إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

    الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

    - الدكتور عمر بن قينة -

    دراسة - من منشورات اتحاد الكتاب العرب 1999
    المقدمــــــــــة
    القسم الأول: بحوث ودراسات
    هوامش
    الدراسة الثانية: صورة من: الرحلة إلى الحجّ
    هوامش
    الدراسة الثالثة :
    الهوامش
    الدراسة الرابعة : الحس
    الدراسة الخامسة : صور من الأثر القرآني
    القسم الثاني : محاضرات عامة
    الهوامش:

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

    المقدمــــــــــة
    إن بدت موضوعات هذا الكتاب مختلفة: في مادتها وشكلها، وحجمها، فهي متحدة في غايتها نحو القارئ العربي المسلم.‏
    هي موضوعات تخاطب المتخصصّ في زاوية، كما تخاطب الطالب في الجامعة، والتلميذ في الثانوية، مع التفكير الدائم في القارئ العام في سائر مادتها، التي تعالج قضايا تاريخية، أدبية، بظلالها الفكرية والسياسية والاجتماعية.‏
    فهي موضوعات في قضايا الفكر والتاريخ والأدب، من زاوية باحث وكاتب في مجالاتها، بعضها بحوث ودراسات متخصّصة، وبعضها محاضرات أو مداخلات، في مناسبات مختلفة.‏
    فإن وفّقت في شيء من ذلك فللّه الحمد في البدء والختام، وإن بقيت دون ذلك فعزائي إخلاص النيّة وصدق العزم، والأمل الدائم في خير أمّتنا كلّها العربية خصوصاً، والإسلامية عموماً.‏
    د.عمر بن قينة : 10/06/1995‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

      القسم الأول: بحوث ودراسات
      الدراسة الأولى: معالم في جهود الرّحالة المسلمين‏
      من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي إلى: القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي‏
      فنّ الرحلة من التقاليد المفيدة في تراثنا الحضاري، وفي إنتاجنا الفكري والأدبي خصوصاً، منذ القديم حتى اليوم.‏
      فقد بدأ فنّ الرحلة في النثر العربي في فترة مبكّرة، كما عرف العرب الرحلة عبر تاريخهم الطويل، منذ كانت رحلتهم للتجارة، من مكة شتاء إلى اليمن، وصيفا إلى الشام، كما هو ثابت في القرآن الكريم.‏
      وإذا كانت أغراض الرحلة قبل الإسلام التجارة عموماً والبحث عن الكلإ والماء للماشية في المراعي، فإنها اتخذت لها بعد الإسلام طابعاً جديداً في دوافعها التي بدأت تتعدّد ومقصدها المتطور جداً، ثم في شكلها المتميّز أدبياً وعلمياً بصفتها عملاً مدوّنا ذا طابع فكري-علمي، بجوانبه التاريخية والجغرافية والاجتماعية والأدبية، وهي جوانب تختلف حظوظها في الرحلات بحسب الكاتب وهدفه وطريقة تعبيره في صياغة رحلته.‏
      ذلك أنه بعد ما خرج العرب من معركة الفتوحات لتبليغ رسالة الإسلام في الأرض تكوّن لديهم رصيد من المعلومات عن الأوطان المفتوحة وتطلّعوا إلى ما وراءها، كما بدأت تتّسم رؤية الرّحالين للأوضاع في هذه البلدان وفي الأقطار العربية، كما هو الحال خارجها من بلدان المعمورة لمعرفة مناخها ونوع الحياة فيها:‏
      تنفيذاً لرغبة خاصة أو قياماً بمهمة في سفارة أو غيرها.‏
      وهكذا شرع فنّ الرحلة يحتلّ مكانة معتبرة في النثر العربي، وقد بدأ ذا اهتمامات تاريخية جغرافية، تدرّج في التطوّر للاهتمام بحياة الناس وعاداتهم وتقاليدهم ونظم الحكم وأساليب العيش، وأشكال العلاقات بين الناس، كما مضى يتطور ليكتسي أسلوباً أدبياً يعانق فيه الواقع الخيال، ويتآزران في وصف الأوضاع والبلدان وحياة الناس ومشاعرهم.‏
      وبالموهبة والحس الأدبي والخيال يكتسي عمل الرحالة أهميته الأدبية الخاصة التي تعطي الرحلة رونقها الأدبي الذي تنهض فيه أساساً على المشاهدة المباشرة وحدها، أو مع السماع والإطلاع على المصنفات التاريخية والجغرافية وغيرها، لذا اختلفت مستويات الرّحلة في طابعها الأدبي أو في قربها منه أو بعدها عنه، فمنها ما كان رحلة أدبية خالصة، ومنها ما كان عملاً تاريخياً محضاً أو جغرافيا بحتا أو هما معا أو أثنوجرافيا(1) صرفا. وربّما اجتمعت عناصر مختلفة من هذه كلّها في لبوس أدبي يوفّر معرفة واطّلاعاً ومتعة أدبية وأثراً فكرياً وفنياً.‏
      وعند النظر في مسيرة الرحلة في النثر العربي تلوح لنا فيها معالم بارزة جسدتها أعمال كثيرة لرحّالين مختلفين، يأتي ذلك الاختلاف من نوع العمل عند كلّ رحّالة وكذا عصره ممّا يخرج بحثه عن موضوعنا هنا، لكنها جميعاً تبرز مكانة معتبرة للرحلة في النثر العربي منذ القرون الأولى للحضارة العربية الإسلامية.‏
      وقد كان من أول الجهود البارزة في فترة متقدمة عمل اليعقوبي (أبو العباس أحمد بن يعقوب)(2) في القرن الثالث الهجري بمؤلّفه (كتاب البلدان) الذي عكس شغف المؤلف بالرحلة وتطلّعه لما يجري في الأوطان، وكذا البلاذري (أحمد بن يحيى)(3) صاحب (فتوح البلدان) الذي يغلب في عمله "جانب التاريخ على جانب الجغرافيا... ولقد حفظ لنا البلاذري مادة هامة في محيط الجغرافيا التاريخية يستحيل معها إغفال ذكر صاحبها في عرض للأدب الجغرافي"(4).‏
      ولا يكاد يهلّ القرن الرابع الهجري(10م) حتى يشهد بالخصوص ثلاثة أعلام، أولهم: المسعودي (أبو الحسن علي بن الحسن المسعودي)(5) صاحب (مروج الذهب ومعادن الجوهر) الذي يقول فيه: "صنفنا كتابنا في أخبار الزمان وقدمنا القول فيه في هيئة الأرض ومدنها وعجائبها وبحارها وأغوارها، وجبالها وأنهارها، وبدائع معادنها وأصناف مناهلها وأخبار غياضها، وجزائر البحار، والبحيرات الصغار وأخبار الأبنية المعظمة، والمساكن المشرّفة، وذكر شأن المبدأ وأصل النسل وتباين الأوطان"(6)، وقد أعطى المسعودي أهمية كبرى للمشاهدة والبحث أثناء التّرحال "ليس من لزم جهة وطنه وقنع بما نمي إليه من الأخبار عن أقليمه كمن قسّم عمره على قطع الأقطار ووزّع أيامه بين تقاذف الأسفار، واستخراج كل دقيق من معدنه، وإثارة كل نفيس من مكمنه"(7).‏
      وقد بدا المسعودي في كتابه ذا اهتمام "بالعرض الأدبي الذي يحتلّ أحياناً بالنسبة له المكانة الأولى... كان أديباً قبل كل شيء وناشراً للمعارف على منهج الجاحظ... مع ميل أكثر نحو الجدية ونحو الأسلوب القصصي"(8).‏
      وثاني الثلاثة المقدسي (محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي، شمس الدين أبو عبد اللَّه)(9) صاحب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم).‏
      يقول عنه صاحب (الأعلام) "رحالة جغرافي، ولد في القدس وتعاطى التجارة، فتجشّم أسفارا هيأت له المعرفة بغوامض أحوال البلاد، ثم انقطع إلى تتبع ذلك فطاف أكثر بلاد الإسلام" (10) وقد اتسم عمله بالأصالة، واعتبر "من أكثر المصنفات الجغرافية في الأدب العربي قيمة" لكونه شخصية متميزة "تختم بجدارة المدرسة الكلاسيكية للجغرافيا العربية، وسلسلة الجغرافيين الكبار للقرن العاشر" (11).‏
      أما ثالثهم: البيروني (محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي)(12) فإن كتابه (الآثار الباقية) يعتقد (كرتشوفسكي) أنه "كتاب لا مثيل له في جميع آداب الشرق الأدنى، وقد أحسّ العلماء بسمو شخصية البيروني العلمية منذ بزوغ فجر الاستعراب العلمي"(13) رغم أن أحد الباحثين العرب يرى أن هذين الرجلين الأخيرين "المقدسي والبيروني لم يكن هدفهم (*) الرئيسي الرحلة في حدّ ذاتها قدر اهتمامهم بوضع مؤلف في تقويم البلدان، كما فعل المقدسي مثلاً أو وصف حضارة غير إسلامية كما جاء في دراسة البيروني للثقافة الهندية"(14).‏
      وهكذا يكون البيروني همزة الوصل بين القرنين الرابع والخامس من الهجرة (10-11م) وهي الفترة التي بلغ فيها فنّ الرحلة النضج "فقد زخر بمصنفات مهمة بلغت أوج التطور الخلاّق كحركة مستقلة بذاتها" (15) تحددت سماتها في المؤلفات السّابق ذكرها، ثم اطّردت في القرن الخامس الهجري، حيث يبرز في البداية البكري (أبو عبيد اللَّه ابن عبد العزيز البكري)(16) صاحب كتاب (المسالك والممالك) وهو -هذه المرة- من الغرب الإسلامي، ويعتبر "أكبر جغرافي أخرجته الأندلس كما يقول دوزي" (17)، ومن نفس المنطقة يذكر الباحثون شخصية أخرى هو الفقيه ابن العربي (أبو بكر محمد بن العربي)(18) الذي ترك (اشبيلية) في اتجاه المشرق في نحو السادسة عشرة من عمره، غير أن رحلته التي تنسب إليه بعنوان: (الرحلة) أو (ترتيب الرحلة) تعتبر مفقودة.‏
      وابتداء من هذه الفترة بخاصة تبدأ منطقة الغرب الإسلامي عموماً والمغرب العربي خصوصاً تشهد حركة متطورة في أدب الرحلة تستلم فيها من المشرق الإسلامي عموماً والشرق العربي خصوصاً المشعل في هذا الفنّ الأدبي بخلفيته التاريخية والجغرافية والاجتماعية، فيبرز في ذلك أعلام يتميز من بينهم في هذا القرن (السادس الهجري) الشريف الإدريسي (أبو عبد اللَّه محمد بن محمد بن عبد اللَّه بن إدريس) (19) من أسرة الأدارسة العلويين بالمغرب الأقصى وقد عرف بكتابه الذائع الصيت (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) الذي أمتاز بشكل خاص "بغزارة مادته في جغرافية المغرب وصقلية" (20) أما المؤلف فقد وصفه أحدهم بالمفكر المثقف الرزين (21).‏
      ثم جاء بعده علم آخر في القرن السادس الهجري، هو ابن جبير (محمد بن أحمد أبو الحسن) (22)، صاحب (تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار) المعروفة بـ(رحلة ابن جبير) وهي خلاصة رحلته الأولى للحجّ التي دامت سنتين(23 ) وقد سجّلها على شكل مذكّرات بعد عودته إلى (غرناطة) التي وصلها في الثاني والعشرين من المحرم، سنة خمس مئة وثمانين (20 أفريل 1185.) وقد ذكر فيها "بدقة فائقة جميع مراحل رحلته"(24) وارتقى بها في الأخير إلى مستوى أدبي رفيع في عصره، وأهّلها لأن تكون "نموذجاً لا ينازع على أفضل ما كتب في أدب الرحلة الخالص في العصور الوسطى... ما صبغ رحلات سابقيه من تداخل واسع بين شتَى الموضوعات، وبذلك اتسمت بطابع أدبي أنقى، فكانت أكثر آثار العصور الوسطى قيمة في هذا المجال(25).‏
      وقد خطت الرحلة في الأدب العربي بعد (ابن جبير) خطوات أخرى متقدمة بمستواها الأدبي واتساع مجالها الجغرافي، انتقلت إلى مستوى عالمي أوسع على يد الرحالة ابن بطوطة (أبو عبد اللَّه محمد بن عبد اللَّه بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي)(26) الذي جاب الآفاق البعيدة انطلاقاً من رحلته إلى الحجاز للحجّ، الرغبة التي كانت تشتد في نفسه، فسافر "معتمداً حجّ بيت اللَّه الحرام وزيارة قبر الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، منفرداً عن رفيق آنس بصحبته، وركب أكون في جملته لباعث على النفس شديد العزائم، وشوق إلى تلك المعاهد الشريفة كامن في الحيازم، وفارقت وطني مفارقة الطيور للوكور، وكان والديّ(27) بقيد الحياة فتحملت لبعدهما وصبا، ولقيت كما لقيا من الفراق نصبا، وسني يومئذ اثنتان وعشرون سنة"(28).‏
      ويظهر جلياً أن (ابن بطوطة) ذو شغف شديد بالرحلة حتى عدّ علما بارزا فيها و "طرازاً فريداً لا يماثله كثيرون"(29)، قطع العالم الإسلامي، فكان خاتمة الرحّالين وأكبرهم خاصة من أولئك "الذين انتظمت دائرة أسفارهم العالم الإسلامي كلّه"(30) انطلاقاً من (طنجة) في أقصى المغرب العربي، فحظيت لذلك رحلته باهتمام كبير، واحرزت على تقدير معتبر في الدراسات العربية والإسلامية والعالمية، الأمر الذي دفع أحدهم للاعتراف بأهميته قائلاً عنه إنه: "كان آخر جغرافي عالمي من الناحية العملية، أي أنه لم يكن نقالة اعتمد على كتب الغير، كان رحّالة انتظم محيط أسفاره عدداً كبيراً من الأقطار"(31) في ظروف صعبة يقلّ فيها الأمن وتكثر المتاعب الصحية، وتتعددّ ألوان المعاناة في كسب القوت كما تكبر الحاجة إلى المال، لأن السفر يومئذ "لم يكن متعة ولا نزهة إنما كان مغامرة بالنفس والمال، فما كانت هناك طرق مواصلات مأمونة، ولا كانت هناك وسائل للراحة"(32).‏
      وقد جاء بعد ابن بطوطة (الحسن بن محمد الوزان)(33) المعروف باسم (ليون الإفريقي) (Leon Iafricain ) الذي ضاقت مساحة رحلته (وصف افريقيا) (Description de Lafrique ) (**) عن سابقها، لكنها أخذت أهميتها بالخصوص من شخصية صاحبها وحياته التي عرفت اضطرابات كثيرة خاصة بعد أسره (***)، لذلك تعتبر رحلته ذات أهمية بموضوعها وبالظروف التي كتبت فيها، خاصّة أنه جاء في فترة وظرف حيث "يكاد يعدَ بوجه عام آخر المؤلّفين الكبار في محيط الجغرافيا العربية ببلاد المغرب"(34) وهو بذلك خاتمة فترة معينة في مسيرة أدب الرحلة قبل عصر النهضة، برز فيها الرّحّالون المغاربة بنشاط واسع إلى جانب غيرهم من الرحالين المشارقة سواء ممن سبق ذكرهم في الأولين أو من الذين لم نذكرهم في الآخرين، أمثال (ياقوت الحموي)(35) صاحب (معجم البلدان) الذي هو من نوع المعالجة الجغرافية، و (عبد الباسط بن خليل الملطي)(36) صاحب كتاب (الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم).‏
      وإذا كنّا نلاحظ بعد هذه الفترة تقلصاً في نشاط الرّحالة، وقلة لذلك في الإنتاج، فإننا لا نلبث حتى نلمس انتعاشاً لفنّ الرحالة، فنلتقي بأسماء كثيرة خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر من الهجرة (17م) و (18م) خاصة في المناخ الجديد للنشر بعد شيوع فن الطباعة الذي بدأ يساعد على نشر بعض الآثار القديمة والحديثة، فمضت منطقة المغرب العربي بشكل خاص تواصل دورها، حيث برز فيها مجموعة من الرحالين الذين باتت لهم شهرتهم ومكانتهم في فنّ الرحلة، لعل أوّلهم: العياشي (أبو سالم عبد اللَّه بن محمد بن أبي بكر"(37) الذي دوّن رحلته (العياشية) تحت عنوان ثان هو "ماء الموائد" ويعتبر نموذجاً "لجميع مؤلفي هذا العهد الأخير الذي لم يطرأ فيه أي تقدم في الميدان"(38) وكذا ناصر الدرعي (أبو العباس أحمد بن محمد)(39) المتوفي بتامقروت بالمغرب الأقصى، وهي القرية التي ينتسب إليها رحّالة سابق عنه هو (التّامقروتي) (40) أما عنوان رحلة الدرعي فهو تقليدي لا يختلف عمّا بات شائعاً من ضروب التعبير التي منها نسبة الرحلة إلى صاحبها(الرحلة الناصرية) وكذا (محمد بن أبي القاسم الرعيني)(41) المعروف أيضاً بكلّ من (القيرواني) و (ابن أبي دينار) وعمله في الرحلة هو (كتاب المؤنس في أخبار إفريقيا وتونس) وأبو رأس الناصر (محمد بن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن أحمد بن الناصر الجليلي)(42) الذي أدّى فريضة الحجّ مرتين، الأولى سنة (1204هـ-1790م) والثانية سنة (1226هـ-1811م) وأَلّف رحلته (فتح الإله ومنته في التحدّث بفضل ربي ونعمته) التي حفلت بحديث كثير عن النفس، ومشاعره وأحاسيسه وقد "عاصر أحداثاً هامة في حياة بلاده وفي حياة العالم الإسلامي قاطبة" (43).‏
      ثم هنالك: ابن زاكور الفاسي (أبو عبد اللَّه محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد)(44) ورحلته (نشر أزاهير البستان فيمن أجازني بالجزائر وتطوان) وهي ذات قسمين الأول "خاص بالجزائر وعلمائها وطرق التدريس بها، والثاني حديث عن تطوان ومشايخها"(45) كما أن هناك رحلة ابن حمادوش (عبد الرزاق بن محمد بن محمد)(46) المعروفة باسم (رحلة ابن حمادوش الجزائري) المسماة (لسان المقال في النبإ عن النسب والحسب والحال) والذي كان رحّالة كثير الاهتمام بطبائع الناس وغرائب الأشياء، دقيق الملاحظة"(47).‏
      ويكون (ابن حمادوش) مع رحّالة جزائري معه ذي أهمية خاتمة القرن الثامن عشر، هذا الرحّالة الجزائري الآخر الذي عاصر (ابن حمادوش) هو الشيخ الورتلاني (الحسين بن محمد السعيد الشريف الورتلاني)(48) صاحب (الرحلة الورتلانية) المعروفة أيضاً بعنوان مرتبط بالسابق (نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار) يقول الأستاذ (محمد بن أبي شنب) وهو يقدم لهذه الرحلة التي حققها: "أنفس تصنيف رصَعت جواهره في وطن الجزائر، وأعلق تأليف اشتهر بين البوادي والحواضر، لاشتماله على عوارف المعارف، وظرائف الطرائف، وأوابد العوائد وفرائد الفوائد ونسق الأوصاف الكاملة وحلّ المسائل الشائكة، تارة راتعا في رياض الفقه والحديث والتوحيد وتارة واردا أحياض التفسير والتاريخ والتجويد، وآونة طامحاً إلى التصوف والنصح والوعظ باذلاً في ذلك كلّه غاية الجهد والنكظ، فاصلا جمانه بمرجان الحكايات الأنيقة ومرصّعا وشاحه بياقوت الأشعار الرقيقة وغير ذلك مما هناك" (49).‏
      أما المؤلف نفسه، فإنه بعد التوطئة وذكر الله والثناء على رسوله(ص) يقول:‏
      "لما تعلق قلبي بتلك الرسوم والآثار والرباع والقفار والديار والمعاطن والمياه والبساتين والأرياف والقرى والمزارع والأمصار، والعلماء والفضلاء والنجباء والأدباء من كلّ مكان، من الفقهاء والمحدثين والمفسّرين الأخيار، والأشياخ العارفين والإخوان والمحبين والمحبوبين من المجاذيب المقرّبين والأبرار من المشرق إلى المغرب، سيّما أهل الصحو والمحو إذ ليس لهم مع غير اللَّه فرار: أنشأت رحلة عظيمة، يستعظمها البادي ويستحسنها الشادي، فإنها تزهو بمحاسنها عن كثير من كتب الأخبار مبيناً فيها بعض الأحكام الغربية والحكايات المستحسنة والغرائب العجيبة وبعض الأحكام الشرعية مع ما فيها من التصوف ممّا فتح به عليّ أو منقولاً من الكتب"(50).‏
      وهذه الرحلة من أحسن ما ختم به القرن الثاني عشر الهجري (18م) في مجالها لا لطابعها الفكري والأدبي فحسب، بل لما انعكس فيها أيضاً من أوضاع مختلفة في الوطن العربي اقتصادية وثقافية واجتماعية، وسياسية كذلك، إضافة إلى الجانب الديني.‏
      ونعبر من الورتلاني أخيراً في القرن الثاني عشر الهجري إلى الثالث عشر (18و 19م) برحّالة شهد القرنين معا هو الزياني (أبو القاسم بن أحمد بن علي الزياني)(51) الذي أنجز رحلته في سنة (1238هـ-1818م) وأسماها (الترجمانة الكبرى) و "هي رحلة إلى أسطنبول وفهرسة ومختصر جغرافية، وموسوعة صغيرة ضمّت أخباراً عديدة في مختلف الفنون والمواضيع"(52).‏
      وهكذا نجد أنفسنا نلج القرن الثالث عشر الهجري (19م) ونحن أمام وضع جديد ينمّ عن حركة فكرية في الوطن العربي بدأت معالمها تلوح في الأفق، وقد انطلقت من إحياء التراث، وإبراز الصور الإيجابية فيه إضافة إلى حركة الترجمة من الغرب والقيام بالرحلات العديدة المختلفة إلى أوروبا خاصة بعد حملة (نابليون) على (مصر) سنة 1798 وسياسة (محمد علي) ومن تبعه في تشجيع البعثات العلمية إلى الخارج، وكان من رجال البعثات من أسهم في كتابة الرحلة، فكان إذن من أوجه الاحتكاك ما كتبه الرحّالون ونقلوه إلى أوطانهم ومواطنيهم لتعريفهم بإنجازات الغرب، وما في تلك الإنجازات من محاسن يمكن الأخذ بها ومساؤئ يمكن تجنّبها، مع اختلاف كبير بين الرحّالين في النظر إلى ذلك، حسب ثقافة الرحّالة وتكوينه الفكري واتجاهه السياسي ومعتقده الديني كذلك.‏
      وكما اتسع مجال الرحلة أكثر، وكان من أبرز سماتها اتجاهها إلى أوروبا، بدأت أيضاً تكتسي طابعها الأدبي والسياسي والفكري، مع تراجع الجانب الجغرافي والتاريخي فيها، فصار ثانويا.‏
      وإذا تعذّر منهجيا تتبع كلّ الرحلات العربية في هذا القرن فإنه ينبغي أن نذكر باختصار بعض أعلامها الذين أُثرت كتاباتهم ورحلاتهم الأوروبية في الوطن العربي الذي شرع يتطلع إلى نهضة فكرية للخروج من التخلف وقهر قوى الاحتلال الغربية المتكالبة على الوطن العربي.‏
      ويأتي في مقدمة الرحّالين في هذه الفترة أعلام نذكر منهم على الخصوص (رفاعة الطهطاوي)(53) الذي حرص في رحلته إلى (باريس) على لفت النظر إلى الإيجابيات في الإنجازات الغربية الحديثة، وقد هدف كما يقول: لحثّ "ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرّانية والفنون والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع.... وقد أشهدت اللَّه سبحانه وتعالى على أن لا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق وأن أمشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوايدها على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أني لا أستحسن إلاّ ما لم يخالف نصّ الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية. وليست هذه الرحلة مقتصرة على ذكر السفر ووقائعه، بل هي مشتملة أيضاً على ثمرته وغرضه، وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلّم عليها على طريق تدوين الإفرنج لها واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها" (54).‏
      وإلى جانبه يقف (خير الدين التونسي) (55) الذي كان "برنامجه: أن العالم العربي -الإسلامي غير مستعد لأن يدمج إدماجا، وأن يغزى عقائدياً، لذلك سيطرت على تفكيره مشكلة الإصلاح من الباطن لا من الخارج و إحياء القيم الإسلامية السرمدية كالشورى والحرية والعدل ونظام الحكم الذي حاد عن الشريعة الإسلامية وانقلب إلى حكم مطلق استبدادي أدّى إلى الخراب والتأزم المجحف، فكان نداؤه موجهاً أولاً وبالذات إلى زعماء الشعوب العربية الإٍسلامية خاصة منهم رجال الدين الذين تواطؤوا مع رجال السياسة على إقرار نظام الحكم المطلق... وكان نداؤه موّجهاً ثانيا إلى أوروبا المتشككة في حسن استعداد المصلحين للوثوب والنهضة"(56).‏
      بالإضافة إلى كلّ من (الطهطاوي) و (خير الدين) يمكن أن نذكر أيضاً بشكل خاص اسمي (أحمد فارس الشدياق) (57) و (فرانسيس مراش) (58) وقد التقى موقف (الطهطاوي) و (خير الدين) في رفض الأخذ من الغرب ما يتعارض والإسلام، فبقيت الوطنية لديهما "ممزوجة بالدين، فيما أضحت في ذهن الشدياق ومراش علمانية" (59) تكفي عند (الشدياق) الوحدة جنساً وأرضاً ولغة لوطنية المرء، ونصرانية (مراش) من هذا المنظور لا تقلل من عروبته ووطنيته عن المسلم "ممّا يبيّن أن العروبة في نظره رابطة سياسية لا دينية" (60).‏
      ثم يزداد مجال الرحلة اتساعاً، كما يتعدد الرحالون في الشرق العربي، وفي مغربه خاصة بعد الاحتلال الفرنسي، سنة 1881 في (تونس)(61) و (الجزائر) سنة 1830 التي تبرز أمامنا فيها أعمال معينة في هذه الفترة.‏
      تتقدّمها رحلة الأغواطي (الحاج ابن الدين الأغواطي)(62) التي وصف فيها مناطق من الشمال الإفريقي والسودان والحجاز استجابة لرغبة خاصة من (ويليام هودسون) مساعد القنصل الأمريكي في الجزائر (63) (ويليام شيلر) ولا شك أن نية (هودسون) تدخل ضمن النشاط الغربي بوجهيه الاستعماري والاستشراقي، وقد التمس طريقه إلى إحدى غاياته عبر (ابن الدين) الذي كتب رحلته بالعربية(64) ليتولّى ترجمتها إلى الإنكليزية (هودسون) نفسه الذي يقول "لقد أعددت ترجمة لرحلة قصيرة في شمال إفريقيا قام بها الحاج ابن الدين الأغواطي، وهذه الرحلة كتبها صاحبها بطلب مني، وقد دفعت له الثمن.‏
      إنني أعتقد أن الرحلة تحتوي على معلومات تهمّ جغرافية إقليمية بحيث قد تكون مفيدة للرحّالة في المستقبل. إن معظم المدن والشعوب التي تحدث عنها ابن الدين غير معروفة معرفة جيدة، بل إن بعضها لم يشر إليه أي رحالة أو جغرافية أوروبي من قبل، حتى ليون الإفريقي نفسه لم يذكرها"(65).‏
      ولعل أول ميزة لهذه الرحلة أنها تصف أماكن في مجال عربي- إسلامي لإشباع فضول لدى غربي وحاجته إلى المعلومات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية واللغوية، وهي هنا تختلف عن الموجة العامة التي اتخذت وجهتها أوروبا في هذه الفترة لوصف إنجازات الحضارة الغربية وهو ما انصبّ الحديث عنه في رحلات كثيرة مختلفة عبر أنحاء الوطن العربي كلّه مشرقاً ومغرباً، فتعددّ الرحّالة واختلفت اهتماماتهم، كما كثرت الرحلات وتنّوعت أغراضها وأشكالها، كما تباينت مستوياتها: الفكرية واللغوية والفنية، وهذا موضوع آخر أمسى الاهتمام به ضروريا في كلّ قطر عربي، للانطلاق من النتائج نحو سمات مشتركة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.‏
      خاتمة:‏
      ومهما يكن من شيء، فإنّ في تتبعنا الخطوط الكبرى لمسار الكتابة في الرحلة العربية خلال عشرة قرون كنصّ مكتوب ابتداء القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري (العشرين الميلادي) برزت أمامنا نتائج مختلفة، منها خصوصاً ما يلي:‏
      أولاً : الاهتمام المبكّر بهذا الفن الأدبي الجديد في النثر العربي الذي لم يلبث حتى بات تقليداً جيداً محبّبا، في حضارتنا الإسلامية، فأبدع فيه كثيرون عشرات المجلدات، أنجزت عنها دراسات عديدة مختلفة بأقلام مستشرقين وعرب ومسلمين، كما ترجمت رحلات عديدة من هذه المجلدات إلى لغات مختلفة، في مقدمتها (الإنكليزية) و (الفرنسية) و (الألمانية)و (الإيطالية) ومن أهم ما ترجم رحلتا: (ابن بطوطة) و (ليون الإفريقي)(****).‏
      ثانياً : بدأت الرحلة من الشرق الإسلامي: نحو أقطار عديدة إسلامية، وغيرها، وسرعان ما استلم في القرن الخامس الهجري الغرب الإسلامي مشعل هذا الفنّ النثري بكتاب (البكري) المعروف (المسالك والممالك) فبدأت منطقة (المغرب العربي)خصوصا تشهد حركة متميّزة سواء في اتجاهات الرحّالة داخل الوطن العربي والإسلامي أو خارجهما، فكان كتاب "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" لمؤلفه "الشريف الإدريسي" من ( المغرب الأقصى) معلماً بارزاً في مسيرة أدب الرحلة العربية.‏
      ثالثاً : لم تلبث الرحلة حتى جمعت في اتجاهات أصحابها بين الرحلة داخل العالم الإسلامي ومنه العربي وسواه في أوروبا والصين، كما عكست ذلك خصوصاً رحلة (ابن بطوطة).‏
      رابعاً : كثيراً ما حفلت رحلات البعض بالنقل عن سابقين، والاقتباس من معاصرين، لكنها شرعت تتخلّص من ذلك بالتدريج، فأعرضت عن الظاهرة تماماً في العصر الحديث.‏
      خامساً : ابتداء من القرن التاسع عشر بدأت تتكثّف الرحلات من الأقطار العربية خصوصاً في اتجاه أوروبا بفعل الاحتكاك الحاصل بالغرب، بعد نتائج الغزو الفرنسي في (مصر) سنة (1798م) واحتلال كلّ من (الجزائر) في (1830) و (تونس) في (1881).‏
      سادسا : استغلَ الاحتلال الأوروبي في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر خصوصاً رحلات الرحالة المسلمين، لمعرفة البلدان الإسلامية وأحوال شعوبها، لاحتلالها، والسيطرة عليها. بعدما أدرك المحتلون الأوروبيون قيمة الرحلات في وصف الطرق، والمسالك، والأوطان، فسخّروا لذلك رجالا من أبناء المسلمين أنفسهم، ومن بعض رجال الاستشراق والكنيسة (المبشرين) ليدونّوا معلوماتهم، عن مشاهداتهم انطباعاتهم وآرائهم.‏
      سابعاً : بلغت الرحلة مستوى جيداً أواخر القرن الرابع الهجري كفنّ مكتوب صارت له سماته وملامحه بين الأنواع الأدبية الشائعة يومئذ (مثل الشعر والمقامة وسواهما) وخطت خطوات معتبرة بمجالها الجغرافي الذي ازداد اتساعاً بعد ذلك برحلة (ابن بطوطة).‏
      ثامناً : بدأت الرحلة العربية بطابع جغرافي تاريخي، ثمّ تطوّرت نحو الطابع الأدبي، والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في النهاية.‏
      تاسعا : عكست رحلات الرّحّالة المسلمين جوانب مختلفة من المسيرة التاريخية للأمة الإسلامية، في بناء الدولة في عصورها الأولى، وفي تشتت أقطار الوطن العربي، وانحدارها نحو التخلّف، وسقوطها في قبضة الاحتلال الأوروبي الإسباني، والفرنسي، الإنكليزي، الإيطالي.‏
      عاشراً : صورت الرحلة الحديثة خصوصاً صدمة المواجهة الحضارية الحديثة بين غرب غاز، ووطن عربي مغزوٍّ، فانطلقت في نفوس الرحّالة وهم يتّجهون نحو أوروبا: الرغبة في البحث عن أسباب قوّة ومنعة وازدهار مكّنت للغرب الغازي والمسيطر، وخذل غيابها الإنسان المسلم، ومنه العربي، فبقي يعاني خضوعاً وتخلّفاً وتبعية بعيداً عن المبادرة الريادية الحضارية الحديثة.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

