من موقع المشروع تحت التنفيذ. ومن مزايا هذا الأسلوب أنه يضمن أن تكون العمالة الوافدة لتشييد المشروعات الضخمة مؤقتة، ويؤدي لتقليل مخاطر التلوين السكاني والحضاري. كما يذكر أن مجتمعات العمل تلك أثبتت كفاءة غير عادية في إنجاز المشروعات الموكولة إلى الشركات القائمة عليها في توقيتات قياسية وبمستويات انجاز مرتفعة وأن هذا الأسلوب ربما كان الوحيد الملائم للمشروعات الانشائية الضخمة(18).‏
              والواقع أن انتقال القوى العاملة العربية لم يجر في إطار تكامل اقتصادي من أي نوع، ذلك لأن الاتفاقيات العربية الجماعية، التي صدرت تباعاً منذ عام 1967م بقصد تنظيم هذا الانتقال وترشيده، بحسبانه واحداً من الوسائل العديدة لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي، لم تلق قبولاً إلا عند قليل من الأقطار العربية (المصدرة للعمالة)، وبذلك بقيت سوق العمل العربي "سوق تشغيل" فقط.‏
              والنتيجة أن القوى العاملة العربية لم تمارس عملياً إلا تأثيراً تكاملياً محدود النطاق، شأنها في ذلك أقل من شأن العمالة الآسيوية المنافسة. فالتأثير التكاملي بقي ناقصاً، وهو ذو طبيعة مؤقتة تجعله قابلاً للزوال بمجرد عودة العمال إلى أقطارهم الأصلية(19).‏
              6-وبخصوص المشروعات العربية المشتركة، فإن الدارسين والمختصين في هذا المجال يؤكدون أن الدور التكاملي للمشروعات العربية المشتركة، بجملته ما زال محدوداً وتعتريه ارتباكات واسعة حيال الفجوات الكبيرة والممتدة في صلب التراكيب الكيانية للاقتصادات العربية(20). وفي هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي العربي يوسف صايغ، بأنه "رغم أن المنظمات والاتفاقيات التي تبين أنها ضرورية للعمل الاقتصادي العربي المشترك قد شكلت أو دخلت حيز التطبيق، فإن جزءاً هاماً من نشاط القطاع الاقتصادي العربي المشترك هو عفوي لحد كبير في الوقت الحاضر. والأمثلة، هي الحركة الكبيرة لقوة العمل العربية عبر الحدود القطرية، وحركة رأس المال من الأقطار المصدرة للنفط إلى الأقطار التي تعاني من نقص في رؤوس الأموال. ورغم ما تستحقه هذه الحركة من ثناء، فإن فعاليتها أقل من الممكنة، لأنها لا تخضع لخطة أو لنظام الأولويات داخل استراتيجية شاملة وضعت لخدمة الهدف المزدوج للتنمية العربية والأمن العربي"(21).‏
              ثالثاً- تجربة التجمعات الاقليمية العربية:‏
              يرى الوحدويون العرب أن من أكبر عوائق التكامل الاقتصادي العربي، وبالتالي أمام تحقيق الوحدة العربية -اختلاف الأنظمة السياسية القائمة في الأقطار العربية، والتناقض الجلي في سياساتها الاقتصادية وتوجهاته الاجتماعية. ويربطون ذلك كله بالدولة (أو الدول) القطرية المنبثقة من التجزئة والقائمة عليها أساساً. ويعتقد عدد كبير من الاقتصاديين والساسة أن مجرد التشابه والتقارب في النظم والتوجهات السياسية، والماثل في الإجراءات والبرامج والخطط الاقتصادية من شأنها تحقيق التكامل الاقتصادي أولاً، وبلوغ التوحد السياسي المنشود ثانياً. لكننا لو رجعنا إلى واقع الحال لرأينا أقطاراً عربية ذات نظم سياسية متشابهة لم تتوحد، وأقطاراً أخرى توحدت فعلاً فقام فيها نظام سياسي واحد لكنه انتهى إلى انفصال وصراع وتشرذم، وأقطاراً أخرى اختلفت -نظرياً على الأقل- نظمها السياسية ولكنها حاولت التوحد والتكامل وعملت على الاقتراب من بعضها. ويتساءل أحد الاقتصاديين العرب حول ما إذا كان اختلاف النظم السياسية بين الأقطار العربية هو الذي يقف عائقاً في حد ذاته أمام مثل هذا التكامل؟ وهل اختلاف الأسماء يدل فعلاً على اختلاف المسميات؟ وهل هناك اختلاف حقيقي بين النظم السياسية العربية بحيث يقف حائلاً جدياً دون تحقيق الهدف التكاملي المنشود؟ أم أن هناك شيئاً آخر يختلف تمام الاختلاف عن عامل "النظم السياسي" هو الذي يمثل العائق الحقيقي والفعلي أمام الهدف المذكور، ويشل من القدرة على تحقيقه؟ وبالتالي هل يجب، وبالضرورة، أن تشكل "القطرية" حاجزاً أمام "التكامل القومي" اقتصادياً وسياسياً؟ وهل "القطرية" تعني هي نفسها "التجزئة" أم أنها مجرد عامل تكريس التجزئة على أساسه، فيشار إليها بـ "اختلاف النظم السياسية"؟‏

              وإذا كانت "القطرية" و"التجزئة" و"اختلاف النظم السياسية" تقف حائلاً دون التكامل الاقتصادي القومي، فما هو موقف "التجمعات أو التكتلات الإقليمية" العربية من ذلك؟ هل ستكون عاملاً مساعداً وفعالاً في تحقيق التكامل الاقتصادي القومي المنشود؟ وهل ستكون عاملاً حاسماً في التقريب والتوحيد أم عوامل "تجزئة" وهل تكون في النهاية "عوامل تكامل اقتصادي" تدفع، ولو تدريجياً، وعلى المدى الأطول، نحو شيء من الاتساق القومي اقتصادياً وسياسياً قد يقود بالتالي إلى تكامل اقتصادي فعال وبالتالي نحو وحدة اقتصادية حقيقية؟(22).‏
              هذه بشكل عام معظم التساؤلات التي بدأت تطرح بقوة منذ أن ظهر إلى الوجود "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" (عام 1981م)، ثم "مجلس التعاون العربي" الذي أنشيء هو "اتحاد المغرب العربي" في أسبوع واحد من أواسط شهر شباط من سنة 1989م.‏
              ولا يدخل في إطار هذه الدراسة تحليل عوامل نشأة هذه التجمعات ولا سرد الخطوات التي سارت عليها، ولا حتى تقويم نشاطاتها السياسية والدولية والإقليمية، وإنما سنتوقف عند مناقشة دور هذه التجمعات في عملية التكامل الاقتصادي (موضوع هذه الدراسة)، مكتفين بالحديث عن تجربة مجلس التعاون الخليجي، من حيث أنه التجمع الأقدم (خمسة عشر عاماً)، والأطول خبرة والأكثر استقراراً وفاعلية.. اقليمياً، وعلى المستوى العربي أيضاً. ناهيك عن انفراط عقد "مجلس التعاون العربي" إبان الاجتياح العراقي للكويت. وقد تجمعت لدى الباحثين العرب خبرة ومعطيات ومؤشرات تؤهلهم للحكم على تجربة مجلس التعاون الخليجي اقتصادياً، على الأقل بالنسبة للدول في هذا التجمع. أما بخصوص "اتحاد المغرب العربي"، فمن الصعب الحكم بشأنه في هذه المرحلة بسبب حداثة نشأته من جهة، ونظراً لضآلة ما توافر لدينا من معلومات موضوعية عن نشاطاته الاقتصادية من جهة أخرى.‏
              ونحن نعتقد مع عدد كبير من الدارسين أن نشوء التجمعات الإقليمية العربية يعود إلى أسباب كثيرة لعل أهمها فشل الدولة القطرية في تحقيق أمنها الغذائي والعسكري والتقني والاقتصادي وفي إنجاز تنمية كفؤة ومستقلة، من جهة، والإخفاق الواضح، من الجهة الأخرى، في العمل العربي المشترك بعد مرور ما يزيد على أربعة عقود على قيام جامعة الدول العربية، سواء في جانبه الاقتصادي أو التنموي أو الأمني أو التكاملي.‏
