إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد

    د.علي عقلة عرسان

    - منشورات اتحاد الكتاب العرب 1998
    مقدمة
    الباحثون عن الحياة
    ضرورة مواجهة تكثيف الهجرة والاستيطان
    وتعددت الأطراف في موسكو
    إرهاب... وعرب ونظام جديد؟!
    العرب والغرب والمستقبل
    القرار 194 بين أمريكا و" إسرائيل "
    التنافس على قتل العرب والمسلمين
    مرحلة جديدة في مسيرة الكلام حول (السلام)
    زيارة بيكر والاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية المقبلة
    النفط والماء.. العرب والترك
    في مواجهة استراتيجية الخنق
    من الشك إلـى الثقة
    وطننا... والإرادة‎
    فطير صهيون أم انكشارية جديدة
    فعلان صهيونيان لافتان للنظر
    نحن وأحكام الغرب الخُلُقية
    الانتفاضة في عامها السادس
    المبعدون ..ظلال وظلمات وأفاق
    المبعدون بين الإبادة والأمل :
    الإبعاد: هل نعي دروسه !؟:
    الصفقة حول المبعدين: هل يكتب لها النجاح؟!
    نحن ولغة أقوياء العصر
    الحليف الشريك
    لا يأس... لا يأس
    أمل في حقول الألم
    أرض ودم ونفاق
    مستقبل اليهودي التائه
    أسئلة سنواجهها آجــلاً أم عـاجــلاً
    المناورات الجديدة للحليف الشريك
    نحو الصبح القريب
    الأمل والخداع
    الأمل والخداع بين شايلوك وراعي البقر
    في قوتنا وضعف العدو
    دعوة إلـى عمل مغاير
    الوجه الأميركي الجديد
    إفلاس خُلُقي للغرب
    الاجتياح " الإسرائيلي " الثاني
    فلنواجه الاحتمالات كلها
    قوتا العمل والأمل
    عمليّة شيحين
    ... أولاً وكنفدرالية إسرائيلية ـ فلسطينية ..ثانياً
    أيها العربي ارفض (إسرائيل)
    أسئلة بحجم التحديات
    قد ينجح.. ولكن
    نــحو مسيرة بـــــلا ألــغام
    مـــن نــحن؟!
    فليكن شيء أيها القادرون
    علمونا.. وأجركم على الله
    Updated: Monday, September 22, 2003 03:07 AM
    هوامش على ((اتفاق غزة ـ أريحا ))
    لماذا (لا )
    الانتفاضة في عامها السابع
    مثقفو التطبيع من صنعاء إلـى غرناطة
    هل الثقافة فعل مقاوم؟؟ وكيف تكون كذلك؟!
    أميركا.. هل تنهار؟!.
    نحو مواجهة استحقاقات قادمة
    اتفاقا القاهرة.. والغد المنتظر
    ونُحشر من حواصل الطيور
    مذبحة في الحرم الإبراهيمي
    فإنها لا تعمى الأبصار
    ظاهرة " باروخ غولدشتاين "
    ســقوط الأقـنعة والتواطؤ القـذر
    المواجهة على أرض الواقع
    الأجيال العربيّة وأسئلة مُقلقة
    مسوِّغات ملكية لتحالفات مستقبلية
    دور الملك والخليفة
    التطبيع أسئلة وإشكاليات
    القيمة في الموقف
    منطقان على الأقل
    مسؤوليات فردية وجماعية
    استحقاقات ومراجعات
    هل سوى طريق النضال من طريق ؟!
    على مدخل عصر الشيكل و العوزي
    سلة الإرهاب الأميركية
    لحد.. غزة
    قرن المحتالين الكبار
    المندوب السامي في غزة مستقبل الدم والدولارات الخضراء
    الانتفاضة والثلاثي الشرير في أوسلو
    على مدخـل المفاوضات من جديد
    الروس في بلاد الشاشان
    من الخطيئة إلـى القمة
    سحر دمشق قرارها
    الرد على مايور السيد فيديريكو مايور
    توكيد على المؤكد
    نحو الحقيقة
    مواجهات واحتمالات قائمة
    محاكم عرفات وشرعنة الاحتلال
    أهل القمر الصهيوني الناقص
    الجولان يعود
    مذبحة قانا


    أوسلو الثانية
    حق العودة
    قمة عمان الاقتصادية
    تمنى الشهادة مخلصاً فجاءته
    بعد أن نفق رابين
    قمة برشلونة
    بين فكي العدو واتفاقياته
    على مشارف المرحلة الجديدة
    1996 بداية( سلام) بداية الحرب
    صراع العصر ورهانه
    حلف بغداد بلا بغداد
    على قدر أهل العزم
    سَمك المياه العذبة والتنين
    أحلام في زمن العم سام
    أهل الندم
    ثورة تلاميذ الانتفاضة
    ماذا بعد قمة شرم الشيخ؟!
    قراءة في تصريح كلنتون
    المقاومة حق مشروع
    تركيا الشرق الأوسط
    من الجنوب إلـى الوطن
    تعزيز الصهيونية
    قمة الحد الأدنى
    قراءة في قمة العرب
    الصراع في المستقبل القريب
    معادلات العقل الصهيوني
    معادلاتنا الصعبة
    نرفض نعم... لكن لماذا ؟؟
    روجيه غارودي ..أهلاً :
    هل يكون هذا بداية التغيير الكبير ؟!
    لعبة الأمن والسلام
    جبهات واحتمالات مفتوحة
    الثقافة العربية والتحديات
    حملات انتخابية بصواريخ " كروز "
    وقائع على الأرض
    دم الفلسطينيين وذكرى تشرين
    القهر لن يصنع سلاماً
    نشيج على أعتاب القدس
    شيراك والديغولية في الشرق
    قراءة في التصعيد الأخير
    نحن وكلنتون بين رئاستين
    المهم ألا تنهزم فينا الأعماق
    كثيراً ما تحدثنا عن الإنسان
    خيار المقاومة
    فــي صنعاء ضد الاستسلام والتطبيع
    مؤشرات ما بعد اتفاق الخليل
    أيها العابرون على موج الزمن .. سلاماً
    دم في دمشق
    السودان والعدوان
    كوبنهاغن بعد غرناطة

    هوامش على مقاومة الإرهاب
    طريق الأمل وطريق الوهم
    دعوة باتجاه التأمل والشرق
    الولايات المتحدة ترعى الإرهاب
    ( أوسلو )على فراش الموت
    الأجيال رهان المستقبل
    القضية والشباب العربي
    التـهديد والتحدي
    أسئلتنا الجذرية وأجوبتنا المسؤولة
    تحت شمس شرم الشـــيخ
    دروس من مأساة حــزيران
    دروس من مأساة حــزيران
    قراءة .. في(أضواء) حزيران
    الدونما والصهيونية وراعي البـقر
    إسرائيل عنصرية مستمرة
    في الوطن أمل وشجــــن
    نحو قمة عربية مسؤولــة
    المقاومة ومعسكر يهوذا
    القدس ومؤتمر الدفاع عنها
    سحر أولبرايت
    تحية للمقاومة
    جولة السيدة (إرهاب)
    إطلالة عربية بعد مؤتمر وزراء الخارجية
    روح تشرين المنعشة
    دور المثقف في المقاومة
    أفكار في ليل صيني هادئ
    نحن والمهام الصعبة
    المؤتمر القومي- الإسلامي
    خطابنا الثقافي وخطاب العصر
    إشارتان عربيتان لافتتان
    بين يدي قمة طهران
    مخاطر الصهيونية على أمن المنطقة
    التحالف العدواني يبدأ الاستفزاز
    حياة موت وموت حياة
    العرب وحمى العدوان
    لقاء شيخ الأزهر بـ " لاو "
    مسؤوليتنا جميعاً
    يا أطفال العرب
    لهاثٌ على مسارات التسوية
    تعالوا إلـى موقف يجمعنا
    السُّلْطة الفلسطينية والاستحقاقات الجديدة
    لماذا خسرنا كل تلك المعارك وما الذي تغير في الصهيونية؟!
    خمسون سنة على اغتصاب فلسطين
    فلسطين في طهران
    نفاق الغرب وتواطؤه ودماء مسلمي البوسنة
    نداء مؤتمر القمة
    Updated: Monday, September 22, 2003 03:17 AM
    الطريق الثالث " العربي " !؟!
    سورية وفرنسا والمنعطف التاريخي
    تأملوا واتعظوا يا.. .
    الكرَم اليهودي بعد خمس سنوات
    الإرهاب الأميركي
    النار بين إيران وطالبان
    التحالف الشرير إلـى أين ؟!
    قراءة في خطاب الرئيس كلنتون حـــول الإرهـــاب
    العرب والتهديدات التركية تركيا والمشاعر العدوانية
    اتفاق " أوسلو " بعد خمـس سنوات
    ماذا في اتفاق واي بلانتيشن؟!
    ماذا بعد واي بلانتيشن؟!
    العرب والتهديدات التركية
    هل هو العصر الصهيوني
    خـــاتمـــة
    هذا الملحق مخصص لنشر :
    مدعوون للعمل بأمل
    جماعة القاهرة للسلام ونســــــل أوســـــــلو
    هــل الســــلام مع العدو الصهيوني ممكن؟!
    أكاذيب وتهديدات صهيونية
    نـــــداء القنيطرة
    حصار أهلنا في الأرض المحتلة
    الإنســـــانية القــــناع ودماء مسلمي البوسنة
    الموقف العربي قراءة في ضوء العدوان
    التطبيع
    حــــوار مــــع جريدة الشرق الأوسط اللندنية :
    حوار مع مجلة فتح : "فتح" تحاور الأديب الشاعر
    حوار مع مجلة : فلسطين المسلمة :



    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

  • #2
    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

    مقدمة
    ترددت في ترتيب مواد هذا الكتاب بين أن أقارب بينها انطلاقاً من الموضوع متجاوزاً عن تاريخ الكتابة وهو يحمل معطياته وخصوصياته، أو أن آخذ بالترتيب الزمني الذي يحكم تسلسل كتابتها وينسكب منه ما ينسكب من الإرهاصات، ومن ثمة يقدم الحدث محمولاً على حاشية الاهتمام وغنياً بالإيحاءات والتوقعات والرؤى والمطالب الساخطة أحياناً. واستقر رأيي أخيراً على أن آخذ بالتسلسل الزمني، وأترك تراتب الموضوعات لتتالي الزمن الذي يتكفل بأن يقدم صورة الواقع والاهتمام به كما تكفل أصلاً بتقديم الحدث ذاته.‏
    وعلى ذلك فإنه إذا تكررت العودة إلى موضوع ما أو اشتدت الرغبة لمعرفة ما كان من مستجدات فيه ونهايات له، فأن المتابعة المتأنية للنصوص هي الكفيلة بتقديم ذلك في توقيته لأنها هي التي تفرض نفسها على المشهد والمادة المكتوبة معاً، وتقدم حالة التنامي أو التآكل أو التحوّل لحدث ما، على أرضية المتغيرات السياسية المرتبطة بتداخل قوى ومصالح من جهة، وبانكشاف توجه واستراتيجية ما أو تخفّيهما سعياً وراء التحقق بأفضل صيغة من صيغ النجاح وبأقل قدر من الخسائر.‏
    وقد حرصت على بقاء المادة التي فيه كما نشرت في حينه، وأشرت في الفهرست إلى تاريخ نشرها ومكانه، وتوخيت من ذلك تقديم التفاعل مع الحوادث والوقائع بالصورة التي كان يتم فيها لحظة وقوعها أو في أثناء تتبعي لها وانعكاساتها علي؛ تاركاً للمستجدات في كل مجال ما تنقضه أو تضيفه أو تصححه أو تؤكده من الرصد والتفسير والتوقّع والتشبث.‏
    وأريد أن أواجه سؤالاً محتملاً: هل أقدم في هذا الكتاب نوعاً من تأريخ لم يعتَدْه التاريخ وقد لا يقبله؛ أم أنني أسجل مواقف ومشاهد ومتابعات من خلال المعايشة الإيجابية الحية التي تقدم نوعاً من تاريخ صراع الإرادات والقوى والمواقع والمبادئ، على أرضية سياسية ـ ثقافية هي نوع من التاريخ الحي لفكر يعيش معركة وجود وضمير يدافع عن حياته وحيويته في الوجود؛ وقد يجد فيها المؤرخ ما لا يجده في الحدث الجاف المسجل من وجهة نظر القوة المنتصرة في أكثر الأحيان، كما يجد فيه القارئ ما قد لا يجده في التاريخ من حياة يشتجِر فيها العقل مع القلب، والتفاؤل مع اليأس، والانتماء مع الضياع والانقطاع، والمبدئي مع الانتهازي، والتجذَُر في الأرض مع حالة المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!؟‏
    إنني بكل وضوح وبساطة شاهد منحاز تماماً إلى حق وحضارة وانتماء وحرية وقضية، شاهد يرى خللاً فاضحاً في المعايير والأحكام وموازين القوى وأساليب المواجهة العربية لذلك الخلل، ويحاول أن يتابع بموضوعية ودقة ما يجري على ساحات أمته، بموضوعية ودقة، متفاعلاً معه ومنفعلاً به إلى درجة كبيرة ومثيرة أحياناً؛ ويشده انحيازه الصريح لأمته إلى تأكيد موقف ورؤية وثقافة وتاريخ، ونهضة بعد كبوة وصحوة بعد ما يشبه السبات؛ كما يشده إلى تقديم المشهد مسكوناً بمقومات الموقف والرؤية وبالمشاعر المضافة إليها أو تلك التي تشكل لها عيناً باصرة وبصيرة قارئة ومفسرة ومستشرفة.‏
    لم أسجل في هذا الكتاب، الذي جعلته في ثلاثة أجزاء، ويمتد اهتمامه وهمه من سنوات خمس مضت إلى ما لا أدري من سنوات الصراع والرؤية والاستنهاض؛ لم أسجل فيه إلا ما عشتُه بحرارة ومرارة وما عانيت منه وواكبته بصدق وإخلاص، وما استشرفته بثقة متطلعاً إلى رؤية قلب مؤمن بالله والوطن والأمة، في ضوء قراءتي للحدث والتاريخ وتجربة أمتي العربية الغنية، التي أقول: إن أشد ما أضر بها تشتت الفكر والسياسة وتوزعها على تياراتهما من دون أن يكون لها فكرها ورؤيتها السياسية المستقلة النابعة من رؤية عميقة وشاملة للقطري من خلال القومي وللقومي من خلال مراعاة الخصوصيات المرحلية، وكذلك تبعيتها لمركزيات ثقافية وأيديولوجيات مستوردة، غريبة عن واقعها وثقافتها وتكوين الإنسان ومشاكله فيها، أيديولوجيات وضعت إيمانها العميق في مواجهة فكرها المنخور بالمستورد من فكر وأيديولوجيا، وجعلت جماهيرها في مواجهة سياسييها وبعض شرائح مثقفيها المنبتين عنها، أو تركتها غائبة أو مغيبة في تلك الساحة المزدحمة بحضور الآخرين وإبداعهم في التقدم. الأمر الذي يجعلني أقول إننا بحاجة ماسة إلى معركة تحرر من الاستعمار الفكري الذي لم تتحرر منه عقولنا بعد، لنكون عرباً مسلمين ومسلمين من العرب يكفون عن وضع العروبة في مقابل الإسلام والإسلام في مقابل العروبة، ويدعون أمتهم إلى خوض معارك البناء والتحرير والنهوض على أرضية متينة من العلم والإيمان والعمل بهما، وتحويلهما إلى منجزات ومنتجات وأجهزة ومعدات ومنتجات قوة، مدنية وعسكرية، متقدمة تحمي الوطن والشخصية والشعب والهوية الثقافية وتبعث في الناس الثقة، كما يحولون الإيمان إلى سلوك وتعامل ومنظومات قيم إيجابية تحكم الحياة والساسة والسياسة؛ ويقودون أمتهم ويكونون سيفها ومنارتها في معارك طاحنة تفرضها تحديات العصر وصراعات القرن القادم، تلك التي تنذرنا طلائعها بالويل والثبور وعظائم الأمور .‏
    وإلى الذين قد يزعجهم أو يستفزهم صراخي في مواقع من هذا الكتاب وفي مقاطع من مادته أقول: عذراً أيها السادة فإن الشاة تثغو تحت حد السكين المنغرس في العنق، والجاثم تحت ظلام الكابوس وثقله يصرخ ليزيح نوماً يراكم على صدره أثقال الرعب والأثقال والهموم !؟.‏
    بقي أن أشكر كل من ساعد على صدور هذا الكتاب ورأى أهمية وضرورة لنشر ما يحتوي عليه من حياة رمِّزت في حروف واستقرت حبراً على ورق؛ وفي مقدمة من أشكر زملائي في اتحاد الكتاب العرب الذين رأوا أن يصدر عنه هذا الكتاب .‏
    والله ولي التوفيق.‏

    دمشق في يوم الثلاثاء، 22 كانون الأول، 1998‏
    الموافق لـ الثلاثاء، 04 رمضان، 1419‏

    إذا الشعب يوما أراد الحياة
    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

    تعليق


    • #3
      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

      الباحثون عن الحياة
      الذين يعلقون آمالاً على تدخل أميركي مؤثر في محادثات السلام، من شأنه أن يخفف من صلف الكيان الصهيوني العنصري، أو يرغم قادته على تنفيذ القرارين 242 / 338 واحترام القوانين والأعراف الدولية، وقبول مبدأ الأرض مقابل السلام؛ تدخل يجعل ذلك الكيان يكفّ ولو مؤقتاً عن ممارسة القتل والطرد والاضطهاد ضد الفلسطينيين، وإيقاف بناء المستوطنات؛ أقول الذين يعلِّقون آمالاً على ذلك هم واهمون، أو حالمون يتعلقون بحلم لن يطول الاستغراق فيه، وسوف يواجهون الصدمة، ويجاهرون بإحساسهم بها، ذلك الإحساس الذي يحاصرهم ويكاد يخنقهم. فالولايات المتحدة لن تتدخل إلا إذا كان تدخلها لمصلحة " إسرائيل "، ولن تنقُض تعهداتها التي كان منها ألا توافق على أي قرار في مجلس الأمن يدين " إسرائيل "، وتمنع أي قرار يدينها خلال فترة المحادثات. ولم يكن هذا التعهد إلى جانب تعهدات أخرى تعهداً عارضاً، أو فعلاً في إطار تطمين " إسرائيل " وتقديم بوادر حسن النية إليها، وإقناعها بأن المنظمة الدولية لن تمارس ضغطاً من أي نوع عليها وهي تقوم بتعطيل المحادثات، أو تؤسس لتنفيذ برنامجها الحقيقي خلال تلك الفترة وهو ابتلاع الضفة الغربية والجولان وغزة وإغراقها بالمستوطنات والمهاجرين اليهود، وسحق إرادة السكان العرب كلياً وإذلالهم إلى الحد الذي يقبلون فيه بقاءً من أي نوع وحلولاً من أي نوع، بل كان ذلك التعهد التزاماً بتمكين " إسرائيل " من تحقيق مخططاتها.‏
      ولقد ظهرت وتظهر كل يوم مؤشرات ودلالات على ذلك لمن يريد أن يقرأ ويستنتج ويعرف واقع الأمر.‏
      فأميركا قامت بتعهدها بإلغاء القرار 3379 وأكرهت عرباً وأقنعتهم بالتصويت لصالح إلغائه، وأميركا صوتت ضد قرار يطالب " إسرائيل " بإيقاف بناء المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة، وهي سوف تقدم ضمانات القروض بعشرة مليارات دولار في الموعد المحدد، لبناء تلك المستوطنات، وستعرف كيف "تقنع" آخرين بتقديم الأموال اللازمة لتوطين يهود الاتحاد السوفييتي السابق في فلسطين المحتلة، وإيجاد عمل لهم، وتطوير قدرات " إسرائيل " العدوانية والاقتصادية.‏
      فالولايات المتحدة لديها قضيتان أو مصلحتان رئيستان تحكمان سياستها في الشرق الأوسط بالدرجة الأولى وهما: النفط وإسرائيل، وحين يتم تعارض ما بين المصلحتين أو المبدأين الاستراتيجيين الهامين فإن الترجيح يتم لمصلحة إسرائيل، لأن أميركا ترى في بقاء الدولة الصهيونية قوية، ضمانة لتدفق النفط بشكل من الأشكال، لأن بقاءها، وبقاءها قوية، سوف يرغِم العرب على استشعار الخوف وطلب الود الأمريكي، وفتح أنابيب النفط حتى لو أرادوا إغلاقها.‏
      لقد قامت الولايات المتحدة الأميركية بدعم " إسرائيل " في حروبها ضد العرب، وستقوم بدعم تلك الحروب مستقبلاً، وهي على استعداد، حتى بعد أن أصبحت الدولة الأعظم والأوحد من حيث القوة والسطوة في عالمنا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أقول هي على استعداد لخوض حروب من أجل " إسرائيل " وإلى جانبها، وعلى استعداد لمناصرة عدوان " إسرائيل " واحتلالها وابتلاعها للبقية الباقية من أرض فلسطين والمحتل من أرض العرب.‏
      و"إسرائيل " ترى اليوم الأزمة الاقتصادية الأميركية رؤية موضوعية وواقعية، وتعرف أن الرئيس بوش الذي ذهب يروج لبيع السيارات الأميركية في اليابان ويسوق البضائع الكاسدة في الشرق الأقصى سوف ينشغل تماماً بالانتخابات وسيلتفت إلى المشاكل الداخلية التي لا بد أن يوليها كل الاهتمام في هذه الظروف، وسوف ينشدُّ إلى ما يشده إليه الإعلام الذي توجهه الصهيونية والذي يلاحقه هذه الأيام بمقولات أميركية داخلية.‏
      ومعنى هذا أن الإدارة الأميركية ستكون تحت رحمة ذوي النفوذ في أميركا: أصحاب المال، والإعلام، ورجال الصناعة الكبرى، وستحتاج إلى مساعدة الصهاينة ذوي النفوذ هناك، والصهاينة العنصريين ذوي المطامع والبرامج الطموحة في فلسطين المحتلة، وهؤلاء مترابطون ومسيطرون في أوساط على رأسها الكونغرس. فهل يمكن للإدارة الأميركية أن تواجههم في ظروف اقتصادية صعبة، وفي انتخابات على الأبواب، وفي مناخ دولي يكاد يغرقها بمشكلاته وأولياته ؟‍.‏
      أقول لا، لن تقوم الإدارة الأميركية بمغامرة في هذا المجال، وسوف تلعب على المضمون، والمضمون هنا هو أن تترك " إسرائيل " تتسلى بالعرب، لأنه ببساطة لا يرفع العرب صوتاً ولا رأساً بوجه أميركا ولا يملكون قوة. وهي عند الضرورة القصوى سوف تقول لهم بوضوح: " إسرائيل " تملك أسلحة نووية وأنتم لا تملكونها، وأخشى أن تضربكم في لحظة طيش من قادتها وأنا لا أملك أن أدفع عنكم الشر ولا أمنع حصوله، فـ " إسرائيل " تملك قرارها وتتصرف بما يحمي مصالحها ويحقق أهدافها، وأنا لن أخوض حرباً من أجلكم كما أن الاتحاد السوفيتي من قبل لم يخض حرباً من أجلكم، وقال لكم، وقد كان حليفاً لكم، بأنه لن يفعل ذلك؛ وعلى هذا فمن الواجب أن تعرفوا الواقع جيداً، وتضعوا كل الاحتمالات وتتصرفوا بوعي وواقعية ومسؤولية.‏
      وترجمة هذا عملياً أن يقبل العرب أحد أمرين:‏
      -سلام شامير الذي يعرضه مفاوضوه دون تنازل عن شبر من الأرض المحتلة، واستمراره في توطين اليهود في ما يسميه " أرض إسرائيل ".‏
      -أو التوقف عن متابعة المحادثات وتقويض مسيرة "السلام" وتحمل نتائج ذلك ومسؤولياته.‏
      وفي حال قبولهم للأمر الأول فإن خسرانهم واضح للأرض والحق والقضية. وفي حال قيامهم بالأمر الثاني فإن نجاح " إسرائيل " في مخططها الرامي إلى تفويض السلام وتحميل العرب مسؤولية ذلك، وإظهار هم بمظهر الرافض للسلام، سيكون مضموناً وسيتيح ذلك لأمريكا أن تعلن أنها قامت بما تعهدت به في أثناء حرب الخليج الثانية، وعملت على عقد مؤتمر سلام؛ واختار أطراف ذلك المؤتمر ولا سيما العرب عدم الاستمرار فيه لأنهم لا يريدون السلام، ولا يمكن أن تجبرهم هي على ما لا يريدون؛ وهي حيال ذلك تترك الأمور لأهل المنقطة ليحلوا أمورهم بالطريقة التي يرونها ملائمة!! وسوف تزعم أنها تنصرف إلى شؤون داخلية طالما أهملتها. ولن يكون ذلك الوضع ملزماً لها بشيء فثوابتها الاستراتيجية واضحة، وتحالفاتها واضحة، وهي تتعهد بحماية أمن " إسرائيل " ورفاه شعبها، ويبدو لها من وجهة نظرٍ تراها واقعية وموضوعية، أن أمن " إسرائيل " يقرره الإسرائيليون وهي توافق على ما يقررون، وسعادة شعب الدولة العبرية ورفاهه لا يمكن أن يتحقق طالما لم تكن هناك مجالات حيوية جغرافية واقتصادية، وموارد طبيعية على رأسها المياه، محقَّقَة لذلك الشعب، ولما كانت هنا ضامنة لرفاهه فهي تقدم المال له وتحمي مجاله الحيوي، الذي يوفر له الدخل اللازم للسعادة، كما تحمي الأمن الذي يوفر شروطها الأولية.‏
      هذا المنطق الأميركي منطق معلن وصريح وتقوم الإدارة الأميركية بممارسته تثبيتاً له من جهة وإظهاراً لمفهومه لمن يريد أن يعرف ذلك المفهوم من جهة أخرى.‏
      فكيف ترانا نواجه ذلك الواقع السياسي والدولي الساطع في وضوحه ومراميه وقوته ؟!‏
      -هل نرفض الاستمرار في لعبة المفاوضات التي تقوم " إسرائيل " بعرقلتها باستمرار ولم تتوقف، احتراماً منها لها، لم تتوقف عن القتل والطرد وهدم البيوت وممارسة أشكال الاضطهاد؟!‏
      -هل نلعب لعبة مقابلة تجعل عامل الوقت لصالحنا؟! وهل يمكن ذلك؟! وهل لتلك اللعبة من وجود بغياب مقوماتها ؟!‏
      -هل نقبل منطق المراوغة " الإسرائيلي " ونجاريه حتى نصل في النهاية إلى عظْمة قد نعاف النظر إليها؟!‏
      -هل لدينا بدائل عربية ودولية أخرى تخرجنا من دوامة اللعب والعبث والتواطؤ، الذي يرمي إلى إحراجنا أو إخراجنا، أو إلى تيئيسنا؟!‏
      إن الأسئلة كثيرة، والمرارة تتراكم خلف كل سؤال، والوضع العربي يشكل أشد العوائق وأكثرها ضغطاً على الأمة، ولكن رغم ذلك كله، لا بد من العمل والبحث عن مخارج، فمن يتعلق بالحياة لا يكفّ عن العمل لاكتشاف ما يحميها ويحفظ مقوماتها واستمرار تدفقها.‏

      الأسبوع الأدبي/ع295//1992.‏

      إذا الشعب يوما أراد الحياة
      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

      تعليق


      • #4
        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

        ضرورة مواجهة تكثيف الهجرة والاستيطان
        لا أعرف كيف يمكن أن نواجه الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة التي أخذت وتائرها تتصاعد هذه الأيام موازية لجولات محادثات السلام.‏
        فمن الواضح أن الحركة الصهيونية تنفذ برنامجاً خاصاً يتسم بالصرامة والسرعة والجدية لنقل أكبر عدد ممكن من اليهود إلى فلسطين المحتلة خلال عام 1992، لفرض أمر واقع على العرب والعالم يقضي بمراعاة الحقائق الجديدة على الأرض حيث يتوطَّن اليهود في الأراضي المحتلة بعد عام 1967 وتُوفَّر لهم المساكن والأموال اللازمة للاستقرار والعمل.‏
        فقد بدأت رحلات السفن البحرية بين أوديسا وموانئ فلسطين المحتلة لنقل الآلاف شهرياً، وأضيف إلى ذلك فتح خطوط جوية خاصة بين عواصم بعيدة وتل أبيب، مثل طشقند، لنقل اليهود بالطائرات.‏
        وهذا التطور يضعنا أمام خطر كبير، إن لم يوضع لزحفه حد فلن يجد العرب في الأراضي المحتلة ما يفاوضون عليه سوى سلامة أرواحهم وهم يهربون بعيداً عن أرض الآباء والأجداد.‏
        لقد هيأت الصهيونية و" إسرائيل " الأموال اللازمة والظروف الملائمة لتحقيق مرحلة توسع استيطاني جديدة من مشروع " إسرائيل " الكبرى، ففي اجتماع الحاخامين من أنحاء العالم، الذي تم مؤخراً في فلسطين المحتلة، تحققت أشياء كثيرة على طريق حل مشكلة التمويل، عن طريق سندات مضمونة القيمة تمنح للذين يقدمون أموالاً لـ " إسرائيل " لسنوات طويلة وابتزاز دول ومؤسسات وهيئات ذات تمويل وتأثير شديد في أسواق السياسة والمال عالمياً، وإيجاد طريقة ُمرْضِية للحصول على ضمانات القروض الأميركية، والألمانية التي لم يتم التحدث حولها كثيراً في العلن.‏
        وعلى الذين يتباشرون خيراً بتشديد الإدارة الأميركية في منح ضمانات القروض لـ " إسرائيل " بعشرة مليارات دولار، ويرون في إمكانية تقسيطها على دفعات- ملياران كل عام - وسيلة أو أداة ضغط في يد أميركا تمكنها من منع توظيف تلك الأموال في بناء مستوطنات، عليهم أن يتذكروا جيداً.‏
        - إن أميركا صوتت هي و" إسرائيل " في الأمم المتحدة ضد قرار يوصي بوقف بناء المستوطنات.‏
        - وإن تقسيط المبلغ فعل ظاهره إرضائي للعرب وباطنه إجراء عملي منطقي يأخذ بالاعتبار أن صرف مبلغ ملياري دولار أميركي سنوياً على الاستيطان أمر مقبول، وقد لا تستطيع وزارة الإسكان والمؤسسات الإسرائيلية استنفاد مثل هذا المبلغ فعلياً خلال العام الواحد، ولذلك فإن هذا يأتي في إطار تقنين وبرمجة لا يعوقان المشاريع بأي حال من الأحوال.‏
        - أنه بعد انقضاء عام على بدء المحادثات في إطار مؤتمر السلام ستكون هناك إدارات جديدة في أميركا و" إسرائيل " ليست ملزمة بالضرورة بما سبق وأقرته الإدارات السابقة، وستكون فترة عام كافية لخلق واقع جديد في المنطقة يُطرح على العرب ليأخذوه في الاعتبار.‏
        وإذن كيف يمكن أن نحول دون ابتلاع " إسرائيل " للأرض، وخلق واقع يشيع اليأس في نفوس أخواتنا في الأرض المحتلة؟!‏
        - هل سيتم ذلك باستمرار ثورة الحجارة؟! إن ذلك فعل نبيل، ولكن علينا أن نتذكر جيداً أن الحجر لن يقف بوجه الدبابة، وأن كل حادثة تتم فيها مواجهة دامية يقتل فيها عرب وتقام فيها مستوطنات دون أن تكون هناك ردود فعل عربية وعالمية مؤثرة، الأمر الذي يطلق يد " إسرائيل " في متابعة تنفيذ برامجها في الاستنزاف والاستيطان!؟!‏
        - هل يتم ذلك بوقف المحادثات في مؤتمر السلام ليتحقق تجميد أو إيقاف للاستيطان؟! إن ذلك سيجعل " إسرائيل " تحمِّل العرب مسؤولية وقف المفاوضات وتعطيل مسيرة السلام، وهو أمر تسعى إليه، ولن يجعلها تتوقف عن بناء المستوطنات واستقدام المهاجرين لأن استراتيجيتها في هذه المرحلة تتركز فيما يبدو على تطوير القنبلة السكانية، وقضم الأرض التي يقف عليها العرب.‏
        - هل سيتم ذلك باللجوء إلى المنظمات الدولية وفي مقدمتها مجلس الأمن؟! وما الذي قدمته قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ القرار 181عام 1947 وحتى يوم الناس هذا؛ وكلها قرارات تتم استناداً إلى الباب السادس من الميثاق ولا تخرج عن كونها توصيات غير ملزمة في نهاية المطاف؟!‏
        وهل ينتظر أحد أن يكون للأمم المتحدة ولمجلس الأمن وضع أفضل في مؤتمر السلام بعد إلغاء القرار 3379 الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية، وبعد أن أصبح صهر الحاخامات وابنهم مسؤولاً كبيراً في تلك الهيئة المعتبرة؟!‏
        إن ذلك وهم يفوق حدود الظلم الذي نحن فيه فلن يكون للمنظمة التي سقطت نهائياً في يد أميركا والصهيونية العالمية أي دور أو تأثير إيجابي على أعدل قضية وأبأسها في الوقت ذاته في تاريخ الأمم المتحدة منذ قيامها وريثة لتركة عصبة الأمم.‏
        - هل يتم ذلك بالدعوة إلى ممارسة ضغوط دولية من خلال استخدام المؤثرات العربية على تلك الدول، لا سيما ترابط المصالح والمنافع؟!‏
        إن الذين بأيديهم أوراق التأثير الأولى من العرب، لا سيما أولئك الذين يملكون البترول والمال، لا يريدون ولا يستطيعون فعل شيء من ذلك، فكل شيء غدا تحت سيطرة الغرب، وبشكل مباشر في الآونة الأخيرة، ولا يكاد يملك "المالكون" إلا التصرف بما يقيتهم ولا يميتهم مما يملكون، بَلْهَ التصرف حسب ما تمليه إرادة حرة وقرارات لسياسة عربية تخدم قضية الأمة ككل.‏
        إننا، والسكين على العنق، ملزمون بالبحث عن مخرج ومضطرون للتفكير بجدية وهدوء، لأن الشعارات والمهاترات والانفعالات الصاخبة أوصلتنا بعد التي واللتيَّا إلى ما نحن فيه اليوم من بؤس الإحباط، حتى لا نقول اليأس.‏
        إن ترتيب الساحة السياسية والاقتصادية العربية مدخل إلى مخرج، وإعادة التلاحم والتواصل والتفاهم إلى الأسرة العربية مدخل إلى مخرج، واستخدام القوة العربية المؤثرة في المصالح الغربية والدولية التي تصنع القرار السياسي العالمي أو تؤثر فيه مدخل إلى مخرج، وإن تقوية القدرة الدفاعية العربية، وحماية الإنسان، الذي تهان كرامته في كل دقيقة على الأرض العربية وتغرس فيه أحاسيس باليأس والدونية لدى كل فعل، والثأر للدم المستباح والأرض المنهوبة بالتعاون العربي الفعال في ساحة على الأقل من ساحات المواجهة؛ هو أكثر من مدخل إلى مخرج سليم، إنه وضع القدم على الطريق الصحيحة، طريق بناء القوة، وتحرير الإرادة والقرار، ومن ثمة الأرض والإنسان، فهل نفعل قبل فوات الأوان؟!‏
        إننا لن نفقد الأمل بأهلنا وأمتنا وقادة الرأي في وطننا الذي عرف في تاريخه الطويل كيف يتجاوز المحن ويصمد للصعاب ويبقى في حدود شخصيته وثقافته ووجوده المتمايز والمتميز معاً بين الأمم والحضارات.‏

