إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أغاني القبة للباحث : خير الدين الأسدي ..دراسة.. - وحدة الوجود ووحدة الشهود- المجاهدة..العقل والقلب..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أغاني القبة للباحث : خير الدين الأسدي ..دراسة.. - وحدة الوجود ووحدة الشهود- المجاهدة..العقل والقلب..

    خير الدين الأسدي





    المحتويات

    ال
    مقدمة
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


    أغاني القبة




    «أغاني القبة» نموذجاً


    لعل رائعته هذه تذكرنا بشعر « محمد إقبال» شاعر باكستان العظيم، ومتصوفها الكبير، وذلك السحر الذي يصدح بموسيقى سماوية، عنوانها « أغاني القبة».

    يذكّرنا أيضاً بشعر «كبير» الصوفي الهندي الذي كان ينخطف في شعره إلى عوالم من السناء والنغم العلويين!!.
    لا يخفي الأسدي تأثره بالمتصوفة عموماً، ومتصوفة إيران خصوصاً، فلقد اتخذ في هذا العمل مرشده وملهمه الروحي « حافظ الشيرازي»، ونحن لا ننسى تجربة الأسدي القاسية حين خسر أسهمه في معمل الغزل والنسيج بعد تأميمه، كيف دخل في تجربة عيانية للفارابي الذي أخذ يشدّ من أزره، ويؤازره في محنته.

    ويذكر الأستاذ جميل منصور: « لقد جعل الشاعر غوته كبير شعراء ألمانيا - وأحد أعمدة الشعر الأربعة في العالم حسب أقوال النقاد العالميين، والثلاثة الآخرون هم: "هوميروس، ودانتي، وشكسبير"- من حافظ الشيرازي دليلاً يهديه في قفار الشرق الواسعة».

    وعلى النحو نفسه، اتخذ الأسدي من «حافظ الشيرازي» دليلاً له في عالم الغيب والنشوة الصوفية. وفي هذا نسمع الأسدي يقدم ديوانه هذا بقوله: «هذه نفحات من الشعر الصوفي المنثور، ارتفعت عن دنيا اليقظة، كما ارتفع الموضوع عن دنيا الهيولى، وأرسلتها الغيبوبة الغارقة نثرات من رفاه الحب، وجَوَاه إلى ساحة ما وراء الطبيعة».

    ثم يقول: «لقد جهد الوعي كثيراً في ترتيب ما التقطته عدسة الغيبوبة وما وضعته، ولعل هذه الإثارة من بقاياها التي لم يذلّلها الوعي.

    جعلتُ هذه النفحات مقطوعات، دعوتُ كلاً منها "سورة" أي "أغنية" وأوردتها على لسان حافظ الشيرازي: لسان الغيب – كما لقّب – وزعيم الشعر الصوفي، وملهمي وأستاذي، كما ألهم وعلم قبلي غوته، أوردتها على لسانه – وإن كان الأكثر منها لا ينتمي إليه».

    أما الجو الخاص الذي كان الأسدي يضع نفسه فيه قبل أن يشرع في كتابة قصائده، فهو ما يشير إليه الأديب عبد الفتاح رواس قلعه جي قائلاً:
    «قال لي طبيبه وصديقه إحسان الشيط: إنه كان يأخذ نفسه بصوم قاسٍ فيمتنع عن الطعام والشراب أياماً، يعتزل فيها الناس، وينقطع إلى التفكير متخففاً من ثيابه حتى إذا بلغ منه الوهن الجسمي مبلغه، وبتأثير الجوع والظلام والسكينة رقي إلى أعلى درجات الصفاء الروحي، وأحس أنه ينخلع من ناسوته ليغرق في غدير الحب الإلهي، وخُيِّلَ إليه أنه يسمع موسيقا علوية تنحدر من مواطن النجوم، وأن الغرفة تغرق في الأنوار السماوية، ويظل على هذه الحالة حتى يسمع وقع خطوات رابعة العدوية في السماء، وعلى ايقاعاتها يبدأ رحلة القصيدة في حالة بين الصحو واليقظة، بعيداً عن أسر الإحساس بالزمان والمكان، والأنا التي أضناها الشوق، والتي تفنى في الصمدية، تنهمر عليه كلمات القصيد وتتشكل أمام عينيه: كوَّتي الغيب، والرؤى الشعرية».

    ذكرنا تأثره بمتصوفة ايران وشعرائها (حافظ الشيرازي مثلاً) ، وسيمر معنا جلال الدين الرومي، وأخيراً وليس آخراً، بوسعنا أن نجد تناظراً أو توازياً في الخط العام بين عمل خير الدين الأسدي هذا وعمل متصوف نيسابور الكبير فريد الدين العطار في كتابه «منطق الطير» الذي يتحدث فيه عن رحلة الطير مروراً بسبعة أودية بدءاً بوادي الطلب، وهذا الوادي نجد نظيره عند الأسدي في السورة الأولى من كتابه، وهي «سورة المَدْرَجِ» وهي بدء درب السالك. وسنرى أخيراً كيف ينهي الأسدي كتابه في «سورة الفناء» في حين ينهي العطار رحلة الطير أو تمامها في الوادي السابع، ويسميه وادي الفقر والفناء.