              وقد ذهب أحد المفكرين العرب إلى "أن الدولة القطرية سوف تظل هي أساس التكوين العربي لفترة طويلة قادمة"(23)، وإلى أن هناك أمام العرب خيارين: الأول إقليمي "بمعنى الأقاليم العربية المتقاربة من بعضها جغرافياً وربما متقاربة في أمور أخرى، مثل المصالح المشتركة أو التهديد المباشر" مثل وادي النيل، وثانيهما هو "الصيغة المرنة التي تحفظ للدولة القطرية مكوناتها الآنية ولكن تقنعها عن طريق خطوات محددة مرسومة للمستقبل بالتنازل عن بعض هوامش القطرية لصالح مجموعة الإقليم(24)، مثل مجلس التعاون الخليجي. فمثل هذا التجمع الإقليمي يحقق تشابكاً إقليمياً عربياً، وبالتالي تشابكاً قومياً عربياً في المصالح هو أدوم وأبقى. فبدلاً من القفز فوق "الدولة القُطرية" وتعددها عربياً ينبغي الاعتراف بها، ولكن البناء عليها من خلال "تبني استراتيجية أخرى تعمل على إرساء شبكة من العلاقات العربية في مستوى البنيات الثقافية والإعلامية والاقتصادية، بحيث يتم ربط المجموعة العربية ربطاً لا رجعة فيه"(25).‏
              ومن الواضح أن الآراء المطروحة أعلاه تمثل اتجاهاً موضوعياً مؤيداً لقيام التجمعات الإقليمية العربية، التي لا بد أن تقوم على توافر ظروف وخيارات سياسية متشابهة وصلات خاصة بين بعض البلدان العربية تدعوها إلى إقامة روابط فيما بينها أوثق مما بينها وبين غيرها من الأقطار العربية البعيدة عنها جغرافياً أو المختلفة عنها في ظروف وخصائص معينة، مساحة وحجماً وسكاناً وتطوراً.‏
              وخلافاً لأصحاب الاتجاه الذي يرفض فكرة التجمعات الإقليمية ويرى فيها خطراً على الاتجاه الوحدوي، وبالتالي التكاملي، وسبيلاً للتفتت وتكريس التجزئة وتوسيعها إلى تجزئة إقليمية، "ومنطلقاً للتأكيد على التباين الاقتصادي والاجتماعي بين أقطار الأمة العربية، ومدخلاً لترسيخ العزلة والانقسام وتقسيم الوطن العربي إلى نواد خاصة مغلقة على أعضاء بعينهم، كالتجمع النفطي"(26)، فإن مؤيدي التجمعات الإقليمية يعتقدون "أن الاتجاه نحو الوحدة الشمولية الأيديولوجية لم يصمد للاختيار، وأنه لم يبق في الساحة -في المدى المنظور على الأقل- غير أسلوب التقارب الإقليمي الواقعي"(27)، الذي إن تحقق وتنامى فإنه سيكون مرشحاً لخلق تيار وحدوي جديد في الوطن العربي. ويرى هذا الاتجاه أن هذه التجمعات الإقليمية العربية ستترابط حلقاتها تدريجياً في دوائر أوسع من حلقة كل منها على انفراد(28).‏
              أما الاتجاه الثالث فإنه يتقبل فكرة التجمعات الإقليمية ولكنه يحذر من مخاطرها والمزالق التي يمكن أن تنتهي إليها. ولذلك فإنه يضع شروطاً وضوابط معينة لتلتزم بها تلك التجمعات خوفاً من القفز فوق هدفي الوحدة والتكامل العربي الشامل.‏
              ويتفق دعاة هذا الاتجاه مع مؤيدي التجمعات الإقليمية العربية، ولكن بشرط أن تكون عاملاً مساعداً على تحقيق التكامل الاقتصادي العربي، وليس عائقاً أمام تحقيقه إقليمياً أولاً وقومياً على المدى الأبعد، كما يرى ممدوح عزام وغسان سلامة وعادل حسين وأحمد صدقي الدجاني(29). والأساس في ذلك كله هو أن فشل التكامل الاقتصادي على مستوى الوطن العربي في ظل القطرية القائمة هو الذي قاد إلى قيام قدر من التنسيق والتعاون بين أقطار عربية متجاورة جغرافياً أو متشابهة اجتماعياً واقتصادياً أو متفقة من حيث توجهاتها السياسية، قدر من التنسيق والتعاون يفوق ما تحقق إلى حد الآن على مستوى الجامعة العربية. أما الحكم على مدى نجاح هذه التجمعات الإقليمية في تحقيق أهدافها الإقليمية وعدم تعارضها مع الأهداف التكاملية القومية فإنه سيخضع حتماً إلى الاحتكام إلى التجربة والنتائج التي ستترتب عليها، وإلى طبيعة السياسات العملية والإجراءات التطبيقية التي ستقوم بها باتجاه العمل الاقتصادي العربي المشترك الهادف إلى التكامل والوحدة.‏
              وإذا أردنا تقديم موضوعي لتجربة مجلس التعاون لدول الخليج العربي وآثارها على مسألة التكامل العربي، فإننا يجب أن نقر بداية أن مجلس التعاون يمثل أحداث تجربة تكاملية عربية، بعد تجربة مجلس الوحدة الاقتصادية العربية التي بدأت منذ عام 1964م. وتعد هذه التجربة أكثر التجارب التكاملية العربية منهجية وانتظاماً من حيث توجه البلدان الأعضاء فيه لتطبيق مقرراته، كما تعد مؤسساته أكثر انضباطاً من المؤسسات التكاملية العربية الأخرى. "ومن هذا المنظور، فإن تجربة مجلس التعاون التكاملية تقدم مختبراً حياً لعدد من الإشكاليات النظرية والعملية المحيطة بفكرة التكامل في الوطن العربي عموماً، وفي تلك المجموعة المتميزة من الدول العربية بصفة خاصة"(30).‏
              ولا يشكل المجلس سلطة أعلى من سلطات البلدان الأعضاء فيه، فهو ليس سلطة قومية، وإنما هيئة تنسيقية بينها من حيث سياساتها المتعلقة بالأمن والدفاع والاقتصاد والخارجية. وهو في جوهره يسعى للمحافظة على النمط القائم للمجتمعات الخليجية الحالية وعلى تعظيم الثروة المتاحة له وحمايته من خصومه وتطبيق السياسات الخارجية التي تتوافق مع هذه الأهداف(31).‏
              ويمثل "النظام الأساسي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية" الذي تم الاتفاق عليه ووقع في أبو ظبي بتاريخ 25 أيار/ مايو 1981م، الوثيقة الأساسية للمجلس. وقد أشارت في ديباجتها إلى ما يربط بينها من "علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية"، وإلى "إيمانها بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها" وإلى رغبتها "في تحقيق التنسيق والتكامل فيما بينها اقتناعاً (منها بأن ذلك) يخدم الأهداف السامية للأمة العربية" وإلى أن ذلك يتماشى مع ميثاق جامعة الدول العربية. وهكذا يقدم الخليجيون مجلسهم هذا على أنه يتفق والميثاق الأخير وأنه خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة وأنه نموذج وحدوي ناجح(32).‏
              ويرى عبد الله يعقوب بشارة الأمين العام الأسبق لمجلس التعاون أن المجلس قام استناداً إلى "ثلاث حقائق مبسطة" هي:‏
              الحقيقة الأولى: أنه ليس هناك من "دولة عربية واحدة تستطيع أن توفر لنفسها أمناً وطنياً وقُطرياً وحتى اقليمياً بمعزل عن الأمن القومي العربي".‏
              الحقيقة الثانية: أن قضايا التنمية، أطروحة اقليمية وحدوية، فلا يمكن توفير التنمية في إطار كيان صغير مغلق.. وبالتالي فإن قضايا التنمية في الوطن العربي، قضايا اقليمية، لا قطرية، فيها التكامل، وفيها التنسيق والتنوع.‏
              الحقيقة الثالثة: أصبحت التجمعات الإقليمية سمة العصر. وفي ظل القطرية العربية، وفي إطار البحث عن صيغة توفق بين الخصوصية القطرية وحتمية التجمع، يصبح مجلس التعاون الخليجي صيغة منطقية للتجمع الإقليمي بين دول "لها السمات والخصوصيات التي تخلق منها وحدة واضحة وكياناً متكاملاً، وهي تملك "الماضي الواحد" في تشابكها العائلي، وتركيبتها الاجتماعية، واعتمادها على البر والبحر لمقاومة الانقراض.. وهو الصيغة المناسبة للم شمل أهل الخليج، وتوفير التجمع الإقليمي، الذي يضع نفسه فوق النبض القطري وتأمين الصيغة الجماعية التي تأخذ المنطقة إلى القرن الواحد والعشرين"(33).‏
