إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

يعيش في حراسة «الأمهات» الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يعيش في حراسة «الأمهات» الشاعر الكبير (( عبد الرحمن الابنودى )) - جمعها: محمد القدوسي

    يعيش في حراسة «الأمهات»
    الشاعر الكبير
    (( عبد الرحمن الابنودى ))
    جمعها: محمد القدوسي
    - منقول -

    الابنودى يتكلم
    ( 3 )


    الأبنودي يتذكّر ويروي حكايات البدايات
    في طفولتي كانت أمي تهشّ الدجاج حتى لا ينقرني
    وتغطّيني أنا النحيل الضعيف بطرحتها السوداء
    جمعها: محمد القدوسي
    هذه الحلقات ليست ثمرة حوار ممتد عبر عدة جلسات مع صديقي الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، بل ثمرة حوارات طويلة، معظمها عفوي، كان خلالها «يبوح» وكنت «أحفظ». حوارات عفوية تطرق فيها إلى تفاصيل كثيرة ورسم معظم الملامح الأساسية في لوحة حياته فلما جاء وقت الحوارات المقصودة لم يكن علينا أن نبدأ البناء من أوله بل أن نستكمل بعض التفاصيل أو نضع لمسة هنا ولمسة هناك. ولا تحسبوها مهمة سهلة، إذ استدعى الأمر جلسات عديدة وساعات طويلة اقتنصتها من جدول «الأبنودي» المزدحم بين سفر وسفر، من شاطئ الخليج العربي إلى تونس ومن احتفالية فنية في قرطاج إلى مولد «سيدي عبد الرحيم» الشعبي في قنا، حتى أمكن في النهاية أن أجمع هذه الباقة من «حكايات البدايات» الأبنودية.
    في البداية لم يبد «الأبنودي» متحمساً لموضوع الحوارات. قال: لم لا نحدد موضوعا أهم من «البدايات» للحوار حوله؟ قلت: وهل هناك أهم من البدايات؟ إن حياتك عبارة عن سلسلة متواصلة من البدايات، كأنك تولد كل يوم مرة أخرى، أول يوم في الحياة، أول يوم علم، أول يوم عمل، أول حب، أول وظيفة، أول قصيدة، أول أغنية، أول نجاح، أول إخفاق، أول ديوان، أول جائزة، أول سفر، أول لقاء مع عبد الحليم حافظ وغيره من «مجرة» النجوم التي عشت واحدا منها.
    وافق الأبنودي على إجراء حوارات «استكمال أجزاء الصورة». وافق ربما لأننا صديقان، وربما من باب أن «الحياة تجارب»، أو لأي سبب آخر. المهم أنه وافق، مع احتفاظه بموقفه غير المتحمس. لكن «الحماسة» لم تتأخر كثيرا فمع أول سؤال وأول إجابة كان يتدفق كالشلال، كالنيل الذي كان يفيض هناك في «أبنود» قبل أن يكون هناك سد عالٍ. وليس عجيبا أن الأبنودي يذكر أيام الفيضان هذه بكل الود ويضعها في الموضع الذي يليق بها من تاريخ مصر. وفي الوقت نفسه يعتبر السد العالي «مشروعه» الذي يفاخر به فهو القارئ لتاريخ مصر ـ المكتوب وغير المكتوب ـ بعين محبة وقلب رؤوم والقادر على اكتشاف ما كان في كل حقبة من «فضيلة».
    مع السؤال الأول والإجابة الأولى كان الأبنودي يتدفق حماسة واكتشف واكتشفت معه كم كانت مبهجة تلك البدايات التي راح يقص حكاياتها.