    عند هذا الحد نستطيع أن ندلف في دراسة متواضعة لعوالم الكتاب:

    أولاً) وحدة الوجود ووحدة الشهود

    يذكر د.بديع محمد جمعة ما يلي: «يرى ابن عربي أن الوجود حقيقة واحدة ذات وجهين الوجه الأول الباطن هو الحق، والثاني الظاهر وهو الخلق».

    وعلى هذا النحو فقد ذهب البعض إلى فهم رؤية ابن عربي على أنها وحدة وجود حلولية، في حين دراسة د.بكري علاء الدين تركز على أنها وحدة شهود لا حلولية.

    والأسدي قد مال للجانب الحلولي فاعتبر الخلق تشظّي للمطلق، فها نسمعه في نهاية «سورة الشظايا» يقول:
    «نحن شظايا التنور، نحن أباديد [2] الله، انطلقنا من عقال الزمن، فصلّى الصُّبحُ لنا، وقبَّلَنا مُتُوعُ المساء».

    ولكن ماذا لو تأملنا الجمل التي سبقتها، فلنسمع ماذا يقول:
    «وترُ حبَّيك المشدودُ على أجواءِ الحياةِ، الوثيقُ بنقطتي الزمن يتناثر من تيار هزاته عارِم الومضات: ومضات مناغمتنا في وحدة الأقنومِ».

    ربما هنا نستطيع أن نتمثل ما يُعَبَّرُ عنه بوحدة الشهود، فهي وحدة الله في شخصه، وفي هذا السياق فإن وحدة الشهود عند د.بديع جمعة معناها الفناء عن شهود التكثر والتعدد أي الخلق لا نفي هذا التكثر والتعدد في ذاته، ذلك الذي يؤكده مذهب وحدة الوجود. ويستشهد بالدكتور أبو العلا عفيفي على أن وحدة الشهود حال أو تجربة «يعانيها الصوفي لا عقيدة ولا علم ولا دعوى فلسفية يحاول برهنتها أو يطالب الغير بتصديقها»، وهذا ما سنراه في الفقرة الثانية «العقل والقلب».

    كما يستعمل الأسدي في السورة لفظة «الجُلَّنار» وهي كلمة فارسية من مقطعين وتعني زهرة الرمان الحمراء، فلنسمع الأسدي ماذا يريد بها:
    «الساعةَ الساعةَ: أجبتُ، في ندوةِ شعرٍ مرَرْتُ. وأين؟ يُهِمُّكَ؟ أينَ؟ في الجُلَّنارِ.

    ما الجُلَّنارُ؟ تقول: دُنيا كدُنيانا، أخْطأتُ، بل أرشُدُ.

    الجُلَّنارُ – رَفِي[3]! – دُنيا كدُنْيانا: تدور حول شمسها، ويدور قمرُ الرَّفاهِ حَوْلَها.

    شمسُها – يا رَفِي – تَرامت ترامتْ في قُبَّةِ الوجودِ، فلا تُدْرِكُ العَيْنُ نُقْطَتَها، ولو حَنَتْ عليها حنايا البِلّورِ.
    الجُلَّنارُ – رَفِي! – دانَتْ بوَحدَةِ الوُجودِ، وأدْركت سِرَّ السَّعادةِ، فَوَحَّدَتِ الرايةَ واللغةَ والنَّظْمَ والمُلْكَ، كما وَحَّدَتِ القلوبَ.

    يا الجُلَّنارُ! يا الجُلَّنارُ يا ندْوَةَ الشِّعْرِ النَّديِّ! نَمْنَمَهُ فَنُّ الإلهِ».

    على هذا النحو نجد الأسدي قد مال لوحدة الوجود بمظهرها الحلولي، ويتفق مع شطحات الصوفيين الكبار، مثل الحلاج في قوله: «أنا الحق»، والبسطامي: «سبحاني ما أعظم شأني»، والمنتجب العاني: «ألا فاعلموا أن النقش هو النقاش».

    فها نحن نسمع الأسدي في «سورة الفناء» يقول:
    «أنا الحق، أنا الهو هو[4]، اعف ربي! عن الخلق، ولا تعف عني، وارحمهم ولا ترحمني».

    ثانياً) العقل والقلب
    إن كل صوفيي العالم يتفقون على أن القلب هو مركز الخبرة الروحية لا العقل، فالعقل على هذا النحو يشكل عائقاً كبيراً تجاه حصول هذه الخبرة، لذلك لجأت تقنيات اليوغا فيما يُعْرَف بالتركيز وصولاً به إلى حالة التأمل، ولكن الروحانيين الكبار يشددون على أن هذا لا يكفي، فعلى الذهن أن يدخل القلب، لكي يحصل على الخبرة الروحية الحقيقية، وفي ضوء هذه الخبرة نستطيع أن نلقي ضوءاً على شطحات الصوفيين، ونتفق مع د.أبو العلا عفيفي فيما قاله آنفاً، هذا من جهة ومن جهة أخرى فأحد العارفين يشير لنا إلى أنه «في أعماق الداخل والقلب يجد الإنسان كيانه ويتعرّف عليه ويعبر الحاجز وحدود السر الذي يفصل بين الخالق والمخلوق».