              وعموماً، فإن تجربة مجلس التعاون، كما يراها أمينه العام الأسبق، تتحاشى قصور التجارب الوحدوية العربية الفائتة، انطلاقاً من حاجات موضوعية ملحة، أهمها: ضرورة توفير الأمن والمحافظة على الثروة النفطية والتنمية الاقتصادية، وهي تقوم بين أقطار على درجة عالية من التجانس السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والجغرافي، والديمغرافي، كما أنها تقوم على صيغة واقعية عمادها الاقناع والاقتناع، والرضى والتراضي، دون إصرار على قوالب دستورية متقدمة أو التزامات صارمة(34).‏
              وإذا كانت هذه هي نظرة التجمع الخليجي إلى نفسه، فهل يعني ذلك أنه لا يواجه صعوبات أو مسائل تحتاج إلى جهود وإجراءات وحلول واقعية؟‏
              إن ما يهمنا هنا وبصورة مباشرة ما يتصل بموضوع بحثنا هذا، ويتمثل في الإشارة ولو بشكل عابر إلى أهم إشكاليتين تواجهان المجلس، وتتمثلان بـ (35):‏
              1-"إشكالية الاندماج بين تكوين إقليمي عربي فرعي متمايز من ناحية، والارتباط التكاملي مع الوطن العربي ككل، من ناحية أخرى".‏
              2-"إشكالية الاندماج الاقتصادي والسياسي في ظروف غير طبيعية".‏
              ووفق ما يراه واضعو "التقرير الاستراتيجي العربي" (لعام 1987م) في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بدار الأهرام، فإن الإشكاليتين المذكورتين ترتبطان بطبيعة الإجابة عن التساؤل التالي، الذي يقدم معياراً لمدى الترابط بين الاندماج الاقتصادي الإقليمي من ناحية، والتكامل الاقتصادي العربي، من ناحية ثانية. وهذا التساؤل والمعيار هو: "مدى توظيف الموارد في فروع وقطاعات تتكامل ضمناً مع بقية الاقتصاديات العربية غير الخليجية"(36). فمتى كانت هناك مزايا نسبية تفوق فيه الفروع والقطاعات الخليجية مثيلاتها العربية، وتقدم فيه أداء أفضل وإنتاجية أعلى وتكلفه اقتصادية أقل، فإن ذلك يمثل خطوة في الاتجاه التكاملي القومي الصحيح. والعكس صحيح كذلك. وهو أمر لا يتحقق قطعاً في القطاع الزراعي. وبالتالي فإن الإصرار على إنتاج الغذاء بصرف النظر عن تكلفته الاقتصادية سيعني هدراً مالياً غير عقلاني، كما سيؤدي إلى الابتعاد عن أهداف التكامل العربي.‏
              وكذلك الأمر بالنسبة إلى القطاع الصناعي، حيث أقيمت صناعات في العديد من أقطار المجلس، "وقد استندت هذه الصناعات إلى القدرة المالية الهائلة للدول النفطية، وهي إما مملوكة بالكامل ملكية عامة، أو أقيمت بالاشتراك مع رأس المال الأجنبي، وأغلب هذه الصناعات أقيمت وفقاً لاستراتيجية التصنيع للتصدير"(37). وقد تزيد هذه السياسة التصنيعية من الاعتماد على الخارج كأسواق للتصريف وكمورد للخبرات الفنية والإدارية والتقانية المتقدمة والسلع الوسيطة اللازمة لتشغيل هذه المشروعات الصناعية الضخمة، إضافة إلى قلة المشاريع الصناعية المشتركة، الأمر الذي يحد من درجة التشابك الصناعي بين بلدان المجلس، وقد ضاعف من الصعوبات التي تواجهها بلدان المجلس في حقل الصناعة عموماً قيام السوق الأوروبية المشتركة عام 1985م بفرض الحماية على وارداتها من المنتجات البتروكيماوية.‏
              ويرى خبراء آخرون أكثر تفاؤلاً فيما يخص تجربة مجلس التعاون أنه ليس هناك من ضرر من العمل على تحقيق اتحاد بين تلك الأقطار التي تتماثل فيها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالشكل المشار إليه سابقاً.‏
              أما بالنسبة لقلة الاستثمارات الخارجية في المنطقة العربية، فإنها تعود إلى عدد من العوامل، التي لا تخص بلدان الخليج وحدها، وإنما تعود إلى التردي السياسي العربي أيضاً بخاصة خارج الخليج، وانخفاض عائدات النفط بشدة، واقتصاد الجهد العربي في تنشيط القطاع الاقتصادي العربي المشترك على رسم الاستراتيجيات، ووضع الأطر المشتركة التي ظلت في أغلب الأحيان هياكل فارغة(38).‏
              وفي الدورة الرابعة عشرة للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، المنعقد في الرياض خلال الفترة من 7-9 رجب 1414هـ الموافق 20-22 كانون الأول/ ديسمبر 1993م، عبر المجلس في المجال الاقتصادي عن ارتياحه لزيادة التبادل التجاري بين دول المجلس وازدياد عدد المستفيدين من أحكام الاتفاقية الاقتصادية الموحدة مما يعزز ترابط المصالح بين المواطنين. وفي هذا الإطار وجه مجلس وزراء المالية بمواصلة السعي للوصول إلى اتفاق على تعرفة جمركية موحدة. كذلك أقر المجلس الأعلى التوصية المرفوعة بشأن معاملة مواطني دول المجلس العاملين في القطاع الأهلي معاملة مواطني الدولة العضو مقر العمل بعد التوظيف وفق الضوابط التنفيذية المقترحة من وزراء العمل. وعبر المجلس عن ترحيبه بالاتفاق الذي توصلت إليه الدول المتعاقدة في إطار الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات). بالإضافة إلى استمرار التنسيق والتعاون فيما يتعلق بالسياسة البترولية، بما في ذلك المساهمة المشتركة في إجراء تخفيض في الإنتاج الحالي، والعمل على استقرار السوق البترولية العالمية، المضطربة نتيجة الفائض الكبير من البترول المعروض الذي أوجد تأثيراً سلبياً على اقتصاد الدول الأعضاء(39).‏
              رابعاً- عقبات في طريق التكامل:‏
              لقد خلقت التشوهات التي حدثت بفعل عوامل كثيرة، من أهمها الهيمنة الأجنبية علىمقدرات الوطن العربي سلسلة من التناقضات القطرية والإقليمية، أبرزها وأكثر خطورة ظاهرة التجزئة والتفتت. وقد أنتجت هذه الظاهرة بدورها جملة أخرى من التناقضات، مثل التفاوت في مساحات الدول والكيانات العربية، والتفاوت في عدد السكان، وفي الموارد والثروات الطبيعية، وفي أهمية الموقع الجغرافي، وفي نوعية التكوينات الاجتماعية، والاستقرار المدني -الحضري، وفي المستويات التعليمية.. الخ، ولقد عطل عصر الهيمنات الاستعمارية المختلفة النزوع العربي الطبيعي نحو التكامل، فتحول مجرى التعامل والتجارة نحو الاعتماد على الخارج، وانقلب شيئاً فشيئاً إلى قيود ربطت الأقاليم والأقطار العربية فُرادى ومجموعات بتلك الأسواق، وتطور التفاوت بين أجزاء الوطن الواحد إلى وضع معاكس للتكامل المأمول. وقد شاع هذا الوضع المشوه وتكرس بفعل عوامل كثيرة لا مجال للخوض فيها هنا، في مقدمتها اتباع سياسات اقتصادية ذات توجهات متنافرة تحكمها عوامل متشابكة من الفرقة والخصام والتناحر. ومنذ مطلع الستينات، ورغم الاتفاقيات المعقودة في إطار الجامعة العربية، انهمكت البلدان العربية في تنفيذ خطط