    في المغرب
    ( المقصود ساعة الغروب )
    تفرط جتتها ف حلق الباب
    كل النسوان في ابنود في المغرب
    تقعد ع الاعتاب
    وكلام المغرب لون المغرب:
    هدد اليوم واستنظار الرجالة
    سيرة الميت
    واستفكار الأحباب
    ليس مهماً -جداً- أن أذكركم بأن هذه الأبيات هي مقطع شعري من الديوان/ الرواية «أحمد سماعين»ـ وهو حكاية من حكايات البدايات سنعود إليها لاحقاً، لكن مهم أن نشير إلى أن المقطع يظل إحدى الهبات الخالدة التي ألهمتها فاطمة قنديل ولدها عبد الرحمن الأبنودي، ليس فقط لأن صورة المرأة التي جلست مستترة بغبش المغرب على عتبة دارها، تريح جسدها (تفرط جتتها) من عناء اليوم، تنتظر رجلها وتتذكر الراحلين والغائبين، ليس فقط لأن هذه الصورة هي نفسها صورة «فاطمة قنديل»، لكن. وفي المقام الأول. لأن محبة الأبنودي لأمه علمته كيف يحب من أجلها كل صاحباتها ومثيلاتها، أن يصبح ابنا لكل الأمهات، يرقبهن وتنطبع صورهن في ذاكرته، من العين إلى القلب ثم إلى اللسان الذي ينقش ملامحهن شعرا. هذا هو «المهم»، أما «المهم جداً» فهو أن الأبنودي ولد على عتبة كالتي وصفها. ووصف بابها. في هذا المقطع من شعره.
    حين ذكرت له حرص والدة أحد الأصدقاء على متابعة شعره قال الأبنودي إنه يعيش في حراسة «الأمهات». كأنه ابنهن جميعا، أو كأنهن أم واحدة، هي فاطمة قنديل التي قال عنها: «أنا ابن أمي فاطمة قنديل وجدتي «ست أبوها» وكانتا فقيرتين إلى أبعد الحدود، غنيتين بما تحملان من أغانٍ وما تحرسان من تقاليد وطقوس هي خليط من الفرعونية والقبطية والإسلامية. أعتبر نفسي محظوظا أني عشت مع هاتين المرأتين حياتهما ولم أتفرج على القرية من شرفة عالية ولا من خلف زجاج نافذة.
    فاطمة قنديل في حياة الأبنودي ليست بداية فحسب، لكنها قيمة عليا، مثل أعلى و«نهاية مطاف» يستقر عندها كل ما له مستقر من الأحلام والعواطف، الأفكار والكلمات، لكن هذا -أيضاً- حديث آخر، أما الآن فدعونا نتابع ذكريات الأبنودي عن تلك اللحظة التي تشكل بداية وجوده على الأرض، لحظة الميلاد. نتابع ذكرياته التي لم يكونها ـ طبعا ـ من معايشة اللحظة، إذ أنه ككل البشر لم يشهد لحظة ميلاده وما كان له أن يشهدها، لكنها ذكريات حصل عليها ـ بلا شك ـ من فاطمة قنديل بين الكثير الكثير من منحها وعطاياها التي اختصته بها.