        هوامش
        (1) الأثنوجرافيا كمصطلح "كلمة معربة تعني الدراسة الوصفية لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد، والعادات والقيم والأدوات والفنون والمأثورات الشعبية لدى جماعة معينة أو مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة".‏
        انظر: د. حسين فهيم، أدب الرحلات (دراسة تحليلية من منظور اثنوجرافي)ص:49، سلسلة: عالم المعرفة، رقم: 138، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، شوال: 1409هـ (يونيو 1989م).‏
        (2) المتوفى سنة 284 (أو 292).‏
        (3) المتوفى سنة 279هـ (892م).‏
        (4) أغناطيوس يوليانوفتش كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، القسم الأول، ص: 161، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1962.‏
        (5) توفي بالقاهرة سنة 346هـ (956م).‏
        (6) المسعودي، مروج الذهب، ج: 1، ص:3، موفم للنشر، سلسلة الأنيس، الجزائر، 1989.‏
        (7) المصدر السابق، ص:7.‏
        (8) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ص:181.‏
        (9) 336-380هـ (947-990م).‏
        (10) الزركلي خير الدين، معجم الأعلام، ج:6، ص:203، ط:2.‏
        (11) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الأول، ص: 209.‏
        (12) 362-440هـ (973-1048م).‏
        (13) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرفي العربي، القسم الأول، ص: 245.‏
        (*) هكذا.‏
        (14) د. حسين محمد فهيم، أدب الرحلات، سلسلة (عالم المعرفة) 138،ص:16، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، شوال: 1409هـ (حزيران 1989م).‏
        (15) د. حسني محمود حسين، أدب الرحلة عند العرب، ص: 16، المكتبة الثقافية الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1976م.‏
        (16) توفي سنة 487هـ (1094م).‏
        (17) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الأول، ص: 174.‏
        (18) 468-543هـ (1076-1148م).‏
        (19) 493-550هـ (1100-1160م).‏
        (20) الدكتور زكي، محمد حسن، الرحالة المسلمون في العصور الوسطى، ص:65، دار الرائد العربي، بيروت، 1401-1981م.‏
        (21) المغرب العربي من كتاب نزهة المشتاق للإدريسي، محمد حاج صادق، ص:27، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر، 1983م.‏
        (22) ولد في بلنسية (الأندلس)، ربيع الأول: 540-614هـ (1145-1217م).‏
        (23) قام برحلتين بعدها، لم يكتب عنهما، توفي عند العودة من الأخيرة في الأسكندرية، كتب الرحلة في أول اتصال بالمحيط لما يثيره ذلك في نفسه من انفعالات، وما يلفت نظره في الحياة.‏
        (24) رحلة ابن جبير، أبو الحسن محمد بن أحمد، بن جبير، تقديم سليم بابا عمر، ص: 9، سلسلة الأنيس، موفم للنشر، وحدة الرغاية، الجزائر، 1988م.‏
        (25) د. حسني محمود، أدب الرحلة عند العرب، ص:26.‏
        (26) 703-779هـ (1301-1377م).‏
        (27) ورد في النسخة الصادرة عن (دار التراث) بعنوان (رحلة ابن بطوطة): (والداي)، ص:10، بيروت، 1963م.‏
        أما في طبعة (باريس) فقد وردت الكلمة كما أثبتناه (والديّ).‏
        انظر:‏
        Voyages dibn battuta, vollection Unesco doeuvres repre sentatitives, preface et notes de vincont monteil, tome I,p. 13, paris, 1979.‏
        (28) رحلة ابن بطوطة، ص:10، بيروت، 1968.‏
        Voyages dibn battuta, page 13, paris, 1979.‏
        (29) د. حسني محمود، أدب الرحلة عند العرب، ص:52.‏
        (30) إسماعيل العربي، تاريخ الرحلة والاستكشاف في البر والبحر، ص:51، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1986.‏
        (31) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الأول، ص:421.‏
        (32) د. حسين مؤنس، ابن بطوطة ورحلاته، ص:21، دار المعارف، مصر، 1980.‏
        (33) 888-957هـ (1483-1550م).‏
        (**) أصل الكتابة بالعربية في حكم المفقود، عرف في ترجماته الأوروبية نقلاً عن الإيطالية التي تعتبر ترجمة أصلية للكتاب بقلم: المؤلف نفسه، وقد أعيد الكتاب إلى أصله العربي بترجمة عن الفرنسية قام بها الدكتور محمد حجي، والدكتور محمد الأخضر.‏
        صدر الكتاب في طبعته الثانية عن دار الغرب الإٍسلامي، بيروت، 1983م.‏
        (****) يرجح أن المؤلف ولد في (غرناطة) ونشأ في (فاس) بعد الهجرة إليها حين سقطت (غرناطة) في حكم النصارى. قام بعدة رحلات في إفريقيا ومنها إفريقيا الشمالية، وكذلك الشام و (أرمينيا) و (مصر) و (مكة) وفي عودته من رحلة (مكة) وقع في أيدي قراصنة صقليين، حملوه إلى (نابلي) حوالي (1520م) ثم حملوه إلى (روما) وأهدوه إلى (البابا) ليون العاشر، فأجبر على اعتناق المسيحية، واتخاذ اسم وليّ نعمته الذي شجعه لإجادة الإيطالية واللاتينية والإسبانية، وانتهى من ترجمة كتابه (وصف إفريقيا) من العربية إلى الإيطالية سنة (1526م) ثم تمكن حوالي سنة 1528م من الفرار في ظروف غامضة إلى شمال إفريقيا عائداً إلى وطنه ودينه.‏
        راجع مزيداً من التفاصيل في:‏
        - (وصف إفريقيا) للحسن بن محمد الوزان)تـ: د. محمد حجي، ود. محمد الأخضر، ص: 5-14، ط:2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983م.‏
        - تاريخ الأدب الجغرافي العربي، اغناطيوس يوليا نوفتش كراتشوفسكي، تـ: صلاح الدين عثمان هاشم، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية لجنة التأليف والترجمة والنشر، من دون تاريخ، (تاريخ الطبعة الأصل 1957 بموسكو).‏
        (34) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، القسم الأول، ص:450.‏
        (35) ولد سنة 575هـ (1221م).‏
        (36) ولد بالشام سنة 844هـ (1440م).‏
        (37) من قبيلة (آيت عياش) في (سلجماسة) بالمغرب الأقصى، 1037-1090هـ (1628-1679م).‏
        (38) كراتشوفسكي، تاريخ الأدب الجغرافي العربي ، القسم الثاني، ص: 732.‏
        (39 ) 1057-1139هـ (1647-1717م).‏
        (40) هو (أبو الحسن بن محمد بن علي) صاحب (النفحة المسكية في السفارة التركية) المتوفي سنة: 1003 (1594/ 1595م).‏
        - انظر: مولاي بالحميسي، الجزائر من خلال رحلات المغاربة في العهد العثماني، ص: 16. 17. الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1979.‏
        (41) لم نعثر بعد على تاريخ مضبوط لحياته.‏
        (42) ولد بجبال الأطلس 1165-1238هـ (1751-1823).‏
        (43) انظر: الدكتور أبو القاسم سعد الله:‏
        - تاريخ الجزائر الثقافي، ج:2، ص: 391، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1401هـ (1981م).‏
        - أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، ج: 2، ص: 337-340، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، (1981م).‏
        (44) 1075-1120هـ (1663-1708م).‏
        (45) مولاي بالحميسي، الجزائر من خلال رحلات المغاربة في العهد العثماني، ص:20.‏
        (46) المولود سنة 1107هـ (1695م).‏
        (47) عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري، رحلة ابن حمادوش الجزائري، تقديم وتحقيق وتعليق الدكتور أبو القاسم سعد الله، ص:10، سلسلة: رحلات ومذكرات، رقم:1، إصدارات المكتبة الوطنية (بالجزائر) نشر المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية، الجزائر، 1983.‏
        (48) المولود في بني ورتلان، 1125-1193هـ (1713-1779م) يرد (الورتلاني) و (الورثلاني) حسب النطق المحلي، لكن النطق بالتاء أكثر شيوعاً وأخفَ، وهو الشكل الذي وجده محقق الرحلة في كل النسخ باستثناء النصّ المتداول.‏
        انظر: الهامش من الرحلة، ص:2.‏
        (49) الورتلاني، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار، تحقيق وتقديم: محمد بن أبي شنب، ص: أ، مطبعة بييرفونتا الشرقية، الجزائر، 1326هـ (1908م).‏
        (50) الورتلاني، نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار، تحقيق وتقديم: محمد بن أبي شنب، ص: أ، مطبعة بييرفونتانا الشرقية، الجزائر، 1326هـ (1908م).‏
        (51) 1147-1249هـ (1743-1833م).‏
        (52) رفاعة الطهطاوي، تخليص الابريز في تلخيص باريز، ص: 141-142، ضمن الدراسة التي تحمل عنوان: (أصول الفكر العربي الحديث عند الطهطاوي) دراسة وتعليق، دكتور محمود فهمي حجازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974م.‏
        (55) 1225-1308هـ (1810-1890م).‏
        (56) خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تقديم: المصنف الشنوفي، ص: 24-25، الدار التونسية للنشر، تونس- المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، 1986م.‏
        (57) 1219-1305هـ (1804-1887م) له (الساق على الساق في ما هو الفارياق) (سنة 1855) و (كشف المخبأ عن فنون أوروبا) و (الواسطة في أحوال مالطة) سنة 1866م.‏
        (58) 1252-1290هـ (1836-1873م) له (رحلة إلى أوروبا) سنة 1867م.‏
        (59) الدكتورة: نازك سابايارد، الرحّالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، ص: 53، مؤسسة نوفل، ط: 1، بيروت، 1979م.‏
        (60) الدكتورة: نازك سابايارد، الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة، ص: 54، مؤسسة نوفل، ط:1، بيروت، 1979م.‏
        (61) مما كتب أثناء هذه الفترة في (تونس):‏
        - الاستطلاعات الباريسية لمحمد السنوسي، وكذا (الرحلة الحجازية).‏
        - الرحلة الأندلسية لعلي بن سالم الورداني.‏
        (62) إن كانت عائلة (ابن الدين) معروفة في الأغواط، فإن المعلومات عن حياته لا تزال نادرة، وأن الذي يهمّ هنا رحلته التي كتبها في نهاية العشرينات ونشرت بالإنكليزية سنة 1830، وأعادها إلى العربية الدكتور: أبو القاسم سعد الله.‏
        - انظر: أبحاث وآراء، في تاريخ الجزائر، ج: 2، ص: 224-248.‏
        (63) بين 1825-1829م.‏
        (64) يبقى النص الأصلي حتى الآن ضائعاً، انظر: سعد الله، أبحاث وآراء، ج:2، ص: 248.‏
        (65) الدكتور أبو القاسم سعد الله، أبحاث وأراء في تاريخ الجزائر، ج:2، ص: 249.‏
        (*****) نفضّل اسم (ليون) وهو اسم وليّ نعمته الذي منحه إياه، أي (ليون العاشر) على عكسس ما يذهب إليه الدارسون في إستعمال كلمة (الأسد الإفريقي)، انظر: تعليقاً سابقاً.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