    وفي «سورة الإشراق»، نسمع الأسدي يقول:
    «العقلُ، ما العقلُ؟ ما هذا الكائن الدهي؟

    العقلُ، حسيرٌ جبانٌ، يتقلَّبُ في مُظلِمِ الأحاسيسِ، ولا يجرؤ أبداً أن يقرع باب السّرِّ.

    عوالمُ العقلِ كلُّها لا تلقي شعاعاً واحداً على هيكل الحقيقة العظمى، دع ذا، وسَلْ قبله: هل عرف العقلُ نفسَه؟
    نحن نقطة التسليمِ، والعقل مع الإشراقِ قطرُ ندى على سطحِ البحرِ.

    العقلُ يحاول أن يطل على الأسطُقُسَّاتِ[5] بمنافذ خمسٍ قاتمة، والإشراق يطل على الأغوارِ ببلَّورِ صفاءِ الشعاعِ.

    في أرض العقل بصيصٌ من نور السماءِ يجلوه الإشراقُ، وينفذ إلى بعض الرفوفِ من خِزانة الوجود».

    وكذلك نسمعه في «سورة البيان» يقول:
    «بنقدِ العُمرِ تشرى الرغائبُ، فلا تبع يوسف هناءتك، واشرب الإشراق الضاحك من واحة قلبك».

    ثالثاً) المجاهدة
    منذ البداية أشار الأسدي إلى أن شعره المنثور هذا رسالة ووحي، وهو لا يخص شعره فقط بل الشعر بشكل عام في مفهومه رسالة ووحي، ولكن هذه الرسالة وهذا الوحي لا يهبطا إلا على طهر القلوب.

    من هنا إذن، لابد من مجاهدة ومكابدة وآهات وحسرات يعانيها السالك وصولاً إلى طهارة القلب من الأهواء.

    إن هذه المجاهدة أو هذه التوبة، هي كما الخيمياء قديماً التي حاولت أن تقوم على أساس ما تسميه حجر الفلاسفة الذي من خلاله يتم تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وهو رمز لنفس الإنسان الأمّارة بالسوء والتي تتحول بالحق.

    يقول الأسدي في «سورة الحَبْرَةِ»:
    «وأنزِعُ عن وجودي نحاسَ الوجودِ، لأغدو ذهب الله بكيمياء حُبِّه».

    وفي «سورة الحكمة» نسمعه يردد على مسامعنا:
    «معبدُ الأصنامِ والكعبةُ سيَّانِ، إذا لم يُرْفَع في جوانبِ النفسِ معبدُ الرَّشَدِ والطهْرِ.

    هدية الروحِ من يدِ الطهرِ تسلَّمتُها، وسأردُّها نقيَّة، لا رين[6]، كلا، ولا تأثيم».

    إلا أننا في هذه السورة نفسها، نرى حضور أبو العتاهية قوياً من حيث نبرة الزهد واستذكار الموت، ولعلّنا نجد خلاصة حكمة الأسدي في هذه السورة. نسمعه يقول:
    «قوافلُ الأعمارِ عُرضةٌ لكمينِ الأيامِ، ولئن سَلِمْتَ – وهيهات – غالَك في النهاية الكمين الأعظمُ.

    وادي الصامتين غنيُّ الجنابِ، سنيُّ الرجاءِ، سكوته بيانٌ، ورُبَّ سكوت أبلغ من كلامٍ.

    تاريخُ الدنيا رُفاتُ الأحلامِ في مقبرةِ النسيان: يبتدئ في التراب وينتهي في التراب».

    لقد قلنا أن في مجاهدة السالك مكابدة وآهات وحسرات وصولاً إلى طهارة القلب، وعلى هذا النحو فالسالك يختبر دموعاً، ولكن من نوع آخر، فهنالك الدموع الدنيوية وهنالك الدموع الروحية، وهي تتعلق «بمستوى آخر في كيان الإنسان» كما يقول العارفون: «الدموع الروحية مرتبطة بتذكار الله الدائم، وبأسفنا، بل بحزننا العميق الموجع لانفصالنا عنه، الدموع الروحية تطهّر الإنسان من أهوائه المميتة، وتحييه بالكلية».

    نسمع الأسدي في «سورة التُّفَّاحَةِ» يذكر هذه الدموع، يقول:
    «جَوْهِرِي النفسَ يا دموع! واغسلي غبار الأسى، كما يغسِلُ الضوء أواسيَّ الظنونِ.

    غرقتُ في أسايَ، وغدا طِلابي من الدنيا أن تحملني أمواج دمعي إلى ضفافِ رضاكَ.

    سأغوصُ في لججِ دمعي طلباً لجواهرِ وصالِكَ، وسألقي بضريمِ قلبي في عبابِ بحرِكَ».

    رابعاً) العشق الإلهي
    لعل أجمل تعبير عن العشق الإلهي نراه في تجربة رابعة العدوية التي تغنّت بأجمل عبارات العشق الإلهي، لذلك انفرد الأسدي في سُوْرةٍ كاملة باسم «رابعة» ويذكر عبارتها الشهيرة: «إلهي! وعِزَّتُكَ، ما عبدتُكَ خوفاً من نارِكَ، ولا رغبةً في جنانِكَ، إنما عرفتُ مذاقَ جلالِكَ، فامتلأ رَحْبُ حِسِّي حبّاً».