        الأسبوع الأدبي/ع297//1992.‏

        إذا الشعب يوما أراد الحياة
        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

        تعليق


        • #5
          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

          وتعددت الأطراف في موسكو
          ماذا يعني انعقاد المحادثات متعددة الأطراف في موسكو، وبمشاركة عربية ودولية واسعة، وما الذي يرمي إليه، في حين أن المحادثات الثنائية بين الأطراف العربية و" إسرائيل " تتعثر وتكاد تتفجر، والتعنّت والصلف الإسرائيليان في أوجهما، والهجرة اليهودية وبناء المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967 على أشدها، وضمانات القروض الأميركية سوف تقدم دون ما تأخير وبالقدر الذي تنفقه " إسرائيل " ويضمن لها استمرار تنفيذ مشاريعها وخططها، وبما لا يعوق الاستيطان والهجرة وتطوير الأسلحة والتوسع؟! وماذا يفيدنا نحن العرب أن نشارك في تلك المحادثات ولما نفز بعد حتى بوعد شفهي بالانسحاب من أراضينا المغتصبة، أو بالكف عن تقتيل إخواننا الذين يعيشون تحت الاحتلال؟! وكيف يكون انعكاس ذلك على قضيتنا المركزية، وعلى علاقاتنا بعضنا ببعض ونحن نواجه العدو على أرضية تلك القضية؟!‏
          إن محادثات موسكو حققت لـ " إسرائيل " وحدها كسباً سياسياً وإعلامياً واقتصادياً واستراتيجياً ما كانت تحلم بالحصول عليه، إنه كسب تاريخي يقوم على حيازة تاريخ لا يجدي معه نفي التاريخ، ومن الطبيعي أن تتحقق منافع للأطراف الأخرى من غير العرب، لأن كل طرف يسعى لتحقيق مصالح ومنافع وسياسات، ولكن ذلك سيكون على حساب العرب وحقوقهم ومستقبل قضيتهم العادلة، تلك التي عانت دائماً من أسوأ ظروف، وأسوأ دفاع، وأضعف حماة ومحامين.‏
          ففي موسكو -على عكس مدريد- أتيح للدولة الصهيونية- العنصرية مجال لتعرض مشاريعها الحيوية بالنفاق الذي تتقنه، واستعرضت قدراتها وما تسميه "المظالم" التي تتعرض لها وأظهرت أنها:‏
          - محاصرة اقتصادياً إلى الحد الذي لا تعرف معه كيف تخفّض من العجز في ميزانيتها وتسدد ديونها، وتهيئ فرص عمل للسكان الذين يزدادون عدداً وحاجة كل يوم فوق الأراضي التي تسيطر عليها بالقوة!!‏
          - عطش إلى درجة مريعة، ولا تملك مياه الشرب فضلاً عن الحاجة المتزايدة إلى المياه للري وللمشاريع الزراعية المنتظرة !!!!‏
          - مهددة عسكرياً، إلى الحد الذي تضطر معه إلى إنفاق مبالغ ضخمة على التسلح، كانت ومازالت ترغب في أن تنفقها على أمور أخرى؛ وأنها مضطرة إلى تطوير الصواريخ، وزيادة الترسانة النووية، وصنع الطائرات والدبابات، لأن العرب الذين لا يرحمون، يسعون إلى شراء أسلحة ويريدون تدمير " إسرائيل " !!‏
          - محاطة بكراهية الخضمّ الذي هي فيه، وبسوء فهم الآخرين لها، الأمر الذي جعلها تعاني من العزلة زمناً طويلاً، وهي تتوق إلى كسر ذلك الطوق البغيض، طوق العزلة، وإلى التعامل مع "جيرانها" ومع العالم الذي يؤثر عليه أولئك الجيران، وتريد أن تبني صلات وتتبادل المصالح على أرضية من "الثقة" والاطمئنان؟!!‏
          - تواقة إلى "السلام" الذي "يرفضه" العرب، ويضعون في وجه تقدم مسيرته العراقيل، وفي مقدمة ذلك، عدم اعترافهم أولاً "بإسرائيل"، وإصرارهم على المطالبة بالأرض وبالقدس، وعدم موافقتهم على قبول مبدأ "السلام مقابل السلام" الذي طرحه ويطرحه شامير!!‏
          في موسكو كانت أمام " إسرائيل " فرصة استغلتها حتى النهاية، ولم يكن للعرب مثل ذلك الحظ الذي كان في مدريد، ولكن أية "حقائق" تلك التي قدمتها "إسرائيل" في موسكو مقابل ما قدم العرب في مدريد!؟ لا شيء من منظورنا، وكثير من الأشياء من منظور سوانا، فـ " إسرائيل " تستعرض مشاريع تنموية وحيوية وتتشدق بالحرص على البيئة وعلى نزع السلاح، وتظهر بمظهر المحروم من علاقات طبيعية، ومن تبادل اقتصادي، ومن المشاركة في مشاريع حيوية تؤمن لسكان المنطقة تقدماً تقنياً، ونقلة حضارية، ووفرة في الإنتاج الاقتصادي والازدهار، وتوفر عليهم صرف الأموال الطائلة على التسلح وتحويلها إلى ما يخدم السلام والاستقرار والرقي الاجتماعي!؟!‏
          إن ذلك عرض مغر جداً لمن يريد أن يستثمر أمواله ويحقق أرباحاً، ولمن يريد أن يستقر الوضع في هذا العالم، ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط من بين مناطق العالم، على ما يحب ويرضى؛ فكيف يمكن أن يكون مع من يرفض هذه العروض المغرية؟! وكيف يمكن أن يتفهم وجهة نظر من يرفض مناقشة ذلك والموافقة عليه؟!‏
          لقد تبوأت " إسرائيل " الآن مقعد "الحكيم" والناصح الأمين، والأستاذ المعلم، وأخذت تمارس من فوقه كيدها وتزييفها وتضليلها، وهذه الازدواجية الخبيثة هي خير ما تتقن من لعب، وأكثر ما استثمرته عبر تاريخها من أساليب؛ إنها تلعب لعبة "الحكمة والتعقل والحضارة" فتنادي بالتعاون وبتبادل المنافع وتطبيع العلاقات، على أرضية الاعتراف المتبادل والتطبيع التام للعلاقات، في ظل رجحان القوة لصالحها، وتعاطف الآخرين مع عدوانها الذي أصبح من منسيات العالم القديم، عالم الحرب الباردة، وإن كان له وجه يستمر حتى الآن، فهو الوجه ذلك الذي تغيب ملامحه تحت الأقنعة المصنعة جيداً.‏
          وهذا الدور هو ما كانت تتوق " إسرائيل " إلى القيام به منذ زمن، لتستأنف بذلك أداء فنها القديم: إظهار التمسك بالسلام، والشكوى من عدوانية العرب ورفضهم المستمر لها، واستعداء العالم عليهم بسبب ذلك وتشويه صورتهم لديه؛ هذا على الصعيد النظري- الإعلامي- الدبلوماسي، بينما تستمر بممارسة العدوان والتوسع والاضطهاد والفتك بالعرب وامتلاك كل أسلحة التدمير تحت ستار الدفاع عن النفس واستدرار شفقة العالم وعطفه. إنها اللعبة الجهنمية التي قد تتغير ملامحها وأساليبها، ولكن جوهرها ثابت لا يتغير، وأهدافها تتحقق باستمرار.‏
          في موسكو تملي " إسرائيل " خططاً من موقع الحريص على مستقبل المنطقة، ولكن ذلك يحدث في ظل لعبة فاتت على الجميع وتناساها الجميع، ويريد أن يدفن ذكراها الجميع، وهي أن " إسرائيل " ليست من المنطقة أصلاً، وقد زُرعت فيها زرعاً بالقوة، واغتصبت فيها وطناً أو سرقته هو للآخرين، وخلقت واقعاً جديداً كل الجدة أملت على الآخرين، بمن فيهم العرب، أن يتعاملوا معه معترفين بواقعيته وقدمه وأهليته للبقاء؛ إنه واقع: " إسرائيل " دولة موجودة ولها ما لدول المنطقة من حقوق ومنافع ومصالح ومجالات حيوية!؟.‏
          وإذا كان العرب، كلهم أو جلهم، يناقشون اليوم مستقبل المنطقة على أرضية من الأوهام أو الأحلام، وفي ضوء آمال أو طموحات وتطلعات تبدو لهم مشروعة أو كانت تبدو لهم كذلك، فإنه لا يجوز لهم أن يستمروا في هذا الذي هم فيه. وهم حين يذهبون إلى موسكو يقدمون للعالم كله اعترافاً علنياً بالتنازل عن كل طموحاتهم السابقة، ويسقطون ما تسميه " إسرائيل " "أوهامهم" ويناقشون مع ممثلي الدولة الصهيونية قضايا أربع ليس منها قضية واحدة تتصل بحقهم في الأرض أو بحق الشعب الفلسطيني بالعودة والاستقلال أو حتى بحكم الأرض التي يفاوض من أجلها، حكماً ذاتياً، إنهم يناقشون قضايا: نزع السلاح- البيئة- المياه- التطور الاقتصادي، وكل قضية من هذه القضايا تهتم بها قوة غربية ذات نفوذ ومصلحة واقتدار، وهي تحرص على النجاح في مهمتها على أرضية: حق دول المنطقة بالوجود والتعاون، ومشاركتها جميعاً في صنع مستقبل المنطقة، وتقبّل العون "الاستثماري" الذي يقدم لها من أجل ذلك.‏
          وحين يتم هذا قبل أن يتحقق أي تقدم في مسيرة السلام الأساسية من جهة، ودون أدنى اعتراف بأدنى حق للفلسطينيين، الذين يعيشون خارج وطنهم منذ سنوات طويلة اللهم إلا حق المعاناة والغربة من جهة أخرى، فإنه يعني عملياً إعلان حقيقتين على الملأ هما:‏
          - اعتراف العرب اعترافاً عملياً تاماً بـ " إسرائيل " دولة من دول المنطقة، موقعها جغرافية فلسطين وما تطؤه أقدام جنودها من أرض العرب؛ والتعامل معها كدولة معنية فيما يخص شؤون المنطقة ومستقبلها، دون أن يتلقوا شيئاً مقابل ذلك، اللهم إلا إذا كانوا يرون إلى الجلوس مع عدوهم إلى طاولة مفاوضات واحدة شيئاً يستحق التقدير؟!؟‏
          - تنازل العرب الضمني عن الحقوق المادية والمعنوية التي لهم وللشعب الفلسطيني في فلسطين والأراضي العربية الأخرى المحتلة، أو السكوت عن المطالبة بذلك، والقبول بما قد تجود به إسرائيل، أو ما قد تفرضه عليها أميركا(؟؟؟!) عن طيب خاطر من الاثنين معاً، بعد أن يبدي العرب الاستسلام والتسليم التام بما آل إليه أمر محادثات السلام.‏
          والعرب في موسكو حوصروا في أثناء المحادثات متعددة الأطراف، بأصدقائهم وأعدائهم والمتعاملين معهم وببعض جيرانهم وإخوانهم في الدين، الذين لهم مصالح وعلاقات ونيات لا يدري بها إلا الله، وبين أولئك: القوى العظمى التي أعادت علاقاتها ب" إسرائيل " قبل أن تقدم " إسرائيل " دليلاً على حسن النية تجاه القضية التي قطعوا علاقاتهم بها من أجلها، وقبل أن تقدم شيئاً للمنظمة الدولية التي لحست قرارها رقم 3379، أو للعرب أصحاب القضية والحق الذين يذهبون إلى هناك على أرضية واضحة: أرضية التعاون مع جهات معنية صاحبة مصلحة أو صاحبة حق في المنطقة.‏
          وهم لا يستطيعون وضع شروط ولا ممارسة تأثير، فكل من يذهب إلى هناك ينفذ شروط " إسرائيل " أولاً ويقوم بما يرضيها، فالدول التي رغبت في المشاركة في محادثات موسكو من غير العرب أعادت علاقاتها بـ " إسرائيل " كشرط للمشاركة، وقدمت دليلاً على حسن النية، وأعلنت أنها ستلعب دوراً منصفاً وغير منحاز وكأنها تدين بذلك مواقفها السابقة وتعلن أنها كانت غير منصفة ومنحازة إلى جانب العرب ضد " إسرائيل " (؟!؟) وإذا كان في هذا من العجب ما فيه، فإن كونه من وقائع اليوم وبعض ملامح الواقعية الجديدة التي لا بد من مواجهتها هو أمر ينبغي أخذه هكذا بكل ما يحمل من قسوة وما يسببه من جراح.‏
          لقد استنزفت " إسرائيل " هذه الفرصة، واستنزفت كل فرصة سانحة من فرص مؤتمر السلام ومحادثاته، واستغلت الزمن، وحولت كل ذلك إلى سلسلة من المكاسب المادية والمعنوية، والسياسية والاقتصادية والإعلامية لها، وأضافت إلى ذلك سلسلة أخرى من المكاسب على المستوى الداخلي في فلسطين المحتلة، والخارجي في الأوساط اليهودية والصهيونية؛ ومازالت تمارس ببراعة استثمار الوقت واستنزاف طاقة الزمن لصالحها، لا سيما في تكثيف الهجرة والاستيطان وتوسيع دائرة النفوذ والعلاقات الدولية وابتزاز المال والحصول على السلاح، ونحن نستنزف أنفسنا، وعلاقاتنا وقدراتنا وحقنا ذاته في الزمن ذاته، ولن يكون لنا في موسكو من حظوظ وفرص إلا حظوظ الضائعين المنهكين وفرصهم؛ لأن جدول الأعمال كله لا يحقق إلا مصالح " إسرائيل " من الاعتراف التام بها إلى الاستثمار التام لقدراتها وقدرات المنتفعين من ورائها بمنطقتنا وثرواتها وأمنها ومستقبلها.‏
          وسوف تترك المشاركة في هذه الجولة من المحادثات آثارها السلبية الكبيرة والكثيرة على العلاقات العربية- العربية، وعلى صيغ التعاون وأطره وصورة العمل العربي المشترك مستقبلاً، وستنعكس سلبياً أيضاً على المحادثات الثنائية في جولاتها القادمة، وعلى نظرة العالم إلى العرب وكيفية تعاملهم مع قضاياهم، ومواجهتهم لما يعترضهم من مشكلات ومصاعب وأمور. وستجد الأطراف المتعاطفة مع " إسرائيل " والمتحالفة معها، أو قل المتواطئة إن شئت الدقة، ستجد في عدم مشاركة بعض الأطراف العربية في محادثات موسكو، ذرائع تتذرع بها للتنصل من أية التزامات كانت قد التزمت بها حيال تلك الأطراف؛ وستبحث في ضوء ما ستتركه محادثات موسكو من ظلال قاتمة وخلافات عربية عن منافذ لإلحاق مزيد من الضعف بالصف العربي والقضية التي يتحادث العرب من أجل إيجاد حل عادل ومشرف لها. وستضغط " إسرائيل " في كل الجبهات والمواقع لتحقق مزيداً من المكاسب لها ولتلحق مزيداً من الخسائر بالعرب. فهل في ظل هذه التوقعات كان من المفيد أن يشارك العرب الذين لم يشاركوا في محادثات موسكو في تلك المحادثات ليسدوا الذرائع على أصحابها؟! أم أن الأكثر فائدة ألا يشارك أحد من العرب في تلك المحادثات حتى لا يخلقوا مناخاً يساعد الباحثين في خلافاتهم وبين ظهرانيهم عن ذرائع يتذرعون بها ضدهم، أقول حتى لا يساعدوهم على إيجاد ما يريدون؟! إنني من الذين يجدون أية محادثات مع " إسرائيل " في ظل أي ظروف، وفي أية مرحلة من مراحل "مؤتمر السلام"، لا سيما ما يتعلق من ذلك بالتطبيع على أي مستوى وصعيد وبالاعتراف بأن لـ " إسرائيل " دوراً في المنطقة وحقاً بالمشاركة في أمنها ورسم صورة مستقبلها، هو ضرب من العبث، ونوع من تقوية العدو، وشكل من أشكال التنازل عن الحق التاريخي للأمة في أرضها ومقدساتها وحقوق أبنائها؛ فكيف وهذا الأمر يتم على أرضية الرفض المطلق الذي تمارسه " إسرائيل " لأي حق للعرب في الأرض، والتقتيل المستمر للشعب العربي الواقع تحت الاحتلال، والعدوان اليومي على أرض الجنوب في لبنان، والتوسع في الاستيطان، وزيادة القدرة العسكرية بالتسلح النووي وغير النووي؛ وكل ذلك يهدد العرب كل العرب، ويجعل أمن المنطقة واستقرارها ومستقبل التقدم والازدهار والسلام فيها عرضة للانهيار!؟!؟‏
          إن " إسرائيل " كيان عنصري دخيل لا يعرف السلام ولا يلائمه السلام، وهي قلعة متقدمة تعمل على تخريب الثقافة العربية والشخصية العربية، وتتوسع وتدفع باتجاه التوسع والعدوان والاستعمار والاستيطان الذي يهدد الأمة بأعز مقوماتها ومقدساتها ومصالحها؛ وليس لذلك من حل عادل ومواجهة ناجعة إلا بامتلاك القوة والوعي ومقومات الوجود العصري العلمي الحي، الذي يمكِّن من مواجهة ناجحة لوجود يخوض صراعاً شرساً مع وجودنا.‏
          فهل نحن فاعلون ذلك باقتناع واقتدار؟! آمل ذلك وأعمل له.‏

          الأسبوع الأدبي/ع301//1992.‏

          إذا الشعب يوما أراد الحياة
          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

          تعليق


          • #6
            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

            إرهاب... وعرب ونظام جديد؟!
            ليس مصادفة على الإطلاق أن يتزامن تكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة والتوسع الاستيطاني الضخم في الأراضي العربية وقضية ضمانات القروض الأميركية لـ " إسرائيل " بعشرة مليارات دولار من أجل تغطية تكاليف المرحلة الحالية من مشروع الدولة العبرية الكبرى، ليس مصادفة أن يتزامن ذلك مع مؤتمر السلام في مراحله التي تمت حتى الآن ولا سيما مرحلة المحادثات متعددة الأطراف في موسكو؛ وليس مصادفة أن يتم في الوقت ذاته تصعيد التهديد الأميركي- البريطاني الفرنسي للجماهيرية على خلفية اتهامها بإسقاط الطائرتين: الأميركية فوق لوكربي والفرنسية فوق النيجر، وأن تصل الأمور إلى استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يحمل الرقم 731 ينطوي على إمكانيات لتفسير نصوصه على أنها تدين الجماهيرية بالحادثين وتطالبها بتقديم مواطنين من مواطنيها متهمين بالحادثين إلى المحاكمة خارج بلدهما، وأن يترافق ذلك مع تصريحات وتلويحات باستخدام العقوبات والحصار الاقتصادي وحتى القوة؛ حيث تبقى خيارات المتضررين المتهِمين مفتوحة لعمل ما يشاؤون تحت راية المنظمة الدولية أو بتصريح وتفويض منها.‏
            وليس مستغرباً نتيجة لذلك كله أن تخشى الجماهيرية بطشةً غربية بها، وأن تنشغل قطاعات من الجماهير والتنظيمات السياسية والمنظمات القومية وحتى الجامعة العربية والدول بهذا الموضوع وتخاف عواقبه، لا سيما والضربة العسكرية التي وجِّهت إلى طرابلس منذ سنوات مازالت في الأذهان والتهديدات والأحقاد والمخططات الموجهة ضد ليبيا ما زالت قائمة في الأوساط الأميركية والأوروبية، والرغبة في " تأديب " الخارجين عن الإرادة الشاملة لحكومة كل العالم تبدو في أوجها.‏
            وإذا كان لهذا التزامن الواضح لمجموعة من الأحداث والأفعال والترتيبات من أهداف فإنها لا تعدو خدمة المصالح "الإسرائيلية"، التي تتماهى في نهاية المطاف مع المصالح الأميركية عملاً وقولاً، وهذا لا يحتاج إلى مناقشة لكثرة ما تقدم من براهين وأدلة على صحته من الإدارات الأميركية المعاقبة، ولتواتر تأكيدها عليه ولما تعطيه من أولوية له حتى على شؤونها ومشاكلها الداخلية. فكيف يخدم التهديد الأميركي لليبيا مصلحة " إسرائيل " في هذا الظرف يا ترى، وما هي العلاقة بين الأمرين، ولمَ التركيز على هذه القضية وبهذه الشدة الآن؟!؟...‏
            المتتبعون لقضية الطائرة الأميركية التي سقطت فوق لوكربي يعرفون جيداً أن التهمة في موضوعها وجهت إلى أكثر من طرف خلال السنوات الثلاث الماضية.‏
            - فقد وجهت التهمة إلى جبهة تحرير فلسطين - القيادة العامة: أحمد جبريل، وتم إلحاح وضغط شديدان على سورية لتتخذ إجراءات ضد الجبهة وجبريل دون أن تقدَّم على صحة ذلك الاتهام أدلةٌ كافية.‏
            - ووجهت التهمة لسورية وارتفعت ضدها درجة الحصار المفروض عليها لأنها على لائحة الاتهام بالإرهاب عند الغرب بسبب دعمها للمقاومة اللبنانية ضد " إسرائيل " واعترافها بحق الفلسطينيين في ممارسة الكفاح المسلح لتحرير أرضهم؛ ولم تقدَّم أيضاً أدلة كافية في موضوع الطائرة الأميركية.‏
            - ووجهت التهمة لإيران وثار جدل ولوِّح بتهديد ولم يطل ذلك الاتهام، وجاء زمن نامت فيه القضية بانتظار مناسبة وتصعيد لتهم.‏
            - ووجهت التهمة مؤخراً إلى ليبيا في إطار التزامن الذي أشرت إليه، وترافق ذلك مع إحياء موضوع الطائرة الفرنسية التي سقطت فوق النيجر؛ وأضيء الخط الأحمر بين عواصم غربية معنية وتصاعد الاتهام وتصاعدت الأحداث تصاعدها المعروف، مواكبة مراحل محادثات مؤتمر السلام؛ إلى أن استصدر القرار 731 عن مجلس الأمن قبل فترة المحادثات متعددة الأطراف في موسكو وبدأ التلويح بالعقوبات والحصار واستخدام القوة. فلماذا كل هذا الآن يا ترى؟!..‏
            في هذا التوقيت أو بالأحرى في هذه الفترة من الزمن جاء موعد استحقاقات هامة من تلك التي تنتظرها " إسرائيل " من أميركا وهي:‏
            - إلغاء القرار /3379/ الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية.‏
            - تقديم ضمانات القروض بعشرة مليارات دولار، تلك التي كانت قد تأجلت مئة وعشرين يوماً؛ والمساعدة في تأمين مصادر تمويل أخرى لتوطين القادمين الجدد".‏