انمائية جرى تصميمها على أساس من الانكفاء على الذات القطرية، تحت تأثير أطروحات "الاستقلال الوطني" و"الاكتفاء الذاتي" و"الاعتماد على النفس" فأدت تلك البرامج والتوجهات والسياسات إلى مزيد من التنافر والتضارب والتباعد بدلاً من التقارب والتنسيق والتكامل، كما يجري في بقاع العالم الأخرى. ولا بد من الإشارة إلى حقيقة مرة، تتجلى في أن انجراف الأقطار العربية في منزلقات الاندماج المباشر وغير المباشر في الاقتصادات الغربية، كان مركباً ومتعدد الأبعاد والصور، وشاملاً للنواحي الاقتصادية والمالية والتجارية والتقانية.. الخ. و"كان من نتائج ذلك أن الموارد العربية، بما فيها رؤوس الأموال ومن الرجال أصحاب الكفاءات وأرباب العمل، تهاجر تباعاً، تسللاً أو فراراً نحو الخارج، بحثاً عن مأوى هناك. وإذا استمر الحال في التردي على هذا المنوال، فإنه يهدد بارتهان مستعص ومديد في شراك التبعية للقوى الأجنبية ذات القدرة على الاستغلال والخبرة الطويلة في النهب والاستنزاف(40).‏
              ويتفق الخبراء والمختصون والدارسون العرب على تحديد جملة من العوائق والعقبات، أدت إلى فشل التكامل الاقتصادي العربي(41)، أهمها:‏
              أ-عوائق اقتصادية:‏
              1-إن آثار التبعية العربية للاقتصاد العالمي لم تقتصر على إعاقة نمو وتطور أنماط الانتاج التقليدية، بما تشتمل عليه من قوى إنتاجية وعلاقات إنتاج، بل كرست إضافة إلى ذلك واقعاً اجتماعياً- اقتصادياً شديد التعقيد، يمكن تسميته بالتكوين الاقتصادي -الاجتماعي المشوه أو متعدد الأنماط، الذي يضم كل التكوينات الاقتصادية المعروفة في التاريخ. ويتسم هذا الاقتصاد غير المتوازن بانعدام التجانس بين البنى المنتمية إلى مراحل اقتصادية مختلفة. ونشير في هذا المجال إلى أن البنى الاجتماعية- الاقتصادية للبلدان العربية هي حاصل جمعي وعشوائي لأنماط اقتصادية مختلفة، مع عدم تمتع أي من هذه الأنماط القائمة بالسيطرة على الأسلوب الإنتاجي. وما دام أن هذه التركيبة الانتقالية/ التعايشية هي المسيطرة على الاقتصاد، تبقى البنية الاجتماعية/ الاقتصادية انتقالية أيضاً. وبالتالي يظل الطابع الأساسي للاقتصادات العربية طابعاً انتقالياً كذلك. وهو أمر يتطلب إحداث تغيير سريع وجوهري في الهياكل الاجتماعية -الاقتصادية متعددة الأنماط والتي تشكل عائقاً موضوعياً كبيراً أمام التطور المطلوب(42).‏
              وقد أشار إلى هذه المسألة الهامة التقرير الصادر عن الأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربية بقوله: "إن دول المجلس بالمقارنة بالدول النامية تعتبر دولاً غنية بسيولتها النسبية، فقيرة بهياكلها الاقتصادية والاجتماعية، ولذلك فهي تواجه تحدياً كبيراً وصعباً إلى جانب التحديات الأخرى من حيث أن مصدر سيولتها النقدية غير متجدد وعليها أن تحدث تطوراً سريعاً في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية قبل نضوب مصدرها التمويلي الوحيد وهو النفط"(43).‏
              وبكلمة أخرى إن محصلة ما شاب التطور الاجتماعي -السياسي لأقطار الوطن العربي من تشويه بسبب الهيمنة الأجنبية على مدى مئات السنين، انعكس بشكل أو بآخر، على بنيانها وهياكلها في الوقت الحاضر، وهو الذي فرض على كل منها ارتباطات قوية بالعالم الخارجي أقرب إلى أشكال التبعية الاقتصادية والعلمية والتقنية، بحيث أصبحت مع الزمن وتعقد الظروف المحلية والعربية والعالمية أقوى من تلقائية تكاملها بين بعضها البعض اقتصادياً أو تقاربها سياسياً، ومع التسليم بأن البيانات الرسمية والمعاهدات التعاقدية، في شأن التكامل العربي، تعبر عن نوايا صادقة لصانعي القرارات في الأقطار العربية، فالنتيجة الموضوعية لذلك هي أن نمو العلاقات الاقتصادية بين هذه الأقطار العربية، وبين العالم الخارجي، بخاصة الدول الصناعية الغربية، ما زال يتحقق بمعدل أقوى وأكبر مما هو بين الأقطار العربية (أكثر من 15 بالمائة سنوياً في المتوسط، في مقابل 3 بالمائة لعقد السبعينات) هذه الحقيقة الموضوعية لا يمكن تفسيرها إلا على أساس تشوه الهياكل الداخلية للأقطار العربية، الأمر الذي ما زال يكرس من علاقتها غير المتكافئة مع الدول والقوى العالمية التي أحدثت هذا التشويه أو ساهمت في تكريسه. كل ذلك يعني: "أن تشويه التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للأقطار العربية، بفعل الهيمنة الغربية السافرة في الماضي، خلق اقتصادات عربية متشابهة في تبعيتها، ومتشابهة في وظائفها، ولكنها متنافرة وغير متكاملة فيما بينها"(44).‏
              2-محاولة الاقتباس الآلي والتقليد الشكلي لتجارب التكتلات الاقتصادية الأخرى في العالم (من حيث الهياكل الإدارية وحيثيات القرارات وليس من حيث التطبيق طبعاً)، كتجربة السوق الأوروبية المشتركة، دون النظر إلى الإمكانيات الفعلية لواقع البلدان العربي ومدى ملاءمة تلك التجارب لظروف التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وعلى هذا النحو "سعى كل قطر عربي حتى الأقطار الصغرى.. في إقامة وحدات صناعة حديد، حيث أن هذه الصناعة قد أصبحت رمز الاستقلال الاقتصادي باعتبار الدور التاريخي الذي لعبته في أوروبا. والأمر على هذا النحو في الصناعة النووية والصناعة البتروكيماوية على سبيل المثال"(45).‏
              3-غياب التصور الشامل، الذي يحدد الأهداف والوسائل والبرامج الزمنية للتنفيذ بصورة واضحة، مما أدى إلى عجز الفنيين والخبراء عن تقديم توصيات محددة وملزمة للأطراف كافة، كما انعكس هذا الغموض في عدم وضوح الأهداف المرحلية.‏
              4-غياب التنسيق التجاري والإنتاجي بين هذه الأقطار لتصريف منتجاتها في الأسواق العالمية، واندفاعها في الوقت عينه لتحصيل من البلدان الغربية واليابان على التجهيزات ذاتها والتقانة ذاتها والسلع والمواد الكمالية والاستهلاكية ذاتها.‏
              5-لقد أرجأت بعض الأقطار العربية تطبيق ست عشرة مادة من قرارات مجلس الوحدة الاقتصادية العربية الرامية إلى تقليص التعرفات الجمركية وإزالتها وإلى تحرير المبادلات، وذلك حماية لمواردها من القطع الذي تحصل عليه من الإيرادات الضريبية الناشئة عن التعرفات الجمركية.‏
              6-غياب الجزاءات التي يمكن اتخاذها ضد الأقطار الأعضاء التي تنتهك القرارات المشتركة، والتي لا تفي بالتزاماتها الناتجة عن اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية واتفاقية السوق العربية المشتركة، مما يزيد من حجم العوائق الاقتصادية على طريق التكامل المطلوب.‏
              7-غلبة الاتفاقيات الثنائية وضعف فاعلية الاتفاقيات متعددة الأطراف، الأمر الذي يزيد من حجم الصعوبات التي تواجه الجهد العربي المشترك.‏