    ومن خلال العشق الإلهي نرى الموقف من الجنة والنار يصبح واحداً فالعذاب من العذوبة، ها نحن نسمع الأسدي يقول عن رابعة:
    «إلى أينَ؟ وفي إحدى يديكِ نارٌ، وفي الأخرى ماءٌِ، تُسرِعين إسراعة قفزِ الذنوبِ في وادي الصلاةِ.

    قالت: إلى السماء، حيث أضرم النار في خمائل الجنان، وحيث أنضحُ الماء على جمر الجحيمِ، فلا يعبدُ الله إلا على شرع الغرامِ».

    حتى الطقوس والشرائع تفقد معناها أمام نار العشق الإلهي، يقول الأسدي:
    «الوضوءُ، ما الوضوءُ؟ أنتِ طهرٌ، أنتِ عطرٌ وجلالٌ، يا عروسُ.

    الكعبةُ، أين الكعبةُ؟ الكعبةُ نَسَمُ الصوتِ: خَفَّتْ إلى حجيج رابعة، اِسْمَعْهَا ترحِّبْ بمَقْدَمِهَا:
    تكرِمَتي تحتفي بهذي الضُّلُوعِ المُدَمَّاةِ: تَقَلَّبَتْ على الصُّخورِ سبعَ سنين تُريدُني.

    وهنا مَسَحَ جَدُّنا الأعلى دُمُوعَهُ بِرَاحَتِهِ، ومضى يقولُ:
    أعْرَضَتْ سرورُ الله[7] عن البيتِ، ونادتْ: مِا ليَ وللكعبة؟ أنا لَبِنَةٌ[8]، والكعبةُ حَجَرٌ: أُريدُ رَبَّ الكعبةِ، أُريدُ سُبُحاتِ وَجْهِ رَبِّي».

    والعشق الإلهي الذي غايته الاتحاد بالخالق حباً وهياماً، يصبح الحج إلى الكعبة رمزاً للمسيرة الروحية نحو الاتحاد بالخالق الذي يصبح عريسُ النفس.

    ولعل ذروة العشق الإلهي عند رابعة يعبر عنه الأسدي في هذه الزفرة على لسانها:
    «غفرانك – ربي – من استغفاري الأثيمِ.

    إلهي! نوّرتِ النجومُ، وغفتِ العيونُ، وأوصدتِ الملوكُ أبوابَها، إلا بابَكَ: مَشعَّ الرَّجاءِ والحَنانِ.

    إلهي! خَلا كُلُّ حَبيبٍ بحبيبِه، وهذا مُصَلاّيَ بَيْنَ يديكَ يُناجيكَ، أحبُّكَ، أحبُّكَ، فالمعي يا (نعم) بَيْنَ أجفانِ العريسِ:
    ليسَ لِي عَنْكَ ما حَيِيْتُ بَرَاحٌ[9]

    أنتَ مِنّي مُمكَّنٌ في السّوَادِ[10]».

    خامساً) إياز
    تأثر الأسدي بالشيرازي الذي كان أستاذه الكبير، وحسب الأستاذ جميل منصور فقد استوحى الأسدي من القاموس الشعري لهذا الأستاذ العظيم في «أغاني القبة» عبارات مثل: «ساقي الشراب (ويرمز إلى المرشد الحقيقي إلى الله)، وشيخ المجوس (أي شيخ الطريقة)، ومرآة الإسكندر (رمز المعرفة)، وماء الخضر (رمز الخلود)، وببغاء الحضرة (رمز الكلمات الإلهية العلوية)». وردد الأسدي أيضاً كلمات حافظ نفسها في أغانيه مثل: «نهر رُكْنابادَ، والخرابات، وشجر السرو، ورقص المسيح، وفرهاد وشيرين، ومحمود وإياز».

    إذن، سوف نرى شخصية إياز قد ترددت ليس مع الشيرازي فحسب بل مع النيسابوري فريد الدين العطار، وكذلك فالأستاذ جميل منصور يشير إلى تأثر الأسدي أيضاً بغيره من متصوفة وشعراء الفرس، وفي مقدمتهم جلال الدين الرومي صاحب المثنوي الشهير، الذي جعل معشوقه ذكراً في ديوانه الشهير «شمس تبريز». وقد صرَّح باسمه، وعبَّر في الأبيات التالية عن تعشقه لقدِّه السَّرَوي حيث يقول:
    «ها قد التزمتُ الصمتَ فانهضوا كلُّكمْ
    فإن القدَّ السَّرَوي لحبيبي يقول: "تعالَ!"

    يا خَسْرُو تبريزَ الشَّهْمَ! يا شمسَ الدينِ!

    أغلقتُ شفتيَّ، فتعالَ وافتحْ[11]».

    ومن جهة أخرى، هناك ما يُعرَف بالأوساط الصوفية في تركيا بـ«شاه باز» (أي شاهد اللعبة) كما يذكر د.بكري علاء الدين، وهو يشير إلى أن شاهد اللعبة هو الذي يسمح لرؤية الجمال الإلهي والانجذاب للحب الصوفي أياً كان المصدر حتى ولو كان ذكراً.