            - جر العرب إلى المحادثات المتعددة الأطراف في موسكو وتحقيق حلم " إسرائيل " الكبير بأن تجلس مع كل العرب وجهاً لوجه، مع كل العرب طرفاً نداً لهم وربما متفوقاً عليهم؛ لتبحث في قضايا أمنها الشامل: الاقتصادي- والاجتماعي والثقافي والعسكري، ولتؤكد انتماءها المطلق والمعترف به من العرب، إضافة إلى استمرار ما تعتبره " إسرائيل " استحقاقاتها المستمرة وهي: الهجرة والاستيطان وتصفية الانتفاضة وتهويد الأرض وفرض الأمر الواقع بكل السبل على الجميع. فكيف يمكن تمرير ذلك كله من دون أن تقدم " إسرائيل " شيئاً أو تتراجع عن شيء؟! ومن دون أن تبدي حتى بادرة على حسن نية واستعداداً لبحث حقوق العرب في أراضيهم وحقهم في الوجود الحر والسيادة عليها؟! ومن دون أن تتوقف في تنفيذ مخططاتها وبرامجها لا سيما: الاستيطانية والعسكرية والعدوانية من تلك المخططات والبرامج؟!؟ وكيف يمكن ضمان سكوت الجماهير والأوساط المتتبعة لهذه الأمور وكذلك الأنظمة التي قد تفكر بالتحرك ضد ذلك أو تلك التي قد تجبر عليه في الوطن العربي؟!؟‏
            إن الوصفة الغربية التي أصبحت معروفة ومجربة ومألوفة هي ضرب العرب وتخويفهم وجعلهم ينكمشون في أضيق مدى من جلودهم هلعاً. ولم لا يكون ذلك في ظل ذريعة جاهزة تخلّصاً من مشاكسين وتلقينا لدروس وتذكيراً بترويع ما زالت الذاكرة الشعبية العربية مشحونة بصوره وما زال الاستعداد قائماً لأخذه بعين الاعتبار ووضع احتمالاته في مقدمة ما يحسب حسابه من أمور؟!؟ إن ذلك سوف يشغل الناس من جهة ويصرف الانتباه عن قضايا هامة لا بد من تحريرها من جهة ثانية، وسوف يردع كثيرين في جميع الأوساط وعلى كل المستويات ويجعلهم يتحسسون رؤوسهم ويعدّون إلى المئة والألف قبل أن يترددوا في السير وفي الوصول إلى حيث يُراد لهم أن يسيروا وأن يصلوا.‏
            ولهذا الهدف حُرِّكت قضية تحت الطلب وأعلنت تهديدات بذرائع في مقدمتها: وضع حد للإرهاب الدولي؛ وبدأ تصعيد التهديد وبدأ التمهيد الإعلامي والسياسي والدبلوماسي لذلك، وانشغل العرب بالأمر إلى حد عدم الالتفات إلى قضايا كبيرة تمر وأمور ضخمة تحدث، وإلى حد أنهم ذهلوا عن أبعاد قرارات ووهموا جرَّاء قرارات أخرى صدرت عن الهيئة الدولية والدول النافذة الرأي والقرار والسطوة في العالم، وكذلك عن أمور جرت دون أن يتصدوا لها بأي حال وبأي شكل من الأشكال.‏
            - فالعرب لم يتفرغوا لمواجهة مخاطر الهجرة اليهودية التي تصاعدت في الشهرين الأخيرين، وبدأ يرتفع عدد اليهود القادمين إلى فلسطين المحتلة بأعداد مثيرة بعد أن أضيف النقل بالبواخر من بعض موانئ الاتحاد السوفييتي المنهار إلى النقل الجوي المباشر من أكثر من مطار بدءاً من أوزبكستان وانتهاءً بدول البلطيق، ليتحقق توطين مليون يهودي بنهاية عام 1993 وليس في نهاية 1995 أو نهاية القرن.‏
            - والعرب وجدوا أنفسهم، جرَّاء دوَّامة الترويع والتزييف التي وضِعوا فيها، يرتاحون إلى الشروط الأميركية على ضمانات القروض وإلى تجزئة تلك القروض؛ ولم يلاحظوا بدرجة كافية أن كل ذلك لم يؤثر سلبياً على مشاريع " إسرائيل " ولن يؤثر عليها لأنه بكل بساطة :‏
            1- راعى، في حالة تجزئة القروض، قدرة " إسرائيل " على الإنفاق السنوي بالدرجة الأولى وقدرة البنوك الأميركية على الإقراض في ظل الأوضاع الاقتصادية الحالية التي لا تستطيع " إسرائيل " أن تنفق سنوياً فيها أكثر مما خصص لها.‏
            2- وسمح، مع اشتراط عدم إقامة مستوطنات جديدة في الأراضي العربية المحتلة بعد عام 1967، بتوسيع المستوطنات القائمة فيها. وهذا يعني تحويل القرى الصغيرة والأكواخ الخشبية المتناثرة إلى مدن تستوعب مئات الآلاف من المستوطنين اليهود، ويعني تحويل المئة ألف يهودي ونيف، الموجودين في القدس الشرقية، إلى مئات ألوف يشكلون أكثرية بالنسبة للعرب الموجودين فيها.‏
            - والعرب في حضورهم للمحادثات المتعددة الأطراف - جلُّهم لا كلُّهم - أعطوا لـ " إسرائيل " معظم ما تحلم به، ومكنوها من التعنت والتشدد، وفتحوا أمامها أبواب الحلم والأمل أكثر من أي وقت مضى.‏
            - والعرب استسلموا تماماً، بل قل هناك بينهم من ارتاح أيضاً، لموضوع إلغاء القرار 3379 الذي يساوي العنصرية بالصهيونية؛ ولم يقاوم أحد منهم بل لا يفكر أحد منهم في أن يقاوم النزوع العنصري اليومي، الذي تمارسه " إسرائيل " بأشكال مختلفة ضد الانتفاضة وضد العرب الواقعة أرضهم تحت الاحتلال وضد الفلسطينيين المشردين من وطنهم من عشرات السنين وأولئك الذين يشردون كل يوم أو يقتلون أو يشوهون ويصبحون عبئاً على أسرهم ومسيرتهم النضالية التحريرية.‏
            - والعرب في ظل ذلك وفي ركابه أو تياره يجدون أن من الطبيعي أن تستعيد " إسرائيل " علاقاتها الدبلوماسية مع دول كانت قد قطعت تلك العلاقات مع " إسرائيل " من أجل حق العرب وتضامناً معهم، وذلك قبل أن يتحقق شيء من العدل بالنسبة للقضايا ذاتها التي تمت المقاطعة من أجلها؛ كما يقفون متفرجين على توغُّل " إسرائيل " في إفريقيا وآسيا وعلى دورها الخطر في كل من الهند والصين واليابان، الذي يؤسس لمستقبل يكون لها فيه تأثير أشد.‏
            لقد انشغل العرب بأمور داخلية تتصل بالمآسي والخلافات والممارسات السياسية والتنظير بأنواعه، واستقطب التهديد الخارجي أكثر جهودهم بما حشد له من عزم وحزم على أرضية تخطيط وتنفيذ عاليين وبما وظف له من تحرك سياسي وإعلامي مؤثرين.‏
            وبدلاً من أن يعقد العرب مؤتمرات ولقاءات واجتماعات على صعد شتى لبحث أساليب الرد على التحديات ومواجهة المخاطر الناتجة عن ممارسات " إسرائيل " وما يرتبط بالقضية الفلسطينية من أمور، عقدوا لقاءات واجتماعات منادين برفع التهم عنهم وعدم اللجوء إلى التهديد في التعامل معهم والتوجه إلى الجهات المختصة بطلب محاكمتهم، وأخذوا مواقع لهم ولم يستعدوا لشغلها!؟.‏
            ففي مجلس الأمن الدولي؛ الذي ما زالت تحكمه وتتحكم به منذ أنشئ، القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، تلك التي رتبت لها وضعاً خاصاً فيه وفصَّلته على هواها وبما يخدم مصالحها؛ في ذلك المجلس تم استصدار القرار /731/ الذي استنفر ذاكرة العرب المشحونة بالألم والقهر والرعب، وما إن تم صدوره حتى تراكض جمع غير قليل للبحث عن مخارج ومخابئ من الخطر الداهم ولكنهم في أثناء مراحل الضغط واستصدار القرار لم يفعلوا شيئاً وربما لم يكن بوسعهم فعل شيء، لأن القوى التي اتهمت الجماهيرية بالإرهاب وبتفجير الطائرتين فوق لوكربي والنيجر زجت المجلس في قضية جرمية ليست من اختصاصه، وجعلته يتخذ قراره استناداً إلى صدقيَّة الاتهام وتحقيقاته ونتائج جهوده، من دون أن تجعله ينظر إلى طرفي نزاع هما أعضاء في المنظمة الدولية ويسند التحقيق في نزاعهما أو خلافهما إلى جهة مختصة أو محايدة، ليقرر في ضوء نتائج عملها ما يراه حقاً وعدلاً؛ فقد اتخذ قراره ذاك حتى دون النظر في كون هذا الأمر من اختصاصه أم لا، وهل يعتبر ذلك خروجاً عن ميثاق الأمم المتحدة أم لا؟! لقد نفذ المجلس آلياً ما طلب إليه أن ينفذه من القوة القائدة له، التي تعمل على إقامة نظام دولي جديد تقول إنه يحقق أمناً وعدلاً بعد انتهاء الحرب الباردة، التي أتعبت العالم كثيراً وأثرت على المنظمة الدولية ودورها، وأشاعت بؤر التوتر وعدم الاستقرار؛ ولم يكن لا للعرب ولا لسواهم دور يذكر في ذلك.‏
            ويبدو من عدة قرائن ظهرت حتى الآن منها على سبيل المثال لا الحصر اتخاذ قرار في الأمم المتحدة بإلغاء القرار/3379/ الذي يساوي العنصرية بالصهيونية ومنها أيضاً قرار مجلس الأمن الدولي حول موضوع سقوط الطائرتين / القرار رقم 731 / يبدو أن النظام الدولي الجديد ليس أكثر من الوجه الحقيقي للقوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، التي حكمت العالم على نحو ما وتحكمت به منذ ذلك التاريخ. بعد أن أزالت من بينها نزاعاً كان يريح الآخرين من شرورها نسبياً.‏
            فالقوى المنتصرة التي لا يتجاوز عدد سكانها 10% من مجموع سكان العالم تملك أربعة أصوات دائمة العضوية ولها حق النقض في المجلس، ولا يملك العالم النامي كله صوتاً واحداً ولا مقعداً دائماً واحداً فيه، ولا يملك العرب والمسلمون الذين يزيد عددهم على مليار ومئة مليون عربي من البشر في العالم صوتاً له حق النقض ولا مقعداً دائماً؛ في حين أن الذين يملكون القوة المسيطرة والمتحكمة والمهيمنة هم من أبناء ديانة واحدة عدا الصين التي تكاد تحمي نفسها فقط بما تملكه من حق النقض.‏
            هذا المجلس الذي يقوم على قواعد غير متقابلة ولا متوازنة هو الذي يقال إنه يقيم عدل النظام الجديد وسيقيمه، وهو الذي في ظله تتخَّذ دائماً قرارات ليست في مصلحة الأمم النامية، وليست في مصلحة العرب من بين تلك الأمم، ولا يكاد العرب يرون مخرجاً لهم من ذلك.‏
            وإذا كان الاتهام اليوم ينصبّ على العرب باسم الإرهاب وتحت شعار وضع حد للإرهاب في العالم، فإن المؤشرات تصرخ بأن الكيل بمكيالين ما زال سمة لهذه المنظمة تفرضها عليها القوى التي تنادي بنظام دولي جديد له ملامح "عادلة "؟! وإلا فلماذا لا توجه تهم الإرهاب لـ " إسرائيل " التي تتبنى سياسة التمييز العنصري وتنفِّذها عبر مسلسل إبادة بطيء ضد الانتفاضة المباركة وأبطالها؟! لماذا لا يوقف إرهاب الدولة الذي تمارسه ولا يجرَّم وهي تقوم يومياً بممارسته بأشكال مختلفة ضد اللبنانيين في الجنوب؟! لماذا لم تتهم تلك الدولة بالإرهاب وقد أسقطت عمداً طائرة ليبية مدنية مما أسفر عن استشهاد جميع ركَّابها؟! لماذا ... لماذا ؟!... وهناك ألف إشارة استفهام، ألف لماذا، تنهض كلها بوجه الصورة الجديدة، التي تحاول الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي ما زالت تحكم العالم باسم القوة، أن تقدمها لنا.‏
            إن العرب يقعون اليوم ضحايا قوة ذات مصالح رئيسة تتجمع في مجموعات ثلاث هي: " إسرائيل " -والنفط - والسوق الاستهلاكية، وتحاول تلك القوة أن تفرض مصالحها وسلاحها وأمنها والقوى التي تحفظ لها تلك المصالح؛ وتريد أن تقدم ذلك بثوب جديد لم تجد ولم نجد أنه يختلف في شيء عن ثوب القوة الغاشمة، التي ترى أن مصلحتها عدل ونظامها خير الأنظمة وثقافتها ونظام حياتها ينبغي أن "يفرضاها على الجميع" لمصلحة الجميع ولخير العالم كما ترى؟؟! وهي لا تستطيع أن ترى الخلل الذي تحدثه في الحياة السياسية والعدالة الدولية، كما لا تستطيع أن ترى الخلل الناتج عن انفراد قوة وحيدة في العالم وعن سياسة القطب الواحد الذي ينتشي بانتصاراته، فتسير في ركابه المظالم دون أن يراها مظالم؟!‏
            وفي مثل هذا المناخ لا تحل مشاكل كل العالم ولا يسود نظام عادل ولو كان جديداً، في مثل هذا المناخ يصبح العالم الفقير والضعيف كله محكوماً بقانون الغاب، وتابعاً لصلف القوة ومسرحاً للابتزاز الاستعماري؛ وفي ظل مثل هذا التوجه تمسَخ ثقافات وقيم ومبادئ وحضارات، ويصل الذين يعانون من عقد قديمة من أصحاب التراث العريق والقيم الروحية السامية والشخصية الثقافية المتماسكة، يصلون إلى إشباع نزوعهم العدواني المريض في تشويه الثقافات والشعوب ونظم الآخرين.‏
            إن من المفيد التذكير بأن سيطرة القطب الواحد لا يمكن أن تكون قدراً ولن تدوم أبداً، فالحياة تقوم على الصراع، ولا بد للصراع من قطبين أو أكثر، والحياة لا تعرف التوقف فهي في صيرورة ضمن سيرورتها؛ وليست مادة من غير روح ولا جسداً شريراً يفيض قسوة وحقداً من دون ضوابط من أي نوع وإلى الأبد، وليس في عالم السياسة قوة وحيدة تأخذها العزة بالإثم إلى مالا نهاية.‏
            إن الحياة تحتاج إلى ذلك التوازن القائم على انسجام وعدل ومراعاة لحق كل من يحياها في الوجود وفي شيء من الخصوصيات في الوجود، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وإننا حين نستخدم العقل والضمير ونُعمِلهما جيداً في شؤون الحق والخلق، ينتصر فينا الكائن الذي أراده الله سبحانه وتعالى في أحسن تقويم. وإنني لعلى ثقة من أن العالم لا يمكن أن يبقى طويلاً يعرج على ساق، ولا يمكن أن يبقى من دون قطبين للصراع يحققان نوعاً من التوازن، وإنني واثق من أن صوت الحق والضمير والعقل عندما يعلو وتتجاوب معه القلوب والسواعد بوعي سيرتفع فوق ركام المآسي البشرية، التي سببها طغيان الشر والقسوة والقوة والمصلحة المادية العمياء في كل أرجاء الأرض ليكون للحياة طعم ومعنى؛ وإنني لعلى ثقة من قدرة أمتنا على تحقيق قدر أفضل من التبصر والعمل والفعل النقي البناء، الذي يحوّل وجودنا إلى شيء حيوي يرتبط بالكرامة والحرية والسيادة بروابط لها في التاريخ جذور، ويرتبط بعقيدتنا الإسلامية وعروبتنا اللتين لهما في تاريخ البشرية مثلما للفجر والضحى من تأثير وضرورات ووجود.‏

            الأسبوع الأدبي/ع305//1992.‏

            إذا الشعب يوما أراد الحياة
            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