          الدراسة الثانية: صورة من: الرحلة إلى الحجّ
          في النثر الجزائري الحديث‏
          أدب الرحلة من الفنون الأدبية التي عرفت ازدهاراً في أدبنا العربي منذ القرون الأولى، ومنه الأدب الجزائري، وكانت هنا نشأتها لغاية الحجّ أساساً، والتعليم بعد ذلك، ومن النماذج القريبة المهمّة في ذلك رحلة (الحسين بن محمد السعيد الشريف الورتلاني) في القرن الثاني عشر (1125-1193هـ/ 1713-1779م) المعروفة بعنوان (نزهة الأنظار في علم التاريخ والأخبار)(1)‏
          غير أنّنا بدخول القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين في مرحلة تطوّر الأدب الجزائري الحديث نلاحظ تراجعاً لرحلة حجّ مستقلة كنصّ مدوّن، فإن استمرت وفود الحجاج السنوية نحو البقاع المقدسة، ومن بينها أعلام أدب وفكر، فإنّنا لم نعثر على رحلات حجّ مستقلة: تسجَل الأشواق إلى البقاع المقدسة، كما تصور المعالم والمشاعر والانطباعات أثناء أداء هذه الفريضة الدينية، لعوامل مختلفة، بل سرعان ما صارت الرحلة إلى الحجّ جزءاً من رحلة عامة، يأتي فيها الحجّ أو العمرة فقط جزءاً، ربما لتراجع الحوافز والمثيرات التي تدفع هذا الكاتب أو ذلك لكتابة انطباعاته والتعبير عن مشاعره، رغم أنّ طبيعة الاحتكاك بالمكان والإنسان جديرة بتحريك المشاعر وإثارة العواطف، وتجسيدها على الورق كمطلب فكري وروحي ونفسي لدى الكاتب الأديب الفنان خصوصاً.‏
          رغم أننا لم نعثر في القرن العشرين خصوصاً على رحلة مستقلة خاصة بالحجّ يكون هو غايتها ومقصدها في منطلقها فإننا نجدها جزئية في رحلات محدودة، أولها: رحلة (الغسيرى) العامة "عدت من الشرق"(2) حيث طرأت له فكرة الحجّ وهو في (القاهرة) عندما وصلها من (الجزائر) سنة (1953) في وفد من (الكشافة الإسلامية) سنة 1953 عبر (تونس) و (ليبيا)، ولم تلبث حتى وجدت طريقها إلى التنفيذ خاصة بعد الدعوة من السعودية إلى (محمد البشير الإبراهيمي) ومعه (الغسيري) وغيره أيضاً، كي يكونوا ضيوفاً على الحكومة السعودية أيام الحجّ، وهو ما بدأ الكاتب يتحدّث عنه بقوله: "حان وقت الحجّ ونحن بقاهرة المعز لدين الله(3) فحنّت النفس واشتدّ الشوق إلى تحقيق الأماني الروحية العذاب فوق ثرى مهبط الوحي والاتّصال بالحاضر والماضي، فوق معالمه وأماكنه المقدّسة"(4) فقد نمت رحلة الحجّ هذه كفكرة إذن بسرعة في ذهن الكاتب وهو في (القاهرة) فتاق إلى تحقيقها، تبرّح به أشواق روحية للبقاع المقدّسة من أجل أداء فريضة الحجّ، ومشاهدة الأرض التي نزل فيها الوحي على النّبي محمد (ص).‏
          فتحدّث عن الإجراءات الإدارية في (مصر) والسفارة السعودية في (القاهرة) "فما وجدنا منها إلاّ كلّ إجلال وتعظيم" تقديراً للعلم والثقافة ورجالهما، كما وصف السفر على طائرة سعودية "تحرّكت فسارت ثم ارتفعت وحلقت فوق سماء القاهرة وعلت أصوات الحجاج الكرام بالتلبية وذكر اللّه" مثلما وصف هبوطها بمطار (جدة) حيث حظوا باستقبال رسمي، ووضعت الحكومة السعودية تحت تصرفهم سيارة انطلقت بهم من (جدة) إلى (مكة) حيث بدأت تهتزّ المشاعر للذكريات في أرض النبوة والجهاد ونكران الذات في سبيل اللّه. فوصف الكاتب بعضا ممّا كانت تحتدم به نفسه من مشاعر، حيث أوحت الأماكن بما ألهب العاطفة واضطرمت له المشاعر من أشواق روحية اشتد بها الظمأ لمشاهدة أماكن الوحي، والتمعّن في إيحاءاتها وظلالها "هناك بدأت النفحات الربانية تهب على أرواحنا، فشعرنا بلذة الإيمان باللّه، وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وراعتنا قداسة الأماكن، وعاودتنا الذكريات الحلوة"(5) فلم يلبث التاريخ حتى أعلن حضوره عبر الأماكن والمواقع التاريخية التي شهدت الصراع بين الإيمان والكفر زمن الرسالة المحمدية، حتى كان الجماعة على أبواب (مكة) المكرّمة "ما هي إلا ساعة من نهار حتّى كنّا على أبواب أقدس بقعة على وجه الأرض، طالما تضرّعنا إليه في أن يكتب لنا زيارتها لأداء واجب له علينا فرضه منذ عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام".‏
          فوصف دور (مكة) في الحضارة ومكانتها في قلوب المسلمين وتاريخهم كعاصمة للعالم الإسلامي، كما وصف ما شهدته من حركة تحديث وتطوير في مجالات مختلفة.‏
          ثم يحدثنا عند النّهوض للطواف، عن مظاهر (التلبية) وعباراتها الدافئة تنطلق ألفاظها من "شفاه مئات الألوف من الحجاج بالحرم المقدّس، وما أدراك ما الحرم المقدس!"(6) حيث أدرك الحاجة إلى (مطوّف) "فما راعني إلاّ وكل شيء يحتاج إلى مطوّف، فهو دليل، وهو مدافع عن الحاج، وهو معلم يلقّنه الأدعية" (7) لكنه هو يتحرّر من الأدعية الجاهزة، لأن حاجته إلى الله تتطلّب أدعية أخرى نابعة من القلب، تختلف عن تلك التي وضعها آخرون لأوضاع عامة، أو لحالات مشتركة، يريدها أدعية نابعة من أعماقه، له ولوطنه، لمعالجة آلام ومحن، أو طلب مغفرة أو رجاء عون ليتحرّر الوطن من قهر الاحتلال.‏
          كما يسجّل الكاتب أحاسيسه ومشاعره على أثر السعي بين (الصفا) و (المروة) مع الشيخ (محمد البشير الإبراهيمي) في الثامن من ذي الحجة معرباً عن الصلة التي تدقّ بين الإنسان في هذا الموقف وخالقه، يرجوه مغفرة وثوابا، فيصف لنا في ذلك أيضاً حال (الإبراهيمي) في إحدى هذه اللحظات قائلاً: "رأيت لأول مرة صاحب الفضيلة الشيخ البشير الإبراهيمي تحت نوع من التأثر العميق وهيجان الشجون وتأثير نور الإيمان على روحه الطاهرة يتحوّل إلى طفل صغير يبكي ويغمغم.... وكأنه وهو يستعرض حاضر العالم الإسلامي قلق غير راض بما يراه عليه من الذلّ والهوان، فتتولّى العبرات المترجمة خلجات نفسه" (8) كما يتحدث عن النزول في (عرفات) يوم (9 ذي الحجة) مسجّلاً بعض الملاحظات على الحجاج، كما يتحدث عن (المزدلفة) و (منى) في (العاشر ذي الحجة) حيث "أدركنا العيد، وللعيد في منى روعة أخرى، وإنّ فيه لذكرى، وإن فيه لشجونا، وإن فيه لعبرة لأولى الأبصار" فتبرز في ذلك العبرة في قصة (إبراهيم) وولده (إسماعيل) عليهما السلام رمزاً للفداء والتضحية، وحرباً "على النفس وأثرتها وأنانيتها وكبريائها"(9) ليتخذ الكاتب من ذلك مناسبة للشرح والتعليق بحسّ ديني تخفق به كلمات الكاتب ومشاعره متأثراً بالجوّ الديني العام.‏
          ثم يعود الكاتب إلى الحديث عن الرجوع إلى (مكة) لطواف الوداع، وزيارة بعض المواقع والمعالم، والانتقال إلى (المدينة) المنوّرة، حيث تتألق روحه من جديد، ويغمره إحساس بالطمأنينة والرضى "ما أروع أن تصافحنا الذكريات تترى فوق أديم شهد نبراساً للهدى أضاء على أربعة عشر قرناً من التاريخ، وما أجلّ أن تدور عجلة الزمن فتقصر المسافات وتدنو البعاد، وتسهل الأوعار، فتتحققٌّ الأماني سراعاً بين عشية وضحاها، فيبلغ أسارى حب محمد (ص) ما أرادوا وما ظلّوا منذ المهد يحنّون إلى رؤية معالمه ومغانيه في أمد وجيز جداً جداً، هي ساعة من زمن مرت كخيال في أجواء الحجاز، نقلتنا من (جدة) إلى (المدينة) وكأنها صدى لأشواقنا، وكأنها قوّة دفاعية لتحقيق أمانينا بسرعة البرق ما لم يحلم به أوالينا"(10).‏
          هكذا صاغ (الغسيري) الحديث عن حجّه بأسلوب أدبي جيد في ظلال دينية موشّاة بتوق صوفي خاص، انطلق بركوب (الطائرة) ونزولها أيضاً، سواء في (جدة) أو في (المدينة) بعد ذلك، كما صحبه في كلّ المواقع وانفعل به في مختلف المواقف، فجاشت نفسه بهذه الأحاسيس التوّاقة إلى صفاء روحي في علاقة الإنسان بخالقه، في موطن حضارة إنسانية زاهرة، نهضت بانتصار الرسالة السماوية التي بعث بها محمد (ص) فكادت تجعل من العالم رقعة إسلامية واحدة يسودها العدل والإخاء والحب والأمن والسّلام بين البشر.‏
          كما أننا نجد الرحلة إلى الحجّ جزئية جداً في رحلة (المدني) في شهر (جويلية 1957)صحبة وفد سياسي إلى (السعودية) التي طغت فيها المهام السياسية على غيرها، فتحدث عنها حديثاً سريعاً تحت عنوان "حج وحاجة(11)" (12) اختلط فيها الحديث عن الحج بالسياسة، واكتفى- اختصاراً- بثبت برنامج النشاط في (السعودية) ثبتا تقريرياً سريعاً، تضمن ذكر (عرفات) و (منى) و (الطواف) بشكل سريع جداً خال من حرارة المناسبة الدينية لطغيان الاهتمام السياسي بكل أجوائه، متحدثاً عن المقابلات السياسية والنشاط العام في التعريف بالثورة الجزائرية خاصة في يوم الوقوف بعرفات حيث يجتمع جميع الحجاج.‏
          لذا تبقى هذه الرحلة قليلة الأهمية بالنسبة لرحلة (الغسيري) المتميّزة التي عكست فعلاً طبيعة الانفعال بالمناسبة والمكان، فزخرت بمختلف الأحاسيس والمشاعر والصور ذات الظلال الدينية المشرقة.‏
          ورحلة (الغسيري) إلى الحجّ رغم أنها من رحلة عامة تعددت أغراضها فإنها تأتي متميّزة فكرياً وفنياً في هذه الفترة، فلم نعثر على رحلة حجّ مدونة منشورة غيرها بصرف النظر عن رحلة (المدني) و (سعد الله) كما سيأتي بعد حين.‏
          ومهما يكن من شيء فإن عدم العثور على نصّ مستقل لرحلة حجّ لا ينفي قيام كتاب وأدباء كثيرين برحلات حجّ مثل غيرهم، لكنّه يلفت النظر إلى عزوف لدينا عن فنّ أدبي إنساني جميل أصيل في تراثنا وحضارتنا الإسلامية، وقد مارسه أبناء المغرب العربي أنفسهم بشغف أيضاً، فكان من أهمهم (ابن بطوطة)(13) ذو الشهرة العالمية حتى الآن.‏
          أمّا (العمرة) وحدها أو (الحجّ الأصغر) كسنّة مؤكدة فإن وصفها وارد أيضاً مرتين فقط في الرحلة الجزائرية في هذه الفترة -حسب علمنا حتى الآن- وبشكل جزئي أيضاً في رحلتي (المدني) و (سعد الله).‏
          فتحدّث الأول عن (عمرة) له صحبة (فرحات عباس) رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة في المنفى، في (6 مارس 1959) حين كانا في السعودية في مهمة سياسية يصحبهما وزيران آخران في الحكومة المؤقتة، فبعد استقبالهم في مطار (جدة) انطلقوا إلى (مكة) حيث أدّى الرجلان العمرة التي لم يكد يتجاوز حديث الكاتب عنها السطور التالية "بعد استراحة قصيرة (في جدة) ذهبنا ممتطين سيارتنا الرسمية إلى منبع النور ومصدر الهدى مكة المكرمة حيث أدّينا العمرة، وصلّينا بساحة مسجدها المطهّر فريضتي المغرب والعشاء، ورأيت الرئيس فرحات عباس، المتفرنج، رأيته واللّه يرتعد فرقا وهو بين يدي الله، وقد اصفّر لونه حتى أصبح ليمونة صيف، وارتعش إلى درجة أنني كنت أمسك به حتى لا يقع، ووجم كأنما هو صوفي من رفقاء الجنيد(14) أمام جلال اللَّه، وعظمة الله وروعة بيت الله. وهكذا تفجّر إيمانه فإذا هو أقوى وأصدق إيماناً(15)" (16)‏
          فهو إن أجاد وصف جانب ممّا يعتري المرء في لحظات التأثر والخشوع فقد اختصر اختصاراً مخلاّ في نقل تفاصيل المشهد في هذا الموقف غير العادي، ولم يخل هذا الاختصار نفسه من مبالغة في قوله "كنت أمسك به حتى لايقع" فلم يوح كلامه باللحظة المحددة التي استدعت (تدخّله) لتجنيب رفيقه السقوط، كما لم يوح هذا الكلام بالموقف الخاصّ به الذي أثّر فيه، فجعله على تلك الحال، حتى بدا أنّ ذلك حالة لازمت رفيقه حين عبّر بكلمة "كنت" فلم يعد بمقتضاها من همّ له إلا حماية صاحبه من السقوط على الأرض.‏
          أمّا (سعد الله) فإن حديثه عن أداء العمرة كان جزءاً من حديثة عن الأماكن المقدّسة أثناء حضوره "الندوة العالمية الأولى لمصادر دراسات تاريخ الجزيرة العربية"(17) مع وفود مختلفة من بينها وفد المغرب العربي الذين كانت رغبتهم شديدة في زيارة الحرمين الشريفين اشباعاً لحاجة روحية كان يحسّها كل واحد منهم، فوصف الكاتب استعداده الرّوحي لأداء هذه السنة، كما سجّل انطباعات مختلفة قبل الطواف وأثناءه وبعده "قادنا المطوّف إلى الحرم لأداء العمرة، وكان الوقت حوالي الساعة الثانية صباحاً، وكان الجوّ رطباً والنفس مشوقة رغم الحاجة إلى النّوم والطعام، ومع ذلك فإن شعور المرء بأنه يمشي على الأرض التي ولد فيها الرسول ونزل فيها الوحي وانهزم فيها الكفر وانتصب فيها مقام إبراهيم، جعل كل تعب يهون وكل حاجة دنيوية تتضاءل، وكان المطوّف خبيراً بأداء الشعائر فصيح اللسان، ويبدو أنه متمرّس أيضاً على الطواف بالوفود الرسمية"(18).‏
          وقد لاحظ الكاتب أثناء هذا الطواف ما يلحق العربية من أذى: لحنا وتهشيماً وتحريفاً يرتكبه (عرب) أيضاً كما لاحظ لأحد زملائه "بعد أداء العمرة.... مدى تعدد ألسنة المسلمين واختلاف أشكالهم وأزيائهم وألوانهم، فأجابني بكلّ تأكّد وبساطة: ذلك هو المجتمع الإسلامي الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، فرغم اختلاف عناصره وتعدّد أصقاعه فإن أهله يجتمعون حول الكعبة في كتلة متراصة"(19).‏
          تحدّث الكاتب عن قضاء خمسة أيام في (_مكة) مجاوراً الحرم لا يكاد يخرج إلا للضرورة إشباعاً لرغبة دينية، كما تحدّث عن ثلاثة أيام قضاها في (المدينة) سعيداً فيها، فوصف غبطته بالفرصة وسروره بتحقيق "أمل عريض" كما عبّر عن ذلك وهو ينزل في مطار (المدينة) قائلاً أيضاً: "لم أكد أصدّق أنني أسير على تراب المدينة وانظر إلى جبالها ونخيلها وعمرانها عندما كانت السيارة التي أقلّتنا من المطار تقطع الطريق إلى فندق (الرحاب) الذي وضعنا فيه رحالنا والذي كان معدّاً لإقامتنا والذي لا يفصله عن الحرم النبوي سوى الطريق. وبعد أن اغتسلنا وغيرنا ملابسنا توجّهنا فوراً إلى الحرم فأدّينا حقّ المسجد وحقّ قبر الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا أستطيع في هذه العجالة أن أصف المشاعر التي غمرتني وأنا أشاهد المسجد من بعيد ثم وأنا داخله من قريب، وكذلك عندما كنت أقف عند الضريح الطاهر"(20) ضريح محمد رسول الله(ص).‏
          وخلال هذه الأيام الثلاثة مضى الكاتب يشبع أيضاً فضوله في معرفة المساجد والمكتبات ومواقع الغزوات بحسّ المؤرخ، ولكن أيضاً بحسّ مسلم متديّن عملي استحوذت على مشاعره ظلال المكان الروحية بتاريخه الحافل ابّان انتشار الرسالة المحمّدية وأثرها في النفوس عبر القرون والأجيال.‏
          وقد بدا تأثر الكاتب واضحاً تجاه البقاع المقدسة، وقد ارتفعت درجة التأثر تلك والرجل يقترب من الحرم النبوي حتى بدا في نفسه ميل ما... إلى أن يقيم... حيث راحة النفس وطمأنينة الروح، وطهر الحياة.‏
          ومهما يكن من شيء فإن قلّت رحلة الحجّ الجزائريية المدونّة في القرن العشرين لمختلف العوامل الخاصة والعامة، فإن ما كتب منها عبّر بوضوح عن أصالة الرابطة الروحية وعمق الشعور الذي يشدّ الإنسان في (الجزائر) إلى مهبط الوحي، حيث يمكث الشوق والحنين مقيماً في النفوس إلى البقاع المقدسة، فبقدر ما يبقى الهاجس فريضة دينية ينبغي أن تؤدى، يصاحبها التوق إلى معرفة أرض الوحي الطاهرة، وقد انتشرت منها الرسالة النبوية تذيع الأخوة والعدل والحب بين الناس، وتمكن لكلمة الله بين الجميع.‏
          وهكذا بدا للأماكن المقدّسة جلال خاص في نفوس الحجاج الجزائريين كما صورته هذه الرحلات المفعمة حبّاً.. وتوقاً صوفياً، فبرز أثره قوياً عليهم، خاصة على (الغسيري) و(سعد الله) وهما في (مكة) و (المدينة) وغيرهما من الأماكن التاريخية وما حولهما، يستحضران ظروف البعثة المحمدية وإشعاعها الإنساني وأثرها الحضاري والأخلاقي والديني بالخصوص على الإنسان، فصفت النفس وسمت الروح إلى آفاق تلك الرسالة وبما توحي به من حبّ وخير وفضيلة وتسامح، وإخلاص العبادة لله وحده بكلّ ما تتطلّبه من طهارة في القلب وفي الجسم واستقامة في السلوك، في محيط سمته العدل والإخاء والأنصاف بين الناس.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

            هوامش
            1- تحقيق وتقديم: محمد بن أبي شنب، مطبعة بييرفونتا الشرقية، الجزائر، 1908م.‏
            2- نشرها في تسع عشرة حلقة بجريدة (البصائر) الأسبوعية، السلسلة الثانية، ابتداء من العدد: 250 في ربيع الثاني 1373هـ (11ديسمبر 1953) وانتهاء بالعدد: 276 في 24 شوال 1373هـ (25 جوان 1954م) ولما تنشر بعد في كتاب رغم أهميتها.‏
            3- المعز لدين اللّه الفاطمي: 319-365هـ (931-975م) من أشهر الخلفاء الفاطميين، ولد في المهدية بتونس، وتولّى الحكم في المغرب العربي (341هـ) واشتهر بمدائح (ابن هانئ) له، بعد فتح القائد الفاطمي (جوهر الصقلي) مصر 358، ولّى (المعز) على المغرب العربي (زيري بن مناد) الصنهاجي سنة (362هـ) لينتقل إلى (مصر) حيث كان تأسيس (القاهرة) على يد جوهر (سنة 359هـ) بعد فتح (مصر) بسنة.‏
            4- البصائر، عدد: 257. في :1جمادى الثانية 1373هـ (5 فيفري 1954م).‏
            5- البصائر، عدد: 258. في :8جمادى الثانية 1373هـ (12 فيفري 1954م).‏
            6- البصائر، عدد: 260، في :22جمادى الثانية 1373هـ (26 فيفري 1954م).‏
            7- البصائر، عدد: 261، في: 29 جمادى الثانية 1373هـ (5 مارس 1954م).‏
            8- البصائر، عدد: 262، في: 6 رجب 1737هـ (12 مارس 1954م).‏
            9- البصائر، عدد: 263، في: 13 رجب 1737هـ (19 مارس 1954م).‏
            10- البصائر، عدد: 271، في: 12 رمضان 1373 هـ (15 ماي 1954م).‏
            11- "حجّ وحاجة" مثل شعبي دارج، هو ترجمة للمثل المعروف "ضرب عصفورين بحجر واحد".‏
            12- حياة كفاح، أحمد توفيق المدني، ج: 3، ص: 309، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982.‏
            13- محمد بن عبد الله شمس الدين اللواتي الطنجي، المعروف بابن بطوطة، ولد في (طنجة) بالمغرب الأقصى، في 27 رجب 703 هـ (24 فيفري 1304م) قام بعدة رحلات جاب فيها البلدان المعروفة يومئذ، فتحدث عنها في كتابه المعروف باسم شهرته (رحلة ابن بطوطة) أو (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) توفي سنة: (1377م).‏
            14- الجنيد بن محمد، أبو القاسم الزّجاج، صوفي، عاش في القرن الثالث الهجري ببغداد، توفي سنة: 297هـ (910م).‏
            15- في الأصل (إيمان) قد يكون خطأً مطبعياً أو سهوا من المؤلف، لم أبق عليها في أصلها لثقل قراءتها.‏
            16- حياة كفاح، ج:3، ص: 413، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1983.‏
            17- انظر كتاب: تجارب في الأدب والرحلة، ص: 235، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1983.‏
            18- المصدر السابق، ص: 251.‏
            19- المصدر السابق، الصفحة نفسها.‏
            20- المصدر نفسه، ص: 249.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

              الدراسة الثالثة :