    طريق الآلام
    كان الشيخ الأبنودي والد عبد الرحمن عين مدرسا للغة العربية في قرية نقادة التي تقع على النيل قريبا من قوص واصطحب معه زوجته فاطمة قنديل وكان عبد الرحمن جنينا في أحشائها. وللمرة الأولى ـ والأخيرة ـ أخطأت السيدة الصعيدية الحصيفة في تقدير موعد الولادة، إذ فوجئ زوجها بآلام مخاضها فراح ـ مسرعا ـ ليقدم طلب إجازة من المدرسة ومهرولا عاد إليها يجمع الضروري من الملابس والأغراض ويصطحبها سائرا إلى جوارها من دون أن يتمكن من أن يسندها (وهل كان يمكن أن يفكر في ذلك؟) في رحلة العودة إلى أبنود، إذ لم يكن ممكنا أن تلد المرأة بعيدا عن دارها، طبقا لقاعدة لا تقبل الاستثناء، تجعل أوجب واجبات الصعيدي أن يولد بين أهله وأن يدفن في مقابرهم. هكذا كان على زوجة الشيخ الأبنودي أن تسير معه من المنزل إلى مرسى المراكب على النيل في نقادة قاصدين قوص. وفي المركب ذي المحرك البدائي كان عليها أن تكتم أنينها وتتحمل آلام مخاضها صامتة قدر الإمكان. ثم كان عليها، للنزول إلى البر، أن تسير ـ وهي على هذه الحال ـ فوق لوح الخشب الطويل المنصوب أفقيا بين حافة المركب وحافة النيل. كان عليها أن تظل متزنة رغم الاهتزازات العنيفة التي يبديها هذا «الجسر البدائي» مع كل خطوة يخطوها الجسد المثقل فوقه. ومن شاطئ النيل سارت متجلدة حتى محطة قطارات قوص، عبر طريق ترابي محاط بالأشجار اجتازته فاطمة قنديل والشيخ الأبنودي في ساعة كاملة. وحين وصلا إلى المحطة لم تكن بها قدرة على الوقوف فرقدت مستترة بشجرة «لبخ» فيما ذهب الشيخ ليقطع تذكرتي السفر في انتظار القطار البدائي الذي يأتي بلا موعد ويرحل بلا موعد ويقف لكل من يشير إليه وأحيانا يقف من دون أن يشير إليه أحد، ومن غير سبب معلوم.
    وحين جاء القطار -أخيرا- وركبته فاطمة قنديل، لم تستطع أن تجلس على أي من كراسيه الخالية، إذ لم يكن في عربة القطار الواسعة أكثر من خمسة أو ستة أشخاص. هكذا وقفت خلف الباب، حتى إذا تحرك القطار نامت حيث تقف ـ خلف الباب والكراسي ـ ووقف الشيخ يسترها بعباءته حتى وصل القطار ـ بعد ساعة كاملة ـ إلى أبنود.
    وصلت «القافلة» إلى «مضارب الأهل»، الذين جاؤوا لفاطمة قنديل بحمار لتركبه، ذلك أن المسافة من محطة القطار إلى الدار في أبنود نحو ثلاثة كيلومترات. وما إن خطت الأم نصف خطوة إلى داخل الدار حتى وضعت حملها قبل أن تكمل نصف الخطوة الآخر. يقول الأبنودي ـ كأنه كان شاهدا على ما حدث ـ: هكذا جئت إلى الدنيا، على العتبة، بقدم داخل الدار مستعدة للحياة مائة سنة وأخرى على الطريق مستعدة للفرار من هذه الحياة قبل أن ينتبه أحد إلى ما تنوي عليه. كان ذلك في 18 من ابريل/نيسان 1938.
    الحياة من يد الموت
    يقول مثل شعبي مصري «اشتريه -أي إشتري الكتكوت أو فرخ الدجاج-في التوت يأكل ويموت، اشتريه في المشمش يأكل وينفش» والنصيحة واضحة بتجنب شراء الفراخ في موسم التوت حتى لا تموت، أما تلك التي يتم شراؤها -بعد فقسها مباشرة- في موسم المشمش فإنها تأكل وتنمو وتسمن (تنفش). ومع التسليم بصحة المثل الذي يلخص خبرة الأجيال الطويلة، ويعتصرها فإن الغريب هو أن الفاصل بين التوت والمشمش هو شهر واحد من شهور السنة القبطية، إذ ينضج التوت في برمودة، فيما ينضج المشمش في الشهر التالي له مباشرة بشنس، والحكاية أن الفراخ تحتاج إلى الدفء وتتضرر من البرد الذي لا يكون سحب كل ذيوله حين ينضج التوت، فبرمودة آخر شهر يمر به البرد ـ وإن لم يكن شهرا بارداًـ وبشنس أول شهور الدفء الخالص.