              8-تكاثر المؤسسات المالية والنقدية العربية مع نقص في التنسيق بين الأقطار العربية في الميدان المالي. يضاف إلى ذلك حدة التناقضات القائمة بين مصارف التوظيفات العربية أو الصناديق العربية ذات الأنشطة المالية والبنكية في البلدان الغربية، وبين الحاجة الماسة والمتزايدة للتمويل والاعانات ضمن الأقطار العربية(46).‏
              9-بالنسبة للاستثمارات العربية داخل الوطن العربي، فهي تصطدم بعوائق ناشئة عن البنى الاقتصادية المجزأة والمفتتة من جهة، وبجملة من المصاعب الملازمة للهياكل الأساسية والتداخلات الروتينية والقرارات الاعتباطية وآليات العمل البدائية في الدول المضيفة من جهة أخرى. إضافة إلى حالة الطرق ورداءة وسائط النقل والتخزين وأجهزة الاتصالات والموانئ والمطارات وتجهيزات الطاقة والمياه وضعف الخدمات الفورية. مع محدودية آفاق السوق المحلية، بسبب انخفاض مستويات الدخل الفردي (في أغلب الدول العربية) أو بسبب سوء توزيعه بين المواطنين أو لقلة السكان أصلاً في البلد المضيف للاستثمارات المالية. يضاف إلى ذلك كله غياب الأسواق المالية، التي تسهل عمليات الاكتتاب أو تقوم بتسييل الأوراق النقدية عند الحاجة.‏
              10-عدم الاستقرار الاقتصادي في عدد كبير من الأقطار العربية بسبب الاضطرابات والتضارب في التوجهات الاقتصادية والسياسات الاستثمارية، وافتقارها إلى قوانين موحدة أو منسقة لتنظيم الاستثمارات، أو بسبب الغموض العام في نصوص القوانين وفي تفسيراتها.‏
              11-إن الدراسات المتابعة لتوجهات الاستثمار الخاص الوافد إلى بعض الأقطار العربية، تشير إلى أن الخيار الأول عند القطاع الخاص هو الاستثمار في العقار (بما في ذلك بناء العمارات التجارية وتأجيرها، وشراء أراض واعدادها للبناء ثم عرضها للبيع، في أجواء مشحونة بالمضاربات.. وغيرها) وقد تركزت مثل هذه الاستثمارات في أقطار معينة بالذات، مثل لبنان ومصر والمغرب. والمجال الآخر الذي تميل رؤوس الأموال الخاصة إلى الاستثمار فيه، كخيار ثان، هو قطاع وثيق الارتباط بالقطاع العقاري، وهو النشاط السياحي، بما في ذلك من إنشاء فنادق ومطاعم وأندية الترفيه. وإن تفضيل أصحاب الرساميل لهذه الأنواع من التوظيفات لرؤوس أموالهم، هو أمر مفهوم، ذلك أنها لا تتطلب معارف علمية ولا مهارات، ولا إعداد أكاديمي طويل، ولا هي عرضة لمخاطر الخسارة الكبيرة، بل تدر في معظم الأحوال الاعتيادية أرباحاً مضمونة إلى حد كبير.‏
              "ولكن علاقة هذه الأنواع من الاستثمارات (العقارية والسياحية) بالتكامل الاقتصادي هي علاقة ضعيفة، لا تكاد تذكر. فالسياحة هي نشاط يقدم خدماته للسائحين الوافدين من الخارج وأغلبهم من بلدان أجنبية وبالتالي فهذا النشاط يتعامل مع الخارج، ولا يكاد يتعامل مع قطاعات عربية أخرى إلا قليلاً. وكذلك حال الاستثمار العقاري الذي يعتبر شبه عقيم بالنسبة إلى التنمية الاقتصادية عموماً، ناهيك عن خصوصية التكامل الاقتصادي(47).‏
              12-حالات التضخيم الذي تسبب تدهوراً مستمراً في قيمة العملة الوطنية واضطرابات كبيرة في أسعار الصرف، إضافة إلى الارتباط النقدي بدوائر النقد العالمي ومناطقه الشهيرة كالدولار والاسترليني والفرنك الفرنسي. ولقد تعززت هذه التبعيات النقدية بصورة عميقة ومتينة مع ازدياد الطلب العالمي على النقط العربي، والتخفيض الفعلي للدولار الأمريكي، الذي ترتبط به عائدات النفط العربي الضخمة، مما يوقع خسائر كبيرة في القدرات الحقيقية للأموال العربية النفطية(48).‏
              13-من عوائق الاستثمارات المالية العربية (في الوطن العربي) وجود تعددية في الأجهزة المشرفة على عمليات الاستثمار، أو افتقار تلك الأجهزة إلى دليل واضح لتنفيذ الإجراءات المتعلقة بالترخيص للاستثمارات العربية الوافدة، الأمر الذي يُفتُّ في عضد المستثمر ويصيبه بالإحباط والإرهاق ويعطل مصالحه.‏
              14-إذا كان القطاع الخاص يعاني من التأثيرات السلبية لكل هذه العوائق، فإن المشروعات المشتركة تكابد هي الأخرى مجموعة من المشكلات الخاصة بها، رغم كونها مشروعات تم انشاؤها بموجب اتفاقيات بين الدول، ووقعها مسؤولون وأصحاب قرار(49).‏
              ب-عوائق سياسية:‏
              1-اختلاف الأنظمة السياسية وأشكال نظم الحكم فيها، بما يترتب على ذلك تباين في الأولويات الاجتماعية والفكرية، وفي الاختلاف حول هدف الوحدة الاقتصادية وسبلها، الأمر الذي أدى وضوح الأهداف السياسية وعدم استقرارها عبر مدة معقولة من الزمن.‏
              2-انعكاس الخلافات السياسية على العلاقات الاقتصادية بين البلاد العربية.‏
              3-العوامل الخارجية كسياسات الدول الكبرى تجاه المنطقة العربية، ونشاط الشركات متعددة الجنسيات، علاوة بالطبع على دور إسرائيل.‏
              4-عدم وجود المناخ والآليات الضرورية لترشيد القرارات السياسية الخاصة بالعمل العربي المشترك. حيث أن عدداً كبيراً من مؤسسات التنسيق الاقتصادي لا يملك حق إصدار القرار، وإنما يصدر مجرد توصيات، وحتى تلك التي تملك حق اتخاذ القرار لا تملك القدرة على تنفيذه(50).‏
              5-تتفق كل الدراسات الخاصة بتحليل أسباب فشل التكامل الاقتصادي العربي على تشخيص عامل أساسي، وربما وحيد لعرقلة التكامل والوحدة وهو: غياب الإرادة السياسية وغياب الاختيار الحر. فالقرارات عندما تتخذ في غياب الإرادة السياسية وغياب الاختيار الحر، فإنها تتخذ بوسيلة من ثلاث: إما بالمجاملة، أو بالمسايرة، أو بالإكراه.‏
              ذاً، إن غياب الإرادة السياسية اللازمة كان هوالعامل المباشر الأساسي، الذي أدى إلى تواضع ومحدودية النتائج التي حققها العمل الاقتصادي العربي المشترك (اللازم للتكامل) منذ بدايته في ظل الجامعة وقت انشائها في عام 1945م حتى الآن، وإلى عدم تحقيق هذا العمل للأهداف المقصودة منه، التي نصت عليها وتضمنتها اتفاقاته ومواثيقه العديدة، والذي حد من فاعليته وعرقل تطويره.‏
              ونحن نتفق في هذا السياق مع رأي أحد الباحثين العرب، الذي يرى أنه على الرغم من وجود بعض العوامل الأخرى التي أوجدت آثاراً سلبية في هذا العمل الاقتصادي العربي المشترك، إلا أنه كان من الممكن علاج هذه الآثار والتغلب عليها جميعاً، بل كان من الممكن أيضاً استبعاد هذه العوامل الأخرى نفسها. وإذا كانت الإرادة السياسية العربية قد التزمت التزاماً حقيقياً ومخلصاً بهذا العمل الاقتصادي العربي المشترك وعملت على تحقيق متطلباته على نحو حقيقي وفعال، فلأنها كانت ستعمل عندئذ على إزاحة هذه العوامل والقضاء عليها. ومن هنا استمرار العوامل الأخرى المعرقلة للعمل الاقتصادي العربي المشترك يمكن إرجاعه، إلى حد كبير، إلى غياب الإرادة السياسية اللازمة لهذا العمل(51). لأنه حتى في حال تطبيق الاتفاقيات والقرارات المتعلقة بالتكامل الاقتصادي العربي، فإن استمرار تطبيقها غالباً ما يتأثر بما يحدث من تقلبات طارئة في العلاقات السياسية بين الحكومات أو حكام الأقطار العربية الأعضاء. والواقع أن "هذه الحقائق العديدة ليست كلها سوى مظاهر وآثار لغياب الإرادة أو ضعف الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق العمل الاقتصادي العربي المشترك ونجاحه. وهي تشير في مجملها إلى أن البلدان العربية لا يتوافر لديها ما يلزم لعملية التكامل الاقتصادي من إرادة سياسية"(52).‏