              أدب المغرب العربي.. وطبيعة النشأة

              أودّ في البداية أن ألاحظ أنه رغم بعدي تخصّصاً عن موضوع الأدب المغربي القديم، أو أدب المغرب العربي فقد آثرت الحديث عنه هنا في أكثر فتراته تردداً وغموضاً، لا حبا فقط في ارتياد مجهول أو غامض غارق في الضباب، بل تعاطفاً وإسهاماً في الإنصاف لما لحقه -في هذه الفترة- من حيف، ربما أيضاً لتعاطفي مع كل مظلوم، قضايا ومواقف وأشخاصا.
              وهكذا أجدني أدخل في هذه التجربة المتواضعة تحفيزاً للهمم، وتفتيقاً للرؤى، بل ربما استفزازاً ما أدبياً مهما كانت نتائجه.. يبقى فيها الاجتهاد حسنة. فإن أصبت في بعض من ذلك فلله الحمد بدءاً وختاما على بعض توفيقه، وإن خذلني التوفيق فأكون قد ظفرت بأجر الاجتهاد.
              فلنتفق إذن على أن فترة النشأة هذه لأدب مغربي موطن فترة مظلومة، يتحاشاها الباحثون، وينأى عنها الدارسون فما هي هذه النشأة وما طبيعتها؟
              قبل التطرق إلى ذلك يحسن منهجياً أن ننبه -مجرد تنبيه- إلى بعض الجهود المغربية خاصة والعربية القليلة منها بعامة في الأدب المغربي، وهي جهود تمثلت في الدراسات المختلفة المتخصصة والعامة، من بينها أطروحات جامعية وغيرها، لكنّها بقيت مشدودة إلى العصر المرابطي والموحدي، وبعضها القليل إلى ما قبل ذلك في العهد العبيدي -الصنهاجي والحمادي، وهي مرحلة التمثيل والتأصيل والتعميم والتمكين، وبقيت مرحلة النشأة في العصور الثلاثة الأولى الهجرية تعاني غموضاً وريبة وهجرا لعوامل مختلفة، منها: هيبة المجهول الغامض، وطبيعة الننشأة المضطربة، وقلة المصادر والمراجع والمادة معا، وصعوبة الاهتداء، إلى تلك القلة ويمكننا أن نقسّم مرحلة النشأة هذه نفسها إلى فترتين، فترة الفتوح الإسلامية أولاً وما اتسمت به من اضطرابات مختلفة في المغرب، وفترة الامارات الثلاث، الإمارة الرستمية (144-296هـ) والإمارة الإدريسية (172-375هـ) والإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في المنطقة المغربية والأقصر أجلا، في سقوط هذه الإمارات في يد الحكم العبيدي.
              ولكل فترة من هاتين طبيعتها من الناحية التاريخية والمادة الأدبية، لكنّهما معا عكسا حسا مغربيا في مجاله الحضاري الجديد (العربي- الإسلامي) تجسدت فيهما البذور الأولى لتوطين الكلمة الأدبية: حدثاً ومناخاً سياسياً ونفسياً واجتماعياً وأدبياً أولاً وأخيراً. ولتكن أول وقفة لنا عند الفترة الأولى، فترة الفتح مع نهاية القرن الأول الهجري، فتنبغي الإشارة هنا إلى أن الفتح الإسلامي كان توثيقاً لما وهن أو انفصل عبر التاريخ بين أبناء الأمة الواحدة، وكان هذه المرة بواسطة العقيدة الجديدة بعمقها الإنساني والحضاري حين تذوب في الإسلام كلّ النعرات الاقليمية والعرقية، ويبرز الانتماء الواحد لأمة الإسلام بفضل الدين التوحيدي الذي مقياسه التقوى. وجد هذا دعمه في جانب آخر بالشمال الافريقي هو صلة النسب بين الذين حملوا لواء الإسلام من الفاتحين وبين أبناء المنطقة ومن دون أن ندخل في مناقشات لم تعد تفضي إلى شيء حول عروبة (مازيغ) أو الأصل العربي للإنسان البربري والاتجاه الاستعماري الغربي الذي يرفض هذا الانتماء: يمكن القول: إن الإسلام تكفلٍ بصهر أبناء الوطن الواحد في هم مشترك فصار في النهاية الانتماء حضارياً واحداً، وهو الانتماء الذي لم يلبث معه ابن الشمال الافريقي حتى حمل لواء الفتح لنشر الإسلام، كما غدا بعد ذلك عالماً ضليعاً في آداب اللغة العربية، حجة فيها، مؤلفاً في اللغة والنحو، كما غدا أمامها عالماً في أصول الفقه الإسلامي، ومجتهداً في أمهات المسائل باللغة العربية، وهو موضوع آخر لا يعنينا هنا.
              غير أن القرن الأول بشكل خاص يبقى فترة الفتح، كما يبقى فترة صراع مبكر على السلطة، فترة فتح لدحر الوجود البيزنطي أولاً، ثم فترة معارك بين الولاة والأمراء المحليين من (البربر) أمثال (كسيلة) و(الكاهنة) ثانياً، مثلما كان عصر صراع وتنافس على السلطة بين الولاة أنفسهم، مما كانت له انعكاسات سلبية خطيرة في مسيرة الفتح وعلى الرجال أنفسهم، وفي العلاقة بين القائد المسلم والمواطنين، كما حدث بين (عقبة بن نافع) و(أبي المهاجر دينار) الذي عينه والي مصر (مسلمة بن مخلد) على (افريقيا) سنة خمس وخمسين، فخرب القيروان التي بناها (عقبة) سنة خمسين وأسس أخرى، ومضى في الفتح حتى هزم (كسيلة) الذي أسلم على يده، غير أن (عقبة) الذي عينه (يزيد بن معاوية) بعد توليه الخلافة انتقم من (أبي المهاجر) وأساء لحليفه (كسيله) مما جعل الثمن باهظاً على المستوى الشخصي لعقبة وفي حركة الفتح في المنطقة، ثم على مستوى الثقة بين المسؤول والرعية.
              هذا زيادة على كون المرحلة لم تخل من تذبذب في الموقف من الدين والسلطة والمناخ الجديد إضافة إلى أن المغرب كان في مرحلة تعرف على الدين والأخذ بتعلم العربية، هذا التعلم الذي لم تكن لتبرز نتائجه إلا في فترة متأخرة، خاصة حين أدرك الإنسان (المغربي) نوعية المناخ الذي بدأت تحدثه العقيدة الجديدة التي بات فيها المواطن إنساناً له كرامته وليس عبداً ذليلاً في خدمة الاحتلال الغربي المندحر أمام المدّ الإسلامي.
              وقد برز في هذه الفترة من حركة الفتح الإسلامي أبطال من أبناء المنطقة أنفسهم لنشر كلمة الإسلام، فكان (طارق بن زياد) الرجل الذي جسّد التحوّل من مرحلة الشك والتردد إلى مرحلة أخرى حاسمة من الإيمان واليقين والعمل، صار فيها الإنسان المغربي صاحب القضية لنشر الإسلام واللغة العربية.
              هنا يمكن أن نتوقف قليلاً عند هذه الشخصية المغربية لما تمثله من جوانب مختلفة من بينها الجانب التاريخي والأدبي بشكل أخص، فهي مؤشر فاصل في الموقف الذي صار لصالح الإسلام من أبناء المنطقة تشعباً به وحباً فيه، وإخلاصاً في الدفاع عنه، ثم تعبيراً عن ذلك بلغة عربية راقية كما تجلى في خطبته الذائعة الصيت التي ضج بها فؤاده، فتموّجت كلماتها بلغة صافية بليغة على لسانه وهو يعلن في جيشه "البحر وراءكم والعدو أمامكم" فكان الانتصار في المعركة كما هو معروف (92 للهجرة).
              يعنينا في الموقف هنا هذه الخطبة الأدبية الرفيعة التي أنتجها قائد من (المغرب) أي من المنطقة التي أطلق على أبنائها اسم (البربر) وقد جاءت بلغة عربية صافية، بل إن مستواها الفكري واللغوي والبلاغي جعلها موضع شك في أن تكون لطارق (البربري) الذي بذر بهذه (الخطبة) ونص آخر أول بذرة لنشأة أدب مغربي، في فترة يتكهن البعض بأنها نشأة مشرقية على أيدي رجال فقهاء صحبوا الفاتحين:أئمة ووعاظا، وهو ما لا يصح أن يدرج في الأدب بعامة، ولا في الأدب المغربي، هذا إن توفرت فعلاً هذه النصوص الدينية الوعظية.
              ويرى المتشككون في نسبة هذه الخطبة لطارق: أنه لم يكن في مقدوره وهو (البربري) أن يلقي خطبة بهذا المستوى لعامل اللغة بالدرجة الأولى من دون شك، وهو الرأي الذي يسهو عن كثير من الحقائق في العلاقة بنسب (طارق) وبيئته التي نشأ فيها، رغم التضارب بين الآراء في نسبه الذي يعود به البعض حتى إلى (فارس) فيعتبرونه (همذانياً) ويكتفي (ابن خلدون) بأنه (ليثي) من موالي قبيلة (ليث) بينما الواضح أنه مغربي (بربري) من قبيلة (زناتة) كما يذكر ذلك (الشريف الادريسي) نفسه، وهي من القبائل الكبرى في افريقيا أو شمال افريقيا.. ولم يكن (طارق) -المتوفي سنة 101 هـ- 719م- حديث عهد بالإسلام والعربية، حتى يكون ذلك مصدر شك في نسبة الخطبة إليه، فقد أسلم أبوه قبله، بل يذكر البعض جدّه، وهذا واضح حتى من خلال الاسم واللقب.
              لذا فإن أباه على الأقل اعتنق الإسلام، واتخذ له اسماً عربياً وصار مجاهداً في صفوف المسلمين، في ذلك الجو نشأ (طارق) وشب مع الإسلام مؤمناً مجاهداً، حتى تولى منطقة (برقة) كما تشير بعض المصادر كابن الحكم في (فتوح مصر)(1) وهي التي فتحها قبل (عمرو بن العاص) سنة (22 هجرية) بعد الفتح في (مصر) بنحو عامين(2) كما يؤكد (عبد الله عنان).
              في مسيرة الفتح هذه كان (طارق) من دون شك يتنفس مناخ الإسلام ويتعلم اللغة العربية ذات الصلة الحميمة بلغته الأولى (البربرية) ثم قبل هذا وبعده حتى على فرض الاختلاف العرقي فإن الإسلام وحد المشاعر والآمال بين أبناء المغرب العربي من الذين حملوا لواءه فاتحين والذين اعتنقوه من أبناء المنطقة ونهضوا ينشرونه، فعبر العلاقات في وجوه الحياة المختلفة في المناخ الإسلامي، بما فيها من زواج وعادات وتقاليد نهض مجتمع متجدد متطور أمه (الجزائر) أو المغرب عموماً وأبوه الإسلام، كما يقول ابن باديس (فتبربر العرب وتعرب البربر) كما يقول كاتب جزائري في التاريخ أيضاً(3).
              هذا الواقع الجديد يعتبر في وجهة نظر البعض من غير الغربيين طبعاً تتويجاً لموجات من العلاقات المتباعدة التي شهدتها المنطقة منذ العصور القديمة في الهجرات المتلاحقة، مما ينبه إلى الأصل العربي لسكان الشمال الافريقي القدماء زيادة على حقائق أخرى في اللغة والعادات والتقاليد، وهو -ربما- مما جعل المرحوم (شكيب أرسلان) يقول: "البربر في المواقف العامة هم أقرب إلى العرب من العرب بعضهم إلى بعض"(4).
              زيادة على كل ذلك وغيره فقد فصل الإسلام في الأمر بمبادئه وقيمه الإنسانية في مثل قوله تعالى: "إنما المؤمنون أخوة" وفي مثل قول رسول الله (ص): "لا فضل لعربي على عجمي.. إلا بالتقوى" ثم قوله في الأخير "ليس منا من دعا إلى عصبية".
              في هذا الواقع الإسلامي الجديد انطلق (طارق بن زياد) مجاهدا، وقد عينه (موسى بن نصير) واليا على مدينة (طنجة) بعدما تولى هذا الأخير مهامه في (شمال افريقيا) في نهاية الثمانينات من القرن الأول للهجرة، فأسهم (طارق) في التمكين للإسلام ونشر العربية بعدما نشأ في أحضانهما.
              لم يكن استثناء ولا عجبا في هذا الجو أن يجيد (طارق) العربية ويبدع بها، وهو أمر لا يتطلب سوى بضع سنوات لن يكون في حاجة إلى أن تبلغ العشرين أو الثلاثين، تساعد على ذلك عوامل مختلفة، وهي كثيرة ومتنوعة، منها: حب الدين الجديد الذي يشحذ العزيمة فتكبر الهمة ويهون الصعب، إضافة إلى الذكاء الفطري في الإنسان الريفي وحدة ذهنه وقدرته الفائقة على الحفظ التي تمكن من حفظ المنظوم والمنثور خصوصاً القرآن الكريم قمة الإعجاز البياني، وما فيه من نماذج مثالية لفن القول الرفيع.
              هذه الثقافة اللغوية التي لم تزاحمها معارف أخرى غير المعارف الدينية إضافة إلى الخبرة بالحياة والتجارب الإنسانية هي التي أسهمت في صياغة خطبة (طارق) في جيشه في لحظات مشحونة بالتحفز والقلق، وهو يجد نفسه في مواجهة عدوّ ذي إمكانات كبيرة بعدما تلقى أمراً من (موسى بن نصير) سنة (92هـ) بالتوجه لفتح (اسبانيا) فجهز جيشاً قوامه عشرة آلاف ممن يسمون (بربرا) مسلمين وبضع مئات من عرب المشرق، لمواجهة الملك الإسباني (لذريق) الذي لقي مصرعه في المعركة على يد (طارق) سنة (94هـ).
              وهي المناسبة التي أبدع جوّها هذه الخطبة من عيون أدب الحرب، بكل ظلالها وأجوائها وثورتها وقيمها الطبيعية والشخصية والإنسانية المختلفة، والحضارية أخيراً.
              لقد كانت خطبة (طارق) طفرة متقدمة في نشوء الأدب المغربي، ليس في مستواها الفكري ولغتها فحسب، بل حتى في نوعها ونوعيتها، فهي ليست من الخطابة الدينية التقليدية الباهتة، ولا هي مما تأسر فيه الزخارف اللفظية الجوفاء، بل تفجرت فيها المشاعر الجياشة متدفقة حارة نابضة بالصدق والإيمان، مشاعر الجهاد والاستشهاد، مشاعر الإيمان بالقضية والفناء في حبّها، فدخل بها عالم الأدب من باب الحرب، وهي إن عبرت عن ملامح شخصية عسكرية حازمة فقد وشت أيضاً بروح أديب فنان، لم يصلنا منه غيرها سوى ثلاث أبيات شعرية ذكرها له (المقّري) في (نفح الطيب) وهي قوله:

              ركبنا سفينا بالمجاز مقيرا(*)
              عسى أن يكون الله منا قد اشترى


              نفوسا وأموالا وأهلا بجنة
              إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسرا


              ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا
              إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا

              وقد أتبع (المقّري) هذه الأبيات بتعليق أورده بعدها مباشرة "قال ابن سعيد(**) وهذه الأبيات مما يكتب لمراعاة قائلها ومكانته، لا لعلو طبقتها"(5) أي لضعفها، دون مكانة الرجل ومستواه الذي عرف بخطبته، لكن هذه الأبيات تؤكد حقيقة الرجل في كونه تمكن من العربية، حتى أجاد التعبير الرفيع بها، فأبدع في ذلك شعراً ونثراً، والملاحظ أن هذه الأبيات تستمد الظروف نفسها التي قيلت فيها الخطبة السابقة، غير أن الأبيات تبدو أسبق في القول عن الخطبة. الأبيات تصف عبور البحر من المغرب إلى اسبانيا، والخطبة تصور جوّ الاستعداد للمعكرة للالتحام بالعدوّ، في الأرض الاسبانية.
              وقد انعكست في هذه الأبيات نفس القيم والملامح الدينية حتى استمد النص الصريح من القرآن الكريم، فقوله في الشطر الثاني من أول بيت وما تبعه: "عسى أن يكون الله منا قد اشترى" هو صدى لقوله تعالى: "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلون ويُقْتَلون وعدا عليه حقا في التوراة والانجيل والقرآن" إلى آخر الآية [111 من سورة التوبة]
              مهما يكن من شيء فإن القرائن المختلفة ما ذكر منها وما لم يذكر تدلّ على أن الخطبة لطارق المغربي، خاطب الحس الديني في جنوده، والنوازع النفسية، وما لحق هذه الخطبة من تغيير واختلاف بين رواية وأخرى راجع إلى فعل الرواة وتصرفهم في ذلك.
              وهكذا نسجل هنا الظاهرة الأولى في أول فترة لنشوء أدب مغربي موطّن، بصاحبه وبيئته وظرفه ومناسبته، ثم نتطلع حولنا لاستمرارية هذه النشأة وامتداداتها على الأقل في القرن الثاني للهجرة، فلا نعثر على شيء معتبر إلا في أواخره.
              وهنا نصل فعلاً إلى الإشكالية الحقيقية الثانية.. التي أدعو إلى التَدبَر فيها والبحث أيضاً والتفكير.. لماذا انتظرنا بعد (طارق) نحو قرن كي نرى نماذج أدبية جديرة بالاهتمام؟ هل غابت الظروف والعوامل؟ أهناك أثار ونصوص ضائعة؟ أم أن الحدث الذي فجر قريحة (طارق بن زياد) لم يتح مثله لغير طارق؟
              أم انعدام أمثال (طارق) للتعبير عن الحدث؟ أكان إذن (طارق) فلتة في هذه الفترة المبكرة من نشأة الأدب المغربي؟ فانتظرنا نحو قرن حتى التقينا نماذج أخرى من الأدب المغربي بعدما صار هذا المغرب دويلات صغيرة ومتنافسة متصارعة، الأقصى، الأوسط، الأدنى.. هذه هي الإشكالية التي تبقى مصدر تخمين وتكهن، بل قلق وازعاج. بماذا نملأ قرناً من الزمان فارغاً من أي أثر أدبي. هو قرن فارغ بين فترة أولى وفترة ثانية من نشأة الأدب المغربي؟ إنه أمر غير طبيعي وهو مصدر دوافع التكهن.. ودوافع القلق، أملاً في العثور على جواب شاف غير قابل للنقض والشك والرفض.
              ومهما يكن من شيء، فقد جسدت خطبة (طارق) الفترة الخاصة بعهد (الولاة) في المغرب العربي صراعاً بين الإسلام والكفر، قبل أن يتجزأ هذا المغرب الكبير وينقسم على نفسه، فماذا عسانا نجد في عهد الإمارات أو الدويلات المغربية بعبارة أصحّ؟ أو من عساه يمثل الفترة إمارتياً أو بالأحرى مغربياً عاماً؟
              هذه هي إذن الفترة الثانية من هذه النشأة لأدب مغربي صحبت التجزئة السياسية في عهد الإمارات المغربية، حيث نلمس أدباً مغربياً بمبدعيه، وبظروفه التي انتجته، وبطبيعة ما عالج من قضايا، فمثّله في كل إمارة صوت أو أكثر من صوت واحد، كان بعضهم من الأمراء في البلاط، أو ممن ينظمون الشعر ربما عرضا فقط لا موهبة مكينة، وممارسة دائمة، لكننا نجد إلى جانب ذلك من يمثله مغربياً عاماً في هذه الفترة من النشأة بغزارة انتاجه، وتنوع موضوعاته، وانفتاحه على مختلف الأنظمة، الثلاثة في المغرب العربي، وغيرها أيضاً في المشرق كما سيأتي.
              ففي ظروف التصدع السياسي الإسلامي إذن الذي أصاب الخلافة الإسلامية في الصميم بعد انقضاض الأمويين أولا وافتكاك العباسيين ثانياً برزت الإمارات المغربية فكانت الأولى الإمارة الرستمية (144-296هـ) التي أسسها (عبد الرحمن بن رستم) والثانية الادريسية (162-375هـ) وقد أسسها (إدريس بن عبد الله العلوي) أما الإمارة الثالثة فهي الإمارة الأغلبية (184-296هـ) الأقوى في منطقة المغرب العربي الإسلامي، تأسست مستقلة -سلمياً- عن الدولة العباسية على يد (إبراهيم بن الأغلب) الذي كان والياً على (طبنة) شرق (الحضنة) ثم تولى القيروان (184هـ) حيث أقرّه العباسيون عليها تابعة لهم اسما مستقلة فعلا بالتدريج، وهي بذلك أكثر اتساعاً أيضاً بامتدادها حتى (طرابلس) واتجاهها إلى فتح (صقلية) حيث بدأ ذلك في عهد (زيادة الله) الثالث، يقول المستشرق الألماني (كارل بروكلمان): "وفي الحق أن سنوات السلام الثلاث والسبعين التي قدر للعرب أن ينعموا بها في صقلية منذ ذلك الحين كانت كافية لنشر حضارتهم والتمكين لها في ربوع الجزيرة إلى درجة بعيدة، حملت النورمانديين الذين قضوا على الحكم العربي سنة 1060 في عهد الكونت رجار على أن يأخذوا عن العرب نظامهم الإداري ويقتبسوا العناصر الأساسية للثقافة الإسلامية في حياتهم الفكرية وفي فنهم أيضاً"(6) وهذا بعدما أكد (بروكلمان) في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) ما تتميز به الدولة الأغلبية حين قال: "والحق أن الغنى والقوة اللذين تما للأغالبة بسبب من الموقع الممتاز الذي تتمتع به أراضيهم ببقاعها الداخلية الخصبة ومرافئها المسيطرة على تجارة البحر الأبيض المتوسط لا يزالان حتى اليوم يتجليان في جامع عاصمتهم القيروان الذي يعتبر من أفخم المنشآت الدينية في الإسلام"(7).
              وإن اختلفت الأنظمة السياسية بين هذه الإمارات المغربية واختلفت المكانة الاقتصادية والدور الاستراتيجي من إمارة إلى أخرى فإن الحياة تبقى واحدة، مع اختلاف محدود في الدور الذي قامت به المراكز الثقافية في هذه الإمارات بخاصة جامع (القيروان) في عاصمة الأغالبة، مع القرويين بفاس، وكلاهما قد قام بدور تاريخي هام في الحياة الثقافية لأقطار المغرب العربي الإسلامي، بالإضافة إلى دور (تيهرت) الجيد بالمغرب الأوسط.
              يقول (عبد الله كنون) عن القرويين أنه كان مصدر الإشعاع بفاس "يعد أقدم جامعة علمية في العالم الإسلامي، قد أسس في هذا العصر على عهد الدولة الادريسية.. في سنة 245هـ وكانت التي بنته سيدة فاضلة مهاجرة من القيروان تسمى أم البنين الفهرية. ولما كانت المساجد في المجتمع الإسلامي تؤدي مهمتين: مهمة دينية ومهمة ثقافية إذ تلقى في أروقتها دروس في مختلف العلوم والفنون فإننا نعتقد أن جامع (القرويين) منذ إنشائه كان مركزاً للدراسات الدينية والأدبية التي لم تنقطع منه أبداً، وأن تأسيسه كان مبدأ الارتكاز للحياة الفكرية في المغرب"(8) الأقصى، أما جامع (القيروان) الذي رأى فيه (بروكلمان) رمز قوة وغنى فإن البناء جملة فيه يعود إلى عهد زيادة الله الأول الأغلبي الذي حكم في الفترة (201-223هـ) أما ما بناه الفاتح الأول (عقبة بن نافع) "لم يبق منه غير المحراب القائم اليوم وراء المحراب الحالي".
              بينما يصف (مبارك الميلي) العاصمة الرستمية (تيهرت) بمساجدها وحلقاتها بأنها: "أصبحت.. معدن العلم والأدب ومحط رجال الطلبة حتى قال فيها أبو عبد الله البنّا (يفضلونها على دمشق وأخطأوا وعلى قرطبة وما أظنهم أصابوا) ولست أشك في أنها دونهما، ولكن حضورها في الذهن بحضورهما يكفي دليلا على تقدمها ورقيها"(9).
              غير أن الملاحظ في الحياة الثقافية بالإمارات المغربية هو أن العلوم الدينية احتلت فيها الدرجة الأولى، لاعتبار أنها كانت الأساس الذي تقوم عليه ثقافة الفرد في العهود الإسلامية الأولى.
              وقد نبّه (المقّري) إلى أن لا عناية لحذاق القيروان وافريقيا إلا بالفقه في السنين الأولى، وتأتي العلوم الأدبية في درجة ثانية، وفي مقدمة هذه الشعر. ينبغي أن نلاحظ هنا أن المثقف عموماً، والأديب بشكل أخص، كانا بشكل عام فوق الحدود الاقليمية، وما تمليه المصالح السياسية الظرفية للأنظمة، وهذا ما يوحي بسعة الأفق لدى رجال الحكم، كما يؤكد أن الأديب خصوصاً ينبغي أن يكون فوق التكتلات المحلية الخاصة، والانحياز الظرفي الذي تمليه مصالح سياسية لا ثقافية، إلا ما يرى في مناصرته حقا يجب أن يدعم ولا يخذل.
              كان المفكر والأديب يتجاوز الحدود الاقليمية الضيقة- عموماً- ويلقى الترحيب حيث يحل، طالبا للعلم أو مسهما في التعليم، جواز مروره ورخصة إقامته الانتماء الحضاري، الحرف العربي والعقيدة، ولا شيء يقلق راحته في هذا القطر أو ذلك إلا إذا كان ذا نشاط سياسي جاد جداً، وذا فكرة مذهبية مكشوفة يعتنقها ويدعو إليها بشكل سافر، فحينئذ فقط يبيت الاحتمال واردا في تعرّضه لمضايقات قد تختلف حسب الظروف، كما قد تتشكل وتتلوّن لكنها عموماً لا تشنقه، فكان الأديب -عموماً دائماً- رسول وحدة، وتقارب وتآزر، فوق كل تحيز مقيت، وخير من يمثل ذلك في هذه الفترة مغربيا (بكر بن حماد بن سهل التيهرتي).
              وقبل الحديث قليلاً عن هذه الشخصية المغربية المتميزة يحق لنا التساؤل عن بعض الذين كتبوا الشعر قطريا (كل وقطره) في هذه الإمارات المغربية في الفترة الثانية من مرحلة النشأة، حيث نلمس أدباً مغربياً بنسبه لأصحابه وبظروفه التي انتجته، وبطبيعة ما عالج من قضايا. وإن كان يتعذر تتبع ذلك في مثل هذا الوضع منهجياً واحصائياً، فإنه يمكن الاختصار الدّال، كما يمكن القول في الوقت نفسه أن بعضا من أمراء هذه الإمارات المغربية أنفسهم أسهموا في هذه النشأة بطبيعة تكوينهم الديني والأدبي، منهم بشكل خاص في الإمارة الإدريسية (إدريس) الثاني الذي حكم في الفترة (188-213هـ) وهو ابن المؤسس الأول للإمارة الإدريسية، كما نجد في الإمارة الرستمية مثلا (أفلح بن عبد الوهاب) الذي كان ثالث الأئمة الرستميين في الفترة الممتدة بين (188هـ) و(238هـ) خلفا لأبيه، وقد عرف بالعلوم الدينية، وكذلك بالشعر، وهو القائل:


              العلم أبقى لأهل العلم آثارا
              يريك أشخاصهم روحا وأبكارا
              والثقافة الدينية ونظم الشعر مرة أخرى- مهما كان المستوى -صفتان لازمتا المثقف العربي عموما حتى العصر الحديث، للعلاقة الوطيدة بين العربية والإسلام.
              أما في الإمارة الأغلبية، ففي المقدمة مؤسسها (إبراهيم بن الأغلب) في الفترة (184-196هـ) القائل اعتداداً بالنفس في كل ما كان يواجهه خارجياً وداخلياً من حروب وفتن بطابعها العسكري والسياسي المذهبي:
              ما سار عزمي إلى قوم وإن

              كثروا إلا رمى شعبهم بالحزم فانصدعا

              ولا أقول إذا ما الأمر نازلني
              يا ليته كان مصروفا وقد وقعا


              حتى أجليه قهرا بمعتزم
              كما يجلى الدجى بدر إذا طلعا


              قوما قتلت وقوما قد نفيتهم
              ساموا الخلاف بأرض الغرب والبدعا

              كلا جزيتهم صدعا بصدعهم
              وكل ذي عمل يجزى بما صنعا


              يضاف إليه غيره من حكام الإمارة، مثل الأمير (زيادة الله) الأول
              (201-223هـ) وخامس الأمراء الأغالبة حفيد إبراهيم بن الأغلب (محمد أبي عقال) في الفترة (226-242هـ) وغيرهما من الأمراء وسواهم.
              وهذه نماذج فقط، عجلى لملامح أولية تعطي صورة تقريبية عما بدأ يعتمل في المحيط الثقافي بالعواصم المغربية الثلاث من نشاط فكري وأدبي، أنجزته هذه العواصم أو بدأت تنجزه منذ نشأتها لتأصيل بداية أدبية مغربية، فكانت البلاطات في الإمارات ذات دور في هذه البداية الثانية، وتأصيل التجربة المغربية بمناخها وأجوائها ضمن المحيط الحضاري العربي الإسلامي. في هذه البيئة الجديدة، إذن تأتي الفترة الثانية من نشأة الأدب المغربي في العواصم الثلاث التي أنجبت رجال فكر وثقافة وعلم وأدب، فمثلما أنجبت (القيروان) و(القرويون) نخبة من العلماء والأدباء في هذه الفترة أنجبت (تيهرت) نخبة أخرى، منهم (أبو الفضل أحمد بن القاسم البزاز) والشيخ أبو سهل الذي قيل عنه، إنه كان يجيد البربرية ومن أكبر المؤلفين بها، إضافة إلى إجادته العربية، و(ابن الصغير) صاحب كتاب (تاريخ الرستميين)(10).
              غير أن الشخصية البارزة في الشعر التي يمكننا القول: إنها تمثل هذه الفترة من نشأة الأدب المغربي عن جدارة واستحقاق مغربياً بصفة عامة لا قطرياً، فهي شخصية (بكر بن حماد) الذي عاش بين (200-295هـ) لا لغزارة انتاجه وتنوعه نسبياً فحسب، بل بطبيعة علاقاته المغربية في الإمارات الثلاث كلها على مستوى (البلاطات) وكذا صلاته بالشرق العربي، وبرؤاه العربية والإسلامية العامة، فوق كل تحيز إلا ما يراه حقاً ينبغي أن يتبع ويدعم ويناصر، فكان أشهر شعراء الفترة في المغرب العربي ممن تركوا أثراً واضحاً في الحياة الثقافية والأدبية.
              شخصية بكر بن حماد التيهرتي (200-296هـ) إذن شخصية دينية أدبية، وهما صفتان لازمتا معا شعراء العصور الإسلامية الأولى في المغرب العربي الإسلامي، وهذا لاعتبار بسيط وهو أن أساس الثقافة العربية الإسلامية يؤمئذ هو الثقافة الدينية، حيث كان القرآن والحديث والدراسات الدينية والفقهية قاعدة أساسية لكل مثقف، وإلى جانب ذلك تنمو الثقافة الأدبية كما تنمو الميول الشعرية، لذا لا نعجب في هذه الفترة من غلبة الطابع الديني في الشعر العربي بشمال افريقيا خصوصاً.
              وقد مثل هذه الرؤية بوضوح الشاعر التيهرتي (بكر بن حماد) كما سبق القول، بل يرى فيه البعض ممثلاً للفترة التي عاشها المغرب العربي كله، وهو ما برّر التسمية التي أطلقت عليه في بعض الأوقات أي (شاعر افريقيا) يزيد ذلك تأكيداً أن بكرا بن حماد في حياته وفكره، في تنقله وعلاقاته جسّد انتماءه الأكبر للمغرب العربي الإسلامي، مثلما جسد انتماءه للوطن العربي والعالم الإسلامي.
              لقد ولد بكر بن حماد بن سهل الزناتي في مدينة تيهرت سنة (200هـ) درس في بلده حيث كانت الحياة الثقافية مزدهرة خاصة في العاصمة (تيهرت) التي كان امراؤها يولون عناية للثقافة والمثقفين، فكانت المساجد والمجالس التي هي (نوادي) ذلك الزمن تعج بالمثقفين والأدباء، وأفسح المجال لمختلف الفرق والآراء للحوار في ظل العدل الذي أشاعه امراؤها ذوو المذهب الخارجي.
              حين بلغ (بكر بن حماد) سبع عشرة سنة شد الرحال إلى الشرق، وقد بدأت الرحلة في طلب العلم تأخذ طابع التقليد الجيد الذي لا يلبث أن يكون جزءاً من متممات التكوين العلمي والفكري، فالتنقل بين المدن والأقطار والأوطان يثري خبرة الطالب، كما يجعله احتكاكه بأساتذة مختلفين يكوّن شخصيته العلمية الخاصة زيادة على الاستفادة الكبيرة حين تتنوع منابع المعرفة، وتختلف مشاريعها.
              وقد بدأت الرحلة في طلب العلم في العالم الإسلامي ترتبط بالرحلة إلى الحج وكثيرهم الرّحّالون الذين جمعوا بين القصدين في الرحلة إلى الحج وطلب العلم.
              وأول محطة في رحلة (بكر بن حماد) الطويلة كانت (القيروان) التي كانت إحدى العواصم الثقافية في العالم الإسلامي، فحضر فيها دروساً عن بعض علمائها أمثال (سحنون بن سعيد التنوخي) و(عون بن يوسف الخزاعي) وقد كان حضور الدروس عادة لأيام أو أسابيع أو شهور أو سنوات يحضر الطالب الوانا من المعرفة على شيخ وأخرى على غيره، حريصاً في النهاية على اختبار معارفه وسماع رأي مشائخه فيه، مما عرف بالإجازات، كأن يقال اجاز فلان فلانا في كتاب كذا، أو فيما قرأه أو سمعه منه، مما يأخذ طابع التزكية التي تعني اليوم الشهادة العلمية.
              لم تطل إقامة بكر بن حماد كثيراً في القيروان، فإما أن طموحه كان أبعد أو أن مشائخه أو بعضهم حثه على مواصلة رحلته في عاصمة ثقافية أخرى، فاتجه إلى العراق، واستقبلته (بغداد) و(البصرة) طالباً جاداً يهرع إلى تلقي العلم عن أقطابه يومئذ، ويحتك بأشهر الشعراء في العراق، متفاعلاً مع الجو وما يزجر به من نشاط، بما فيه من خلاف مذهبي، وصراع أدبي.
              وهكذا درس (بكر بن حماد) على أمثال (مسدّد الأسدي البصري) و(العباس بن الفرح الترياشي) و(أبي الحسن البصري) وغيرهم، كما التقى أشهر شعراء العراق يومئذ، منهم: أبو تمام (حبيب بن أوس) والشاعر الأديب (علي بن الجهم بن بدر) و(دعبل الخزاعي) وغيرهم.
              وقد قاده المحيط الشعري إلى بلاط الخليفة المعتصم بالله، فمدحه بشعره كما كان يفعل الشعراء الذين تبرز شهرتهم.
              هذا يعني أن (بكر بن حماد) قد دخل بشعره معمعة الصراع في كواليس البلاط في بغداد، وهو إن لم يكن وصل إلى مستوى المتبارين في الفوز برضى الخليفة والفوز المطرد بجوائزه وعطائه فقد سجل حضوره الشعري في الساحة الأدبية.
              من هنا لمعت شخصيته الشعرية في مستواها المعين، وغطت عما سواها من أعماله، خاصة في (القيروان) و(تيهرت)، وقد عاد إلى (القيروان) أستاذاً بجامعها الأكبر فقصده الطلاب من أنحاء المغرب العربي والأندلس، خاصة أن الحدود لم تكن عائقاً بين أبناء الأمة العربية والإسلامية، بل كان العلماء والمثقفون فوق الحدود والأنظمة، فالخلافات والصراعات التي كانت قائمة في المشرق وفي المغرب العربي (المنقسم إلى ثلاث إمارات، رستمية، وإدريسية وأغلبية) لم تكن تحول دون التواصل، فكان (بكر بن حماد) مواطنا في (تيهرت) كما هو مواطن في (بغداد) ومواطن في (القيروان).
              ورغم أن (بكر ابن حماد) عرف شاعراً فإن ما وصلنا من شعره قليل، خصوصاً في غياب ديوانه الذي تذكر بعض المراجع أنه عثر عليه في (فارس) الأمس (إيران) اليوم. وهذا القليل توزعته مصادر ومراجع مختلفة، وكانت هناك محاولة في سنة 1966م لجمع بعض شعره في كتيب صدر عن المطبعة العلوية بمستغانم تحت عنوان: "الدر الوقاد من شعر بكر بن حماد"(11).
              لكن المتوفر من شعره يعطي صورة تقريبية عن فكره واتجاهه ومستواه الفني والقضايا التي شغلته أو انفعل بها أو تفاعل معها سواء في المشرق أو في المغرب العربي.
              سنكتفي هنا بجانبين اثنين في شعر (بكر بن حماد) الجانب السياسي الاجتماعي وجانب الزهد الذي طبع كثيراً شعره.
              من الجانب الأول يمكننا أن نذكر قصيدته في الرد على (عمران بن حطان) الخارجي الذي مدح (عبد الرحمن بن ملجم) الخارجي لإقدامه على قتل (علي بن أبي طالب) فأتت قصيدة (بكر بن حماد) لتنقض قصيدة (عمران بن حطّان) فقال (بكر بن حماد):

              قل لابن ملجم -والاقدار غالبة
              هدمت- ويلك- للإسلام أركانا

              قتلت أفضل من يمشي على قدم
              وأول الناس إسلاما وإيمانا

              وأعلم الناس بالقرآن ثم بما
              سن الرسول لنا شرعا وتبيانا


              صهر النبي ومولاه وناصره
              أضحت مناقبه نورا وبرهانا

              وكان منه على رغم الحسود له
              مكان هرون من موسى بن عمرانا

              وكان في الحرب سيفا صارما ذكرا
              ليثا إذا القي الاقران أقرانا

              ذكرت قاتله والدمع منحدر
              فقلت سبحان رب الناس سبحانا

              إني لأحسبه ما كان من بشر
              يخشى المعاد ولكن كان شيطانا

              فلا عفا الله عنا ما تحمّله
              ولا سقى قبر (عمران بن حطان)

              لقوله في شقي ظلّ مجترما
              ونال ما ناله ظلما وعدوانا

              "يا ضربة من تقي ما أراد بها
              الا ليبلغ من ذي العرش رضوانا"

              بل ضربة من غويّ، أورثته لظى
              مخلدا قد أتى الرحمن غضبانا

              كأنه لم يرد قصدا بضربته
              الا ليصلى عذاب الخلد نيرانا
              وهذا الجزء المهم من القصيدة أبرز موقف (ابن حماد) الذي دعا بالشر على القاتل ومادحه، وبالوعيد الأسوأ على (ابن ملجم).
              هنا قد يتساءل القارئ عن انتماء الشاعر المذهبي، وهو تساؤل ليس جديداً بالنسبة للشاعر، فقد سبق تصنيفه شيعيا كما صنف خارجيا حسب الاجتهاد، وهي من الأمور التي تلغي بعضها بعضا في شعر (بكر بن حماد) الذي مدح (المعتصم) العباسي كما مدح الإمام (عليا بن أبي طالب) مثلما مدح أحد الولاة في الإمارة الإدريسية زيادة على مدحه أمير (تيهرت) الخارجي، فمع من يكون؟
              الإجابة الصحيحة في نظري أنه مع قناعته، مع استقلالية فكرة، فهو ليس مذهبياً يتشيع لهذا الجناح أو ذلك، هو شاعر مسلم يرى كل المسلمين اخوته، وتناحرهم يهدمهم كلهم، ويمكن لعدوهم، إذن هو ضد الظلم والبطش، ضد الصراع والتفتت، ذو حس إسلامي، وشعوره بدوره يجعله فوق كل صراع.
              لذا فهو بقدر ما مدح (عليا) وهو يهجو (قاتله) ومادح القاتل، مدح أيضاً أبا حاتم أمير (تيهرت) سادس الأمراء الرستميين الذي واجه فتنة يبدو أن (بكر ابن حماد) لم يكن بعيداً منها، فكتب له شعرا جمع بين المدح والاعتذار، بدا فيه مستعطفا يطلب الصفح ويثني على الأمير:

              ومؤنسة لي بالعراق تركتها
              وغصن شبابي في الغصون نضير

              فقالت كما قال النواسي(*) قبلها
              غريز علينا أن نراك تسير

              فقلت جفاني يوسف بن محمد
              فطال علي الليل وهو قصير

              أبا حاتم ما كان، ما كان بغضة
              ولكن أتت بعد الأمور أمور

              فأكرهني قوم خشيت عقابهم
              فداريتهم والدائرات تدور

              وأكرم عفو يؤثر الناس أمره
              إذا ما عفا الإنسان وهو قدير

              وقد ظهر الطابع التقليدي جليا في عبارات الشاعر وصيغه ابتداء من الافتتاحية التقليدية غير البعيدة من التعبير عن واقعه، فإذا كانت كلمة (مؤنسة) مجترة فان شبابه الذي تركه في العراق وعاد شيخا إلى القيروان ثم تيهرت أخيرا هو الواقع غير البعيد عن كل ما عانى (بكر بن حماد) في حياته الطويلة والحافلة بالمتاعب والمصاعب.
              هنا نصل إلى الحديث عن الزهدية في حياة الشاعر، نجد هذه النزعة مبثوثة في قصائد كثيرة من شعره، من بينها قصيدته في رثاء ابنه (عبد الرحمن) الذي كان من رواة شعره، وقد كان ذلك سنة: 295هـ أي سنة واحدة قبل وفاة (بكر بن حماد) نفسه.
              أما عن ظروف الوفاة ومكانها فتبقى من بين الأمور الغامضة في هذا الموضوع، فبعض المراجع تذكر أن (عبد الرحمن) توفي بقرطبة بعد انتقال إلى الاندلس، لكن الأقرب إلى الصواب هو الرواية التي تقول إنه قتل في الطريق من (القيروان) الى (تيهرت) عندما كان عائداً نهائياً مع ابيه فهاجمهم اللصوص، قتلوا الابن وجرحوا الأب، ونحن لا نجد في قصيدة الرثاء التي رثا بها (بكر بن حماد) ابنه قرائن تبرز طبيعة الموت وظروفه لكننا نجد فيها القلب الجريح والروح الدامية، نجد فيها حزنا شديدا عمق الإحساس عند الشاعر بالرغبة عن الحياة، يقول (بكر بن حماد) مخاطباً ابنه:

              بكيت على الأحبة إذ تولوا
              ولو أني هلكت بكوا عليا

              فيا نسلي بقاؤك كان ذخرا
              وفقدك قد كوى الأكباد كيا

              كفى حزنا بأني منك خلو
              وأنك ميت وبقيت حيا

              ولم أكن أيسا فيئست لما
              رميت التراب فوقك من يديا

              فليت الخلق إذا خلقوا بواق
              وليتك لم تكن يا بكر شيا

              فلا تفرح بدنيا ليس تبقى
              ولا تأسف عليها يا بُنيّا

              فقد قطع البقاء غروب شمس
              ومطلعها عليّ يا أخيا

              وليس الهم يجلوه نهار
              تدور له الفراقد والثريا

              وربما كانت المناسبة التعيسة التي فقد فيها ابنه واحدة من آخر الانكسارات المتتالية التي كانت تصيب الشاعر في حياته، فطبعت شعره بظلال تشاؤمية يظهر فيها طابع الضيق والملل من الحياة.
              وما يستفاد من القصيدة أنها كتبت بعد الموت بفترة، فهي لا تحمل في طياتها أصداء الصدمة، بل تشي بالإحساس الحزين الهادئ الخاضع لشيء من ضوابط العقل والحسّ الديني، فجاء التعبير للرغبة عن الحياة بطريقة لا تنكر إرادة الله، بل يجعلها العقل تبحث عن السلوى، تتمثل بتعاقب الليل والنهار، تعبيرا على أن كل شيء إلى زوال.
              ورغم كل هذا فلم يبرز الإحساس السلبي الشديد عند (بكر بن حماد) بوطأة السنين، وقد كتب القصيدة السابقة وهو في الخامسة والتسعين، لكن أمره لم يطل بعد رجوعه إلى (تيهرت) فتوفي سنة (296) أي بعد سنة واحدة من رجوعه النهائي(12) وهي السنة نفسها التي سقطت فيها الإمارة الرستمية أو (الدولة الرستمية) أمام اجتياح العبيديين كما سقطت الإمارة الأغلبية في (القيروان) فرثى سقوط (تيهرت) وبكاها كما تنبأ بدنوا أجله، وهو يدعو- زاهدا- للرحيل عن الدنيا:

              زرنا منازل قوم لم يزورونا
              أنا لفي غفلة عما يقاسونا


              لو ينطقون لقالوا: الزاد ويحكم
              حل الرحيل فما يرجو المقيمونا؟

              الموت أجحف بالدنيا فخر بها

              وفعلنا فعل قوم لا يموتونا

              فالآن فابكوا، فقد حق البكاء لكم
              فالحاملون لعرش الله باكونا

              ماذا عسى تنفع الدنيا مجمعها
              لو كان جمع فيها كنز قارونا

              ومهما يكن من شيء فإن (ابن حماد) نتاج فترة ثانية من أول مرحلة في نشأة أدب مغربي متميز؛ فعبر عن مغربه شعرا، بعواطفه وبصلاته في الإمارات الثلاث، كما نقل صوت هذا المغرب إلى المشرق، وصور بعض ما كان يجري هنالك من نقاش وأفكار، وسجل موقفه منه كعربي بحس مسلم مؤمن بضرورة التزام ما يوحد واجتناب ما يبدد الطاقات ويفرق الجهود.
              وإن ارتفع (ابن حماد) عن التكتلات الجهوية أو الفئوية والمذهبية، فقد فتح قلبه للجميع من أبناء أمته، كما اتّسع صدره لهم، وفي المقدمة أبناء منطقته (في المغرب العربي كله) من دون تمييز قطري.
              فمثلما مدح (يوسف أبا حاتم) أمير تيهرت (في الفترة 281-294هـ) مدح (أحمد بن القاسم بن أدريس الثاني) الذي كان أميرا على مدينة (كرت) بالمغرب الأقصى، كما مدح الأمير الأغلبي على (الزاب)، (أحمد بن سفيان) إضافة إلى مدحه أيضاً الخليفة العباسي (المعتصم بالله): (218-227هـ) حين حلّ هنالك، فتعامل مع مختلف الأنظمة بروح إسلامية عامة، بعيداً عن الانتماء المذهبي الضيق، فلم يحشر نفسه في انتماء متحيز لهذا المذهب السياسي أو الديني أو غيره، كانت مثله -فيما يبدو- إسلامية عامة ذات نهج سني عموما- حسبما يظهر- كأغلبية المسلمين، مما جعله متفتحا على جميع المذاهب أو التيارات الإسلامية، تعبيرا عن رحابة صدره، وسعة أفقه الفكري في النظر إلى جميع أبناء الأمة الواحدة بعين الحب والود والوفاء.
              وهكذا يتضح- كما نتمنى- أن الأدب المغربي عرف أول بذوره الناضجة مع نهاية القرن الأول الهجري، ثم تبعتها أخرى، فأينعت وأزهرت وتعددت ألوانها وأشكالها في القرن الثالث الهجري، فكانت طبيعة النشأة مغربية صرفة لكنها مترددة غامضة ضاعت إحدى حلقاتها، حرضتها ظروف الفتح أولا، ومكنت لها الحركة الثقافية التي بدأت ثانيا في الإمارات المغربية، مما يجعل الفترتين تمثلان مرحلة واحدة- رغم اتساعها- في نشأة هذا الأدب كلون أو كغصن من شجرة الأدب العربي ذي الاسهامات المعتبرة أخيرا في الإبداع الإنساني العام.
              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

                الهوامش
                2-عنان، عبد الله، دولة الإسلام في الأندلس، ج: 1- ط:3- ص15، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1380 هـ (1960م).‏
                3-عبد الرحمان الجيلالي، تاريخ الجزائر العام، ج: 1- ص120- المطبعة العربية، الجزائر، 1375هـ (1955م).‏
                4-انظر، عبد الله كنون: النبوغ المغربي، ط3- ص27، مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، بيروت (لبنان) 1395هـ (1975م).‏
                * من (القار) و(القير) اسم لمادة تطلى بها السفن، والابل أيضاً.‏
                ** هو علي بن موسى بن سعيد العنسي الغرناطي (610-673) من كتبه (المغرب) (المشرق) يعتمد عليه (ابن خلدون) كثيراً، خصوصاً في الأنساب والتاريخ، لمكانته وأهمية رأيه.‏
                5-المقري، نفح الطيب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، م:2-ص248، دار الكتاب العربي، بيروت (لبنان) من دون تاريخ.‏
                6-كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة: أمين فارس ومنير البعلبكي، ط: 3- ص249 دار العلم للملايين، بيروت (لبنان) 1965م.‏
                7-المصدر نفسه، الصفحة نفسها.‏
                8-عبد الله كنون، ص54.‏
                9-مبارك الميلي: تاريخ الجزائر في القديم والحديث، ص452 الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1396هـ (1976م).‏
                10-حققه وعلق عليه الدكتور محمد ناصر وإبراهيم نجار، المطبوعات الجميلة، الجزائر 1986م.‏
                11-قام بهذه المحاولة الجيدة الأستاذ الشيخ محمد رمضان شاوش- رحمه الله- المطبعة العلوية، مستغانم (الجزائر 1385هـ 1966م).‏
                *** لاعتبار أن (بكر ابن حماد) كان يتردد على (تيهرت) قبلا، بدليل مشاركته بشكل ما في الانتفاضة الشعبية على (أبي حاتم) وهو (ابن أبي اليقظان يوسف) تولى الحكم في الفترة الممتدة بين (281-294هـ)، حيث مات مقتولا في السلطة أخيراً.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