    ولأن عبد الرحمن الأبنودي «وُلِدَ في التوت» كان رأي أبيه الشيخ الأبنودي بعد أن رأى هزاله البادي وضعفه الشديد أنه لن يعيش، ونصح لزوجته ألا تتعلق به وتفترض أنها لم تنجبه. لكن فاطمة قنديل كان لها رأي آخر، وظلت تحرس حياته لتفخر -في ما بعد-بأنها حققت بإبقائه على قيد الحياة أكبر معجزة. يتذكر الأبنودي: «كنت نحيفا عليلا وكانت أمي تربط ركبتي بأشرطة من القماش خشية أن تتفككا! ويقول: ولدت في عام 1938، ومن 1938 حتى 1943 كان وباء الملاريا يجتاح القرى وبعده جاء وباء الكوليرا وكنت -بحكم بنيتي الضعيفة ودونما حاجة إلى أوبئة- في طريقي إلى الموت. وأشار الشيخ الأبنودي على أمي أن تتركني إلى جوار الجدار لأموت في هدوء وأن تنجب غيري فقد كنت نحيلا كالحبل، أصفر الوجه مضعضعا. واضح أنني غير مقبل على الحياة. ولكن فاطمة قنديل أصرت على أن أعيش وواجهت الملاريا والكوليرا كامرأة باسلة، كحدأة تختطف الحياة لصغارها. أذكر هنا بعضا من ذلك الطعام الذي كانت تمضغه وتضعه في فمي -كأنها طائر يطعم فرخه- وأنا بين الرابعة والخامسة. أذكر كيف كانت تنقلني من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل وتبعد عني الدجاج الذي يحاول أن ينقر عيني وتغطي وجهي بطرحتها السوداء، ودائما ما كانت تذكرني بعد ذلك بأن أحداً من أبنائها لم يكلفها عصبياً وعاطفياً مثلما كلفتها».
    طب الأمهات
    لم تكن فاطمة قنديل تدافع عن ولدها في مواجهة الموت فحسب. لم تكن ترتقب ظهور الهلال الجديد بشغف ولهفة، لأن ظهوره يعني أن ولدها عاش شهرا آخر وأن نضالها لم يذهب سدى، لكنها كانت -بدفاعها هذا- تلقنه الدروس الأولى في كتاب «الخيال الشعبي» الذي أصبح الأبنودي قطعة منه وأصبحت كلماته فصلا مهما من فصوله.
    يقول الأبنودي: «أمضيت السنوات الأولى من طفولتي في مرض متصل تقريباً. لم يكن مرضاً واحداً لكنها «أدوار» متعددة وحالات متنوعة وأعجب من عدم قدرة هذه الأمراض على قتلي رغم كل «التسهيلات» التي حصلت عليها!»
    ويقول: «كانت صيدليتي هي ذلك الموروث الشعبي الذي تركه الأجداد للأحفاد، من وصفات وأدوية هي في الواقع أعشاب وأوراق أشجار وألوان من «الأحجار». أدوية تجفف وتغلى وتدق وتصحن. وكان الطبيب، أو الطبيبة في الواقع، أمي فاطمة قنديل إذ كان تطبيب الأطفال مهمة نسائية تمارسها الأمهات بعيدا عن الرجال وبعد خروجهم من البيت إلى حقولهم وأشغالهم».
    ويحكي الأبنودي عن المرة التي أصيب فيها طفلاً بـ«نزلة معوية»: «رأتني إحدى جارات أمي فصاحت فيها: أنت اتجننتِ يا فاطمة؟ الولد «مصرانه مقطوع» وسيموت إن تركناه. ولم تتركني أمي، لكن هذه الجارة هي التي تركتها وراحت تدعو بقية الجارات ليشاركن جميعا في طقس علاج «المصران المقطوع».