              خامساً- مقترحات لتفعيل التكامل الاقتصادي العربي:‏
              في ضوء المعطيات السابقة وما رافقها من تحليل لأهم الصعوبات والعقبات المعرقلة لمسيرة التكامل الاقتصادي العربي، يمكن التوقف بعجالة عند أهم الخطوات والأفكار والخطوط العريضة، التي يجمع أغلب الباحثين والمختصين والاقتصاديين العرب على أنها تشكل في مجملها اتجاهات استراتيجية معقولة لتفعيل وتطوير العمل العربي المشترك بصفة عامة، والتكامل الاقتصادي العربي على وجه الخصوص(53)، وتتلخص بما يلي:‏
              1-في ظل الاخفاقات الحاصلة في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي واستمرار التحديات المتمثلة في التناقضات الهيكلية، وسيادة الأنماط التنموية القطرية، إضافة إلى المستجدات ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية في الوطن العربي، فقد بدأت بعض الأصوات ترتفع بضرورة إعادة النظر في قرارات العمل الاقتصادي العربي المشترك المتخذة سابقاً، والانطلاق من الواقع السياسي والاقتصادي العربي، وتجنب الطموحات الكبيرة، التي تتعارض مع المصالح القطرية، وأن تكون الأهداف المطروحة منصبة على تسريع وتأثر التنمية الشاملة في الأقطار العربية، والعمل على تنسيق خطط التنمية القطرية فيها، انطلاقاً من الواقع السياسي للبلدان العربية في المرحلة الراهنة. وهذا يعني أن التنمية العربية لا بد أن تبدأ بالتنمية القطرية، على ألا ينظر إلى التنمية القطرية بمعزل عن حركة العمل الاقتصادي العربي المشترك، بل كتطبيقات عملية مكملة ومعززة له.‏
              2-هناك شبه اجماع بين الدارسين والباحثين بشؤون العمل العربي المشترك على أهمية التجمعات الجهوية أو الإقليمية العربية، حيث يرمي العمل المشترك داخل كل واحدة من المجموعات الإقليمية إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي عن طريق استراتيجية واحدة للتنمية تضمن الوصول إلى هذا الاكتفاء بكلفة أيسر وفي مدى زمني أقصر مما يتيسر انجازه لأي واحد من الأعضاء على انفراد. ولا شك في أن الانتقال من أوضاع التنمية القطرية المنعزلة، بما لها من حالات عوز ونقص، إلى مرحلة للتنمية الجهوية المتكافئة، يتطلب مدى زمنياً ومراحل للتدرج، لإقامة المشاريع التكاملية مكان التوجهات الانفرادية، ولبناء التكامل الانتاجي بين وحدات الإنتاج والمشاريع، ولتحقيق التكامل التسويقي وتوسيع نطاق المتاجرة، وصولاً إلى التكامل الإنمائي الذي يتيح فرصاً جديدة للاستثمار استثماراً مجدياً، وخلق مجالات جديدة لتشغيل القوى العاملة وسائل عوامل الإنتاج المتاحة. ومن المؤكد تقريباً أن التدرج في إنجاز التكامل بين الاقتصادات الإقليمية (لبلدان مجلس التعاون الخليجي وبلدان المغرب العربي) يشكل عنصراً جوهرياً يكفل في حال تحقيقه الوصول إلى درجة مواتية من الانسجام الذاتي داخل كل مجموعة إقليمية أولاً، ومن ثم بلوغ المستويات الرفيعة من التعاون المجدي بينها وبين المجموعة الإقليمية العربية الأخرى أو المجموعات، التي يمكن أن تنشأ في مراحل لاحقة. ومن المنطقي أن الانسجام الذاتي داخل كل مجموعة (إقليمية أو جهوية) شرط مسبق، إذا توافر، تيسر التعاون بينها وبين سائر المجموعات الإقليمية العربية وغير العربية، وتوضحت فرص هذا التعاون ومضامينه. إذ لا يمكن أن ينطلق التعاون من فراغ وأن يحصل في غياب قابليات التكافؤ وتناسب المضامين، ومن غير الحوافز لقيامه.‏
              إن إنشاء التعاون بين المجموعات العربية، لا بد له أيضاً من خطة مدروسة بعد التعبير عن الإرادة السياسية للعمل على تحقيقه، وتستند هذه الخطة إلى عوامل الائتلاف بين هذه المجموعات محتاطة لعوامل التنافر، راصدة ميادين التكامل الاقتصادي العربي، بعد الاستفادة من التجارب السابقة والمعطيات الجديدة.‏
              3-لا بد من إعطاء دور واضح المعالم للقطاع العربي الخاص في المشاركة الفعالة والمحصنة بالنشاطات الاقتصادية المشتركة، والعمل على أن يكون هذا الدور أساسياً واستراتيجياً، لمساعدة الاقتصاد العربي على مواجهة التحديات الحالية، والحد من الخروج وهروب رؤوس الأموال العربية الخاصة إلى الخارج، بحثاً عن المضانات القانونية وفرص النجاح والاستقرار المؤسساتي والاقتصادي والسياسي.. الخ. إذ أنه رغم أن للقطاع الخاص دوراً مهماً ومهيمناً في معظم الاقتصادات العربية، ولا سيما في قطاعات الأعمال الزراعية والتجارة والخدمات، فقد اقتصرت استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك التي أقرتها قمة عمان عام 1980م على الأنشطة الاقتصادية الرسمية، ولم تعط للدور الذي يمكن أن يمارسه النشاط الخاص والتنظيمات الاقتصادية والتجمعات المهنية الأهمية التي تستحقها في دفع عملية التقدم وتسريع وتأثر التنمية الشاملة، مما يسهم عملياً في خلق تشابكات اقتصادية ومصالح بينية عربية متبادلة بين مواطني الدول العربية، بحيث تشكل قوة ضغط كبير تحول دون تخريب هذه العلاقات تبعاً للأهواء وتقلبات المناخ السياسي العربي الكثيرة والمفاجئة والخطيرة أحياناً.‏
              4-في ظل الأوضاع الحالية في الوطن العربي من الأفضل والأجدى فصل السياسة وتبدلاتها ما أمكن عن العلاقات والمؤسسات الاقتصادية لأن الارتباط بين الجانبين، وخصوصاً إذا طغت الأمور السياسية (وهو ما يجري في أغلب الأحيان)، سيعيق بالتأكيد مسيرة التكامل، بينما لو تمكنت الجهات العربية المسؤولة من فصلهما إيجابياً، لأفسح المجال واسعاً أمام التكامل الاقتصادي للتطور دون عوائق ومفاجآت مخيبة للآمال. وهو تكامل من شأنه أن يسهم في بناء قاعدة اقتصادية ومشاريع مشتركة ورصيد من الأنشطة الإنتاجية والخدمية المتبادلة يصعب فكها بقرارات سياسية متعجلة أو بردود أفعال آنية.‏