            تعليق


            • #7
              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

              العرب والغرب والمستقبل
              لم يعد الغرب بحاجة إلى ورقة التوت ليستر بها عريه وعورته وعاره فيما يتصل بممارسة العدوان والإرهاب، وتحت ستار مقاومة العدوان والإرهاب؛ وهو بعد قراريه المتعلقين بالجماهيرية الليبية 731 و 748 يخلع تلك الورقة ويرميها في وجه العرب أولاً وشعوب العالم النامي ثانياً، ويعلن بوضوح تام أن قضية تسليم المتهمين الليبيين ليست هي المطلب النهائي له، وإنما هي مدخله الذي تذرع به لاستصدار القرارين على أساس الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لممارسة الضغط والتهديد والتخويف والتمهيد للعدوان للوصول إلى تحقيق أغراضه البعيدة؛ بعد أن تلفّع براية الأمم المتحدة ورفعها باسم عدالته هو، وهي عدالة مشبوهة ومشوهة وقذرة إلى أبعد الحدود، بعد أن فعل ذلك أخذ يطالب الجماهيرية عموماً والعقيد القذافي على وجه التخصيص، وبأسلوب فيه تحد وامتهان، بتنفيذ طلبات مذلة دون شروط؛ خلال مدة أقصاها الخامس عشر من نيسان. والطلبات لا تتعلق بموضوع الطائرتين الأميركية والفرنسية فقط، وإنما بتحميل ليبيا مسؤولية دعم كل من يضايق الغرب بمطالب عادلة من ايرلندا إلى الباسك ومن أميركا اللاتينية والهنود الحمر إلى الأفارقة والآسيويين المضطهدين وكل من يختار الخروج على شريعة الغاب الأنجلو سكسونية وكل من يفكر بالتحرر من الاستعمار وتحرير نفسه من النهب الاقتصادي الذي يمارَس ضده. فليبيا مطالبة الآن بتسديد فواتير قديمة تتعلق بالجيش الجمهوري الايرلندي وبتقديم معلومات حول أسلحة ذلك الجيش وذخائره وأشخاصه، ومطالبة بتقديم حساب عن كل ما يتصل بعمليات أبي نضال، وبإغلاق معسكرات التدريب، وبتسليم المتهمين، وبما يستجد من مطالب أميركية-بريطانية- فرنسية غايتها النهائية إحكام الحصار على البلد وإيصال الأمور معه إلى حدود التفجر الشامل، بغية توجيه ضربة عسكرية له؛ ليس لأن ليبيا كما يزعمون أسقطت طائرتين أميركية وفرنسية، وليس لأنها كما يزعمون تدعم الجيش الجمهوري الايرلندي وما يسمونه الإرهاب الدولي بانتصار أميركا، ليس لذلك كله وسواه مما قد تُختلق من أسباب فحسب. وإنما هم يفعلون ذلك بضغط أميركي أو بتواطؤ مع أميركا لتحقيق سلسلة من الأفعال المتكاملة في مخطط منسق ذي مراحل ضد العرب، وصولاً إلى تحقيق أهداف ثابتة وحيوية بالنسبة لمصالحهم ولمستقبل السياسة التي يخططون لها خلال القرن القادم.‏
              إن أميركا أولاً وبتأثير الحركة الصهيونية ثانياً وتحت ضغط "إسرائيل" ثالثاً، وبتحالفها مع بريطانيا رابعاً وبتبعية فرنسا لها خامساً، إن أميركا هذه تريد أن تستكمل سيطرتها المباشرة على نفط العرب فتتحكم بإنتاجه وتصديره وتسعيره. لأنها تدرك جيداً وتبني سياستها بحذر على أساس ذلك الإدراك الجيد المبني بدوره على حسابات دقيقة، الأساس الذي يقول: إن من سيطر على النفط يسيطر على العصر القادم، والنفط معظمه بيد العرب، فمن يسيطر إذن على العرب يسيطر على النفط، ومن يسيطر على النفط يسيطر على العالم.‏
              وليبيا تمتلك من هذا النفط كمية لا يستهان بها وهي قريبة مجاورة للجزائر ومتفاعلة معها، وقادرة من خلال الاتحاد المغاربي الذي تحرص على استمراره، على أن تؤثر على نفط المنطقة، وهي فضلاً عن ذلك قريبة جداً من الأسواق الأوروبية التي قد تكون هي المنافس المستقبلي لأمريكا في السوق، سوق السياسة وسوق الاقتصاد وسوق المال. وقبل أن تصبح أوربا الموحدة قوية وقادرة على أن تقول لا، لا بد من إحكام القبضة على عنقها؛ والذي يسلم رقبة أوربا لأميركا هي بريطانيا، التي تضع رجلاً هنا ورجلاً هناك، وتمُتُّ للأميركيين بصلات وقرابات وتقيم معهم شراكات لا يرتاح إليها الأوربيون الآخرون؛ وإن كانوا لا يملكون الآن أن يقولوا لها لا لأنهم مازالوا أتباعاً للأميركي القوي، الذي أجهز على السوفييت والشيوعية والماركسية، وأخضع نفط الخليج لسيطرته، ولقن دول العالم النامي درساً من خلال العراق، وشتت أحلام العرب بالوحدة والعزة والاستقلال، وأصبح قائداً للعالم بحكم القوة وقانونها الغاشم؛ فهم يتمنون أن يقول القذافي باسم ليبيا أو المغرب أو العرب، ولكنها ستكون لا لصالح أوربا وليس لصالح شعوب الأرض ومنهم العرب!؟!.‏
              -وأميركا تريد أن تبتز الأموال الليبية لتخفف من ضائقتها الاقتصادية ومن العجز والتضخم في ميزانيتها.‏
              -وأميركا تريد أن تمنع ليبيا ومن اتهمتهم- ويا له من اتهام أعلنه مدير المخابرات الأميركية غيتس في شهادة له أمام مجلس الشيوخ الأميركي -ببناء قوتهم العسكرية وبمحاولاتهم امتلاك الأسلحة العصرية، بما فيها أسلحة الدمار الشامل، وهم إيران والعراق وسورية وليبيا. أقول أميركا تريد أن تمنع ليبيا من بناء قوة تحرر قرارها السياسي الاقتصادي وتحمي ثرواتها وسيادتها ومواطنيها وتحقق أهدافها القومية والإسلامية.‏
              وتريد أن تمنعها بالدرجة الأولى من امتلاك العلم والتَّقَانَة وخوض ميادين التجربة والتطبيق العلمي في أي مجال، ومن أن تضع أموالها في خدمة تلك الأهداف، وتوظف جزءاً من ثرواتها لبناء الإنسان فيها والخروج به من التخلف إلى التقدم، ومن الجهل إلى العلم، ومن التبعية إلى الانعتاق والإبداع؛ تريد أن تمنعها من الحصول على المعرفة والاستفادة من الثقافة التي تصنع الوعي وتحرر به الإرادة وتدخل على ضوء نوره المستقبل.‏
              إنها باختصار شديد تريد أن تحول بينها وبين دخول العصر وأن تحول بينها وبين جماهير أمتها، التي قد تتلاحم معها فتستفيد من إمكاناتها وتفيدها في التعاطف مع أهدافها وتساندها من أجل تحقيق تلك الأهداف. وتريد أن تحول بينها وبين من يتعاطف معها ويتعاون معها من الدول النامية في العالم.‏
              -وأميركا تريد أن تمنع ليبيا من ممارسة دور، أي دور يعكِّر مسيرة السلام، التي بدأت في مدريد وتريد أن تشل قدرتها على التحرك، وتحصرها في دائرة الاتهام والدفاع عن الذات بل وتجبرها على الخضوع والاستسلام؛ لتتمكن من تنفيذ خطتها الرامية إلى فرض استسلام مذل على العرب، وعزل مفاوضيهم وأقطارهم ومحاصرتهم بالقوة الإسرائيلية، لتسهيل تمرير تصفية القضية الفلسطينية وإعطاء " إسرائيل " دوراً بارزاً ومعترفاً به في المنطقة على كل الصُّعُد والمستويات.‏
              ولا يذهبن الظن بأحد إلى أن ليبيا ستأخذ جزاء عن العرب مجتمعين فتفديهم بدم ونفط ومال، فالمخطط الأميركي لا ينتهي بذلك، لأن ليبيا ليست سوى حلقة من سلسلة يُراد لها أن تكتمل، واكتمالها يكون بفرض الإرادة الأميركية والهيمنة والنفوذ السياسي التام على البلاد العربية، واستلاب الثروات والأموال، وتصدير الثقافة الأميركية والقيم الأميركية لها؛ أي بمعنى أوضح بمحو شخصية الأمة وثقافتها وقيمها تلك التي تتجسد في عروبتها وإسلامها، أي في اللغة والدين ومقومات السلوك والخصوصية والهوية القومية؛ وهو ما أشار إليه الرئيس جورج بوش في خطاب الاتحاد الأخير الذي ألقاه أمام مجلسي الكونغرس حين قال: " إن العصر القادم سيكون عصر فرض الأنموذج الثقافي الأميركي والقيم الأميركية في العالم ". وحين أوحى هو وصرح كثيرون في الغرب- من رجال فكر وأدب وصحافة وسياسة- بأن القرن الحالي شهد انهيار الماركسية وأن القرن القادم سوف يشهد انهيار الإسلام.‏
              ومن يقرأ خريطة التحرك الغربي بقيادة أميركا يرى بوضوح المرتكزات الآتية :‏
              -تفتيت الوطن العربي وإضعافه لأنه النواة الصلبة أولاً وأخيراً للعالم الإسلامي. ويبرز ذلك في العمل على إجهاض كل أشكال التضامن العربي، وإذكاء الخلافات العربية- العربية، ووضع القوميات المتآخية في الأرض العربية في حالة مواجهة، وتبني قضايا بعض تلك القوميات تبنياً مباشراً؛ وجعل القومية بمواجهة الدين لإضعاف الإسلام تحت اسم مقاومة الأصولية، والقضاء على التماسك الاجتماعي والخُلُقي. وقد أخذت " إسرائيل " تركز على خطر الأصولية الإسلامية القادم وتعلن أنها هي القادرة على لعب دور كبير لوضع حد لهذا الخطر وهي بذلك تغري أميركا بالاعتماد عليها .‏
              -تغذية الخلاقات بين الأقطار العربية والبلدان الإسلامية وبذر الشقاق والعداوات بين مذاهب إسلامية وبلدان إسلامية أيضاً لمنع أي تعاون أو تقارب أو تنسيق في أي مجال من مجالات الحياة.‏
              -إحكام الحصار على العرب والمسلمين جميعاً حتى لا يملك أي منهم قوة عصرية، علمية أو تقنية أو عسكرية أو حتى اقتصادية، تمكنه ومن ثمة تمكنهم، من إحداث أي توازن من أي نوع مع " إسرائيل " بَلْهَ مع الغرب. حتى يبقى العرب والمسلمون قيد التهديد والابتزاز والخوف والنهب، ومن ثمة قيد التهافت الشامل والتصفية البطيئة لحضورهم الحيوي والثقافي والعقيدي. وحين تختار أميركا أهدافها وضرباتها وتحددها وتخلق حولها الظروف الملائمة، التي تمنع أن يساعد الأخ أخاه والجار جاره، وتحول دون وقوف الضعفاء مجتمعين لنصرة الحق والعدل بوجه القوة الجائرة المتغطرسة، فإنما تفعل ذلك لتحكم قبضتها رويداً رويداً على الجميع ولتجعل كل بلد يحسب حساباته بمعزل عن الآخر، فتأخذهم فرادى، وتفتك بهم وحدانا، وتفوز بجعلهم أرانب في حقل مكشوف.‏
              إن الغرب بقيادة أمريكا لم يعد يحفل حتى بشكليات دولية وحقوقية وسياسية، تجعل للعالم ولمؤسساته وجوداً مستقلاً ومحترماً أو مهاباً من أي نوع؛ فلقد أسفرت القوة المتغطرسة عن وجهها القذر، وأخذت تنفذ برنامجها التدميري-الابتزازي ضد الآخرين بهدوء وبرود وثقة وتصميم. الجميع يقفون في الصف بانتظام، والعصا الغليظة فوق رؤوسهم، وعليهم أن يزحفوا أمام السيد الذي يوزِّع المهام والأرزاق والأدوار ونظرات الرضا والاستحسان، ومن يرفع نظره بوجه السيد تتهاوى على رأسه الضربات من دون رحمة. هذا هو العالم الجديد، ونظامه الجديد، إنه بكل بساطة نظام القوة القديم. القديم.. الجديد المتجدد؛ الذي يجمع في قَرَنٍ: نيرون وهتلر وستالين وبوش مع المحافظة على هوامش وخصوصيات فردية في الاختيارات الطُّغيانيَّة والطموحات والتطلعات الشخصية والقومية، ضمن أطر وظروف وأزمان ومواصفات مختلفة.‏
              لقد بدأت اليوم مرحلة أخرى من مراحل تطويع العرب وإرهابهم، وتأتي هذه المرحلة في سياقها الزمني وتوقيتها المرسومين تنفيذاً لسياسة وخطة شاملتين تضعان المنطقة العربية كلها تحت النفوذ المباشر للاستعمار الأميركي-البريطاني وتنهيان الصراع والجدل حول "شرعية" وجود " إسرائيل" في المنطقة وحقوقها الكاملة فيها.‏
              ويبدو بوضوح أن العرب سوف يستجيبون، ولو على مضض وبشيء من الضجيج والعجيج لما تفرضه القوة الغربية على العالم باسم مجلس الأمن؛ وقد بدأ كل منهم يُجري حساباته الخاصة ربحاً وخسارة جرَّاء تطبيق القرار 748، من الشقيق الجار إلى الأخ بعيد الدار. وإخال أنني لا أسمع إلا رفضاً في قالب انصياع، وتذمراً في إطار ارتياع، وهمهمة تضوع هينمة، ولا أرى إلا خراف الأضحى ينتظمها صف يؤدي إلى المذبح، تنظر إلى سكين الجزار تقطر دماً وهي تنتقل من رقبة إلى رقبة، فتسيل منها العيون، ولا تتحرك منها القرون؛ خوفاً-ويا عجباً كل العجب - خوفاً من موت قبل الموت، ولا يفصل الأول عن الآخر إلا لحيظات إن لم يعمرها الأمل بشجاعة وعمل، فهي الموت المتكرر في كل لحيظة من تلك اللحيظات.‏
              الغرب الذي اتخذ قراره يحشد الآن قوته للتنفيذ، لا لتنفيذ قرار ما يسمى بمجلس الأمن بل قرار القوة التي تنفذ برنامجها في تصفية الرؤوس وتسويتها بالأرض، تمهيداً للسيطرة على الأرض وما فيها ومن وما عليها؛ ولا أراني أتجاسر على أن أطلب من العرب فعل شيء، لأنني بكل الوضوح والبساطة والثقة، أعرف أنه لن يتم شيء. وإذا كان ما يريده البعض مجرد الصراخ والاحتشاد في خواصر المدن، واستنزاف الطاقة أو تصريفها في الزعيق والنعيق، فإنني بكل بساطة، لا أرى لذلك ضرورة؛ فإذا كنا لا نملك غير تلك البضاعة التي عرفها الناس عنا وعرفناها عن أنفسنا طوال السنين الماضية، وعرفنا أنها لم تردع عدواً ولم تؤد إلى حشد قوة ذات فعالية ملموسة وتأثير حاسم، فإن الأجدر بنا ألا نكرر أفعالاً غير مجدية.‏
              إن العرب يعرفون منذ عدة شهور أن ليبيا مهدَّدة بالعدوان ويعرفون أيضاً أن بلداناً عربية أخرى مهدَّدة به، أو سيأتي دورها؛ وطوال تلك المدة كانوا يغوصون في خلافاتهم وجراحاتهم، ولم يرتفعوا فوق سطح الأرض ليروا ما ينتظرهم وما يزحف إليهم، فهل ينتظر منهم أن يقوموا عندما تصطفق أجنحة الغربان فوق جبين الإنسان منهم، بحشد قواهم لإنقاذ العين التي تُسْتَمَل، والدماغ الذي تنهشه المناقير وتمزقه؟! اللهم لا أقول ذلك يأساً من أمة أعتز بالانتماء إليها في واقعنا المتردي هذا، ولا أقوله تثبيطاً لها وتيئساً من مخرج، ولكنني أقوله والألم يعتصر مني القلب ويستبد بالروح ويشتد على البصيرة، حتى ليكاد يحجب عني الرؤية والرؤيا، أقوله جرَّاء استقراء خبرة، وانطلاقاً من قراءة متجددة لتاريخنا الحديث والمعاصر؛ فلم يكن استعدادنا ناجزاً وناجحاً إلا فيما ندر، ولم تكن مواجهتنا لعدونا إلا مثلومة بالتسرع والفرقة وبالتردي في مهازل ومباذل ازدواجية الولاء وكثرة التبجح والادعاء والترجّح بين ما يترجمه عن كل منا الوجه والقناع.‏
              إن الغرب بقيادة أميركا سيصعِّد الموقف ولن يقبل من ليبيا حتى التراجعات المذلة في موضوع تسليم المتهمين، لأنه لا يريد ذلك الموضوع وكفى، وإنما يتخذه ذريعة لأهداف أخرى. وقد أصبح الآن في مراقي المطلبيات التي لن تنتهي إلا بشن العدوان للسيطرة على منابع النفط وإلغاء النظام "الجماهيري- القذافي" الذي لا يرضيه أو يزعجه من جهة و لا يتبعه ويتبارك به من جهة أخرى؛ والدور سيأتي من بعد على سورية تحديداً ومن خلال عدوان إسرائيلي يتم الإعداد له منذ فترة، عدوان تباركه أميركا ويسكت عليه الغرب، ويمكِّن " إسرائيل " من تحقيق مخططها الرامي إلى إنجاز مشروع " إسرائيل " الكبرى بنجاح واطمئنان وسلام، كما يمكِّنها من الاطمئنان إلى المستقبل وإعلان نفسها وصياً على المنطقة وفرضها لنفسها حامياً لها وناطقاً باسمها؛ وعلينا ألا نقرأ ذلك في شهادة غيتس مدير المخابرات الأميركية أمام مجلس الشيوخ فقط، بل علينا أن نقرأه في رسائل وإشارات وإعلانات عديدة وقديمة، بدت صارخة جداً يوم وصلت القوات متعددة الجنسيات إلى شرق المتوسط وإلى لبنان لتفرض اتفاق 17 أيار، الذي يلحق لبنان بـ " إسرائيل " ويقيم حزاماً من دول الفسيفساء الطائفية حول " إسرائيل " ويدمر قوة سورية ويقضي عليها؛ وأخذ ذلك التهديد يتجدد ويبحث عن تحقُّق ومناسبات ملائمة في أوقات مختلفة وأشكال عدة. ولعلنا نذكر أن تصريحات إسرائيلية وحتى أميركية في نطاق مجلس الشيوخ قد انطلقت إبَّان حرب الخليج الثانية لتقول: إن سورية مثل العراق تماماً: فيها نظام توليتاري، وتملك أسلحة تهدد " إسرائيل "، وهي تمارس الإرهاب، وتسيطر على أرض لبنان أو تحتله، وأنها من أجل ذلك يجب أن تُضرَب وتصفى قوتها التي تسيء إلى دول "ديمقراطية" في المنطقة، وتهدد السلام العالمي.‏
              وقبل ذلك وبعده، كانت سورية وما تزال قيد الحصار من الغرب بالنسبة للمعدات والتجهيزات وبعض "السلع" الصناعية الدقيقة، وقيد حصار مالي واقتصادي جعل الليرة السورية تكاد تنهار أمام الدولار وتنتقل من سعر 6 ليرات سورية إلى 46 ليرة سورية للدولار الواحد، وكانت وما تزال على قائمة الدول التي تدعم الإرهاب بالنسبة لأمريكا والغرب، ولم تُسحب هذه التهمة ولا رفع ذلك الحصار، على الرغم من عدم وجود شيء يثبت تلك المزاعم ضد سورية وعلى الرغم من دخول سورية التحالف الدولي لتحرير الكويت وعلى الرغم من قبولها المبادرة الأميركية لعقد مفاوضات أو محادثات السلام، التي بدأت مع افتتاح مؤتمر مدريد؛ في حين أن جميع الأوضاع والمقاييس والموازين تشير إلى عدم إمكانية تحقيق سلام عادل في ظل الاحتلال وغطرسة القوة وانعدام التوازن بين القوتين اللتين تريدان أن تبحثا موضوع السلام، إذ لا يرسّخ السلامَ أبداً توازنٌ مختلٌ يُخِلّ بميزان العدل وميزان القوة.‏
              كان الأمر وما يزال استدراجاً محسوباً وموقوتاً لوضع سورية في قفص الاتهام وتوجيه ضربة لها إمّا باسم مقاومة الإرهاب، وإمَّا باسم الدفاع عن الديمقراطية، أو تحت ذريعة تعطيل مسيرة السلام، أو امتلاك أسلحة التدمير الشامل، أو محاولة الحصول عليها، وحتى بحجة تخزين الأسلحة التقليدية التي تهدد مشاريع" إسرائيل الديمقراطية" في التوسع الاستيطاني على حساب العرب، وتوطين مليون مهاجر يهودي في أرضهم قبل نهاية عام 1995، أو بحجة إرغام سورية على الانسحاب من لبنان، وكل تلك الذرائع قيد الاستعمال.‏
              لقد تكررت تصريحات شامير، ورؤساء المجالس اليهودية ووزير الخارجية الإسرائيلي ووزيري الدفاع والإسكان وسواهم بتهديد سورية، وفي نهاية شهر آذا ر 1992 وفي الوقت ذاته الذي كانت فيه أميركا والغرب التابع لها يعملون على استصدار قرار مجلس الأمن الأخير ضد ليبيا، في هذا الوقت أعيد التركيز على إنذار سورية وتهديدها؛ وكان ذلك هذه المرة في رسالة من أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي موجهة إلى الرئيس حافظ الأسد طالبوا فيها بأشياء غريبة وقديمة وعجيبة.‏
              - الكف عن دعم الإرهاب وممارسته. وهم يعنون الكف عن دعم كل مقاومة من شأنها الدفع باتجاه تحرير الأرض العربية التي تحتلها " إسرائيل " .‏
              - الكف عن التسلح.‏
              - الانسحاب من لبنان.‏
              - احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان.‏
              - إطلاق مساجين سياسيين.‏
              - تسليم الألماني"تيرنر" المتهم بجرائم ضد اليهود في العهد النازي، على الرغم من نفي سورية مراراً وتكراراً لوجوده في أراضيها.‏
              - السماح لليهود السوريين بالهجرة إلى " إسرائيل ". لتقوية كيانها العدواني وإلا فالأمر الذي يترتب على عدم الانصياع لذلك معروف: حملة في مجلس الشيوخ والنواب الأميركيين يقودها اللوبي الصهيوني وأعوانه، وتدعمها وسائل الإعلام، تجعل الإدارة الأميركية تنصاع لمطالب ممثلي الشعب والديمقراطية والرأي العام الأميركي والعالمي، لأن أميركا عندهم تمثل العالم، وهم يمثلون أميركا، واليهود- الصهاينة يمثلونها!؟ وعند ذلك تقوم الإدارة الأميركية، بجر الأوربيين من شعورهم إلى مجلس الأمن، وتتخذ فيه قراراً تطالب فيه سورية بتنفيذ ذلك الذي جاء في رسالة أعضاء مجلس الشيوخ كله أو جله، لأن عدم تنفيذه يهدد السلم العالمي؛ وتربط ذلك بالفصل السابع، وتعطيها مهلة، كتلك التي أعطيت لليبيا، أو كتلك التي أعطاها غورو للسوريين يوم أراد احتلال سورية عام 1920؛ ثم تدعي أن المطالب لم تنفذ دون شروط، وأن الأمور تخرج عن إرادتها "العادلة"، فتقوم " إسرائيل " الديمقراطية الخائفة المسالمة، بعمل وقائي احترازي، تقوم برد "العدوان عن نفسها" وذلك بمهاجمة سورية، وتزحف أميركا وحلفاؤها الغربيون لإنقاذ الدولة العبرية "الديمقراطية" التي التزموا بأمنها وتفوقها أو استمرار وجودها بأمان، التي تملك أسلحة"التدمير الشامل" وتكدس في أراضيها من السلاح التقليدي ما لا "طاقة" لـ " إسرائيل " بدفع أذاه عن مواطنيها أنفسهم !؟.‏
              وعندما ما يتم القضاء على قوة سورية ويجري إخضاعها للمطلب الأميركي- الصهيوني- الغربي، تنتهي القضية الفلسطينية، وتصفى المقاومة العربية، وكل شكل من أشكال التحدي لإرادة الغرب؛ وتنتهي الدعوات القومية والوحدوية والتحررية والتحريرية، تلك التي تحرك الشارع العربي وتزعج الغرب وتقلق " إسرائيل "، ويأتي من يقول: الآن انتهت الحروب الصليبية أو ها قد عدنا يا صلاح الدين !؟!.‏
              إن النذُر التي تلوح في الأفق كثيرة وليس هذا " الإنذار " الذي وجه لسورية في رسالة أعضاء من مجلس الشيوخ الأميركي هو الأخير، وربما كان الجيد فيه أن يجيء في ظرف وتوقيت يجعلانه مقدمة لفعل وتحقيقاً لغرض: أما الفعل فهو التهديد بالعدوان المنتظر المؤجل إلى أن يحين حينه، وأما الغرض المعجَّل فهو جعل سورية تفكر كثيراً وتحسب حساباتها جيداً في هذا الظرف بالذات وهي تواجه الأمور والاستحقاقات الآتية :‏
              - فرض الحصار على ليبيا والاستعداد لضربها. فهل ستؤيدها وتحشد الشارع العربي حولها أم ستتركها تلاقي"قدرها" وحيدة معزولة مقهورة؟؟ وأخذ كل ما ينتج عن أي فعل تقوم به سورية بالاعتبار مستقبلاً في علاقاتها مع زعيمة كل العالم وصاحبة الذراع القادرة القاهرة: أميركا.‏
              - الالتحاق باجتماعات اللجان المتصلة بالمفاوضات متعددة الأطراف، تلك التي ستنعقد قريباً ولم تلتحق سورية بعد بها، وأثرت على غيرها من العرب في موضوع عدم الالتحاق بها أيضاً.‏
              - حضور اجتماعات واشنطن في 27 نيسان 1992 مع " إسرائيل " في إطار المفاوضات الثنائية- المرحلة الثانية من مؤتمر"سلام" مدريد ـ والسماح للعرب الآخرين الشركاء بحضورها، وعدم عرقلة ذلك أو لعب دور سلبي تجاهه؛ وهو الموقف الذي سبق لسورية أن اتخذته وأعلنته حين قالت ومعها عرب آخرون من المعنيين بتلك المحادثات: إن هذه الدورة من الاجتماعات يجب أن تؤجل إلى ما بعد الانتخابات "الإسرائيلية" حتى لا يكون في ذلك مجرد تقديم دعم انتخابي لشامير، الذي يرفض السلام برفضه الانسحاب من الأرض وتطبيق القرارين 242 و 338 ومبدأ مقايضة الأرض بالسلام"، وهو موقف لا تستطيع الآن أن تتخذه أو تفرضه، وستذهب إلى اجتماع لا جدوى منه، لتمارس مع الآخرين عبثاً لا طائل وراءه .‏
              - الكف عن التحرك لإيجاد محاور جديدة في المنطقة تعرقل خطة أميركا الرامية إلى إعادة ترتيبها على هواها، ولا سيما ذلك الجهد المتصل بإيران ودول عربية أخرى.‏
              - الكف عن التسلح وعن تحدي الأوامر الأميركية والخطط الاستراتيجية الغربية الهادفة إلى فرض " إسرائيل " الكبرى على المنطقة وجعلها الشرطي المهيمن عليها.‏
              فهل تقبل سورية يا ترى بالانصياع لهذه المطالب التي يلوِّح بها لها الكيان الصهيوني بشكل مباشر وغير مباشر، سري وعلني، ظاهر وخفي؟؟ وهل تبتلع مرارة الإنذار وذله وتواكب الإرادة والقرار" الأميرو- دوليين " ذينك اللذين يرتديان مصبَّغَات ومذهبَّات مجلس الأمن والشرعية الدولية؟!‏
              إن الحسابات دقيقة، والالتزامات الخُلُقية والقومية قوية، والمصير النهائي واحد، فما العمل وكيف المخرج؟؟!‏
              إن الأهداف البعيدة والخطط والبرامج المرحلية والنهائية تكاد تكون واضحة وما ينتظر الأمة ابتداءً مما ينتظر أقطارها وما يعترض أبناءها غدا معروفاً أو متصوراً، فهل هناك مخرج ملائم ينطوي على أمل كبير غير عمل عربي مشترك صادر عن إرادة جماعية مخلصة واعية لواقعها ولما يحيط بها وما ينتظرها ؟؟!‏
              الواقع العربي رسمياً وعملياً، في إطار القدرة على اتخاذ القرار المستقل والمواجهة على أرضيته، يشير إلى تعذر ذلك أو ضعف الأمل بنجاحه، ولكن الواقع العربي الشعبي والمادي، إن هو ضُبِطَ، رسمياً وواقعياً، يبشِّر باحتمالات وآمال وبإحداث تغيرات هامة؛ ولنا أن نتلمس شيئاً من ذلك ونتقرَّاه أو نُعْمِل التخييل لتصوره.‏
              أوربا -عدا بريطانيا- ترى جيداً أن أميركا تحاصرها مستقبلياً بالسيطرة على النفط: إنتاجاً وضخاً وتسويقاً وتسعيراً، ومن ثم بالسيطرة على مستقبل الصناعة والتقدم التقني فيها، وعلى المال وزعامة العصر، وعلى قوة القرار والرأي النافذين؛ وأوربا الموحدة تعرف جيداً أن القوة الأميركية ستنافسها على الأسواق وليس على السيادة فقط. وأوربا عندما تجد حلفاء أقوياء يؤمِّنون مصالحهم قد تفكر جدياً بمستقبل الشراكة الصعبة مع أميركا، ولكن أوربا تبقى استعمارية وذات مصالح وشريكاً لأميركا في الغطرسة والاغتصاب ونهب العالم والسيطرة على الشعوب، وتشكل معها مدرسة في سوء الائتمان وفي تقديم تفسيرات ومفاهيم مصلحية -نفعية عن القيم والأخلاق؛ وهي شريكتها في سوء الائتمان على العدل والمنظمة الدولية، التي غدت دائرة استعمارية أميركية الوجه واليد واللسان. فهل ترانا نستبدل سيداً بسيد، طامعاً بطامع، وقد جربنا ذلك وعانينا منه وما زلنا نعاني منه حتى الآن؟! وهل كانت أوربا خلال القرنين التاسع عشر والعشرين أرحم بالشعوب من أميركا في النصف الثاني من القرن العشرين ؟!.‏
              إن التفكير بذلك -فيما إذا تم تفكير به- ينصرف، وينبغي أن ينصرف، إلى العمل على إيجاد قطب جديد يخفف من وطأة القوة الغاشمة التي تضغط بكل ثقلها على العرب من بين شعوب العالم؛ وفي هذا الظرف بالذات الذي لا يعتبر ملائماً ولا مشجعاً للعرب بأي شكل من الأشكال .‏
              فإذا ما نجح العرب بجعل المصلحة الأوروبية تتصادم مع المصلحة الأميركية، في العلن، أي إذا ما أخرجوا ذلك الخلاف قبل أوانه إلى حيز الوجود وساهموا بتعجيل ظهوره فإنهم يستطيعون أن يلتقطوا أنفاسهم قليلاً ويخرجوا السياسة الدولية من هيمنة القطب الواحد.‏
              وهذا يستدعي سياسة تقوم على العلْم بالآخر، والقدرة على العمل في أوساط غير عربية، ويستدعي مرونة وتماسكاً عربيين، ووحدة رأي ورؤية، وصدور في كل قول وفعل عن قلب واحد؛ استشعاراً للخطر ودرءاً له عن النفس والوطن والثروة والمستقبل والعقيدة. ويحتاج إلى عمق رؤية وسرعة تنفيذ، ومعرفة بالآخر، وقدرة على تحقيق شيء يجعل العين ترى الزاوية الأخرى وتغري العقل والقلب بالثقة بما يريان وبقرب نواله .‏
              من زاوية أخرى يقوم جدل حول رؤية مغايرة تبرر النظر فيها معطيات، ولكنها تبقى محكومة برصيد الخبرة العربية المريرة في مجالها ذاك؛ وتلك الرؤية تتصل بكيفية الاستفادة من المتغيرات الدولية، من انتهاء الحرب الباردة وما طرأ على مكانة " إسرائيل " بنظر أميركا بالنسبة لمصالحها في المنطقة من تغيُّر، وجعل ذلك موضوعاً لعمل يتم إنجازه لإحداث فتور في درجة العشق الأميركي- الإسرائيلي، ولا نقول التوصل إلى جفوة فطلاق. وربما كان في ذلك نوع من تحقيق استراحة للمحارب العربي يلتقط فيها أنفاسه ويعيد تجميع قواه وتوزيعها في ساحة المعركة في ضوء العصر والخبرة المكتسبة.‏
              ومما يشجع على إمكانية التفكير بذلك إشارات منها:‏
              - استيقاظ الإدارة الأميركية، في فترة ما من عام 1991 وفي إطار قضية ضمانات القروض، على حقيقة وجود: دولة داخل الدولة؛ ومحاولة الرئيس الأمريكي تحدي اللوبي الصهيوني والتهديد باللجوء إلى الشعب الأمريكي جرَّاء سيطرة ذلك اللوبي على مجلسي الكونغرس.‏
              - وكذلك قضية بيع " إسرائيل " لتقنية صواريخ"الباتريوت" إلى الصين، تلك القضية التي أثارتها أميركا ثم دفنتها وجعلت " إسرائيل " تغضب وتعلن بصلف وغطرسة وتعال كبير في صحافتها أن: "التطوير " الإسرائيلي " مبني على قوانين الطبيعة، التي ليست حكراً على أي شخص ولا لأشخاص فظين أيضاً في العاصمة الأمريكية، إن تكريس قوانين الطبيعة لمتطلبات أمن " إسرائيل " هو ثمرة عبقرية لرجال بحث وتطوير من إنتاج البلد. وحقيقة هي أن الإسرائيليين وليس الأمريكيين هم الذين طوروا طائرة من دون طيار، فكيف يمكن أن ينسب لـ " إسرائيل " تصدير تكنولوجيا أمريكية في هذا السياق"."1" وهم لا يكتفون بهذه الإشارة إلى تفوقهم وإلى اعتماد أميركا على "عبقريتهم" بل يذهبون إلى مدى أبعد حين يذكرون بأنهم هم الذين أوجدوا الطائرة من دون طيار"بيونير" واستفادت أميركا منها في استطلاع الآفاق البعيدة، وأن فكرة الصاروخ"حيتس" المضاد للصواريخ أقدم بكثير من أفكار الأمريكيين وتصاميمهم، وأن الرادار الطائر الأول طوروه هم في" التار أشدود " على يد"نيوليفي"، والدبابة من دون بشر التي تحمل اسم"المعجزة" هم مبدعوها، وأن صاروخ"بيتون 3 جو- جو يختلف اختلافاً جذرياً عن الصاروخ الأمريكي "سايدويندر"، وأن الصاروخين"كافيتس ونمرود" المضادين للدبابات وكذلك صاروخ "برق" وهو صاروخ بحر- بحر قد طوروها هم؛ وفي ذلك كله أدلة كافية على أنهم أهل السبق. فكيف يسرقون من أميركا وهم"يمُنُّون" عليها بتقديم زاد "عبقريتهم" لها؟؟!‏
              ويذهبون في تعليل أسباب الادعاء الأمريكي ببيع " إسرائيل " أسرار الباتريوت إلى الصين بـ "الآن عندما تقلص كثيراً الطلب على السلاح سواء بسبب المصالحة بين الكتلتين أو بسبب السعر المرتفع لوسائل القتال الحديثة، تريد الصناعة الأمريكية اختراق أسواق الإصلاح والتحويل. سيحظى الأمريكيون بهذه الأسواق فقط إذا طردوا منها دولاً أخرى. إن مصاعب الصناعة الأمريكية المترهلة هي في منافسة صناعة صغيرة ومرنة كالصناعة الإسرائيلية، ومن جهة أخرى يريدون تشويه سمعتها وطردها من السوق "."2" إن هناك إذن مصالح متضاربة فيما يبدو، ويريد الإسرائيليون أن يتنكروا لحقيقة أن أميركا تمول كل بحوثهم وتطوير صناعاتهم العسكرية وتسليحهم وتسكت كذلك على تجارتهم بتلك الأسرار التي يزعمون أنها ملكهم وليست ملك الأمريكيين. وسواء أكان الأميركي يرى أنه المالك لأنه الممول، و" الإسرائيلي " يرى أنه المالك لأنه المبتكر، أو أن القضية متداخلة والكذب " الإسرائيلي " فيها أكثر من الزعم الأميركي بكثير؛ فإن هناك قضية يقول الإسرائيليون فيها: إن أمريكا تحاول"نشر دعاية كاذبة بوعيها الكامل" ويقول الأمريكيون فيها: إن " إسرائيل " تسرق تقنيتها وأسرار أسلحتها وتبيعها في السوق، لا سيما للصين وتقبض الثمن وهي تريد أن تضع حداً لذلك العبث بأسرارها.‏
              وهذه القضية حاولت " إسرائيل " استثمارها لصالحها بزج العرب فيها، حيث اتهمت السعودية بتسريب تلك الأسرار إلى الصين، لولا نفي الأميركيين أنفسهم لعدم إمكانية ذلك لأن صواريخ"الباتريوت" في السعودية لا يصل إليها السعوديون أو خبراء غير أميركيين أبداً.‏
              وفي هذا الفعل- الاتهام أو تحويل الاتهام من قبل إسرائيل "نشر دعاية كاذبة بوعيها الكامل" دون ما أدنى لبس لدفع الأمر عنها وإلباسه للسعودية، محاولة لتعميق الخلاف بين العرب والأمريكيين للإبقاء على الصلة المصلحية والاستراتيجية بين " إسرائيل " والأمريكيين. فهل نتمكن نحن من الاستفادة من حقائق كثيرة إذا ما عرفها الشعب الأمريكي ووصلت إليه بإقناع ووثائق فإنها قد تربك الإدارات التي تحاول أن تتجاهل رجل الشارع هناك وتعزله عما يجري لصالح علاقة ذات طابع عدواني- عنصري- استعماري- احتكاري وليس للشعب مصلحة فيها؛ وقد يفيدنا هذا مرحلياً كما أسلفت بتحقيق استراحة المحارب والتقاط الأنفاس؟!‏
              لقد سكتت الإدارة الأمريكية عن قضية سرقة أسرار الباتريوت وبيعها بعد أن أعلن عن تهديدات عديدة شخصية وعامة وعن أخطار منها الأصولية الإسلامية.‏
              إن كلاً من الأمرين أو التوجهين سواء مع أوربا وصولاً إلى تنازع المصالح بينها وبين أميركا، في محاولة للإسراع بإظهار القطب الآخر في الصراع السياسي الدولي حتى لا يستمر عرج العالم طويلاً، أو باتجاه أميركا لتخفف دعمها لـ " إسرائيل " ولمشروعها التوسعي- الاستيطاني، أقول إن كلاً من الأمرين أو التوجهين محفوف بمخاطر ومستنبت على أرضية علاقات ومصالح متبادلة وعريقة وشبه ثابتة بين الإدارات الأمريكية والصهيونية أو إسرائيل، لا سيما إذا ما أخذنا بالاعتبار العامل المشترك لدى أولئك وهو عداؤهم التاريخي للعرب والإسلام ورغبتهم في وضع حد للصراع"الصليبي" الذي ما توقف يوماً منذ بدأ. ولكن التفكير في بذل جهد في هذين الاتجاهين قد يفيد، ولا أدعو إلى الأخذ به قبل تمحيصه وإعمال الرأي فيه لاستبانة ما قد ينطوي عليه من مخاطر وأضرار لم أرها. على أن ذلك مما يبدو لي متاحاً في ظروف لا تتاح فيها قدرة على المواجهة المسلحة وإجراء المفاضلة بين خيارات عديدة متاحة في هذه الظروف العربية والدولية وفي ظل الأحداث المتلاحقة والضربات المتوالية.‏
              إن التفكير بمخرج ضرورة حيوية وحياتية، والتوجه نحو فعل يعزز الحضور والمواجهة والتصدي أمر يرتبط بالوجود والكرامة ويعبر عنهما في آن معاً.‏
              ولم نصل ولن نصل أبداً إلى درجة الخضوع والاستسلام والارتماء على أحذية جلادي الشعوب ومصاصي دماء الآخرين، من تجار الدم والسلاح والأخلاق، فقيمنا وشيمنا وتاريخنا الحضاري المجيد، وعقيدتنا وأخلاقنا، كل ذلك يمنعنا من الاستسلام والانهزام، ويلزمنا بالدفاع عن الوجود والمستقبل والثقافة والعقيدة السامية، والأمة التي عزَّت بها وروتها بالدم حتى نمت وانتشرت. وهذا كله، فضلاً عن مقومات إيماننا، يدفعنا إلى التفاؤل الموضوعي بإمكانية إيجاد المخرج، وبحتمية الوصول إلى شاطئ نجاة نستأنف ابتداء منه مسيرتنا الإنسانية، لإعادة الحق والعدل والقيم النبيلة إلى الأرض والإنسان، ولإعادة الحرية بمفهومها الخُلُقي والإنساني والدولي إلى عالم يفتقدها.‏
              لا بد من العمل بكل الوسائل، وعدم الاستسلام لظلام اللحظة الحاضرة ومعطياتها الشحيحة القاسية. لا بد من التحرك ومن تذكُّر أن العالم أوسع بكثير من المدى الذي نبصره بعيوننا ويرتاده خيالنا، وأن الأمم أكبر وأعرق وأكثر من أولئك الذين أعمتهم القوة والمصلحة، وأغرتهم الأطماع بالانطلاق من وهم أنهم خالدون ولا نهاية لبطشهم، وأنهم قدر العالم ومصيره، وأنهم الأنموذج الأعلى والأسمى والأعدل في الأرض، وأنهم حكام العالم بلا منازع.‏
              إن التاريخ يقدم العبرة، والشعوب تصنع المعجزات، والإيمان بالله وبالحق والشعب، يفجر في الضعفاء طاقة وقدرة لا نهاية لهما تحققان مقومات النصر والإبداع في الصمود والتصدي، وتمكِّنان من تحقيق نصر وبقاء لقيم الحق والخير والعدل والحرية، تلك التي شوهتها الممارسة الأمريكية- الصهيونية- الاستعمارية، وتنذر بتدميرها نذر تفيد باستمرار العصر الأمريكي- الصهيوني في القرن القادم على حساب الضعفاء، والعرب في المقدمة من أولئك الضعفاء، إذا لم يتَّحدوا ويؤمنوا ويتحدّوا وإن غداً لناظره لقريب.‏
              الأسبوع الأدبي/ع309-310//1992.‏

              إذا الشعب يوما أراد الحياة
              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