    لم أكن بلغت سنّ السادسة وفوجئت بحلقة النساء -لابسات السواد- التي أحاطت بي، أما هن فكن منشغلات عني وعن ذهولي بمناقشة محتدمة حول أفضل الطرائق التي يمكن اتباعها للتغلب على العين الشريرة التي رمتني بهذا المرض رغبة منها في إهلاكي.
    كنت أعرفهن جميعا وأطمئن لهن كما أطمئن إلى أمي، لذا استسلمت لهن وهن يمارسن طقسهن الذي كاد يخرج روحي بدلا من إخراج العين الشريرة.
    فرشت النساء ملاءة سوداء على الأرض، ملاءة من التي يرتدينها خارج المنزل والتي يتميز نسيجها بأنه ثقيل ضيق المسام، حتى كأنه يخلو منها، كأنه قطعة واحدة متماسكة لا ينفذ منها ضوء ولا هواء. إلى باطن الملاءة المظلم قذفن بي، أما هن فتوزعن على جوانبها يمسكن بها ورحن «يؤرجحن» الملاءة ويؤرجحنني معها، إلى أعلى وإلى أسفل، يمينا ويسارا، بهدوء في البداية، ثم ومع احتدام الطقس تحولت الأرجحة إلى «عصر» تختلف معه أضلاعي وأوقن بأنني سأموت مخنوقا في هذا الظلام الدامس حيث لا أحد يراني ولا أحد يسمعني. كن مشغولات عن سماع أي شيء بتلك «الرقية» التي رحن ينشدنها:
    يا شافي
    يا عافي
    شيل الأذى
    من بطن واد فاطنة (ابن فاطمة)
    من عشية (منذ الليلة)
    يا عالم بالقصد والنية
    خزق عين اللي قطعت مصرانه
    وغيرت لحيته وألوانه
    كنت أفقد الإحساس بجسدي فإذا استعدت قدرتي على النطق صرخت بكل ما في وسعي وهن مستمرات في أداء مهمتهن لوصل «مصراني المقطوع» غير مباليات بصراخي. مرات كثيرة أتقلب في ظلام الملاءة، يقذفن بي إلى أعلاها لتعود وتتلقفني. رعب حقيقي لم أصدق نفسي حين انتهين منه وقذفن بي على الأرض فاقداً الوعي تقريبا، منهكا ومرعوبا إلى أقصى درجة. أشعر -للمرة الأولى- بكراهية عميقة لهؤلاء النسوة اللاتي أدين لطقسهن هذا بحياتي إذ شفيت بعده مما كان بي!
    هكذا داوتني «فاطمة قنديل» وجاراتها».
    الطاعون
    هذا عن الأم، فماذا عن الأب؟ وهل كان الشيخ الأبنودي يرد بعدم تحمسه لحياة ابنه الذي «ولد في التوت» على الساعات العصيبة الرهيبة التي جعله ميلاد هذا الابن يعيشها؟
    يرد الأبنودي بما ينسف فكرة عدم حماسة الأب لحياة ابنه ويؤكد أنه كان -ككل أب- محبا لأبنائه وأن نصيحته لفاطمة قنديل بترك عبد الرحمن يواجه مصيره «جوار الجدار» لم تكن تعبيراً عن فقدان الحماسة بل عن فقدان الأمل. كانت عدم تفاؤل لا عدم رغبة.
    يقول الأبنودي: «أما الوالد، فأذكره يحملني وأنا «مربَّط» بالشاش وأسمع أنني أصبت بالطاعون، أو أنهم لم يجدوا تسمية أخرى للورم الذي أصبت به في رقبتي وكان مفزعا. أذكره يحملني بين يديه وهو قادم بي لا أدري من أين وحين أرقدني رأيت -للمرة الأولى- دموعا تتقاطر من عينيه والشيخ الأبنودي كان لا يبكي ولا يضحك أمام أبنائه وحين كان يضحك مع أصدقائه ويرى أحد أبنائه مقبلا كان يمد كفيه على وجهه لـ «يكشط» الضحكة وكذلك كانت جلساتنا على الغداء، الوجبة الوحيدة التي نلتقي إليها، أشبه بحصة تفتيش مدرسي، ذلك أن حياته القاسية لم تترك له وقتاً ولا رفاهية للضحك والتساهل ومحاولة خلق صداقة بينه وبين أبنائه وهذه سمة عامة للرجال في الصعيد، ألا يتصرفوا على نحو يشجع أبناءهم على البحث عن شيء من التكافؤ في العلاقة معهم».