              5-إن تصحيح ورسم سياسة واقعية لمسيرة العمل العربي المشترك مستقبلاً، يستلزمان تقويم تجارب الماضي بعقلانية وموضوعية وبروح التعاون والتضامن، بعيداً عن العواطف والشعارات والمواقف الأيديولوجية المسبقة. وقد يتوصل المعنيون (خصوصاً الخبراء والعلماء والفنيون ورجال الأعمال والاقتصاديون) إلى أساليب وصور جديدة من التعاون والتكامل على صعيد المجموعات الإقليمية مثلاً. وقد يتوصلون إلى ضرورة التعاون عبر أجهزة الجامعة العربية. أو قد يتفقون على أن الإطار التعاوني بين المجموعات الإقليمية أفضل وأجدى من الاتفاقيات المعقودة إلى اليوم بين البلدان الأعضاء في الجامعة. فلا بد عندئذ من أن تكون للتعاون المباشر حوافز ومزايا ميسرة لم يتوافر مثلها في الإطار القومي، المطبق إلى الآن، تجعله أقل إشكالاً وأقرب للواقع وأسرع إنجازاً وأيسر كلفة. ولولا هذه المزايا وتلك الحوافز والمعطيات لما كان فرق بين ما صدر من قرارات وتوصيات (بلغت الآلاف) بشأن العمل العربي في إطار الجامعة العربية وبين هذا اللون الجديد (التكامل الإقليمي) من التعاون بين الأقطار الأعضاء ذاتها، ولما كان هناك من داع لإنشاء هذا الإطار التعاوني الجديد، ولا من مسوغ لوضع التعاون خارج الأطر القومية التقليدية السابقة، التي لم تثبت نجاحها وجدواها في ضوء التجربة، التي جرت منذ حوالي نصف قرن إلى اليوم. والمهم في ذلك كله أن يتوافر شعور عميق بالفاعلية الأكبر للحركة العربية المشتركة، بصرف النظر عن المسميات والأشكال. أي أن تتحقق مصلحة للأقطار العربية في التنسيق والتكامل أكبر مما يتحقق فيما لو تحركت هذه البلدان فرادى. وهذا يعني أنه لكي تكون الخطوات والمشاريع المقترحة قابلة للتجسيد والتطبيق العملي، يجب أن تتضمن حوافز جاذبة للمشاركة فيها من الأقطار كافة، بحيث تجد مختلف الأطراف مصلحتها الحيوية المباشرة في التنفيذ. والأساس في هذه الحوافز والدوافع يكمن في تأمين الفائدة للجميع، وليس لطرف أو لقطر على حساب طرف أو قطر آخر. فالتعاون العربي المجدي يجب أن يبنى على التكافؤ، سواء في المنافع أو في التضحيات. مع ضرورة التركيز في المرحلة التأسيسية من التنسيق الاقتصادي على المشروعات التي يمكن أن تحقق أكبر قدر من المنافع الملموسة، وأقل قدر من الخسائر بالنسبة إلى البلدان الداخلة في عملية التعاون.‏
              6-أن تكون المشاريع المختارة للتنسيق قادرة على المنافسة مع الخارج، فعندئذ يمكن أن يحل الاعتماد العربي محل الاعتماد الأجنبي، أو على الأقل يصبح التعاون العربي مقنعاً ومرضياً وباعثاً على الاستمرار وبذلك الأموال وإقامة المشاريع. وفي كل الأحوال لا بد قبل التنفيذ من دراسات ميدانية ومتكاملة لمستشاري البلدان الراغبة في التعاون، بحيث تتضمن كيفية استثمار واستغلال الموارد والجهات الأنسب لإقامة المنشآت المشتركة فيها، وضمانات الاستثمار القانونية وغيرها من الضمانات.‏
              7-أن يقوم الخبراء العرب والأجهزة العلمية والفنية المتخصصة بدراسات دقيقة للموارد الموجودة والمتاحة في الدول المعنية، وإجراء مسح شامل ودقيق للقوى العاملة والكفاءات والخبرات العربية، وإيجاد النواظم الرسمية والقانونية لضمان حرية تنقلها بين البلدان العربية، ولكن ليس بصورة عشوائية، بل عن طريق التخطيط الشامل والاتفاقيات البينية المحددة والواضحة لكيفية تنقلاتها واستخدامها، والاستفادة منها، ومن ضمن ذلك -إعادة توزيعها وتأهيلها، ومحاولة استعادة ما هاجر منها إلى خارج الوطن العربي.‏
              8-من البديهي أن يقوم التنسيق الناجح بين البلدان العربية على إزالة العقبات القائمة حالياً من أمام التجارة العربية البينية، وضرورة تنسيق سياسات الاستيراد والتصدير، وما يتصل بكل منهما من أنظمة مختلفة، مع دراسة دقيقة لحاجات الوطن العربي ومواطنيه من السلع الزراعية والغذائية والاستهلاكية.‏
              9-وأخيراً، دراسة التوجهات العامة للاستراتيجيات والخطط التنموية المطبقة حالياً في البلدان العربية، واستكشاف مدى توافق اتجاهاتها أو تعارضها مع أهداف التنمية العربية المتكاملة، بغية وضع الحلول العملية لهذه المسائل الجوهرية باتفاق وتعاون الأطراف كافة.‏
              الهوامش :‏
              1- محمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، "المستقبل العربي" السنة 13، العدد 142، (كانون الأول/ ديسمبر 1990)، ص124-125‏
              2- أ. بروجوروف (محرراً رئيساً) وآخرون، الموسوعة الاقتصادية الروسية (في أربعة أجزاء)، الجزء الثاني، (موسكو: 1975)، ص29-35.‏
              3- محمد محمود الإمام، "التكامل الاقتصادي العربي بين عقدين"، المستقبل العربي، السنة 13، العدد 128، (آب/ أغسطس 1990) ص47.‏
              4- انظر: ماجد نعمة (مدير التحرير) ومجموعة من المحررين، موسوعة السياسة (في سبعة أجزاء)، الجزء السابع، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994)، ص266-267.‏
              5- خالد تحسين علي: "أزمة الغذاء والعمل الاقتصادي العربي المشترك"، المستقبل العربي"، السنة 12، العدد 123، (أيار/ مايو 1989)، ص99-111‏
              6- انظر: جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، مؤتمرات القمة العربية: قراراتها وبياناتها، 1946-1985، أعداد مكتب الأمين العام، مركز التوثيق والمعلومات (تونس الجامعة، 1987)، ص127-128‏
              7- المصدر نفسه، ص134‏
              8- انظر نصوص الاتفاقية، مع ملحق التحكيم، في المصدر نفسه، ص145-160‏
              9- كتاب قرارات العمل المشترك الصادر عن الأمانة العامة لمجلس التعاون -الطبعة الرابعة 1993- م ص60-61‏
              10- انظر: حسن مرهج العماش، "الصناديق العربية ودورها الإنمائي: تصور التسعينات"، "المستقبل العربي" السنة 14، العدد 153، (نوفمبر 1991) ص54-55.‏
              11- خالد تحسين علي، "أزمة الغذاء والعمل الاقتصادي العربي المشترك"، مصدر سابق، ص110‏
              12- يوسف أ. صايغ، الاقتصاد العربي: منجزات الماضي وآفاق المستقبل، ترجمة الدكتور عز الدين جوني (دمشق: منشورات وزارة الثقافة، 1990)، سلسلة الفكر الاقتصادي (12)، ص163‏
              13- جامعة الدول العربية، الأمانة العامة، التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 1988، ص125‏
              14- نقلاً عن: موجز يوميات الوحدة العربية، تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، إعداد قسم التوثيق في مركز دراسات الوحدة العربية- مجلة "المستقبل العربي"، السنة 17، العدد 191، (كانون الثاني/ يناير 1995)، ص164‏
              15- استناداً إلى المعطيات الاحصائية الواردة في دراسة محمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، مصدر سابق، ص134-141‏
              16- اعتمدنا هنا على الدراسات والبحوث التالية: إبراهيم سعد الدين، ومحمود عبد الفضيل، انتقال العمالة العربية: المشاكل، الآثار السياسات، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1983)، محمد العوض جلال الدين، "العمالة الوافدة إلى الأقطار العربية: الوضع الراهن واحتمالات المستقبل"، "المستقبل العربي"، السنة 7، العدد 74، (نيسان/ ابريل 1985)، نادر فرجاني، الهجرة إلى النفط: أبعاد الهجرة للعمل في البلدان النفطية وأثرها على التنمية في الوطن العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1983).‏