    وعلى هذا، يجد د.بديع محمد جمعة في دراسته لمنطق الطير لفريد الدين العطار النيسابوري أيضاً أنه «يشرح فكرة فناء المحب في محبوبه وارتقائه إليه حتى يصبح هو ذاته، بقصص دنيوية، والمثال الكلاسيكي المألوف دائماً هو المجنون وليلاه، ولكن العطار أضاف إلى هذين العاشقين القديمين عاشقين أحدث عهداً هما "محمود" و"إياز"».

    وهكذا، نستطيع أن نلمح حضور إياز في عمل العطار في عدة أماكن، خصوصاً في الحكايات التي تعبر عن الوادي الثاني أي وادي العشق.

    ففي حكايته (ص 3057–3081) ينال إياز من السلطان العرش والمُلْك ليسيطر على البر والبحر. إلا أن إياز ينخرط في بكاء كله حرقة من فعلة السلطان هذه، وإذ يستغرب الجميع بكاءه، يبادرهم قائلاً: «كم أنتم عن طريق الصواب بعيدون، فقد أعطاني منصباً حتى أشغل بالجند بعيداً عنه، فلن أغيب عنه لحظة واحدة، حتى ولو جعل مُلْكَ الدنيا بأمرها تحت إمرتي، وكل ما يأمر به يمكنني تنفيذه، إلا أن أبعد عنه لحظة، وماذا أصنع بملكه فكفاني طلعته من ملك».

    وعلى هذا يقول العطار النيسابوري: «إن كنت طالباً ولله عارفاً، فتعلم كيف تكون العبودية من إياز».
    أما الحكاية الأخيرة التي تُظْهِر إياز فهي في التعبير عن الوادي الخامس أي وادي التوحيد. وفيه نرى التماهي ووحدة الحال، فالسلطان هو إياز وإياز هو السلطان.

    فلنسمع ماذا يريد الأسدي أن يقوله لنا من خلال شخص إياز، ففي سورة «الأسميذ» يقول:
    «ومن ذا علَّم إيازَ؟ إيازُ خلقَ نفسه بنفسه، وأستاذه منه وفيه، وذرَّةٌ من موسوعة علمه لا تحيط بها الظنون.
    لو قُدِّرَ لكل شعرةٍ نبتتْ على جسدٍ أن يُرَكَّبَ فيها عقلٌ حكيمٌ لأخذتُ جميع العقولِ، ورميتُ بها على أقدامِ إيازَ».
    إذن، نستطيع أن نقول أن إياز لدى بعض الصوفية هو ما يعبر عنه الشيخ الأكبر بحقيقة الحقائق أي الإنسان الكامل، أصل العالم، أصل الجوهر الفرد، العقل الأول، الإنسان الأزلي، وفي أقصى تعبير له في الحقيقة المحمدية كما تشير الدكتورة سعاد الحكيم في معجمها الصوفي حيث تقول:
    «الإنسان الكامل: هو الحد الجامع مع الفاصل بين الحق والعالم: فهو يجمع من ناحية بين الصورتين: يظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقاً، يظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً. وهو يفصل من ناحية أخرى بين وجهي الحقيقة فيمنع الخلق من عودة الاندراج في الغيب الذي ظهر منه، إنه حد بين الظاهر والباطن يمنع الظاهر من اندراجه في البطون، كما أن الإنسان الكامل هو علة وجود العالم والحافظ له».

    فلنسمع غزل الأسدي الصوفي لشخص إياز أيضاً في سورة «الأسميذ»:
    «أيكون لي – يا حبيبي!– بعد صبريَ وأسايَ أن أُشْعِلَ شموعَ العينِ في محراب حاجبِكَ؟

    أيكون لي – يا حبيبي!– أن أشمَّ فوحَ الخلودِ من خِزانةِ ملابِ قلبكَ؟

    ماذا يضيرُ لو أنني قطفتُ من مجاني[12] بستانِكَ؟ ثم ماذا لو تظلَّلْتُ في حرقتي بظِلِّ سَرْوَتِكَ؟

    نسماتُ الرياضِ – يا أيها الأسميذُ!- غادَرَتِ الورْدَ والصفصافَ حنيناً إلى عارِضِكَ وقامتِكَ.

    يا مصحفَ الخلودِ! في معبد الوجودِ. رتِّل سنيَّ الآيِ[13]، فالرَّكْبُ[14] في حنينٍ.

    يا هامشَ الكتابِ! يا جبينَ الحبيبِ! جَلِّ لي غامضَ الأساريرِ في ديباجةِ[15] أُخَذِ[16] الجمالِ.

    إن رياضَ الجنّة، وظلال السِّدْرةِ[17] ورحيقَ الكوْثَرِ، لا تعدِل يقيناً موطئ أقدامِك».

    لقد رأينا في شرح د.سعاد الحكيم للإنسان الكامل الذي يُطلِق عليه الشيخ الأكبر، اسم الحقيقة المحمدية، فنستطيع أن نفهم لماذا أطلق الأسدي على إياز «الأسميذ» فهو في مقدمة شرحه لبعض ألفاظ السورة يقول: «أسميذ نحت من الأستاذ والتلميذ، لمن هو هما معاً، وإن خلت منه المعاجم».