              تعليق


              • #8
                رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                القرار 194 بين أمريكا و" إسرائيل "
                الكيان الصهيوني الذي حول فلسطين العربية إلى قلعة استعمارية -توسعية- عنصرية يبدو مستثاراً إلى درجة كبيرة ضد الإدارة الأميركية الحالية هذه الأيام، وينفخ ساستُه نار العداء والثورة في الظاهر على كير الانتخابات القادمة، ولكنهم يواجهون في العمق حالة من التنبه المثير، وما يشبه صدمة الوعي، جراء إعلان إدارة بوش عن الالتزام بالقرار 194 لعام 1948 والذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم الأصلي أو بتلقي تعويض في حال عدم الرغبة في العودة إليه.‏
                وعلى الرغم من أن ذلك القرار لم يوضع على نار ساخنة في أي عهد سابق، ولم تعلن إدارة أميركية عن تخليها عنه، إلا أن تأكيد الالتزام به في هذا الظرف بالذات حمل مدلولاً خاصاً وترك تأثيراً معيناً في الأوساط اليهودية والعربية، وعلى مستوى السياسة الدولية.‏
                فالتأكيد يجيء في ظل متغيرات دولية كبيرة وخطيرة جعلت حليف " إسرائيل " هو الحاكم المطلق والحكم المطلق في السياسة العالمية، وفتح الباب أمام دول أخرى لتؤكد التزامها بالقرار المشار إليه، وأُعلن عنه في توقيت يتزامن مع انعقاد اجتماعات اللجان المتعددة الأطراف، التي منها لجنة تبحث شؤون اللاجئين وتجتمع دون حضور إسرائيل، وبدا كأنه موجه إلى التشدد " الإسرائيلي " المتمثل بحكومة شامير؛ وأعطى إشارة، في سماء ملبدة بالخلاف الأميركي-" الإسرائيلي " على أرضية ضمانات القروض وتسريب أسرار الباتريوت، والضائقة الاقتصادية الأميركية، والتمييز العنصري، والفقر والظلم الذين كشفت عنهما أحداث لوس أنجلوس ومظاهرات واشنطن؛ أعطى إشارة بتصاعد الخلاف.‏
                وكل ذلك يوحي بأشياء كثيرة، ويقدم مجالات لقراءات واستنتاجات عديدة، فما الذي يمكن أن يبقى في الأرض من كل ذلك الزبد؟! وهل هناك تأثير إيجابي على جوهر الموقف الأميركي من قضية اللاجئين، ذلك الذي يتخفَّى خلف الإعلان بالالتزام الظاهري بالقرار 194؟! وهل هناك جدية فعلاً تشي بتعامل عادل وحازم مع القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لا سيما المتعلق منها بالقضية الفلسطينية وبالصراع العربي الصهيوني، تلك التي قاربت الخمسين قراراً، لم ينفذ منها قرار واحد بجدية ودقة واحترام؟‍!‏
                لقد أعلنت الإدارة الأميركية، قبل تأكيدها التزامها بالقرار 194 وبعد ذلك التأكيد، أن قضية العودة لن تبحث في اللجنة التي تعالج قضايا اللاجئين وإنما هي قضية سياسية تبحث في إطار المفاوضات الثنائية الجارية. ومعنى هذا أن الأمر يتوقف على اتفاق الأطراف المعنية، وأن القرار ما زال يتمتع بحق إدراجه في سجلات الأمم المتحدة إدراجاً ذا طابع تاريخي، وأنه غير ملزم لأحد، وليس مما تجيّش له الجيوش وتفرض من أجل تنفيذه العقوبات، ولا هو من ذلك النوع من القرارات التي تنطوي على مصلحة للغرب عامة ولأميركا خاصة، حتى يمارس الضغط من أجل تنفيذه؛ وقد كانت التطمينات صريحة لزلمان شوفال سفير " إسرائيل " في واشنطن، وللمسؤولين في الكيان الصهيوني، فما هو الجديد المزعج إذن؟! وما الذي جعل الصهاينة ينظرون إلى هذا الإعلان على أنه نوع من الإنذار بزوال " إسرائيل " أو إبادتها على حد تعبير وزير الحرب آرنز؟!.‏
                لا يبدو لي أن الإسرائيليين قد دخلوا مرحلة الوهم الخادع والكذب على الذات، تلك التي دخلها وعاش فيها العرب عقوداً من الزمن، وما زال بعضهم يعيش فيها أو لم يستيقظ من الصدمة التي خلفها الوعي بحقيقة الأمر، يوم كانوا يفسرون موقف موسكو، أو يفسر لهم أزلامُ موسكو موقفَها من الصراع العربي- الصهيوني، تفسيراً يذهب إلى حدود الاقتناع بأنها تعترف بحق " إسرائيل " في البقاء، وأن العرب عندما يقتحمون حدود الأرض المحتلة سيجدون مناصرة تامة من "السوفييت"؟!! وكان ذلك يطرح على شكل سؤال محرج مر وخبيث: هل تجاوزتم الحدود ووجدتم أن الاتحاد السوفييتي ضدكم؟!!‏
                وطبعاً لم يتجاوز العرب الحدود ولن يتجاوزوها ما دام التنسيق الغربي -الشرقي مستمراً لضمان أمن " إسرائيل " وتفوقها وتوسعها وازدهارها، ذلك الذي كانت تتبارى الدولتان الأعظم في التعبير عنه سراً وعلناً.‏
                لقد تجرع العرب ذلك الوهم عقوداً من الزمن ولم يضعوا أمام أعينهم حقيقة أن "معسكر وارسو" كان يمد " إسرائيل " بالمهاجرين دون انقطاع، بينما يمدهم حلف الأطلسي بالسلاح والمال والدعم السياسي دون انقطاع أيضاً، وكان الخلاف الذي يترجم سباقاً على الدعم يتركز حول توظيف " إسرائيل " وكسبها إلى جانب أحد الحليفين حفاظاً على مصالحهما في المنطقة العربية، ولم يكن الخلاف يوماً على وجودها والحد من عدوانيتها وتوسعها وعنصريتها، كما أنه لم يكن من أجل حقوق للعرب. وعلى من يريد أن ينعش ذاكرته أن يعود إلى تفاصيل الدور الذي لعبه كل من الحليفين الكبيرين في الأحداث المتعلقة بالصراع العربي - الصهيوني وقيام "إسرائيل".‏
                لقد لعب العرب مع أنفسهم لعبة الوهم، أما الإسرائيليون الذين عاشوا على مساعدات لا مقطوعة ولا ممنوعة، والذين يتمتعون بكل مقومات الثقة والاقتناع بأنها لن تقطع ولن تمنع، فهم يعرفون حقيقة الموقف الأميركي المؤيد لهم ولكنهم يريدون الذهاب إلى حدود إجبار الإدارة الأميركية على إحراق السفن علناً مع العرب، وإعلان التبرؤ من كل القرارات السابقة للأمم المتحدة، لا سيما القرار /181/ والقرار /194/ حتى لا يتجرأ أحد من العرب على إزعاج الذاكرة اليهودية بهما.‏
                ويبدو أن هذا المطلب الصهيوني في الظرف الحالي، وعلى أرضية معطيات ومتغيرات دولية معروفة، يظهر رغبة " إسرائيل " في العمل على إجبار الإدارة الأميركية على ممارسة مغالطة مكشوفة ليست في صالح أميركا، بعد أن أصبحت قطباً وحيداً منتصراً في عالم اليوم، وليست في صالح " إسرائيل " بعد أن أصبحت الشريك في مغانم ذلك الانتصار دون تكاليف تذكر. وهذا هو ما يمكن أن أسميه: إدراك استخدام التوهم وما يبيحه ويشي به، استعجالاً لنتائج وحرقاً لمراحل على طريق تحقيق أهداف وغايات مشتركة، حيث تبدو تلك الأهداف قريبة المنال؛ وأن هذا هو الظرف الملائم لتحقيقها من وجهة نظر " إسرائيل " والحركة الصهيونية. بينما لا ترى الإدارة الأميركية ضرورة للاستعجال مراعاة لظرف ومصالح واعتبارات أميركية وعالمية، واطمئناناً إلى زوال كل خطر محتمل؛ ذلك أن أميركا التي أصبحت مطلقة التصرف بمجلس الأمن والمنظمة الدولية، والآمر الناهي في مجال السياسة الدولية واستخدام القوة الدولية؛ قادرة، من وجهة نظر الصهاينة، على حسم القضية التي تبنتها، والذهاب مع الحليف الاستراتيجي إلى المدى الذي يحقق له كل أهدافه. وهي بذلك تنظر لمصلحتها الخاصة، وتطالب الإدارة الأميركية بتنفيذ التزاماتها الخاصة، كما تطالبها بتنفيذ التزاماتها المعلنة حيال " إسرائيل " وأهدافها التي كانت موضوع شراكة واحترام طوال عقود سابقة. وتفسر عدم الذهاب في ذلك الأمر المتفق عليه إلى مداه الأقصى على أنه نوع من التخلي عنها وأنه التقاعس أو سوء التقدير، وتذهب في توهم ذوبان المصلحة الأميركية في المصلحة الإسرائيلية إلى أبعد من التماهي التام، أي إلى حدود خدمة الأولى للثانية، مع إدراكها لطبيعة المصالح المتبادلة القائمة منذ عقود طويلة.‏
                بينما الإدارة الأميركية التي تتسلح بمجلس الأمن وبالأمم المتحدة الآن لتنفيذ أهدافها ومصالحها وضمان سيطرتها -مع حلفائها- على العالم، وقد أصبحت المنظمة الدولية خاتم سليمان بيدها، تجد أنه من غير الممكن ومن الضار بالمصلحة والسمعة أن تعلن صراحة أنها لا تحترم القرارات الصادرة عن تلك المنظمة، ولو لم تعجب هذه القرارات والمواقف " إسرائيل " والصهيونية، ومنها القرار 194 والموقف التكتيكي منه؛ لأن " إسرائيل " تريد أن تستغل زهو قوة القطب الواحد وسطوته، فتقطف ثمرة القوة بسرعة وعزم، محققة مصلحتها هي، واضعة مصلحة الآخرين، بمن فيهم أميركا، في المرتبة الثانية من الأهمية كما كان الأمر دائماً.‏
                أما الإدارة الأميركية فتريد أن تلعب لعبة أطول وأسلم بذكاء أشمل، ولمصلحة الطرفين معا، بما يحفظ نظافة الواجهة العالمية، التي تحتلها وتمثلها، ولو في الظاهر ويحافظ على هامش من المناورة وهامش من الوقت يجعلان الزمن عاملاً حاسماً يعمل لمصلحة أميركا و" إسرائيل " معاً؛ من دون أن يستفز أحداً ضدهما من أولئك الذين يدفعون دائماً، ويتجرعون الخذلان والهزيمة والغصة دائماً.‏
                فالإدارة الأميركية لا يمكنها أن تعلن الآن رفضها أو تنكرها لقرارات صادرة عن المنظمة الدولية وقد سبق ووافقت عليها، لا سيما بعد أن أصبحت هي وصية على تلك المنظمة تستخدمها سلاحاً تقطع به رؤوس المعارضين لها أو تخيفهم، باسم الشرعية الدولية والعالم الجديد والنظام الدولي؛ لأن ذلك سوف يزعزع سيطرتها على منظمة غدت ملكاً لها، وغطاء سياسياً وحقوقياً واجتماعياً لأفعالها ومطامعها، وقوة مسخرة تأتمر بأمرها، ولا تستطيع أية دولة أن تعلن اعتراضاً على إرادة تلك القوة أو خرقاً لقراراتها، ولا أن تخرج على ما يتخَّذ باسم الإجماع الدولي من قرارات، وما ينفَّذ من مآرب ومصالح ومظالم تحت ظلال تلك السماء، خوفاً أو طمعاً.‏
                فكيف يمكن أن تلعب الولايات المتحدة الأميركية لعبة ازدواجية المكاييل، تلك التي تتقنها تماماً وتمارسها مع العرب، كيف يمكن أن تلعب تلك اللعبة مع نفسها؟! إنها تمارس ذلك بوضوح تام ضد الضعفاء خدمة لمصالحها وتمارس ذلك من أجل إسرائيل؛ وتجد تبريرات ومسوِّغات وتفسيرات له، ومجالاً واسعاً لتناور وتداور تحقيقاً لأهدافها ومصالحها على حساب العملية الخُلُقية، مبقية على اللعبة القانونية في إطار هيكل المنظمة الدولية والهيئات التابعة لها، ويظل هذا مقبولاً وممكناً ولكن حين يصل الأمر إلى حدود التنكر التام والعلني لقرارات المنظمة الدولية، ولا سيما تلك التي لا تتلاءم منها مع إسرائيل، بعد الذي حدث في العالم والذي حدث للعرب، فإن خللاً غير قابل للإصلاح سوف يلحق بمصداقية أمريكا حيال المنظمة والعالم. ولا تريد إدارة بوش أن تذهب إلى هذا الحد- على الأقل الآن وفي عالم الانتخابات وبعد أحداث لوس أنجلوس وتفرُّدها بالسلطة والقرار دولياً وكونها الوسيط والراعي الأوحد بالنسبة لمؤتمر السلام -ولو أنها تملك من القوة ومن السيطرة على الأمور ما يمكِّنها من اتخاذ ما تريد من قرارات ومواقف دون اهتمام بالآخرين.‏
                إن تمسك أميركا بالإعلان عن التزامها بالقرار /194/ لا يعني على الإطلاق حرصاً من أي نوع على تنفيذه، ولا إقراراً بضرورة وضعه موضع التنفيذ ولا ضغطاً من أجل ذلك، وهذا ما تعرفه " إسرائيل " جيداً؛ ولكن الصهيونية تريد أن يتم الإعلان عن موت جميع القرارات المتعلقة بالقضية الفلسطينية لا سيما القرار /181/ والقرار/194/ فضلاً عن تشويه 242 و 338 لأنها لا تريد أن تضع عائقاً نفسياً أو إعلامياً أو اجتماعياً من أي نوع في وجه الهجرة والتوسع الاستيطاني، ولأنها تريد أن يشعر العرب باليأس وأن يقطعوا كل أمل لهم بالعودة أو بالأرض التي تسمى فلسطين؛ وتريد أن ينسى الرأي العام العالمي والدول التي تتقارب معها اليوم كلَّ ماضيها السيئ الذي قامت على أساسه والذي ارتبط بتأسيسها، وتريد أن تبتز الإدارة الأميركية في زهو قوتها وفي وقت الانتخابات بالذات لتنفيذ كل ما يحقق مشروع " إسرائيل " الكبرى. فكيف تقبل كلاماً، مجرد كلام، يعيد إلى الأذهان حقيقة المطالبة بعودتها إلى حدود ما قبل عام 1967 وهي تطمح إلى تحقيق مرحلة متقدمة في مشروعها الاستيطاني الكبير؛ بينما ذلك الموقف ـ من وجهة النظر الأميركية - يعبر عن توجه ثابت ومدروس ينطوي على بعد نظر ولا يغير من حقيقة الدعم المطلق والمستمر لـ " إسرائيل " في مشروعها الحالي، ويترك الأمور تسير في الطريق الاستراتيجي الثابت مع الحفاظ على دور المناورة في التفسير والتشويه والتعطيل في نهاية المطاف. فلن يعود الفلسطينيون ولن يعادوا إلى فلسطين من وجهة النظر الأميركية -الإسرائيلية، فلماذا الإصرار على إعلان هذا الكلام الفاقع المباشر الذي يربك المصالح ويهيج الخواطر والذي يؤثر سلبياً في سلاح دولي ما زال صالحاً للاستعمال خلال عقود مقبلة هو المنظمة الدولية؟! إن الفلسطينيين في أحسن الأحوال وأفضل الاحتمالات سوف يتلقون تعويضات مالية عن حقوق تقادمت -وبعد موافقة " إسرائيل " إن وافقت- وستتم تغطية ذلك من مصادر لن تكلف " إسرائيل " ولا أميركا شيئاً يذكر، فلماذا يقوم هذا الضجيج ولماذا يتم التأثير السلبي على مفعول المنظمة الدولية ومصداقيتها وعلى ما تقدمه من خدمات للمصالح الغربية - والإسرائيلية في الوقت الذي يمكن استمرار استخدامها لإبطال المفعول الحقيقي لكل قرار أو خطر تخشاه إسرائيل، كما يمكن أن تستخدم لتحصيل أموال تغسل وجه الصهيونية و" إسرائيل " من القذارة التي لحقت بهما خلال عقود وجرَّاء اغتصاب وطن وسرقة دولة وإبادة شعب؟!‏
                إن المال يعوَّض ولكن الأرض والاستيطان وسرقة دولة وإبادة "عدو" وطرده نهائياً واستبعاد شبح تهديده هو أفضل ما يمكن أن يضحى من أجله لتحقيق هدف كبير كهذا، وعلى " إسرائيل " -من وجهة نظر أميركا- أن تتفهم هذا الأمر. قد تمارس الإدارة الأميركية بإعلانها ضغطاً مضاداً لذلك الذي تمارسه المنظمات الصهيونية المناصرة لـ " إسرائيل " ولإسحاق شامير ضد جورج بوش وبعض الأشخاص في الإدارة الحالية، وقد تهدف إلى تحقيق نجاح لطرف في " إسرائيل " ضد طرف، ولكنها كما أعلنت مراراً وكما كررت دائماً ملتزمة "بوجود " إسرائيل " وأمنها وتفوقها على العرب مجتمعين وبرفاء شعبها "، وهذا يتضمن التزاماً ببرنامجها التوسعي ولكن ضمن سياسة النفس الطويل!؟.‏
                إن ما تريده " إسرائيل " في هذه القضية المثارة كلامياً هو أن تُحْرق الولايات المتحدة السفن مع العرب علنياً، بينما تريد أميركا أن تموه عملية الإحراق الفعلية لتلك السفن تحقيقاً لمزيد من الكسب. فهل تستطيع " إسرائيل " يا ترى أن تقبل التوجه الأميركي الذي يريد أن يحافظ على مصالح الطرفين مع المحافظة على سلامة الواجهة العامة وزهوها وملاءمتها لوسيط "منصف" وحاكم فرد؟! أم أنها ستصر على عملية إحراق السفن والإعلان عن إحراقها حتى لا يبقى للعرب حتى مجرد الوهم وحتى يستسلموا أو ينفجروا في عمل يائس بائس وفي وقت غير ملائم فيتحملون مسؤولية إضاعة فرصة السلام وتفجير الأوضاع في المنطقة وإفشال جهود القوة الأعظم التي سعت إلى إنصافهم؟! فلا هم قبلوا سعيها ولا هم قابلوه بما يستحق من الشكر والعرفان؟!‏
                ربما كان الأمر يتوقف على موقف "ايباك" من قضية اختلاف وجهتي النظر الأميركية -الإسرائيلية، "وايباك" لا يقل تأثيراً على الإدارة الأميركية الحالية - رغم مظاهر الضعف والاحتجاج -عن تأثيره عليها وعلى سواها في أوقات ماضية، والإدارة تحاول إفهامه واسترضاءه وإقناعه بضرورة التمويه على العملية المتفق على أهدافها النهائية، عملية إحراق السفن أمام العرب، تلك العملية التي تمت فعلياً منذ زمن بعيد كما يعرف العارفون من صهاينة الطرفين، الذين يشكلون أساس العنصرية والتعصب وقوام التمييز العنصري الذي ترتفع الشكوى منه الآن والذي سيعاني منه العالم، والعرب من بين العالم؛ ما لم يوضع حد للمد الصهيوني- العنصري بأشكاله وتجلياته المختلفة بقوة إرادة وثقة وتماسك ووعي بقدرات الذات ومدى الأخطار والمؤامرات.‏
                إن الوجود مدعو للدفاع عن مقومات الوجود الحيوي لأمة لا يمكن أن تموت ولكن من العار أن تعيش كالأموات.‏

                الأسبوع الأدبي/ع314//1992.‏

                إذا الشعب يوما أراد الحياة
                فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                تعليق


                • #9
                  رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                  التنافس على قتل العرب والمسلمين
                  - 1 -‏
                  البـوســنة *
                  قبل عامين تقريباً عمَّد الصربيون والصهاينة في فلسطين المحتلة علاقاتهما المشتركة واعترافهما المتبادل رسمياً بالقول: إن الشعب الصربي" و"اليهودي" يتعرضان للاضطهاد من الشعوب الأخرى لا سيما المجاورة لهما.‏
                  وتشاء الظروف أن تتصاعد حدة اضطهاد الصربيين لبقية الشعوب في يوغسلافيا بشكل مثير ومكشوف ومقزز منذ ذلك الإعلان حتى اليوم وأن يستمر ارتكاب المجازر بحق المسلمين في قضية البوسنة والهرسك طوال أشهر، وأن يتصاعد أيضاً اضطهاد الصهاينة للعرب في فلسطين المحتلة وعدوانهم ضد السكان في جنوبي لبنان إلى درجة كبيرة جداً.‏
                  وعلى حين يمارس الصربيون اضطهاداً وعنصرية غير معلنين في كثير من الحالات، يمارس الصهاينة عنصرية مكشوفة أدينت من الأمم المتحدة بالقرار الشهير (3379). إلا أن ما يفعله الطرفان عنصرية تعي دروس استخدام القوة الغاشمة ضد الآخرين وسحقهم دون رحمة والادعاء في الوقت ذاته بأنهما إنما يقومان بدفاع مشروع عن النفس والحق. في كوسوفا، المقاطعة المسلمة ذات الحكم الذاتي ألقى الصرب قبل أيام بتلاميذ المدارس، المضربين احتجاجاً على المعاملة المرة لشعبهم، ألقوهم من نوافذ الطبقات العلوية وهم أحياء، وداست الدبابات الناس في الشوارع وتم إلغاء الوجود القانوني والرسمي والإداري المستقل لكوسوفا. وفي سراييفو تتم الإبادة للمسلمين بالنار والحديد والحصار، وبالقتل على الطريقة النازية-الصهيونية، رصاصة في مؤخرة الرأس، وفي الضفة الفلسطينية وغزة وجنوبي لبنان يتصاعد القتل والحصار والعدوان بأشكاله الصارخة، ويستمر مسلسل الإبادة الذي غدا يومياً وعادياً دون أي اعتراض، يستمر هذا المسلسل العنصري العدواني البغيض تحت نظر العالم وسمعه وينخر جسد العربي والمسلم ويصل إلى العظام ولا يثير شيئاً أبعد من تسويغ الاستكانة والمهانة.‏
                  قتل عربي من غزة فتاة يهودية بعد أن كان اليهود من الوحدات الخاصة قد قتلوا أخاه وصديقين له في ساعة واحدة فضلاً عن قتلهم عشرات آخرين، وحين فعل ذلك قامت الدنيا ولم تقعد، واكتمل المشهد حين طعن عربي حاخاماً قرب دير البلح، واستمر عويل اليهود الصهاينة من نيويورك إلى اليابان عبر الإذاعات والصحف والمجلات، واستباحوا قطاع غزة وحاصروا أهله وفتكوا بالناس في الضفة، ولم يستذكر أحد ما اعتاد الصهاينة على فعله وتبريره من دون استنكار. ونسأل عن الضمير الحي، وعن أولئك الذين يدينون الإرهاب والذين ينادون بعدالة وحرية وديمقراطية واحترام حقوق الإنسان أين هم وأين أصواتهم وأين سطوتهم وجبروتهم؟!‏
                  في جنوبي لبنان تعربد الطائرات في السماء وتلقي على الناس فضلات الصناعة الأميرو- إسرائيلية فتحرق الأحلام والآمال في قلوب العرب والمسلمين قبل أن تحرق أجساداً ومحاصيل وتدمر بيوتاً على أهلها؛ ولا يتحرك أحد لا من أجل قرارات مجلس الأمن، ولا من أجل السلام ولا من أجل راحة الضمير. فعلان بتفاصيلهما اليومية يتواكبان ضد العرب وضد المسلمين من عنصرية ذات تاريخ مديد، وعنصرية مستجدة في صربيا تسير على خطا المعلّمين الكبار وتتعاون معهم، ولكن أحداً ممن يحرصون على نظام العالم "الجديد" وحقوق الناس فيه لا يبدي استعداداً للتحرك من أجل وقف المأساة؟! ولكن أية مأساة وأية رغبة في إيقافها تلك التي يمكن أن نفكر بها؟! أوَليست حماقة مطلقة عملية إيقاف ذبح العرب من قبل الصهاينة، وذبح المسلمين من قبل الصرب؟!، أليس ذلك ضاراً بمصالح أولئك الذين يعلنون أن القرن القادم هو قرن سيادة النموذج الثقافي والسلوكي والأخلاقي "للكاوبوي" في كل العالم؟!‏
                  والكابوي لا يعيش دون أن يستخدم مسدسه ضد الآخرين، وهو يعلن أن الإسلام والعروبة وما يمثلانه كل ذلك سوف ينهار في القرن القادم. وهذا يشجع الطامعين والطامحين الذين يستفيدون من عربدة القوة وغطرستها في عالم اليوم فيفتكون بالآخرين ليحققوا خططهم، وهم على معرفة جيدة بدرس يقول: "إن ما تحققه القوة لا تلغيه سوى القوة "، فأين قوة العرب التي تلغي الفعل الصهيوني العدواني؟! وأين قوة المسلمين التي تضع حداً للفتك بالمسلمين؟! إن العرب لا يرفعون صوتهم بالاحتجاج على فعل صهيوني ما، فلا أحداث غزة، ولا القتل الذي يستمر يومياً في فلسطين المحتلة والجولان، ولا الاستيطان الذي يقوم على قدم وساق، ولا القصف المستمر لجنوبي لبنان، لا شيء من ذلك كله، ولا ذلك كله مجتمعاً حرك أو يمكن أن يحرك العرب، لا ليقوموا بفعل رادع ويعلنوا غضبة مضرِّية ويستجيبوا لألف "وامعتصماه" انطلقت من القدس وإنما ليرفعوا احتجاجاً ويوصلوا الصوت والغضبة إلى أبعد من إذن المواطن العربي الذي يستمع في إذاعاته تهليلاً لقياداته. فالعرب منضبطون جداً جداً حتى في حالة تقديمهم للذبح، إنهم ينتظرون دورهم، لا تنفرج لهم شفة عن نغمة اعتراض!!. وقد جاء عيد الأضحى هذا العام ليثبت أن اليهود هم الذين يقدمون الأضاحي الأثمن والأسمن والأكثر، ولكن أضاحيهم هي من نسل إسماعيل بن إبراهيم، ذلك النسل الذي أتى عليه حين من الدهر أصبح فيه خرافاً، تفدي -الخراف على مذابح الطغيان وتناقض قصة الملاك الذي أحضر ذِبحاً عظيماً ليفتدي إسماعيل؟!!‏
                  لقد أنشبت الانتخابات الإسرائيلية أظافرها في العنق الفلسطينية واللبنانية، وأخذت تضغط وتضغط وتستقطر الدم. والمتنافسون في الانتخابات الإسرائيلية يذهبون أبعد فأبعد في القسوة والعدوان ليثبتوا للناخب اليهودي ولاءهم للصهيونية وأهدافها ولا سيما "إنشاء إسرائيل التوراتية"، وقدرتهم على خدمة تلك الأهداف وتحقيق توسع على حساب العرب؛ وحين تنتهي الانتخابات الإسرائيلية في الرابع والعشرين من يونيو (حزيران)، الحزين من منظورنا، ذلك الذي شهد كثيراً من مآسينا وهزائمنا، لا سيما في 1967 و 1982 والذي يغرق هذا العام 1992 بدمنا على نحو مثير؛ فإن حملة الإبادة البطيئة سوف تستمر ووتيرة العدوان ستتصاعد، وذلك تنفيذاً من الفائز - الليكود أو حزب العمل - لوعوده التي قطعها، وإخلاصاً منه لمبادئه التي يتبناها ولتاريخه الذي يزحف أمامه ويضغط عليه من خلفه، وهو تاريخ دموي أسود بالنسبة لكل من الحزبين.‏
                  ويبقى السؤال المر في الحلق: إلى متى سوف يستمر هذا الوضع، وإلى متى يبقى العرب في حالة خراف الأضحى؟! إلى متى يبقى الضعف العربي-الإسلامي عنواناً لهذا العالم الذي لا يستحق هذا الوضع وهذه المعاملة؟! ومتى نخرج إلى دائرة أرحب فيها الكرامة والعزة والقدرة على الدفاع عن النفس والأرض والحق والموقف والعقيدة؟! وكيف السبيل إلى ذلك ومن أين نبدأ؟! ويزحف في ظل ذلك السؤال المر سؤالٌ آخر أكثر إلحاحاً وأشد التصاقاً بأهداف العدوان ومغازيه وهو: هل تنجح "إسرائيل" جرَّاء العدوان المستمر على جنوبي لبنان في جر سورية إلى حرب في غير مكانها وزمانها ويكون في ذلك إجهاز على قوة عربية لا يدعمها تضامن عربي ولا تستند إلى قوة دولية تمِدُّها بالدعم والسلاح؟!‏
                  وهل تنجح، إذا ما جرتها إلى حرب في غير مكانها وزمانها، هل تنجح في القضاء على القوة التي ما زالت تطالب بحق وأرض وتنادي بتطبيق قرارات يراد لها أن تموت ابتداء من القرار (194) وانتهاء ب(242) و(338) و(425)؟! وهل تنجح "إسرائيل" في التوصل جرَّاء استمرار العدوان إلى حالة استفزاز للآخرين تجعلهم يتحملون "مسؤولية" إفشال جهود السلام تلك التي تعمل من أجلها "إسرائيل" وتؤيدها أوساط في الولايات المتحدة الأميركية؟!‏
                  إن المتنافسين في "إسرائيل" على السلطة يركِّزون دعواهم فضلاً عن تركيز عدوانهم على أنهم لن يعيدوا لسورية من الجولان شيئاً، وأنهم يتحدون كل ما بني عليه مؤتمر مدريد وقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ وفي هذا استفزاز وضغط على الأعصاب يضاف إلى القتل فهل يؤدي ذلك إلى فعل سوري يؤدي بدوره إلى تحقيق هدف " إسرائيل " المدروس؟!‏
                  ومن زاوية أخرى، وعلى عتبة الاستحقاقات اللبنانية المختلفة، هل ينجح الفعل العدواني الاستفزازي " الإسرائيلي " في لبنان، هل ينجح في إحراج سورية حيال لبنان الرسمي والشعبي وإظهارها بمظهر غير القادر على أداء التزاماته التي تفرضها العلاقة المميزة وما اشتق من ميثاق الطائف وبني عليه؟! وهل ينجح العدوان " الإسرائيلي " على حزب الله واتهام " إسرائيل " المستمر له ولإيران وسورية بتعكير الأمن، في جعل إيران تتراجع بوضوح أو تدخل الساحة دخولاً أكثر وضوحاً؟! ولكل حالة من هذه الحالات دلالاتها وتكاليفها، ولكل وضع ما يرتبه من فعل ورد فعل في المدى الدولي كله؟! أسئلة كثيرة تطرح نفسها جرَّاء الأوضاع السائدة وأسئلة أخرى تنبت على أرضية تلك الأسئلة، وكل ذلك يغري بالبحث في احتمالات شتى، ولكن عالم المؤكدات والوقائع الذي نعيشه يومياً حتى في أيام عيد الأضحى المبارك هذا الذي مر، تشير إلى استمرار التقدم العنصري ضد العرب والمسلمين وإلى ذهاب منطق القوة إلى حدود اللاعودة في عدم مراعاته للقوانين والأعراف الدولية وفي استهتاره بالعرب والمسلمين على حد سواء. وحين ننظر إلى المشهد الذي تبرز ملامحه أمامنا من سراييفو إلى لبنان وغزة وأفغانستان، وإلى علاقات العرب بالعرب والمسلمين بالمسلمين ووضع أولئك ووزنهم في كفة القوة التي لا يعترف عالم اليوم إلا بها، يداخلنا الحزن ويكاد يداخلنا اليأس؛ ولكننا سنبقى نعتِّق الحزن ونسقي به غراس الأمل فهكذا علمنا وهكذا يعلمنا التاريخ: الأمم لا تموت، والعقائد الكبرى راسخة هي الأخرى ولن تموت.‏

                  - 2 -‏
                  دم في البوسنة ونفاق في الغرب‏
                  النفاق الغربي بلغ حدوده القصوى في قضية مسلمي البوسنة والهرسك، والتواطؤ الكريه تفوح رائحته من الدبلوماسية الحاذقة المغلفة بإنسانية غربية مزدوجة المعايير، كثيرة الأقنعة، ومخطط الإبادة الذي يمارسه الصرب العنصريون ضد أولئك الأبرياء يلقى سكوتاً عالمياً، ويتحول عند المتشدقين بحقوق الإنسان والمنادين بذهاب عصر العدوان على الدول والشعوب إلى غير رجعة في ظل نظامهم الدولي الجديد إلى مشروع قرار يتلطَّى ويتمطى في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن لإيصال الأغذية بالقوة، إن استدعى الأمر، إلى سراييفو؛ بينما يتناسى أولئك الوحوش الذين يختالون ببزاتهم الرسمية الأنيقة تدفق الأسلحة المتطورة على الصرب من أوربا كلها ومن "إسرائيل"، ليستمروا في حرب الإبادة التي يشنونها على البوسنيين، في حين لا يصل إلى هؤلاء، الذين يتخبط رُضيعهم بالدماء النازفة من جراحهم، لا غذاء ولا دواء ولا سلاح يحمون به أنفسهم ويخففون وطأة الإبادة وزحفها عليهم، ولا يجدون من يصرخ معهم بملء الصوت أن كفى استهتاراً بالعقل البشري وبالقيم الإنسانية والخُلُقية ‎، وبحَيَوات الأفراد والشعوب وبحق الإنسان في الحياة، مجرد الحياة، وكفى تواطؤاً عنصرياً وطائفياً ضد الآخرين تحت ذرائع لا حصر لها.‏
                  لقد هُجّر أكثر من ثلث شعب البوسنة والهرسك، وقتل الألوف المؤلفة من أبنائه، واجتاحته المجاعات والأوبئة، وشرد من أرضه، وأقيمت له معسكرات الاعتقال، التي لم تعرف إلا العنصرية الصهيونية والنازية لها شبيهاً! وكل ذلك الذي يجري تحت سمع العالم وبصره، يجري في الدار الأوربية التي تدعي التحضر، وفي ظل وجود تيارات عنصرية في أنحاء مختلفة من تلك القارة ترى في ذوي "الرائحة الكريهة" وفي "الأفارقة السود" وفي المسلمين والآسيويين عناصر لا تتمتع بحق الحياة، وعناصر مرشحة للإبادة بأشكال مختلفة، حتى تخف وطأة الانفجار السكاني على المستغلين الغربيين. ويكفي أن نذكر " هنري لوبين " وميلوسوفيتش وشامير لنستجمع ثلاثياً عنصرياً يصبح عنصريو جنوب أفريقيا له دعماً وسنداً في عالم يجتاحه الحقد والمكر في ظل قيادة أميركا له، تلك القيادة التي لا تحركها سوى رائحة البترول والدم والمصلحة الفاسدة، ولا تغريها إلا الحروب المدفوعة القيمة، التي تفوح منها العنصرية والأحقاد البغيضة ضد الشعوب والثقافات والعقائد الأخرى.‏
                  إن التصفية الجسدية البغيضة التي تتم ضد مسلمي يوغسلافيا امتداداً من كوسوفو قبل سنوات وانتهاءً بالبوسنة والهرسك اليوم لم تلق استنكاراً ولم توقف، لأن عجلة الإعلام الغربي لم تُحرك من قبل السادة الغاطسين في التواطؤ في هذا الاتجاه لتحدث أثراً؛ ولم تلق استنكاراً وموقفاً مؤثراً يذكر من قبل المسلمين الذين تجتاحهم موجات الاقتتال الداخلي، أو الخوف من فتك الآخرين بهم، أو البلادة التي لا تحرك شق القلب عندما يفتك بالشق الآخر فسادٌ وموت، لأن المسلمين غارقين في المشكلات والسلبيات والتناحر على الصغائر. ولم تلق من العرب، قلب العالم الإسلامي، تجاوباً يذكر لأنهم "يخجلون" من أن يرتفع لهم صوت في قضية تتعلق بالإسلام والمسلمين، فهم العلمانيون المتقدمون في "طوابير" لنيل وثيقة "المدنية" وحسن السلوك من الغرب الذي يستدنيهم خطوة خطوة من محو الذات ومحو القيمة ومحو الوجود!؟ وهم "التقدميون" الذي يترفعون على الكلام في القضايا ذات الطابع الديني أو العرقي أو الطائفي، ويرتدون أزياء العصر المستوردة من واشنطن ولندن وباريس، وربما من "تل أبيب" رابين، ويتقدمون زرافات ووحداناً من "موائد" السلام المفروشة بالمهاجرين اليهود، ومليارات الدولارات، والبرامج الاستعمارية الاحتكارية التي تتضمن تصفية وجودهم الحيوي وحضورهم الثقافي الفاعل ببطء وتصميم!؟‏
                  بعد أشهر مرَّة، ولا أقول أياماً، وبعد مجازر رهيبة، وبعد غرق الرُضّع البوسنيين في دمائهم البريئة، وبعد فتح معسكرات الاعتقال، وبعد حصد الأحياء والقرى والناس من مختلف الأعمار، وبعد حصار طال واشتدّ وهدّ الحيل والروح، بعد هذا كله، تفكر الآن أمريكا وبريطانيا "جدياً"، بتقديم مشروع قرار إلى مجلس الأمن الدولي "العريق" يتضمن يحمل تلويحاً باستخدام "القوة" لإيصال الغذاء والدواء إلى سراييفو؟!‏
                  أفرأيتم عجباً أعظم وأشد عاراً من هذا العجب الذي يفيض "زهو مرارة"؟!‏
                  استخدام القوة لإيصال الغذاء، وليس استخدام القوة لمنع الإبادة، أو لمنع وصول السلاح إلى الصرب العنصريين الذين يشنون الحرب القذرة منذ شهور على سكان لا يملكون السلاح، ولا يطلبون إلا الحرية وتقرير المصير؟! أليس ما في هذا القرار الأميركي البريطاني-الفرنسي عموماً يستحق التقدير والاحترام ومسيرات التبجيل؟! أليس مجرد التفكير بهذا ينطوي على فضائل كبيرة لا بدّ من إظهارها على الملأ؟! مرّ ليل الضعف، ومرّ ليل المعاناة في ظل الضعف والنفاق والتواطؤ، ومرّ كلُّ وقت يقضيه الإنسان الحق في عالم يخلو من كل اعتبار للحق، مرَّ ليلُ الإنسانية في ظل القيادة الغربية- الأميركية لعالم فقد ظله ولونه وحضوره واحترامه. وأشد من كل المرارة توزع المثقفين والمبدعين والمنتمين إلى شرائح حقوق الإنسان والضمير الحي، على ولاءات وانتماءات تموت الحرية والعدالة والإنسانية في ظلها، ويتمزق قلب الوجود مزقاً تحمل لون الحقد وتعزف لحنه وهي تخفق مع الريح، لتعلن عن ذلك الوجود الذي يكثر ادعاؤه ويقل أداؤه إلى درجة العدم.‏