              17- نادر فرجاني، الهجرة إلى النفط..، ص155-157‏
              18- المصدر نفسه، ص156-157‏
              19-محمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، ص139-140‏
              20- للإطلاع على مزيد من التفصيلات والمعطيات الرقمية، انظر سميح مسعود برقاوي، المشروعات العربية المشتركة: الواقع والآفاق، سلسلة الثقافة القومية، (17)، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988.‏
              21- يوسف صايغ، الاقتصاد العربي...، ص164‏
              22- مقتطفات من ورقة عبد المنعم السيد علي التي قدمها إلى مؤتمر اتحاد الاقتصاديين العرب الحادي عشر، المنعقد في الدار البيضاء ما بين 3-5 تشرين الأول/ أكتوبر 1989م. وانظر دراسته: "الاقتصاد السياسي للمداخل الإقليمية للتكامل الاقتصادي العربي"، "المستقبل العربي" السنة 12، العدد 132، (شباط/ فبراير 1990)، ص64 وما بعدها.‏
              23- الدكتور محمد الرميحي، في: فهد الفانك (محرر) الدولة القطرية وإمكانيات قيام دولة الوحدة العربية (عمّان: منتدى الفكر العربي، 1988)، ص26‏
              24- المصدر نفسه، ص36-37‏
              25- علي أومليل، "الوجدان العربي الوحدوي حقيقة، لكن التعدد واقع تاريخي"، في المصدر السابق، ص58‏
              26- محسن عوض، "محاولات التكامل الإقليمي في الوطن العربي"، "المستقبل العربي"، السنة 11، العدد 121 (آذار/ مارس 1989)، ص83‏
              27- المصدر نفسه.‏
              28- المصدر نفسه.‏
              29-عبد المنعم السيد علي، "الاقتصاد السياسي للمداخل الإقليمية للتكامل الاقتصادي العربي"، ص72.‏
              30- مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، التقرير الاستراتيجي العربي، 1987، تحرير السيد يسين (القاهرة: المركز، 1988)، ص288.‏
              31- المصدر نفسه.‏
              32- عبد الله يعقوب بشارة، "التعاون الإقليمي خطوة على طريق الوحدة العربية"، في فهد الفانك، محرر، الدولة القُطرية..، ص87-89‏
              33- بشارة، المصدر السابق نفسه، ص90-91‏
              34- استقينا هذه المعلومات من: عبد المنعم سيد علي، "الاقتصاد السياسي للمداخيل الإقليمية للتكامل الاقتصادي العربي"، ص64-88‏
              35- مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، التقرير "الاستراتيجي العربي"، 1987-ص288‏
              36- المصدر نفسه، ص295‏
              37- المصدر نفسه، ص297‏
              38- محسن عوض، "محاولات التكامل الإقليمي في الوطن العربي"، ص88‏
              39- انظر البيان الصحفي الختامي للدورة الرابعة عشرة للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في مجلة "التعاون"، السنة 8، العدد 33، (شوال 1414هـ/ مارس 1994م)، ص151-155‏
              40- محمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، ص145-146‏
              41- انظر محمد لبيب شقير، الوحدة الاقتصادية العربية: تجاربها وتوقعاتها، ج2، ص913-915، وكذلك مجدي حمّاد، "المنظمات الإقليمية ومسألة الوحدة، ص116-117، ومحمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، ص118-119‏
              42- عالجنا هذه الإشكالية بالتفصيل في بحثنا الموسوم بـ "تأثير البنية الاجتماعية الاقتصادية على العملية التنموية في العالم الثالث والوطن العربي". في "شؤون اجتماعية"، التي تصدر عن جمعية الاجتماعيين بالشارقة، السنة 9، العدد 36، (شتاء 1992م/ 1413هـ)، ص37-69.‏
              43- مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الأمانة العامة، مجلس التعاون لدول الخليج العربية: نظامه وهيكله التنظيمي وانجازاته (الرياض: الأمانة العامة)، ص137.‏
              44- مجدي حمّاد "المنظمات الإقليمية ومسألة الوحدة"، "المستقبل العربي"، السنة 11، العدد 121، (آذار/ مارس 1989)، ص97‏
              45- عبد الحميد ابراهيمي، أبعاد العام العربي وآفاقه، ص279-280‏
              46- المصدر نفسه، ص284‏
              47- محمود الحمصي، "دور القطاع العام والقطاع الخاص في تحقيق التكامل الاقتصادي العربي"، ص135‏
              48- عبد الحميد ابراهيمي، أبعاد العالم العربي وآفاقه، ص271‏
              49- المؤسسة العربية لضمان الاستثمار في الدول العربية، سلسلة دراسات اقتصادية واستثمارية، 7 (الكويت: المؤسسة، د.ت)، ص21‏
              50- اعتمد رصد هذه العوامل والأسباب على نتائج دراسة مجدي حمّاد "المنظمات الإقليمية ومسألة الوحدة"، ص116‏
              51- محمد لبيب شقير، الوحدة الاقتصادية العربية...، ج2 ص919‏
              52- مجدي حماد، "المنظمات الإقليمية ومسألة الوحدة"، ص118‏
              53- عولجت هذه المسألة بتفصيل واسع في عدد من الدراسات والبحوث، التي اعتمدنا قسماً من معطياتها الموضوعية، واستقينا منها المقترحات الخاصة باستراتيجية العمل العربي المشترك في مجال التكامل الاقتصادي، ومنها دراسات: حسين عادل (وآخرون)، التنمية العربية: الواقع الراهن والمستقبل، سلسلة كتب المستقبل العربي، 6 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1984)، محمد لبيب شقير، الوحدة الاقتصادية العربية: تجاربها وتوقعاتها (في جزئين)، (بيروت مركز دراسات الوحدة العربية، 1986)، الدكتور عبد الصاحب العلوان، "أزمة التنمية الزراعية ومأزق الأمن الغذائي"، "المستقبل العربي"، العدد 117 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1988)، ص89، -122، وله أيضاً: "التجمعات الإقليمية وتحديات التنمية والأمن والغذاء"، "المستقبل العربي"، السنة 12، العدد 132 (شباط/ فبراير 1990)، ص89- 111، مصطفى الفيلالي، "التجمعات الإقليمية العربية"، "المستقبل العربي"، السنة 13، العدد 138 (آب/ أغسطس 1990)، ص24-35، وفي المصدر نفسه دراسة محمد محمود الإمام، "التكامل الاقتصادي العربي بين عقدين"، ص36-59، خلدون النقيب، "إطار استراتيجي مقترح للتنمية العربية"، "المستقبل العربي"، السنة 12، العدد 129 (تشرين الثاني/ نوفمبر 1989)، ص61-77، فوزي حليم رزق، "أهمية التنسيق بين الأقطار العربية لمواجهة مشكلة الأمن الغذائي العربي"، "المستقبل العربي"، السنة 14، العدد 147 (أيار/ مايو 1991)، ص68-93.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق

              يعمل...
              X