    ويواصل الأبنودي حكاية الورم الذي أصابه: «عرفت في ما بعد أن هذا الورم الذي أصابني كان غدة -ربما كانت غدة نكافية- ولم يكن لهذه الأشياء في ذلك العصر أسماء محددة. فقط تلك الأسماء الشعبية مثل: طاعون، ضربة. وكان العلاج نفسه مريعا ربما أكثر من المرض فقد «ذبحوني» تقريبا وعلى وجه الدقة فتحوا شقا مستعرضا موازيا لعظمة الفك السفلي من أولها لآخرها. كان شقا عميقا ظل أثره واضحا حتى سنوات قليلة مضت». ويشير الأبنودي إلى ندبة تحت ذقنه قائلا: «ما زالت هذه الندبة ـ وهي من آثاره -واضحة- عرفت لاحقاً أن الشيخ الأبنودي، أبي، يخبئ دموعا تحت عينيه، وأنه قادر على التحكم فيها. ربما لهذا كانت دمعتي قريبة وربما لهذا أيضاً أنا صديق لابنتيَّ وعلى درجة كبيرة جدا من التسامح والتعامل البسيط معهما في أكثر الأمور تعقيداً، محترما أنهما ليستا أنا، وأن لكل منهما ذاتها المستقلة».
    وإلى الحلقة المقبلة.
    ولما تحت العشية
    يجمعنا قمر العشية
    جنب البيبان والسبيل..
    سكوت يكون الكلام
    نتكلموا بالأيادي
    بالضحكة.. وان دار منادي..
    ما نقولش مات الكلام!!
    (الأبنودي ـ ميت:الزحمة)
    على شط جروحي طلع الورد ومد لحد ما طال
    تعريشة يومي المسقوفة بفروع الشمس
    على شط جروحي شب الحب عيدان العود موال
    تعريشة مواويلي الخضرة
    أنا تحتك مش باحلم ولا اطير
    مش واخد بالي غير من زقزقة العصافير
    والنيل حواليا سواقي..
    ومناديل وطواقي ومواويل
    ونخيل وحفيف ودروب وديوك وولاد
    بتغني بصوت شواديف
    والكنكة احمر الشاي فيها.. كييف..
    أنا واد كييف
    (الأبنودي ـ غيطان الباذنجان/الأرض والعيال)
    أمايَّه..
    وانتِ بترحي بالرحى..
    على مفارق ضحى..
    ـ وحدك ـ وبتعدِّدي
    على كل حاجه حلوه مفقوده
    ماتنسينيش يا امَّه في عدودة
    عَدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن
    لا تولولي فيها ولا تهللي..
    وحُطي فيها اسم واحد مات
    كان صاحبي يا امَّه..
    واسمه
    ناجي العلي
    (الأبنودي ـ الموت على الأسفلت)
    ـــــــــــــــــــ
    مقطع 4
    رجعت «أبنود» للدار
    قادت كوانينها واتعشت
    وملت لنضتها بالجاز
    طلعت «أبنود»
    قضت فرض المغرب
    الدنيا أول صيف
    والقمر الليلة لابس اللي ع الحبل
    لاهو عابر سكة.. ولا ضيف
    (الأبنودي ـ أحمد سماعين)


    الابنودي مع والدته

    مع تلميذاته
يعمل...
X