                  الدراسة الرابعة : الحس.. القومي*

                  في شعر محمد العيد آل خليفة

                  الشاعر محمد العيد آل خليفة 1904-1979م) شخصية متميزة في مسيرة الشعر الحديث، بالقضايا التي عكسها شعره والموضوعات التي تناولها. وشخصيته الفكرية والأدبية في شعره، وحسه الخاص والعام، وطنياً وقومياً أولاً، وإنسانياً بعد ذلك بصفة أشمل، فكان شعره نتاج مرحلة هامة من نهوض الحركة الوطنية عموماً، والحركة الإصلاحية خصوصاً، تفاعل معها وعبر عنها، تعبيراً حياً صادقاً، بود وإخلاص، فجسد شعره جوانب مختلفة مما كان يتفاعل في المحيط حتى مطلع السبعينيات من قضايا وانشغالات، وطموح وآمال، فكان بذلك نغماً جوهرياً في صوت الجزائر) بوجهها العربي الإسلامي، وملامحها الإنسانية، كما احتل مكانة مرموقة بغزارة إنتاجه وتنوعه، وصدقه في فنه ومشاعره، صدقاً يعوض عن بعض من جوانب فنية أخرى لدى أخرين قد يعظم عندهم أمر الأصباغ إلى أبعد حد ممّا يخفي زيفا ونفاقا لم يمارسها العيد) قط، بل كان يكتب من وحي قناعته وإيمانه: وطنيا وقومياً ودينيا وإنسانياً، واستجابة لانفعال معين نحو قضية أو موقف أو فكرة أو شخصية أيضاً أو غيرها. منساقاً في كلّ الأحوال لقيم الخير والحرية والعدل والموّدة والمحبة والرحمة والتكافل والبذل، ممّا عكسته قصائده الوطنية والإنسانية والإخوانية وغيرها في التعبير عن حدث أو فكرة، أو تصوير خاطرة أو سواهما، مما يعكس حقاً شخصية شاعر فنان، يهزه الحدث الكبير كما تطربه اللفتة الصغيرة، والصورة الجميلة، مثل الفكرة العابرة، والموقف الإنساني النبيل، والسلوك الجميل، بكل أبعاد ذلك وظلاله التي قد تتسع وتتنوع مشبعة بحس أخلاقي وروح وطنية وظلال صوفية أيضاً في بعض الحالات.
                  فعاش الشاعر حياة فكرية زاخرة بالعمل والانتاج حتى استنفد طاقته في البذل والعطاء، منذ فجر شبابه.
                  ولد محمد العيد) يوم: 27 جمادى الأولى 1323 28/8/1904م) في مدينة عين البيضاء) في الجهة الشرقية من الوطن حيث تلقى تعليمه الابتدائي في التعليم الحرّ، وتابعه في مدينة بسكرة) التي انتقلت إليها أسرته سنة 1337هـ 1918م) لينتقل بعد ذلك إلى تونس) وعمره سبع عشرة سنة 1921م) فقضى سنتين تلميذاً في جامع الزيتونة) الذي كان أحد المراكز التعليمية الهامة في المغرب العربي) ويستقطب طلبة العلم من الجزائر) حيث تلقى فيه كثير من رجال الحركة الفكرية والأدبية الحديثة جزءاً هاماً من تعليمهم، كما تخرج فيه بعض من رجال الحركة الإصلاحية، وفي مقدمتهم ابن باديس) نفسه زعيم الحركة الإصلاحية المعاصرة في الجزائر).
                  بعد سنتين اثنتين قضاهما العيد) في الزيتونة) نعتقد أنه بدأ فيهما نظم الشعر عاد إلى الجزائر) التي كانت تبدو له الحياة فيها تحت الاحتلال الفرنسي كابوسا مقيماً فضاق بهذا الوضع وقد تمكنت من نفسه مشاعر قاتمة، للوضع العام ولواقعه الشخصي وهو في مطلع شبابه، وقد اجتث الاحتلال الفرنسي من النفوس كل بذور الأمل في الحياة الهانئة السعيدة، كما سدّ كل آفاق الثقة في الناس والأمل في المستقبل، فوجد هذا الشاب، نفسه وهو في العشرين من عمره يعيش إحساس بائس في الثمانين أو في التسعين من عمره ضجرا من الحياة:


                  سلمت وإن كنت ابن عشرين حجة
                  حوادث لا تنفك مستعرات

                  أردد طرفي سابرا كنه غورها
                  فيرجع طرفي خاسئ النظرات


                  تبارك رب العرش لست بملحد
                  يحاول طمس الحق بالشبهات

                  ولكن وجداني ينمّ بحسرة
                  إلى القلب أو يوحي له بشكاة

                  غير أن الشاعر لم يلبث حتى شرع يتلمس طريقه إلى الخلاص الجزئي من هذه الدوامة البغيضة، فانغمس في التعلم، والتعليم، مشاركا في الحركة الشعرية والاصلاحية في محيط بدأت الحركة الوطنية فيه تشهد حيوية مطردة، فتولى التعليم الحرّ في بسكرة) وغيرها، فعمل معلما ومديراً لمدرسة الشبيبة الإسلامية) في الجزائر) العاصمة 1928-1940م) التي دعي إليها من بسكرة) فمديرا لمدرسة التربية والتعليم)، في باتنة) سنوات 1940-1947م) ثم مديرا لمدرسة العرفان) في عين مليلة) من 1947م) إلى 1954م).
                  كما عمل عضواً في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) منذ تأسيسها 1931م) الذي أسهم فيه، مشاركا بشعره في النهضة الأدبية، فظفر بلقب شاعر الشباب) وأمير الشعراء) وقد نشر في معظم الصحف العربية الجزائرية، صدى الصحراء) المنتقد) الاصلاح) المرصاد) السنة) الصراط) الشريعة) الشهاب) البصائر).
                  وقد صار شعره في الصحافة العربية إضافة إلى عمله في مدارس جمعية العلماء) الحرة مصدراً من مصادر المتاعب المتجددة له، فأضحى عرضة للتحقيق والاستنطاق والملاحقة والاستفزاز، مما انتهى به في آخر الأمر بعد إعلان الثورة المسلحة 1945) إلى السجن، ثم الإقامة الجبرية في بسكرة) التي فرضتها عليه إدارة الاحتلال الفرنسي حتى الاستقلال 1962) حين أستأنف مشواره الشعري مشيداً بكل ذكرى لثورة نوفمبر) التي حققت الاستقلال، مبتهجاً بعيد الاستقلال في كل ذكرى له أيضاً، معبرا عن مشاعره وآماله الوطنية وآمال أمته، كان آخرها قصيدة له في الذكرى العاشرة للاستقلال 1972م) قال فيها[1]):

                  أيها الشعب المفدى هذه
                  فرصة فيها نعاطيك الودادا

                  ونساقيك كؤوسا حلوة
                  من أفاويق الرضى تنفي النكادا

                  عشت عشرا من سني التحرير، بل
                  عشت نشرا بعدما متّ اضطهادا

                  وقد لاذ الشاعر حينئذ بعزلة هادئة، في توق صوفي بعيداً عن الصراعات، متعففا عن الخوض في شؤون الناس وشجونهم كتعففه عما يتطاحنون حوله. ملازماً بيته تحت وطأة المرض، سعيدا بالتقدير والاحترام راضياً عن وضع بلاده. فلم يكن قريباً من فئة باغية مضت تتكالب على الغنائم، ولا من أخرى انتهازية تسعى بشراسة لتحقيق المأرب المريبة وغيرها، بل كان الإنسان البسيط بساطة إيجابية، الطيب بفطرته، القنوع بطبعه، الزاهد في مأرب الدنيا ومتاعها، فكانت أمنيته الوحيدة في عهد الاستقلال، أن يطبع ديوانه ويحج إلى بيت الله الحرام، فلما تحقق له طبع ديوانه وأدواؤه فريضة الحج لم يعد يتمنى إلا أن يلقى الله سليما معافى، وعلى هذا الوضع اعتكف في بيته حتى لقي الله في: 1979 مشيعاً بالحب والتقدير من تلاميذه وأصدقائه وشعبه.
                  لقد كان محمد العيد) من الشعراء العصاميين الذين مكنوا لدور الشعر نضاليا في حركة النهضة العربية الحديثة، كما كان صوتا متميزاً في مسيرة الحركة الشعرية في الجزائر) التي يعتبر الأمير عبد القادر) بدايتها في النهضة الحديثة والعيد) علمها البارز، في التعبير عن مختلف القضايا الوطنية والعربية- الإسلامية والإنسانية، والهموم الاجتماعية العامة، والخاصة أيضاً، حين كان الشاعر ذا دور معتبر، وصاحب كلمة واعية، وذا ضمير وطني إنساني حيّ، كما كان الشعر سلاحاً قومياً فاعلاً لا افرازات شخصية، والشاعر مجاهداً بإيمانه وفكره وموقفه وروحه في صمت الواثقين العاملين لا دجالاً انتهازياً مرتزقاً، يتاجر بالشعارات، وبالمواقف ويتلون مع كل وضع وظرف.
                  ومحمد العيد) الشاعر لم يخرج قط عن موروثه الحضاري العام، إيماناً صادقاً في القول وتعبيراً شعرياً عن قناعة وموقف وانفعال، وقد صارت وظيفة الشعر عربياً عموماً وجزائرياً خصوصاً، وظيفة نضالية في مسيرة الكفاح السياسي من أجل الحرية والاستقلال والوحدة سياسياً، ومن أجل الرفاهية والتقدم اجتماعياً واقتصادياً وعلمياً.
                  وهنا يبدو للشعر دور فاعل بأثره واستقطابه، لما يتميز به من نغم قد يجنح الشاعر عبره إلى خيال بلا شواطئ ولا مرافئ مشدوداً لهم قومي عام، ومتطلعاً لحلم وطني لذيذ جميل ذي ألوان مختلفة، تشي بظلال لآمال عذبة ساحرة. تختصرها كلمات من نوع، حرية، سيادة، كرامة، إخاء، صدق، أخلاق، وفاء، وحدة وتطور وتقدم، وهو ما عانقه العيد) بود حميمي عبر كوكبة من القصائد في ديوانه، حتى آخر قصيدة له، فمكن بفنه ونضاله لأهمية الكلمة الشعرية الصادقة ووظيفة الشعر في الأمة.
                  لقد كان الشعر قطب الفنون الأدبية التي تختلف مستويات فعلها وتأثيرها في الأمم سواء منها تلك التي تنتج هذه الفنون أو تلك التي تتلقاها عبر وسائط مختلفة، مما هو مرهون بطبيعة الظروف وبمقدرة الفنان وأماناته، ومن هذه الأمم أمتنا العربية التي توصف بالأمة الشاعرة) أو الشعر ديوان العرب) عكس أوضاعهم، وحياتهم، وعاداتهم وتقاليدهم، حربهم وسلمهم، أمالهم وأشواقهم، في نطاق عام أو خاص، فهي أمة شعر بطبيعتها، تنتجه وتتذوقه، وله مكانته المعتبرة فيها، ودوره المتعدد الوجوه الذي يكبر بطابعه الإنساني الناضج، فتتعدد لذلك مهام الشاعر الجيد المسكون بالفن وهموم الإنسان والإنسانية والوطن، فلا يقع أخيراً في هذه الدائرة المشعة المشبعة بالظلال الفكرية والفنية والمواقف الوطنية والإنسانية الأصيلة، إلا الشعراء الممتازون، ذوو المهام التاريخية، أولئك الذين لا يكتبون الشعر لهوا ولغوا وبحثاً عن مجد غير شرعي، قد تسهم فيه الدعاية الأيديولوجية والإشهار الحزبي والفئوي، بل استجابة لحافز إنساني سام قويّ، وتعبيراً عن موقف أصيل، وإعراباً عن فكرة جادة ناضجة، أو تصويراً لحالة إنسانية أو وضع مادي أو معنوي أو ما إلى ذلك.
                  من هذه الفئة من الشعراء ذوي المهام التاريخية أدبياً وفكرياً وإنسانياً محمد العيد) الذي انبثق من صلب بيئة عربية إسلامية، فهو ابن أمة عربية شاعرة في جزء من الوطن الأكبر حيث شهد مأساة الحياة الإنسانية تحت الاحتلال الفرنسي الذي جثم بكلكله على الجزائر) قرنا واثنتين وثلاثين سنة 1930-1962م) فوجد الشاعر نفسه منذ فجر فتوته في مواجهة المحنة العامة، استبداداً وظلماً وقهراً ومسخاً، يحاول به الاحتلال فعل كل شيء بالوطن، وفي المقدمة سلخه عن امتداده الطبيعي عربياً، وإسلامياً عموماً، لتجريده من انتمائه الحضاري، فانتهى الأمر بالشاعر من البداية إلى التموقع في خندق النضال الوطني، متحسساً آلام الأمة والوطن وآمالهما، كما اتسعت رؤاه وأفكاره لتحتضن قضايا الإنسانية في مختلف أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي وخارجه، تعيش في أعماقه أشواق مجنحة لرؤية الوطن العربي كله متحرراً متوحداً، قوياً عزيزاً ورؤية الأمة الإسلامية جمعاء تستعيد دورها التاريخي الحضاري، متكاتفة متآزرة ولسان حاله هنا يردد قول رسول هذه الأمة محمد ص) عن ضرورة اتحادها في مختلف الظروف "كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً".
                  لهذا وغيره يعتبر محمد العيد) علما متميزا خاصة من بين الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، بوفرة شعره ذي الموضوعات الكثيرة المتعددة والقضايا المختلفة، ونضاله به وصدقه، وإخلاصه لفنه، وللقضايا التي تناولها والموضوعات التي كتب فيها باختلاف في الأهمية بينها، كما وتعبيراً وشكلاً، في غزارة مادة وجودة تعبير ومستوى تبليغ، فبات ديوانه الضخم الذي ضمّ هذا الشعر معلما بارزاً من معالم الحركة الثقافية عموماً والشعرية في الجزائر) خصوصاً، بكل ما في ذلك من نضال وأشكال طموح، وألوان انكسار أيضاً، فعكس في النهاية خاصة إبان الاحتلال الفرنسي ما اعتمل به المحيط العام، سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، كما عكس أيضاً شخصية صاحبه ذات الرؤى الوطنية والقومية المتوثبة والروح الإسلامية الجياشة، والنفس المتشائمة أيضاً من جهة أخرى.
                  وهكذا تبدو لنا غزارة المادة، كما يبدو لنا تعدد الموضوعات التي كتب فيها الشاعر، والقضايا المختلفة التي عبّر عنها، في أوضاع عديدة وبرؤى كثيرة، كما نجد ذلك في ديوانه هذا الذي نشرته وزارة التربية أول مرة سنة 1967م، وأعادت نشره ثانياً الشركة الوطنية للنشر والتوزيع في سلسلة شعراء الجزائر) سنة 1979م وهي باسمها الجديد المؤسسة الوطنية للكتاب) تعيد اليوم نشره في طبعة جديدة، إثراء للحياة الأدبية وتقديراً لهذا الشاعر وجهده وفنّه.
                  ونحن إذ نتصفح هذا الديوان الزاخر نجدنا أمام ألوان شتى من الصور المختلفة، ومن التعبير عمّا هو وطني وإنساني وديني شخصي وغيره، عبر مختلف الموضوعات التي تتصدرها الأدبيات والفلسفيات) وهي قصائد في الحديث عن الأدب والشعر وأصحابهما، ووصف المعاناة الشخصية المتعددة الوجوه، وقد اتسم معظمها بضروب من المناجاة وألوان من التأمل، فيناجي الشاعر بحر الجزائر) وليلها، كما يناجي هزاره وليلاه التي تيمته فذاب فيها هياماً، وأصلى بينها قلبه نارا:

                  أصلت القلب نارها
                  وأذاقت حينها

                  منذ تعرفت سرّها
                  وتعشقت زينها

                  لم يجبني سوى الصدى
                  اين ليلاي) أينها؟
                  وهي مناجاة الحرية التي استعار لها الشاعر صفات الحبيبة المحبوبة التي تخطف القلب وتنأى فيصعب الوصل ويكبر العناء. وإن لم يكن الشاعر موغلاً في الرمز هنا فقد توفر على تلك الشفافية الأنيقة التي تجعلنا ننفذ بيسر عبر ليلى) الحبيبة إلى الحرية) الحلم الجميل الأنيق، في وطن كان لا يزال 1938م) يئن تحت وطأة الاحتلال الفرنسي، كما يتأمل الشاعر تأمل أديب فيلسوف حاله وحال وطنه مثل تأمله محيطه والناس من حوله، وحتى النظرة العابرة، كما ترى في آفة العين) حسب تعبيره في العنوان فيعاني ما تجره النظرة الخاطفة على الفؤاد البريئ:

                  ما لطرفي رنا
                  حوله فافتتن

                  سامني في الدنا
                  بالضّنى فامتحن

                  كما يتألم لوضع البائسين في الأرض ممن حرموا المأوى والكساء، والطعام الشراب فباتوا من دون كرامة إنسانية:

                  بدا لعيني تاعس ناعس
                  على الثرى في الصبح بالي الثياب

                  فهاج من حزني ومن لوعتي
                  كما يهيج النار عود الثقاب

                  وربما تطلع الشاعر من هذه الصورة المحسنة إلى رؤى أبعد:

                  هل أنت إلاّ بشر مثلنا
                  أم أنت جنّ زال عنك الحجاب


                  وكثيراً ما يشبع الشاعر تأمله الهادئ بألوان مختلفة من الوصف الأنيق، فيتفيأ مثلاً ظلاله في الريف الجميل، ريف الطهر والصفاء، والحقل الزاهر والبدر المنير في سماء الجمال الأخاذ:

                  عيش البوادي نضير لا نظير له
                  وجوها لعضال الداء ترياق

                  والحقل محتفل الأشجار من طرب
                  تشدو وتهفو به ورق وأوراق

                  وفي الكرم عناقيد تحف بها
                  كأنها في نحور الغيد أطواق

                  والبدر في الليل يبدو زاهدا ورعا
                  له إلى الله إخبات واطراق

                  أو عاشقا ساهرا في الحي منفردا
                  وقد غفت من رعاة الحي أحداق

                  يا ساهر الليل لا خانتك باصرة
                  ولا عداك على الغافلين إشفاق

                  أنزل إلينا قليلاً نصطحب زمنا
                  فكلنا لجمال البدو عشاق

                  وتحتل الشؤون القومية والإسلامية حيزاً معتبراً بعد هذا، فتحفل عشرات القصائد بالحس الإسلامي المتميز، حتى في القصائد ذات الطابع السياسي والإخواني والشخصي، في شكل تهنئة أو تحية أو غيرها، مثل الحديث عن دوريات ومنشورات إسلامية، أو شخصيات من عالم الفكر الإسلامي، إضافة إلى الموضوعات الإسلامية الجوهرية، مثل ذكرى المولد النبوي) ووداع الحجاج) والترحيب بهم في عودتهم وكذا الموضوعات القومية بمضمونها الإسلامي، في مثل تحيته جمال عبد الناصر) أو حديثه عن الثورة الجزائرية ذات الروح الإسلامية:

                  شعب الجزائر كله أبطالها
                  من حارث فيها ومن همّام

                  إن الجزائر أصبحت بجهادها
                  تغزو البلاد بصيتها المترامي

                  فاسأل نوفمبر) عن بنيها إنّه
                  أدرى بثورتهم على الأورام

                  قد دكَ فاتحه المعاقل فاتحا
                  فغدا بذلك غرّة الأيام

                  وهذا الجانب يجد امتداداً له بعدة أشكال في قسم الأخلاقيات والحكميات بالديوان، ثم قسم الاجتماعيات والسياسيات، وكذا قسم اللزوميات، فهو في أخلاقياته وحكمياته يتحدث عن تارك الصلاة) والزكاة) كما يسرد مواعظ دينية وأخلاقية شعراً هو أول من يعلن الاعتبار بها، في مثل قوله:

                  يقولون لي أمسيت بالشعر لامعا
                  فهل أنا بعد الموت بالشعر لامع

                  فيا ويح نفسي من دعاو كثيرة
                  يصانعني قولا بها من يصانع

                  وربّ كلام قلته أو سمعته
                  به أنا في وادي الأضالّيل واقع

                  إذا لم يداركني من الله عفوه
                  فإطراؤهم إيّاي للجنب صارع

                  تنادي المنايا للمتاب بلاوني
                  وتشغلنا أمالنا والمطامع

                  وتطرد الأفكار الإسلامية في اجتماعياته وسياسياته، عند الحديث عن ذكريات ومواقف، أو في الحديث عن فلسطين) ومصر) وليبيا) ومجاهدها الكبير عمر المختار):

                  خاض الجهاد مظفراً حتى انجلى
                  عمّا انجلى والحرب ذات سجال

                  كتب الاله له الشهادة مرة
                  ليفوز منه بطعمها العسال

                  في كلّ قلب مؤمن ذكرى له
                  أبدية قرنت بكل جلال

                  ويستمر ذلك في لزومياته، قصائد ومقطوعات، في مواعظ وخواطر، عند الحديث عن شهر رمضان) وغيره، في مثل هذا الخطاب الذي نفض فيه الشاعر يده من الناس لنفاقهم وريائهم، متوجهاً إلى الله لائذاً بحماه:

                  حسبت للناس عهدا
                  فلم أجد ما حسبت

                  كم سرني من رآني
                  وساءني يوم غبت

                  وليت نحوك وجهي
                  وتبت يا رب تبت

                  ثم تتقارب مستويات الحس الإنساني بين إخوانيات الشاعر ومراثيه والذكريات في الديوان، فهو في الإخوانيات الصديق الحميم الذي يبادل أصدقاءه باقات شعر وود وإخلاص ووفاءه، كما يعلن في المراثي حسرته وأساه معتبرا مشيدا بالخصال النبيلة، موجهاً مواسياً في النكبات، مرشداً داعياً إلى الاعتبار، كما تبقى الذكريات هنا مرتبطة بالمراثي تحمل معظم سماتها العامة في قصائده، عن وفاة كل من أحمد شوقي) وحافظ إبراهيم) وذكرى الوفاة لكل من ابن باديس) والإبراهيمي) ثمّ الأمير عبد القادر).
                  وقد توسط هذه الموضوعات قسم الثوريات) وهي قصائد جميعها من مناخ ثورة التحرير 1954-1962)، وتأتي بعد هذه وتلك قصائد ومقطوعات مختلفة، هي متفرقات) يتسم معظمها بالقصر، في شكل صور وخواطر وانطباعات، عن أشخاص ومناسبات وهيئات وغيرها.
                  أما الأناشيد) القسم الأخير في الديوان فهي أناشيد للشباب ولفرق كشافة كتبها في أوقات مختلفة ومتباعدة 1936-1950م) من ضمنها أيضاً نشيد نساء الجزائر).
                  وقد تضمن هذا القسم قصيدتين الأولى عن الفاتح العربي عقبة بن نافع) بعنوان نشيد عقبة) سنة 1965) والثانية في تهنئة الملك المغربي محمد الخامس) بمناسبة عودته من منفاه 1955م) بعنوان أمير المؤمنين غنمت نصرا).
                  وبين المتفرقات) والأناشيد) يجد القارئ قسماً صغيراً للألغاز يتكوّن من تسعة ألغاز بسيطة بين قصيدة ومقطوعة، لم يكن الشاعر مرتاحاً لإدراجها في الديوان عندما طبع لأول مرة، لأنه يعتبرها محاولات بسيطة أملتها مناسبات عارضة مع تلاميذه، ما كان ينبغي على القائمين بأمر الديوان إعداداً وطبعاً إثباتها[2]).
                  وهي وجهة نظر الشاعر التي تختلف عن وجهة النظر لدى غيره، فمهما قل شأن هذه الألغاز فهي تحتفظ -بالنسبة لشاعر كبير- بدلالتها على جانب معين مهما صغر أو تضاءل من شخصية الشاعر وروحه، إضافة إلى ما يمكن تلمسه فيها من بعد ما اجتماعي خاص أو غيره في القهوة) بعنوان الجارية السوداء) حين اختفت من الأسواق في الجزائر) عند اندلاع الحرب العالمية الثانية:


                  وجارية سوداء عز منالها
                  على البيض واستعصى عليهم وصالها

                  تولت وصدت عنهم فتعوضوا
                  جواري أخرى لا يطاق احتمالها

                  لقد تنوعت موضوعات شعر العيد) تنوعاً كبيراً، وبرزت فيها شخصية الشاعر المؤمن الصادق، كما برزت فيها أشياء مختلفة، منها ما يتعلق بظروفه وطبيعة تكوينه الاجتماعي والنفسي، ومنها ما يتعلق باتجاهه القومي من منظور ديني، ففي زاوية من الجانب الأول نلمس نزعة التشاؤم التي بكرت في وفودها عليه، وهو في العشرين من العمر حين قال:

                  سئمت وإن كنت ابن عشرين حجة
                  حوادث لا تنفك مستعرات

                  وهذا يعني أن القصيدة في حدود 1924م) وهو الشعور الذي بقي مطرداً في سنة 1936م) بعد اثنتي عشرة سنة:

                  عوجلت بالهمّ طفلا
                  وفي شبابي شبت

                  في صحتي هد جسمي
                  وفي هواي نكبت

                  وهو إن أوحى ببعض المبررات الخاصة والعامة مبكراً، فقد أبقى أيضاً في 1937م) على هذا النزوع التشاؤمي نفسه الذي انجر عن علاقته بالآخرين:


                  لا أمنح الناس ميثاقي ولا ثقتي
                  وإن أحاطت بي الأفواج والحلق

                  أصبحت أياس صاد لا يعللني
                  حتى الشراب، فلا ماء ولا ألق

                  ثم يدخل الشاعر في صراع مع نفسه 1950م) وهو يتمزق أمام الآمال الكابية في ألم مقيم معاتباً نفسه عما هي عليه من مشاعر سود، توقا للخلاص من هذا الكابوس:


                  هجدت فضاع حظي في هجودي
                  ولم أقض اللبانة من وجودي

                  وتنأى بي عن الآمال نفس
                  تنوء بوزرما تحت القيود

                  فيا نفسي عن الكدرات عفّي
                  وعودي للصفاء المحض عودي

                  هذه النزعة التشاؤمية المبرحة جعلت الشيخ محمد البشير الابراهيمي) يكتب له ذات يوم من تلمسان) سنة 1355هـ 1936م) قائلاً، طالما قرأت في وجهك الشاحب آيات الحزن وتلمحت في قسماتك دلائل الهم والأسى وكم حركتك بمعاريض من القول علني أستبين شيئاً من حقيقة هذا الهم الدفين.. وهذا الأسى المبرح الذي أعلم أنك تقاسيه فكنت كمن يستجلي المعنى الدقيق من اللفظ المعقد.. أتظن أننا جاهلون بهذه المنازع العجيبة التي تنزعها في شعرك وبمناشئها من نفسك.. طالما سمعت منك كلمة اليأس) وبودي ألا أسمعها منك مرة أخرى، لأنني أعدها غميزة في شاعريتك، ولولا شذوذ نعرفه في نفوس الشعراء كأنه من معاني كمالهم لما صدقنا باجتماع اليأس والشعر، وكيف ييأس الشاعر وهو ملك مملكة الآمال وسلطان جو الخيال..[3]) فما كان من الشاعر إلا الردّ شاكراً معلناً صعوبة الخلاص من دائه:


                  اليأس داء عسيف
                  والبرء منه عسير

                  يدق بين ضلوعي
                  قلب كسيف كسير

                  أخشى عليه انتكاسا
                  والانتكاس خطير

                  هذا الانتكاس الذي يرهبه الشاعر بقي معلناً حضوره، وإن تلوّن أحياناً في أشكال مختلفة، غير أن أملاً سياسياً ما لاح في الأفق سنة 1962م) فكسر قليلاً تواجد ذلك التشاؤم، حين أحسّ الشاعر قرب الإفراج عنه في إقامته الجبرية وإعلان الاستقلال عندما نقرت نافذته فراشة تدعى بوبشير)[4]) يتفاءل الناس برؤيتها التي يعتبرونها إيذاناً بأخبار سارة وشيكة:

                  جزمت بقرب إطلاق الأسير
                  غداة سمعت صوت أبي بشير)

                  أناجيه بآمالي وحالي
                  وأستفتيه عن شعبي الكسير


                  حتى يقول:
                  ودع عنك التشاؤم فهو وهم
                  وهم ليس يجمل بالبصير


                  وإن اتخذت نزعة التشاؤم منعرجاً نحو النزوع إلى التصرف، فقد أبقى الشاعر على كوة الأمل الواسعة في خير وطنه ومستقبله في عهد الاستقلال، وهو ما عبر لنا عنه تعبيراً مباشراً سنة 1972م) حين قال: "كيف أتشاءم الآن) في عهد تحررت فيه بلادي، وأحرز الشعب على استقلاله، لم أكن أتصور أنني سأعيش حتى أشهد الاستقلال"[5]).
                  هذا جانب مما يلفت النظر والفكر بوضوح في ديوان العيد) إلى جانب ثورياته واجتماعياته وغيرها أيضاً، لكنَ الذي يبقى جلياً عبر مختلف أقسام الديوان هو ذلك الشعور الإسلامي الفياض، والإحساس العميق بالانتماء للأمة العربية حيث تبدو العروبة والإسلام محور تفكيره وانفعاله بالقضايا والأحداث، سواء منها ما تعلق بالجزائر أو بسواها.
                  هو الإيمان القومي الذي نجده يتواجد لأدنى سبب في قصيدة أو في مقطوعة زيادة على القصائد التي يكون موضوعها، في مثل الحديث عن أقطار عربية وإسلامية، أو قضاياها المختلفة.
                  والانتماء للعروبة لديه جزء أساسي من الانتماء الأشمل للأمة الإسلامية، كما أنه لا عروبة بلا إسلام، وهو انتماء أبدي طموحاً في نفس الشاعر إلى وحدة رشيدة تكون مصدر المنعة والقوة والغلبة في النهاية.
                  نبني العروبة من جديد قلعة
                  من حولها قصف المدافع يرعد


                  فلتحي وحدتنا بها في منعة
                  ومن المحيط إلى الخليج تمدد

                  وليحي في ظل العروبة ودنا
                  ملء القلوب وعهدنا المتأبد

                  لهذا يعلن الشاعر إيمانه بضرورة الوحدة كحتمية تاريخية لمغادرة التخلف نحو العزة والمجد والسؤدد:

                  ومن مطلبي جمع العروبة كلها
                  على وحدة عظمى بشرق ومغرب


                  وحين يتحدث عن بلده الجزائر) يربط ذلك بمحيطها العربي والإسلامي خاصة في المناسبات الكبرى، فيقول عنها:


                  بين المشارق والمغارب إخوة
                  لك عصبة بقلوبهم والأذرع


                  مدّوا إليك بها حبال إخائهم
                  فصلي حبال إخائهم لا تقطعي

                  وهذا الموقف غير مفصول عن تفكيره الإسلامي الذي لا يرى أيّ خيار للشعب الجزائري أو "الأمة الجزائرية" خارج محيطها الإسلامي:


                  تأبى سوى الإسلام فيها مهيعاً
                  لسلوكها أعظم به من مهيع



                  من نفس الرؤية يدعو المسلمين جميعاً للنهوض مسترشدين بدينهم الذي هو دين عمل وقوة وعزة ومجد:


                  بني الإسلام أحيوا الدين أحيوا
                  شعائره وأوفوا بالعقود


                  فدين محمد دين الترقي
                  ومجد محمد مجد الخلود


                  من هذا المنطلق يؤكد في مواضع مختلف من الديوان هذا الانتماء لأمة عربية إسلامية بتكامل العنصرين لا تنافرهما، في مثل قوله:


                  يسألني عن نسبتي كل وافد
                  عليّ وعن شعري وعن كنه مطلبي


                  فقلت لهم أرض العروبة موطني
                  وديني هو الإسلام والقدوة النبي



                  يعلن ذلك دونما تعصب أعمى عرقياً أو دينياً، وإن هو رأى الجامع بين العرب اللغة العربية زيادة على روابط الدين والأرض والتاريخ، فهو يرى أنها بدورها لغة القرآن التي يجلها، بل يقدسها غير الناطقين بها من المسلمين في معظم أقطارها حيث يعتبر الإسلام واجباً "وجوب المقاصد، وهي واجبة وجوب الوسائل"[6]) بتعبير فضيل الورتلاني) ومن ثمّ فهي دعامة لهذا الانتماء الإسلامي وليست أداة لنزوع عنصري:


                  في الدين والدم واللسان أواصر
                  ما بيننا تقضي بكلّ وئام


                  ما العنصرية غير داء مزمن
                  صعب العلاج ومعول هدّام


                  فدعوا الهوى، والعاكفين على الهوى
                  إنّ الهوى صنم من الأصنام


                  ومهما يكن من شيء فإن المتصفح ديوان محمد العيد) يدرك بوضوح تنوع الموضوعات واختلاف المستويات الفنية، جودة وضعفاً في التجربة الشعرية التي استمرت لديه نصف قرن، في إطار بيئته ومحيطه، ولم يشنه كثيراً في ذلك الشكل التقليدي، لأنه أيضاً لم يأسره نهائياً في قوالب جاهزة، قد عزز الإيمان والصدق والواقعية مكانته الشعرية، وهو الذي عبر بإخلاص عبر قضايا ووصف أوضاعاً ومناسبات كما مدح الرسولص) وغيره من أعلام تاريخ وفكر وشخصيات دينية، مثلما مدح وطنه الأصغر الجزائر) ووطنه الأكبر العربي) وتغنى بهما، كما مدح أمته الإسلامية الكبرى بحب ووفاء تام.
                  وكل ذلك بلغة الود الصادق والرغبة الجادة في التبليغ، لا لغة الزخارف والأصباغ التزييفية واللهو اللفظي والشعوذة الفكرية.
                  فإن كنت تجد نفسك -إذن- في الركام الشعري المختلف، المتعدد الوجوه أمام تجارب لشعراء آخرين لا يتعدى عمل بعضهم أشكالاً تنعت بصفةالاستمناء الأدبي) غير الموجه لأحد، أو لقضية خارج رغبة الإفراز المجردة فإنك واجد في شعرالعيد) طابع المعاناة، ونية التوصيل والتبليغ العام التي ترفض أن يكون تبليغاً لفئة محدودة في إطار أيديولوجي ضيق.
                  ليس المعيار الفني هنا إذّن محدداً بأشكال معينة في التجديد ولا محصوراً في قوالب تقليدية زخرفية أيضاً، بل يتجاوز الأشكال والزخارف المصطنعة، والأصباغ والشطحات البهلوانية بالألفاظ كما هو شائع عند بعض إلى الإنفعال بالحدث وحسن التعبير عن التجربة وجودة بنائها، والأثر في المتلقي، وهذه نقطة أساسية في العملية الإبداعية حيث ينحو الأثر نحو الإيجاب بدخول المتلقي في حالة شعورية ذهنية، فكرية روحية حين يشارك الشاعر التجربة وينفعل بها معه، مما يخولنا القول: إن التجربة ناجحة، وهو نجاح غير منتظر في غياب الصدق الفكري والواقعي، والفني، وقوة العاطفة في ذلك، وصدق الانفعال وجودة التبليغ، وهي عناصر تتوقف عليها في النهاية عملية الإفادة والإمتاع، وحصول"اللذة الفنية" أو "الطرب الفني" بتعبيرج. ب. سارتر) وهو ما توفر على جانب منهمحمد العيد) في شعره الذي كان شاهداً أميناً صادقاً عن جوانب مختلفة في الحياة على أيامه ، فكان اللسان الصادق والنغم المتميز فيصوت الجزائر) المعبر عن روحها وانتمائها الحضاري.
                  فلا عجب بعد كل هذا أن يكون محور شعره ذلك الشعور بالانتماء الأكبر للعروبة والإسلام: موطناً وهوى.
                  لقد غردمحمد العيد) طويلاً للجزائر، وللوطن العربي والعالم الإسلامي، فأعطى الشعر والوطن خمسين سنة[7]) من عمره، إنتاجاً وعملاً ونضالاً فكرياً مستميتاً، ولم يتوقف إلا بعد أن زحفت عليه متاعب صحية مختلفة، حاول في الذكرى العاشرة للاستقلال1972) أن يتجاهل طلائعها المكثفة الجادة جداً لينجز آخر قصيدة له محيياً العاملين الجادين داعياً الجيل الجديد للعمل والإخلاص فيه، وفاء لأجيال التضحية والفداء، وكان راضياً عما استطاع أن يخدم به وطنه، قانعاً بوضعه، وهو الذي عزف عن الملذات، ولم يكن من فئات انتهازية مختلفة جنحت مطامعها ومطامحها المادية، وتنوعت مآربها وأغراضها المختلفة، فقنع بحصول الحلم الجميل، في أن يرى وطنه مستقلاً ظافراً بحرية طالما غازلها أو غازلته سراً وعلانية، رمزاً ومباشرة.
                  وقد أبقى على هذا الحب المقدس للوطن في النفس حتى آخر لحظة من حياته، حين لقي ربه، سعيداً راضياً، بعد ما"... أدى بجهده وبشعره رسالة نضالية مضنية، وإن لم يتوفر في شعره فن رفيع كما ينتظره البعضوذلك من طبيعة الظروف والمرحلة التي نشط فيها)، فقد توفر فيه التأثير القومي والنضالي، والموقف الواضح في التوعية والصدق الخالص في التعامل مع التجربة الفنية، ونقلها مفعمة بالحرارة والحب، إلى قارئه في الجزائر وخارجها.. في وطنه الأكبر.. وطن العروبة والإسلام".[8])
                  ويبقى ديوانمحمد العيد) الضخم593 صفحة) معلماً بارزاً في الحركة الأدبية عموماً والشعرية خصوصاً، في الجزائر وفي الوطن العربي، وهو الذي لم ينفصل لديه هم وطنه الأصغر عن هموم وطنه الأكبر.



                  * نص المقدّمة التي كتبتها للطبعة الثالثة من ديوان محمد العيد) المؤسسة الوطنية للكتاب الجزائر، 1992. مع تصرف طفيف جدا هنا.

                  [1]) نشرت القصيدة يومئذ في آخر حوار لنا معه، في مجلة الأثير) عدد: 5 سنة: 1. عام 1972 بعد بثها في القناة الأولى صباح يوم 5/7/1972م) كما نقلتها بعد ذلك مجلة الجيش).
                  انظر: القصيدة، ومخطوطتها المصورة إلى جانب حوار مع الشاعر، في كتاب شخصيات جزائرية) د. عمر بن قينة. ص:91-98 مطبعة البعث) قسنطينة الجزائر) 1403هـ 1983م).

                  [2]) راجع رأيه في حديث لنا معه، تضمنه كتاب شخصيات جزائرية) ص: 92 مطبعة البعث، قسنطينة الجزائر) 1983م.

                  [3]) محمد البشير الابراهيمي. الآثار. ج:1- الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر 1398هـ 1978م)- ص159-160 وقد نشرت الكلمة مع قصيدة الشاعر بعنوان: بين عالم وشاعر) في مجلة الشهاب، ج:م:12 جوان 1936م، وبنفس العنوان وردتا معاً في المصدر أعلاه، وفي ديوان الشاعر.

                  [4]) تذكر هذه الفراشة بوبشير) لاعتبارها طائراً صغيراً، وتؤنث أم بشير) لاعتبارها فراشة كبيرة.

                  [5]) د. عمر بن قينة: شخصيات جزائرية، مطبعة البعث) ط: 1- الجزائر 1403هـ 1983م) ص93.

                  [6]) الفضيل الورتلاني، جريدة البصائر، سلسلة أولى، ع: 16، الصادر في 2 صفر 1355هـ 24 افريل 1936م) الجزائر.

                  [7]) مما كتبه وهو في العشرين من عمره أي سنة 1924م).
                  -أسطر الكون
                  -صدى الصحراء، وهما قصيدتان ناضجتان تدلان على أنّ هناك تجارب شعرية سابقة للشاعر قبل العشرين من عمره، ولم تنشر هذه التجارب في إبانها لأسباب مختلفة لم يضمها الديوان أيضاً لتلك الأسباب وغيرها، كضياعها أو الاكتفاء بما سبق نشره في الصحافة عموماً أو تداوله التلاميذ والأصدقاء، ثم اكتفاء في النهاية بما ضمه ديوانه في الأخير لقوله ذات يوم بالخصوص، إن الديوان "ضم أكثر شعري، وما لم يتضمنه الديوان لا يخل في شيء.
                  د. عمر بن قينة، شخصيات جزائرية، مطبعة البعث، قسنطينة الجزائر) 1983م، ص92- انظر أيضاً: صوت الجزائر في الهامش التالي، رقم (4) .

                  [8]) د. عمر بن قينة، صوت الجزائر في الفكر العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ص36.
                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: الخطاب القومي في الثقافة الجزائرية

                    الدراسة الخامسة : صور من الأثر القرآني
                    في التعبير الأدبي.. لدى كتاب جزائريين‏
                    ينبغي القول من البداية أن التفكير الديني والتعبير عنه ذو صلة حميمة بالتفكير الوطني والقومي لدى أهم الكتاب الجزائريين، كما أن الأثر القرآني في كتابات هؤلاء أو بعضهم على الأقل غير مفصول عن أثر الفكر القومي بعمقه الإسلامي. لاعتبار أساسي وهو أن العربية والدين لديهم وجهان لعملة واحدة هي (الجزائر) وطناً بهويتها الحضارية عربياً وإسلامياً: "إن الشعب الجزائري جزء من الأمة العربية الماجدة مازال محتفظاً بخصائص العروبة كأقوى مايكون الاحتفاظ، ومن ثم فهو رأس مال العرب يجب أن يحافظوا عليه، وهوكذلك جزء له قيمته من الأمة الإسلامية العظيمة مازال محتفظاً بشعائره، متصلباً في عقائده الكريمة السمحة، ومن ثم فهو رأس مال عظيم للمسلمين يجب عليهم -حيثما كانوا- أن ينظروا إليه نظرة الأخوة المقتضية للنجدة والنصر"(1).‏
                    هذه الرابطة الروحية الحضارية الواسعة عبر عنها (ابن باديس)، شعراً:‏