                  ـ3ـ‏

                  ميزان العدل في البوسنة‏
                  الولايات المتحدة الأميركية تنتقد حلفاءها الغربيين لموقفهم من مقترحاتها وخططها لوضع حد لمأساة المسلمين في البوسنة والهرسك، وفرنسا ترد على انتقاد أميركا بانتقاد أشد، وبريطانيا ترفض التدخل، وروسيا يلتسن، تقود حملة دبلوماسية هدفها مد عمر المذبحة إلى أن تتم الإبادة؛ والكل هناك في الغرب "المتمدن العادل "يمسح يديه بجلد الشاة ويغسل فمه من بقايا الدم واللحم، ويغيِّر قناعه، ويتصرف ببرودة معهودة في المجرمين العريقين الذين يقتلون ثم يعتلون منصة القضاء ليصدروا الحكم على الضحية متناسين القاتل.‏
                  قد يأخذ المرء العجب من وقاحة الغرب وجرأته على ممارسة إزدواجية شاملة في المكاييل والأخلاقيات، وقد يغضب ويثور لأن حلفاء الأمس الذين كانوا يقطرون حماسة وعدالة وحرصاً على حقوق الإنسان يظهرون اليوم كمن لا يجمعهم تحالف ولا حرص ولا حمية من أي نوع؟! ولكنه حين يدقق جيداً يرى الذئاب بمكرها وغدرها لم تتغير طبائعها ولكن تغيرت مصالحها وفرائسها ولذلك أخذت بتغيير مسالكها.‏
                  إن الأوروبيين يظهرون عجزهم التام عن حل مشكلة البوسنة والهرسك، وتواطؤهم بيِّنٌ مع الصرب العنصريين، الذين سجلوا أرقاماً قياسية في الأجرام؛ ولا يريد الأوروبيون إيقاف ذبح المسلمين البوسنيين إذا كان ذلك يكلفهم قتيلاً أو حفنة من الدولارات. فليس لهم مصلحة بالتدخل، وأميركا لا تقل عنهم بؤساً خُلُقياً وتواطؤاً مقيتاً وخداعاً ونفاقاً، ذلك أنها تسكت، وتخفي أظافرها في جيوبها وتبتلع أنيابها، وتذرف دموع التماسيح باسم "حقوق الإنسان" بينما يستمر مخطط الإبادة الكريه ضد شعب البوسنة المسلم، وترتكب أكبر الجرائم وأفظعها بحق البشرية حيث يباد شعب لأنه يقول ربي الله، وبسبب اعتقاده، واعتقاده فقط.‏
                  وقد رأينا تلك " الأميركا " ذات أنياب وأظافر تتفنن في القتل وتظهر قدراتها الخارقة وتصول وتجول شبه وحيدة على جبهات أخرى، وهي حتى الآن ترعد وتزبد وتحرك قواتها عندما يتعلق الأمر بحلفاء أو بمصالح لها؟ ولكن ما هي مصلحتها في البوسنة والهرسك حتى تتحرك؟! ولأي سبب تتدخل في مستنقع دام هناك وتغضب بعض حلفائها الأوروبيين وتتحمل نفقات لم يقررها الكونغرس بعد؟‍!؟‏
                  هل لتحمي حقوق الإنسان؟! إن الأمر يستدعي التفكير من قبلها ويستدعي التدقيق أيضاً: فأي إنسان ذاك الذي تهدَر حقوقه؟! هناك في العرف العدلي -الحقوقي- الحضاري (؟!) الأميركي مخلوقات في صورة الإنسان، وهناك مخلوقات إنسانية فعلاً، وحتى لا يكون الأميركيون ممن (شبِّه لهم) فهم يتأنون ويدققون ويحسبون حساباتهم جيداً ولا يتعجلون مطلقاً.‏
                  فلم يمنعون الإبادة ويقفون بوجه حلفاء الأمس واليوم وغداً إذا كان الأمر يتعلق بمسلمين لا يستطيعون دفع تكاليف إنقاذهم من الذبح ولا توجد عندهم مصالح لأميركا، ولا تتحقق لأميركا مصالح خاصة بإنقاذهم؟! إن المرتزق لا يتحرك للعمل إلا إذا وجد جيوبه مليئة والإغراءات التي أمامه كبيرة. والبشر الذين أمام المرتزقة الغربيين الآن لا يقدمون شيئاً من ذلك، بل يقدمون إغراءات معاكسة تماماً، فهم مسلمون وفقراء، ويحتاجون إلى الطعام والحماية، ولا يوجد لديهم ثروات تنهب، ولا مصلحة لمن يدافع عنهم في أن يفعل ذلك، فلم إذن يتحرك الغرب لذلك؟! وهل الغرب المستعمر غبي إلى حد التمسك بقضية إنسانية خُلُقيَّة نقية لا يأتي من ورائها نفع من أي نوع؟! لا.. لقد أثبت التاريخ أنه ليس كذلك ولن يكون.‏
                  وإذا ما تحرك في وجدان أي إنسان شعور أو سؤال يدفعه للصراخ: "فليتدخل العالم باسم مجلس أمنه.." ضحك الغرب منه كثيراً، وقهقه راعي البقر وهو يمسك حبله بيده ويضع سيجاره بين شفتيه وقال: غبي.. وهل العالم إلا نحن، وهل نحن سوى مصالحنا وأحقادنا؟ وهل من مجلس للأمن له أنياب وأظافر إلا إذا أردنا نحن له أن يكون كذلك؟!‏
                  إن العالم البسيط لا يحسن قراءة التاريخ، وما زالت لديه أوهام عن العدالة ولديه أحلام أكبر بوجود مؤسسات دولية تقيم الحق والعدل على قدم وساق!!‏
                  مسكين شعب البوسنة المسلم أنه بكل البساطة التي في الدنيا ضحية تواطؤ العنصرية الصربية مع العنصرية الصهيونية، اللتين تعملان مع سائر العنصريات تحت مظلة القوة الغاشمة، تلك التي تهمهما مصالحها وإبادة الذين يغايرونها.‏
                  مساكين أطفال البوسنة إنهم صفر الوجوه ينتهك قلوبهم الرعب، ويفتك بعقولهم ونفوسهم السؤال البريء المر: لماذا؟! لماذا نباد هكذا.. ولماذا لا يتحرك أحد لمنع ذبحنا نحن وأمهاتنا وأبنائنا بالجملة؟!‏
                  أيها الأطفال الأبرياء المساكين.. أيتها العيون التي تكويها نار الحسرة.. إنكم في قبضة العنصرية مثلما أخوتكم في فلسطين العربية في قبضتها.. إنكم أطفال مسلمون ولذلك يجب أن تبادوا. إنكم فقراء ولذلك يجب أن تعانوا، إنكم غرباء في محيط ثقافي- عرقي- متعصب يزعم أن الدين يحركه وهو من كل مقولات الدين الحق براء، إنكم سوف تدفعون الثمن لأن قلب قاتلكم خبيث، وقلب سيد العالم الذي يقول إن له نظاماً جديداً، أخبث، ولأن أخوتكم من المسلمين والفقراء والمقهورين في كل أرجاء العالم، من كل أبناء الأديان والأمم، ضعفاء حتى العظم.. متهافتون حتى الموت.. مستضعفون حتى التآكل!!‏
                  إنكم ستدفعون الثمن، وهو ثمن غال جداً.. إنه دمكم الذي يفيض على أرض الحضارة الغربية في نهاية القرن العشرين، ذلك الذي تدوسه أحذية الإجرام العنصري منتشية تحت ضوء الشمس بقوتها وقوة أولئك الذين تطمئن لدعمهم حتى لو زمجروا من بعيد ولوحوا لها بقبضاتهم.. إنكم سوف تموتون بقسوة لأن العالم فقد أخلاقه وروحه وقيمه وإنسانيته، ولأن قرش الصيرفي وليس محبة المسيح هو الذي يحكم "مدينته" ومدناً أنتم مبذورون فيها..‏
                  وستموتون دون ما أمل لكم حتى بأكفان وقبور لأن من تجمعكم بهم أخوة العقيدة والإنسانية والفقر والقهر لا يملكون أن يعطوكم من قروشهم حتى ثمن الكفن والقبر، لأن قروشهم ملك لأبناء الصيارفة.. أبناء الأفاعي الذين يكثرون بإبادتنا ويقوون بتفرقنا وضعفنا، ويفتكون بعالم أرواحنا؛ لأننا نملك الاستعداد للهزيمة أمامهم.. فنحن منخورون من الداخل، وقد عفا الزمن على إيماننا ووجداننا وحضورنا كله.‏
                  لكم الحب أيها الأطفال البوسنيون.. الفلسطينيون.. لكم وردة من كلام.. لكم خلود الذكر في وجداننا المرقَّع بألف خرقة من ألف قرن وقرن.. لكم دموعنا.. ولكم رحمة الله.. فنحن في ظل عالم يحكمه الشر نعيش عصر عدالة الشرير.. وإنها لأبغض ما عرفت البشرية.. والحياة على الأرض.‏

                  الأسبوع الأدبي/ع318//1992.‏

                  إذا الشعب يوما أراد الحياة
                  فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                  و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                  و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                  تعليق


                  • #10
                    رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                    مرحلة جديدة في مسيرة الكلام حول (السلام)
                    بدأت مرحلة جديدة من التراجع عن الثوابت المبدئية والسياسية في الصراع العربي الصهيوني من قبل العرب، وأخذت بالاتساع والتسارع إلى درجة تثير الكثير من القلق والحزن والأسف في النفس؛ وحين يقرأ المرء ملامح تلك المرحلة ويتأمل في نتائجها ويعرضها على ما يمكن أن يقدمه الواقع العربي من أمل وعمل، يزداد بؤساً وحزناً وأسفاً؛ فالواقع العربي يزداد تآكلاً وضعفاً وتمزقاً، كما يزداد استسلاماً للقوى والمخططات التي تعبث به.‏
                    وتتجلى معالم المرحلة الجديدة من التراجع في مواقف ظاهرها التشبث بالسلام وحقيقتها استسلام لمفهوم "إسرائيل" عن ذلك السلام ولمن يصدِّرونه ويروجونه ويعملون عرابين له. والعرب اليوم يستميتون على تحقيق شيء ما، ويبدون استعداداً للتخلي عما كان يعد، تجاوزاً، موقفاً عربياً موحداً في المفاوضات التي تتم في إطار مؤتمر مدريد؛ فبعضهم خاض معركة رابين، وأبدى استعداده للقتال من أجل ذلك الذي "سيفرض" سلاماً على شامير، وكأن هذا "الرابين" ليس صهيونياً عنصرياً قحاً، وكأنه لا يخدم المشروع التوسعي الاستيطاني ولا يؤمن به ويخطط من أجله؟! وبعض العرب يركض اليوم ليلاقي رابين في مفازة من الطريق تقع عند عتبة مكتبه ليعقد معه صلحاً منفرداً يحقق هدفاً مرحلياً من أهداف "إسرائيل" الصهيونية العنصرية.‏
                    لم يعد هدف العرب الرئيس من تلك المفاوضات -كما بدأ فعلاً- كشف حقيقة الموقف " الإسرائيلي " من السلام، وفضح المشروع الصهيوني التوسعي الاستيطاني العنصري الاستعماري؛ لأن ذلك الذي تحقق في هذا الاتجاه لم يتنام ويتركز حوله الجهد بالقدر الكافي، ولم يصبح هو الهدف الفعلي للعمل العربي، وبدا كأنه لم يتجاوز ما كانت تعلنه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وما أسمعه شامير لكل الأطراف المعنية والوسيطة والمراقبة، وما أكده رابين من بعد، يوم فوز حزبه في الانتخابات وتكليفه بتشكيل الوزارة؛ فهم يؤكدون أنهم أصحاب قوة وبالتالي فهم أصحاب حق، حسب منطق العصر وواقع الأمر، وأنهم يريدون السلام حسب مفهومهم للسلام، ويريدون من العرب أن يتفهموا جيداً معنى ما تقوله القيادات الإسرائيلية المتعاقبة وما تؤكده باستمرار، وهو ما تتطلبه المصلحة الصهيونية في هذه المنطقة ضمن الإطار الزمني والتاريخي والجغرافي للمرحلة الحالية من مراحل مشروعها " إسرائيل التوراتية"؟!!‏
                    وهو ما يمكن أن يحدد في:‏
                    - التمسك بالسلام والأرض معاً، كتلة واحدة، ضاق الهامش أم اتسع، ولا يضر أبداً، من وجهة نظرهم، القيام بأعمال تجميليَّة استرضائيِّة على حدود الأرض المحتلة بعد عام (1967) لإرضاء الغرور العربي وتزويده بجرعة جديدة تشجعه على التنازل، ولمغازلة الرأي العام العالمي، ولإظهار العرب كمتشددين إن لم يقبلوا؛ وهذا بحد ذاته مكسب تاريخي "لإسرائيل" والصهيونية.‏
                    - الحصول على الأمان والاطمئنان والاستقرار، في الحيز الجغرافي الذي تحقَّق "لدولة عبرية" في الشرق الأوسط خلال نصف قرن مضى من العمل على الأرض، وما يقرب من قرن مضى أيضاً من التحرك والتزييف والإعداد والاستعداد في ساحة كبرى من أرض البشر وفي ساحة السياسة الدولية الفاعلة.‏
                    وذلك الأمان والاطمئنان والاستقرار هو ما تحتاج إليه المرحلة القادمة من المشروع الصهيوني لا لاستيعاب المستوطنين المستورَدين، وإقامة قاعدة مستقرة/ نفسياً واجتماعياً واقتصادياً/ للمستوطنين، والسيطرة على الأرض /إعماراً واستثماراً/ وعلى المحيط الاجتماعي الجديد، وتطوير طاقة الإنتاج، وتمتين قواعد الانطلاق نحو مرحلة جديدة.‏
                    - الوصول إلى إقامة علاقات طبيعية على الصُّعُد المختلفة مع الجوار، وفتح الأسواق والطرق أمام "إسرائيل" لتصبح ضمن النسيج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمنطقة، بكل المفاهيم والمقاييس والأبعاد.‏
                    ولا يخفى على أحد مدى الأهمية والقيمة اللتين لتلك المطالب أو الأهداف الكبيرة، لا سيما في هذا الوقت وفي هذه المرحلة من مراحل الصراع، الذي أصبح نزاعاً ثم آل إلى مفاوضات. وفي تقديري أن خسائر العرب لن تقف عند حدود، بعد أن يوافقوا على ذلك الذي بدؤوا ينظرون إليه على أنه مع تحصيل الحاصل، ومن باب إقرار الأمر الواقع، والتعامل "بواقعية وموضوعية": من "الحقائق" التي تترسخ فوق الأرض!! وهو أخطر ما تحقق على الصعيدين الاجتماعي والنفسي من هزائم الروح العربية على امتداد تاريخ الصراع العربي الصهيوني.‏
                    فالعرب الذين يطلبون اليوم سلاماً ويتمسكون بالصيغة التي تقدَّم إليهم لذلك السلام، إنما يقدمون في حقيقة الأمر اعترافاً تاريخياً خطيراً بدولة للصهيونية في المنطقة ولو في حدود جغرافية (1948)، وهو أمر طالما تاقت إليه "إسرائيل" وعمل من أجله الغرب الذي ساهم في غرسها وحمايتها وتقويتها؛ كما أنه في غاية الأهمية بالنسبة للصهيونية وفي غاية الضرورة بالنسبة لإسرائيل. لأن ذلك سيتحول إلى نواة صلبة ومستقرة نهائياً في الوجدان الجمعي وفي المعطى التاريخي لهذه المنطقة وسكانها وللعالم من حولها، وهذا يعني أن التهديد الضمني أو الفعلي، المؤجل أو المعجل، بالنسبة "لإسرائيل" قد زال، وأن الذاكرة العربية لم تعد مشغولة به، وأن النضال من أجل استعادة فلسطين ومن أجل العودة إليها، قد توقف هو الآخر على كل مستوى وصعيد.‏
                    وحين يوقع العرب، زرافات ووحدانا، مع حكومة رابين أو مع سواها على "سلام" في هذا الإطار الجغرافي أو ذاك، فهم إنما يقررون حقيقة تقول: لقد اعترف العرب بحق اليهود في دولة آمنة مستقرة، لها أن تستوعب ما تستطيع استيعابه من يهود العالم في الأرض التي تمارس سيادة عليها. وليس للعرب أن يزعجوها في شيء، بل عليهم أن يتعاملوا معها في إطار احترام السيادة وحق الجوار، حتى حين تشترط حرمان الفلسطينيين من دولة في حيِّزٍ ما من الأرض المتبقية من فلسطين.‏
                    وهذا يعني عملياً بالنسبة للصهيونية و"إسرائيل" ولادة مرحلة جديدة من النضال، مشحونة بطاقة الحلم والأمل والانتصار، تهدف إلى "تحرير المزيد من أرض إسرائيل"، وطرد المزيد من العرب "المحتلين" من المساحة التي تشكل بنظرهم "إسرائيل التوراتية". وهم قد أسمعوا وفودنا المفاوضة، بشكل أو بآخر كلاماً في هذا السياق وبهذا المعنى، وتكلموا حول ضرورة أن "يعيد العرب لليهود أرضهم"، وأن الأرض التي "حررها اليهود بالقوة من العرب" لا يمكن أن تعود، ومن تراه يعطي "الحق والتحرير والوطن والمصير" مصداقية دون قوة؟! هل تراها قوى مرتزقة تتحرك حين يوجد مال يدفع لها ومصلحة تتحقق لها أيضاً؟! أم تراها قوى من أبناء الأرض المغتصبة والأمة المهددة تدافع عن حقها التاريخي ووجودها المهدد، وتعيد لكل كلمة معناها ومصداقيتها؟! وأين هذه القوة الأخيرة؟!‏
                    ومن الذي سيوقف هذا المد العنصري التوسعي العدواني من بَعد؟! ومن الذي سينظر إلى فعل "إسرائيل" مستقبلاً على أنه عدوان ينبغي أن يتوقف عند حدود، وتهديد للسلام والأمن الدوليين يجب أن يمنع ويردع؟! أتراها العدالة الغربية الملوثة؟! أم الأمم المتحدة المسيَّرة على رُكَبِها في ركاب الغرب الاستعماري؟! أم تراها الجماهير العربية التي ستفعل ذلك بعد أن تكون قد ازدادت خذلاناً وتمزقاً واحتراباً، وهي تتقاتل في ظل الولاء للمعتدي وفي حمأة التردي في مستنقع الاحتلال؟!..‏
                    إن العالم، الذي يزعم أنه يمسك ميزان العدالة، سوف ينظر إلى القوي المنتصر بإعجاب ويعطيها الحق الذي تقرره القوة ويرفعها درجة فوق المظلومين والشاكين؛ وأميركا خاصة والغرب عامة، كل أولئك سوف ينظرون بارتياح واطمئنان ومشروعية إلى ما يقوم به المستوطنون اليهود الجدد الذين يسعون بكل الوسائل، ومنها القتل والطرد والحرق والشنق وتكسير العظام، لتأمين منزل وعمل ومجال حيوي واطمئنان وأمان تامين لهم في الأرض التي يهاجرون إليها. فتلك القاعدة هي القاعدة الوحيدة الشرعية، والمعترف بها من قبل حكومة عالم اليوم، والمتعارف على رسوخها في المجتمع الأمريكي المتحضر" الذي نحاول أن نحتكم إلى "عدالته" وقوته وسائر ادعاءاته المزيفة الأخرى، وما أكثرها.‏
                    وكيف لا يعترف ذلك المجتمع على ذلك النوع من القواعد والأفعال والممارسات ومعايير "الحضارة والديمقراطية والعدالة"، وهو الذي قام أصلاً على إبادة الشعوب الأصلية في أميركا، واقتلع السكان الأصليين من جذورهم ليحل محلهم مهاجرين غزوا العالم الجديد بكل وسائل الغزو المتاحة، وقام على الهجرة والاستيطان والمغامرة، وعلى شرعية الأقوى، وقتل المواطن الأصلي وطرده فيما إذا عكر صفو المهاجر المغامر والمستوطن الجديد، وضيق عليه في أمر ما، أو زاحمه على لقمة العيش، أو أساء إلى المنظر الطبيعي الجميل الذي يرتضيه ذوقه "الإنساني " الفائق الرفعة؟!...‏
                    إن ما ينظر إليه العرب اليوم على أنه مكسب، يفضح العدو أو يجبره على التخلي عن أرض محتلة، هو في حقيقة الأمر خسارة كبرى على طريق الصراع العربي الصهيوني، حتى إذا بقي من هذا الصراع شيء في الوجدان أو في الذاكرة، وهو من زاوية نظر أخرى أهم مكاسب "الصهيونية وإسرائيل" التاريخية، حتى لو قدم رابين بعض الأرض وحكماً ذاتياً للفلسطينيين الذين يذبح بعضهم بعضاً اليوم في غزة ويتدخل "العدو" المحتل ليوقف زخم اشتباكاتهم(؟!!)..‏
                    فهل لدينا الإمكانية يا ترى لكي نحول هذا الذي نضطر إليه، تحت ضغط الظروف الحالية والمتغيرات الدولية، وتفرد أميركا بالعالم، والصهيونية، بالإدارة الأميركية؛ هل لدينا الإمكانية لتحويل ما قد نأخذه من "مكاسب" في "صفقة" السلام إلى نقاط إيجابية على الأرض في برنامج بناء استراتيجية عربية جديدة، بعيدة الأمد وطويلة النفس، تبقى الصراع العربي- الصهيوني صراع وجود مع وجود، إلى أن يتحقق هدفه المعلن الذي استشهد من أجله كثيرون؟! إذا استطعنا أن نفعل ذلك فالمرونة تصبح من هذا المنظور حكمة وقدرة وبعد نظر، أما إذا لم نستطع أن نفعل ذلك، ولا نفكر أصلاً في فعله، فإن ما سيتحقق سيكون كارثياً إلى أبعد الحدود، لأنه سيثبت للعدو حدوداً في الوجدان والتاريخ قبل أن يثبت له في المصورات الجغرافية "أرضاً" ووجوداً معترفاً به عربياً، وحدوداً يراعيها العرب الجوار، أو العرب الكبار.‏
                    أما إذا بقي الأمر من قبل العدو الصهيوني ومن قبل العرب في إطار السِّجال الكلامي أمام العالم، فعلينا أن نحذر من عدو يستفيد من الوقت ومن أوضاعنا التي تستنفد منا الوقت، لأن مرحلة جديدة في مسيرة الكلام حول "السلام" سوف تمكِّن رابين من استقدام المزيد من اليهود بعد أن يأخذ من أميركا ضمانات القروض وكثيراً من الوعود للمستقبل.‏

                    الأسبوع الأدبي/ع320//1992.‏

                    إذا الشعب يوما أراد الحياة
                    فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                    و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                    و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                    تعليق