    وللإفاضة فلنسمع الحلاج في هذه الأبيات:
    «سبحانَ من أظهر ناسوته

    سر سنا لاهوته الثاقبِ

    ثـم بـدا لخلقه في

    صورة الآكل والشارب

    حتى لقد عـاينه خلقه

    كلحظة الحاجب بالحاجب»

    إذن، كانت د.سعاد الحكيم قد قالت إن الإنسان الكامل يظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقاً، ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقاً، وعند الحلاج فهو الذي يجمع الصفتين معاً اللاهوت والناسوت، وإذن فالأسدي حين أطلق على إياز اسم الأسميذ أراد من جمعه صفتيْ الأستاذ والتلميذ أن يعبر عن حقيقتين معاً هما اللاهوت والناسوت في كمالهما.

    سادساً) أسرار الحروف
    يذكر د.عبد الحميد صالح حمدان أن الحروف في اصطلاح الصوفية هي الحقائق البسيطة في ساحة العلم الإلهي قبل انصباغها بالوجود العيني.

    أما د.سعاد الحكيم فتذكر في معجمها الصوفي عن ابن عربي في الفتوحات أن «الحرف: ما يخاطبك به الحق من العبارات».

    وعن «ورد الورد» للنابلسي: «حرف إلهي من الانحراف وهو التوجه، والحروف كلها انحرافات إلهية بمعلومات كونية لها وجهان وجه إلى الرب، ووجه إلى العبد».

    وفي هذا السياق يشير الصوفية إلى أن قيوم الحروف هو الألف.

    «فكل شيء يتعلق به ولا يتعلق هو بشيء، فأشبه الواحد لأن وجود أعيان الأعداد يتعلق به ولا يتعلق الواحد بها، فيظهرها ولا تظهره».

    وابن عربي في رسالته في سر الحروف نسمعه يقول: «ولتعلموا أن العلم بالحروف مقدم على العلم بالأسماء تقدم المفرد على المركب، فلا يعرف ما ينتجه المركب إلا بعد نتيجة معرفة المفردات التي تركبت منها».

    على هذا النحو فإن كل حرف هو حقيقة إلهية يشير إليها، أوَ لم يقل الشبلي أنا النقطة تحت الباء مشيراً بذلك إلى العبودية العليا، ناهيك عما تعنيه الباء في سر الحروف من حقيقة الحقائق أو العقل الثاني.

    وأيضاً الأسدي قد دلا بدلوه في بحر الحروف، ففي سُورَة «الزُّنّار» نسمعه يقول:
    «دائرة هاءِ (هُو) إنسان عينه المحيطُ، والعالمُ هذا الخلاءُ في أحضانِ الدائرةِ».

    وفي سُورَة «القَدْرُ» يقول:
    «لتكن قاماتُ الحسانِ محنيةً كالنونِ أمام ألِفِ إيازَ».

    وأيضاً:
    «هذه الواو – تبارك من كوَّرها، وكنجمٍ مذنبٍ صوَّرها – جناحٌ رؤومٌ، يبسطُ الدفءَ والأمانَ والحنانَ.
    الواوُ جمعٌ وضمٌّ وعطفٌ، ولفظُها ناعمُ الدغدغاتِ إنها قبلةُ الشفاهِ».

    وفي سُوْرَةِ «الأسميذ»:
    «لم يعلِّمني أُستاذيَ إيازُ غيرَ ألِفِ قدِّه».

    وأخيراً وليس آخراً، يبقى أن نشير إلى أن الأسدي قد جعل عدد سُوَر الكتاب سبعاً وعشرين سورة بعدد الحروف الأبجدية العربية مستثنياً بذلك حرف الألف متفقاً بذلك مع الشيخ الأكبر على أن الألف ليس حرفاً بل قيوم الحروف كلها.

    سابعاً) فلسفة الأسدي الصوفية
    لكل تجربة صوفية أو إيغال في التصوف فلسفته الخاصة، ونستطيع أن نلمح طيفاً من فلسفة الأسدي في سورته «الليسية»، وفي تحقيق الكندي (ت بعد 250هـ/بعد 850م) فإن الأيس وهي باللاتينية «Esse» تعني الوجود، وعند الأسدي فإن ما يقابل الوجود هو العدم، وبالتالي فالليسية إشارة إلى العدم إلا أنه يقف موقف الرافض من الخلق من العدم ويعتمد نظرية الفيض التي أتى بها أفلوطين، وتأثر بها أغلب المتصوفة، وعلى رأسهم الشيخ الأكبر ابن عربي الذي عالجها من منظور دقيق ومختلف نوعاً ما له خصوصية تجربته الشهودية.

    نسمع الأسدي يقول في نفس هذا السياق:
    «حوضُ العدم لا يفيضُ بالوجودِ: فالحياةُ الوليدةُ في مدفن الجسمِ صدورٌ وانبثاقٌ من حوضِ الوجودِ، يحدُّها – ولا حد لها – قطب الأزل، وقطب الأبد».