                    وإلى العروبة ينتسب‏


                    شعب الجزائر مسلم‏

                    كما عبَّر عن الوحدة نثراً، على المستوى المحلي والعام فقال عن ضرورتها معرضاً بدعاة التفريق حين كتب تحت عنوان: "ما جمعت يد الله لا تفرقه يدُ الشيطان"(2). مقتبساً من القرآن الكريم مستوحياً، قائلاً: "ياعجباً! لم يفترقوا وهم الأقوياء، فكيف يفترقون وغيرهم القوي، كلا، والله، بل لا تزيدهم كل محاولة للتفريق بينهم إلا شدّة في اتحادهم وقوة لرابطتهم (ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم)، والإسلام له حارس والله عليه وكيل... نتحد لننفع، أنفسنا وننفع إذا استطعنا غيرنا. ومعاذ الله والإسلام أن نتحد على أحد، أو نتفق على باطل، أو نتعاون على إثم أو عدوان".‏
                    ومن الإيمان بالعلاقة الوطنية الضروري تمتينها نمت العلاقة الحضارية الوطيدة بعمقها الإسلامي الجوهري الذي لا قيمة لانتماء آخر خارجه؛ كتب كثير من الكتاب الجزائريين ذوي الفكر الناضج الأصيل، من بينهم (الفتى الزواوي) وهو اسم مستعار للشيخ الكاتب الخطيب (باعزيز بن عمر) إبّان الاحتلال الفرنسي معبراً عن علاقة الانتماء تلك:"إن علاقتنا بالشرق والشرقيين علاقة متينة قوية تزداد على مر الأيام متانة وقوة، وتغذيها عدة روابط روحية من دينية ولغوية وأدبية نشعر بنا كلها شعوراً لولاه لضاق بنا العيش ولذهبت النفوس حسرات"(3).‏
                    علاقة الفكر القومي بالفكر الديني لدى الكتاب الجزائريين على سبيل الموازنة تبقى أمراً واسعاً، وهو موضوع يجري التفكير فيه لوقت لاحق إن شاء الله، ولفرصة أخرى نتمنى أن تسمح بها الظروف، فلا تتأخر طويلاً، أمّا في موضوع اليوم فسأقف وقفة أولى - ربّما عجلى- عند جانب معين لدى بعض من الكتاب الجزائريين، وهو أثر القرآن الكريم في التعبير الأدبي عندهم.‏
                    في هذا المجال تجدنا أمام أشكال أو وجوه من الأثر القرآني في النثر الأدبي لدى الكتاب الجزائريين، أهمها شكلان: يتمثل أولهما في ظاهرة الاقتباس الخاصة بآيات مختلفة من القرآن الكريم، ويتمثل الثاني في أثر القرآن في سياق تعبير ذي ظلال قرآنية، قد ترد فيه جملة أو كلمة كما قد يوحي به مضمون التعبير أو شكله، أو هما معاً: صياغةً؛ وحكمةً، ومثلاً أوعبرة أو غير ذلك، وإذا كانت ظاهرة الأثر القرآني واضحة في النثر الجزائري عموماً بكل أشكاله وألوانه فإنّها أكثر وضوحاً عند كتاب من دون غيرهم، بسبب ثقافتهم الدينية العميقة ومحيطهم الاجتماعي والفكري الخاص والعام. في البيت والمعهد والمسجد والعمل، مما يتعذر تتبعه خارج إطار عملي- منهجي الخاص- لكننا هنا في مقال نقصر القول في ذلك على نماذج قصيرة محددة في أعمال بعض الكتاب الجزائريين الذين نلمس في كتاباتهم هذا التأثير بالقرآن اقتباساً أو تضميناً أو استلهاماً.‏
                    فالكاتب الجزائري المصلح (عبد الحميد بن باديس)(4) حين همّ في نص محاضرة له بالحديث في ذكرى المولد النبوي عن المسؤولية، والرسالة المحمدية لجأ إلى ضرب من التعبير في سياق براعة استهلال حين قدم بالآية القرآنية: "يا أيها النبي إنا إرسلناك شاهداً مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا"، ليخلص من ذلك إلى أن الذكريات الكبرى في مسيرة أية أمة هي عون لها لاجتياز الصعاب، وطاقة تمدّ الناس بهذا العون، وتمنحهم الثقة في النفس لتخطي المحن، فانعكست في رؤاه المختلفة ظلال قرآنية في كلمات معينة متوجة بآية كريمة، فقال في آخر موضوعه: "إن قلوباً وضعنا فيها اسم الله واسم محمد لهي بمأمنَ من عمل الظالمين وكيد الخائنين، فجددوا نورها وقوتها بمثل هذه الذكرى...واقصروا أعمالكم وجملوها بالإحسان والتقوى، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".‏
                    وهذا الأسلوب شائع جداً في تفكير هذا الكاتب وتعبيره، حتى أنّه عندما يكتب عن رحلاته الأدبية الاجتماعية يعنون بعضها بمثل قوله: "للتعارف والتذكير" وفي ذلك إيعاز بالآية القرآنية التي يرد نصّها في مواضع، وهي قوله تعالى: "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين".‏
                    وقد شاع هذا الشكل من الاقتباس في العناوين عند آخرين، غير ( ابن باديس) منهم (محمد البشير الإبراهيمي)، في مثل قوله: "وشهد شاهد"(5) و(أحمد توفيق المديني)، في موضوعه (ولسوف يعطيك ربك)(6) الذي نشره بالبصائر في مساحته الأسبوعية (منير السياسية العالمية)، وغطّى ثلاث صفحات الجريدة، في إحساسه كأديب وسياسي ورحالة تجاه مظاهر الاحتفالات في (المغرب الأقصى) بمناسبة عودة الملك المغربي (محمد الخامس) من المنفى يومئذٍ (1955)م. لإعلان الاستقلال عن إدارة الاحتلال الفرنسي، فرأى الكاتب تعلق الشعب المغربي بالرجل العائد، فبدا له حب الأمة زعيمها نعمة منه، وابتهاجها جزاء من الله تعالى، لنضالها وتضحياتها في سبيل الاستقلال، فوصف فرحة المواطنين وصفاً أدبياً شائقاً مستمداً من القرآن الكريم في تعابيره مثل قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"، فقال واصفاً معبراً عن مشاعره وانطباعاته المختلفة في مثل قوله: "شعب حيّ ناهض، شاعر بحقوقه وبواجباته... وهل أحدثك عن أقواس النصر التي وضعها القوم على مسافة العشرين ميلاً... والعيون الناضرة؟ هل رأيت العيون الناضرة؟ لقد كنت طوال ذلك الطريق أحدق النظر في أعين القوم الذين يحيطون بنا وقد أطلقوا العنان لسرورهم ولحبورهم"(7).‏
                    فقد شدت اهتمامه الفرحة العارمة التي انعكست على الملامح وبرزت في العيون، فاختار ما عبّرت عنه العيون بدل الوجه لمركزيتها وقوة نفاذها، فعبرت عن سمات جمالية أخّاذة. ونظرة متألقة بهجة شكراً للّه على النعمة، فكانت الآية القرآنية حاضرة في ذهن الكاتب فأشبعت الصورة التي كوّنها انطباعه وهو يتأمل من حوله ومايدور في ذلك المحيط الزاخر بالسعادة الغامرة.‏
                    ولم يلبث المشهد حتى شرع يوحي بأضوائه المتلألئة والبهجة الغامرة إلى الكاتب بأحاسيس مختلفة ومشاعر كثيرة استدرجت صورة فنية استمد الكاتب مادتها الأدبية من القرآن الكريم، كما وردت في سورة (القدر) فقال في سياق التسجيل الخاص بمشاعره وانطباعاته المختلفة عن البلد وهو يزوره للمرة الأولى في مناسبة وطنية وفي مناخ النضال التحريري "إن لم تكن تلك الليلة هي ليلة القدر التي بشر اللّه بها في القرآن المجيد، فهي ولا ريب ليلة القدر السياسي في المغرب العربي"(8).‏
                    هذه الإشعاعات النورانية في نفس الكاتب نلمسها لديه وهُو يُعبرَ ذات يوم عن أحاسيسه عندما اهتدى إلى مدرسة دينية في أعالي (الجزائر) حين حلّ بها لأول مرة في منتصف العشرينات (1925م)، قادماً من (تونس) التي هاجر إليها أبواه قبلاً فولد فيها، حين زار العاصمة الجزائرية لاحظ الطابع الفرنسي الذي كان يطبع الحياة، ولم يشرع في اكتشاف الجانب الآخر بطابعه العربي الإسلامي قابعاً في الزوايا إلا بمرور الوقت، فكانت بدايته المفاجأة التي أثلجت صدره وهو يدخل تلك المدرسة متتبعاً أصوات أطفال يتلون آي الذكر الحكيم: "كنت أتجول يوماً وحدي في مرتفعات المدينة وأجوب نواحي شارع النصر أي نصر فرنسا في الجزائر طبعاً عندما سمعت أصوات صبيان يرددون سوراً من القرآن الكريم، ماذا؟ أيمكن أن يبقى وجود لتلاوة القرآن وحفظه في مثل هذا الوسط الاستعماري الموبوء الفاجع:؟ وفاجأتني الآية (إنا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)، وتتبعت الأصوات بنفس مطمئنة وقلب منشرح وإذا بي أمام باب مهلهل لمنزل يكاد يكون خرباً... مدرسة الشبيبة الإسلامية، يالله! هذا وجه جديد للجزائر العربية المسلمة. هذا مقام سجود وعنوان خلود".(9)‏
                    فاعتبر الكاتب ذلك نوراً أضاء جوانب نفسه لما أصابها من أكدار، بفعل وجود الاستعمار وقيمه في الحياة، فأزال عنها غشاوة، ورأى "الجزائر الخالدة" وجهاً لوجه في الأحياء الشعبية بوجهها العربي الإسلامي.‏
                    التعبير القرآني وظلاله اللغوية والروحية نجدها لدى هذا الكاتب حتى وهو يصف أخلاق شخص من علماء الدين في مدينة (قسنطينة) سنة (1925)م عندما وصلها "لو كان الملائكة يمشون على الأرض ويختلطون بالناس ويغشون المجالس لكان المولود بن الموهوب واحداً منهم لا محالة، أتذكره دوماً ولا أنساه أبداً، أتذكره ملاكاً في شخص رجل، تلوت قوله في صفات المؤمنين الصادقين (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)، الآية، إلاّ وتمثلته أمامي بوجهه المنير وطلعته المهيبة وصوته الخافت ولهجته الصادقة وإيمانه القوي وخلقه المنير".‏
                    وأطرد ذلك في وصف عالم آخر من علماء الدين الذيِّن استغلتهم الإدارة الفرنسية ثم استيقظت ضمائرهم، فبات الهمّ مقيماً في نفوسهم، وقد وصفه الكاتب بالعالم "الجليل الذي طوقت الحكومة جيدة بحبل من مسد"(10).‏
                    وقد استخدم التعبير القرآني (حبل من مسد)، لفعل الأغلال، لا لعلاقة الحالة المعنوية أو تشابه وضع.‏
                    رغم أن حال الكاتب كان تعبيراً عن سخطه على الاحتلال الفرنسي الذي كان يستعد للاحتفال الصاخب بالذكرى المئوية لاحتلاله (الجزائر) ممّا حزَّ في نفس هذه الشخصية (عبد الحليم بن سماية)، وأيقظ ضميرها أكثر.‏
                    التعبير القرآني لديه يسري أيضاً وهو يتحدّث عن إنشاء (نادي الترقي) في العاصمة الجزائرية (1929) فاعتبر ذلك بالنسبة للشخصية الجزائرية بوجهها العربي الإسلامي "نشورا" بعد موت، كما تطرد الألفاظ القرآنية أوّلاً في وصف المجاهد الليبي (عمر المختار)، وهو يذكره بخير سنة 1931، "رحمه الله رحمة واسعة وحشره مع النبيين والصّدَيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا"(11).‏
                    كماوصف شخصية (ابن سعود) في (ديسمبر 1929) برجل "الحزم والتبصَر" أمام فئة (باغية) في حربها ضدّه "لم تراع فيها للعروبة ولا للإسلام إلا ولا ذمة"(12).‏
                    وهكذا يأتي الأثر القرآني في التعبير عند (المدني) بمختلف الأشكال والألوان اقتباساً وتضميناً واستيحاءً، كما يرد ذلك في عناوين، وفي صلب الموضوع، وفاتحته، وخاتمته.‏
                    ولا يكاد الوضع يختلف كثيراً في أسلوب (محمد البشير الإبراهيمي)، الذي يقتبس التعبير القرآني عنواناً لمقالة "وشهد شاهد"، إيعازاً بالنص، كما يتضمّن ظلالاً لمعان قرآنية بألفاظ قرآنية أيضاً، مثل (العدل) و(الفعل) و(السؤال) وهو يتحدث عن الوضع تحت الاستعمار الفرنسي (سنة 1950) في مقال بعنوان: "حدّثونا عن العدل فإننا نسيناه"، يقول فيه:"كيف يجد العدل مجالاً بين حاكم لا يسأل عمّا يفعل، وبين محكوم يسأل عمّا لم يفعل؟ وكيف يجد العدل سبيلا إلى نفوس زرع فيها الاستعمار - أول مازرع- بذرة احتقار المسلم الجزائري، ثمّ ربّاها- على الاستعلاء على المسلم الجزائري، ثم علمها -أول ماعلم- هضيمة المسلم الجزائري، وتجريده من أسباب القوة والحياة بكل وسيلة، وترويضه على الذلّ حتى يطمئن إليه، ويعتقد أنه كذلك خلق، أو لذلك خلق، فإذا سلب ماله عد سلامته من الضرب غنيمة وإذا ضرب جسمه عد نجاته من ضرب العنق منحة كريمة"(13).‏
                    ثم يوظّف الألفاظ القرآنية وظلالها في أكثر من صورة وهو يتحدث عن الاستعمار الفرنسي "هلمّ إلى الدّين تجد الاستعمار الذي كفر بالأديان يقول لك بصريح القول والعمل: أنا أحق منك بالتصرف في دينك، فلا تدخل المسجد إلا بإذني، ولا تصل إلا من وراء إمامي، ولا تحجّ إلاّ برخصتي، ولا تصم إلا على رؤيتي... ثم ارجع البصر في الدنيا وقوانينها التي يسوسنا بها الاستعمار تجد ذلك المعنى لائحاً في كل حرف منها، فائحاً من كل كلمة من كلماتها، واضحاً في كلّ تأويل من تأويلاتها، بيّنا في كلّ تطبيق من تطبيقاتها"(14).‏
                    وقد وظف الكاتب قصة (فرعون) ومجالها (مصر) توظيفاً حسناً في هذا الإطار، في موضوع نشره (سنة 1949) ولم يخل الحديث عن ذلك من الألفاظ القرآنية نفسها، مثل (المفسدين) و(شيطان مريد) إضافة إلى الصيغ القرآنية كما نرى في آخر هذه الفقرة التي يقول فيها:"هذه مصر كنانة السهّام، أرض العبقرية وسماء الإلهام، وقبلة العرب، ومحراب الإسلام تدفع بقوة إيمانها ألوهية فرعون جديد، وتدفع بيقظتها كيد شيطان مريد، بعد أن أنقذها الإسلام من تعبد الفراعنة الأولين، وإن فرعون الجديد لعال في الأرض- كأخيه- وإنه لمن المفسدين"(15).‏
                    وفي الدعوة إلى دحر الاستعمار الغربي وأذنابه يستمد الكاتب الآية القرآنية في قوله: "وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة"، حين يعبّر عن ضرورة الخروج - في التطلع إلى التحرر والنهضة- من التمنيات الباردة في الدعوات المجردة إلى الاستعداد للعمل الجاد المخلص إلى جانب ذلك، فيقول:"أيّها المسلمون عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد، إذا استعددتم، لا تظنّوا أن الدعاء وحده يرد الاعتداء؛ إن مادة دعا يدعو، لا تنسخها مادة عدا يعدو، وإنّما ينسخها أعدّ يعد، واستعد يستعدَ، فاعدوا واستعدَوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم"(16).‏
                    أما حين يتطرق (الإبراهيمي) إلى الحديث في الأمور الدينية، ومناسباتها فإنه يحرص في الأساس على تجسيد العبرة منها، فيقع تبعاً لذلك أسير المعاني الجليلة للمناسبة أكثر امتعاضاً ممّا قد يشوّه صورتها، فنجد له في هذا المجال نصوصاً كثيرة مختلفة حافلة بالألفاظ القرآنية والمعاني المختلفة الخاصة بها في الإسلام، ولتكن كلمة (الجهاد) التي تكررت في النصوص القرآنية؛ فسعى من هب ودبَ في الحرص على ذكرها، وعلى أن يوصف بها إعلاء لشأنه لا تقرير حقيقة أو ضرورة:"لم تتبذل كلمةعربية مثل ما ابتذلت كلمة (الجهاد) على السنة هذا الجيل في الشرق الإسلامي، فلعلها أصبحت أكثر الكلمات دوراناً على الألسنة، وسيرورة في الأفواه، ووصفاً بها لكل غادٍ ورائح، ومع هذا الدوران الكثير لا توجد كلمة أفرغ من معناها منها"(17).‏
                    فيقرن لذلك مجاهدة النوازع والأهواء بغيرها بمضمون إسلامي واضح قائلاً انطلاقاً من الفكرة السابقة، "إذا كثر المجاهدين قلّ الجهاد... إننّا لا نصدق جهاداً في عدوّنا الخارجي إلا إذا صدقنا- قبل ذلك وتوطئة لذلك الجهاد في نفوسنا التي بين جنوبنا جهاداً يصفَي أكدارها ويطهرها من المطامع الدنية والأعراض السخيفة"(18).كما يبرز الأثر القرآني في تعبير الكاتب بكل جلاء شكلاً ومضموناً في حدبثة عن الشؤون الدينية وعلاقتها بحياة الناس .‏
                    " مافسح العبادات عندنا وصيرَها عادمة التأثير إلا تفسيرها بمعاني الدنيا وتفصيلها على مقاييسها، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق، والرجاء في الله على وزن الرجاء في غيره، ودعاؤه كدعاء الناس، والتوكل كالتوكَل والقرب كالقرب، والعلاقات كالعلاقات... ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن وآيات الأكوان لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات... أما شهر رمضان عند الإيقاظ المتذكرين فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة ينضحها بالرحمة وينفح عليها بالروح... فإذا هي كأعواد الربيع جدة ونضرة وطراوة وخضرة، ولحكمة ما كان قمرياً لا شمسياً ليكون ربيعاً للنفوس منتقلاً على الفصول ليروض النفوس على الشدة في الاعتدال، وعلى الاعتدال في الشدة... يحرّك النفوس إلى الخير ويسكنها عن الشر.. ويطلقها من أسر العادات ويحررها من رق الشهوات ويجتثّ منها فساد الطباع ورعونة الغرائز"(19).‏
                    أمّا الأستاذ الشيخ (الفضيل الورتلاني) فإن الأثر القرآني في تعبيره الأدبي يختلف باختلاف الموضوعات التي يكتب فيها، فيستمد في بعضها اللفظ الصريح الذي قد يأتي معكوساً أو محوراً، كما نرى في حديثه عن إحدى المدن الجزائرية سنة 1353هـ(1934)م، حيث راقته الطبيعة في منطقة معروفة بأرضها الخصبة لكنه ضاقَ بسلوك الإنسان فيها تحت الاحتلال، فاختصر حديثه الطويل عن المدينة بقوله: "أرض طيبة وعبد كفور"(20)فوظف هنا بذكاء الآية الخامسة عشرة من سورة (سبأ) التي تقول: "لقد كان لسبأ في مسكنهم آية، جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور"، فأوعز الكاتب بتوظيف هذه الآية لخلل ما اجتماعي حلّ فيه الكفر بالنعمة محلّ شكرها، وإن عاد بعد نحو سنة في موضوع ثان نشره. في موضع آخر ليقول:"إنّه عبّر بذلك من أجل استفزاز القوم وتحفيزهم ليغيروا ما بأنفسهم كي يغيَر الله حالهم من تخلف وركود وخنوع إلى نشاط وعزّة وسؤدد.... لا قيمة لأمة من دونها، فقال:"أما اليوم وقد فتح الله هذه البلدة بفضل ما بذرته الجمعية (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) فيها من حبوب مثمرة... فلئن قلنا فيها يوماً إنها بلدة طيبة وعبد كفور، فهي اليوم بلدة طيبة ورب غفور"(21).‏
                    وترتسم ظلال دينية مختلفة في رحلة (محمد المنصوري الغسيري) التي كانت بعنوان "عدت من الشرق"(22) خاصة في مرحلتي (مكة) و(المدينة) قد مارست أمكنة نزول الوحي أثرها العميق في نفس الكاتب فتألقت مشاعره الدينية وحسّه الذي كاد يتحول معه إلى صوفي يعيش لحظات وجد خاصة، كما مارست ذكريات الغزوات أيام البعثة المحمدية فعلها على ذهنه، مثلما حدث ذلك أيضاً في مساجد (القاهرة) و(الاسكندرية) في مرحلة (مصر).‏
                    كما تواجد الأثر القرآني وظلاله وإيحاءاته... المتنوعة في مواضع مختلفة من التعبير في كتابات (مالك بن نبي) الأدبية خاصة مذكراته التي نشر جزأيها تحت عنوان عام هو "مذكرات شاهد القرن".‏
                    فانعكس في تعبيره الأدبي الكثير من الصور الأدبية المستمدة من القرآن الكريم، من بينها مثلاً ماعكس ظلال الآيات الثلاث (31-32-33)، من سورة (النبأ) التي تصف عباد الله المتقين الذين فازوا برضاه في جنات الخلد: "إن للمتقين مفازاً، حدائق أعناباً، وكواعب أتراباً".‏
                    فالحسناوات الكواعب صورة جمالية والجمال من مكملات الإحساس بالسعادة والرضى، والمتعة التي وعد بها الله أيضاً عباده المؤمنين المتقين الصادقين في الجنة، فكانت صورة المرأة الناهد مطلباً روحياً وجسدياً تقلص لدى الكاتب في الجانب الجسدي من رؤى الشخصية التي صورّها تعشق في المرأة جمالها وفتوتها كمطلب جسدي دنيوي متجدد لدى بعض ممّن يفتن بالمرأة إشباعاً للغريزة وحدها "ينطَ من كاعب إلى كاعب"(23). وعلى هذا النسق ترد الكلمات المختلفة في مواضع أخرى، وهو يصف شخصية طرقية تتدثر بالدين لابتزاز المواطنين "كان رجلاً يتخبطه الشيطان من المسّ"(24) أو في حالة وصفه مكائد الاستعمار الفرنسي وخططه لتدمير الإنسان الجزائري من الداخل، فيصيبه في عقيدته وقيمه المختلفة: "فكنتُ أخشى أن يجيء المستعمر إلى منطقة أفلو يعيث فساداً في تلك العجينة الإنسانية الطيبة التي تنطوي على سذاجات وخامات بدوية وفضائل عظيمة أيما عظمة"(25).‏
                    ومهما يكن من شيء، - في هذه... الوقفة العجلى- فإنّ التأثر بالقرآن الكريم لدى الكتاب الجزائريين يختلف باختلاف تكوينهم؛ اتساعاً وعمقاً، كما يختلف الأثر القرآني في التعبير الأدبي باختلاف ثقافة الكتاب، فتختلف تبعاً لذلك طبيعة الاقتباس وأشكاله، كما تختلف طرق التضمين، والسبل الخاصة بتسرب الآيات القرآنية أو الكلمات الى تعبير كل كاتب.‏
                    لكنه في معظم الحالات يبقى التشبع بالثقافة الدينية والتمكن من اللغة العربية سمة بارزة لدى أغلبهم، تضاف إليها سمات أخرى من أهمها تلك التي يتضح فيها توظيف الصيغ القرآنية وظلال القرآن وتعابيره في سياق إيجابي، يعبّر عن كاتب مسلم ذي قناعة أصيلة بما يدعو إليه، وإيمان عميق بما يصرَح به أو يخطه قلمه، ويعلنه فكره.‏
                    إنّها وقفة أولى جديرة بإثارةالتساؤل حول موضوع الأدب والأثر القرآني لدى بعض كتابنا وانتماءاتهم الفكرية، وحسهم الديني، وتشبعهم بالنص القرآني، وهو موضوع نتمنى أن يحظى بالاهتمام الجاد خاصة في دراسة الشخصيات الفكرية في أدبنا الحديث.‏
                    (1) آثار محمد البشير الإبراهيمي - ج،4، ص : 391، سلسلة التراث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985م.‏
                    (2) مجلة (الشهاب)، ج:11، 11، في ذي القعدة، 1354، هـ (فيفري 1936)/.‏
                    (3) مجلة (الشهاب)، ج:5، م:11، في جمادى الأولى 1354 هـ، (1935)م، لم تتميز الآية من النص في المصدر إلا بحروفها المشكولة.‏
                    (4) ابن باديس، حياته وآثاره، ج:4، ص: 16، دار اليقظة العربية- دار مكتبة الشركة الجزائرية 1388 هـ(1968).‏
                    (5) عيون البصائر، 2، ص: 206، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1971م.‏
                    (6) جريدة (البصائر) سلسلة ثانية، عدد 344، في 23 ربيع الثاني 1372هـ (9،12، 1955) أعاد الكاتب نشر النص كلّه في الجزء الثالث من مذكراته (حياة كفاح) فغطى نحو تسع صفحات، حين نشر الكاتب الموضوع أول مرة (1955)، وردت (الناظرة) في الحالتين بالظاء خطأ، واستدركه حين ضمنه الجزء الثالث من مذكراته.‏
                    (7) البصائر، سلسلة ثانية، عدد 344، في 1372 هـ (1955)م، -حياة كفاح، أحمد توفيق المديني، ج:3، ص: 52، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1982م.‏
                    (8) حياة، كفاح، أحمد توفيق المديني، ج:2، ص: 38، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1977م.‏
                    (9) المصدر السابق، ص :38.‏
                    (10) المصدر السابق، ص: 48.‏
                    (11) المصدر السابق، ص: 319.‏
                    (12) المصدر السابق، ص: 321.‏
                    (13) عيون البصائر، الإبراهيمي، ص: 402.‏
                    (14) المصدر السابق، ص: 403.‏
                    (15) المصدر السابق، ص: 531.‏
                    (16) المصدر السابق، ص:533.‏
                    (17) أثار محمد البشير الإبراهيمي، ج:4، ص: 215، سلسلة التراث، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1985م.‏
                    (18) المصدر السابق، ص: 216-217.‏
                    (19) المصدر السابق، ص:80.‏
                    (20) مجلة (الشهاب)، ج:7، م: 10، غرة، ربيع الأول، 1953م، (14 جوان 1934م).‏
                    (21) البصائر، سلسلة أولى، عدد 17، في 9 صفر 1355، هـ ، (1ماي 1936م).‏
                    (22) نشرها في (البصائر ) السلسلة الثانية، ابتداء من العدد،: 250، الصادر في 5 ربيع الثاني 1373، (11-12-1953م)، حتى العدد: 1376، الصادر في 24 شوال 1373هـ (25 جوان 1954م).‏
                    (23) مذكرات شاهد القرن، ج:1، ص: 322، دار الفكر، بيروت، 1969م.‏
                    (24) المصدر السابق، ص:323.‏
                    (25) المصدر السابق، ص:326.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق

                    يعمل...
                    X