                    • #11
                      رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                      زيارة بيكر والاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية المقبلة
                      في لحظات اشتداد التوتر وتصاعد الخلاف بين الإدارة الأميركية الحالية وحكومة شامير المنتهية، حول ضمانات القروض والمستوطنات وموضوعات خاصة أخرى، كان بعض المسؤولين الأميركيين يعبِّر عن ضيق الإدارة "بإسرائيليين" لا يريدون أن ينظروا بجدية إلى المتغيرات الدولية وما ترتبه من علاقات ومعطيات جديدة في ظل انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الشيوعية، وحرب الخليج الثانية، وولادة "نظام دولي جديد" في الحاضنة الأميركية. وكان مسؤولون صهاينة في فلسطين المحتلة أو في "إيباك" وسواها من المنظمات الصهيونية العاملة في أميركا، يريدون ألا تؤثر المتغيرات سلبياً على "إسرائيل" وألا تفرض بالضرورة تغييراً على مكانتها في الاستراتيجية الأميركية ودورها في الشرق الأوسط، خدمة للأهداف الأميركية- الإسرائيلية المشتركة؛ والاعتماد عليها في المحافظة على مصالح الدولة الأعظم. وكانوا يجهدون لتوضيح الصورة في المنطقة، ويؤكدون أهمية وحقيقة أن "إسرائيل" هي حصان أوحد يمكن المراهنة عليه، وأنه لا بديل للاعتماد عليها، حتى لو تحالف عرب مع أميركا ضد عرب في حرب الخليج وسالت دماؤهم جرَّاء ذلك التحالف.‏
                      ومن إسبانيا، التي كان يزورها لإحياء ذكرى مرور خمسمئة سنة على خروج اليهود منها، لفت حاييم هرتزوغ، رئيس الكيان الصهيوني، نظر الولايات المتحدة الأميركية إلى أن الخطر في منطقة الشرق الأوسط هو خطر الأصولية الإسلامية، وأن الاعتماد على "إسرائيل" في مواجهته أقل كلفة من مواجهة أميركية مباشرة.‏
                      لم يبق ذلك كلاماً في الفراغ، وربما لم يكن أصلاً مجرد تصريح عابر ذي أغراض آنية تتعلق بضمانات القروض الأمريكية "لإسرائيل" فقط، وإنما كان فيما يبدو مؤشراً لتوجه الفعل الصهيوني الذي يرمي إلى تخفيف كل اعتماد أميركي على العرب في حماية المصالح الأميركية والدفاع عن أمن المنطقة، وإلى تعزيز دور "إسرائيل" في ذلك وفرض أهمية أمنها وقوتها ومستقبلها في أعلى سلم الأولويات الاستراتيجية بالنسبة للإدارة الأميركية، كما كان الأمر في الإدارات السابقة؛ ولجعل الإدارة الحالية تفكر جيداً بمستقبل العلاقة "بإسرائيل" وباستراتيجية المستقبل ومكانة "إسرائيل" فيها، ولإجبارها على إجراء حسابات لا يدخل فيها اعتماد جدي ونهائي على العرب وعلى تحالفاتهم وصداقاتهم وقدراتهم في ضمان شيء ما للولايات المتحدة الأميركية مستقبلاً، حتى لو أرادوا ذلك.‏
                      كان شامير -الذي ألقيت باسم حكومته وفي عهده تلك الأفكار- مشاكساً وله تاريخ لا يُحتمل، ويفصح وجهه عن النيات العدوانية والممارسات العنصرية بشكل مكشوف؛ وأخذ يفرض رأيه وسياسته ويتمادى على إدارة بوش الخارج منتصراً من حرب الخليج ومن المواجهة مع موسكو. وبدأت "إيباك" تتحرك لترسِّخ دور الدولة داخل الدولة في الولايات المتحدة الأميركية ؛ وعندما صفق بوش بجناحيه ليبعد الذباب، أخذت المنظمات الصهيونية كلها و"إسرائيل" تعمل لدعم مرشحين آخرين في الانتخابات الأميركية بهدف التأثير على السياسة الحالية للإدارة، ولا سيما في مجال ضمانات القروض واستمرار الاستيطان والموقف في المفاوضات مع العرب.‏
                      وراهنت الإدارة الأميركية على التغيير ولكنها لم تذهب في ذلك إلى المدى المكشوف، إذ أنها وصلت إلى مرحلة لا تريد أن تستمر طويلاً. مرحلة المواجهة والعداء المكشوف مع اللوبي الصهيوني في أميركا. ولذلك صرحت بأنها سوف تقدم ضمانات القروض بعشرة مليارات دولار إلى أية حكومة تفوز نتيجة للانتخابات الإسرائيلية حتى لو كانت حكومة شامير ذاتها؛ ولم يكن ذلك لتعزيز موقف الرئيس بوش في الانتخابات الأميركية فقط، وإنما للإعلان أيضاً عن توجهات هامة في الاستراتيجية المقبلة لهذه الإدارة إن بقيت في الحكم ومن أجل أن تبقى في الحكم. وذلك اعتماداً على معطيات جديدة في المنطقة، التي هي موضع اهتمام الغرب عامة وأميركا خاصة، أعني منطقة الشرق الأوسط؛ لا سيما بعد ظهور حركات تزاحم على الحكم، وقيام تيارات معادية لأميركا تماماً بفعل لا يريح، وتصعيد المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.‏
                      فقد أصبح من المؤكد، حسب إحصاءات معهد النفط في أميركا واستنتاجات خبرائه، وعلى رأسهم إدوارد مورفي، أصبح في حكم المؤكد أن "الشرق الأوسط سيبقى، وعلى نحو متزايد، المصدر الذي تعتمد عليه الولايات المتحدة وغيرها من الدول الصناعية للحصول على إمداداتها من النفط. وهذا يعتبر عنصر عدم أمان، لأن منطقة الشرق الأوسط منطقة ساخنة وقابلة للاشتعال دائماً، كما أنها معرَّضة لنشوب حروب فيها، إضافة إلى أنها ساحة للتدخلات وأرض خصبة للثورات. وهذا الوضع يجعل من المتعذر على الولايات المتحدة أن تتنبأ أو ترصد التطورات المتوقعة بالدقة المطلوبة".‏
                      وانطلاقاً من الحرص على المستقبل وعلى التفوق، اللذين يضمنهما استمرار تدفق النفط والسيطرة على ضخه وتسعيره وتسويقه، ودفعاً لأي احتمال قد لا يرصَد بدقة، وأية أحداث قد لا يتم التحكم بها وبنتائجها؛ فإن استراتيجية أميركية تريد ضمان المستقبل والنفوذ لا بد أن تأخذ بالاعتبار كل التطورات في أرض خصبة لنمو الثورات من جهة، وكل ما يمكِّن من السيطرة على الوضع دون مفاجآت أو أخطاء قتالة من جهة أخرى. ولهذا الأمر ولسواه ربما توجهت إدارة بوش نحو الأخذ بالخيارات المفيدة كلها التي توحي بها الاحتمالات، ووضعها في الاعتبار، ومراعاة المجرب والمدرب على يديها من القوى الفاعلة في مثل هذه الحالات، وعلى رأسها "إسرائيل".‏
                      ولما كان هذا التوجه لا يحرج بعض العرب إلى درجة تخرجهم من السلة الأميركية، ولما كان العرب، أو على الأقل جلّهم، يتسابقون على كسب ود الدولة الأعظم وتقديم أوراق اعتماد لديها كزبائن ومتعاملين وموالين وقادرين على ضبط الأمور، وصالحين لدخول ميدان السبق والفوز برهانها على الأحصنة الأفضل في المنطقة؛ ولما كان أي ردع أو دَعٍّ لأي منهم لن يصد الآخرين عن أبوابها، فإن إدارة بوش، في سعي تكتيكي واستراتيجي معاً من أجل الانتخابات وما بعدها: "طلبت من رابين في اجتماعه القريب مع الرئيس بوش، أن يطرح اقتراحات وأفكاراً جديدة تتعلق بمجمل التعاون الاستراتيجي بين الدولتين". ولا يذهبن الظن بنا في تفسير "الأفكار الجديدة" إلى حدود الإعلان عن رغبة أميركية في نبذ الطرح " الإسرائيلي " الماضي، بل يحسُن بنا التفكير في أهمية تغيير الأساليب والنظر إلى البعيد، والتعاون على أسس جديدة تطال التكتيك ولا تمس الاستراتيجية الثابتة، أي أنها لا تمس مكانة "إسرائيل" القديمة لدى أميركا ولا الثوابت التي تعلنها أميركا حيال "إسرائيل"، وتأخذ بالاعتبار الأفكار والمخاوف والأخطار التي تثيرها "إسرائيل".‏
                      ذلك لأن الخبر الذي نشرته جريدة " دافار " في (30/6/1992)‏
                      /"السفير 13/7/1992"/ وجاء فيه: "في الأشهر الأخيرة نشبت خلافات في الرأي بين الإدارة و"إسرائيل" في موضوع الاستعداد لكبح صعود الأصوليين الإسلاميين، وبينما تعرض "إسرائيل" موقفاً مؤداه أن الأصولية هي بديل للشيوعية كخطر رئيس على العالم الحر، تزعم الإدارة،. وعبرت عن ذلك علناً، أنها غير مستعدة لتحديد استراتيجية شاملة ضد الأصوليين، وأنه يجب أن تبحث كل حالة صعود إلى الحكم على حدة". هذا الخبر يشير إلى قمة جبل الجليد بين الدولتين، ويحمل مؤشرات على الاتفاق المبدئي وعلى الجوهر، ويلمح إلى خلاف ينحصر في التكتيك تقريباً ويضعه موضع البحث؛ كما يحمل مؤشرات أخرى، تضيف إليها الأحداث كثيراً مما يجعل التوجه القادم أكثر وضوحاً والتصرف الأميركي حيال بعض الأحداث مفهوماً.‏
                      فبعد أن كانت الإدارة الأميركية تؤيد كل ما يأتي به توجه ديمقراطي إلى الحكم، وتعلن أنها تعمل على تعزيز الديمقراطية مهما كانت نتائج ذلك؛ قال مساعد وزير الخارجية إدوارد جيرجيان في المغرب العربي إبان جولته الأخيرة شيئاً مناقضاً حيث رفض وصول الإسلاميين عبر الديمقراطية إلى الحكم لأنهم "سوف" يصلون بها ثم يحجبونها عن سواهم!؟ وهذا القول هو ابن لأقوال أخذت في النمو بعد حرب تحرير الكويت وبداية التحرك الإسلامي في الجزائر، حيث عدلت الإدارة الأميركية آنذاك مسار تحركها على أساس أنها قد تضطر إلى اتخاذ مواقف انتقائية من انتصارات الديمقراطية أو مما تفرزه الممارسة الديمقراطية من قوى مرشحة لاستلام الحكم في الوطن العربي.‏
                      فقد اقتنعت الإدارة الأميركية فيما يبدو بما طرحته "إسرائيل" عليها قديماً حول مقاومة الأصولية، وبدأت تخطط لمواجهة ما ترى "إسرائيل" أنه الأخطر. ولا يفوتنا هنا أن نستذكر حملة صعدت ثم خبت قليلاً، رافقتها تصريحات وكتابات لبعضها طابع عنصري مكشوف تصب جميعها في تيار القول الذي أعلنته الإدارة الأميركية الحالية؛ وهو القول الذي يرى أن القرن القادم هو قرن انتشار القيم الأميركية وأسلوب الحياة والسلوك الأميركيين ـ أي الثقافة ـ وسيطرتها على العالم. وهو ما فسره البعض وقدمه بشكل مكشوف في الغرب على أنه قرن سوف يشهد انهيار العروبة والإسلام كما شهد القرن الحالي انهيار الشيوعية والماركسية.‏
                      والإشارة هنا تفيد الربط بين أفكار وأحداث وسياسات في الحاضر والماضي القريب من جهة، وبين تاريخ قديم من العداء للأمة العربية وقيمها ومقومات عقيدتها وشخصيتها الثقافية من جهة أخرى، والإشارة للربط واستمرار استقراء الحدث؛ لأن ما يهمني هو أن أصل إلى ما أراه خلف التحرك وثمرة تنضج تحت حرارته.‏
                      لقد شكل رابين حكومته، ودعته إدارة بوش إلى التحرك بما يحقق شيئاً لم يحققه سلفُه، وبادرت إلى دعواته، وحرضت على قبوله والإقبال عليه ودعمه، والتفاؤل بوصوله، وهو ما رشَح من أوساط سياسية عربية ومن أفعال وأقوال ودعوات للحوار والاستبشار، كما أن إدارة بوش لم تروج رابين فقط وإنما أوفدت بيكر إلى المنطقة، بدءاً من فلسطين المحتلة، في هذا الوقت الدقيق بالنسبة لها. فهل يجيء بيكر، كما أعلن عن ذلك، من أجل مفاوضات السلام وتسخين ما برد من مياهها وتحريكه قبل أن يفسد فقط، أم لأسباب أخرى أيضاً؟! إن زيارة بيكر ستكون ذات أثر بعيد على سير المفاوضات من جهة وعلى مستقبل التعاون بين إدارة بوش وحكومة رابين، وعلى الاستراتيجية الجديدة التي تريد الإدارة الأميركية لـ " إسرائيل " "دوراً فريداً" فيها من جهة أخرى؛لتكون العلاقة "فريدة" بين الدولتين كما كانت. فكيف يتجلى ذلك وكيف نقرأ ذلك التجلي وأين؟!‏
                      من المؤكد تقريباً أن زيارة بيكر سوف تنهي الخلاف الذي نشأ بين الإدارة الأميركية وحكومة شامير حول ضمانات القروض بعشرة مليارات دولار لمصلحة الكيان الصهيوني. ولن تجادل الإدارة الأميركية مستقبلاً حول موضوع الاستيطان عندما يستأنف رابين تنفيذ خطة سلفة شامير " ملء الضفة وغزة والجولان باليهود الروس"، لأنها سوف تكتفي بمرونته وإيقافه العلني للتعاقد على بناء مستوطنات في الأراضي المحتلة خلال فترة انتقالية يشعر فيها العرب بغرور "الانتصار" في هذا المجال، ثم تتطامن منهم الرؤوس تحت ثقل الأمر الواقع.‏
                      ومن المتوقع أن تتحرك المفاوضات بمرونة نسبية من جانب حكومة رابين لتحقيق الاستراتيجية الضخمة الأهداف،التي تقف على الأبواب، أعني استراتيجية أميركية -إسرائيلية تبنى على أساس الطروحات الإسرائيلية، التي تمثلتها الإدارة الأميركية وأدركت مراميها، فتبنتها تحت ضغط الحاجة لتأمين النفط والمصالح الأخرى وخوفاً من الرمال المتحركة في الوطن العربي، التي لا يمكن التحكم بتوجيه حركتها. فالأصولية الإسلامية في هذه الاستراتيجية الجديدة سوف تصبح الخطر الأكبر على "المجتمع الحر" كما طرحت " إسرائيل " على أميركا، وسوف تأخذ سياسة تحقيق انهيار العروبة والإسلام في القرن القادم كما انهارت الشيوعية في القرن الحالي طريقها إلى التنفيذ؛ ولكن كيف؟!؟ هل بالحربة الإسرائيلية- الأميركية؟! أم بتوجيه السكاكين العربية إلى العرب والإسلامية إلى المسلمين؟! إن الحل الثاني المدعوم بقوة الغرب والصهيونية هو في تقديري الخيار الاستراتيجي المعتمد الذي ستحققه الدولتان والغرب الحليف لهما، بكل الوسائل وحسب الاحتياطات؛ إلى أن يثمر دماً ودماراً لا حدود لهما في الوطن العربي أولاً وفي العالم الإسلامي كله ثانياً. وعلى طريق ذلك ووصولاً إلى عتبة التنفيذ، بالنسبة لاستراتيجية العمل المستقبلي بين الدولتين، سوف يتحقق تحرك إيجابي على طريق المفاوضات استكمالاً لأهداف مؤتمر مدريد. فبعد تقديم ضمانات القروض الأميركية لـ " إسرائيل " بعشرة مليارات دولار، سيعمل بيكر على أن يوقف العرب المقاطعةَ لإسرائيل، وعند هذه الحدود يبدأ قطار الحكم الذاتي للفلسطينيين بالحركة في الوقت الذي يبدأ فيه العد التنازلي للانتفاضة. في الأردن سيبقى القلق من تحرك فلسطيني مدروس يتم إغراؤه وتغذيته باستمرار /أميركياً وعربياً/ سيبقى دائماً، كما سيتم استنفاره إسرائيلياً حتى لا تسود حالة من الاستقرار يتم على أرضيتها تفكير بما حدث في ضوء ميزان الربح والخسارة القوميين على المدى البعيد.‏
                      وستبقى قضية الاستيطان " الإسرائيلي " مشروعاً مفتوحاً ومقلقاً في آن معاً إلى مدى غير منظور، ليستنزف أهل الضفة وغزة باستمرار.‏
                      في الجنوب من لبنان يتم انسحاب إسرائيلي على أرضية محاولات لا تنتهي من أجل عزل سورية عن لبنان وتقوية تبعيته للغرب، وإبقائه مهدداً بالحروب الأهلية والطائفية والضائقة الاقتصادية.‏
                      أما في الجولان فسوف يعيد رابين طرح درسه الذي يردده على مسامع الإسرائيلبين: مقابل اثنين ونصف من الكيلو مترات المربعة من الأرض كسبنا استقراراً لمدة سبعة عشر عاماً، فلماذا لا نعطي لسورية بعض الأرض من أجل عمر من السلام؟! وسوف تجد مصر نفسها سيدة القدرة، على التحرك وعلى إحداث الوفاق، ومن ثم تأتي مرحلة التطبيع والتعاون. ولكن هل يحدث هذا كله على الجبهة وصولاً إلى تنفيذ تعهدات قطعت قبيل انعقاد مؤتمر مدريد، ووفاء بالتزامات "أخلاقية" ما، أم أنه يأتي مرحلة من أجل التوصل إلى مستقبل تتحقق فيه : " إسرائيل الكبرى" و "إسرائيل التوراتية" ؟!‏
                      إن التحرك الذي سوف يتم في هذا المجال سوف يقدِّم دعماً للأنظمة العربية الحالية، وسوف يعطي دفعاً لتيار عربي يريد أن يثبت أنه قادر على ضبط الأمور وصنع الاستقرار وانتزاع الدور من "إسرائيل"، التي ستبقى في ظلالٍ بين الحرب والسلام لدى الجماهير؛ وسوف يدفع هذا التوجه وتلك النتائج الأصوليين إلى العنف، ويدفع الأنظمة ـ التي أخذت نقمتها تتصاعد على الأصوليين ودمويتهم ـ إلى البطش بهم؛ وعندما تدور العجلة على هذه الطريق، طريق العنف والدم، فإننا سوف نصل إلى صراع داخلي في كل قطر إلى صراع بين أقطار عربية وأخرى، وبين عرب ومسلمين؛ صراع لا يتوقف عند حدود. وسيكون دور الغرب ودور "إسرائيل" تأجيج هذا الصراع بنصرة طرف على طرف، سراً وعلناً، حسب الأحوال والاحتياجات والتحالفات؛ ومدِّه بمقومات البقاء والاستمرار، والتجارة به ومن خلاله، بالدم والسلاح؛ حتى يثمر ثماره كلها وتجنى تلك الثمار.‏
                      وسوف يحقق هذا كله أرضيةً ملائمة لتنفيذ أهداف الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية التي دعا الرئيس بوش رئيسَ حكومة "إسرائيل" إسحق رابين إلى واشنطن من أجل تقديم مقترحات جديدة لها، وأوفد وزير خارجيته للتمهيد لذلك كله، وللتأسيس من أجل بقاء حكومته وإدارته على رأس المجتمع الأميركي ليتحقق ذلك في المرحلة القادمة؛ بعد أن حققت المرحلة الماضية من عهد بوش لـ " إسرائيل " ما لم تحققه إدارة أميركية سابقة من حيث العون المادي والنُّصْرَة وإزالة المخاطر وإلغاء القرار (3379) وتحقيق المزيد من الهجرة والاستقرار والدعم المالي والتحالفات ومناخ الأمن.‏
                      فهل ينجح كل ذلك يا ترى وكما هو متوقع؟! وما الذي سوف يعيقه إذا كنا نحن العرب نساهم في صنعه على نحو ما!؟!‏

                      الأسبوع الأدبي/ع321//1992.‏

                      إذا الشعب يوما أراد الحياة
                      فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                      و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                      و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                      تعليق


                      • #12
                        رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                        النفط والماء.. العرب والترك
                        لم تبدأ المغالطة المكشوفة، مغالطة النفط والماء، في تركيا ولم تنطلق أصلاً منها، وإنما بدأت في الدوائر الصهيونية، وعلى ألسنة يهودية-عنصرية اكتنزت الخبث والخداع وثمَّرتهما واستثمرتهما عبر التاريخ. ولم تتفجر تلك المغالطة إعلامياً عندما نطق بها مسؤول تركي كبير منذ أيام إلا بعد أن تم تخطيط وتدبير صهيونيان لذلك، وربما بدفع مباشر ومباركة واستعجال من رأس الأفعى في فلسطين المحتلة، الذي كان يقوم بزيارة لتركيا قبل أيام: حاييم هرتزوغ.‏
                        وإذا كان النفط قد أصبح ثروة وأصبح عصب الطاقة ومصدرها الرئيس، بعد الاهتمام المتزايد باستخراجه واستثماره وتصنيعه، لا سيما بعد عام 1870، وبعد ازدياد الاعتماد عليه نتيجة اختراع المحركات الانفجارية واكتشاف الكهرباء ونمو العصر الصناعي، حيث أصبح النفط مصدر الطاقة وعصب العصر ومقوماً رئيساً من مقومات الحضارة والثروة في القرن العشرين؛ إلا أنه لم يكن عصب الحياة وشريانها الرئيس بالنسبة لجميع الكائنات الحية منذ وجدت الحياة على الأرض، ولم يكن يوماً العنصر الذي لا تتكون من دونه حياة كما كان شأن الماء منذ الأزل وكما يبقى كذلك شأنه إلى الأبد.‏
                        وإذا كان النفط ثروة طبيعية متوطِّنة في بعض بقاع الأرض، مستودعه في أجواف منها، يبذل الإنسان جهداً ووقتاً ومالاً، على أرضية من معرفة وعلم، ليستثمر تلك الثروة بعد أن يكتشفها ويستخرجها، شأنه في ذلك شأن الثروات الطبيعية الأخرى كالحديد والنحاس والذهب والفضة والفوسفات والكبريت وغير ذلك من الثروات الطبيعية التي لا يخلو منها بلد، قل نصيبه منها أو كثر، فإنه ليس كماء الأنهار والبحار أبداً: وجد منذ وجدت الأرض مبذولاً للخلق كل الخلق، جارياً بقدرة واقتدار، يستمد من الطبيعة تجدداً وانطلاقاً، ويُمِدُّ الحياة بتجدد وانطلاق، تغدقه عيون السماء في مواسم معلومة، فتفيض به الأرض في مواسم معلومة أيضاً؛ ويبقى ينبوع الخالق الذي منحه للخلق، متدفقاً على مر العصور، يغذي الأرض بشرايين خلقها الرب وجسدتها الطبيعة، تربط الجغرافية السياسية بروابط إنسانية أبقى وأخلد وأعرف وأكبر من الأمم والأقوام والحكومات والحكام.‏
                        فالأنهار أقدم بكثير جداً من البشر وخلافاتهم وسياساتهم ومصالحهم، والماء فيها هبة الله لخلقه كل خلقه وللكائنات الحية كلها، يشكل قوام الحياة الذي لا تقوم من دونه حياة أبداً، شأنه شأن الشمس والهواء والتراب. وإذا كان الفرات ودجلة يربطان حيوياً تركيا وسورية والعراق، فإن نهر النيل يربط دولاً أكثر من ذلك، والدانوب شريان في الأرض يمتد عبر دول كثيرة من دول أوربا، والفولغا والمسيسبي والغانج وغيرها من الأنهار تمتد في جغرافية السياسة ولا تستطيع أن تدعي ملكيتها سياسة. والماء، لا سيما الجاري منه عبر الأرض، ملك للأحياء وللحياة في تلك الأرض، ولم يكن يوماً عبر التاريخ البشري كله، يُحكم بقانون استثمار ثروات الطبيعة المدفونة في باطن الأرض كالفحم والرصاص، أو المبثوثة على أجزاء من سطحها كالغابات والرخام...الخ.‏
                        وللأنهار والبحار قوانين دولية تحكمها، ومحاكم ولجان تحكيم يُحْتَكم إليها في كل ما يَشْجُر من خلاف حول الاستفادة منها، كما أن للثروات الطبيعية الموجودة في باطن الأرض، ضمن إطار الجغرافية السياسية للبلدان، قوانين خاصة بالبلدان تحكم استثمارها والاستفادة منها.‏
                        وهذا أمر معروف للجميع تدركه الشعوب والحكومات ويدركه الأتراك كما يدركه العرب، وسائر أمم الأرض والأقوام فيها عبر التاريخ. فلماذا تفجير هذه القضية الآن إذن، قضية الخلاف على مياه الفرات، وإعلان موقف منها على الناس في هذا الوقت وهذه الظروف؛ بعد أن كان الهمس بها والتصريح عن جوانب منها منذ سنوات معدودات فقط، وتحديداً منذ بدأت "إسرائيل" العنصرية تتحدث عن "سلامها" ومشاركتها لشعوب المنطقة بكل ما يعني المنطقة من شؤون، وإشاراتها مباشرة أو مداورة إلى الأنبوب "الطيب"، الذي ينطلق من تركيا عبر بلدان الشرق الأوسط ليزود المنطقة بالماء، وإيحائها للأتراك بأن يبيعوا الماء لأهل جزيرة العرب، مثلما يبيع أولئك النفط للعالم؟!‏
                        ولا يمكن استبعاد هذا التفكير والتخطيط عن مجمل ما يدبر للمنطقة من مخططات، وعن أهداف الاستراتيجية الجديدة للغرب والصهيونية اللذين يتعاونان منذ عقود ضد شعوب المنطقة ولتنفيذ سياسات فيها.‏
                        فبعد أن دفَّع اليهود الدونما السلطان عبد الحميد ثمن رفضه أن يبيعهم فلسطين، بما فيها القدس، لتكون وطناً قومياً لهم مقابل تسديد ديون الباب العالي؛ دفَّعت أوربا كلها الإمبراطوريةَ العثمانية ثمن وجودها الثقافي-السياسي المتميز ومزقتها شر ممزق، ورمت شعوبها بعضها ببعض، مستثمرة الظلم والإفساد اللذين مارستهما والقوة التي غدت هي مالكة لها باقتدار.‏
                        ومن أجل تمرير وعد بلفور وإقامة وطن قومي لليهود مزقت بلاد الشام إلى "دويلات أربع" ووضعتها تحت الحماية والاستعمار المباشر. وقبيل إقامة الدولة اليهودية في فلسطين دقت فرنسا إسفينين في العلاقات السورية التركية: الأول في بداية فترة استعمارها بإلحاق كيليكيا بتركيا، والثانية قبيل نهاية فترة ذلك الاستعمار بإلحاق لواء إسكندرون بها أيضاً. وكان من الأهداف شغل العرب بالتمزق والتناحر وشغل سورية بخلافات وحروب ومعارك مع الجوار، ليسهل زرع الدولة الصهيونية ورعاية نشأتها.‏
                        وكان ما كان مما نعرف جميعاً، أما اليوم فيحين موعد استحقاق آخر، هو "إشاعة السلام حول الدولة الصهيونية"، والاعتراف بها وجعلها تشارك فعلياً وطبيعياً بأمن المنطقة، كل أنواع أمنها: "الاقتصادي والغذائي والمائي والعسكري والسياسي والثقافي... الخ"، وتهيئة المناخ الملائم لتنفيذ مرحلتين أو هدفين في الاستراتيجية الغربية- الصهيونية المقبلة:‏
                        1 - " إسرائيل " الكبرى، وهذا يتضمن الهجرة وخلق المناخ الملائم للتوسع الاستيطاني.‏
                        2 - "القضاء" على الإسلام والعروبة. ومن الحيوي والضروري جداً لتنفيذ هذين الهدفين، إضافة إلى أهداف أخرى، أن تتنامى الصراعات العربية- العربية، والعربية- الإسلامية، وأن تشغَل سورية تحديداً، من بين الدول العربية، بمعارك وصراعات جانبية؛ لا سيما بعد أن قضي على قوة العراق وعُطِّل دوره لفترة زمنية قادمة غير منظورة. وعندما يوقد فتيل الخلاف حول قضية حيوية مثل المياه فإن جهد سورية والعراق ودول عربية أخرى سوف يستَقطب في هذا الاتجاه من جهة، وجهد دول إسلامية على رأسها تركيا لابد أن يستقطب أيضاً في هذا الاتجاه، من جهة أخرى. وعند ذلك ترتاح " إسرائيل " وتدخل حكَماً أو طرفاً هي والغرب الذي يدعمها.‏
                        وإذا أضفنا إلى هذا الاحتمال، الذي يخطط له ليصبح واقعاً، احتمال استقطاب دول إسلامية وعربية حول محوري الخلاف أو الصراع، فإن عجلة التدمير الذاتي سوف تدور لتطحن عرباً ومسلمين، بأيدي عرب ومسلمين.‏
                        ومن زاوية أخرى تهدف " إسرائيل " وحلفاؤها إلى شغل تركيا بقضية المياه هذه لتصرفها عن الاهتمام بمسلمي آسيا الوسطى، الذين يرتبطون بها قومياً بروابط كما يرتبطون عن طريقها استراتيجياً وجغرافياً بالعالمين العربي والإسلامي، وهذا الأمر هام جداً بالنسبة لـ " إسرائيل " خاصة وللغرب عامة؛ لأنّه يمكّن أولئك من استقطاب الطاقات العلمية والتقنية- ولا سيما النووية وتلك القادرة على التعامل مع الأسلحة المتطورة تصنيعاً واستخداماً- في برامج استخدام طويلة الأجل ميسورة التنفيذ، وتجعلهم واثقين من عدم تمكن العرب والمسلمين- جرَّاء الخلافات والتمزق- من الحصول على أي سلاح ذي قوة تدمير شامل، لا سيما السلاح النووي، بمواجهة " إسرائيل " التي تملك ذلك السلاح. كما أن ذلك يهيئ الظروف والشروط اللازمة لبقاء العرب والمسلمين خارج دائرة التقدم العلمي والتقني والحضاري المطلوبة لمجاراة احتياجات القرن القادم ورهاناته وتحدياته، ويجعلهم يساهمون بتفتيت أنفسهم وقواهم وبتنفيذ أهداف ومراحل الاستراتيجية الغربية- الصهيونية المرسومة والمطلوب تنفيذها في القرن القادم.‏
                        وهي تلك التي تنذر وتبشر بانهيار العروبة والإسلام في القرن الحادي والعشرين كما انهارت الشيوعية في القرن العشرين، وترى -حسب مطلب " إسرائيل " وقادة الصهيونية- أن " الأصولية الإسلامية " خطرة كالشيوعية. وهي تعني الإسلام وليس التطرف الديني، لأنها لو أرادت ذلك لرأت التعصب الديني الفج والعنصري، المتطرف في "أصوليته"، في " إسرائيل "؛ تلك التي تقوم على حلم تاريخي حمّل على الدين وأُشْرِبَه المتدينون التوراتيون، وتعصبوا له وذبحوا الأبرياء وما يزالون يذبحونهم ليحققوه، وهو أنموذج التعصب "الأصولي" العنصري الأوضح في التاريخ المعاصر كله؛ فلماذا إذن لا يُرى ولا يُشار إليه من قريب أو بعيد؟!‏
                        إن الخطط والتدابير التي تحاك لأبناء هذه المنطقة وشعوبها وحكوماتها دقيقة وخطيرة ومستمرة، ولن تتوقف مادام سم عنصري يهودي يُقذَف في أصلاب صهيونية- مسيحية تنمو، ومادامت هناك مصالح وأطماع للغرب في الشرق يراد تنفيذها بالقوة وأساليب القمع والسلب والاستلاب.‏
                        وعلى العرب والمسلمين عامة، والأتراك والسوريين خاصة، ألا يقعوا في الفخ؛ وأن يدركوا أهداف اللعبة، لا سيما في ظل مخططات تقسيم العراق التي تعسُّ تحت الرماد، ومخططات بريطانيا للسيطرة على نفط شمال الوطن العربي عبر تصنيع كيانات هشة وشروط ملائمة لذلك.‏
                        فليجمعنا الوعي بالمصير المشترك والعقيدة المشتركة والانتماء لهذه الحضارة العريقة: الحضارة العربية الإسلامية وروح الشرق، قبل أن تفرقنا مصالح ضيقة وعبثُ المغرضين الحاقدين على أمتنا عبر التاريخ بنا، والذين ينمُّون الخبث والخداع ويستثمرونهما في أوساط الطيبين. فليبق العرب والأتراك أخوة على المدى كما كانوا، وليكشفوا الألاعيب التي طالما مارسها اليهود- الصهاينة وأدت إلى مذابح وفتن وخسائر يذكرها التاريخ جيداً؛ وعلينا أن نستذكرها نحن أيضاً جيداً حتى لا نلدغ من الجحر ذاته مرتين.‏

                        الأسبوع الأدبي/ع322//1992.‏

                        إذا الشعب يوما أراد الحياة
                        فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                        و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                        و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                        تعليق


                        • #13
                          رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                          في مواجهة استراتيجية الخنق
                          المؤشرات السياسية والإعلامية، التي أطلقت في فضاء الشرق الأوسط انطلاقاً من واشنطن وتل أبيب، أكدت استمرار الاستراتيجية الأمريكية- الإسرائيلية القديمة المتجددة، تلك التي تقوم على قهر العرب بالقوة وبفرض التخلف عليهم وتأبيده، انطلاقاً من تحقيق التفوّق النوعي في التسليح والتَّقَانَة والعلوم والاقتصاد بالنسبة لـ " إسرائيل "، ومحاصرة العرب في المجالات جميعاً لمنع انتقالهم من الضعف إلى القوة في أي مجال.‏
                          وقد تلاشى كل أثر للتفكير في الاعتماد على فئة من العرب لحماية بعض المصالح الأميركية ولإقامة تعاون مباشرين معهم، وهو التفكير الذي ظهر بعد أزمة احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية، لأن الصهاينة نجحوا في زرع الشك بكل تفكير من هذا النوع، وعززوا التوجه نحو استراتيجية جديدة تقوم على أساس تحقيق نصر على العرب والمسلمين ثقافياً وأيديولوجياً وسياسياً في القرن العشرين، والوصول بهم إلى انهيار شامل في القرن الحادي والعشرين؛ كما وعد وتوعَّد صهاينة وغربيون متصهينون في السنتين الأخيرتين.‏
                          وبدا أن الاعتماد على" إسرائيل "، بوصفها قلعة تمارس التوسع والاستيطان ونشر النموذج الصهيوني- الأمريكي وحماية مصالحه بالقوة، هو الاختيار الذي وقعت عليه الإدارة الأمريكية الحالية، وهو الذي ستأخذ به الإدارة القادمة سواء أفاز بوش أم كلنتون. وتشير الإعلانات الأخيرة، التي رافقت زيارة رابين إلى واشنطن وتلتها، إلى أن " إسرائيل " هي الوكيل الأول وربما الأوحد للغرب في المنطقة وأنها متعهد البرامج والخطط الذي يُعتمد عليه أكثر من سواه، بل ذاك الذي ليس له من ينافسه في منطقة يتعذر على الولايات المتحدة أن تتنبأ أو ترصد التطورات المتوقعة فيها بالدقة المطلوبة "، كما قال إدوارد مورفي. وهي منطقة ما يزال اعتماد الولايات المتحدة الأميركية والدول الصناعية على إمدادات النفط منها مستمراً ومتزايداً.‏
                          ويبدو الآن بجلاء أن الرئيس جورج بوش يأخذ بمقولة العنصري الصهيوني هنري كيسنجر الذي يقول: " لا تستطيع بالفعل أن تصدق أي شيء يقوله عربي". وقد أراد بوش أن يعلن ذلك دون ضجيج ودون كلام مباشر، بل من خلال الفعل النوعي باستقباله لرابين في منزله بولاية "مين" وبإعطاء " إسرائيل" ضمانات القروض بعشرة مليارات الدولارات من أجل تأمين هجرة واستيطان وعمل مليوني يهودي روسي حتى عام 1995، وهي دعوة سابقة تتجدد وتتأكد اليوم، وبالإعلان عن استمرار التعهد بتفوق " إسرائيل " النوعي على العرب مجتمعين، وتخويلها بإطفاء الحرائق في المنطقة. وهذا يعني تعزيز القوة واعتماد التهديد والقهر بتزويد" إسرائيل" بالعتاد والسلاح مجاناً من مخزون الجيش الأميركي، وبقيام الشركات الأميركية لا سيما: جنرال ديناميكس وماكدونالد دوغلاس بتعهد تطوير سلاح الطيران " الإسرائيلي " حتى مطلع عام2000، وتزويد " إسرائيل" بطائرات أميركية متطوِّرة تبنى في فلسطين المحتلة. وهذا يرمي إلى تمكين"إسرائيل" من امتلاك التقانة العالمية في هذا المجال، كما يعني كذلك الالتزام الأميركي بتطوير المرحلة الثانية من الصاروخ "الإسرائيلي" حيتس، ودفع تكاليف هذه المرحلة التي تقدر بأكثر من‏
                          /310/ مليون دولار، بعد أن كانت أميركا قد سددت تكاليف المرحلة الأولى من تطويره/360/ مليون دولار.‏
                          وهذا كله رغم كثرته لا يتضمن ما ينطوي عليه" التحالف الاستراتيجي" من إشارات ودلالات ومخاطر وبرامج، وهو ما سوف يظهر خلال فترة قريبة.‏
                          لقد تأكد الآن ما سبق ولاح في الأفق وأشرنا إليه في أوقات سابقة، من استراتيجية متطورة للقرن القادم تحقق ما دعا إليه الصهاينة وما روَّج له الغرب ،في سياسة وثقافة، من فعل يعتمد القوة والقهر لتحقيق انهيار الإسلام والعروبة في القرن القادم كما انهارت الشيوعية في القرن الحالي. وهو النهج الذي دعت إليه الزعامات اليهودية والصهيونية الغربية وما لخصته أقوال حاييم هرتزغ بأن الأصولية الإسلامية أخطر من الشيوعية !!؟ ومن الطبيعي أن يدعم الغرب "أصولية متطرفة" ليحقق بالأيدي العربية والغربية معاً مخططات تستهدف الأمة والعقيدة والوجود الحيوي للجميع في هذه المنطقة الحضارية العريقة من العالم.‏
                          لم يعد هناك مبرر الآن لانتشار الغشاوة ولاستفحال الوهم في أوساط سياسية وثقافية، عربية وإسلامية، بعد الذي كان في واشنطن ومين، وبعد الذي أُعلن في تل أبيب قبل أيام، بحجة أن سورية جربت صاروخين من طراز " سكود سي"، حيث هدد الصهاينة - العنصريون بمهاجمة دمشق. لقد أصبح التوجه الاستراتيجي واضحاً، ولم يتخل عن جذره القديم وإن كان قد وسَّع نظرتَه وأفقه وأهدافه، واختار برامج أكثر فعالية وواقعية، وأقل ضجيجاً وعلانية.‏
                          - إن الاستيطان سيستمر بدعم غربي، وبسكوت عربي. لأن القنبلة البشرية الموقوتة ستصنع في فلسطين التي احتلَّت قبل 1967 وتفجّر لاحقاً في الأرض العربية على أساس المحافظة على المجال الحيوي، ولكن بعد أن تتم عملية الأعداد والاستعداد، وبعد أن يتم أيضاً الاعتراف بحق " إسرائيل " في الوجود من قِبَلِ العرب، وتطبَّع العلاقات معها؛ وبعد أن يهضم اليهود ما قضموه من أرض وحقوق بعد 1967 وما استلبوه بالهجرة من وجود عربي محتمل على أرض هي قيد الاحتلال والاستيطان !؟!.‏
                          - إن الدول العربية التي كانت وما زالت تراهن على دور في الاستراتيجية الأميرَكية في المنطقة لن تفوز إلا بأن تلعب دور العرَّاب ومروِّج الهزائم والاستسلام في الأزمات، ودور بائع البضاعة السياحية في أيام السلم؛ وستبقى تُطحن بين رحى القوة القاهرة والجوع الضاغط إلى أن تعتاد الدور الذي يرسم لها، وتفلح في ترويجه عربياً لكسب أتباع على تلك الطريق.‏
                          - إن على العرب المهتمين باستمرار أن يمارسوا دوراً ملحوظاً في إبادة بعضهم بعضاً، وفي تطويع بعضهم بعضاً، ليُرفع عنهم "الاتهام"، سيستمرون في أدائهم على هذه الطريق، وحين يفلحون في الحصول على وثيقة حسن سلوك من السيد الصهيوني- الأمريكي" أو العكس"، سوف يعاملون كمستخدمين طيبين وكمستهلكين فقراء يستحقون العطف؛ وليس لهم أن يفكروا بما هو أبعد من ذلك. وعلى من يطلب منهم أن يكون حاكماً وراعياً وزعيماً أن يثبت أهليته لذلك بِشَكْم الناس وقيادتهم إلى بيت الطاعة الأميركي أو " الإسرائيلي "، لا فرق، وسوف يباح له ذلك تحت ذرائع مختلفة؛ ولكنه سيبقى بنظر " المجتمع الراقي " مخلاً بحقوق الإنسان وبحقوق القوميات والأقليات، ومخفياً تحت زيِّه الرسمي إرهابيا تحت الطلب.‏
                          - إن من يتخلف من العرب عن مفاوضات واشنطن سوف لن يكسب العظْمَة التي سيُلْقَى بها له هناك بعد تعب شديد، وفوق ذلك عليه أن يفكر بالعقوبة وبالتكفير الصعب عند التوبة. وإذا أردنا أن نفهم من الإشارات والدلالات التي أُطلقت في فضاء سياسة الشرق الأوسط على أنها تهديدات ومؤشرات من شأنها أن تجعل الجميع يقبلون بدعم بوش لولاية انتخابية- رئاسية جديدة، وأنها لن تؤثر على التعهدات الأميركية التي قام على أساسها مؤتمر السلام، ولا سيما مبدأ تطبيق القرارين 242 و338 ومبدأ مقايضة الأرض بالسلام؛ فإننا نضل كثيراً ونبقى أولئك الذين يرون في السيد الأميركي " نبياً " لا يكذب ولا يخطئ ولا يراوغ !؟. وكل هذا لا مصداقية له، ولا يوجد تاريخ من التعامل يزكِّيه أو يقنع به؛ فالإدارة الأميركية مملوكة للتوجه الصهيوني، ملتزمة به ومؤمنة إيماناً اعتقادياً به. فالصهيونية المسيحية المتطرفة اليوم تتباهى بدعم الحلم اليهودي بصهيون، وتعلن اعتزازها بالدور الذي لعبته وتلعبه وستلعبه على تلك الطريق؛ فالرئيس بوش نفسه فاخر بما قدَّم ويقدم لـ " إسرائيل " وفاخر بالصهيونية ودافع عنها يوم ألغى القرار/ 3379/ الذي يساوي الصهيونية بالعنصرية، ووسم تلك الحركة بأنها: " إنسانية " وقومية مناضلة وفكرة تستحق التقدير!؟ ونائبه دان كويل قال في اجتماع صهيوني: " من منا ليس صهيونيا ". ولم يكن ذلك قبل صدور بيان " الصهيونية- المسيحية " التي عقدت مؤتمرها في/ 27- 29/ أب 1985 في مدينة بال بسويسرا وفي القاعة ذاتها التي عقد فيها هرتزل أول مؤتمر صهيوني عام 1897 ودعت فيه بتفاخر شديد إلى دعم " إسرائيل " على حساب كل أعدائها " الكريهين " من العرب، وإلى تضييق الخناق على سورية وليبيا وإيران لأنها دول تهدد " إسرائيل ". أقول لم يكن قول القادة الأميركيين خصوصاً والغربيين قبل ذلك التاريخ بل بعده بشكل عام، لم يكن بالضرورة ثمرة له وإن كان الدفع المستمر على تلك الطريق من ثمراته. ولن نجد صعوبة في تبيُّن وقوف ذلك الاتجاه وراء الاستراتيجية الأميركية- الإسرائيلية الجديدة، ووراء أهدافها التي تطول العالمين العربي والإسلامي، وتأخذ بالاعتبار المناخ الدولي الحالي، الذي أفلحت السياسة الغربية في الوصل إليه والذي يفتقد فيه العرب لنصير كما يفتقدون فيه لوحدة الصف والموقف، وللقدرة على الابتكار وامتلاك التَّقَانَة المترجَمة أسلحة وتفوقاً علمياً- عملياً، فضلاً عما يصيب ساحاتهم من هزال وتآكل وتواكل وعلل.‏
                          وإذا كان أهل الغرب والصهيونية يخططون انطلاقاً من نظرة عدائية لنا، تاريخية كانت تلك النظرة أم حديثة متصلة بالمصالح، فما هو موقفنا ودورنا وردنا على ذلك؟!.‏
                          هل نركن إلى القول بأننا لا نملك أن نرد هجمة كاسحة عنا ولا بد من الانتظار على مضض، والاستسلام على مضض، والمراقبة على مضض؟! أم أن هناك فعلاً ما وتحركاً ما وطاقات ما، نلجأ إليها في الوقت المناسب؛ آخذين عامل الزمن بعين الاعتبار؟! إن الأمة لا يميتها إلا نفخ روح الهزيمة والاستسلام واليأس فيها، ولا يحييها إلا وضعها على طريق الحياة بحرية وكرامة، وبمبادرة صادقة، وسلامة انتماء للقومي والعقيدي والنضالي من التاريخ. وإذا كان من الحيوي والضروري مواجهة هذه الغطرسة المفروضة مواجهة مجدية، ولا بد من ذلك أولاً وأخيراً، فلنعمل بجهد متزايد من أجل ذلك، ولنفتح عيون الناس على ما ينتظرهم، وليكن كل مواطن على درجة من المسؤولية والثقة والوعي؛ لكي يطلق طاقة الإبداع لديه في الدفاع عن الوطن والوجود والكرامة. أما السكوت والتآكل وانتظار حكم الظالم فينا، فموت متجدد، وقهر لا يبدده إلا قوة تقيم العدل وترفع شأن الحياة وشأن الإنسان، في أرض البشر جميعاً؛ وهو نوع من الاستسلام لاستراتيجية الخنق التي يمارسها الغرب والصهيونية ضد أمتنا العربية.‏
                          فهل نستسلم لذلك ونساعد عدوَّنا على أنفسنا أم أن هناك ما ينبغي أن نفعله بدقة وسرعة وجدارة ؟؟ إننا ننتظر.‏