    وحين يقول:
    «أنا زفرةُ اللهِ: لا حدود لحبِّي، ضنَّ الزمان بها، ثم أرسلها ومضةً خاطفةً، في سماء الوجودِ».

    إننا نستطيع أن نفهم أنه ما يشير إلى ماهية الروح وأصل التسمية تأتي من كونها زفرة الله، إلا أن الأسدي يرفض فكرة الخلق من العدم، وهي فكرة تراوح قريباً من الحلولية حيث يقول:

    «كنتُ مع اللهِ، ولم يكن معنا شيءٌ، بل كان كل الوجود يحيا، ويدِبُّ فينا.
    ..
    فأنا الظِّلُّ الممدودُ، وأنا الخطُّ المشدودُ بين كان ويكونُ.

    فنِيَ الفنا، ونادى الحق: يا أنا ليسيَّة بدايتكَ كليسية نهايتِكَ: وجود عدمٍ، وعدمُ وجودٍ».

    ولما كان مع الله قبل أن يُخلق الخلق، وهذه الفلسفة التي تأثر بها كثير من الصوفية، نراها في «كتاب الميثاق» لشيخ الصوفية الأول الجنيد مشيراً إلى آية الميثاق كما يذكر د. بكري علاء الدين، ففي فلسفتهم الروح لم تُخْلَقْ مع الجسد، بل سبقت الجسد وكانت مع الله قبل الوجود، ثم فيما بعد عانت الغربة وأصبح الجسد سجناً لها، يقول الأسدي في هذا السياق:
    «"تغرَّبَتِ الروحُ، لَدُنْ فُصِلَتْ عن عالمها الأولِ، وكانتِ الغربةُ طليعةَ البلاءِ.

    ثم سُجِنَتْ في غياهِبِ الجَسَدِ، وحُرِمَتْ طَوْلَ الألوهيةِ، وكان السجنُ أدهى بلاءٍ.

    وسُلِّطَتْ عليها – سحابةَ[18] الحياةِ – ضروبُ الأسقامِ والآفاتِ تصوِّحها[19]، وتُذْوِي نُضْرتَها.
    فوا رُوحاه! وواروحاه! يالله لغُربتاهُ، لغُربتاهُ!».

    أسلوبه الأدبي


    لعل الأسدي كان من أوائل الذين طرحوا قصيدة النثر على نحوٍ غنائي يصدح بالموسيقى والأنغام العلوية فسماها أغاني القبة، وهي نموذج حقيقي على قصيدة النثر من حيث ارتباطها بالشعور وغنى التجربة، والمحتوى، والموسيقى الداخلية التي تفيض بها الألفاظ الفصحى الرنّانَة التي تسكب ألحانَها في جرسٍ خفي يحمل النفس إلى عوالم الجمال الأدبي وسحر العبارة.

    فلنسمع الأستاذ جميل منصور وما يقوله فيها:
    «إن "أغاني القبة" أغاني بديعة، وقصائد منثورة، تذهل المرء بتحليقها في أجواء نورانية، فتشعره بعلوها وسموها. وحين تترنم بقراءة سورها، وتستمتع بتلاوة أناشيدها، تتلذذ بخمرةٍ معتقة تروّي عظامك حتى بعد أن تغادر هذه الحياة.

    صدِّقني أيها القارئ العزيز أنني لم أتذوق طعماً مثل طعمها، ونكهةً مثل نكهتها لذلك كنت أقرؤها نهاراً، وأعيدها ليلاً إنها فريدةٌ في الأدب العربي نثره وشعره، ولم أعثر على مثل لها في الآداب العالمية كلها».

    مختارات من «أغاني القبة»

    سُوْرَةُ الحَبْرَةِ


    «أنَّى لكَ، يا حافِظُ! هذا القَفَصُ: قَفَصُ الجَسَدِ، وأنْتَ الحَبْرَةُ[20]: ذَلِكَ النَّغَمُ الحَالِمُ على شَفَةِ الخُلودِ؟

    مِنْ خُيوطِ الأنسامِ الحَيْرَى تَخِذْتُ أوتارَ عُودي، لِتَهيمَ مَلاحِنِي[21] في تِيهِ اللهِ، حيثُ أفلاذُ الحِكْمَةِ، وحيْثُ أَمَمُ النُّورِ.

    إزاءَ عَمودِ الصَّباحِ يُطاوِلُ عمودَ شِعْري: سارِيَتَانِ مِنْ نورٍ وبَهاءٍ، يَتَمَطَّى فَوْقَهُما بُرجُ الجمالِ.

    فمُضِيّاً، يا رُوحُ! يا جَناحَ الطُّهْرِ! وزَحْمةَ الإلهامِ! في مَطافِ العالَمِ القُدسِيِّ،

    مُضِيّاً إلى نَبْعِ الشَّمسِ الصَّادِحِ المُكَوْثَرِ الغارِقِ المُغرِقِ، لأغْسِلَ بِبَهائِهِ أواسِيَّ رِدائي،

    وأَفْتَحَ بابَ قَلبي بِمِلءِ القِوَى، ليستقبِلَ نَسِيمَ الشُّعاعِ مِنْ مَهَبِّ الحياةِ،

    وأكْحُلَ حِنْوَ نَجْمِ العَيْنِ بترابِ الحانَةِ، فلا أكتُبُ أرقاماً خاطئةً في لَوْحِ المَعْرِفَةِ،

    وأنْزِعَ عَنْ وجُودي نُحاسَ الوُجودِ، لأغْدُوَ ذهَبَ اللهِ بِكِيمْياءِ حُبِّهِ.