                          الأسبوع الأدبي/ع325//1992.‏

                          إذا الشعب يوما أراد الحياة
                          فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                          و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                          و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                          تعليق


                          • #14
                            رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                            من الشك إلـى الثقة
                            شلال الشكوى الذي يتدفق ليل نهار، في أنسجة النفوس وفي البُنى الاجتماعية، وتفجره المعاناة وتُمِدُّه بينابيع لا تنفد ويستمر في حركة دائرية اجترارية سقيمة؛ ذلك الشلال ينخر العزم والقيم والإرادة، ويُدخل المرء والمجتمع في دوامة كئيبة ومقيتة، لن تسفر إلا عن مزيد من الأسى والبؤس والتآكل واليأس، ولن ينجح هذا الوضع المستفحل واقعياً وعملياً إلا في امتصاص طاقة الاعتراض على كل ما هو مرضي وفاسد وظالم وهدام، والرفض الإيجابي له، وتحويل تلك الطاقة إلى مجرد رغوة ورغاء يعمان الفضاء ويضاعفان الخواء، بدلاً من تكثيف ذلك الغضب الإنساني النبيل الساطع في فعل تغييري بناء يطهر النفس والمناخ، وينير بالبصيرة طرقاً، ويشق بالإرادة الواعية تلك الطرق وصولاً إلى تحقيق الأهداف القومية والاجتماعية والإنسانية بوسائل نظيفة.‏
                            ولأننا في اللحظة الحرجة من صراعنا في الوجود من أجل أن يكون لنا حضور فاعل ومحترم وقادر، في كل مجال من مجالات العمل والحياة والصراع التي نخوضها؛ ولأننا نواجه، في هذا الزمن العربي الرديء الصعب، تحديات تصل إلى تصفية مذلة لحقوقنا وقضايانا، وتهديد لهويتنا الثقافية وعقيدتنا الدينية وحضورنا الحيوي كله؛ فلا بد من أن نختار بين أن نواجه ما يرتبه ذلك كله علينا، أو أن نركن ببساطة ووضوح للتبعية والامحاء ونستسلم لمن يريد أن يفرض ذلك علينا، ونستمر في حالة "القطعانيَّة" التي نعيشها محرومين من حقوق كثيرة، ومميزات تجعل الإنسان مكرماً في الحياة ومتمايزاً عن دابة الأرض والسائمة المنتشرة فيها.‏
                            ولأن المثقفين يتحملون مسؤولية حيال الواقع الاجتماعي، وحيال ما يهدد الثقافة والشخصية والهوية، وما يقيم المثاقفة على قدم وساق، وحيال ما يجعل للأمة حضوراً إيجابياً كريماً على كل مستوى وصعيد، ابتداءً من مجالات العلم والتَّقَانَة وانتهاء بالسلوك الحضاري واستشعار السعادة الإنسانية وكل ما يوافرهما للأفراد والأمم في ظل أوطان سيدة مستقلة حرة كريمة. ولأنهم مؤهلون بحكم الموقع والاختيار ودرجة الوعي، وبحكم الزعم والإدعاء (بالمفهوم الإيجابي لهما) أنهم الطليعة والرائد والمنقذ، الذي يؤسس لبناء متين على أرضية سليمة بمسؤولية وشرف. ولأنهم في كثير من الحالات أساس الاختلاف والاتفاق ومن ينمي الاختلاف أو الوفاق ضمن شرائح المجتمع وفي تيارات السياسة، داخل أقطار الوطن أو في الوطن كله، ولأنهم قوام شلال الشكوى وصلبه، والمتفرجون على انسيابه والمتشمسون في رطوبة رذاذه في الوقت ذاته؛ ولأنهم، بشكل أو بآخر، هم الآخر: جنةً كان أم جحيماً؛ ولا حياة، نوعياً، إلا معهم وبهم. لأن الأمر كذلك كما أراه، فإنني أجد نفسي منشداً إلى رؤية تعظم أهمية دورهم في الخلاص مما نحن فيه، وفي التوجه نحو البناء وإقامة أرض مشتركة ينمو فيها الممكن بقوة؛ إذا تخلصوا مما يعيق جهودهم عن التدفق في مجرى الفعل المنقذ للأمة، وإذا اجتمعت كلمتهم على أرضية المشترك في إطار من الثقة والاحترام، وعلى أساس مكين من الوعي بأن المشاكل تكبر وسوف تطحن الجميع ولا خلاص حتى لذلك الذي يتفرج من بعيد على من تطحنهم رحى الأحداث الآن.‏
                            ولهذا أجدني مسوقاً لإطلاق دعوة للسير في طريق إقامة جبهة موحدة للمثقفين العرب تفرض استقلاليتها عن كل تبعية للخلافية السياسية المريضة والقطرية الضيقة والطائفية- المذهبية المقيتة، وتفرض احترامها وهيبتها ومصداقيتها في ساحة القرار السياسي العربي وفي الساحة الجماهيرية؛ وتضغط باتجاه فرض ما تقتضيه المصلحة القومية العليا ومتطلبات مواجهة تحديات العصر والقوى الفاعلة فيه والمهيمنة عليه. وتستشرف المستقبل وتخلص في العمل من أجل حضور مشرِّف للأمة فيه، وتجلو صورته وتعد العدة وتستعد للدخول المقتدر في مجالاته كلها.‏
                            ذلك لأنني لاحظت وألاحظ، بأسى وأسف شديدين، أن كثيراً من جهود المثقفين كانت تتصادم ويفني بعضها بعضاً وتتحول إلى كرة سلبية سوداء تكبر وتنشر السواد والغصة في الحلق، وتضاعف من كآبة المشهد الاجتماعي والسياسي والنضالي، وتشوه كل رؤية للخلاص، باعتمادها مبدأ تشويه الآخر والتشكيك برؤيته وقدرته وسلامة توجهه وتسفيه رأيه والانتقاص من قيمته، لأنه الآخر الذي يخالف الأنا وينتصب وجوداً حيالها، وتعمل على تخريب مشروع ذلك الآخر لأنه ببساطة ليس مشروعها، وليس لعدم صلاحه أو لنقص فيه، بمقياس المنطق والمصلحة. ولأن تلك الجهود، في أغلب الأحيان، كانت أسيرة تخطيط وتدبير انتقامي كيدي ينطلق من الشك بالآخر وليس من الشراكة التي تجمع الطرفين/ الأنا والآخر/ تحت سقف الوطن والمصلحة الواحدة والمصير المشترك؛ كانت تضمحل وتتلاشى عند عتبة كل إرادة سياسية في كل قطر، وتوظف أحياناً لتشويه مشروع سياسي أو قومي أو حضاري، ولتشويه صورة سياسية أو سياسي أو لتجميل ذلك المشروع أو تلك الصورة، لاعتبارات مصلحية ونفعية وتنظيمية وكيدية، ونزولاً عند متطلبات المناخ "الثقافي الذي فرضته السياسة العربية" واستسلاماً لذلك المناخ، الذي فتح فيه سوق الكلام وسوق المواقف.‏
                            هذا فضلاً عما فرضته الأيديولوجية الضيقة ذات الحكم المسبق على الأشخاص والاتجاهات الفكرية والسياسية، وعلى الآخرين الذين لا يدينون بها أولها؛ ما فرضته من مواقف ومناخ وأسلوب تفاعل وتعامل. الأمر الذي أخل بمناخ المثاقفة والثقة داخلياً وبجدوى الحوار، وجعل الأطراف المختلفة تتمتْرس في مواقعها وتتراشق الكلام دون ما توقف عند مصلحة أو منطق أو قيمة أو حدود.‏
                            وقد خلق كل ذلك فساداً في صورة الشخص عن الآخر وحكمه عليه، وفي التراتبية الثقافية والفكرية والإبداعية والأدبية جرَّاء ما حققته "الميليشيات" الثقافية من "إنجازات " (؟!؟) خاصة كانت بمجملها عبئاً على الأدب والإبداع والثقافة والسياسة، وعلى المجتمع العربي ككل؛ لأنها كبَّلت الجميع بتراتبيات مريضة ومشكوك بسلامتها بالنسبة إلى الأشخاص والنصوص والمواقف والتيارات والأيديولوجيات.‏
                            وإذا كان لا بد من جهد نقدي تقويمي كبير، يقوم على أسس معرفية وخُلُقية وموضوعية، وعلى انتماء سليم ومتين وواضح للحقيقة في جلالها وجمالها، وللثقافة العربية في سيرورتها وصيرورتها، من خلال حمل هويتها باعتزاز والمساهمة في تعزيز مكانتها بفاعلية واقتدار؛ وعلى انتماء صراح للوطن في واقعه، وللأمة عبر تاريخها. فإن ذلك يحتاج إلى مراجعة للذات، وإرساء لمعايير وقيم وثوابت تقويم وتقدير مشتركة ينضجها الحوار وتنميها الثقة وتختبرها الممارسة. كما يحتاج إلى جهد واجتهاد وزمن، وإلى تغيير جذري في مقومات العمل والتعامل والسلوك، يبدأ من نظرة الإنسان لذاته وينتهي بنظراته للآخر، على امتداد الدوائر واتساعها؛ وصولاً إلى الإنساني المطلق والكوني الشامل.‏
                            ولن يتم ذلك الذي نتطلع إليه بإخلاص وننشده باهتمام وجدية وحرص، إلا في مناخ ملائم له؛ مناخ يُصنع أو يستنبَت على أرضية من الوعي والحرية والاحترام والثقة والمسؤولية.‏
                            وحتى نصل إلى ذلك لا بد من تعزيز مناخ ثقافي خصب سليم القيم والمقومات، يكون عامراً بالأمن من جوع وخوف وقادراً على إخصاب طاقة العطاء والإبداع. ولن يكون ذلك كذلك إلا بالسير، ثقافياً وسياسياً، على طريق أحدد مسارها بالقول: "إنها مسيرة المثقفين العرب من الشك إلى الثقة".‏
                            إنها مسيرة داخل البيت العربي: ثقافياً واجتماعياً وسياسياً وخطواتها الأولى كما مرحلتها الأولى تبدأ ثقافياً كما أرى. وأجدني مسوقاً- من أجل هذه المسيرة وتحقيقاً لأهدافها وانطلاقتها- بحماسة قد لا أندم عليها، إلى دعوة المثقفين العرب إلى تجسيد الأرض المشتركة التي تجمعهم "أرض الثقافة العربية- الإسلامية، واللغة العربية... الخ بإعلان ميثاق شرف يوحدهم ويجمع طاقاتهم حول ثوابت مبدئية وخُلُقيَّة وقومية نضالية، يعززونها جميعاً بصرف النظر عن اختلافاتهم واهتماماتهم ورؤاهم وانتماءاتهم القطرية، ويوحدون كلمتهم وموقفهم منها؛ ليفرضوا، انطلاقاً من ذلك، احترام الثقافة وهيبتها ودورها ومصداقيتها وحضورها على صعيد الأمة، في جميع المجالات ولا سيما في مجال القرار السياسي العربي؛ وليحموا وجودهم الفردي ومناخ عملهم وأسس البناء الذي سوف يقيمونه لبنة لبنة ومدماكاً مدماكاً. واتفاقهم هذا حول تلك الثوابت لا يلغي التعددية بل يحميها ويستفيد من غناها، ولا يلغي الاختلافات النوعية فيما بينهم بل يتمسك بضرورة وجودها لأنها تعزز حضور الثقافة العربية وتغنيها، ولا يلغي ذلك الاتفاقُ اجتهادَهم ورؤاهم بل يخلق له ولها المناخ السليم الذي ينمو/تنمو فيه خارج حدود القمع والقلق والخوف؛ وبتوفير مقومات الحرية والأمان، والاطمئنان والمشاركة المجدية الملموسة المردود والتأثير في كل مجال. على أن يحمي كل مثقف ظهر الآخر في نضاله من أجل تلك الأهداف، ولا يسْلِمه أو يخْلي ظهره في مواجهته، مهما كان الخلاف بينهم؛ لتقوم لتلك الجبهة هيبة وسلطة أدبية، ولتوفر مناخ الحرية والديمقراطية والاحترام، ذلك المناخ المنخور عربياً.‏
                            والمقدمات الرئيسة أو النقاط الهامة التي تشكل أرضية الموقف المشترك وقوام ميثاق الشرف ذاك، يمكن الإشارة إليها بإيجاز شديد ووضوح أشد، وهي مواقف معلنة وثابتة يفرضها الاختيار الحر والمسؤولية القومية والتاريخية من القضايا والأمور الآتية:‏
                            1- الصراع العربي الصهيوني، صراع وجود مع وجود، ولم يكن يوماً ولن يكون أبداً نزاعاً على حدود بين العرب وأي كيان دخيل من أي نوع يفرض عليهم في أية بقعة من بقاع الوطن العربي، ويتحدَّد موقف المثقفين من السياسات والتيارات الفكرية والاجتماعية والثقافية في ضوء موقفها من ذلك الصراع.‏
                            ومن الطبيعي أن المثقفين الملتزمين بهذا الموقف من الصراع العربي الصهيوني يسحبون رأيهم وموقفهم على كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني وكيانه في فلسطين المحتلة وعلى دعاة التطبيع وممارسيه.‏
                            2- الحرية والمساواة واحترام الحقوق والحريات العامة للمواطنين والممارسة الديمقراطية السليمة، في إطار الوعي بخصوصية الواقع والبيئة والمرحلة التاريخية والاجتماعية، قضايا رئيسة يجمع المثقفون على التمسك بها والدفاع عنها، والتعامل بوعي ومسؤولية معها. ويعلنون احترامهم للتعدد في إطار الوحدة القومية والاجتماعية والثقافية للأمة، واحترامهم لحق الاختلاف كحق طبيعي لجميع المواطنين على أرضية احترام الأنا دون تضخيم والآخر دون تقزيم والاعتراف المتبادل بينهما بالحقوق والواجبات على أرضية الشراكة التامة الأصلية في الهوية والانتماء والمواطنة وفي صنع المستقبل وتقرير المصير المشترك للوطن والأمة.‏
                            3- الثقافة العربية- الإسلامية، بكل قيمها ومقوماتها وتاريخها، وكذلك ما في اللغة العربية من حمل معرفي وقيم عبر التاريخ، ومالها من أصالة وتميُّز وما فيها من أصول هي حدود وطننا الذي نتجذَّر في أرضه المشتركة، ونحافظ فيه على هويته وننمي خصوصيته، ونمارس انطلاقاً من ذلك مثاقفة مع الآخرين باعتزاز وثقة وانفتاح. رافضين كل قطرية تقزِّمنا أو تشوه نظرتنا وتحد منها، ولا نضع في هذا المجال العروبة مقابل الإسلام أو العكس لأن هذا تنازع مفتعل ومدمر ومخطط يعادي ثقافتنا ويرمي إلى فرض التبعية والضعف علينا.‏
                            ولا يعني التركيز على الثقافة العربية- الإسلامية عدم الاعتراف بقيمة الجذر الثقافي العربي قبل الإسلام وإمكانية حضوره والتواصل معه، ولا التقليل من أهمية الإضافات التي قدمها ويقدمها العرب من معتنقي المسيحية واليهودية، فكل ذلك أرث ثقافي عربي نعتز به ونتواصل معه وننميه، ونستشعر حضوره عندما نذكر الثقافة العربية -الإسلامية كإطار عام.‏
                            4 - نرفض تبعية الثقافة للسياسة، ونعترف بأهمية وضرورة تفاعلهما وتواصلهما، وبمسؤوليتهما المشتركة عن الوعي والمصير الفردي والجمعي، الوطني والقومي، وعن مستوى الحضور البشري والتقدم والسعادة؛ ونؤكد أهمية احترام العلاقة السليمة بين السياسي والثقافي، ومضار تحويل الثقافي، لا سيما عربياً، إلى تابع للخلافية السياسية القطرية؛ حيث مخاطر الصيغة الحاضرة عربياً على المستقبل والمصير العربيين، جرَّاء ظهور القطرية كصيغة اعتراضية على القومية ومعوقة لها.‏
                            5 - نؤمن بأن الخلاص، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً، يكون قومياً أو لا يكون، وأنّ جهودنا سوف تنصب على إعلاء شأن أي فعل أو قرار عربي من أي نوع في ضوء انسجامه مع المصلحة العربية العليا تلك التي تعلو معيارياً وعملياً على المصلحة القطرية الضيقة، ولاسيما إذا كانت تلك تجسيد الأنانية أو تعبيراً عن تبعية للغير يقوى بها الجزء على حساب ضعف الكل أو قهره أو تقزيمه.‏
                            6 - نؤمن بأن تقدم المجتمع العربي منوط بتقدم البُنى الفردية والاجتماعية والمدنية فيه، ونرى أن بناء الفرد والمؤسسات بناءً سليماً وعلمياً ومتوازناً، يتيح فرصاً للخروج من حالة الإحباط وضياع الحقوق والحريات وضمور الشعور بالمسؤولية، وعدم احترام القانون.‏
                            ولذلك فإننا نرى في الطُّغيانيَّة -الديكتاتورية- حالة سياسية لا تتلاءم مع القيم العربية الإسلامية، ولا تتفق مع روح العصر، وتشكل معوقات التقدم الاجتماعي والعلمي في الوطن العربي. وعليه فإننا نعلن وقوفنا ضد "الديكتاتورية" وأشكال الحكم الاستبدادي، وندعو إلى العمل من أجل الوصول إلى صيغ سياسية عربية تقوم على أوسع مشاركة جماهيرية في صنع القرار واتخاذه، على مساهمة الأفراد بموضوعية وعدالة وسلامة اجتماعية وروحية وخُلُقيَّة وقومية في ممارسة حقوقهم المدنية وأداء واجباتهم بوصفهم مواطنين متساوين تماماً؛ بما لا يعطل الشرائع والتشريعات وبما يحقق سيادة القانون، وسلامة الوطن، وإيجابية المواطن، وسلامة مناخ الإنتاج والعيش، ويوقف انهيار القيم والأوضاع العامة.‏
                            إن المثقفين إذ يتمسكون بهذه الثوابت ويعلون شأنها لتشكل المشترك الأولى بالرعاية والاعتبار فيما بينهم، يؤكدون عزمهم على تعزيز مكانة الثقافة ودورها واستقلالية رؤيتها وإرادتها خدمة للأمة وخدمة للثقافة، وحرصاً على مناخ ثقافي واجتماعي سليم تنمو فيه القيمة وينمو فيه الشعور بالمسؤولية على أرضية الانتماء والاحترام والحرية والتكافؤ، كما يؤكدون عزمهم على وضع نقاط الاتفاق تلك فوق كل خلاف فيما بينهم وجعلها معياراً يحكم مواقفهم ويحتكم إليها في تقويم الأشخاص والمواقف والسياسات.‏

                            الأسبوع الأدبي/ع326-327//1992.‏

                            إذا الشعب يوما أراد الحياة
                            فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                            و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                            و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                            تعليق


                            • #15
                              رد: صمود وانهيار مسارات التفاوض العربية-الإسرائيلية بعد مؤتمر مدريد-

                              وطننا... والإرادة‎
                              عندما فتح جرح العرب الأكبر منذ نيف وأربعين سنة، واستمر نزيفه كل هذه السنين المرة، كانت النتائج مدمرة عربياً، وسلبية على العالم الإسلامي، الذي كانت نواته الصلبة ومازالت تتركز في قوة العرب.‏
                              وعندما اطمأن أعداء العروبة والإسلام إلى ضعف مزمن في بنية العلاقات العربية- العربية والعربية- الإسلامية أخذوا يقتحمون الساحات علينا ساحة ساحة، ويستنزفون دماءنا وقدراتنا وخيراتنا دفعة دفعة.‏
                              ويوماً بعد يوم نزداد نحن ضعفاً ويزداد أعداؤنا شراسة وعدواناً، ويفتحون جبهات جديدة، نساعدهم نحن على فتحها، حيث يزداد نزف الدم والقدرة والمال.‏
                              ومن يتأمل اليوم فيما يجري في ساحات الوطن العربي والعالم الإسلامي يجد عجباً وينزف ألماً وغضباً، وليس هناك اتعاظ ولا اعتبار بدروس مرَّت وخسائر كبرت، وصنوف من الفتك تستمر؟!...‏
                              وجرح العرب الأكبر في فلسطين مستمر ويستنزف الكثير الكثير، ويؤسس للضعف والمقت، ولما هو أسوأ منهما، مما تنطوي عليه أحشاء الزمن القادم.‏
                              وجرح العرب في الخليج ينغل حقداً وثأراً وبغضاً، ويستنزف ما لا يمكن حصره من طاقات وجهود وثروات بعد أن استنزف ما لا يمكن حصره أيضاً من دماء وإعمار وعلاقات.‏
                              وجراح في العمق تُنكأ وتُثار آلامها هنا وهناك، ودمامل تتوذَّم وتنفجر من آن لآن حسب توقيت يستند إلى تخطيط أو ينفذه، فتعيق الجسد على استشعار القوة والسلامة والحيوية والقدرة.‏
                              وتتقرَّى في الجسم العربي كل تلك الدمامل- الألغام فتجدها منتشرة في معظم الساحات: الصحراء الغربية- حلايب- واحة البريمي- دَبَا- نجران... الخ. وتضيف إليها ما بين وطن العرب وأوطان المسلمين من ألغام في كل جهة من جهات الحدود، تنتظر من يفجرها ويعبث بها!؟.‏
                              على النار الحامية قضايا قيد الإنضاج، وجراح قيد الفتح، ودمامل قيد التفجير، فالوطن العربي على المشرحة، وأبناؤه يندبون ويعانون ويُجرحون؛ وكلُّ له ألمه وعذره وشرطه وغايته وثأره.‏
                              العراق غدا محميات، جنوباً وشمالاً ووسطاً مقطوع الأطراف. والمحميات القديمة استعيدت محمياتٍ الآن، بعد فجر تحرير أشرق فأعاده العربي الأحمق ليلاً أسحم!؟.‏
                              وفي الجزائر نار، وفي مصر أخرى وفي تونس ثالثة، وفي لبنان وسواه رابعة وخامسة، وكل يشكو ألمه ويواسي نفسه ويضمد جراحه، وينتظر الشدة أو الفرج.‏
                              وفي الوقت الذي يعاني منه الوطن العربي -النواة التي يفترض أنها الأصلب للعالم الإسلامي - من كل هذه الهشاشة والأوجاع وتتوزع ولاءات أقطاره وأبنائه أيدي سبأ، نجد الهجوم الشرس يشتد على أطراف العالم الإسلامي كله والدم يسيل والبؤس يزداد، ونجد بعض بلدانه تتقاتل وتتناحر وتتعادَم وكأنها لا ترى ما يحيط بالجميع من تآمر وأخطار وبؤس.‏
                              فلننظر حولنا ماذا عسانا نرى، وماذا عسانا نفعل لنزيل قسوة ما نرى؟!‏
                              في البوسنة والهرسك براءة تُنتهك حتى النهاية، وإنسانيتنا تُداس، وتُقام لأخوتنا معسكرات الاعتقال ويذبحون بلا رحمة تنفيذاً لمخطط إبادة عنصري معلن على الملأ، ويكاد العالم الذي يقول إنه "متحضر" لا يُعنى بشيء ما مما يمت للإنسانية والعدل والسلم بصلة.‏
                              في أبخازيا يقتل الجورجيون المسلمين، وإلى جوارهم يحاصر الروس الشيشان ويعزلونهم عن العالم تماماً ويبطشون بهم.‏
                              بين الأذربيجانيين والأرمن يسيل الدم وينتشر الحقد وينمو، وفي جمهوريات آسيا الوسطى يشجُر الخلاف والقتل وتتهدد الفتنة بلاداً واسعة؛ وطاجيكستان مهددة بحرب أهلية تُضاف إلى الحرب المشتعلة في أفغانستان.‏
                              وعظيم الدولة النووية -مع التجاوز- الوحيدة من تلك المجموعة التي شاركت في بناء الاتحاد السوفييتي، أعني رئيس كازاخستان يخفق بجناحيه في "إسرائيل" حيث يتعهد بعدم تسريب أية قوة أو تقانة للعرب والمسلمين؟!؟.‏
                              على حدود تركيا والعراق وإيران ما يشبه الحرب بين قوميات كان يجمعها في آن سلام الإسلام. وفي زاوية أخرى من العالم الإسلامي نجد رايات الدم تتلون في كشمير وما جاورها، وعلى حدود بنغلادش شيء من ذلك.‏
                              أما في السودان والصومال وسائر بلدان إفريقيا السوداء فهناك إضافة إلى الاقتتال والفتن صولات "أندرو" الجوع والأوبئة تفتك بالناس؛ على غرار "أندرو" البحر الذي قدم هديته لبوش في أشهر الانتخابات. عالمنا العربي- الإسلامي يعج بالبؤس والجوع والضعف والدم والقهر والموت، وأعداؤه وبعض أبنائه يتعاونون- عن قصد منهم أو عن غير قصد- لإيصاله إلى حافة الهاوية؛ فهل يمكن أن نرى فيه ونرى له ما لا يرى الأعداء ومحدودو النظر من أبنائه؟!...‏
                              هل نطرح على أنفسنا أسئلة تحتاج إلى أجوبة منقذة ليكون هناك خلاص وأمل بعودة الحيوية والحضور- في ضوء القوة والعقل- إلى وطن الحضارة والعقيدة السمحة والإنسانية الحقَّة!؟!.‏
                              إننا مدعوون إلى التأمل والعمل بأسرع ما نستطيع لتدارك ما ينبغي أن يُتدارك قبل فوات الأوان، واستِحَار القتل والفتك فينا جميعاً. فالوطن أولاً وأخيراً هو وطننا، والمصير مصيرنا، ولن يخرجنا مما نحن فيه إلا فعل نقوم به على أساس من الاقتناع والثقة والعزم، فهل نفعل؟!...‏

                              الأسبوع الأدبي/ع328//1992.‏

                              إذا الشعب يوما أراد الحياة
                              فلا بدّ أن يستجيب القــــدر
                              و لا بــــدّ لليــل أن ينجلــي
                              و لا بـــدّ للقيــد أن ينكسـر

                              تعليق

                              يعمل...
                              X