    لقد سُقِيتُ السِّكينةَ في رِحابِ الجَنابِ[22]، وخُتِمَ على شفتيَّ، فَشرِبْتُ دمَ قلبي في صَمْتٍ وسُكونٍ،

    وَأوْلانِيَ حبيبُ الأزلِ كَنْزَ الحُزْنِ والرِّضا والطَّرَبِ، لأكونَ المَعْنَى المُبْهَمَ الحُلْوَ الصّدَّاحَ يدورُ في خَلَدِ الزَّمانِ.

    ونادانيَ الصَّوْتُ: بِعَيْنيَ أنتَ، لأسقِيَنَّكَ شَرابَ الصِّدْقِ، وَلأكْشِفَنَّ لكَ عن وَجْهيَ الكريم،

    وَلأُطْلِعَنَّكَ على لُغاتِ الصَّمْتِ في الطَّيْرِ والزَّهْرِ، وفي كلِّ رفيفٍ[23].

    فأنا النُّقطةُ تحتَ الباءِ، أنا سُلْطانُ مَمْلكةِ النُّورِ، أنا رُبَّانُ بحرِ التّمجيدِ، أنا قَيّومُ الزَّمانِ والمكانِ.

    شَهِدْتُ عهدَ أنْ كانتِ النُّقطةُ دائرةَ عوالمِ الحُروفِ، وَنَظَرَ الحقُّ إليها بالهَيْبَةِ فَسَالَتْ وكانتْ ألِفاً.

    أنا طائرُ بُستانِ اللهِ، أنا تطْريبةُ السَّماءِ، أفْلَتُّ مِنْ شِبَاكِ الدُّنيا على نداءِ الحَبيبِ.

    أنا مَزاميرُ مِحْرابِ الزَّمَنِ، أنا بَبَّغاءُ الحَضْرَةِ، أُرَدِّدُ ما يَنْفُثُ[24] في مِنقاريَ أُسْتاذُ الأزَلِ.

    أنا قُمْريُّ الفَجْرِ، أهِيمُ بِتَسابيحي من مَرْفَهٍ[25] إلى مَرْفهٍ، وأُشْعِلُ فَوانِيسَ المَرَحِ في ضِفافِ الحَيَاةِ.

    نَسَمَتْ مِسامِعُ مَشَامِّي ومَشَامُ مَسامِعي تَراتيلَ العِطْرِ من قُمْقُم اللهِ.

    اِدَّغَمَتِ الحواسُّ، يا عبابيدَ[26] الدِّيارِ! فلا يُسَمِّرني في أرضِكُمْ سَبَبٌ ولا وسيلٌ[27]، وَهِمْتُ في أوْداءِ[28]

    الهَوَى، تَنُوءُ بي أحلامُ السَّماءِ، فأزجوها[29] شِعْراً غريبَ النَّغَمِ.

    فَقُلْ لِرِضْوانِ الجِنانِ: هذا تُرابُ مَجلِسِ حافظٍ، اِجْعَلْهُ بَخوراً في مَجْمَرَةِ فِرْدَوْسِكَ.

    أفْتَحُ ممالِكَ القُلوبِ، وأُغْرِقُ ساحةَ الكونِ بالنَّشوةِ للصَّفْوَةِ المَطَارِيبِ[30]، وأسوقُ بإسْعادِ الحَبيبِ هذهِ الدُّنيا في هُدُوءٍ.

    أَرْعَى رَوَاسِخَ أَعْضَادِ عَهْدِيَ حَتَّى دَيْجُورِ الأبَدِ، كما رَعَيْتُهُ مُنْذُ تَنَفُّسِ فَجْرِ الأزَلِ:

    مُنْذُ أنْ لَفَّنا النُّورُ في مَجالي السُّعُودِ، ولَجَّ بنا الهَوَى، فَافْتَرَقْنَا على مِيعادٍ.



    المراجع


    1) العلامة خير الدين الأسدي: حياته وآثاره، تأليف: عبد الفتاح رواس قلعه جي.
    2) أغاني القبة، تأليف: خير الدين الأسدي، إعداد: جميل منصور.
    3) منطق الطير، تأليف: فريد الدين العطار النيسابوري، دراسة وترجمة: د.بديع محمد جمعة.
    4) معاينة الله كما هو، تأليف: سخاروف، ترجمة: هدى فؤاد زكا.
    5) المعجم الصوفي، تأليف: د.سعاد الحكيم.
    6) رسالتان في أسرار الحروف، تأليف: محي الدين بن عربي.
    7) ديوان الحلاج.

    مصادر الصور: د. ناهد كوسا- مونتريال/كندا، من عدة مواقع الكترونية تحمل اسمه، ومن موقع http://www.syrie.ca



    نبيل سلامة
    اكتشف سورية
يعمل...
X